المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«النائب عن الفاعل» - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٣

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌«النائب عن الفاعل»

بسم الله الرحمن الرحيم

«النائب عن الفاعل»

النائبُ عن الفاعل هو الذي يقوم مَقَامه عند غيبته وعدم ذكره مع بناء الفعل له، وهو خمسةُ أنواع: المفعولُ به، والمصدرُ، وظرفُ الزمان، وظرفُ المكان، والجارُ والمجرور. وأولاها بالإقامة المفعولُ به؛ لأنًّه يُقامُ بِغَير شرطٍ بخلاف غيره؛ ولأنَّه لا يقوم غيرُه مَقَامَ الفاعل مع حضوره بخلاف ما عليه المفعول به، إذ يُقامُ وجوباً إذا حضر مع حضور غيره، ولأنَّ غيرَه لا يقوم مَقَامَ الفاعل إلا مع تصبيره مفعولاً به مجازاً، فلما كان أصلُ الباب للمفعول به لهذه الأوجه قدَّمَ الناظمُ ذِكْرَهُ، وجَعَله أصلاً لغيره، ولم يذكر غيره إلا بعد ذلك، فقال:

ينوبُ مفعولٌ به عن فاعلٍ

فيما له كنِيلَ خيرُ نائلِ

يعني أن المفعولَ به ينوبُ عن الفاعل ولا ينوبُ عنه إلا إذا غاب، وأمَّا إذا حضر فلا اعتبارَ به في النيابة، فقوله «ينوبُ» يُشْعِرُ بأّنَّ الفاعلَ غائبٌ عن الكلام، وقوله «فيما له» (ما) واقعةٌ على أحكام الفاعل المُقَرَّرَةِ في البابِ قَبْلُ، فيريد أنَّه ينوبُ عن الفاعلِ فيما له من الأحوال والأحكام، ويقوم مَقَامَهُ فيها كإسنادِ الفعل إليه، ورفعِه به، واستقلال الكلام به دونَ زيادةٍ، فتقول: ضُرِبَ

ص: 5

زيدٌ، كما تقول: خَرَجَ زيدٌ، وإسكانِ آخرِ الفعل عند كونه ضميراً مُتَّصِلاً، وإتيانه بلفظ الضمير المرفوع، فتقول: أٌكْرِمْتُ، كما تقول: أُكْرَمْتُ، وعَدَمِ تَقَدُّمه على الفعل فتقول: ضُرِبَ الزيدانِ، كما تقول: ضَرَبَ الزيدان، ولا تقول: الزيدان ضُرِبَ، كما لا تقول: الزيدان ضَرَبَ، وكونُ الأصل فيه أنْ يَلِيَ الفعلَ دون ما كان من المفعولات غيرَ مُقامٍ، وأنَّ ما لم يُقَم الأصلُ فيه التأخيرُ، كقولك: أُعْطِيَ زيدٌ درهماً، وغير ذلك من الأحكام اللازمة للفاعل، ووجهُ ذلك أنَّ الفعلَ حديثٌ عن المفعول كما أنَّه حديثٌ عن الفاعل، وأنَّ المصدرَ يُضافُ إليه كما يُضافُ إلى الفاعل، فتقول: أعجبني ركوبُ الفرسِ، كما تقول: أعجبني ركوبُ زيدٍ الفرسَ.

وأن الفعلَ في معقوله ابتداؤُه عن الفاعل وانقطاعُه من المفعول، فالمفعولُ طَرَفٌ في الفعل وشريكٌ فيه؛ إذا جاءا معاً كان الفاعل أولى من الفعل، لأنَّ إيقاعَه منه، وإذا تُرِكَ الفاعلُ ردَّ الفعلُ إلى المفعول به لما كان يَسْتَحِقُّهُ من شَرْكَتِه في الفعل. ذكر ذلك التعليل الفارسيُّ في التذكرة ناقلاً له عن ابن كيسان. وفي قوله «ينوبُ مفعولٌ به عن فاعل» إشارةٌ إلى أنَّ صاحب هذا الحكم هو الفاعلُ والمفعول. فما يُسَمَّى مفعولاً به اصطلاحاً هو النائبُ، وما يُسَمَّى فاعِلاً في الاصطلاح هو المنوبُ عنه، فما ليس بفاعلٍ فلا يُحْذَفُ هذا الحذفَ فيُقامُ مُقَامَه غيرُهُ، وما ليس بمفعولٍ به لا ينوبُ عن الفاعل إذا حُذِفَ الفاعلُ، يُستثنى منه ذلك ما استثناه الناظمُ، فيبقى ما سوى ذلك ممنوعاً. فقد حصل من مجموع ذلك قسمان: الأول: أنَّ ما سوى الفاعل من المرفوعات بالفعل لا تُحْذَفُ ويُبْنَى الفعل لغيرها، وذلك اسمُ كان مع خبرها، ومرفوعُ فعلِ

ص: 6

المقاربة مع منصوبه، أمَّا اسمُ كان فلا يُحْذَفُ ويُقامُ خبرُها مُقامَه، فلا يُقَال في: كان زيدٌ أخاكَ: كِينَ أخوك: ولا في «كان زيدٌ يقوم» . كِينَ يُقام، ولا يقال أيضاً: كينَ في الدار، ولا كِينَ الكونُ زيدٌ قائمٌ، ولا ما أشبه ذلك، وذلك أنَّ النحاةَ اختلفوا في هذه المسألة فمنعَ جمهورُ البصريين بناءَ كان لما لم يُسَمَّ فاعلُه بإطلاق، وهو الذي يُشير إليه كلام الناظم؛ وذلك لأنَّ الخَبَرَ لا بُدَّ له من مبتدأ ملفوظٍ به أو مقدَّر، وحَذْفُ الفاعل في هذا الباب ليس حُكماً راجعاً للّفظ خاصّة، بل اللفظ والنِيَّة، فكما لا يجوز الاقتصارُ على أحد مفعولي ظننت كما جاز ذلك في مفعولي أعطيتُ فكذلك هذا. وردَّه ابن النحاس بأنَّك إذا قلتَ: كينَ قائمٌ بَقِيَ ضميرُ قائمٍ لا يعود على شيء. وفي هذا الرَّدِّ نظرٌ؛ فإنَّ المشتقَّ إذا باشر العامل تَجَرَّدَ عن الضمير لاستعماله استعمال الأسماء الجامدة كما تقول: قام عاقلٌ من بني فلان. ورُدَّ أيضاً هذا الرَّدُّ بأنَّه مخصوصٌ بالمشتقّ، فإذا كان الخبرُ جامداً فبماذا يُمْنَع؟ فالأول أصوب، وأيضاً فقولُك: كينَ قائمٌ، أو: كِينَ أخوك، لا فائدةَ له، وما لا فائدةَ له لا تَكَلَّمُ به العربُ، وأيضاً فإنَّ السماعَ معدومٌ في المسألة، وهو العمدةُ في القول بالجواز، فإذا عُدِمَ السماع انهدَّ ركنُ القياس. ومن النحويين من أجاز ذلك إلا أنَّهم اختلفوا في وجه الجواز، فحكى

ص: 7

السيرافيُّ عن الفراء الجوازَ بإطلاقٍ على إقامةِ الخبر مُقام الاسم، وحكاه ابن السراج عن قومٍ، وزعم الفراء مع ذلك أنَّه ليس من كلام العرب، وإنَّما قاسَه. وذهب السيرافي إلى جواز ذلك على أنْ يُحْذَفَ الخبرُ والاسم جميعاً وتُصَاغُ كان لمصدرها، ويكون الاسمُ والخبر تفسيراً له، فتقول: كِينَ الكونُ زيدٌ منطلقٌ، لأنَّكَ تقول لمن قال: هل كان زيدٌ منطلقاً؟ : قد كان ذلك، أي ذلك الكونُ، ثم تنقله إلى ما لم يُسَمَّ فاعلُه، وتقيمُ الكونَ، وتجعلُ له الجملةَ تفسيراً للكون، وتقول: كِينَ زيدٌ منطلقٌ، فتضمره لدَلالةِ الفعل عليه. وذهب الكسائي مع الفراء إلى جواز: كِينَ يُقام، وجَعَلَ الكسائيُّ المسندَ إليه ضميرَ الشأن - الذي يسميه الكوفيون ضميرَ المجهول - كأنّه على معنى: كِينَ الأمرُ يُقام.

وذهب ابن عصفور إلى جواز ذلك بشرط أنْ يتعلَّق بكان ظرفٌ أو جارٌ ومجرور، فإذا بُنِيَتْ للمفعول حُذِفَ الاسمُ لذلك، وحُذِفَ الخبرُ لحَذْفِ الاسم فبقيَ المجرورُ أو الظرفُ نائباً، فتقول: مِنْ: كان في الدار زيدٌ مقيماً: كِينْ في الدار، ومِنْ: كان يومَ الجمعة زيدٌ جالساً: كِينَ يومُ الجمعة. فهذه خمسةُ مذاهبَ في المسألة لا يَصِحُّ منها إلا الأول. أمَّا رأيُ الفراء فقد مرَّ ما يَرِدُ عليه.

وأمَّا السيرافيُّ فَرَدَّ عليه ابن عصفور بأنَّه إنَّما بَنَى مذهبَه على أنَّ (كان) تَدلُّ

ص: 8

على الحَدَث، قال: وهو بناءٌ فاسدٌ لِتَجَرٌّدِها منه عند المحققين، واعتذر له شيخُنا الأستاذ - رحمةُ الله عليه - بأنَّ له أنْ يقولَ: إنَّ خبرَها جُعِل عِوَضاً من اللفظ بالمصدر، فلما لَزِمَ حذفُ الخبر الذي كان عِوَضاً من المصدر عاد إليها المصدرُ الذي رُفِضَ بوجود الخبر، قال: وإنَّما النكتةُ التي لم يشعر بها ابن عصفور أنَّه لمّا حُذِفَ اسمها وخبرها عادت تامّةً. فصحًّ البناءُ، وإذا كان كذلك خرجَتْ عن مسألة النزاع؛ إذ لا خلافَ في صحّة البناء للمفعول ذا كانت تامَّةً كسائر الأفعال التامة.

وأمَّا مذهبُ الكسائي فخارجٌ عمّا عُهِدَ من كلام العرب؛ إذا لا يوجد مرفوعٌ يُحْذَفُ فيُبْنَى فعلُه لضمير المجهول، وأيضاً لا فائدة في ذلك الكلام؛ إذا لا يخلو الوجودُ من كونِ قيامٍ موجوداً، وأيضاً لا يُحذفُ المبتدأُ اقتصاراً أبداً كما تقدّم.

وأمَّا رأيُ ابن عصفور فرَدَّهُ ابن الحاجّ بعدم الفائدة عند كَلِّ أحد، فإنَّ يوماً من الأيام أو موضعاً من المواضع لا يخلو أَنْ يكون فيه شيءٌ، ثم إنَّ (كان) الناقصةَ لا فائدةَ لها إلا ما تُعطيه من زمانِ الخبر، فإذا لم يكن خبرٌ فلا ثمرةَ لها، وإنَّما سُمّيَتْ ناقصةً لأنَّها لا بُدَّ لها من اسم وخبر بخلاف التي تكتفي بالفاعل، وأيضاً لو فُرِضَ أَنْ يُسْمَعَ مثلُ: كِينَ في الدار، على فَرْضِ أن يكونَ مُفيداً لم يجزأن يقال: إنَّه من كان الناقصة لاحتماله التَّامةَ، فما الحاجة إلى تكلّف غير ذلك؟ ، وأيضاً فإنّمَا بَنَى مذهبُه على جواز تعلُّقِ الظهر والمجرور بكان الناقصة، وهو غيرُ مُسلّمٍ له، ولا حُجَّةَ لمن تعلّق بقول سيبويه:«فهو كائن ومكون» . لأنَّ مَقْصِدَ سيبويه أَمرٌ آخر وراء ما يظهر منه لباديء الرأي.

ص: 9

وأمَّا مرفوعُ فعل المقاربة مع منصوبه فمَذْهَبُ البصريين على أنَّه لا يُحذفُ فينوب عنه المنصوبُ ولا غيره، لأنَّ المرفوعَ مع المنصوب مبتدأ وخبرٌ، كما لا يكون ذلك في كان لا يكون أيضاً فيما هو مثلُها، وأيضاً فإنَّ الخبرَ في باب المقاربة جملةٌ، والجملة لا تنوب عن الفاعل، ولا ما أشبه الفاعل، ونُقِلَ عن الكسائي إجازةُ: جُعِلَ يُفْعَل على إقامة ضمير المجهول مُقَامَ المرفوع، وقد تقدّم ما فيه في مسألة: كِينَ يُقام، وعن الفراء أنَّه بعد الحذف لم يَقُم مقامَه شيءٌ لاستغناء الكلام عنه. وهذا غيرُ مرضيِّ لِمَا تقدّم من أنَّ كلَّ فعلٍ لا بُدَّ له من فاعل أو ما يَحُلُّ محلَّه؛ إذ لا يستقلٌّ كلامٌ بغير مرفوع، وأيضاً لم يُسْمَع لذلك نظيرٌ، فلا يُعَوَّلُ عليه.

القسم الثاني: أنَّ ما سوى المفعول به، والظرف، والمجرور، والمصدر لا يُقامُ مُقامَ الفاعل، فلا يُقامُ مقامَه المفعولُ له، ولا المفعولُ معه، ولا الحالُ، ولا التمييزُ، ولا المستثنى.

فأما المفعول له فلأنَّ انتصابه ليس كانتصاب المفعول به، وإنما هو عِلَّةٌ للفعل، فامتنع أن يُقام - وهو كذلك - كما امتنع أن يُقَامَ الظرفُ - وهو ظَرْف - وإنما تَمَكَّنَ المفعولُ به في الإقامة لما تقدّم، وأيضاً فالمصدرُ يُضافُ إليه ولا يُذْكَرُ الفاعل، كما يضاف الفاعل ولا يُذْكَرُ المفعولُ به، وليس المفعول له كذلك، فلمَّا لم يكن مثلَه في هذه المناسبات وغيرها لم يجز أنْ يُقَام.

فإن قيل: فالظرفُ يُقام مُقَامَ الفاعل، وهو ظرفٌ في المعنى؛ إذ هو على إرادة (في) فأجِزْ إقامَة المفعول له وهو على إرادةِ اللام.

