الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى الاشتغال أن يتقدم اسمٌ، ويتأخر عنه فعلٌ متصرف، أو جارٍ مجراه قد عَمِلَ في ضمير ذلك الاسم، أو في سببه، ولو لم يعمل فيه لعمل في الاسم الأول، أو في موضعه. هذا تعريف ابن عصفور، وهو تقريبيّ. وهذا المعنى على الجملة هو الذي أخذ الناظم في بيانه فقال:
إن مُضمَرُ اسمٍ سابقٍ فِعْلًا شَغَل
…
عنه بنَصْبِ لفظه أو المحَل
فالسابق انصبه بفعلٍ أضْمِرا
…
حتمًا موافقٍ لما قد أُظهرا
ومعنى كلامه على الجملة: أنه إن شغل مضمرٌ عائدٌ على اسم متقدّم أول الكلام فعلًا عن ذلك الاسم المتقدّم بنصب ذلك الضمير لفظًا أو محلًا فنصبُ السابق إن أردتَ نصبه أو أدى الحكمُ إليه بفعل مضمرٍ يفسره هذا الظاهر، وذلك الفعل المضمرُ لا يظهر أبدًا. هذا تلخيصه على الجملة. ولا بدّ من بيانه على التفصيل، فقوله:((إن مضمر اسم)) مضمرُ مرفوع على الفاعلية حتمًا بفعل موافق للفعل الظاهر وهو (شغل) أي: إن شغل مضمرُ اسم سابقٍ شغَل فعلًا، ومضمر الاسم السابق: يعني به المضمر العائد عليه، فأضافه إليه لتعلّقه به في التفسير، وأنّهما في المعنى شيءٌ واحد، وذلك مثل قولك: زيدًا ضربتُه فالاسم
السابق (زيد)، ومضمره الهاء في ضربته. و (فعلًا) منصوب بشَغَل الذي يليه والضمير الفاعل فيه عائدٌ على (مضمر) في قوله: إن مضمر اسم، و (عنه) متعلّق بشَغَل، والضمير المجرور عائدٌ على اسم، وتقديره: إن شغل/ المضمر الفعل عن الاسم السابق، وشغله عنه هو أن ينصبه أو محلّه ولذلك قال:((ينصب لفظه أو المحل)) ، ونصب اللفظ هنا معناه أن يطلبَه ضمير نصب، ولا يريد به أن يظهرَ فيه النصب لفظًا كزيد وعمرو؛ لأنّ ذلك متعذر في المضمرات، فإنما يريد أنّه لو كان عوَضَه ظاهر لظهر فيه النصب، فالإتيان بضمير النصب يُجزئ عنه، ونصب المحل هو أن يكون الضمير مجرورًا بحرف، والجار والمجرور معًا في موضع نصب، نحو: مررتُ بزيد فالضمير مجرور بالباء لفظًا لكن محله النصب؛ إذ معنى: مررت بزيد: جُزءتُ زيدًا، ولذلك يعطف عليه المنصوب، فتقول: مررت بزيد وعمرًا وينتصب إذا حذفَ الجار ضرورةً، نحو:
*تمرون الديارَ ولن تعوجوا*
وإنما قال: ((بنصب لفظه أو المحل)) فعيّن النصب؛ لأنّه لو اشتغل الفعل برفع لفظه لم ينتصب الأول السابق نجو: زيد قام، أو إنْ زيدٌ قام، وكذلك لو اشتغل برفع محل المضمر لم يصح نصب الأول، نحو: إنء زيدٌ مُرَّ به، وهو قد قال:((فالسابق انصبه)) فلم يتكلّم إلّا على النصب؛ فلذلك قال: ((بنصب لفظه أو المحّل)) ، ويتناول كلامه هنا نحو: زيدًا ضربتُه، وزيدًا مررت به، وخرج عنه نحو: زيدًا ضربتً أخاه. وزيدًا مررت بأخيه، وغير ذلك من فروض المسائل، وهي ك
ثيرة جدًا حتى يذكر ذلك بعد؛ لأنّه نبّه هنا على أصل الباب، وإذ كان وصولُ الفعل بنفسه أو بحرف جر أقرب في كونه معلّقًا به من وصوله إليه بواسطة، ثم عطَفَ على ما بقي عليه بعد ذلك في قوله:
وفَصلُ مَشْغُولٍ بحرفِ جَرِّ
…
أو بإضافةٍ كوَصْلِ يجري
كما أنّه تكلم هنا على مسائل الفعل، وترك حكم غير الفعل إلى آخر الباب فقال:
وسَوِّ في ذا الباب وصْفًا ذا عَمَل
…
بالفِعلِ إنْ لم يكُ مانعٌ حَصَل
لأنّ الفعل هو الأصل، وما عداه جارٍ مجراه. وقوله:((فالسابق انصبه)) هذا جواب (إنْ) في قوله: ((إن مضمر اسم سابقٍ)) إلى آخره، ويعني أنّ ذلك الاسم السابق ينصبُ على الجملة كان الفعل العامل ضميره نصبًا لفظيًا كما في نحو: زيدًا ضربته، أو في المحل، نحو: زيدًا مررتُ به، فإنّ نصبَ السابق هو الموجود الشائع في كلام العرب، وندَرَ مجيئه مجرورًا، وحكى الشلويين:{وللظالمينَ أعدَّ لهم عذابًا أليمًا} وهو من النُذور بحيث لا يَنْبَني على مثله قياسٌ. وقوله:
((انصبه)) لا يريد به أنّه يجب نصبه، بل يدخله النصب فقط، ويبقى النظر في جواز ذلك، أو وجوبه، أو امتناعه على حسب ما يفسّره بعدُ. وتفصيله بعد بيّن لنا هذا. وإلّا فلو قطعنا النظر عمّا يأتي لكان قوله:(انصبه) يقتضي الوجوب، وتفسير كلامه بكلامه هو الواجب.
وقوله: ((بفعلِ أُضمرا)) نصٌّ على اختياره لمذهب أهل البصرة الذين يقدّرون لهذا المنصوب فعلًا غير الملفوظ به؛ لأنّ الملفوظ به قد أخذ ما يحتاج إليه في اللفظ فلا يستقيم أن ينصب غيره؛ لأنّه قد اكتفى بالضمير فهو غير طالب لغيره، وأصل العمل الطلب، فلا يعمل في غيره، وإذا لم يعمل في غيره فلا بدّ لذلك الغير من عامل، وليس إلاّ فعلٌ مقدّر ويفسّره ذلك الظاهر. وذهب الكوفيون/ إلى أنّ الظاهر هو الناصب بنفسه لذلك الاسم السابق، وإن كان ناصبًا للضمير أيضًا، لأنّه هو الطالب له من جهة المعنى، وأصلُ العمل الطلب فينبغي أن يكون هو الناصب له كما كان ذلك في نحو: ضربتُ زيدًا أخاك، ولا ضررَ في كون الفعل ناصب لاسمين- وإن كان لا يطلب إلّا واحدًا- إذا كان الاسمان معًا واقعين على مسمى واحد. وهذا الاستدلال عند البصريين ضعيف؛ لأن الطلب المعنوي لا يستلزم العمل اللفظي باطلاق، وإلا وجب أن يكون
(الزيدان) من وقولك: الزيدان قاما مرفوعًا بقاما الفاعلية، فيكون رافعًا فاعلين. وهذا لا يقوله الكوفيون، ويلزم أيضًا ألّا يجوز رفعُ (زيدٍ) من قولك: زيدٌ ضربته؛ لأنّ الفعل يطلبه بالنصب على المفعوليّة. وهذا كلّه غيرُ صحيح، فإنّما يكون الطالب عاملًا في المطلوب إذا لم يستغن عنه في اللفظ، وأمّا إذا استغنى عنه برفع ضميره، أو نصبه، أو بغير ذلك فلا يلزم أن يعمل فيه بل لا يصحّ في مثل مسألتنا. وعند ذلك يظهر أنّ الفعل غيرُ طالب لهذا السابق، وإذا لم يطلبه فلا بدّ من عامل فيه وليس إلّا ما قدّره البصريون. وأيضًا فلا يستقيم أن يكون الظاهر عاملًا في السابق في نحو: زيدًا مررتُ به، ولازيدًا مررتُ بأخيه، ولا زيدًا ضربتُ أخاه، وما أشبه ذلك، لأن اللفظ أو المعنى يأبى ذلك. ولو كان كما قالوا لقلتَ: بزيدٍ مررتُ به، ولما استقام معنى قولِك: بزيد مررت بأخيه، أو زيدًا ضربت أخاه، إلى غير ذلك من المسائل التي يتعيّن فيها تقدير الفعل حتمًا، فالصواب ما ذهبوا إليه من تقدير العامل، وهو الذي رأى الناظم، وفيه أيضًا نصّ على أنّ هذا الإضمار لازمٌ، ولا بدّ من الفعل المقدّر ألبتة، ولا يكتفى بمعنى الفعل الظاهر عاملًا. وهذا رأي الجمهور. وذهب ابن الطراوة إلى الاكتفاء بمعنى الفعل، وأنّه العامل في السابق لا لفظه ولا فعل مقدّر. ورُدّ بأنّ النصب على المعنى من حيث هو معنى لا يصّح؛ لأنّ معنى الفعل مجردًا لا يعمل إلّا في الظروف، والمجرورات بخلاف المفعول الصحيح، فلا يستقيم أنْ يُدّعى ما لا يوجد في كلام العرب، وأيضًا فنحن هنا بين ثلاثة أمور: إمّا أنْ نقول: المفعول الصحيح يعمل فيه المعنى. وهذا لا نظير له. وإما أنْ نقولَ: إنّ
العاملَ في الضمير هو بنفسه العامل في الظاهر. وهو أيضًا معدومُ النظير. وأمّا أنء نقول: إنّ السابق أيضًا انتصب بإضمارِ فعل يفسّره هذا الظاهر من باب الإضمار على شريطة التفسير، وإن كان قليلًا، وعلى غير قياس فهو أولى؛ لأنّ الحمل على ماله نظير -وإن قلّ، وخرج عن القياس- أولى من الحمل على ما لا نظير له. قالوا فهذا الذي حمل النحويين على أن قالوا: إن السابق منصوب بفعل مضمر يفسّره ما بعده. والله أعلم.
وقوله: ((أُضمرا حتمًا)) يعني أنّ هذا الفعل لا يظهر أصلًا؛ لأنّه قد جعل المفسّر كأنه بدلٌ منه، ولا يجمع بين البدل والمبدل منه. وقد زعم بعضهم أنه يجوز إظهاره، والجمع بينه وبين ذلك المفسّر، فتقول: ضربتُ زيدًا ضربتُه. واستدلّ على ذلك بقول الله سبحانه في الحكاية عن يوسف عليه السلام: {إني رأيتُ أحدَ عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} فجمع بين رأيتهم لي/ ساجدين، وبين (رأيتُ) الأوّل.
وأجاب الناس بأنّ الآية ليست من هذا الباب؛ لأنّ (رأيتُ) الثاني في الآية إنّما جاء توكيدًا لرأيت الأوّل بعد ذكره، كما تقول: رأيت زيدًا، رأيت زيدًا، وأمّا رأيته في قولك: زيدًا رأيته فلم يُؤتَ به للتأكيد، بل هو الأصل في الكلام وتقدير (رأيت) الأول إنّما هو تقديرٌ صناعيٌّ بعد ثبوت الثاني وبنائه على التأسيس، فلو فرضنا ظهورَ الأول لم يَبْقَ هذا الثاني ملفوظًا به؛ إذ لم يقصد التأكيد. فهذا فرقُ ما بينهما، وهو بيّن إذا عُرفَ الاصطلاح.
وقوله: (موافق لما قد أُظهرا) موافقٍ: نعت لفعْلٍ، وكذلك الجملة من قوله:((أُضمر حتمًا)) أي فانصبه بفعل مضمر موافق للمظهر، وأراد أنّ ذلك الفعلَ من شرطِه أنْ يكونَ موافقًا لما ظهر؛ إذ هو مفسّره، ولا يفسّر إلّا ما كان
موافقًا للمفسّر في المعنى لا ما كان مخالفًا، ومثال ذلك: زيدًا ضربتُه، فزيدًا منصوبٌ بفعل موافقٍ لضربته، فالتقدير: ضربتُ زيدًا ضربتُه، وكذلك: زيدًا مررتُ به، تقدير الفعل الموافق: جاوزتُ زيدًا مررتُ به؛ لأن المرور والمجاوزة متفقان. وعلى هذا الترتيب سائر المقدرات.
وفي هذا الكلام تنكيتٌ على ابن الطراوة في مذهبه المضطرب في المسألة؛ إذ زعم أولًا أنّ معنى الفعل هو الناصب للسابق، ثم رجع إلى التقدير اللفظي حين قيل له: فكيف يكون معنى الفعل هو العامل في نحو: زيدًا ضربتُ أخاه؟ إذ لا يصحّ أن يكون معنى (ضربته) هو العامل، لفساد المعنى، فأجاب: إن كلّ فاعلِ فعلٍ يُحرك حاشيتين ضرورة من راضٍ وساخطٍ، فإذا قال: زيدًا ضربتُ أخاه انتصب زيد على معنى: أسخطت، وإذا قال: ضربتُ عدوّه انتصب على معنى: ((أرضيت، ودلّ الضرب عليها مع القرينة المختصة بهما)) انتهى فرجع إلى تقدير فعل لفظيّ لا يوافق الظاهر. وهذا اضطرابٌ، وعدمُ ارتباط لقانون يثلَجُ به الصدر.
هذا تمام الكلام على مقصود الناظم في هذه المقدمة التي جعلها أصلًا لباب الاشتغال مطّردًا فيه، وجاريًا في جميع أقسامه ومسائله غير أنّ فيه نظرًا من أوجه سبعة:
أحدهما: أنّك تقول: في الدار زيدٌ فاضربه، فلا يكون زيدٌ ههنا جائزَ النصب بفعل أُضمر أصلًا، لاستقلاله مع ما قبله كلامًا، فزيدٌ هنالك مبتدأ قد جيءَ له بخبره فلا تعلّق له بما بعده، فكيف يصحّ أن يقدّر له ناصبٌ أو غيرُ ناصب، وعبارة الناظم تشمَلُ مثل هذا؛ لأنّ معنى سابقِ: ان يسبق الفعلَ الظاهرَ، وكذلك تقول: جاءني زيدٌ فأكرمته، وحين أتاني عمرو ضربتُه، وما
أشبه ذلك. ومنه عند سيبويه قولُ الله تعالى: {والسارقُ والسّارقةُ فاقطعوا أيدِيَهُما} ؛ إذ التقدير عنده: ومما يُتلى عليكم: السارق والسارقة أي حكمُهما، ولولا أنّ الآية على هذا المعنى لكان نصب الاسم السابق هو المختار وكذلك {والزانيةُ والزّاني فاجلدوا} الآية. وإذا فرضت الآية ونحوهما على هذا فلا يصحّ النصب بإضمار فعلٍ موافق للظاهر، وليس في الباب ما يُخرجُ مثل هذا. فكان كلامه غير محرّر/، ولو حرّر العبارة لقال كما قال في التسهيل:((إذا انتصب لفظًا أو تقديرًا ضميرُ اسم سابق مفتقر لما بعده)) فقيّده بالافتقار لما بعده، فخرج ما اعترض به عليه هنا، لأنّ الاسم السابق فيه غيرُ مفتقر.
والثاني: أنّه يدخل له في إطلاق عبارته أن تقول: زيدًا ما ضربتُه، وزيدًا إن أكرمتَه يكرمْك، وما أشبه ذلك ممّا لا يصحّ فيه أنْ ينتصب السابقُ بالفعل الظاهر للفصل بأداة من أدوات الصدور، وهم قد شرطوا في صحة القاعدة عدم الفصل بما له صدر الكلام، ولذلك قال في التسهيل:((بجائز العمل فيما قبله)) بعد العبارة المذكورة، فاشترط جواز العمل فيما تقدّم، وهو الاسم السابق فكان من حقّه أن يتحرّز من ذلك.
فإنْ قيل: قد ذكر فيما بعد لزوم الرفع في هذه المسائل ونحوهما بقوله:
كذا إذا الفِعْلُ تلا ما لن يَرِدْ
…
ما قبلَه معمولَ ما بَعْدُ وُجِدْ
قيل: فذلك ليس من مسائل الاستغال فكان ينبغي أنْ يأتي به متحرزًا في هذه المقدّمة.
والثالث: أنّه يخرج له عن هذا الباب مالم يكن الفعل عاملًا فيه، ولا في محله نصبًا، وكقولك: أزيدًا ضربتَ راغبًا فيه، وزيدّا أكرمتُ نازلًا عليه، وزيدًا لستُ مكرمًا له، وزيدًا كنت نازلًا عليه، وما أشبه ذلك من المسائل التي يكقر تعدادها، وضابطها أنْ يكون منصوب الفعل عاملًا النصب في ضمير الاسم، أو في سببه، فذلك جارٍ مجرى عمل الفعل نفسه في الضمير في جواز نصب الاسم السابق، أو وجوبه كما سيذكر بعدُ.
والرابع: أنّه خصّ هذا الباب بنصب السابق وعمل الفعل النصب في ضميره، ثم لم يذكر في الباب غير المسائل التي يُنصب فيها السابق خاصةً، وباب الاشتغال أعمّ من ذلك؛ إذ ما يتصور من وجوب النصب، أو ترجيحه على الرفع بالابتداء، أو مساواته إيّاه يتصور مثله في الرفع على الاشتغال، فقولك: إنْ زيدٌ قام في إضمار الفعل لزيد مثل: إنْ زيدًا ضربته، وأزيدُ قام مثل: أزيدًا أكرمتُه، وإنّما يفترق الرفعُ والنصبُ في نحو: مثل قولك: [رأيت عمرًا] وزيدًا أكرمتُه، وإنما يفترق الرفع والنصب في نحو: زيدٌ قام، وزيدٌ ضربتُه، فزيد في الأولى لا يجوز فيه الحمْلُ على الفعل، وزيد في الثانية يجوز حملُه على الفعل فينتصب. وهو رأي الجمهور. وقد سوّى بن
العريف بين المسألتين، فأجاز أن يُقدّر لزيد في الأولى فعلُ كأنّ التقدير: قام زيدٌ قام، فالرفع عند هذا القائلعلى إضمار الفعل كالنصب بإطلاق. والناظم لم يبيّن شيئًا من هذا فكان عليه الدركُ.
والخامس: أنّ قوله: ((فالسابق انصبه)) يقتصي أنّ الفعل المضمر لا يقدّر إلا ناصبًا، وذلك غير لازم، بل يسوغ تقدير الفعل رافعًا، وإنْ كان ضميره منصوبًا بالفعل لفظًا أو تقديرًا، فتقول: أزيدًا أقمته، وأزيدٌ أقمته أيضًا على إضمار: أقامَ زيدٌ أقمته وكذلك: إن زيدٌ أهلكته كان كذا، على تقدير: إن هلك زيدٌ أهلكته، وما أشبه ذلك، ويتصوّر ذلك كثيرًا في الأفعال التي لها مطاوع، أو التي تعدّت بالهمزة أو غيرها، وقد أنشد سيبويه للنمر بن تَوْلَب:
لا تَجزَعِي إنْ منفسٌ أهلكتُه
…
وإذا هلكتُ فعندَ ذلك فاجْزَعِي
أنشدوه على وجهين: على رفع (منفسٌ) ونصبه/، وأنشد الأخفش:
أتجزعُ إنْ نفسٌ أتاها حِمامها
…
فهلّا التي عن بين جَنْبيكَ تَجْزَعُ
هكذا برفع نفس، وتقديره من معنى أتاها حمامها: إن ماتت نفسٌ أتاها
حِمامُها. وقال لبيد:
فإنْ أنت لم ينفعك علمُك فانتسب
…
لعلّك تهديك القرونُ الأوائلُ
فهذا حائزٌ على الجملة مع أنّه عبّر بعبارة تخرج ما كان من بابه -وذلك غير سديد- إذ جعلَ ما ليس بشرطٍ شرطًا، وهو أن جعلَ عملَ الفعلين الظاهر والمقدّر إنّما يكون نصبًا.
والسادس: أنّه أتى في هذا العقد ببعض الشروط المعتبرة في باب الاشتغال، وترك بعضًا ممّا هو ضروريّ، ومن جملة ما ترك اشتراط اتحاد جهة النصب في المشغول به والمشغول عنه، كما مرّ تمثيله، فلو قلت: أزيدًا جلستَ مكانه؟ لم يجز؛ لأنّ نصب المكان ليس كنصب زيد، فإنّ زيدًا منصوبٌ على المفعولية، ونَصبُ المكان على الظرفية، وكذلك لا تقول: أزيدًا ضربتَ ضربَهُ، ولا زيدًا مكثتُ عنده، بخلاف قولِك: أيومَ الجمعة قعدتَه، أو قعدتَ فيه؛ فإنّه جائزٌ لاتحاد جهة النصب. ولا يزم على ذلك ألّا يجوز: أزيدًا مررت به؛ لأنّ نصبَ موضع المجرور على المفعولية كزيد.
ومن ذلك أن يكون المشغول عنه اسمًا واحدًا، فلا يجوز أن تقولَ: أزيدًا درهمًا أعطيته إيّاه، ولا: أزيدٌ عمرًا أكرمَهُ، ولا ما أشبه ذلك -ويجوز أن تقول: أزيدًا أعطيتَه درهمًا، وأزيدًا ظننته قائمًا، وأعمرًا أكرمهُ زيدٌ. ووجه امتناع هذا والذي قبله أنّ هذا الباب جاء على خير قياس، فلا يُتعدّى به ما سُمِع، ولا يقاسُ عليه إلّا ما كان مثلَه من كلّ وجهٍ، فإذا تركُهُ ما لاحاجة إلى ذكرة أكيدةٌ تقصير.
والسابع: أنّ الموافقة التي أشار إليها في قوله: ((موافقٍ لما قد أُظهرا)) حقيقتها في نفسها أن يكون لفظُ المضمر ومعناه مثل لفظ المظهر ومعناه، وذلك لا يَصدُق إلّا على نحو: زيدًا ضربتُه خاصّة؛ لأنّ التقدير: ضربتُ زيدًا ضربتُه. وأمّا غير ذلك فلا؛ إذ كنت في قولك: زيدًا مررتُ به لا تقدّر إلّا فعلًا غير موافق تلك الموافقة، وذلك: جاوزتُ، أو لابستُ، أو نحو ذلك، ولا يجوز أن تقدّر: مررتُ؛ لأنه يقتضي حرفَ الجر، والاسم المشتغل عنه لا يُجرّ، وكذلك إذا قلتَ: زيدًا ضربتُ أخاه فالمقدّرههنا فعلُ الملابسة أو نحوه، أي: لابستُ زيدًا ضربتُ أخاه، أو تقدر: أهنتُ زيدًا ضربت أخاه، أو ما أشبه ذلك. وكذلك قولك: زيدًا مررتُ بأخيه، وزيدًا رغبتُ فيه، وزيدًا ضربتُ راغبًا فيه، إنّما يقدّر هنا فعلُ الملابسة أو نحوه مما يدل عليه الفعل، لا ما وافق الفعل، فلو أُخذ كلام الناظم على حقيقة الموافقة في هذه الأشياء لكان فاسدًا؛ إذ كان الموافق في: زيدًا ضربتُ أخاه: ضربتُ زيدًا ضربتُ أخاه، وفي: زيدًا مررتُ بأخيه: مررتُ بزيدٍ مررتُ بأخيه، وكذلك ما بقي. وذلك لا يصحّ لفظًا ولا معنى. ثم نقول: لا يخلو أن يريدَ الموافقة المذكورة أو في اللفظ فقط، أو في المعنى فقط. فلا يصحّ الأول لما مرّ، ولا الثاني/ أيضًا، وإلّا جاز في: زيدًا رأيتُه أن يُقدّر: رأيتُ على غير معنى رأيت الظاهر. وذلك غير صحيح، ولا الثالث أيضًا؛ لأنّهم قد قدّروا في: زيدًا رأيتُ أخاه: لابستُ، ونحوه. وليس الفعلان بمتّفقيْ المعنى؛ إذ مفهوم الرؤية غيرُ مفهوم الملابسة. هذا إن أخذتَ الرؤية بحسب مفهومها مطلقًا، وإن أخذتها بحسب كونها رؤية للأخ فكذلك أيضًا، لأن رؤية أخي زيد لها مفهومٌ، وملابسة زيدٍ لها مفهوم آخر؛ إذ هي أعمّ من أن تكون برؤية الأخ أو بغير ذلك؛ ولأجل هذا الإشكال حرّر في التسهيل عبارته فقال:((بعامل لا يظهر موافق للظاهر أو مقارب)) فكان من حق الناظم أن يفعلَ
هنا مثل ذلك. انتهى.
والجواب عن الأول: أنّ قوله: ((فعلًا شغَل عنه)) معناه عن العمل فيه، وكونه مشغولًا عن العمل فيه مشعر بأنه طالبٌ له بالنصب، وذلك يقتضي كون ذلك السابق مهيّأ لعمل الفعل فيه لولا الضمير الشاغل، وإذا كان كذلك فهو معنى الافتقار إلى الفعل؛ إذ لو استقر له عاملٌ فيه، أو كان في جملةٍ أخرى لم يكن مهيّأ لعمل الفعل فيه، ولا كان الفعل طالبًا له أصلًا، ولا صحّ له العمل فيه لو تفرغ عنه الشاغل. فقوّة هذا الكلام قد حصلت معنى قول ابن عصفور في الحدّ:((ولو لم يعمل في الضمير أو السبب لعمل في الاسم الأول)). وبذلك الشرط لا يعترضُه ما اعترض به.
وعن الثاني: أنّ التحرز من فصل أدوات الصدور بين الفعل والاسم السابق مبيّن بعدُ. وقد حصل المقصود على الجملة، فالاعتراض تعسّف.
وعن الثال: أنّ ذلك قد استدركه بعدُ بقوله:
وفصلُ مشغولٍ بحرفِ جرٍّ
…
أو بإضافةٍ كوصْلٍ يجري
في أحد الوجهين فيه؛ لأنّه إذا دخل فيه: زيدًا ضربتُ أخاه، وليس الضمير بمنصوب بالفعل لا لفظًا، ولا محلًا، فكذلك يدخل له: زيدًا أكرمتُ راغبًا فيه، وما أشبه ذلك.
وعن الرابع: أنّه اقتصر في هذا النظم على ذكر النصب، وترَكَ الرفع لمجموع أمرين: أحدهما: أنّ اللفظ لا يختلف فيه مع تقدير الفعل أو عدمه، فإذا قلت: إنْ زيدٌ قام أكرمتُه، فزيد فيه مرفوعٌ بفعل مقدّر وجوبًا، ولو زال موجبُ
تقدير الفعل لبقيَ على لفظه، فقلتَ: زيدٌ قام، فلا فرقَ بين الوجهين إلّا في التقدير الصناعي ضبطًا للقوانين، وكذلك: أزيدٌ قام، فيه وجهان صناعيّان والرفع ثابتٌ فيهما، وكذلك سائر الأمثلة، فلما كان لفظُ السابق لا يختلف مع تقدير مسائل الاشتغال فيه صار الاشتغال بذكره غير ضروريّ، بل من التكميل الصناعي فترك النصّ عليه.
والثاني: أنّ مسائل الاشتغال في الرفع مساويةٌ لمسائله في النصب، فخمسةُ الأقسام التي يذكرها مع النصب متصوّرة مع الرفع، فحيثُ يجبُ النصب يجبُ تقديرُ فعل رافع، وحيثُ يمتنع النصب يمتنع تقدير الرافع، وحيث يُختار النصب يُختار تقدير الرافع، وكذلك سائرها. وإذا ثبت ذلك فتركه لمسائل الرفع في قوّة أن لو ذكرها، إذ قرّر مأخذها فلم يبق إلّا أن يُصوّرها الناظر في كلامه بأدنى تأمل. وهذا من مآخذ الحسان، /ومنازعه البارعة.
فإن قلت: هذا المنزعُ ليس بحسن؛ فإنّه يقتضي أن نحو: زيدٌ قام فيه وجهان: أحدهما: الحملُ على الفعل -وإن كان غير مختارٍ فهو جائز، كما جاز: زيدًا ضربتُه، وإن كان غير مختار- لكنّ هذا مخالف للإجماع؛ إذ لم يُنْقل ذلك عن أحدٍ من أهل العربية إلّا عن ابن العريف. وردّ الناس عليه ما ذهب إليه، فكيف يستقيم تنزيلُ كلام الناظم على ما لا يصحّ. فالجواب: أنّ مذهبَ ابن العريف هو مذهبُ الناظم في التسهيل، وشرحه، فإنه قال:((وإن رَفَعَ المشغولُ شاغله لفظًا أو تقديرًا فحكمه في تفسير رافع الاسم السابق حكمثه في تفسير ناصبه)) قال في الشرح: ((وإذا كان المشغول رافعًا لشاغله فسرّ لصاحب الضمير، وينقسم ذلك الرفع إلى: واجبٍ مرجوحٍ، ومساوٍ
كما انقسم النصب، ومثال الواجب رفع زيد في قولك: إنْ زيدٌ قام قمتُ، ومثال الراجح رفعه)) في نحو كذا إلى أنْ مثّل المرجوح بقوله:((زيدٌ قام)) فقد ثبت أنّه موافق لمن قال بذلك، فإحالته الرفع على النصب على هذا التقدير صحيحٌ حسنٌ، وإنّما يبقى النظرُ في وجه مخالفة الجماعة أو مخالفة دليلهم. أمّا مخالفة دليلهم فلا دليل لهم على خلاف ماقال، بل هو الذي زافق قولُه الدليل اعتبارًا بما ظهر، وهو قولهم: زيدًا ضربتُه، فإذا كانوا هنا قد أضمروا مع إمكان رفعه بالابتداء، فكذلك ندّعي أنّهم اضمروا أيضًا في: زيدٌ قام، إذ لا فرق إلّا أن يقال: إنّا مضطرون مع النصب على إضمار الفعل، بخلاف ما إذا كان مرفوعًا فإنّه لا داعية إليه، فنقول: وكذا لا داعية إليه في: أزيدٌ قام، بل ولا في: إنْ زيدٌ قام؛ لإمكان رفعه على الابتداء. وقد قاله الأخفش في (إنْ) فغيرُها أولى أنْ يقالَ بذلك فيه.