قيل: الظرفُ يُتَّسَّعُ فيه بأنْ يُنْصَبَ نَصْبَ المفعول به، فيُقامُ لأنه كالمفعول به، ولا يخرج عن معنى الظرفية، فإذا قُلتَ: سِيرَ عليه فرسخان، أو يومُ

ص: 10

الجمعة، علمتَ أنهما في المعنى ظرفانِ مُتَّسَعٌ فيهما، كما أنَّك إذا قلتَ: زيدٌ ضربتُه، فابتدَأتَه، علمت أنه في المعنى مفعولٌ به، وإن كان مبتدأ في اللفظ، وليس المفعول له كذلك، لأنَّك متى أقمتَه مُقَامَ الفاعل خرج عن أن يكونَ مفعولاً له، ولم يكن عليه دلالةٌ، إذ لا يُعلم مفعولاً له إلا متى كان فضلةً بعد الفاعل يُقَدَّرُ وصولُ الفعل إليه باللام، وهذا المعنى يُبطلُ كونه فاعلاً ويُنافيه، لو قلتَ: أُتِي الإكرام، لم يُفْهَم أنَّك أتيت أمراً من أجل الإكرام، إنّما يُفهم أنه فَعَل نفس الإكرام لا غيره من أجله، فلذلك لم تَصِحَّ إقامتُه. ومن الدليل على صحة ذلك أنَّ (كي) المصدريَّة لا تكون فاعلاً كأَن المصدرية، قال المازني: لأنَّ كي تجيء لعلةٍ، فإذا امتنع ما كان بمعنى المفعول له أنْ يقَعَ فاعلاً، وإن لم يكن على لفظِه، فأنْ يمتنع ما كان مقدَّراً فيه اللام أجدَرُ.

وأمّا المفعول معه فلا يُقامُ أيضاً، لأنَّ كونَهُ مفعولاً معه يقتضي أن يكونَ مع فاعل ليكون مفعولاً معه، فإذا أُقيم لم يكن مفعولاً معه كما لم يكن الأول مفعولاً له، وأيضاً فإذا أقَمتَهُ فإمّا أن تذْكُرَ الحرف الدالُّ على أنه مفعولٌ معه أو لا، فإن لم تذكره لم يدل على ذلك، وإن ذكرته لم يَجُز؛ إذ لا يُسْتَعْمَلُ ذلك الحرفُ إلا على حد ما كان في العطف، وفي العطف لا بُدّ أن يكون تابعاً لمفرد أو جملة، فكذلك هنا، والمتبوعُ هنا محذوفٌ بالفرض فامتنع أن يبقى مع الحرف.

وأمَّا الحالُ فيمتنع إقامته في مُقامَ الفاعل لأنَّه على تقدير: (في [حال] كذا)،

ص: 11

وإذا أقمتَهُ لم يُفهم ذلك المعنى بحاله كما تقدّم في المفعول له، وأيضاً فإنَّ الحالَ يفارق المفعولَ به في كونه لا يقع إلا نكرة، بخلاف المصدر والظرف.

وأمَّا التمييزُ فإنَّه على تقدير (مِنْ)، وعلى معناها، وإذا أُقيم مُقَامَ الفاعل زالَ ذلك المعنى، كما مَرَّ في المفعول له. هذا إذا فرضتَه مُميَّزاً للمفرد، وإن كان مميَّزاً للجملة نحو {اشتَعَلَ الرأسُ شَيْباً} فهو الفاعل في المعنى، فلا يَصِحُّ أنْ يُبْنَى له الفعلُ بناءً ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنه نَحْوٌ من بناء الفعل للمفعول مع ذكر الفاعل، وذلك لا يستقيم، وأيضاً فالتمييز يفارقُ المفعولَ به في لزومه التنكير كالحال.

وأمَّا المستثنى فلا يستقيم أيضاً أنْ يُقامَ، لأنَّه يودِّي إلى تفريغ الفعل لما بعدَ (إلا) في الإيجاب، فإذا قلتَ: قام القومُ إلا زيداً، لم يَسُغ أن تقولَ فيه: قِيم إلا زيدٌ، كما لا يستقيم أنْ تقولَ: قام إلا زيدٌ، وأما في النفي فلوقوع اللبْس والإيهام لو قلتَ: ما جاء القوم إلا زيداً، فبنيتَه للمفعول، فقلتَ: ما جيِء إلا زيدٌ لتُوُهِّمَ أنَّه مفعولٌ به، وأيضاً لا يُقامَ إلا ما أشبه المفعولَ به، واتُّسِع في حتى يصير مفعولاً به مجازاً مع بقاء معناه. وهذا متعذِّرٌ في المستثنى؛ إذ لا يُتَسَّع فيه كما يُتَّسَعُ في الظرف والمصدر.

فقد بان أنَّه لا يُقام شيءً من هذه الأمور مُقَامَ الفاعل. ولا أعلمُ في امتناعِ ذلك خلافاً إلا في التمييز، فإن الكسائيَّ نُقِلَ عنه جوازُ إقامته جوازُ إقامته، فأجاز في قولك: امتلأتِ الدارُ رجالاً: امتُلِئَ رجالٌ، وحكى من ذلك: خُذْه مَطْيُوبةً به نفسٌ، وهو الموجوعُ رأسُه، والمسفوهُ رأيُه، ومثلُ هذا لا معتبرَ به مع احتماله خلافَ ما ذُكِر.

ص: 12

وأتى الناظم بمثالٍ، وهو قولُه:«كنِيلَ خيرُ نائل» فخيرُ نائلٍ هو المفعولُ المقام، والأصل: نال زيدٌ خيرَ نائل، و (خيرُ نائل) يَحْتَمِلُ من جهة اللفظ أن يكونَ اسمَ مصدر كالنَوَال، فإنه يقال: نال زيد نَوَالاً، ونائلاً، وهذا ليس بمرادٍ هنا؛ إذ ليس كلامُه هنا في إقامة المصدر بل في إقامة المفعول فإنَّما مراده بخير ما يراد به في قوله تعالى:{وافْعَلُوا الخَيْرَ} أو قوله: {إنْ تَرَكَ خَيْراً} وفي قولهم: أنلته خيراً، ونائلٌ المضافُ إليه - وهو صاحب الخير - اسمُ فاعل لا اسمٌ جامد، كقولك: هذا قائلٌ، أي نِيلَ خَيْرُ مَنْ يُنِيلُ، ومَنْ عادتُه النوالُ، ويقال: نُلْتُه خيراً، وأنلته خيراً بمعنى. ثم أخذ في بيان بناء الفعل للمفعول؛ إذ كان بناؤه للفاعل لا يتأتى للمفعول، فقال:

وَأوَّلُ الفِعْلِ اضمُمَنْ والمُتَّصِل

بالآخِرِ اكْسِر في مُضَيِّ كوُصِل

واجعَلْهُ من مضارعٍ مُنْفَتِحاً

كيَنْتَحِي المقولُ فيه: يُنْتَحى

الأفعال ثلاثة: ماض ومضارع وأمر. فأما الأمر فخارج عن هذا الباب جملة، فلا يبنى للمفعول أصلا؛ لأنه في أصل وضعه مناف لحذف فاعله، والعرب إذا أرادت ترك المفعول مع بقاء معنى الأمر أتت بالمضارع مقرونا بلام الأمر، فتقول: ليُضربْ زيدٌ، ليُفعل كذا وكذا، فكأن العرب استغنت ببناء المضارع بلام الأمر عن بناء الأمر لعدم التأتي فيه، فبقي الماضي والمضارع، فشرع في كيفية نقلهما من صيغة الفاعل إلى صيغة المفعول، فيعني أنك تضم أول الفعل أبدا سواء أكان ماضيا أم مضارعا، ولذلك قال:(وأولَ الفعل)، ولم يقل: وأول الماضي اضممن؛ لأنه مضموم في الماضي والمضارع معا، ثم بعد ذلك فصَّل الأمر في الفعلين بالنسبة إلى تغيير ما قبل الآخر؛ إذ يعلق به أيضا حكم البناء للمفعول، لكنه يكون في الماضي

ص: 13

مكسورًا ، وفي المضارع مفتوحًا، وذلك قوله:(والمتصل بالآخر اكسر في مضي) يعني أنك تكسر الحرف الذي قبل آخر الفعل ذي المضي مثل قولك: وُصِلَ ، فإن أصله وَصَلَ، فضممت أوله، وكسرت ما قبل آخره، ثم قال:(واجعله من مضارع منفتحًا) الضمير في (اجعله) عائد على ما قبل الآخر، أي اجعل المتصل بالآخر منفتحًا إذا كان من مضارع كقولك في (ينتحي): يُنتحَى، وهذا تعريف مطرد في الفعل الثلاثي كضُرب ويُضرب، وعُلِم ويُعلَم، وفي / الرباعي كدُحرجَ ويُدحرَج، وأُخرجَ يُخرَج وسُويِرَ ويُسايِر، ودُرّب ويُدرّب، وبُوطِر ويُبيطر، وفي الخماسي كانطُلِق ويُنطلق، واقتُدر ويُقتَدَر، وفيما فوق ذلك كاستُخرج ويُستَخرجُ، وتُكرّم ويُتَكرّمُ، وتُقوتِلَ ويُتَقَاتَلُ، وما أشبه ذلك.

فهذا كله يطرد إلا أنه في الماضي لا يكفي دون شيء آخر ينضم إليه، بخلاف المضارع فإنه لا يفتقر في تمام بنية المفعول إلى تمام تغيير زاذد بل ما عدا الحرفين الأول، وما قبل الآخر باق على ما كان عليه في بنية الفاعل كما مر في الأمثلة، وقد لا يحتاج في بعضها إلا لضم الأول خاصة نحو: يُتَدَحرجُ، ويُتَكلّم، ويُتَطاول، وما أشبه ذلك، وفي قوله:(وأول الفعل اضممن) إلى آخره ما يشعر بأن بنية المفعول مغيرة من فعل الفاعل؛ لأن هذا العمل الذي ذكر مورد على بنية الفاعل، فكأنه يقول: الأصل أن يبنى الفعل للفاعل، فإن عرض ألا يذكر الفاعل وجب تغيير تلك البنية إلى المفعول. فهذا ظاهر في أن بنية المفعول فرع، وهو رأي الجمهور، وذهب طائفة إلى أنه أصل بناء بنفسه، ليس بمغير من غيره بل هو مشتق من المصدر للمفعول ابتداء، كما اشتق للفاعل كذلك، وهذا

ص: 14

الثاني أيضًا يظهر من كلام الناظم في أول باب التصريف، حيث قال هناك:

وافتح وضمَّ واكسرِ الثاني مِن

فعلٍ ثلاثِيٍّ ونحوه ضمن

وفي بعضها: ((وزد نحو ضمن)) فهذا الكلام ظاهر في أن فُعِلَ أصل بناء كفَعَلَ، وفَعِلَ، وفَعُلَ، فظهر أن في كلامه تدافعًا، لأنه يقول هنا: أنه ليس بأصل، وفي التصريف: أنه أصل بناء.

والجواب عن ذلك، وتقرير الاحتجاج للمذهبين مذكور في التصريف فهو أسعد به. و (أول) مفعول باضممن، وكذلك (المتصل) مفعول باكسر، أي: اضمم الفعل واكسر الحرف المتصل بالآخر، وهو ما قبل الأخير.

قوله (في مضي) على حذف مضاف تقديره: في ذي مضي، يريد الفعل الماضي. و (منفتحًا) مفعول ثان لاجعله، لأنه بمعنى التصيير، و (ينتحي) معناه: بعترض، والانتحاء: الاعتراض والقصد إلى الشيء، ويقال انتحى له، وتنحى له بمعنى واحد. ومن عادة الناظم في هذا النظم أن يخلط القوافي بعضها بببعض كهذا الوضع فإنه خلط فيه المتراكب بالمتدارك، فقوله:(متصل) من المتدارك، وقوله:(يِنكوصِل) من المتراكب، وقد خلط بعضها ببعض في الشعر، وهو قليل، وتجتمع الاثنتان مع المتكاوس، ومن ذلك قول عمرو بن العاص- ويقال: إنه لغيره-:

ص: 15

إذا تخازرتُ وما بي خزر

ثم كسرتُ الطرفَ من غير عَوَر

وقال آخر:

يحملن فحمًا جيّدًا غير دعر

أسودَ صلالًا كأعيانِ البقر

واصل القافية المتواتر، ويدخل عليها المتراكب؛ لأن أصل التفعيل (مستفعلن) ، وهو من أجزاء المتواتر، وقد يدخل عليه المتكاوس، كقول العجاج:

*قد جبر الدين الإله فجبر*

وربما وقع مثله في هذا النظم. وأكثر ما يقع هذا التداخل في الرجز، وقد يقع في غيرع كالسريع، ثم أخذ في استدراك ما بقي عليه في بناء الماضي/ للمفعول، فقال:

والثاني التالي تا المطاوعة

كالأول احعله بلا منازعه

وثالث الذب بهمز الوصل

كالأول اجعلنه كاستحلي

(الثاني) منصوب بفعل مضمر يفسر (اجعله) من باب الاشتغال، و (تا المطاوعة)

ص: 16

مفعول بالتالي، وأراد تاء المطاوعة لكن حذا الهمزة، فبقي الاسم على حرفين أحدهما لين، وذلك غير موجود إلا ندورًا، أعني في معربات الأسماء، وقد حكى الكسائي: شربت ما يا هذا، ومثله بعد هذا:((واكسر أو اشمم فا ثلاثي أعل)) وله من هذا القبيل في نظمه هذا كثير جدًا ساقه إليه ضرورة الشعر، و (كالأول) و (بلا منازعة) متعلقان باجعله، ويعني أن الحرف الثاني من الفعل إذا كان تاليًا أي: تابعًا لتاء المطاوعة فإنك تضمه أيضًا كالحرف الأول، فتقول في: تعلّم، تُعُلِّم، وفي: تأدَّب، تُؤُدّب، وفي: تخلّص، تُخُلّص، وفي تَدَحرَجَ: تُدُحرِجَ وفي تباعد: تُبوعِدَ، وما أشبه ذلك. وتاء المطاوعة هي التاء التي في أوائل هذه الأفعال، وسماها تاء المطاوعة - والبنية ينفسها هي التي للمطاوعة- لأنها خاصة بتلك البنية، فسميت بها، فتَفَعَّل مطاوع فعَّل، نحو: علَّمتُه فتَعَلَّم، وأدّبتُهُ فَتَأَدَّب، وتفاعل مطاوع فاعل نحو: باعدته فتباعد، وتفعلل مطاوع فعلَلَ نحو: دحرجتُه فتدَحرَجَ، وإنما قيّد التاء هنا بأنها للمطاوعة تحرزًا من تاء المضارعة، فلهذا يدخل ههنا الماضي وحده دون المضارع، وأيضًا فقد قيّد الحرف الآتي بعد تاء المطاوعة بأنه ثاني حروف الفعل، لقوله (والثاني التالي .. كذا) فاقتضى أن تاء المطاوعة هي أول حرفي في الفعل، وذلك لا يكون إلا في الماضي، لأن حرف المضارعة سابق لها في المضارع، وإذا كان كذلك فالحرف التالي لتاء المطاوعة في المضارع باق في بنية المفعول على ماكان عليه، فتقول: يُتَعلَّم كما تقول: يَتَعَلَّمُ، ويُتَباعَدُ كما تقول: يَتَبَاعَدُ، وكذلك سائر الأمثلة.