فإن قيل: فإنّ (إنْ) لا يليها إلّا الفعل، والاستفهام طالبٌ بالفعل فلا بدّ من إضماره حيث فهمنا أنّ العرب تضمره حملًا لما خَفِيَ على ما ظهر.
قيل: هذا هو بعينه الذي راعاه ابن العريف؛ فرُدّ عليه. لأنّه حَمَلَ: زيدٌ قام على: زيدًا ضربتُه.
فإن قيل: قد تقرّر في هذا الباب أنّه لا يفسّر إلّا ما يصحّ أنْ يعملَ، وقام لا يعمل في زيد مقدّما عليه بخلاف: زيدًا ضربتُه، فإنّ ضربتُ يصحّ عمله في زيد مقدّمًا عليه. قيل: فيلزمكم ألّا يُفسّر في نحو: أزيدٌ قام، وإنْ زيدٌ قام قمتُ، فإنّ قام لا يعمل هنا في زيدٍ مقدّمًا عليه عند الجميع إلّا من شذّ، ولا فرقَ بين الموضعين البتةَ، فلا بدّ من القول بمنع الإضمار في الجميع أو جوازه في
الجميع، وهو دليلٌ قاطعٌ.
وأما مخالفةُ إجماعهم فهو أشدُّ إن ثبتَ أنّ العريبَ لا يقول أحدٌ منهم بقوله، ولكن يُجاب عنه بأمرين بناءً على أنّه حجةُ خلافًا لابن جنى$ فإنّه لم يوافق في تلك المخالفة حسب ما تبيّن في الأصول، فأحد الأمرين: أنّ هذا الغجماع منازع في أصله ابتداء؛ فإنّ الفارسي نقل في التذكرة عن المبرّد عين ما نُقل عن ابن العريف، وأيضًا فإنّ غايته إن ثبت أن يثبتَ بنقل الواحد؛ فإنّ نَقْلَ/ الإجماع تواترًا في هذه المسألة غيرُ موجود، وإذا ثبت آحادًا ففي كونه حجةً خلافٌ بين أهل الأصول، فمن الناس من أنكر ذلك كالغزّالي، فلعلّ رأي ابن العريف أو ابن مالك في ذلك هذا الرأي، ومع فرض ذلك لا يكون بالإجماع حجةٌ عليه.
والثاني: أنّ مخالفةَ الإجماع إنّما تكون محذورةً إذا خالفه في إحداث قول بحكم يخالف ما قالوا كما لو أجمعوا مثلًا على امتناع: زيدًا ضربتُه، فخالف هذا المتأخّر وقال بجوازه أو نحو ذلك، وأما إذا أحدث تأويلًا لم يقل به أحدٌ من أهل الإجماع، فهذا ليس بمحذور عند أكثر الأصوليين، ومسألتنا من هذا القبيل؛ لانّهم اتفقوا على صحة: زيدٌ قام، وإنّما الخلافُ في وجه تأويله. فالجميع يقولون: زيدٌ مرفوعٌ على الابتداء وجوبًا، وابن العريف يقول: لا يجب ذلك بل أحملُه على وجهين: على الابتداء، وعلى إضمار الفعل قياسًا على: زيدًا ضربتُه، فلم يخالفهم في حكم بل في تأويل، فلم يكن مخالفًا للإجماع. وهذا ظاهرٌ تنزيلًا على قاعدة الأصول. وبالله التوفيق. فثبت أن مذهب الناظم أرجحُ.
وعن الخامس: أنّ تقديرَ الفعل رافعًا مع كون الضمير الشاغل منصوبًا ليس بكثير، وأكثرُ الناس على منعه، وإن كان قد خالف فيه بعض، فقد جعل الناسُ من شرط الاشتغال اتحاد العمل في المشغول عنه. وإذا كان كذلك فما قاله تقرير لذلك الشرط،، وعدم مراعاة لما سمع في ذلك من المخالفة، فكأنّه عنده غيرُ مقيس؛ فلذلك لم يعتبره.
وعن السادس: أنّ اتحاد جهة النصب، وإن جعلها الناس شرطًا فليس بمتفقٍ عليه، بل هو مختلف فيه، فقد أجاز بعضُ الناس أن يقال: زيدًا جلستُ عنده، وأزيدًا جلستَ يمينه، وما أشبه ذلك، وكذلك: أزيدًا ضربتَ ضربَه، وأزيدًا أكرمت إكرامَه، وقد زعم بعضُهم أنّه يظهر من سيبويه إجازة ذلك في الظرف المتصرف: نحو: أزيدًا جلستَ يمينه، فإن كان كما قال فذلك الشرط ساقطٌ- أعني شرط اتحاد جهة النصب- وقد قال سيبويه في قولك: يومَ الجمعة سرتُه: إنّ النصبَ فيه كالنصب في: زيدًا ضربتُه، قال:((إلّا أنّه شاء نصبه بأنّه ظرف، وإن شاء أعمل فيه الفعل كما أعمله في زيد؛ لأنه يكون ظرفًا وغير ظرف)). ففهم الشلويين من هذا الكلام أنّه يُجيز أن ينتصب السابقُ من غير الوجه الذي انتصب ضميرُه أو سببُه، واستشكله لذلك. وتأوّله. فعلى الجملة إذا كانت المسألة مختلفًا فيها لم ينبغ أن يُقْطَعَ على الناظم أنّه أهملَ شرطًا معتبرًا لإمكان ألّا يكونَ عنده معتبرًا، بل هو ظاهر منه هنا، وفي التسهيل حيث لم يشترطه، ولا نصثّ على اعتباره.
وأمّا شرط اتحاد الاسم السابق فظاهرُ لفظه اعتبارهُ؛ لأنّه قال: ((إنْ مضمرُ اسم سابقٍ فعلًا شغل)). ولم يقل اسم أو أكثر من اسم، وهذا، وإن كانت العرب تطلق الاسم النكرة وتريد به الجنس، فإنّها تطلقه وتريد به الواحد من الجنس، فتقول: هذا رجلٌ، فيحتمل الوجهين، فأظهر الإطلاقين أنْ يراد الواحد من الجنس، وعلى هذا لا إشكال؛ إذ قد حصل/ به الشرط المراد، ويحتمل أن يُراد الجنس. وعلى هذا المحمل في كلام الناظم يكون مائلًا لمذهب الأخفش؛ إذ أجاز أنْ يعمل الفعل المقدّر في أكثر من واحد، فتقول: إنْ زيدٌ عمرًا يضربه، وأزيدٌ عمرًا أكرمَهُ، على تقدير إنْ يضرب زيدٌ عمرًا يضربه، وأأكرم زيدٌ عمرًا أكرمه، ولا بُعدَ في أن يكون قد ذهب إلى هذا، وقياسه على الواحد ظاهرٌ، وأيضًا فقد قال الشلويين: إنّ سيبويه موافقٌ لأبي الحسن في المسألة، وليس بينهما خلاف. وإذا كان كذلك فليس اتحاد المعمول بشرط عند سيبويه. والمشترطون إنّما اعتمدوا في الغالب على رأيه ثم استدلوا، فإذا كان سيبويه موافقًا لم يبق إلّا الدليل ودليلُ الجواز أظهرُ مع أنّا إنْ فرضنا سيبويه يجيز العمل المقدّر في أكثر من واحد فلا يجيزه إلّا لسماع، وأكثرُ الناس حملوا كلام الأخفش على المخالفة، واحتجّوا لسيبويه بأنّ بابَ الاشتغال سماعيٌ فلا ينبغي أن يُتعدّى المقطوع به منه. فالحاصل أنّ كلامَ الناظم لا نقصَ فيه إذا حُمِلَ على كلّ واحد من المذهبين.
وعن السابع: أنّ مراده الموافقة المعنويّة وما ألزِم عليه لا يلزم، فإنّ لابستُ المقدّر في: زيدًا رأيتُ أخاه موافقٌ لرأيت الظاهر؛ إذ الملابسةُ العامةُ لم تُرَد هما. وإنّما أُريدَ الملابسةُ الخاصة، وهي رؤية الأخ، فلابست بحسبِ القصد
إنّما معناه: رأيتُ الأخَ، فاتّفَقضا من جهة المعنى المقصود، وإنّما قدّروا لابستُ ليكون مسلّطًا على زيد فيصحَ المعنى ويَتَنَزّل على نصب اللفظ. وإذا قلتَ: زيدًا مررتُ بأخيه، فمرورك بالأخ ملابسة لزيد من جهة ما، وتلك موافقة في المعنى، وكذلك: زيدًا مررت به إذا قدّرْت: جاوزتُ زيدًا مررت به، فهي موافقة المعنى ظاهره$، وعلى هذا التقرير يجري سائر الباب. وقد بيّن سيبويه هذا المعنى وبيّن وجهه. فقال في: زيدًا مررتُ به: ((كأنك قلتَ إذا مثّلت: جعلتُ زيدًا على طريقي مررتُ به، وقال في: زيدًا لقيتُ أخاه: ((وإن شئت نصبتَ؛ لأنّه إذا وقع على شيء من سببه فكأنّه قد وقع به)). قال: ((والدليل على ذلك أنّ الرجلَ يقول: أهنتَ زيدًا بإهانتك أخاه، وأكرمتَه بإكرامك أخاه. وهذا النحو في كلامهم كثير، ويقول الرجل: إنّما أعطيتُ زيدًا، وإّنما يريد لمكانِ زيدٍ أعطيتُ. قال: ((وإذا نصبتَ زيدصا لقيتُ أخاه، فكأنّه قال لابستُ زيدًا لقيتُ أخاه. وهذا تمثيل ولا يُتكلّم به فجرى على ما جرى عليه: أكرمتُ زيدًا، وإنّما وصلت الأثرةُ إلى غيره)). هذا ما قال وفيه كافٍ في بيان اتفاق معنى الظاهر ومعنى المقدّر. وهو الذي أراد الناظم فلا حاجة إذًا إلى ما قال في التسهيل من القاربة. والله أعلم.
ثم أخذَ الناظمُ في تفصيل الحكم في نصب الاسم السابق، وجعله خمسةَ أقسام: واجبٌ النصب، وممتنعٌ فيه النصب، فلا بدّ من الرفع، ومختارٌ فيه/ النصب، ومختارٌ فيه الرفع، وما استوى فيه الرفع والنصب. وابتدأ بما يجب فيه النصب فقال:
والنّصبُ حَتْمٌ إنْ تلا السَّابِقُ ما
…
يَخْتَصُّ بالفعل كإنْ وحَيْثُمَا
وهو القسم الأل، فيريد أنّ النصب السابق، وهو الاسم المتقدم على الفعل حتمٌ، أي واجب ويضمر له فعلٌ موافق وجوبًا إذا تلا ذلك الاسمُ أداةً من الأدوات التي تَخْتَصُّ بالفعل فلا يقع بعدها إلّا الفعل، ومثّل ذلك بأداتين من أدوات الشرط، وهما: إنْ، وحيثما، فإمّا (إنْ) فنحو: إنْ زيدًا أكرمتَه أكرمَك، وإنْ عمرًا أهنتَه أهانَك، فنصبُ زيدٍ وعمرو ههنا واجبٌ؛ لوجوب تقدير الفعل بعد (إنْ)؛ لأنّ (إنْ) لا يليها إلا الفعل ظاهرًا أو مضمرًا، فإذا لم يكن ظاهرًا فلا بدّ أن يكونَ مقدّرًا، فلا يجوزُ هنا: إنْ زيدٌ أكرمتَه أكرمَك، وما جاء ممّا ظاهره ذلك فليس على الرفع بالابتداء، وإنّما هو على تقدير فعلٍ رافع كما أنشدوا بيت النّمِر:
*لاتجزعي إنْ منفِسٌ أهلكتُه*
فهو على تقدير: إن هلَكَ منفسٌ أهلكتُه، وكذلك قوله:
*أتجزع إنْ نفسٌ أتاها حمامها*
وقوله:
*فإنْ أنت لم ينفعك علمك
…
*
فكل ذلك على إضمار فعلٍ رافعٍ لا على الابتداء. وبهذا الكلام يظهر انّ مذهبَه مذهبُ الجمهور في أنّ (إن) الشرطية لا يقع المبتدأ بعدها. ونقل ابن جنى$ في كتاب الخاطريات، واين الأنباري عن الأخفش إجازة ذلك، وهو رأي لا يُساعد عليه؛ إذ لم يجيء قطُّ في كلامهم مثل: إنْ زيدٌ قائمٌ قمتُ، ولا حجّةَ فيما أنشده سيبويه:
إن تركبوا فركوبُ الخيلِ عادتُنا
…
أو تَنْزِلونَ فإنَّا معشرٌ نُزُلُ
فإنّه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه، وأيضًا فهو مؤوّلٌ على غير تقدير (إنْ).
وأمّا حيثُما فمثالُه: حيثما زيدًا تُجلسه أجْلِسُ، فزيدًا يجب نصبُه بإضمار فعل، لأنّ حيثما طالبةٌ بالفعل وجوبًا. وهذه الأمثلة تشير إلى ما كان في معناها؛ لأنّه قال ككذا، فإنّه يدخل في المعنى كلّ اداة لا يليها إلّا الفعل، كأدوات التحضيض نحو: هلّا زيدًا ضربتَه، وألّا عمرًا اكرمتَه، ولولا زيدًا أعطيته كذا، ولا يجوز الرفعُ في هذه الأشياء. ومن ذلك أيضًا (لو) إذا قلت: لو زيدًا أكرمتَه لأكرمك، فزيدٌ هنا يجب نصبه لاختصاصها بالفعل، فلذلك لا يقع بعدها اسمٌ إلّا وبعده فعلٌ، فيقدّر للاسم السابق ناصبٌ، وقد قدّروا له رافعًا في قوله تعالى:{قُلْ لو أنْتُم تَمْلِكونَ خَزائنَ رَحمَةِ رَبّي} الآية. وفي تمثيله بحيثما إشكال، وذلك أنّ ما اختص من الادوات بالفعل قسمان:
أحدهما: ما جاز إن$ يليه الفعلُ ظاهرًا أو مضمرًا كإنْ، وسائر ما تَقدّم التمثيل به. وهذا القسم هو الذي يجري معه الحكم المذكور، لأنّ وقوعَ الاسم بعده يليه ليس بقبيح إذا كان على إضمار الفعل لا على تقديمه إنْ كان متأخرًا، نحو: إنْ زيدًا ضربتَ أكرمك، فإنه قبيح لا يجوز إلّا في الشعر، فمثل هذا
يدخل في باب الاشتغال لصحة إضمار الفعل للاسم الذي/ يلي الأداة.
والثاني: ما لا يجوز أنْ يليه الاسم لفظًا أصلًا، ولا يجوز انْ يليهُ الفعلُ مضمرًا، بل تلزم ولايتُه له ظاهرًا، ومن القسم حيثما؛ إذ لا يجوز أن تقولَ: حيثُما زيدًا أقعدته اقعُد، وكذلك لا تقول: حيثما زيدًا تُجلِس أجلس إلّا أنْ يُضطرّ شاعرٌ فيجوز في الشعر خاصة. ومثل حيثما في ذلك سائر أدوات الشرط سوى إنْ، وجميع أدوات الاستفهام سوى الهمزة. وكذلك قد وسوف لا يليها إلّا الفعل ظاهرًا إلّا أنْ يضطرّ شاعرٌ فيجوز أنْ يليها الاسم على تقدير ولاية الفعل. ومن هذا القسم الذي لا يليه إلّا الفعلُ ظاهرًا ما يَتَنَزّلُ من الفعل منزلة الجزء، فلا يليه الاسم في الكلام، ولا في الشعر، وذلك كالسين التنفيسيّة، وما أشبه ذلك. وإذا ثبت هذا فتمثيلُه بحيثُما يقتضي جواز مثله في الكلام، وذلك غيرُ صحيح.
والجواب: أنّه قال: ((إنْ تلا السابق ما يختّص بالفعل كإنْ وحيثُما)) فقيّد الاختصاص بأنْ يكونَ كاختصاص إنْ أو كاختصاص حيثُما، ومعلوم أنّ إنْ لا يلزم إظهار الفعل بعدها، فيدخل معها ما كان مثلها كما تقدّم، وأمّا حيثما فيلزم إظهارُ الفعل بعدها في الكلام ولا يلزم في الشعر، بل هي في الشعر كإنْ في الكلام، وهذا في حيثما معلوم أيضًا في أخواتها، فيدخل معها ما كان مثلها في هذا الباب إذا وقعت في الشعر، ولم يقيّد الناظم هذا الحكم بالكلام دون الشعر، بل إنّما تعرّض إلى أنّ مثلَ هذا إنْ وقع، وتُصُوّرت فيه صورةُ الاشتغال، فيجب نصبُ الاسم السابق بفعلٍ مضمر، فاتّفق أنّ المسألة في إنْ تُتَصَوَّرُ في الكلام، وفي حيثُما إنّما تُتَصوّر في الشعر، فإذا تُصوّرت ثَبَتَ حكمُها كذلك، فعلى هذا ما كان من الأدوات لا يليه إلّا الفعلُ ظاهرًا غيرُ داخلٍ له البتة، إذ لم يطلق كلامه، بل قيّده بالمثال، ولا مثالَ له في هذا القسم، فلا
يدخل له. وما كان منها يليه الفعلُ مضمرًا أو ظاهرًا في الشعر فقد دخل له بحيثما؛ وإنّما نبّهَ على هذا القسم لأمرين:
أحدهما: خوفًا من توهّمِ أنّ الاشتغالَ لا يدخل في ضرورة الشعر، فبيّن أنّ الاضطرار، وعدمه في دخول الاشتغال على حدّ سواء.
والثاني: أنّ سيبويه قد بوّب على ذلك، وقسّم الأدوات التي لا يليها إلّا الفعل ذلك التقسيم، فأراد الناظمُ أن يحذو حذوَه؛ لانّ أكثر الناس يطّرِحونَ ذكر الاشتغال في الضرورة، ولا يعتنون به، فإذا كان كذلك فإذا اضطرّ شاعرٌ أنْ يقولَ: إذا ما زيدًا ضربتَه أضرِبُهُ، وجب نصبُ زيدٍ بإضمار فعل يفسّره الظاهُر. وكذلك: أيّانَ تضربْهُ أضرِبْهُ، ومتى زيدًا تأتِه يكرمْكَ، وأينما زيدًا تكرمْهُ، يركمْك. وما أشبه ذلك. وقد جاء في الشعر لكن مع الرفع أنشد سيبويه:
صَعْدَةٌ نابِتَةٌ في حائرٍ أيْنَمَا
…
الريح تُمَيِّلْهَا تَمِلْ
وأنشد أيضًا لعَدِي بن زيد:
فمتى واغِلٌ يَنْبُهُمْ يُحَيُّو
…
هُ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي
وكذلك أدوات الاستفهام سوى الهمزة، فتقول إذا اضطُرِرْتَ: هل زيدًا ضربتَه؟ فتنصب وجوبًا، وكذلك: متى زيدًا رأيتَ أخاه؟ وأين زيدًا لقيتَه؟ وكيف زيدًا
وجدتَه؟ . وعلى هذا الحكم سائر أدوات الاستفهام/ حدثنا شيخُنا أبو عبدالله بن الفخّار -رحمة الله عليه- أنّ بعض المتكلمين على هذه المسألة من كتاب سيبويه ألقاها على طلبته، فقال: كيف يقال: هل زيدٌ ضربتَه أم هل زيدًا ضربتَه؟ رفعًا أم نصبًا، فرفع قومٌ بالابتداء إلحاقًا لهل بالهمزة في جواز ذلك، والتزم قومٌ النصب بإضمار فعلٍ ليليَها الفعلُ تقديرًا؛ إذ ليس لها تصرّف الهمزة، ولا أصالتها، فصوّب الشيخ هذا الثاني، وخطّأ الأول، قال: وكان بالحَضْرَةِ بعضُ المشارقة فقال: كلّ ذلك خطأ، وأخرج المسألة من الكتاب، وأنّها لا تجوز إلّا في الشعر، قال سيبويه:((فإن قلتَ: هل زيدًا رأيتَ، وهل زيدٌ ذهب قَبُحَ، ولم يَجُز إلّا في الشعر؛ لأنّه لما اجتمع الفعلُ والاسم حملوه على الأصل)). قال: ((فإنْ اضطُرّ شاعرٌ فقدّم الاسم نَصَبَ)). قال السيرافي: يعني أنّه يقال: هل زيدًا رأيتَ أو رأيتَه، ثم بَسَطَ سيبويه الكلام في ذلك المعنى، فانظره في كتابه. ومثل ذلك: قد زيدًا رأيتُه، وسوف زيدًا أضربُه، ولم زيدًا أضرِبْهُ، ولن زيدًا أضرِبَهُ، وقلّما زيدًا أضرِبُه، وربّما زيدًا أضربُه. قال سيبويه: ((فممّا لا يليه الفعلُ إلّا مظهرًا سوف، وقد، ولما، ونحوهن، فإن اضطرّ شاعرٌ فقدّم الاسم، وقد أوقعَ الفعل على شيء من سببِه، لم يكن حدّ الإعراب إلّا النصب، وذلك نحو: لم زيدًا أضربْهُ، لأنّه سضمر الفعل إذا كان ممّا يليه الاسم فهذا كلّه داخلٌ تحت إشارة حيثُما على التقدير المذكور. والله أعلم.
وإن تلا السابقُ ما بالابتدا
…
يختَصُّ فالرفعَ التَزِمْهُ أبَدا
كذا إذا القعلُ تلا ما ين يَرِد
…
ما قبلَه معمولَ ما بَعْدُ وُجِد
هذا هو القسم الثاني من أقسام الاسم السابق، وهو الواجب فيه الرفع، وعيّنَ له موضعين: أحدهما: أنْ يقعَ بعد أداةٍ تَخْتَصُّ بالابتدا، أي لا يكونُ ما بعدها إلّا مبتدأ، فقوله ((وإن تلا السابق كذا)) يعني: أنْ يقعَ الاسم المشتغلُ عنه بعد الأداة المختصّة بالابتداس$، واليًا لها، و (بالابتداء) متعلّقٌ بيختصّ، وهما في صلة ما. ومن الأدوات المختصّة بالابتداء (إذا) التي للمفاجأة، فإذا قلت: خرجتُ فإذا زيدٌ يضربُه عمرو، فزيدٌ هها يلزم رفعُه، ولا يجوز نصبه؛ لانّ إذا من أدواتِ الابتداء، فلو نصبت لم يلها الابتداء، وكانت تخرج عن وضعها، وكانت تخرج عن وضعها، وكذلك لولا، ولو ما اللتان هما أداتا امتناع لوجود، لا يليها إلّا الاسم، فالابتداءُ بعدهما لازمٌ، فإذا جاء خبرُه فعلًا واقعًا على ضميره أو سببه حيث أجازه المؤلف فالاسم السابق مرفوعٌ على الابتداء، كقول المحبسين:
*فلولا الغٍمْدُ يُمْسِكُه لسالا*
وضمير الأول هنا مرفوعٌ فلو جاء مثله: لولا زيدٌ أكرمتُه لكان كذا، لوجب رفعُه بالابتداء، والجملة خبرُه، وعلى جواز إظهار الخبر بعد لولا بني التمثيل، والمثال المشهور في هذا الموضع مثال إذا، وعليه بنى القاعدة؛ ولذلك أكّد التزام الرفع بقوله (أبدًا)، وكان يجزيه أنْ يقول: فالرفعُ لازمٌ، فكأنّه أكدّ تنبيهًا على
مخالفته لظاهر سيبويه فيها، وظاهر كلامه أنّها كأمًا يجوزُ معها الرفعُ والنصبُ، وإنْ كان الرفعُ أولى، قال سيبويه:((فإنْ قلتَ: لقيتُ/ زيدًا، وأمّا عمروٌ فقد مررتُ به، ولقيتُ زيدًا وإذا عبدُالله يضربُه عمروٌ، فالرفع إلّا في قول من قال: زيدًا رأيته، وزيدًا مررتُ به؛ لأنّ أمّا وإذا يُقطَعُ الكلام -يعني أنّهما ليسا بحرفي عطف- وهما من حروف الابتداء يصرفان الكلام إلى الابتداء إلّا أنْ يدخل عليهما ما يَنصِب، ولا يُحْمَلُ بواحد منهما آخرٌ على أول كما يحمَلُ بثُمّ والفاء ألا ترى أنّهم قرَءوا {وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُم} وقبلَه نَصْبٌ- يعني قوله: {فأرْسَلْنَا عليهم ريحًا صَرْصَرًا}. وذلك لأنّها تصْرِفُ الكلام إلى الابتداء إلّا أنْ يقعَ بعدها فعلٌ، نحو: (0 وأمّا زيدًا فضربتُ)). هذا ما قال سيبويه، والظاهر منه أنّ حكم إذًا عنده حكمُ أمّا، وخالفه ابن مالك، وقال:((لاينبغي أن تُلْحَقَ إذا بأمّا؛ لأنّ أمّا وإن لم يَلِها فعلٌ فقد يليها معمولُ الفعل المفرّغ كثيرًا نحو: {فأمّا اليتيمَ فلا تَقْهَر وأمّا السائل فلا تَنْهضر} وقد يليها معولُ فعلٍ مقدّر بعده مُفسّر مشفولٌ كقراءة بعض السلف {وأمّا ثَمود فَهَدَيْناهُم} قال: ((وإذا لم يلِ (إذا) فعلٌ ظاهر، ولا معمولُ فعلٍ إنّما يليها أبدًا في النثر والنظم مبتدأ، وخَبَرٌ منطوق بهما، أو مبتدأ محذوفُ الخبر، فمن أولاها غيرَ ذلك فقد خالف كلام العرب، فلا
يلتفت إليه، ولو كان سيبويه)). وما ذهب إليه المؤلف في كلام سيبويه من حمله على ظاهره، والتخطئة له قد ذهب إليه السيرافي قبله. والناس في ذلك الظاهر فريقان: منهم من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوّله، فالذين حملوه على ظاهره خطّؤُوه كالناظم أو من جرى مجراه، والذين تأوّلوه حملوه على ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنّه قرن إذا بأمّا؛ لأجل أنّهما لا يُعطفُ بهما ثم شركهما معًا في النصب، وهو يريد أمّا خاصة كقوله تعالى:{نَسِيَا حُوتَهُما} ثم أفرد الكلام في أمّا، وبها مثّلَ دون إذا. وإلى هذا أشار ابن خروف.
والثاني: أنْ يكونَ أجاز الحمل على الفعل معهما معًا لكن من وجهين مختلفين. أمّا في أمّا فلما ذكر، وأمّا في إذا فعلى إضمار مبتدأ قبل المنصوب، فإذا قلتَ: خرجتُ فإذا زيدٌ تضربه، جاز على تقدير: فإذا أنت تضربُ زيدًا تضربه، لأنّ سيبويه أجاز أن تقولَ: خرجتَ فإذا مَنْ يضربْكَ تضرِبْهُ مجزومًا على إضمار المبتدأ، كأنّه قال: فإذا أنت من يضربْكَ تضرِبْهُ، ومنْ قد تكون مفعولةً، فكذلك يسوغ أنْ يقعَ بعدها الفعلُ على إضمار مبتدأ.
والثالث: أن يريد أنّ أمّا وإذ يقْطَعان ما بعدهما عمّا قبلهما فيكون بعدهما المبتدأ، ولم يتعرّض للزوم ذلك، فإن جاز بعدهما النصب فإنّما يجوز على من قال: زيدًا ضربتُه، إنء لم يمنع من ذلك مانعٌ. وقد وُجِد المانع في (إذا) فلا ينصب بعدها الاسم. وهذا يُعزْى للشلويين، وما قبله لبعض المتأخرين.
وللكلام هنا مجالٌ أوسع من هذا، والمقصود إنّما هو التنبيه على أنّ سيبويه غيرُ صريح في مخالفة الجماعة، وإنْ كان له ظهورٌ فيها، والناس في يختلفون؛ فلأجل هذا الخلاف قال الناظم:((فالرفع التزمه أبدًا)) فأكّدّ، وقرّر أنّه غير مرتضٍ لذلك الظاهر؛ وذلك لبُعْدِه عن كلام العرب، وبُعد تأويله، ولكنّ الذي تحصل من الجميع/ أنّ ما أكّدهُ الناظم من الحكم صحيحٌ عند الجميع غير ظاهر سيبوي.