قال: (وثالث الذي بهمز الوصل) إلى آخره يعني أن الفعل الذي أوله همزة وصل يضم ثالثه، أي الحرف الثالث منه، كما يضم الأول، فتقول في استَحلى: استُحلِيَ، فتضم التاء، وهي الحرف الثالث، وكذلك تقول في:

ص: 17

اقعَنسَسَ: اقعُنسِسَ، وفي انطَلَقَ: انطُلِقَ، وفي اسلَنقَى: اسلُنقِيَ، وفي احلولى: احلُولِيَ، وما أشبه ذلك من الأمثلة التي أولها ألف وصل.

وقوله: (الذي بهمز الوصل) يعين أن كلامه هنا في الماضي؛ لأن ألف الوصل لا تلحق المضارع، ومثاله أيضًا مؤنس بذلك، وذلك يعين بقاء ثالث المضارع في بناء المفعول على حالته في بناء الفاعل؛ إذ لم يذكر له مخالف غير ما تقدّم من ضم أوله، وفتح ما قبل آخره، و (ثالث) منصوب بفعل مضمر يفسره (اجعلنه) من باب الاشتغال. واستحلى الشيء: وجده حلوًا كما / يقال: استجاده إذا وجده جيدًا.

وعلى الناظم هنا دركٌ من وجهين:

أحدهما: أن اقتصاره في تعريف ما يضم ثانيه مع الاول على ما أوله تاء المطاوعة تقصير؛ إذ كان ضم الثاني غي مقتصر به على ما كانت تاؤه للمطاوعة، بل هو عام في ما أوله تاء كانت للمطاوعة أو لغيرها، وذلك أن: تفعّل كما يأتي للمطاوعة يأتي أيضًا للتكلف، نحو: تحلّم، وتكرّم، وتشجّع وللتجنب، نحو: تأثّم، وتحرّج، وللصيرورة، نحو: تأيّمت المرأة، وتحجّر الطين، وللاتخاذ نحو: توسّد التراب، وتبنّى الصبي، ولغير ذلك من المعاني، وللمطاوعة واحد منها. وكذلك: تفاعل قد يأتي للشتراك في الفاعلية نحو: تقاتل، وترامى، ولتخييل تارك الفعل كونع فاعلًا نحو: تغافل وتجاهل وتعارج، والمطاوعة لفاعل معنى من معاني تفاعل، فأين تدخل له هذه الأفعال حين قيّد التاء بكونها للمطاوعة، وهي في الحكم بضم التاء سواء؟ ، هذا تقييدٌ

ص: 18

مخلُّ، وقد حرّر هذا المعنى في التسهيل؛ إذ قال:((يضم مطلقًا أول فعل النائب، ومع ثانيه إن كان ماضيًا مزيدًا أوله تاء)) ولا يقال: إنه عرّف البنية بما هو الأصل فيها، وذلك المطاوعة، فيندرج ما عداها، لأنا نقول: الأمر ليس كذلك بل كل معنى استعملت فيه البنية غير مفرع عن غيره، إلا فلو كان مفرعًا عن غيره، لبقي فيه معنى ذلك الغير ملحوظًا، وأنت تعلم أن: تحلّم وتأيّمت ليس فيها معنى فعّلتُه فتفعَّل، وكذلك في تفاعل ونحوه. فالحاصل أن هذا التقييد نخلٌّ، فلو قال مثلًا:

والثاني التالي تاء زائدة

فاضمم ففي الضم تمام الفائدة

أو قال:

*فاجعله كالأول تعط الفائدة*

أو ما أشبه ذلك لتخلص من هذا الشغب، ولا أجد له جوابًا.

والثاني: أنه ذكر هما حكم الفعل الصحيح والمعتل العين، وقد تم حكم الصحيح، وها هو يذكر حكم المعتل العين من الخماسي خاصة، وترك ذكر حكم المضاعف ثلاثيًا أو رباعيًا أو خماسيًا أو سداسيًا، وذكر حكم ما اعتلت لامه أو فاؤه، ولم يتبين فيها بيانًا ظاهرًا ما ذكره هنا، ألا ترى أن المدغم ليس ما قبل آخره في الماضي بمكسور بإطلاق، فإنك تقول في: رَدَّ: رُدَّ، وفي: أقرَّ أُقِرَّ، وفي استَقرَّ: استُقِرَّ، وفي ترادّ: تُرُودَّ، ولا ما قبل آخره في المضارع بمفتوح، نحو: يُرَدُّ، ويُقَرُّ، ويُستَقَرُّ، ويُترادُّ. وترك من ذكر المعتل العين

ص: 19

ما كان نحو: يقول ويبيع، فإنه لا يقتصر فيه على ضم الأول، وفتح ما قبل الآخر بل تقلب الواو والياء ألفًا، نحو: يقال وويباع، وكذلك: يستقام، ويستبان، وأيضًا فالمعتل الفاء بالواو يجوز قلب الواو فيه همزة إذا ضممت، فتقول في: وارى: أورِيَ، وفي: وقّتَ: أُقِّت، وكذلك ماكان نحو: بيطَر، وهيلَلَ يزاد فيه على ما قاله أن تقلب الياء واوًا، نحو: بُوطر وهُولِلَ، وكذلك ما قلب آخره من الماضي ألفًا تصير ياء كان أصلها الواو، أو الياء نحو: دثعي، ورُمي في: دعا، ورمى، وما كان آخره معتلًا بالواو، أو بالياء من المضارع تقلب فيه ألفًا نحو: يُرعى، ويُرمى وكثير من هذه الأحكام على هذا السبيل، وهو لم يبين في هذا الباب من ذلك شيئًا، وقد بين هذا غيره.

وقد اعترض ابن الحاج على ابن عصفور بنحو ما اعترض به الناظم، وأن قوله:((وكسرت ماقبل آخره)) غير صادق في: افعلَّ، وافعالَّ.

فإن قلت: إنه في الأصل كذلك.

قيل/ إن ذلك ضار في التعليم، لأنه أصل لا ينطق به ولو لم يذكر أن هذا يكسر لكان أصوب وأقل ضررًا، لأنه صادق غير مغلط.

فإن قيل: إن هذه الأحكام كلها أحكام تصريفية لا يليق ذكرها بهذا الباب، فالمعتل يذكر في باب التصريف والمضاعف يذكر حكمه في باب الإدغام.

فالجواب: أن حكم المعتل أيضًا وما فيه من الإشمام وغيره، والمضاعف كذلك بابه التصريف، أو باب الإمالة فكان ينبغي تأخيره ذكر ذلك إلى بابه، فلا يزيد هنا على ما تقدّم الآن لكنه لم يفعل ذلك فورد الإعتراض عليه.

والجواب: أنه جرى فيما صنع على عادة كثير من النحويين حيث ذكروا ما

ص: 20

ذكر في هذا الباب، وتركوا إلى باب التصريف والإدغام ما ترك، إذا روعي الموضعان حصلت الفائدة، والله أعلم.

واكسر أو اشمم فا ثلاثيّ أعل

عينًا، وضم جا كبوع فاحتُمل

هذا حكم تابع للبناء للمفعول، وهو فيما إذا كان الفعل معتلًا عينه، والمعتل العين ضربان: ضرب يكون فيه ضمة البناء للمفعول مجاورة لعينه، وضرب لا تجاورها، فالذي لا تجاورها فيه لا زيادة فيه على ما ذكر نحو: استُبين، واستُعيد، وتُطُووِل، وتُبُويِن، فإن العين المعتلة قد فصل بينها وبين الضمة ما تصح مع فلا تنقلب كسرة، فلا يحتاج إلى الحكم المذكور، فلذلك لم يتكلم في هذا الباب لاكتفائه بما تقدم فيه، والذي تجاور فيه الضمة العين قسمان: ثلاثي، وخماسي. فالثلاثي هو الذي شرع في ذكره، فيعني أن الفعل الثلاثي المعتل العين إذا بني للمفعول جاز في فائه ثلاثة أوجه:

أحدهما: الكسر الخالص، وهو قوله (واكسر) فتقول في: قال: قيل، وفي باع: بيع، وفي هاج: هيج، وفي قام: قيم، وما أشبه ذلك.

والثاني: إشمام الفاء الضم، فتقول: قيل، وهيج، وقيم ، ولم يتعرض لصورته كيف تكون؟ ، وفي ذلك ثلاثة مذاهب: أحدهما: ضم الشفتين مع النطق بالفاء، فتكون حركتها بين حركتي الضم والكسر نحو: قيل، وبيع.

وهذا هو المعروف المشهور، والمقروء به. والثاني: ضم الشفتين بعد

ص: 21

إخلاص كسرة الفاء نحو: قيل، وبيع. والثالث: ضم الشفتين قبل النطق بها، لأن أول الكلمة مقابل لآخرها فكما أن الإشمام في الأواخر بعد الفراغ من إسكان الحرف، فكذلك يكون الإشمام في أولها قبل النطق/ بكسرة الحرف. والمشهور المذهب الأول.

والوجه الثالث: إبقاء الضمة التي أتى بها في الأصل للبناء للمفعول ويستوي في ذلك ذوات الواو وذوات الياء، فتقول: قُولَ، وبُوعَ، فالوجهان الأولان فصيحان مقروء بهما، والجه الثالث لغة ضعيفة حكيت عن بني ضَبَّة، وحُكي عنهم: بُوع متاعه، خُورَ له، وأنشد ابن جني من هذا:

نوطَ إلى صُلبٍ شدِيد الخلِّ

وعُنقٍ كالجذعِ مُتمَهَلِّ

وأنشد أيضًا:

حُوكت على نيرين إذ تُحاكُ

تَختَبِطُ الشوك ولا تُشاكُ

وأنشد غيره:

ليت وهل ينفعُ شيئًا ليتُ

ليتَ شبابًا بُوع فاشتريتُ

ص: 22

أرادوا: نيط، وحِيكت، وبيع، وكان الأصل: قُوِل، وبُيعَ كما تقدم في الصحيح إلا أنه عرض أن استُثقل تحريك الواو والياء بالكسرة فنَقَلَ بعض العرب الكسرة من العين إلى الفاء، وتركها على إخلاصها، ثم قلب الواو ياء في: قول، فصار: قيل، وأشم بعضهم الكسرة الضم بعد نقلها وقلب الواو تنبيهًا على أن أصل الفاء الضم، وبعضهم ترك الفاء على أصلها من الضم وقلب الياء في: بيع واوًا، وهذه أضعف اللغات، وعلى ضعفها نبه الناظم بقوله (وضم جا كبوع فاحتمل) أي أجري فيه القياس على ضعفه، قال سيبويه:((وهذه اللغات دواخل على: قيل، وخيف، وهيب، والأصل الكسر كما تكسر في فعلت)) يعني نحو: خِفتُ، وهِبتُ، ولأجل أن الكسر الأصل قدمه الناظم - والله أعلم- إذ قال (واكسر أو اشمم) وقوله (جا) أصله جاء لكنه حذف، وروي عن العرب نحو ذلك. ثم لما بين هذه الأوجه الثلاثة في الثلاثي، وكان من الأفعال ما إذا أتى على وجه من هذه الأوجه التبس بفعل فاعل على آخر أخذ يبين المخلص من ذلك فقال:

وإن بشَكلٍ خيفَ ليسٌ يجتَنَب

ومَا لباعَ قد يُرى لنحو حًبّ

يعني أن شكل بنية المفعول لا يخلو إذا جرت فيه هذه اللغات، أو بعضها أن يلتبس بشكل آخر، وبنية أخرى أو لا، فإن لم يلتبس بقيت اللغات جارية فيه على ما وصفت، نحو: قِيل الحق، وقيل الحق، وقُول الحق، فإن هذا لا يلتبس بغيره من الأفعال المينبة للفاعل. وأجري فيه ما سواه، وذلك أن تقول: قاولت الناس فقِلتُ، فقولك: قلت يحتمل أن يكون مبنيًا للفاعل أو للمفعول، أي فغَلَبت أو فغُلِبتُ، فإذا وقع مثل هذا اللبس اجتنب ما أدى إليه، فيتجنب الضم الخالص

ص: 23

هنا، وذلك على لغة من يقول: قول، وبوع، إذ بسببه حصل اللبس بفعل الفاعل، ويبقى الإشمام والكسر الخالص جائزين، فتقول: قاولت فقِلتُ أي: فغُلِبتُ، وقاولت فقِلتث، ومثله: زِرتُ من الزيارة، يجتنب فيه/ لغة الضم الخالص لأجل التبايه بشكل بنية الفاعل، ويجوز الكسر والإشمام، وكذلك تقول: الهندات رِعن، ورُعِن، ولا تقول: رُعن، وتقول نحن قِدنَا، من: قاده يقوده وقِدُنا، ولا تقول: قُدنا، وكذلك سائر ذوات الواو مما يشبه هذه الأمثلة، ومثل ذلك من ذوات الياء إذا قال العبد أو الأمة: بِعتُ فهو مع الكسر الخالص محتمل لبناء الفاعل بمعنى أن العبد باع شيئًا، ولبناء المفعول بمعنى أنه المبيع، فيجتنب فيه لغة الكسر، وتقول: بُعتُ بالضم، وبعت بالإشمام، ومثله كُلتُ، ودُنتُ، وكُلنا، ودُنّا، ودُنَّ، وما أشبه ذلك، وكذلك ما كان من ذوات الواو على فعلت المكسور العين نحو: خاف إذا قلت: خِفتُ فهو محتمل لبنية الفاعل وللمفعول فيجتنب الكسر الخالص، ويستعمل ما عداه، فتقول: خُفتُ، وخفت.