والثاني من موضعي وجوب الرفع: أنْ يفصلَ بين الاسم السابق والفعل المشغول عنه ما يمنع من عمله فيه لو لم يشتغل عنه، وذلك قوله:((كذا إذا الفعل تلا ما لن يرد)) إلى آخره يعني: أنّه يجب رفعُ السابق أيضًا إذا وقع الفعلُ بعد أداةٍ لا يكون ما قبلها معمولَ ما بعدَها، فقوله:((كذا إذا الفعل تلا)) أي تبع، وما واقعة على الأداة الفاصلة بين السابق والفعل، وهي موصولة صلتها لن يرد إلى آخره، وما الثانية فاعلةٌ بيَردِ، وقبلَه صلتها، وما الثالثة مضافٌ إليها معمول، وهي واقعة على الفعل المشغول وما حلّ محلّه وصلتها (وُجِد) ، و (بعد) متعلّق بوُجِد، والتقدير: كذا إذا تلا الفعلُ المشغولُ حرفًا لن يرِد الاسمُ الذي قبله معمولًا للفعل الذي وُجدَ بعده. ولهذا الموضع أمثلة كثيرة نكتفي منها بعشرة: أحدها: أن يَفْصِل بين الفعل والاسم السابق ما التعجبيّة، نحو: زيدٌ ما أحْسَنَهُ، فإنّ (ما) هنا لها صَدْرُ الكلام، فلو فُرِضَ جواُ تقدّم معمول الفعل عليه لمنعته ما.
والثاني: أن يفصل اسمٌ موصول، نحو: زيد الذي ضربتُه، فلا يجوز نصبُ زيد؛ لأنّ معمول الصلّة لا يتقدّم على الموصول، وكذلك زيد أنا الضارِبُه.
والثال: الحرف الموصول كقولهم: أَذَكرٌ أنْ تَلِدَهُ ناقتُك أحبّ إليك أم أنثى؟ فَذَكرٌ يجب رفعُه؛ لأنّ المشغول عنه في صلة أنْ، ولا يتقدّم معمولُ
الصلة على الموصول.
والرابع: أنْ يكون الفاصلُ اسمًا مضافًا إلى الفعلِ، نحو: زيد حين ألقاه يُسَرُّ، فلا يصحّ أنْ يعمل ألقاه في زيد؛ لأنّه يصير كالجزء من الجملة المضاف إليها الظرف، وجزء من المضاف إليه لا يَتَقدّمُ على المضاف، فلا يفسّر مقدّرًا قبل المضاف، إذ لا يفسّر إلّا ما يصحُّ أنْ يعملَ. ويجري مجْرى هذا سائر الظروف إذا أضيفت إلى الجملة، كما أنّه يجري مجرى أنْ ما كان نَحْوَها، ومجرى الذي ما كان نَحْوَها.
والخامس: أنْ يقع الفصل بأداة شرطٍ، نحو: زيدٌ إنْ تضرِبْهُ يضرِبْكَ، وزيدٌ متى تكرِمْهُ يكرِمكَ، فلا يجوز نصبُ زيد، لأنّه لا يصح عمل الفعل فيه لمكان أداة الشرط؛ إذ لها صَدْرُ الكلام.
والسادس: أدوات الاستفهام، نحو: زيدٌ هل رأيْتَه؟ وعمروٌ متى لقيتَه؟ وبكرٌ كمْ مرةً لقيتَه؟ وما أشبه ذلك، فلا يجوز النصب هنا؛ لأنّ أدوات الاستفهام لا يصح عملُ الفعل بعدَها فيما قبلها، فلا يُفَسَّر عاملًا فيه.
والسابع: كم الخبرية نحو: زيدٌ كمْ مرةٍ لقيتَه؟ ، وفيها ما في الاستفهامية.
والثامن: أداةُ التحضيض أو العَرْض نحو: زيدٌ هلّا أكرمتَه، وعمرو ألَا ضربتَه، وما أشبه ذلك؛ وإنّما لزِمَ الرفعُ للمعنى الذي في الاستفهام، والشرط.
والتاسع: أداةُ الاستثناء نحو: ما زيدٌ إلّا يضرِبُه عمروٌ، فلا يكون في زيدٍ إلّا الرفع، لأنّ إلّا لا يعملُ ما بعدَها فيما قبلها.
والعاشر: المعلّق إذا وقع الفصل به، نحو: ما، ولام الابتداء، والقسم، فتقول: زيدٌ ما ضربَهُ عمروٌ، وزيدٌ ليكرمُهُ عمروٌ، وزيدٌ لَيُكْرِمَنَّهُ أخوك.
فليس في زيدٍ في هذه المثُل إلّا الرفعُ؛ إذ لا يعمل ما بعد هذه/ الأدوات فيما قبلها، فلا يُفَسّرُ عاملًا. والحاصل أنّ كلّ ما يمنع أنْ يعملَ ما بعده فيما قبله إذا فَصَلَ بين الفعل والاسم السابق لم يكن في الاسم السابق معها إلّا الرفعُ بالابتداء.
واختِيرَ نصْبٌ قبلَ فعلٍ ذي طَلَبْ
…
وبعدما إيلاؤه الفعلَ غَلَبْ
وبعد عاطفٍ بلا فصلٍ على
…
معمولِ فعلٍ مستقرٌّ أوَّلا
هذا هو القسم الثالث: وهو الذي يُخْتارُ فيه نصب الاسم اليابق وعيّن له بثلاثة مواضع:
أحدهما: أنْ يكونَ الفعلُ المفسِّر طلبيًا، وهو قوله:((قبلَ فعلٍ ذي طلب)) يعني أنْ يكون الاسمُ قبلَ فعل فيه طلبٌ أو معه ما يقتضي الطلب؛ إذ لم يقيّد الطلبَ بكونه بأداة أو بغير أداة، ولا هل هو أمر، أو نهي، أو غير ذلك، فاشتمل من حيث الإطلاق على جملة ذلك. والطلبُ أيضًا يكون أمرًا، ونهيًا، ويكون دعاءً، وجميع ذلك يُختارُ معه النصب كما قال، ومثال ذلك: زيدًا اضرِبْه، وعمرًا امرُرْ به، وخالدًا أضربْ أباه، وزيدًا اشتر له ثوبًا، وكذلك مع أمّا، نحو: أمّا زيدًا فاضربه، وأمّا عمرًا فامرر به، ومن ذلك الطلب المستفاد من الأدوات الداخلةِ على الفعل، نحو: زيدًا لتضْرِبْهُ ، وعمرًا لتُكرِمْ أباه، وبكرًا لا تضربْهُ، وزيدًا ليَضْرِبْهُ عمروٌ، وخالدًا لا يقتلْ أخاه زيدٌ، فكلّ هذا الوجه فيه النّصب، ويجوز الرفع، ولكنّه مرجوحٌ، فتقول: زيدٌ أضربه، وعمروٌ امرر به وخالدٌ أضرب أباه، وكذلك سائر المسائل. وممّا يدخل في هذا النمط الدعاء كقولك: زيدًا غفر الله له، وزيدًا أكرمَهُ الله، واللهم زيدًا فاغفر له، وزيدًا فأصلِح شأنه، وعمرًا ليجزِه اللهُ خيرًا،
وأنشد سيبويه لأبي الأسود الدؤلي:
أميرانِ كانا آخَيَاني كلاهما
…
فكُلّا جزاه اللهُ عني بما فَعَلْ
فهذا يُختارُ فيه النصب أيضًا. ويجوز الرفعُ، فتقول: زيدٌ أكرمَه الله، وزيدٌ غفر اللهُ له واللهُمّ زيدٌ فاغفر له، وما أشبهه. وإنما اختير النصبُ هنا؛ لأنّ الطلبَ إنّما يكونُ بالفعل فهو يطلبه فكان الأولى حمْلَ الكلام عليه، وتركَ الحمل على الابتداء.
والثاني من مواضع اختيار النصب أنْ يقعَ الاسمُ السابقُ بعد أداةٍ يغلب ولايتها للفعل وذلك قوله: ((وبعدما إيلاؤه الفعل غَلضب)) فقوله (وبعدَ) معطوفة على (قبْلَ) والتقدير: اختير نَصْبٌ بعد ما إيلاؤه الفعلَ غَلَبَ، وما واقعةٌ على الأداة، والإيلاء مصدر أوليته كذا: إذا جعلته يليه، كأنّه قال: وبَعْدَ الأداة التي غَلَبَ عليها أن يَليهَا الفعلُ، فمن ذلك همزة الاستفهام، ونحو: أزيدًا ضربته؛ النصب أولى لأنّ الاستفهام يطلب بالفعل، ويجوز الرفع فتقول: أزيدٌ ضربتَه. وإنّما خالفتِ الهمزةُ ساءر أدوات الاستفهام لأنها أمّ الباب، فوقع التّصرف فيها بخلاف غيرها، فجاز فيها ما لم يجز في غيرها، ونظيرها (إنْ) من بين سائر أدوات الشرط. ومن النّصب بها قولُ جرير أنشده سيبويه:
أثعلبةَ الفوارسِ أم رياحًا
…
عَدَلْتَ بهم طُهَيّةَ والخِشَابا
/ ومن ذلك ما، من حروف النفي شبّهوهما بحروف الاستفهام في أنّ الكلامَ معهما غير واجب، فاختير معهما النصب، نحو: ما زيدًا ضربتَه، ولا عمرًا كلّمتَه، وأنشد سيبويه لهُدبة بن خَشرم:
فلا ذا جلالٍ هِبْنَهُ لجلَا لِهِ
…
ولا ذا ضَيَاعٍ هُنَّ يَتْرُكْنَ للفَقرِ
وأنشدَ أيضًا لزُهير بن أبي سلمى:
لا الدّارَ غيّرَها بَعدِي الأنيسُ ولا
…
بالدار لو كلّمت ذا حاجةٍ صَمَمُ
وقال جرير:
فلا حَسَبًا فَخَرْتَ به لِتَيمٍ
…
ولا جَدَّا إذا ازدحم الجُدودُ
وإنّما مَثّلتُ هنا بما ولا اتِّباعًا لرأيه فيهما، إذ جعلهما في التسهيل وشرحه ممّا يُختارُ معه النصب، وهو مذهبٌ لبعض النحويين. وبعضُهم جعل الوجهين
متقاربين أو متساويين، وإليه مال ابنُ أبي الربيع، وقال: إنّه الظاهرُ من كلام سيبويه. وكلام سيبويه مُحتَمِلٌ؛ إذ قال: ((وإن شئت رفعت- يعني بعد ما ولا- والرفع فيه أقوى- يعني منه في الاستفهام- لأنّهن نَفْيّ واجبٍ يثبتدا بعدهن، ويبنى على المبتدأ بعدهن، ولم يبلغن أنْ يَكُنَّ مثلَ ما شُبِّهْنَ به)). فهذا الكلام محتملٌ لأن يكون موافقًا لرأي المؤلف؛ إذ لا يلزم من كون الرفع أقوى هنا منه مع الاستفهام أنْ يكون مساويًا للنصب، كما يَحْتَمِل ما قال ابنُ أبي ربيع. وما ذهب إليه في شرح التسهيل قد يظهر منه هنا؛ إذ لو كان رأيُه هنا مخالفًا لنبّه عليه في القسم الرابع، ولم يفعل، فليس عنده منه، ولا من الخامس الذي يرجح به الرفع؛ لأنّه لا قائل به فما أعلم إلّا ابنُ الطراوة تأويلًا على سيبويه أنّه يريد: والرفع أقوى من النصب، ثم رجع عن ذلك آخرًا، فبعيدٌ أنْ يذهب إليه الناظم هنا، فلم يبقَ إلّا أنّه من هذا القسم عنده. وبمنزلة ما ولا في هذا الحكم إنِ النافية، نحو: إنْ زيدًا ضربتَه، وإنْ زيدٌ ضربته.
واعلم أنّي إنّما أمثّل هذه الأمور التي لم يُعيّن التمثيل بها جريًا على ما أعرفه من مذهبه في غير هذا النظم، أو على رأي البصريين الراجع هو إليهم في أكثر مسائل الرفع الواجب. فإن الخلاف فيها موجود، ولم أذكره حينَ لم يظهر من الناظم إشارة إليه، ألا ترى إلى قوله:((وإن تلا السابقُ ما بالابتداء يختص)) إلى
آخر الفصل لم يعيّن فيه شيئًا بل أحال على ما ثبتَ له ذلك الحكم من الأدوات، فذلك الحكم قد يكون ثابتًا باتفاقٍ، وقد يكون ثابتًا باختلاف، كالفصل بأنِ المصدرية، وما النافية فإنّ الكوفيين لا يوجبون الرفع في الاسم السابق، وكذلك غيرهما من المسائل المختلف فيها؛ فلذلك وقع التمثيل فيها، وفي سائر ما تقدّم على رأي أهل البصرة.