هذا معنى قول الناظم: (وإن بشكل خيف لبس يجتنب). وهو رأي له خالف فيه غيره، فإن سيبويه لم يعتبر فيه شيئًا من هذا بل حكي عن العرب ثلاثة الأوجه في موضع اللبس باطلاقٍ من غير مراعاة للبس، قال سيبويه:((أما من قال قد بيع وزين وهيب وخيف)) فإنه يقول: خِفنا، وبِعنا، وخِفنَ، وزِن، وبِعنَ، وهِبتُ يدع الكسرة على حالها ويحذف الياء؛ لأنه التقى ساكنان، وأما من ضم بإشمام إذا قال فُعِل، فإنه يقول: قد بُعنا، وقد رُعنَ، وقد زُدتّ، وكذلك جميع هذا يميل الفاء ليعلم أن الياء قد حذفت فيضم، وأمال كما ضموا وبعدها الياء؛ لأنه أيين لفعل، وأما الذين يقولون: بوع، وقُول، وخُوف، وهُوب فإنهم يقولون: بُعنا، وهُبنا، وخُفنا، وزُدنا لا يزيدون على الضم والحذف كما لم يزد الذين قالوا: ((رِعنَ

ص: 24

وبِعنَ على الكسر والحذف)). فهذا سيبويه لم يعتبر لبسًا بخلاف ما ذهب إليه هذا الناظم ومن اتبع هو مذهبه، وظاهر كلام سيبويه أن ذلك سماع لقوله ((من يقول كذا يقول كذا)) ، ومثل ذلك حكى اللحياني في نوادر سماعه من الكسائي؛ فإذا قد صادم الناظم هذا السماع بالقياس، والقياس إذا خالف السماع مرفوض. فهذا وجه من النقد عليه، وأيضًا فإن اللبس عند العرب ليس بمجتنب بإطلاق، ألا ترى أنهم نسبوا إلى الزيدين وإلى زيد نسبة واحدة فقالوا: زيدي، ونسبوا إلى عشرة وعشر من خمسة عشر: عَشْري، وصغروا أحمد في الترخيم تصغير حمد فقالوا: حُميد، وكذلك يقع في الترخيم وغيره من الأبواب اللبس حسب ما تعطيه الأحكام من غير اجتناب وقد تقدم، ولذلك نظائر، وإذا كان كذلك ضعف ما اعتبره ابن مالك هنا، وفي التسهيل، وهو فيه تابع لابن عصفور؛ إذ زعم أن مراعاة اللبس هي الكثير، وعدم مراعاته قليل، على أن المازني قد أشار إلى اعتبار اللبس وأنه مجتنب عند بعض العرب، فذكر أن من يقول: بيع الطعام ولا يُشِم يقول: بُعتْ، فيُشِم فرقًا بين فَعَلتُ وفُعِلَت، ويقول أيضًا: خُفْنَا وبُعنَا -يعني فيخلص الضم- ثم قال: ((ومنهم من يدع الكسرة ولا يبالب الالتباس)) ، قال ابن جني: ((لأنهم قد يصلون إلى إبانة أغراضهم بما يصحبونه الكلام مما تقد قبله أو تأخر بعده، وبما تدل عليه الحال، ألا ترى أنك تقول في تحقير عمرو: عُمير. وكذلك في تحقير عُمَر، وكلاهما مصروف

ص: 25

في التحقير، وهذا بابه واسع.

قال: ((وإنما يعتمد في تحديد الغرض فيه بما يصحب الكلام من أوله أو آخره أو بدلالة الحال، فإن لها في إفادة المعنى تأثيرًا كثيرًا، وكثيرًا ما يعتمدون في تعريف ما يريدون عليها)). هذا ماقال، وهو صحيح، ولا شك أن ما حكى المازني من اجتناب اللبس أقل من عدم اجتنابه؛ إذ من البعيد أن يكون سيبويه يحكى اللغة القليلة ويعرفها ولا يعرف اللغة الكثيرة ولا يذكرها، بل الظاهر أن ما حكى سيبويه هو الأكثر في الكلام، وما زاد المازني بالنسبة إليه قليل، وعند ذلك يكون الاظم قد ارتكب مذهبًا لا قاء لبه، وهو أن يرد جميع اللغات إلى لغة واحدة قليلة مع أن أكثر العرب يخالفونها، والنحويون لا يذهبون إليها. فهذا اعتراض واردٌ عليه، وقد رأيت بخط شيخنا الأستاذ أبي سعيد بن لب-رضي الله عنه أبياتًا رجزية في شرح هذا اللبس المجتنب والتنكيت على مخالفة سيبويه كأنه كمّل بها هذا الموضع من الرجز، حفظتها من خطه ثم قرأتها عليه، وهي هذه:

مثال ما الضمُّ للبسٍ يجتنب

في كقاولتُ فقِلتُ في الغَلَب

ومثل زِرتُ واجتنِب كسرًا لدى

يائي عينٍ مثل: دُنتُ يا فتى

كذا إذا الكسرُ بواو قد أصُل

في نحو خاف: خُفتُ للمفعول قُل

وسيبوبه لم يرَ اللّبس إذا

عارضَ وجهًا موجبًا أن يُنبَذا

ص: 26

وقد تقدم شرح معناه في بسط كلام الناظم. ولما ذكر اجتناب اللبس وكان ذلك يتصور في لغة واحدة، ولم يعين ما الذي يصار إليه من باقي اللغات دلّ ذلك على إجاوته الانصراف إلى كل واحدة من الباقيتين.

وفي كلام المازني ما يعطي ذلك لكن عند من راعى اللبس من العرب. ثم قال: (وما لباع قد يُرى) ثابتًا للثلاثي المضاعف، نحو: حبَّ وردَّ، وشدَّ، وعمَّ، والذي تقدم لباع ونحوه في البناء للمفعول جريان ثلاث اللغات مالم يكن لبس، فن كان لبس اجتنب، فكذلك الحكم هنا إلا أن اللبس فإنك تقول: ردَّ، وشدَّ، وحُبَّ، ومُدَّ بإشمام الضم، ويجوز إخلاص الكسر، فتقول: رِدَّ، وشِدَّ، وحِبَّ، ومِدَّ، ومن ذلك قراءة علقمة ويحيى {هذه بضاعتنا رِدَّتْ إلينا} بإحلاص الكسر، وأنشد سيبويه للفرزدق:

وما حُلَّ من جهلٍ حُبى حلمائِنا

ولا قائلُ المعروف فينا يُعنَّفُ

بإشمام ضمة الحاء الكسر، وقال ابن جني: قال لي أبو علي رحمه الله: إنهم ينشدون بيت الفرزدق على ثلاثة أوجه: حُلَّ، وحِلَّ، وحِلّ.

وقال ذو الرّمة:

ص: 27

دنا البين من مي فُِرِدَّت جمالها

وهاج الهوى تقويضُها واحتمالها

وأما عروض اللبس فلا يتصور اللغة المشهور؛ لأن المضاعف ينفك عند لحاق ضمائر الرفع، فتقول: رددت، ورددنا، ورددن، وإنما يتصور على لغة من يقول في رددتُ: وفي رددنا، رُدْنا وفي رددن: رُدْن، فإذا بنيت للمفعول على هذه اللغة اجتنبت الضم، ورجعت إلى الإشمام أو الكسر، فقلت: رُدنا، ورِدنا، ولا تقول: رُدنا لالتباسه بفعل الفاعل في الأمر. هذا معنى ما أراد إلا أنه قد يفهم من ظاهر كلامه مقابلة الكسر في: قيل للكسر في: حِبَّ، ومقابلة الضم للضم والإشمام للإشمام، وأن من يكسر في: قيل فهو الذي يكسر في حِبَّ، ومن يضم هناك يضم هنا، ومن يشم يشم، وليس كذلك إلا في الإشمام خاصة، وأما من يضم في قيل، فهو الذي يكسر في: حِبَّ ومن يكسر في: قيل هو الذي يضم في: حُبَّ، ولذلك كان الضم هنا أفصح اللغات، ويليه الإشمام والكسر قليل، وكان الأمر في: قيل بالعكس، فاطلاق الناظم أن حَبَّ بمنزلة باع قد يؤذن بخلاف ما عليه الحكم والتنزيل.

قد يجاب بأنه إنما تعرض لمجرد إجازة الأوجه الثلاثة، فقوله:(وما لباع قد يُرى لنحو حَبّ) معناه أن الأوجه الثلاثة في باع جاريةٌ في: حَبَّ، وإنما كان يؤذن بذلك لو قال: وحَبَّ بمنزلة باع في الأوجه المذكورة، أو ما يشعر بأن الضم مثلًا أو الكسر فيهما بمنزلة واحدةٍ، أمَّا حين لم يتعرض لذلك فلا

ص: 28

اعتراض عليه، وإنما في قوله قلق من جهة إتيانه بقد المقتضية للتقليل حيث لا تقليل؛ إذ ليس استعمال هذه اللغات في: حَبَّ بقليل إلا على حد استعمالها في باع.

ثم شرع في الثاني من قسمي المعتل الذي تجاوِرُ فيه الضمة العين وهو الخماسي فقال:

وما لِفَا باعَ لما العينُ تَلي

في اخْتَار وانْقادَ وشبه ينجلي

(ما) مبتدأة موصولة، صلتها المجرور، وخبره (ينجلي) و (لما العين تلي) متعلق به، و (في اختار) متعلّق ب (تلي)، وتقدير الكلام: ما استقر لفاء باع ينجلي لما تليه العين في: اختار، وانقاد، وشبههما. ويريد أن ما ثبت لفاء باع عند بنائه للمفعول من الكسر، أو الإشمام، او الضم ثابت للحرف الي تليه بعده العين المعتلة في نحو: اختار، وانقاد وشبههما مما هو على وزن: افتعل، وانفعل معتل العين بالياء كاختار، أو بالواو كانقاد، فمن قال: بيع، وقيل بإخلاص الكسر قال: اخْتِيرَ وانقِيدَ بالإشمام، ومن قال: قُول، وبوع قال: اختور، وانقود، وحكى قطرب: اختور عليه في: اختير عليه، وهي لبني ضبّة. فإن قيل: إن إطلاق الناظم في هذه المسألة مشكل، فإنه قال: إن الأوجه الثلاثة في الخماسي جائزة، وقال فيما تقدم: إن أول الفعل مضموم بإطلاق، فحصل من الموضعين أن: اختير، وانقيد إذا أُشمَّ ما قبل العين فيهما فحكم همزة الوصل الضم الخالص، فتقول: أُختير، وأُنقيد، وهذا غير ما نص عليه في التسهيل حيث قال: ((إن همزة الوصل في الفعل تضم

ص: 29

قبل ضمة أصلية أو مقدرة، وتشم قبل المشمة وتكسر فيما سوى ذلك)).

ولم يحك في هذا خلافًا، وقال في الشرح:((ومن أشم نحو: اخُتير، وانُقيد لزم الإشمام في الهمزة)) ، فأحد/ الموضعين غلط إما هذا أو ما في التسهيل وشرحِه. فهذا وجه من الاعتراض، ووجه ثانٍ، وهو أنه قرر في الثلاثي جريان الأوجه الثلاثة في المعتل والمضاعف، ثم قرر ذلك في الخماسي في المعتل خاصة، وأهمل تقريره في المضاعف، نحو: امتدَّ، واشتدَّ، وانسلَّ، وانجرَّ، وما أشبه ذلك، فأوهم أنها لا يدخلها الأوجه الثلاثة، وإنما يقتصر بها على ما قرر أولًأ من ضم ما قبل المضاعف خاصة، وليس كذلك بل هي جارية فيه كما جرت في الثلاثي المضاعف، قال ابن جني:((ومن أشم فقال: قُيِل قال: اختير عليه- يعني يُشم- ومن قال: اشتُدّ عليه، ومن قال: شُدَّ فأشمَّ أشمَّ أيضًا، فقال: اشتد عليه)). قال: ((وحكى الفراء أن بعضهم قرأ {كشجرةٍ خبيثة اجتُثَّتْ} ، بضم تنوين (خبيثة) وضم تاء اجتثت)). هذا ما قال، وهو القياس كما في الثلاثي، فالذي ظهر من ابن جني أن اللغات في هذه الأنواع كلها جارية من غير مخالفة إلا ما بين المضاعف والمعتل، فإن الكاسرين في المعتل هم الذين يضمون في المضاعف، وبالعكس، وبذلك يتمكن الاعتراض عليه في قوله قبل:(وما لباع قد يرى حَبّ) حيث أتى المقتضية للتقليل، وأن تلك

ص: 30

الأوجه ليست بمعملة في حَبَّ إلا قليلًا، وأن أكثر الاستعمال فيه على خلاف ذلك، وهذا كله غير صحيح.

فالجواب عن الأول: أن بعض المتأخرين- وهو ابن أبي الربيع- يقول في نحو: انقِيد، واختِير بمثل ما فهم من هذا النظم، وأن همزة الوصل باقيةٌ على ضمّها بإطلاق. أما على رأي من يقول: اختُور، وانقُود فلا إشكال؛ لثبوت الضمة الأصلية بعدها ظاهرة، وأمّا على رأي الإشمام فقريبٌ من ذلك، وكذلك على لغةِ الكسر كما تقول في أمر المخاطبة على ما نصوا عليه: أُغْزِي، واغُْزِي، فيبقى الضم في الهمزة خالصًا مع كسر الزاي دون إشمام، ومع الإشمام، لأن الكسر فيها عارضٌ، والأصل الضم، فالهمزة في الحقيقة تابعة في الضم لما بعدها، وإذا كان كذلك جرى: اخنِير، وانقٍيد مجرى أغزي لاجتماعهما في عروض الكسر، وأصالة الضم. هذا وجه ما قاله بعض المتأخرين، وهو توجيه لما ظهر من الناظم هنا، والذي يفهم من التسهيل أن همزة اختِير تضم مع الضم الخالص، وتشم مع الإشمام، وتكسر مع الكسر، وإنما يفهم ذلك منه بالاحتيال، وأما ابنه فنص أنها تكسر مع الكسر، وتضم مع الضم، وتشم مع الإشمام، وقد أشار ابن الضائع إلى وجه كسرها مع كسر الثالث بعدما حكم به في نحوه: اختِير، ولم يحكم به في: اُغزي، فقال: فإن قيل: فلم التفت (إلى) العارض في: اختِير وانقِيد، وكسرت همزته مع أن أصل ثالثه الضم.

فالجواب: أن في قولنا في قيل: وبِيع: أن أصلهما فُعِل هو بالنظر إلى الصحيح، والكسر قد صار في المعتل ملتزمًا، فذلك فيه عارضٌ بالنظر إلى

ص: 31

الصحيح، لا بالنظر إلى الاعتلال، وأيضًا فالضم في: امشُوا، والكسر في اغزي من أجل الضمير المتصل، وهو غير لازم، وهو في: اختير، وانقيد شيءٌ عرض في نفس الفعل، لازم له، لا بسبب شيء منفصل عنه، فلذلك روعي هذا، ولم يراع ذلك، وهو ظاهر)) انتهى كلامه.

وإذا تقرر هذا/ ثبت أن المسألة متنازع فيها، ولابن مال فيها قولين.

وأما الوجه الثاني فالذي يظهر منه هنا، وفي التسهيل أن المضاعف ليس مع المعتل في درجة واحدة بل استعمال الإشمام والكسر في: رُدَّ ونحوه قليلٌ بالنسبة إلى استعمالهما في: قيل، ونحوه، ويلزم من ذلك أن يكون: اشتد، ونحوه مما يقلان فيه أيضًا، وإن لم يبين ذلك، فيه، فترك ذكره لقلته، ونبّه في: رُدّ على القلة بقوله: (وما لباع قد يرى لنحو حَبّ) فـ (قد) في كلامه على أصالتها، في استعماله من التقليل، فلا درك عليه في الإتيان بعبارة التقليل، وإنما الدرك في نفس اعتقاده له، لأن غيره ممن هو أعرفُ منه بكلام العرب يحكي أن المدغم والمعتل معًا يجريان في نصاب واحد.

و(ينجلي) معناه: يظهر، من جلوته إذا أظهرتُه، وهو عبارة عن ثبوت الحكم له. وقوله:(وشيةٌ) أراد: وشية لهما، فحذف الضمير المجرور كقوله:{فإنَّ الجنة هي المأوى} أي المأوى له، والضمير العائد على (ما) من قوله:(لما العين تلي) محذوف تقديره: لما العين تليه، وحذفُ مثل هذا الضمير كثير.