والثالث من مواضع اختيار النصب: أنْ يُعْطَف الاسمُ السابقُ على اسم عَمِلَ فيه فعلٌ متقدّم، وذلك قوله:((وبعد عاطفٍ بلا فصلٍ على معمولِ فِعْلِ)) إلى آخره، يعني أنّ النصب اختير أيضًا في الاسم السابق على جملة الاشتغال إذا كان معطوفًا على معمول لفعل هو سابقٌ في الجملة الأولى، ومثال ذلك: ضربتُ زيدًا، وعمرًا أكرمتُه، وأكرمت أخاك وزيدًا ضربتُ أباه، ورأيتُ زيدًا/ وعمرًا مررتُ به، فمعمول الفعل هو زيد والأخ والعامل فيهما هو الفعل المستقّر أولًا في الجملة الأولى، وتحرّز بقوله:((مستقر أوّلا)) من الجملة التي هي اسميةٌ الصدر فعليّة العَجُز، نحو: زيدٌ ضربته وعمرًا كلّمته، فإنّ الفعل في الجملة الأولى ليس مستقرّا أوّلًا، ولها حكمٌ آخرُ سيذكره، وكذلك يدخل له في قوله:((معمول فعل)) المعمول المرفوع كما يدخل المنصوب، نحو: جاء زيدٌ وعمرًا كلّمته، وذهب أخوك وعمرًا مررتُ به، وما أشبه ذلك فكل هذا يُختارُ في النصبُ في الاسم السابق على جملة الاشتغال، ووجهُ ذلك طَلَبُ المشاكلة بين الجملتين؛ لأنّه إذا انتصب السابقُ أو ارتقع بالفعل صارت الجملةُ فعليّة، فشاكلت الجملة الأولى، وهي فعليّة، فحَصَلُ عطفُ جملةٍ فعليّة على جملة فعليّة، ولو ارتفع الاسم على الابتداء لكان من عَطْفِ جملةٍ اسميّة على جملة فعليّة فانتفت المشاكلة، وهي مختارة في كلام العرب، فكان النصبُ مختارًا، ويجوز الرفع، وإنْ كان مرجوحًا، فتقول: جاء زيدٌ وعمروٌ كلّمتُه، ورأيتُ زيدًا وعمروٌ ضربتُه. وممّا
جاء في السماع من النصب قول الله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يشاءُ في رَحْمَتِهِ والظّالِمينَ أعَدَّ لهم عذابًا أليمًا} ، وقوله تعالى:{وعادًا وثمود وأصحابَ الرّسِ وقُرونًا بين ذلك كثيرًا، وكلًّا ضَربْنَا له الأمْثال} ، وقال تعالى:{فَريقًا هَدَى وفَريقًا حقَّ عليهم الضَّلَالَةُ} وهو كثير، ومنه في الشعر قول الربيع:
أصبحتُ لا أحملُ السلاحَ ولا
…
أملِكُ رأسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
والذئبَ أخشاه إنْ مررتُ به
…
وحْدي وأخشى الرياحَ والمطَرا
وهذا الحكم غيرُ مُختّص بالواو وحدَها، بل يجري في غيرها من حروف العطف، ولذلك لم يقيّد عاطفًا بالذكر دونَ عاطف بل قال:((وبعد عاطفٍ)) ، فتقول: رأيتُ زيدًا ثمَّ عمرًا مررتُ به، ورأيتُ زيدًا أو عمرًا أكرمتُ أخاه، وكذلك ما جرى منها عاطفًا في بعض الأحوال، نحو: لقيتُ القومَ حتى زيدًا لقيتُه، وما رايتُ زيدًا لكنْ عمرًا رأيتُ أباه، وما أكرمتُ عمرًا بل بشرًا أكرمتُه، كلُّ هذا حكمُه حكمث الواو، وتحرّزَ بقوله:((بلا فصل)) ممّا إذا فَصَل بين العاطف والمعطوف ما يصيّره في حكم نفسه، وذلك أمّا عمروٌ فلم أره، وجاءني زيدٌ وأمّا عبدالله فأكرمتُه، ولا يُختارُ النصب ههنا بل يكونُ حكمه في لنصب كحكمِه لو لم يُعطف على شيء، فتقول: رأيت زيدًا
وأما عمرًا فلم أره، على حجّ ما تقول: عمرًا لم أره، هذا ما لم يَعرِضُ له ما يوجبُ اختيارَ غيرِ ذلك، فيكون له حكمه، فالمقصود أنّ المشاكلة في العطف غيرُ معتبره مع أمّا. وفي حكم أمّا (إذا) التي للمفاجأة إذا قلتَ: رأيتُ عبدَالله وإذا زيدٌ يضربهُ عمرو، ومررتُ بزيدٍ وإذا عمروٌ يكرمُه بكر، وما أشبه ذلك، فإذا من أدوات الابتداء، وهي تقطع/ ما بعدها عمّا قبلها، فلا تُطْلبُ المشاكلة بينهما كأمّا، ولكن يبقى النظر في حكم الاسم السابق بعدَها، وقد تقدّم. وكذلك (إنّما) نصّ بعضهم أنّها في حكم الفصل كأما.
وفي كلام الناظم هنا نظرٌ من وجهين: أحدُهما: أنّ الناس يُعبّرونَ عن هذا بأنْ تكون جملةُ الاشتغال معطوفةٌ على جملة فعليّة؛ وذلك لأنّ المسألةَ من باب عظف الجمل لا من باب عطف المفردات، والناظم عكس الأمر فجعلها من باب عطف المفردات، ألا ترى أنّه قال:((وبَعد عاطفٍ بلا فصل عل معمول فعل)) فجعل المعطوف عليه هو معمولَ الفعل، والمعطوف لم يذكره ولكنّه مفهوم من قوّة كلامه أنّه الاسم السابق؛ إذ لا يصح أن يكون الجملة حسب ما يأتي في بابه إن شاء الله، فبَقِيَ ظاهرُ الكلام على أنّه من عَطْفِ المفردات، وذلك غيرُ صحيح؛ لأنّ ما بعد العاطف راجعٌ على حكم فعله المقدّر إن كان منصوبًا أو إلى حكم الابتداء إن كان مرفوعًا، وليس راجعًا إلى حكم الفعل الأول باتفاقٍ، فثيت أنّ العطفَ هنا عطفُ الجمل لا عطف المفردات.
فإن قيل: إنّه أتى بعبارةٍ مجازيّةٍ لمّا كان الثاني منصوبًا كالأول فاعتبر صورةَ اللفظ، وإن كان الأمرُ في الحقيق بخلاف ذلك.
فالجواب: أنّ هذا قد كان يمشي عُذرًا على ضَعْفِه لو كان ما قبل العاطف يلزمه النصبُ في فرض المسألة، أو كان ما بعده يلزمه النصبُ أيضًا، فكيف
وأنت تقول: قام زيدٌ وعمرًا أكرمتُه، فيختار النصب كما يختار في قولك: ضربتُ زيدًا وعمرًا أكرمتُه، وكذلك تقول: رأبتُ زيدًا وعمروٌ جاءني، قتحملُه على الفعل في الوجه المختار، وخصوصًا على طريقته في: زيدٌ قام، وأيضًا فإنَّ قوله: ((مستقر أوّلًا، إمّا أنْ يكونَ نَعْتًا لفعلٍ، وعليه شرْحُ كلامه، وإمّا أنْ يكون نعتًا لمعمول، فيدخل تحته: زيدًا ضربتُ وعمرًا كلمته، ونحو ذلك. وعلى كلا التقديرين فالكلامُ قاصرٌ، أمّا على الأول فيخرج عنه: زيدًا ضربتُ وعمرًا كلمته، ونحوه، وأمّا على الثاني فيخرج عنه: ضربتُ زيدًا وعمرًا كلمتُه، ونحو ذلك، والحكم في الضّرينِ واحدٌ في اختيار النصب. فهذه عبارةٌ مشكِلةٌ، فلو قال مثلًا عوضَ ذلك:
وبعد عاطفٍ بلا فصلٍ على
…
جملةِ فعلٍ استقلتْ أوّلًا
أو ما يعطي هذا المعنى لاستقام الكلامُ، وكان كعبارته في التسهيل:((أوولي كذا وكذا أو عاطفًا على جملة فعليةٍ تحقيقًا أوو تشبيهًا)).
والثاني: أنّه ذكر لاختيار النصب ثلاثة مواضع، فاقتضى أنْ ليس ثمّ موضع آخر يُختار فيه النصب، وليس كذلك فإنّه قد ذكر في التسهيل زيادة على ما ذكر هنا ثلاثةَ مواضعٍ:
أحدُها: أنْ يُجاب به استفهامٌ بمفعولِ ما يليه أو بمضاف إليه مفعولُ ما يليع كقولك: زيدًا ضربتُه في جواب منقال: أيّهم ضربتَ؟ ، فقولك: زيدّا ضربتُه قد أُجيب به الاستفهام في قولك: أّهم ضربتَ؟ وأيّهم مفعول ضربتَ، وهو الذي يلي زيدًا في قولك: زيدًا ضربتُه، وهو المستفهم به. وقد نصّ سيبويه على هذا الموضع، وكذلك المضاف إلى المستفهم به في قولك: ثوبَ زيدٍ لبسته،
جوابًا لمن قال: ثوبَ أيّهم لبستَ./
والثاني: أنْ يلي الاسم السابق (حيثُ) من ظروف المكان نحو قولك: حيث زيدًا يكرمُك، فزيدٌ ههنا يُختارُ نصبه، قال سيبويه:((وممّا يُقبح بعده ابتداءُ الأسماء، ويكون الفعلُ بعده إذا أوقعتَ الفعلَ على شيء من سببه نصبًا في القياس إذا وحيثُ تقول: ((إذا عبدُالله تلقاه فأكرِمْه، وحيثُ زيدًا تجدُه فأكرِمه)) ثم قال: ((والرفع بعدهما جائزٌ لأنك قد تبتدئ الأسماء بعدها فتقول: اجلس حيثُ عبدالله جالس)) فذكر سيبويه حيث كما ترى، وزاد معها إذا، ولم يزده ابنُ مالك لِما فيها من النزاع؛ إذ قد خولف سيبويه في جعل (إذا) من مرجحات النصب؛ إذ هي مثل (إنْ) غيرَ أنْ لا عمل لها.
وأيضًا فإنّ ذلك الكلام مختلفٌ فيه هل هو من طُرَر الأخفش المدرجة أم لا؟ فلما كان الأكرُ كذلك اقتصر على ما اتُفق عليه، وهو حيث وترك ما اختلف فيه. والناظم ترك ذلك.
والثالث: أن يكون الرفع موهمًا لزصف مُخلٍّ، قال في الشرح:((ومن مرجحات النصب أنْ يكون مخلِّصًا من إيهام غير الصواب، والرفعُ بخلاف ذلك، كقوله تعالى: {إنّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} فنَصَبُ (كلّ شيء) رفعٌ لتوهّم كون (خلقناه) صفةً؛ إذ لو كان صفةً لم يفسّر ناصبًا لما قبله. وإذا لم يكن صفةً كان خبرًا فيلزم عمومُ خلق الظاشياء بقَدَر خيرًا كانت أو شرًا. وهذا قول أهل السنة)). قال: ((ولو قُرِئ (كلّ شيء) بالرفع لاحتَملَ أنْ يكونَ
(خلقناه) صفةٌ محضةً، وأنْ يكونَ خبرًا، فكان النصب لرفعه احتمال غيرِ الصواب أولى)). فهذه مواضع كان من حقّه التنبيه عليها هنا.
فإنْ قيل: لا يلزم من نَصَبَ نفسه لنقل بعض المهمات أنْ ينقَل جميعَها وإلّا لَزِمه أنْ يأتي بجميع مسائل المطولات، والتسهيل على استيفائه لا يفي بهذا الطلب، فإنما أتى ببعض المسائل وترك بعضًا، كما أتى ببعض الفصول، وترك بعضًا. ولم يُعتَب عليه بسبب ذلك. فهذا أولى.
فالجواب: أنّ عدمَ الاستيفاء لا يلزمه في هذا المختصر إلّا إذا كان موقِعًا شُبْهة أو موهمًا غيرَ الصواب، وههنا الأمر كذلك، وذلك أنّ مسائل الاشتغال محصورة في الأقسام الخمسة، وقد قال في آخرها:((والرفع في غير الذي مرّ رَجَحَ)) فاقتضى أنّ ما سكت عنه يَرْجُحُ فيه الرفع فيها أرجح، وذلك غيرُ صحيح حسب ما ذكره هو وغيره، فالاعتراض عليه لازمٌ وإن اختصر.
والجواب عن الأول: أنّ حقيقةَ المشاكلة هي المطلوبة في هذا الضرب ليعتدل اللّفظ خاصةً، وليس المراد حقيقة التشريك بين الجمل في جميع أحكامها، فممّا يُعتَبَرُ من المشاكلةِ مشاكلةُ المفردات إن كانت، فإنّ: ضربتُ زيدًا وعمرًا لقيتُه أتَمُّ مشاكلةً عندهم من قولك: قام زيدٌ وعمرًا لقيتُه مع أنّ الجميعَ يُختارُ فيه الحَملُ على الفعل. والمشاكلة أيضًا هنا بين المفردات حاصلةٌ من حيث كانا معًا معمولين للفعل وإن اختلفا في الرفع/ والنصب. وقد اعتبر سيبويه مشاكلة المفردات، فقال في باب العطف على الجملة ذات الوجهين: ((هذا بابٌ يُحملُ فيه الاسم على اسمٍ بُنيَ عليه الفعلُ مرةً ويُحملُ مرةً على اسمٍ
مبنيّ على الفعلِ أيّ ذلك فعلتَ جاز)). فهذه العبارة يظهرُ منها أنّ المسألة من إلّا مشاكلة اللفظين خاصةً، وأمّا العطفُ على حقيقته فلم يرده -أعني عطفَ المفردات- بدليل أنّه بيّن آخر البابِ أنّ المُراعى هو الفعل خاصةً، لكنّه أتى بتلك العبارة حِرْصًا على بيان المراد من طَلَبِ المشاكلة، فكأنّ الناظم -رحمة$ الله- قَصَدَ هذا المعنى، فأطلق عبارة لفظ المفردات ومرادهُ غيرُ ذلك، واتّكل في فهم ذلك على المساق، وعند ذلك لا يلزمُ أنْ يكونَ ذلك في المنصوب خاصّة؛ لأنّ الفعل هو المراعى؛ ولذلك قال:((على معمول فعل)) ولم يقل: ((على منصوب فعل))؛ وأمّا قوله: ((مستقّر أو لا)) فيحتمل الوجهين المذكورين، والاقتصارُ على أحدِهما مخِلٌّ فيُحملُ على تعميم اللفظ المشترك، وأنّ مرادَه الوجهانِ معًا، ويكون ذلك مجازًا في العبارة وإذ ذاك يدخلُ له نحو: زيدًا ضربتُه وعمرًا كلّمته، فإنّ زيدًا إذا حُملَ على الفعل -وهو المرجوح- كان حَملُ عمرو إذ ذاك على الفعل أول للمشاكلة، وكذلك: أزيدًا ضربتَه، وعمرًا كلّمتَه؟ ، ونحو ذلك، لأنّ الجملةَ الأولى فعليّة.
والجواب عن الثاني: أمّا الموضع الأولُ، فالظاهر ورودُه، إلّا أنْ يُقالَ: إنّه في الاستعمال قليلٌ، فلم يعتنِ به اعتناءَه بالمواضع الشهيرة. وأمّا الثاني فإنّ حيثُ وإذا داخلتان له معًا في قوله:((وبعد ما إيلاؤه الفعلَ غَلَب))؛ لأنّ كلامَ سيبويه يقتضي ذلك فيهما، وقد جَعَلَهُما سيبويه في باب ما يُنْصَبُ في الألف، أمّا حيث فما قال فيه صحيحٌ فإنّك إذا قلت: حيثُ زيدٌ تلقاه يكرمكَ، فالأحسن
أنْ يلي الفعلُ الظرفَ، فتقول: حيثُ تلقى زيدًا يُكرِمُك، فإنْ قدّمتَ الاسم وشغلت الفعلَ، فالأولى النصب؛ ليكونَ واليًا للفعل في التقدير، ويجوز الرفع - وهو مرجوح؛ لأنّ حيثُ إذا وقع بعدها الفعلُ طلبه ليُضافَ إليه مباشرةً. وإنّما جاز الرفع من حيثُ جاز وقوع المبتدأ والخبر بعده، نحو: حيثُ زيدٌ جالسٌ، وأمّا (إذا) فظاهرُ سيبويه إجراؤها مُجرى حيثُ، وقد خثولف في ذلك فإنّ (إذا) مع الاسم مثل (إنْ) لا يجوزُ فيه إلّا الحملُ على الفعل، قال السيرافي، ويُقوّيه في إذا امتناع: اجلس إذا عبدُالله جالسٌ، بخلاف حيثُ)) وقد احتجّ عن سيبويه بالفرقِ بين إذا وإنْ، وهو العمل وتركه وإنْ اجتمعا في معنى المجازة$ كما أنّ لو فيها معنى المجازاة، ومع ذلك تقول: لو أنّك قائمٌ، فيكون أنّ في موضع مبتدأ، والفعل الذي بعد أنّ يُصحّح لها معنى المجازاة، وعلى الجملة إذا فرضنا أنّ الناظم رأى في إذا هذا الرأيَ فقد دخلت مع حيثُ من حيثُ دخلتْ همزةُ الاستفهام، وما، وغير ذلك. وإنْ كان رأيه في إذا رأي الآخرين- وهو الظاهر منه في باب الإضافة- فلا يكون داخلًا له في كلامه هنا/ ويدخل له حيثُ بلا شكّ فلا اعتراض به.