وقابِلٌ من ظَرْفٍ أو من مصدَر

أو حرفِ جرٍّ بنيابة حَرِي

ص: 32

ولا ينوبُ بعضُ هذي إن وُجِد

في اللفظ مفعولٌ به، وقَدَ يَرٍد

هنا رجع إلى الكلام في سائر ما ينوب عن الفاعل، وذلك ثلاثة أشياء، وهي: الظرف زمانيًا ومكانيًا؛ إذ لم يقيده بأحدهما، فيحمل على إطلاقه، والمصدر، حرف الجر- يريد مع مجروره-، فقال: إن ما كان من هذه الأشياء قابلًا للنيابة عن الفاعل فإنه يقام مقامه، وهو (حَرٍ) أي: خليقٌ بذلك، ومستحق له كما يستحقه المفعول به. وقَيًّد بالقابليّة، لأنها قد لا تقبل النيابة فلا تصح نيابتها، وذلك إما من جهة عدم الفائدة، وإما من جهة عدم صلاحيّة اللفظ لذلك.

أما عدم الفائدة فإذا قلت: سار زيد وقتًا، فوقت هنا لا يقام؛ لأنك لو قلت: سير وقتٌ لم يكن فيه فائدة، وكذلك لا تقول في: جَلَسَ زيدٌ مكانًا: جُلِس مكانٌ، لعدم الفائدة، وكذلك المصدر المؤكد لو أقمته فقلتَ: قيم قيامٌ لم يُفِد، وكذلك المجرور إذا قلت: ذُهِبَ إلى إنسان، وإنما يقام من ذلك كله ما تقع به الفائدة؛ لأن الكلام مبنيٌّ عليها، فلو قلت: سيرَ يومُ الجمعة، أو جُلِسَ مكانُ زيدٍ، أو ضُرِبَ ضربٌ شديدٌ، أو مُرّ بزيد لأفاد، فصحت إقامته. فهذا معنى القابليّة أو عدمها في الوجه الأول. وقد تبين هنا أنه لا يجيز إقامة المصدر المؤكد بإطلاق أظْهِرَ أو أضْمِرَ، فلا يقال عنده: قُعِدَ، ولا ضُحِكَ، على تقدير: قُعِدَ القُعود، وضُحِكَ الضحكُ من غير أن يتقدَّمَه شيء. وقد عزا الزجاجي إلى سيبويه جواز هذا، وردَّ عليه الشراح، وقالوا: إن سيبويه لايجيز إضمار المصدر المؤكد، قال ابن خروف: الذي أجاز سيبويه لا يمنعه بشرٌ، وهو إضمار المصدر

ص: 33

المقصود مثل أن يُقَال لمتوقع القعود؛ قد قُعِدَ، ولمتوقِّع السفر: قد سُوفر السفرُ/ الذي ينتظر وقوعه، والفعل لا يدُلُّ على هذا النوع من المصادر، والدال عليه أمر آخر. وصحح ابن مالك ما قاله ابن خروف وقال ابن الباذش: وإنما أجاز سيبويه إضمار المصدر لدلالة مصدر آخر عليه في نحو: ضُرِبَ ضربًا شديدًا، وضُرِبَ [ضَرْبٌ] شديدٌ، ترفعُه إذا شغلت الفعل به، وتنصبه إذا شغلت الفعل بغيره، قال: فإسناد الفعل إلى المضمر في معنى إسناده إلى المضمر، قال: وإنما وجهُ: قِيمَ، وقُعِدَ أن يكون الكلامُ في بناء الفاعل: قامه، وقعده على معنى: قام زيدٌ قيامًا، وقَعَدَ عمرو قعودًا، فتضمر المصدر ثم تبنيه لما لم يُسَمَّ فاعله مضمرًا في اسم المفعول كما أضمرته في بناء الفاعل وقد جاء ذلك في قوله تعالى:{فبِهُداهم اقْتَدِهي} على قراءة من قرأ بذلك، أي: اقتدِ اقتداءً. وفيما أنشده سيبويه:

*هذا سراقةُ للقرآن يدرُسُهُ *

أي يدرس القرآن درسًا، قال: فأما أن يُعْمَلَ بناء المفعول في مصدر لم يعمل فيه بناء الفاعل فدعوى مجردة، وعلى هذا جرى جمهور الشراح، وكذلك: سِيرَ سَيْرٌ، منعوه أيضًا، وليس في كلام سيبويه ما يدل على جوازه، وإن كان قد

ص: 34

أجاز: سِيْرَ سَيْرٌ، وضُرِبَ ضَرْبٌ؛ لأن هذا عنده على غير المصدر المؤكد، بل كأنك قلت: سِيرَ عليه ضَرْبٌ من السير، أو شيء من السير.

ومن النحويين من ذهب مذهبًا ثالثًا فأجاز ان تقول: سِيرَ بزيد سيرٌ، ومنع: سِيرَ سيْرٌ ، وهو رأي الصَّيْمَرِي، لكن قاله مع إضمار المصدر. قال ابن ملكون: هذا الذي قاله قد قاله غيرُه من النحويين، والقياس يَرُدّ مالقالوا؛ لان المصدر المراد مع هذه الأشياء -يعني حرف الجر أو غيره مما يتعلق بالفعل- كالمصدر المراد مع عدمها، فإن كان يجوز إسناد الفعل إليه دونها مع وجودها فأحرى مع عدمها، وإن كان لا يجوز مع عدمها لم يجز مع وجودها؛ لأن وجودها لا يوجب الغفادة في الإخبار عنه، التي نفاها مع عدمها، ألا ترى أنه لا فائدة في قولك: مُرّ بزيدٍ، وأنت تريد: مرورٌ، إلا أن ما في قولك: مُرَّ، وأنت تريد: مرورٌ، فإن كان: مُرَّ لا يجوز مع تقدير إسناده إلى المصدر فكذلك: مُرَّ يزيد على ذلك التقدير؛ لاتفاقهما في المعنى، إلا أن في: مُرَّ بزيدٍ زيادة المرور به فقط، وهذا أيضًا لازمٌ إذا أُظهر المصدرُ، فالصحيح ما عليه الجمهور من امتناع إقامة المصدر المؤكد بإطلاق. والله أعلم؛ ولأن المصدر المؤكد لا يزيد فائدةً على ما يفهم من لفظ الفعل، وأما عدم صلاحية اللفظ للنيابة فإن من حقيقة النائب أن يقوم مقام ما ناب عنه في أحكامه كلها، وإذا كان كذلك فما لم يتأت فيه ذلك لا يصح أن يقام، والظرف والمصدر، والمجرور بحسب ذلك ثلاثة أقسام: قسم صالحٌ للنيابة بإطلاق، كالمصدر المبين للنوع، أو المبين للعدد، نحو: ضربتُه ضربًا شديدًا، وضربته ضربتين، فإذا قلتَ: ضُرِبَ صَحَّ أن تقول: ضُرِبَ [ضربٌ] شديد، أو ضربتان، فتُصَيِّرَ المصدرَ مخبرًا عنه، وإن كان ذلك

ص: 35

مجازًا، لأن العربَ تتَّسِعُ في هذا المعنى كثيرًا، وترفعُه أيضًا كما كان الفاعل مرفوعًا/ ويستقِلُّ به الكلامُ، وتحصلُ به الفائدة.

وقسم غير صالح للنيابة بإطلاق كالمصدر الواقع في موضع الحال، نحو: سِيْرَ به رَكضًا، وقُتِلَ به صبْرًا، وذُهِبَ به مشيًا، وما أشبه ذلك، فلا يجوز إقامة المصدر هنا من حيث لم يجز إقامة الحال؛ إذ لا يصح أن يكون مخبرًا عنه، ولا مرفوعًا، ولا مستقلًا به الكلام مع بقائه في موضع الحال كما لم يصح ذلك في الحال، وكذلك لا تقول: مُرّ بهم الجماء الغفير، ولا طُلِبَ جَهْدُه في: مررتُ بهم الجماءَ الغفير، وطلَبَه جهْدَه.

وقسمٌ صالح من جهة غير صالح من جهة، أعني أن فيه ما يخيل عدم الصلاحية، وإن كان في نفسه صالحًأ أو ما يخيل الصلاحية، وإن كان في نفسه غير صالح، أو ما لا يتعين في أحد الوجهين، ويتفرَّع هنا بحسب ذلك أربع مسائل:

الأولى: إقامة الظرف إذا كان غير متصرف، أما إذا كان متصرفًا فلا إشكال في إقامته لقبوله أحكام الفاعل، فتقول: في: قام زيد يوم الجمعة: قِيم يومُ الجمعة، فتجعله مَقُومًا فيه مجازًا، وكذلك ظرف المكان إذا قلت: جُلِسَ مكانُك، وما أشبه ذلك من الظروف المختصة المتصرفة، وأما إذا كان غير متصرف فالجمهور على منع إقامته، لأنه لا يصلح أن ينوب عن الفاعل في الرفع، ولا في جعله مخبرًا عنه، ولو على المجاز، فلا يصح أن يقام كما لا يقام الحال وغيره، ونقل عن الأخفش إجازة إقامة الظرف غير المتصرف، فتقول: أُقِيم عنك، وجُلِسَ ثَمَّ، وكذلك سائر الظروف غير المتصرفة نحو: سحر، وسحيرًا، وضحى، وضَحْوَه، وعشاء وعشيّة، وعَتَمة؛ لأوقات بأعيانها، وكأنه لا يشترط

ص: 36

وجود الرفع في النائب، فهو قابل للإقامة؛ لأنه ظرف، والظروف لا تنفك عن تقدير معنى (في) ، فمن حيث جاز إقامتها إذا كانت متصرفة جاز إقامتُها وإن كانت غير متصرفة.

ثم ينظر بَعْدُ في رأي الناظم هنا ما هو؛ لأنه إنما شَرَطَ القابليّة، فيحتمل إطلاقه المذهبين؛ لأن غير المتصرف قابلٌ للنيابة عند الأخفش، وقد ضعَّف مذهب الأخفش ابن مالك في شرح التسهيل، والظاهر هنا أنه غير قائل بمذهبه، لأنه قال أولًا (ينوب مفعول به عن فاعل فيما له) ومن جملة ماله الرفع، ثم قال هما: وقابلٍ من ظرف أو كذا ينوب، فظاهره قبول ما قبله المفعول به من الرفع، فيكون على مذهب الجماعة.

والثانية: إقامة الجار والمجرور، فرأي الجمهور جواز إقامته، ومنع من ذلك السهيليّ، وتلميذه الرُنْدِيّ بدليلين:

أحدهما: امتناع جعله مبتدأ عند تقدمه على الفعل.

والثاني: امتناع لحاق علامة التأنيث للفعل إذا كان المجرور مؤنثًا، كقولك: ذُهِبَ بهند لزومًا، وفي امتناع ذلك دليلٌ على أن المقام مذكّرٌ، ولامذكر في الموضع إلا أن يقَدَّر ضمير المصدر المدلول عليه بالفعل، فأمّا الأول فردًّه ابن عصفور بأنَّ هذا المجرور إنما امتنع جعله مبتدأ عند تقدمه لفوات شرطه، وهو التعرية من العوامل اللفظية، وقال

ص: 37

غيرُه/ إذا وقع المجرور أولًا لم يكن للباء هناك معنى حين لم يكن لها متعلّق، وإذا وقع بعد الفعل أمكن أن يكون لها معنى حين أمكن أن يكون لها متعلّق كما في {كفَى بالله} فالباء داخلةٌ على الفاعل، ولا يقال: بالله كفى شهيدًا، ولا يعترضُ بقولهم: بحَسْبِك زيدٌ؛ إذ لا يقاسُ عليه.

وأما الثاني: فلم تلحقِ العلامة اعتبارًا بالصورة اللفظية؛ لأنه بصورة الفضلة وإن كان عمدة، والفضلة مستغنى عنها فلا تلحق الفعل لأجلها كما تلحق لأجل العمدة، والدليل على اعتبار الصورة اللفظية حذفهم فاعل أفْعِل في التعجب ونصبهم إيّاه إذا سقط الجار نحو قوله تعالى:{اسْمِع بِهِمْ وأبْصِر} وقال الشاعر:

*وأجْدِر مثلَ ذلك أن يكونا*

على رأي طائفة، وأيضًا فقد قالوا: كفى بهندٍ فاضلةً، ولا تقول: كَفَتْ، وتقول في الوجه المشهور: ما جاءني من امرأةٍ فلا تؤنث الفعل، فكذلك قالوا:

ص: 38

ذُهِبَ بهند، لأنّ المجرور في بناء الفاعل في موضع نصب على المفعوليّة إلا أنّ الفعلَ لم يصل إليه بواسطة حرف الجر، فكأنه مفعول به صحيحٌ، فإذا حُذِفَ الفاعلُ أقيم ما هو في موضع المفعول به، ثم يراعى لفظه فلا يرفع بالفعل وثمَّ طالبٌ بالجر لفظًا لكن يبقى كما يبقى في: بحسْك زيدٌ، ومالي في الدار من أحدٍ، وكفى بالله، وما قام من أحدٍ. فليس (زيدٌ) في: مُرّ بزيد إلا مفعولًا به في المعنى فساغ إقامتُه مقامَ الفاعل، وقد ظهر من هذا أن المجرور صالحٌ للنيابة، وقابل لها، وقد نصّ عليه عينه، فمعنى القابليّة عنده فيه أن يكون في موضع رفع كما كان ذلك في: كفى الله، وما قام من أحدٍ، ولا يلزم تأنيثُ الفعل إن كان مؤنثًا، وإن جاء منه سماع وُقِفَ على محلة كقراءة مجاهد {إن تُعْفَ عن طائفةٍ منكم} الآية، قال ابن جني: حمله على المعنى كأنه قال: إن تُسامَح طائفةٌ، وآنس بذلك قوله:{تُعَذِّب طائفةٌ} .

والثالثة: إقامة المجرور إذا كان مفعولًا له، نحو: ذُهِب بزيد للرضى به، وسِيْرَ به من مخافة عدوانه، وما أشبه ذلك، فالجامعة على جواز ذلك، ومنع من ذلك ابن جني فيما كَتَبَ على الحماسة، حيث قال في قول الحزين الليثي:

يُغْضِي حياء ويُغْضى من مهابته

فلا يُكَلَّمُ إلَاّ حين يَبْتَسِمُ

: ويُغْضى الإغضاء من مهابته لا بُدَّ من ذلك، ودَلَّ الفعل على مصدره، قال:

ص: 39

ولا يجوز أن يسند الفعل هنا إلى قوله: من مهابته، لاستحالته إقامة المفعول له مُقامَ الفاعل، وليس هذا المجرور هنا بمنزلته في: سِيرَ بزيد؛ لأنّ زيدًا هناك مفعول به في المعنىز قال ابن الحاجّ: ((وهذا خطأ بل كل مجرور يُقامَ مُقامَ الفاعل كائنًا ما كان)) ، وقال• (وقولي: كائنًا ما كان شيء لا يُحتاج إليه، لأنه لا يُقام إلّا من حيث هو مجرور لا من حيث هو في معنى شيء آخر)). قال: و ((السبب المانع لإقامة المفعول له ليس موجودًا في المجرور، فأقول: إنه يجوز: ذُهب مع فلان، وامتلئ من الماء/ وأُغضي من مهابة زيد، وسِير في حال كذا، قال: ولا ينبغي أن يعتقد امتناع إقامة هذه المجرورات وإقامة المصدر؛ فالمانع من ذلك إنما هو شيء آخر في المنصوب من التمييز، والحال، والمفعول له، ومعه، فأما مجرورات هذه الأشياء فلا مانع يمنع من إقامتها، هذا ما قال، وظاهرٌ إنّ الناظم هنا قائلٌ بمذهب الناس؛ لأنّ القابلية موجودة في هذه المجرورات كما أنّها موجودة في: مُرّ بزيد، وسِير بعمرو، ونحو ذلك.