وأمّا الموضع الثالث فهو ممّا انفرد بإدخاله هنا من أجلِ أنّ جماعةَ القرّاء اختاروا في الآية قراءة النصب، ووجّه لهم ذلك برفع ذلك الإبهام المحذور، لا أنّه كذلك في كلام العرب، وأنّ العربَ تختارُ مثلَ ذلك برفع ذلك الإبهام؛ لأنّ القرآن وكلام العرب قد يأتي على الإبهام وعدم البيان لمقاصدِ معروفةٍ في علم البيان، فلم يستقرّ هذا الذي اعتمده ابنُ مالك مرجّحًا للحَمْلَ على الفعل؛ إذ
لم يطّرد ذلك في كلّ موهم، أو في أكثر المواضع الموهمة، ولا دلّ على اعتباره دليلٌ عربيٌ، وكلامث سيبويه ظاهرٌ في أنّ النصبَ ليس براجح؛ ولذلك اعتذر بأنّ القراءةَ سُنّةٌ، ولا دليلَ في قول السيرافي على اختيار النصبِ، فانظر فيه. فالحقُ إسقاطُ ذلك، وهو الذي فعل الناظم.
وإن تلا المعطوفُ فعلًا مُخْبرًا
…
به عن اسمِ فاعْطِفَنْ مُخَيّرًا
هذا هو القسم الرابعُ: وهو: ما يتساوى فيه الرفعُ والنصبُ، فلا يُختارُ أحدهما على الآخر، وهو إذا عطفتَ جملةَ الاشتغال على جملةٍ اسميّة الصدر فِعليّة العجُز، وهي الجملة ُ ذات وجهين، فيريد أنّ المعطوفَ إذا تلا فعلًا وقعَ خَبَرًا لاسمٍ مبتدأ فأنت في الاسم السابق في جملة الاشتغال مُخيّرٌ، إنْ شئت نصبتَه على إضمار فعل، وإن شئت رفعتَه على الابتداء، وذلك قولك: زيدٌ ضربتُه وعمروٌ كلّمتُه بالرفع إن شئت، وإن شئتَ نصبتَه فقلت: وعمرًا كلّمته، وذلك أنّ الجملة الأولى- وهي المصدّرة بالاسم المخبرِ عنه بفعلٍ- ذات وجهين، فبالنظر إليها جملة واحدة هي اسميّة، وبالنظر إلى بعضها- الذي هو الخبر- برزتْ جملةٌ فعليّةٌ ويسميها في التسهيل اسميّة المصدر فعليّة العجْز، وبعض النحويين يُسمّي الجملة بأسرها الجملة الكبرى، ويسمي الفعل والفاعل منها الجملة الصغرى، فإذا قلتَ: زيدٌ ضربتُه وعمروٌ كلّمتُه، فلك مراعاةُ الجملةِ الكبرى في العطفِ، وهي اسميّةٌ، فيُخْتارُ إذ ذك$ في عمروٍ الابتداء لمشاكلةِ الجملة الكبرى، ويجوز إذ ذاك النصبُ ضعيفًا لعدم المشاكلةِ بذلك الاعتبار، ولك مراعاة الجملة الصغرى، وهي فعليّة، فيُختارُ في عمروٍ النصب لمشاكلة الجملة الصغرى، ويُضْعُفُ إذ ذاك الرفع، فلما كان النصبُ يُختار من وجهٍ،
والرفعُ يُختارُ من وجهٍ آخرَ ترافعا أحكامَ الاختيار فثبتا على التساوي، فلذلك قال:((فاعطفن مُخَيّرًا)) إذ ليس لك انْ تُرَجِّحَ الرفعَ على النصبِ، ولا العكس؛ لأنّ كلَّ وجه من الترجيح معارضٌ بضده في الوجه الآخر. ومما جاء في السماع من ذلك قول الله تعالى:{والنَّجْمُ والشّجرُ يَسْجُدَانِ والسَّماءَ رَفَعَها} فنصب السماء باعتبار يسجدان، ولو اعتبر أوّلَ الجملة لجاء {والسماءُ رفعها} وقد قَرَأ كذلك أبو السمّال، وفي القرآن أيضًا:{والشَّمْسُ تَجْرِي لمُسْتَقرٍّ لها ذلك تقديرُ العزيزِ العليم/ والقَمَرَ قدرناهُ مَنَازِلَ} قرأ الحَرَميَّانِ وأبو عمرو بالرفع في (القمر) ، وباقي السبعة بالنصب، فالرفع على اعتبار {والشمسُ تجري} والنصب على اعتبار {تجري} .
ولم يذكر لاستواء الوجهين إلّا موضعًا واحدًا، وزاد غيرُه بعض المواضع، فمن ذلك ما تقدّم في (ما) ولا- من قول ابن خروف، وابن أبي الربيع ودعواهما على سيبويه أنّه ظاهر كلامه، وليس على الناظم به دركٌ حسب ما مرَّ.
ومن ذلك أنّك إذا قلتَ: أزيدًا مررتَ بأخيه؟ فالرفعُ والنصب ههنا مستويان. نصّ عليه ابن كيسان في الحقائق، ومال إليه بعضُ المتأخرين من جهة ضَعفِ نصب السابق مع السببيّ المخفوض؛ إذ كان: زيدًا ضربتُ أخاه أضعفَ من: زيدًا ضربتُه، وزيدًا مررتُ بأخيه أضعفَ من: زيدًا ضربتُ أخاه، فإذا قد
صار تَعدّي الفعل السببي المخفوض يطلب بالرفع، وهمزة الاستفهام تطلب بالنصب فيترافعان أحكامَ الاختيار فيتساويان، ولهذا وَجهٌ، ولكنَّ ظاهرَ النظم عدمُ اعتبار هذا بالنظر، حيثُ قدّم اختيار النصب مع الهمزة مطلقًا، وأنّ التقاربَ بين: زيدًا ضربتُه، وزيدًا مررتُ بأخيه لا يقوى أنْ يُقابِلَ الاستفهام. والله أعلم. ثم قال:
والرفعُ في غيرِ الذي مرّ رَجَحْ
…
فما أُبيحَ افعل ودَعْ ما لم يُبحْ
هذا هو القسم الخامس وهو: ما الرفعُ فيه المُختارُ. ولم يقيّده بموضع غيرَ أنّه قال: ((في غير الذي مرّ)) يعني أنّ ما عذا ما تقدّم من الأقسام يُختارُ فيه الرفعُ، يعني على الابتداء، نحو: زيدٌ ضربتُه، فالمختار رفعُ زيدٍ على الابتداء، لأنّ الفعلَ قد شُغِلَ بضميره فلا حاجة إلى إضمار ما لا يُحتاجُ إلىه. قال سيبويه:((وإنّما حَسُنَ أنْ يُبْنى الفعلُ على الاسم حيثُ كان مُعملًا في المضمر وشغلتَه به، ولولا ذلك لم يُحْسن)) يعني: ولولا شَغلُكَ إيّاه بالمضمر لم يحسُن رفعُ زيدٍ؛ لأنّ قولَك: زيدٌ ضربتُ مرجوحٌ؛ إذ لم تشغل الفعل بشيء قال: ((وإن شئتَ قلتَ: زيدًا ضربتُه)) يعني على غير الأحسن، وعلى الجملة فكلُّ ما خرج عن تلك الأقسام داخل في هذا القسم.
ثم قال: ((فما أبيحَ أفعل ودَعْ ما لم يُبَحْ)) فظهر من هذا الكلام أنّه زائدٌ بغير فائدة؛ لأنه تقدّم له ما يباح فأباحه، وما لا يُباحُ فمنعه، فتقرّر هذا المعنى مع تكررٍ يأباه نظمُه المبنيُّ على عدم الحشو؛ إذ كان فيه يجتزئُ بأدنى إشارة،
وبالمفهوم، وبالإحالةِ على المثال في فهم القواعد، والموانع، والشروط والشُّحّ بالعبارة حتر يرتكبَ كثيرًا من الحذف الاضطراريّ كما مرّ، ويأتي، فكيف يأتي بشطْرٍ لا معنى له. والعذرُ له: أنّه يَحْتَمِلُ وجهين:
أحدهما: أنّ ما أجيز في هذا القسم وما قبله فجائزٌ التكلّم به، والقياس فيه، وإنْ كان قليلًا، فزيدٌ ضربتُه الوجه فيه الرفع، والنصب مرجوح، ولكنّه مقيسٌ. وكذلك: أزيدٌ ضربتُه الفرع فيه قياس، وإن كان ضعيفًا بالنسبة إلة النصب. ونبّه على ذلك وما في معناه؛ لئلا يُتَوهَّمَ أنّ المختار هو المقيس من تلك الأقسام دون ما ليس بمختار، وأنّ المرجوحَ موقوفٌ على السماع، فرفع/ التوهّمَ بهذا الكلام، وبيّنَ أنَّ ما أُجيز في الاقسام فجائزٌ، وإن كان على قلّةٍو وما مُنِع فهو الممنوع.
والثاني: أنْ يكون قصدُه التنبيهَ على ما تقدّم له في حيثُما؛ إذ كان مثلُه لا يجوز في الكلام، وتقدّم أنّه إنّما قَصَدَ بذكره، وذكرَ ما كان من بابه أنْ يجريَ في الشعر موقوفًا عليه كما تجري إنْ في الكلام، وتَرَكَ بيانَ مواضعِ استعمال ذلك فاستدركه هنا، وذكر أنَّ ما تقدّم من هذه الأقسام إنّما يُقاسُ حيثُ قاسته العربُ، وما لم تقسه فلا يقاس، بل يَخْتصَّ بمحلّه من الشعر إن وُجِد مثلُه أو شاء في القياس الشعريّ وَجُهه. والله أعلم.
ها هنا كلمت له الأقسام المتصورة في باب الاشتغال، ثم أخذ في بيان مسائل تتعلّق بتلك الأقسام، وتجري على حكمها فقال:
وفَصْلُ مَشْغُولٍ بحَرْفِ جَرٍّ
…
أو بإضافةٍ كوَصْلٍ يَجْرِي
يعني أنّ فصلَ المشغول عن العمل في الاسم السابق بالجار والمجرور أو بالاسم ذي الإضافة جارٍ في الحكم المذكور مَجْرَى الفعل الذي لم يُفْصَل بينه وبين غيره بشيء، فالفصل بهذين لا اثَر له في تغيير الحكم، بخلاف الفصل بغيرهما فإنّ له أثرًا، إمّا في منع التفسير، أو في غير ذلك. هذا معناه على الجملة. وأمّا في التفصيل فإنّ الفصلَ بين الفعل المشغول وغيره يُتَصَوّرُ على وجهين:
أحدهما: أنّ يريدَ فصلَ الفعل من الاسم السابق، وأشار إليه أحد الأمرين، وهو حرف الجر، فهو الذي يسوغ أن يُفْصَل به بينهما، ويكونَ ذلك الفصل جائزًا، وأمّا المضاف إليه فلا يُتَصوّر الفصل به بين الفعل والاسم السابق، وإلّا أنْ تجعلَ عِوَض زيد في: زيدًا ضربتُه عبدَالله أو أبا فلان، فتقول: عبدَاللهِ ضربتُه، وعند ذلك تكون قد فصلت بإضافة ، ومثل ذلك لا يُتحرّز منْه، لانّ المضافَ والمضاف إليه، هنا هو الاسم كلّه، كالموصول وصلته، فتعيّنَ أنَّ الفصلَ بالإضافة هنا غيرُ مراد. وتعيّنَ له الجار والمجرور، وهو حرف الجر الذي ذكر، إذ عادته انْ يُطلقَ حرفَ الجر ويريد المجرور معه، ومثال ذلك الفصل: أزيدًا في الدار أكرمتَه، وأزيدًا إلى الدار جئتَ به، وما أشبه ذلك. فالفصل بهذا غيرُ معتدّ به ولا مُغيّر للحكم المذكور قبلَ هذا، ونظيرُه الظرف، كقولك أزيدًا عندَك أنزلتَه، وأزيدًا أمامَك أقعدتَه، وأزيدًا يوم الجمعة ضربتَه، وما أشبه ذلك. ولم يذكره الناظم علمًا بأنّ حكمًه معلومٌ من حكم المجرور؛ إذ هما في هذه الأشياء بمنزلة واحدة. وإنّما سُوّغ الفصلُ بهما، ولم يمنعا من نصب الاسم السابق؛ لأنّ العربَ تَتَّسِعُ في الظروف والمجرورات بالتقديم والتأخير ما لا تتَّسعُ في
غيرها، فالفصل بها كلا فصلٍ، فلو وقع الفصل بغيرها لم ينتصب الاسمُ السابقُ، وإن تقدمه ما يطلب بالفعل، فإذا قلت: ازيدٌ انت تضربُه فزيدٌ لا يُختارُ فيه النصب كما اختير في: ازيدًا تضربه؛ لوقوع الفصل بين الفعل المفسّر وبين الاسم السابق. بل لا يجوز في زيدٍ النصب من باب الاشتغال، لأنّ الفعل / الذي/ يُقدّر ليس له ما يُفسّرهُ، ولا يصح أنْ يفسّره الفعلُ المشغول؛ إذ لا يَصِحُ عمله في الاسم السابق، ومن قاعدتهم ألّا يُفسّرَ إلّا ما يصح أنْ يعملَ، والفعل هنا لا يعمل في الاسم السابق؛ لاجلِ الفصل.