والرابعة: إقامة صمير المصدر أو غيره، فإذا كان ثَمًّ ما يدل عليه فلا إشكال في جوازه، كقولك: القيامُ قِيم، ويومُ الجمعة سِير، ومكانُك جُلِس. وأمّا إذا لم يكن ثمَّ ما يدلُّ عليه إلا الفعل فقد تقدّم في المصدر ما يغني. وضميرُ الزمان والمكان يجري ذلك المجرى، فقد أجاز ابن السرّاج إقامة ضمير المكان المفهوم من الكلام في نحو: سِيرَ بزيد، وألزِمَ إجازةَ ذلك في ضمير الزمان. ونقل ابنُ السيد عن الكسائي وهشام أن تقولَ: جُلِسَ، وفيه ضمير مجهولٌ. قال ثعلب: أرادا

ص: 40

أنَّ فيه ضميرَ المصدر أو أحد الظرفين فالتَبَسَ في الثلاثة فقيل فيه مجهول. حكاه ابن كيسان عن ثعلب، وكان الفراء يزعم أنّه لا ضمير فيه، وكذلك قال في: ضُرِب ضرْبًا، وفي: قُعِد قعودًا واحتجّوا في جواز ذلك بأن ملكًا لو عَهِدَ بأنّ لا يُجلسَ ولا يضحكَ لصحَّ ذلك. وهذا ما نقله ابن السيّد في إصلاح الخلل، وخلاف من خالف ينبغي أنْ يُحْمَل على موضع يكون فيه الإضمار مفيدًا، فأمَّا إن كان غيرُ مفيدِ فغيرُ جائزٍ على الإطلاق حسب ما تقدّم في الوجه الأول من وجهي القابليّة وهو الذي ينبغي أن يُحملَ عليه كلام الزجاجيّ في إقامة ضمير المصدر. وإذا ثبت هذا احتَمَلَ كلامُ الناظم أن يكون على رأي من أجاز إقامة هذه الأشياء بناءً على حصول الفائدة معها، وأنها ضمائر ما تصح إقامتُه وذلك المصدر والظرف ويُونِس بذا قوله تعالى:{وحيْلَ بينَهم وبينَ ما يشْتَهُون} إذ التقدير: وحييل هو، أي الحول بينهم، ويحتمل أن يكون رأيُه موافقًا لرأيه في التسهيل مِن مَنْعِه هذا كلَّه بناءً على أنه لا يحصل فائدة، فليس بقائلٍ من الوجه الأول ويتأوَّلُ الآية، أو بناءً على ندور السماع فيه.

ص: 41

وقوله: (بنيابة) متعلقٌ بِحَرٍ، أي: حَرٍ بالنيابة مناب الفاعل. وهنا حصل في نيابة المصدر والظرف والمجرور شرطٌ آخر، وهو ألّا يَحْضُرَ المفعول به فشرع في ذكره فقال:((ولا ينوب بعض هذي)) إلى آخره، يعني أنّ واحدًا من هذه الأشياء الثلاثة لا تصحُّ نيابته عن الفاعل عند حضور المفعول به ملفوظًا، فلا تقول في: أغنيتُ زيدًا عن السؤال: أُغنِيَ عن السؤال زيدًا. ولا في: ضَرَبتُ مكانكَ زيدًا: ضُرِبَ مكانُك زيدًا ولا في: ضربت زيدًا ضربًا شديدًا: ضُربَ ضربٌ شديدٌ زيدًا، ولا ما أشبه ذلك؛ لأنّ غير المفعول به إنما يُقام بعد أنْ يُقَدَّر مفعولًا به مجازًا، فإذا وُجِد المفعول به حقيقة لم يُقَدَّم عليه؛ لأنّه من تقديم الفرع على الأصل لغير موجب وأيضًا المشبه لا يقوى قوة المشبه به، فإذا اجتمعا/ لم يصحّ تقديمُ الأضعف على الأقوى، فلم يَسُغ إقامة غير المفعول به مع وجوده، وأيضًا السماع كذلك ولم يأتِ على خلافه إلا قليلًا، وقد نبّه عليه.

وهذا مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى جواز إقامة غير المفعول به مع وجوده قياسًا، وأجاز ذلك الأخفش من البصريين حكاه عنه ابن جني، وغيره. وقيّد بعضهم إجازة الأخفش لذلك بأن يكون المفعول به متأخرًأ في اللفظ عن المُقام نحو: ضُرِبَ الضربُ الشديدُ زيدًا، فإن قلت: ضُرِبَ زيدًا

ص: 42

الضربُ الشديدُ لم يجز عنده. فهذه ثلالثة أقوال ارتضى الناظم منها الأول؛ لأنّ السماع عليه، والقياس يقتضيه، على أنه ارتضى مذهب الكوفيين في التسهيل؛ اعتبارًا بما ورد من ذلك، ولم يره ههنا لكن لم يهمل ذكر ما جاء من السماع من مخالفة مذهبه هنا بل أشار إليه بقوله:((وقد يَرِد)) وبيّن أنّه عنده من قبيل ما لا يقاسُ عليه، وذلك قوله:((وقد يَرِد))؛ إذ لا يُقال فيما ثبت فيه القياس واستمرّ: ((قد يرد)) وإنّما يقال ذلك فيما شأنه الوقف على النقل لاسيما وقد تقدّم القياس بنفي إقامة غير المفعول به مع وجوده، ثم أتى بما يناقضه فلو كان قياسًا عنده أيضًا لكان متناقضًا إلّا أنْ يقالَ: إن ما سواه سماع، أو يقال بجواز الأمرين ابتداءً. ومن السماع الوارد في ذلك قراءة أبي جعفر {ليُجزَى قومًا بما كانوا يكسبون} وقراءة أبي بكر عن عاصم {وكذلك نُجِّي المؤمنين} ، وأنشد عامة النحويين:

ولو وَلَدَتْ فَقِيرةُ جروَ كَلْبٍ

لسُبَّ بذلك الجروِ الكِلابَا

ص: 43

وأَنشَدَ المؤلفُ أبياتًا أُخَرْ منها: قولُ الراجز:

لم يُعْنَ بالعلياء إلّا سيِّدًا

ولا شفى ذا الغيّ إلا ذو هُدى

وقولُ الآخر:

وإنّمَا يُرْضِي المنيبُ رَبَّه

ما دام معْنِيًّا بذِكْرٍ قَلْبَهُ

وأًنشَد بيتًا آخر لم أقيده، ولأجل ما نقل من القراءة أتى بقد؛ لأنّ هذه عادته كما تقدَّم في مواضع.

وبعدُ ففي كلامه هنا نظران: أحدهما: أنّ المفعول المُحال عليه في قوله: ((إن وجِد مفعول به)) هل هو المفعول به الحقيقي خاصة أو المفعول به حقيقة أو اتساعًا فيشمل المصدر والظرف إذا نصبا نصب المفعول به، فيقول مثلًا: إنّ المجرور لا يُقام وثمّ مصدرٌ متسعٌ فيه أو ظرف متسعٌ فيه. هذا محل نَظَرٍ. والمسألة مختلفٌ فيها، فذهب بعضُهم إلى أنّه لا يجوز النصب في الظرف على السعة مع المجرور لمنع إقامته مع المفعول به حقيقة أو مجازًا، فإن المفعول به

ص: 44

مجازًا كالذي هو حقيقة في الحكم؛ ولذلك أُقِيم ابتدات$، وإذا كان كذلك فإقامة المجرور مع وجود الظرف المتّسَع فيه كإقامته مع وجود المفعول به. وهو رأي السيرافي. وأجاز ذلك بعضهم، وهو رأي ابن الباذش، إمّا لأنّ الظرف المتّسع فيه لا يبلغ أن يقوى قوةَ المفعول به حقيقة؛ إذ هو ظرف حقيقة فلا يجري عليه حكم المفعول به من كل وجه، وإمّا لأنّ المجرورَ لم يُقَم إلا بعد أن عُومل معاملة المفعول به حقيقة في عدم اعتبار الجار، ألَا تراهم أجروه مُجرى: كفى بالله، وما جاءني من رجلٍ، فكأن الباءَ في: مُرَّ بزيدٍ زائدة، وإذا كان كذلك فقد قَرُبَ المجرور بالإقامة من المفعول به حقيقة كما قَرُبَ منه الظرف. والمسألة نظرية. والمصدر جارٍ في هذا الخلاف مجرى الظرف، وكلام/ الناظم أظهر في أنّه أراد المفعول به حقيقةً، فيجيء من ذلك ماقاله ابن الباذش من الجواز، وقد تقدّم وجهه.

والثاني من النظرين: أنّه لما قدّم أنّ المفعول به إذا وجد لم يقم سواه إلّا بشرط ألّا يحضر دلّ على أنّ ما عدا المفعول به ممّا ذَكَرَ إذا حضر فلا مانع من إقامة غيره، فالمصدر ، والظرف، والمجرور إذا اجتمعت هي أو بعضها لم تمنع إقامة واحد منها مع وجود البواقي، بل يجوز ذلك كما يجوز إذا اجتمعت المفعولات أن يُقام بعضُها وإن حضر البعض، فتقول في قولك: سرت بزيد يومين فرسخين: سِيرَ بزيد يومان فرسخين على إقامة اليومين، وسِيرَ بزيد يومين فرسخان، على إقامة

ص: 45

الفرسخين، وسير بزيد يومين فرسخين، على إقامة المجرور، وكذلك تقول: سِيرَ بزيد سيرًا شديدًا، على إقامة المجرور، و: سير بزيد سيرٌ شديدٌ على إقامة المصدر. وتعرِضُ مع اجتماع بعض هذه مع المفعول به مسائلُ يضعها النحويون في كتبهم تدريبًا للطالب، ويلقيها المقرئون في مجالسهم كذلك، وقد وضع منها سيبويه مسائل كثيرة في بابين، وتبعه الناس، وربّما يصعب تصورها على الناشئ قبل تمكنه فهذا الموضع جديرٌ بأن نذكر منها مسألة اشتهرت بين الناس، وهي مسألة أبي القاسم في الجمل: أُعطيَ بالمعطى به ديناران ثلاثون دينارًا، فقد صوَّر الناس فيها نيفًا وستين مسألة، وبعضهم نيفًا وتسعين، وصوّرفيها شيخنا الأستاذ أبو عبدالله بن الفخّار-رحم الله عليه- ما يَقرُبُ من مائة وثمانين مسألة من غير استقصاء لما يتصوّر فيها، بل إنّما ذكر ما يشتهر في اللسان وعند النحويين، وأفرد ذلك في مسألة خارجة عن شرحه للجمل وحدثنا فيها حكاية قال: كنت أسمعُ بسبتَة زمان قراءتي بها أن الشيخ أبا الحسن بن الحصار كان إذا وصل الطلبة بقراءة الجمل عليه إلى مسألة: أُعطِي المُعطِي حضّهم على القراءة على غيره من النحاة، فقيل له في ذلك فقال لما وصلت إلى هذه المسألة على شيخنا فلان، وصوّر لي ما قرُب من وجوهها لم يُفتح لي في تصورها، ولم أطمع في ذلك فذهبت هاربًا، ثم ندمت، قال: ولم يكن ابن الحصّار ممن بقيت عليه هذه المسألة غير مفهومة؛ لأنه كان إمامَ نحْوييّ زمانه، ولكنه استعمل أدب المتقدمين في

ص: 46

الاقتصار على إقراء ما قرأوه على الشيوخ. فلنذكر أصل مسألة أبي القاسم وهي متفرعة إلى أربع مسائل: الأولى: أعْطِي بالمعطى دينارين ثلاثون دينارًا، فأَعْطِي هنا له مفعول واحد، وهو الثلاثون، ومجرور وهو بالمعطى، فيجب على ما ارتضى الناظم أن يقامَ الثلاثون فيرفع. وأما المُعطى فله مفعولان: أحدهما الضمير المستتر فيه، وهو العائد على ال، والآخر الديناران، فلك إقامة أيها شئت، فإن أقمت الأول قلتَ: أعْطِيَ بالمُعْطَى دينارين ثلاثون دينارًا، وإن أقمت الثاني قلت: أعْطِيَ بالمُعطاهُ ديناران وثلاثون دينارًا، فتظهر الضميرَ؛ لأنّه ضمير نصب، وإن شئت حذفته فقلت: أعْطِي بالمُعطَى ديناران ثلاثون دينارًا.

والثانية: أُعْطِي المُعطى به ديناران ثلاثين دينارًا، فأُعْطِيَ له مفعولان: المُعطى، والثلاثون، فلك أن تُقيمَ أيّهما شئت، والمعطى له مفعول واحد، وهو الديناران، ومجرور وهو (به) ، فليس لك فيه إلّا إقامة المفعول، فتقول: أَعْطي المُعطى به ديناران ثلاثون دينارًا، على إقامة المُعطَى لأُعْطِيَ، وتقول: أَعطِيَ المُعطَى به ديناران ثلاثون دينارًا، على إقامة الثلاثين، إذ قد حكى الناظم جواز إقامة الثاني في باب كسا بعد هذا/.

والثالثة: أُعْطِيَ بالمُعطى به ديناران ثلاثون دينارًا، فأُعْطِيَ له مفعول، وهو الثلاثون، ومجرور وهو بالمعطَى. والمُعطى أيضًا له مفعول، وهو الديناران، ومجرور وهو (به) ، فلا يجوز هنا على ما ارتضاه إلا وجهٌ واحد، فتقول: أَعْطَى بالمُعْطى به ديناران ثلاثون دينارًا.

والرابعة: أَعْطِيَ المُعْطى دينارين ثلاثين دينارًا، ههنا أربعة أوجه:

أحدهما: إقامة الأول لكلّ واحد منهما، وهو المُعطى لأعطى، والضمير

ص: 47

للمُعطى، فتقول: أُعطِي المُعطى دينارين ثلاثين دينارًا.

والثاني: إقامة الثاني لكل واحد منهما فتقول: أَعطِي المعطاه ديناران ثلاثون دينارًا، إن شئت حذفت الضمير، فقلت: أعْطِي المُعطى ديناران ثلاثون دينارًا.

والثالث: إقامة الأول للأول، والثاني للثاني، فتقول: أَعْطِي المعطى أو المعطاهُ ديناران ثلاثين دينارًا.

والرابع: إقامة الأول بالثاني، والثاني بالأول، فتقول: أَعْطِي المُعطى دينارين ثلاثون دينارًا، ويكفي هذا القدر. وإذا أردت فتح باب التفريع فرّعت على ذلك التثنية والجمع والتأنيث على اللغة المشهورة، وعلى لغة ((يتعاقبون فيكم ملائِكة)) ، وذلك على مذهب من منعَ إقامة غير المفعول به مع وجوده، وعلى مذهب من أجاز إمّا مطلقًا، وإمّا على قلة، وعلى ما تحمله الباء من المعاني، فعلى هذه المعاني فرّع شيخنا- رحمة الله عليه- وترَكَ التفريع على إضمار المصدر في الفعل مُقامًا مُقامَ الفاعل، أو الزمان، أو المكان، فلم يُفرّع على ذلك لتشعب المسائل وانتشارها.

فإن قيل: هذان المزدوجان المفروغ من شرحهما فيهما سؤالان الآن: أحدهما: أنّهما حَشوق بغير فائدة؛ لأنّه قد شرط في إقامة ما سوى المفعول به أن

ص: 48

يكون قابلًا للإقامة، ومن جملة ما يُعتبرُ في القابليّة ألّا يحضرَ المفعول به، فإنّه إن حضر لم تقبْل تلك الأشياء الإقامة فقوله:((وقابلٍ من ظرف)) إلى آخره كافٍ في التنبيه على ما يحتاج إليه هذا الكلام إنّما أفاد أنّها غير قابلة للنيابة مع حضور المفعول به، فكان تكرارًا.

والثاني: أنّا سلّمنا أنّه أفاد فقوله: ((في اللفظ)) زيادة لا فائدة فيها، إذ لو قال:((ولاينوب بعض هذي إن وجد مفعول به)) لكان مفهمًا للمقصود غيرَ مُخلٍّ بشيء من الأحكام فكان ذكره فضلًا.

فالجواب عن الأول من وجهين أحدهما: أنّ القابليّة لا تتناول الشرطَ المذكور لأنّ حقيقتها أن يكون النائب يقبل أحكامَ الفاعليّة من كونه يُرفع ويحدّث عنه كما تقدّم، وأمّا كونه لا يُحدّث عنه أو لا يرفع مع وجوده غيره، فذلك أمر طارئ، خارجٌ عن ذلك، فكون الظرف مثلًا متصرفًا قابليّة فيه للنيابة، وكذلك كونه مفيدًا الإخبار عنه قابليّة يصلح بها للنيابة على الجملة، وكونه غيرَ متصرف، أو غير مفيد عدمُ قابليّة لها، واشتراط غيبة المفعول به خارج عن تلك القابلية، ألا ترى أنه يصح الإخبار عن الظرف أو/ المصدر مع حضور المفعول به في نحو:{ليُجزى قومًا} و {نُجِّي المؤمنين} وما أشبه ذلك، وإذا كان كذلك فالقابليّة راجعةٌ إلى اعتبار النائب في نفسه، واشتراط عدم حضور المفعول به راجعٌ إلى حكم عارض بعد ثبوت القابليّة.

والثاني: أنّا إذا سلّمنا أنّ القابليّة تتناول شرطَ فقْد المفعول، ففي البيت فائدتان، إحداهما: أنّه قصد إلى التصريح بهذا الشرط والإعلام به تنكيتًا على خلاف من خالف في المسألة، وأنّه لم يرتض مذهب الكوفيين؛ إذ لو لم

ص: 49

يذكر ذلك لم يظهر ولم يُفهم قصد التنكيت. وقد مر له مثل هذا في باب كان في قوله: ((كذاك سبق خبر ما النافية .. )) إلى آخره، وقد تقدم ثمّة بيانُ قصده فكذلك ههنا، فلا يعدُّ حشوًا. والثانية: أنّ ذكر ما ذكر لابد منه؛ لأنّه وإنْ قصد في القابليّة دخول هذا الشرط فليس بمفهوم منه فهمًا صريحًا، فلو ترك النصّ عليه لأمكن الاعتراض عليه بسقوطه، فأزاح هذا الشغب بذكره، وأيضًا فإنّ الإشارة إلى السماع المخالف لما أصَّل، وهو الذي اعتمده المخالف وهو آتٍ في التنزيل. نُقِلت القراءة به في السبع على أظهر الوجوه فيه، وفي غير السبع مما ثبت سندُه، ومن عادته الاعتماد على مثل هذا، وإن لم يعتمده هنا فلا أقلّ من التنبيه عليه، وإذا كان كذلك فذكره الشرط توطئة لذكر السماع.

والجواب عن السؤال الثاني: أنّ في قوله: ((في اللفظ)) مُحرز لمعنى، وذلك أنّ وجود المفعول به مع الفعل قد يكون في اللفظ والمعنى، وقد يكون في المعنى خاصة من حيث كانت مادة الفعل تطلب مفعولًا على الجملة، فضربَ فعل له مفعول يطلبه من جهة معناه، وكذلك أكلَ، وشربَ، وكسا، وأعطَى، وعلِمَ وجهلَ، وسائر ما يطلب مفعولًا به، فهو موجود مع فعله على الجملة، فإن ذُكر تعيّن، وإن لم يذكر فقد عيّنه معنى الفعل من حيث الجملة، وكونه موجودًا في محصول الحكم المعنوي لا في اللفظ لا يمنع إقامة شيء مما ذكر، بل لابد من إقامة ما تعلق بالفعل من ظرف أو مجرور أو غيره، فإذا قلت: ضربْتُ مكانك فقد وُجدَ المفعول به في محصول الحكم لأن ضَرَبَ يطلبه، ولم يوجد في اللفظ، فإذا بُنيَ الفعل للمفعول اُقيمَ الظرفُ مُقام الفاعل؛ إذ ليس في اللفظ ما يُقام سواه، فقلت: ضُربَ مكانُك، ولا يصح أن يقام المفعول به؛ لأنّه غير مذكور. فإلى هذا القصد نحا الناظم، فتحرّز، وهو موضع تحرُّز. ولا يقال: مثلُ هذا لا يتحرّز منه النحوي،

ص: 50

لأنّ كون المفعول موجودًا في محصول الحكم أو غير موجود لا يتعرّض إليه النحويّ؛ وإنمّا كلامُه في الألفاظ فإذا قال: إذا لم يوجد المفعول به، فمعناه في اللفظ. وموانع الوجود ليس من شأنه النظر فيها؛ فما اعتذرت به لا عذر فيه؛ لأنّا نقول: لم يتكلّم هنا في المفعول من حيث الواقع، بل من حيث طلبه الفعلُ بمادته ولم يُذكر كما قيل في: ضُرِبَ ونحوه، فإنّه فعل متعدٍّ إلى مفعول بأصل وضعه يطلبه لينصبه، فإذا لم بم يُذكر في اللفظ فهو موجود من حيث طلبه له، وهو محصول الحكم. فعلى عذا يصح التحرُز منه على التزام طريقة الألفاظ، وعدم التعرّض لموانع الوجود، ألا ترى أنّك تقول في: ضَرَبَ: أنه متعدّ إلى مفعول/، وإن لم يظهر المفعول في اللفظ فتدبّره فإنّ فيه غموضًا. وأغراض ابن مالك في نظمه هذا لا تبعد على أمثاله. والله أعلم.

وباتفاقٍ قد ينوبُ الثانِ من

باب كسا فيما التباسُه أمِن

في باب ظنّ وأرى المنعُ اشتهر

ولا أرى منعًا إذا القصدُ ظهر

تكلّم أولًا فيما إذا لم يكن للفعل إلا مفعولٌ واحد، ثم عطف بذكر المفعولين أو أكثر إذا اجتمعت أيّهما يُقام؟ فذكر ثلاثة أبواب:

أحدهما: بابُ كسا، وهو باب المفعولين اللذين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، ولا أصل أحدهما حرف الجر.

والثاني: بابُ علِم. وهو باب المفعولين اللذين أصلهما المبتدأ والخبر.

والثالث: بابُ أرى، وهو باب ما يتعدّى إلى ثلاثة.

وتركَ ذكرَ بابٍ رابعٍ وهو باب المفعولين اللذين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، وأصل أحدهما حرفث الجر، وهو باب أمر، وكان من حقّه أنْ

ص: 51

يبيّن حكمه لاسيّما وفيه من الإشكال ما ليس في غيره؛ لأنّه إذا كان أصل أحد المفعولين حرف الجر فكانّه مجرور، وإذا كان كذلك فهل يُعامل معاملة باب كسا اعتبارًا بفقد الجار أم يُعامل معاملة الأصل فلا يُقام إلا الذي ليس أصله حرف الجر؟ . في ذلك نظرٌ يفتقر إلى بيانه، وهو لم يعرّج عليه، وقد نصّوا على التزام إقامة الذي ليس أصله حرف الجر، فتقول: أُمِر زيدٌ الخيرَ، ولا يقال: أُمِرَ الخيرُ زيدًا، قال بعضهم: إلّا على القلب، والقلب قليل التصرف في الكلام. أمّا باب كسا، فنقَل اتفاق النحويين على إجازة إقامة المفعول الثاني فيه، لكنه قليل ومرجوح بالنسبة إلى إقامة الأول دلّ على ذلك من كلامه:((قد ينوب الثان)) ، وكذا قال النحويون: إنّ إقامة الأول أولى، فتقول إن شئت: كُسيَ ثوبٌ زيدًا، وأعطي الدرهمُ زيدًا، ومُلِّك الثوبُ زيدًا، وما أشبه ذلك. أمّا إقامة الأول فلا كلام في جوازها في كل باب وخصوصًا في باب كسا إذ هو فاعل في المعنى، فتقول: أُعطِي زيدٌ درهمًا، وكثسِي زيدٌ ثوبًا، ومُلِّكَ زيدٌ الثوبَ.

فإن قلت: من أين يُعلم إقامة الأول، وما الدليل من كلامه على جوازها.

فالجواب: أنّه لما قدّم أن المفعول على الجملة ينوب عن الفاعل كان هذا أصلًا يُرْجَعُ إليه حتى ينسخه بغيره، ولم ينسخه بالنسبة إلى المفعول الأول، فبقي على أصل الجواز وإنّما رجحت إقامة الأول في باب كسا؛ لأنه فاعل

ص: 52

في المعنى، فكان أقربَ إلى الإقامة من غيره. ثمّ قيّد جواز إقامة الثاني بأَمْنِ اللّبس فقال:((فيما التباسه أُمِن)) يعني أنّه ينوبُ في الكلام الذي أُمن فيه الالتباس، فالمجرور متعلّق بينوب، فإذا أمن اللبس أقيم أحدُهما، أيّ مفعول كام. وإذا عُلشم الأول من الثاني نحو: كُسِيَ ثوبٌ زيدًا، وأُعْطِيَ الدرهمُ زيدًا. وإذا خيفَ اللبسُ لم يُقَم إلا الأولُ، فتقول: في أعطيتُ زيدًا عمرًا، -وعمرو عبدٌ مأخوذ-: أعطِي زيدٌ عمرًا، ولا يجوز أن تقول: أُعطِي عمروٌ زيدُا؛ لأنه لا يتبين أنّ زيدًا هو الآخذ وأنّ عمرًا هو المأخوذ، بخلاف قولك: أُعطِيَ درهمٌ زيدًا، فإنّ الدرهم معلوم/ أنّه المأخوذ وأنّ زيدًا هو الآخذ. وظاهر هذا أنّك لا تُقيم الثاني مع اللّبس وإن التزمت الرُتبَة بأن تقول: أُعطِي زيدًا عمروٌ، إذ منع مطلقًا، كما أطلق الجمهور المنع أيضًا، وهو مما ينبغي أن يُبحث عنه في باب علم وأرى على رأي الناظم فقد قال بعض المتأخرين: ينبغي أن ينظر هل يستظهر على اللّبس بحفظ الرُتبة كما قد عُمل ذلك في التباس الفاعل بالمفعول، فيوضع المرفوع في رتبته من المفعولات حتى يتبيّن بموضعه أنه الأول أو الثاني أو الثال. وما قاله هذا المتأخر مفتقر إلى السماع؛ فإن القول بحفظ الرُتبة إذا التبس الفاعل والمفعول نحو: ضرب موسى عيسى لا يصح أن يبنى إلا على السماع، وإلّا كان وضعًا مستأنفًا فكذلك هنا. وحين أطلق الناس هنا المنع مع اللّبس، ولم يلتفتوا إلى اعتبار الرُتبة كما التفتوا إليها في الفاعل والمفعول، والمبتدأ والخبر دلّ على أنّه غير

ص: 53

ملتفت إليه عند العرب هنا. والله أعلم.

وأما باب علم وباب أرى فنقل الناظم عن الجمهور المنع من إقامة الثاني فيه بقوله: ((في باب ظنّ وأرى المنع اشتهر)) يعني أنّه اشتهر عند النحويين منعُ إقامة المفعول الثاني مطلقًا سواء أكان ثمّ لبْسٌ أم لا؟ وإنّما اشتهر عندهم المنع لما في إقامة الثاني من اللّبس في الأكثر، لأنك إذا قلت عُلِم صديقُك عدوَّ زيدٍ كان معناه أنّ المعروف بصداقتك عدوٌّ لزيد، فصداقتك مستغنية عن الإخبار بها، وعداوة زيد مفتقرة إلى الإخبار بها. فلو عكست فأقمت الثاني لا نعكس المفهوم، فإذا قلتَ: عُلِمَ عدوُّ زيدٍ صديقك صار المفهوم منه أنّ المعروف بعداوة زيدٍ صديق لك، وأنت لم ترد إلا المعنى الأول، فالتبس المعنيان. وهكذا كثير من مسائل الباب.

وكذلك باب أرى إذا قلتَ: أرأيتُ زيدًا عمرًا صديقك، لو قلت: أُرِيَ زيدٌ عمرًا صديقك، فزيد هو الرائي، وعمرو هو المرئي، فلو عكست النيابة لألتبس بعكس المعنى هذا وجه ما ذهب الجمهور إليه. قال المؤلف في الشرح: ((وإذا كان أمنُ اللّبس مسوغًا لجعل الفاعل مفعولًا والمفعول فاعلًا في كلام واحد نحو: خرق الثوبُ المسمارَ.

*بلغت سوآتهم هَجَرُ*

فجواز هذه المسائل أحَقُّ وأولى)) ، يعني مسائل أمن اللّبس كقولك: ظُنِنْتِ الشمسُ بازغةٌ، وظُنِنَتْ بازغةٌ الشمسَ، وعُلِم قمرُ الليلة بدرًا، وعُلِمَ بدرٌ قمرَ الليلة، واتُخِذَ مقامث إبراهيم موضعَ صلاة، واتثخِذ موضعُ صلاة مقامَ إبراهيم، وأُعْلِمَ زيدٌ كبشَك سمينًا، وأُعْلِمَ كبشُك سمينًا زيدًا. وما أشبه

ص: 54

ذلك. فهذه المسائل لا لبْس فيها، فلا ينبغي ان تمنع وهو معنى قوله:((ولا أرى منعًا إذا القصد ظهر)). يعني أن مدرك المنع إنما هو اللّبس فينبغي إذن أن يُقتصَر في المنع على موضع ولا يُعدَّى إلى ما ليس فيه لبس كما لم يعدّه الجميع في باب كسا، بل فرّقوا بين موضع اللبس فمنعوا وبين موضع أمن اللبس فلم يمنعوا. وسياق الناظم يشير إلى مدرك المنع عندهم إذ قدم الاتفاق في باب كسا على المنع مع اللّبس، وأن الجمهور مانعون أيضًا في باب علم وأرى. ثمّ قال/:((ولا أرى منعًأ إذا القصد ظهر)). فظهر من ذلك أنّ عمدتهم في المنع وقوع اللبس خاصة، وعليه نص في شرح التسهيل، وأنّ أكثر مسائل هذا الباب مّما يقعُ فيها اللبس قال:((ولذا منع الأكثرون نيابة الثاني مطلقًا)). وهذا فيه نظرٌ؛ فإنهم ذكروا للمنع أوجهًا أخر: أحدهما أن المفعول الثاني قد يكون جملة فعلية أو اسمية، أو ظرفًا، أو مجرورًا، نحو: ظننتُ زيدًا يقوم، وظننته أبوه قائم، وظننته عندك، وظننته في الدار، والثاني مع كونه أحد هذه الأشياء لا تصح إقامته؛ إذ لا تكون الجملة فاعلةً أبدًا حسب ما تقدم، فكذلك النائب. والظرف لا يُقام وهو باقٍ على نصب الظرفية متعلقٍ بكائن أو مستقر، وكذلك المجرور لا يُقام وعامله غير الفعل. وبهذا الوجه يَرِد على الناظم اعتراض إذ لم يستثن من إقامة الثاني هذه الأشياء كما استثناها في التسهيل، فاقتضى أنّها تُقام مُقامَ الفاعل، وذلك غير صحيح؛ إذ الجملة عنده لا تكون فاعلةً كما مرَّ، والظرف والمجرور عنده في معنى الجملة هنا لقوله قبل في باب الابتداء:((ناوين معنى كائن أو استقرّ)) فخيّر في الوجهين، وإذا لم تكن فاعلةً لم تُقمْ مُقامه. والثاني: أنّ المفعول الثاني يكون

ص: 55

نكرة كثيرًا فيؤدي إقامته إلى الإخبار بالمعرفة عن النكرة، وذلك مرفوضٌ إلّا في الشعر، أو في القليل، وهو محمولٌ عند جماعة على القلب إن سمع كقولهم: خرق الثوبُ المسمارَ. وقد نصّ على هذا المعنى سيبويه في: كان رجلٌ زيدًا، والبابان واحد.

والثالث: أنّ المفعول الثاني إذا كان مشتقًّا -وهو الغالب- فأُقِيم أدّى إلى أمرين محذورين: أحدهما: الإضمار قبل الذكر لفظًا ومرتبة؛ لأنّك إذا قلت: ظُنَّ قائمٌ زيدًا ففي قائم ضمير يعود على زيد، وزيد متأخر الرتبة؛ لأنّه غير مقام، وقائم متقدم الرُّتبة، لأنه في موضع الفاعل، ورتبة الفاعل التقدّم على المفعول فكذلك نائبه، فلا يصح أن يكون في الفاعل ولا نائبه ضمير يعود على المفعول إلا على حدّ قوله:

*جزر ربٌّه عَنِّي عَدِيَّ ين حاتم*

وهو نادرٌ فيؤدي ذلك إلى ألّا تصح إقامته.

والثاني: أنّه إذا كان مشتقًّا فحقه ألّأ يباشر العامل إلّأ على حذف الموصوف، وإقامة الصفة مُقَامَه، وذلك إذا كانت الصفة خاصة كما سيأتي،

ص: 56

مع أنه قليل، ووقوع المفعول الثاني صفة خاصة قليل. وإذا لم تكن خاصة- وهو الكثير- لم يصح إقامتها مُقام الموصوف، فلا تصحُّ إقامتها مُقام الفاعل. فهذه أوجه إذا اجتمعت في إقامة الثاني من باب ظنَّ، وهي جارية في الثالث من باب رأى، فصارت المسائل البريّة عن هذه القوادح نادرة الوقوع، ومتكلّفة في التمثيل، فعند ذلك قال الأكثرون بمنع إقامة الثاني مطلقًا. وهذا هو الفرق بين منعهم هنا مطلقًا، ومنعهم مع اللبس في باب كسا؛ لأنّ مسائل المنع هنالك قليلة على عكس الأمر هنا، فكيف يقول: إنّ المانع هو اللّبس خاصة؟ .

وقد يقال: إنّ المفعول إذا كان جملة أو ظرفًا أو مجرورًا فلا اعتراض به لأمرين: أحدهما: التزام أن يُقام مقام الفاعل ولا محذور في هذا/ فقد قال به جماعة منهم السيرافي، وابن النحاس، وزعموا أنّك تقول في: عرفت أيّهم في الدار: عُرِفَ أيّهم في الدار. وقال ابن الضائع: الصحيح عندي جواز: قد عُلِمَ أزيدٌ في الدار أم عمرو؟ ؛ لأنّ كلّ فعل يتعدّى المفعول فلا مانع أن يُرَدَّ ويبنى للمفعول، قال: وكذلك: قد قِيل زيدٌ منطلق، وهو موجود في كلام العرب كثيرًا، وفي القرآن. قال: ويُقَوِّي ذلك أنّه يجوز في المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله ما لا يجوز في الفاعل، ألا ترى قولهم: مُرَّ بزيد، فزيد في موضع رفع، ولا

ص: 57

يجوز في الفاعل إلّا حيث يكون الحرف زائدًا، وليس هنا بزائد، وإذا ثبت هذا لم يكن في القول بإقامة الجملة مُقام الفاعل خرقٌ لإجماعٍ، ولا مخالفة دليل.

والثاني: أنّا إذا لم نقل بجواز ذلك فهو مستثنى عن هذا الوضع. فقوله: ((ينوب مفعول به عن فاعل- فيما له)) يعني من الأحكام، ومن جملتها ألّا يكون جملة، ولا ما أشبهها. وإذا استثناه بقيَ الباقي على الحكم المذكور. وأمّا الوجه الثاني: فإذا كان المفعول الثاني نكرةً فلا محذور؛ لأنّ الإخبار هنا عن النكرة عارضٌ، وفي بنية عارضة، والمقصود الإخبار عن المعرفة. وإن كان على القلب فهو جائزٌ، وإن كان قليلًا، فذلك ليس بمانع جملة، أو نقول: إذا فُرِض الإخبار هنا بالمعرفة عن النكرة فإن أفاد ذلك جاز، وإلّا لم يجز، فالمسألة راجعة إلى باب الابتداء بالنكرة، وقد مَرَّ.

وأمّا لزوم الإضمار قبل الذكر، فله جوابان: أحدهما: أنّ ذلك عارض، والأصل تأخيره في بنية الفاعل، فلا محذور في تقديمه، بل هو في الحقيقة مثل قولك: ظُنَّ قائمًا زيدٌ، وضرب اباه زيدٌ. والثاني: إذا سلّمنا ذلك، فيلزم فيه تأخير المُقام، فتقول: ظُنَّ خالدًا قائمٌ كما يلزم تأخير العمدة في قولك: ضرب زيدًا أبوه. وقد نبّه على هذا المعنى بعض المتأخرين. وأمّا ولاية المشتق العامل فيجوز في مثل هذا لاسيّما على طريقة القلب كما يجوز: كان قائمٌ زيدًا على القلب، وإن كان ضعيفًا بل هو هنا أجوز، لأنه في بنية عارضة بخلاف باب كان فإنّ الإخبار به عن النكرة في بنية أصلية. فهذا مما يرجّح الجواز، ولا يكون على حذف الموصوف كما لا يكون كذلك في باب كان. وأمّا حمل الأقل على الأكثر في المنع فإذا سلمنا أم مسائل أمن اللبس قليلة- وليست كذلك-

ص: 58

فالأصل أن تُعطى كلّ مسألة حكم نفسها، ولا يُحْمَلُ ما ليس فيه موجبُ المنع على ما فيه الموجب في مسألتنا، بل يمنع ما فيه الموجب، ويجاز غيره.

فإن قلت: فهذا خلافُ القاعدة المعلومة عند أهل العربية، فإنّهم يحملون ما ليس فيه موجبٌ على ما فيه الموجب؛ بيجري الباب مجرى واحدًا، كمسألة: تَعِدُ وأعِدُ، ونَعِدث في حملها في الإعلال على يَعِدُ، وحملهم هما وهنّ وسواهما على هو و (نا) في البناء الذي موجبه شبه الحرف اللفظي، وحملهم حذامِ، وفجارِ على حذارِ عند جماعة، على مسائل لا تنحصر. فالجواب: أنّهم إنّما قالوا ذلك حين ألجأهم السماع إليه؛ ولذلك لا تجد مسائلهم التي يحتجّون بها على القاعدة إلّا على مقتضى ما استقرأوا من كلامهم لا على أمرٍ مقيس عُدِم فيه السماع.

فالقاعدة مبنيّة على التفسير بعد السماع/ كما قال سيبويه: ((قف حيث وقفوا ثمّ فسّر)). وإن رأيت أحدذأ منهم يُعْملُها في موضع فذلك اتبّاع للسماع عنده لا إجراء لمجرد القياس. فابن مالك لم يثبت عنده امتناع العرب من نحو: ظُنَّ سمينٌ كبْشَك، بإطلاق، فأجازه؛ لأنّ القياس يقبله فقال بجوازه، وممن قال بقول الناظم السيرافي في اللإقناع، وابن الأنباري، وابن طلحة، وجماعة من المتأخرين. وأمّا في باب أعلمت فقال بالجواز الجزولي، والشلويين في التوطئة، وتلميذه ابن الحاج في الرد على المقرّب ما لم يئد ذلك كلّه إلى اللّبس.

ص: 59

وفاته التنبيه على حكم الثالث في باب أرى وقد حكى ابنُه في شرح النظم الاتفاق على المنع من إقامته وأنّ الخلاف إنّما هو في الثاني، وما حكاه من الاتفاق ليس على إطلاقه؛ إذ قد ذكر بعض المتأخرين جواز إقامة الثالث لكن مع حذف الأول، وأجرى فيه الخلاف المذكور في الثاني، وأيضًا فقد أطلق أبوه في التسهيل الجواز أيضًا، فقال:((ولا يمتنع نيابة غير الأول من المفعولات مطلقًا)) إلى آخره. وألزم ابن الحاج من قال بإقامة الثاني في: ظننت، أن يقول به في أعلمت؛ إذ لا فرق بينهما إلّا من جهة ما يعرض من اللّبس مع الأول. وهو إلزامٌ صحيح؛ إذ لا فرق بينهما؛ فالثاني في ظننت هو الثالث في أعلمت، فالقائل بالجواز في ظننت في الثاين قائلٌ به- ولا بد- في أعلمت، فإنّ القائل بحكم في مسألة قائلٌ به في نظيرتها، إذا لم يظهر فرْق حسب ما تبيّن في أصول الفقه. ولو كان ما نَقَلَ من الاتفاق صحيحًا لم يسغ لأبيه، ولا لغيره القولُ بخلافه مع معرفتهم بمذاهب الناس وفاقًا وخلافًا. وإنّما لم يذكر الناظم حكم الثالث لأحد أمرين: إمّا لأنّه داخل له بالمعنى في حكم الثاني كما تقدم، وإمّا لأن المسألة محلُ نظر، ألا ترى أنّ بعض من أجاز إقامة الثاني في ظننتُ منع إقامة الثالث في: أعلمت، فترك للناظر في كتابه محلًا للنظر. والله أعلم.

وما سوى النائبِ ممّا عُلّقا

بالرافع النصبُ له محقّقًّا

يعني أنّ ما عدا النائب من هذه المفعولان فهو منصوبٌ، كما كان منصوبًأ في بنية الفاعل، فلا يجوز رفعه؛ لأنّ الفعل لا يطلب مرفوعين إلا بالتبعيّة، فإذا لا

ص: 60

يرفع إلّا واحدًا فيبقى ما سواه منصوبًا، فتقول: أُعطِيَ زيدٌ درهمًا، وعُلِمَ أخوكَ منطلقًا، وأُعْلِمَ أخوك زيدًا قائمًا. وهذا ظاهر. وقوله:((مما علّق بالرافع)) و ((ما)) فيه لغير النائب، و ((علّق بالرافع)) معناه: ألْزِمه، والرافع هو الفعل، ويقال: عَلِقْتُ بفلان وعُلّقتُه: أي أحببته، وعَلِق بقلبي أي لصِق به ولزمه، واراد بالتعليق العمل، فالمعلّق بالرافع هو معموله، فأراد أنّ ما عدا النائب من معمولات الفعل يلزم نصبه تحقيقًا/. والمعمولات هنا كلُّ ما عمل فيه الفعل مما تصحُّ نيابته عن الفاعل كان مفعولًا به، أو مصدرًا، او ظرفًا أو غيره، إلّا أن النصب تارةً يكون في اللفظ كالأمثلة المتقدّمة، وتارة يكون في الموضع كالمجرور، وضمير المفعول، والمصدر، والظرف، وغيرها، وفي قوله:((علّق بالرافع)) نصٌّ على أنّ فعل المفعول هو الناصب، أو هو ظاهر فيه، فإنّ الرافع هو فعل المفعول. وقد جعل ما عدا المُقام معلّقًا به أي معمولًا له، أو معلّقًا به معنى، فالفعل طالب له فهو العامل فيه؛ لأنّ اصل العمل الطلب. وهذا أحد المذهبين، وهو رأي المحققين، ويُنسَبُ إلى سيبويه. وقيل: إنّ الناصب له فعل الفاعل المحوّل إلى بنية المفعول. فالأصل نصب هذه الأشياء بفعل الفاعل، فلمّا حوِّل إلى بنية المفعول رفع واحدًا منها، وبقي ما عداه على نصبه الأول، والأول عندهم أصح؛ لأنه رفع المرفوع باتفاق فليكن هو الناصب، لأنّه الحاضر في اليد، وأصلُ العمل الطلَبُ، وهذا الحاضر هو الطالب، فهو الناصب إذًا، ولا فرق بين فعل المفعول وفعل الفاعل في ذلك. والخلاف في هذا لا ينبني عليه في العربية حكم إلّا حُسْنُ ترتيب الحكمة في الصناعة، وربطُ الاصطلاح، ولا شك أنّ ما ذهب إليه الناظم أقَلُّ تكلُّفًا. والله أعلم.

ص: 61