فإن قيل: فأنت تقول: أزيدٌ أنت ضاربُه، فيجوز النصب، ويختار كما يختار إذ لم تَفْصِل، أو إذا فصلتَ بالمجرور، فلم لا تختاره في الفعل والفاصل فيهما واحد؟
فالجواب: أنّ جميعَ الصفات لا بُدّ من بنائها على مبتدأ في هذا الباب فسّرت عاملًا، أو عملت بنفسها، لأنّها لا تقوم بنفسها، ألّا ترى أنّك لا تقول: أزيدًا ضاربُه حتى تقول انا أو أنت بخلاف الفعل، فإنّه مستقلّ غير مُحتاجٍ لغيره، فتقول: أزيدًا تضربه؟ والدليلُ على ذلك جواز: زيدًا أنا ضارب. وامتناع: زيدًا أنا أضْربُ- عند الجمهور، وعلى ذلك مبني مسألتنا.
والوجه الثاني: فصلُ الفعل المشغول من ضمير الاسم الذي اشتغل به الفعل، وإليه أشار الناظم بالإضافة وأراد ما كان مثلَ: أزيدًا ضربتَ أخاه، فكأنّ الأصل، أزيدًا ضربتَ أخاه، فكأنّ الأصل، أزيدًا ضربتَه، ثم فصلت بالمضاف إلى الهاء، وهذه عبارة مجازيّة، والقصد أنْ يكونَ الفعل مشتغلًا بما هو من سبب الأول، فبيّن أنّ هذا النحوَ جارٍ في الحكم مَجْرى قولك: أزيدًا ضربته؟ وأنّ الفصل بالأخِ كلا فصلٍ، وهذا الفصل الذي أشار إليه بالإضافة يتعيّنُ لهذا الوجه، ولا يصح هنا الفصل بحرف
الجر؛ إذ لا يقال: أزيدًا ضربتَ في الدار إيّاه؟ فلو فرضتَ الضمير متصلًا فهو أبعدُ.
فإن قيلَ: بل يصح هذا الفصل بالجار والمجرور في مثل قولك: أزيدًا مررت بأخيه؟ فهذا يصدُقُ عليه إدخالٌ- بين الفعل والضمير، جارٌ ومجرور.
فالجواب: أنّ الأمرَ ليس على ما توهّمتَ؛ إذ الفعلُ لم يطلب الضمير من غير وساطة الباء، فيقع الفصل بالجار والمجرور، وإنّما طلبه بوساطتها، فهي مطلوبة له مع الضمير فلم يحصل الفصل إلّا بالاسم وحده، وذلك من معنى الإضافة، فرجع نظيرَ: أزيدًا ضربتَ أخاه؟ من غير فرق فتعيّن الجار للوجه الأول، والإضافة للثاني، ولا بُدَّ.
وأراد بالإضافة ذا الإضافة، فهو على حذف المضافِ، وذو الإضافة هو المضاف إلى الضمير.
ولابن الناظم في هذا الموضع تفسير آخر، وذلك أنّه جعلَ المشغول هو المشغول عنه، وهو الاسم السابق، كأنّه على تقدري:((وفَصْلُ اسم مشغول عنه الفعل بحرفِ جر أو بإضافةٍ كوَصْلٍ يجري)) ونصُّ ما وجدتُ في شرحه ((يعني: أنْ حكمَ المشغول عنه الفعلُ بضمير جرٍ أو بمضاف إليه حكمُ المشغول عنه الفعل بضمير نصبٍ، فمثل: إنْ زيدًا رأيته، في وجوب النصب: إن زيدًا مررتَ به، أو: رأيتَ أخاه، تنصب المشغول عنه في هذا بفعل مضمر مقاربٍ للظاهر تقديره: جاوزتَ زيدًا مررتَ به، ولابستَ زيدًا رأيتَ أخاه، كما تنصب المشغول عنه في نحو: إنء زيدًا رأيتَ بمثل الظاهر. ومثل: أزيدًا لقيتَه في ترجيح نصبه على
لرفع: أزيدًا/ مررتَ به، أو عرفتَ أباه، ومثل: زيدٌ قام وعمروٌ كلَّمتُه في استواء الأمرين: زيدٌ قام وعمروٌ كَلِفتُ به، أو كلّمتُ غلامه، ومثل: زيدًا ضربتُه- في جواز نصبه مرجوحًا- زيدًا مررتُ به أو ضربتُ غلامَه)) ، هذا ما وجدت فيه، ولا أجزمُ بصحة نصِّه، لعدم الرواية فيه عن مؤلفه، ولكنّه كلامٌ مُشكِلٌ.
أمّا أوّلًا فإنه علّقَ الفصلَ بالاسم السابق، ولم يذكر فيه حكمًا أصلًا، فسّره على معنى أنّ الاسمَ السابقَ لا يتغيّرُ حكمهُ مع شَغْلٍ الفعل بحرف جرٍّ أو إضافة وليس هذا بمطابق للنظم البتةَ، ولا يُنَزَّلُ عليه، لأنَّ معنى النظم أنَّ الفصل بكذا كالوصل.
وأمّا ثانيًا: فإنه مثَّلَ حرف الجر بنحو: زيدًا مررتُ به، وقد ذكره الناظم أولًا في قوله:((بنصب لفظه أو المحَلَّ)) ولا يريد بالمحَلِّ إلّا محلِّ الضمير المجرور بحرف الجر كما تقدّم، فتكون إعادته لذلك تكرارًا من غير فائدة، وأيضًا إنْ كان قصدُه هنا الفصلَ بحرف الجر وحدَه فقد نقصه التنبيه على الفصل بالجار والمجرور معًا بين الفعل والاسم السابق. فيقع الشك للناظر في نحو: زيدًا في الدار ضربتُه، وزيدًا أنت ضربتَه، وما يجوز منه، وما يمتنع. وعلى الجملة فهو كلامٌ لا يَتَحَصَّلُ له معنى يكون شرحًا للبيت فتأمله.
فالصحيح في تفسير كلامه أنّه يريد بحرف الجر: الجار والمجرور معًا، وأنّه يريد الفصل به بين الفعل والاسم السابق، ويريد الفصل بالإضافة بين الفعل وضمير الاسم السابق حسب ما تقدّم. فإن قيل: إنّ فيه بَعدُ دَرَكًا من وجهين:
أحدهما: أنّ ما ذكره من الفصل بالإضافة غيرُ كافٍ، فإنّك تقول: زيدًا ضربتُ راغبًا فيه، وزيدًا مررتُ براغبٍ فيه، وزيدًا أعطيتُ ضاحكًا في وجهه
درهمًا. وزيدًا ضربتُ معتمدًا عليه، وزيدًا أكرمتُ من أكرمه، وما أشبه ذلك ممّا لم يقع الفصلُ فيه بالإضافة، وحكمهُ حكمُ الفصل بها، فيقتضي كلامُ الناظم إنْ أُخِذَ بمفهومه أنَّ مثلَ هذه المسائل لا يكون الفصل فيها كالوصل، وليس كذلك بل الحكمُ واحد.
والثاني: أنَّ إطلاقه القولَ بأنَّ الفصل بالإضافة مثل الوصل يعطي أنّهما على حدّ سواء في مرجوحية النصب أو راجحيّته، وذلك غير صحيح، بل النصب فيما تقدّم على ثلاث مراتب فإذا قلت: زيدًا مررتُ بأخيه فهو أضعف من قولك: زيدًا مررت به، وزيدًا ضربتُ أخاه [وقولك: زيدًا مررتُ به أضعفُ من قولك: زيدًا ضربتُه] ، وأما زيدًا مررتُ به وزيدًا ضربتُ أخاه؛ فهما في رتبة واحدة على ما يظهر من سيبويه؛ ووجه هذا الترتيب أنّ التفسير في: زيدًا ضربتُه من اللفظ، والتفسير في: زيدًا مررتُ به وزيدًا ضربتُ أخاه من المعنى القريب، والتفسير في زيدًا مررتُ بأخيه من المعنى البعيد/ ومتى كان التقديرُ لفظيًا فهو أقوى، وإن كان معنويًا قريبًا فهو أقوى من المعنوي البعيد. ومع ذلك فهو كلام العرب؛ ولأجل هذا الترتيب واعتباره نصّ ابن كيسان على استواء الوجهين في: أزيدًا مررتُ بأخيه، وإذا كان كذلك فجَعْلُ الناظم الفصل وعدمه إذا كان بالإضافة سواء غيرُ صحيح.
والجواب عن الأول: أنّ أكثر المسائل في هذا الباب تدور على ما صوّر، وأما تلك المسائل فقليلة الدورو فلم يلتفت إليها، وأيضًا فإنّها في معنى ما ذكر فيحصل حكمها بالقياس على ما ذكر. والله أعلم.
وعن الثاني: أنّ الاعتراضَ بذلك قريبٌ والمقصود المهم إنّما هو أنّه حيثُ يضعفُ مع الفصل، وحيث يقوي يقوى، وهل هما في رتبة واحدة، أم لا؟ في ذلك نظر يَدِقُّ، ولا تحتماه هذه الصناعة، ولا يظهر له أثرٌ يُنتجُ فائدةً. وبهذا أجاب بعضُ الحُذّاق على نحو هذه المسألة، ثم قال:
وسَوِّ في ذا الباب وصفًا ذا عَمَل
…
بالفعل إنْ لم يَكُ مانعٌ حَصَل
هذا عقدٌ يكُرُّ حكمُه على جميع ما تقدّم من أول الباب إلى هنا، وذلك أنّه تكلّم أولًا في كون المشغول عن المعمول هو الفعل، وعليه فرّع الأقسام، وبيّن الأحكام، فبيّن في هذين البيتين أنّ الوصف جارٍ في هذا الباب مجرى الفعل في الأحكام المذكورة، من تقسيم الاسم السابق إلى خمسة الأقسام المذكورة، وغير ذلك ممّا تقدّم، فحيث يصح أنْ يكونَ الوصف مفسّرًا، وكذلك في ترجيح الرفع على النصب، أو العكس، أو التسوية بينهما، فإذا قلت: أزيدًا أنت ضاربُه، فالنصب فيه كالنصب في: أزيدًا ضربتَه، وإذا قلت: زيدًا أنا ضاربُه، فهو كقولك: زيدًا أضرِبُه، وإذا قلت: زيدٌ ضربتُه، وعمروٌ أنا مكرِمُه، فهو كقولك: زيدٌ ضربتُه وعمرو أكرمته وإذا قلت: زيدٌ هل أنت ضاربُه؟ فهو كقولك: زيدٌ هل ضربتَه؟ وكذلك سائر الأقسام المتقدّمة، والأحكام المتقرّرة، إلّا أنّه شرط في ذلك شرطين: أحدهما: أنْ يكونَ ذلك الوصفُ عاملًا، وهو قوله:((وصفًا ذا عملْ)) ويريد: عمل النصب لفظًا أو محلًّا، وذلك اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال، كقولك: أزيدًا أنت ضاربُه؟ وأزيدًا أنت ضاربٌ أباه؟ وأزيدًا أنت مارٌّ به؟ وأزيدًا أنت ضاربٌ أخاه؟ وأزيدًا
أنت نازلٌ عليه؟ وأزيدًا أنت راغبٌ فيه؟ وأزيدًا أنت مارٌ بأبيه؟ وأمثلة المبالغة كذلك، نحو: أزيدًا انت ضَروبُه؟ والحربَ أنت لبّاسٌ جلالَها؟ والرءوس أنت ضَروبُها؟ والقدَرَ أنت حَذِرَهُ؟ وأزيدًا أنت سميعٌ صوتَه؟ وما أشبه ذلك، وتحرَّز بذلك من الصفة غير العاملة، وكونها لا تعمل؛ إمّا لأنّها اسم فاعل بمعنى الماضي، نحو أزيدٌ/ أنت ضاربُه أمسِ؟ فزيدٌ لا يكون فيه هنا إلّا الرفع على الابتداء؛ إذ لا يفسّر اسمُ الفاعل وهو غير عامل. وإمّا لأنّها صُيّرت اسمًا اعتقادًا من غير التفات إلى معنى الفعل، فتقول: أزيد أنت نازلٌ في داره؟ وأزيدٌ أنت ضاربُه؟ بمعنى: أنت المسمّى بهذا الاسم؟ لم يكن فيه إلّا الرفعُ، قال سيبويه:((ولو قال: آالدار أنت نازل فيها؟ فجعل نازلًا اسمًا فع، كأنّه بمنزلة: أزيد أنت أخوه؟ جاز)) يعني - ولزم الرفع- قال: ((ومثل ذلك في النصب -يعني في إعماله عمل الفعل -أزيدًا أنت محبوس عليه؟ وأزيدًا أنت مكابر)) عليه؟ فإن لم يرد به الفعل. وأراد وجه الاسم رفع)) كذلك أمثلة المبالغة كقولك: أعبدالله أنت رسول له، أو رسوله ولم ترد المبالغة في الفعل، فالرفع لا غير، قال في الكتاب:((لأنك لا تريد أن توقع منه فعلًا عليه، فإنّما هو بمنزلة: أعبدالله أنت عجوزٌ له، وتقول: أعبدالله أنت له عديل، وأعبدالله أنت له جليس، لأنك لا تريد بع مبالغة في الفعل، ولم تقل: مجالس فيكون كفاعل، فإنّما هذا بمنزلة قولك: أزيدٌ أنت وصيفٌ له، أو غلام له)). ومثل ذلك الصفة المشبهة باسم
الفاعل، كقولك: آلوجه أنت حسنه، وأزيدٌ أنت ظريف بسببه؟ لا يكون في ذلك إلا الرفع؛ لأنّه صفة غير عاملة النصب، وما جاء من قولك: حسنٌ وجهًا، فليس بنصب على صحيح التعدّي، وإنّما هو التشبيه كعشرين درهمًا؛ ولأنّ هذه الصفة لا يصحّ عملها فيما قبلها، فلا تفسّر عاملًا، ولأنها قد تُنُوسِيَ فيها معنى الفعل تناسيًا ضعُفت بسببه عن مقامة الفعل حسب ما تبيّن ذلك في بابه. وكذلك أفعل التفضيل ليست بعاملة، فلا تفسّر ناصبًا، فإذا قلت: أزيدٌ أنت أفضل منه؟ وأزيدٌ أنت أكرم عليه، فليس إلّا الرفع، قال سيبويه:((ومما لا يكون في الاستفهام إلا رفعًا: أعبدالله أنت أكرم عليه أم زيدٌ؟ وأعبدالله أنت له أصدق أم بشرٌ؟ كأنّك قلتَ: أعبدالله أنت أخوه أم بشرٌ؟ لأنّ أفعل ليس باسم جرى مجرى الفعل، وإنّما هو بمنزلة حسن وشديد، ونحو ذلك)) ثم أتى بمثل آخر، وحتم الرفع، ولم يجز فيها غيره. فكل ههذا ينتظمه قول الناظم فمفهوم الصفة أنّه لا يجري مع الاسم السابق جريانه مع الفعل، أو مع الصفة العاملة. والحاصل أنّ الصفا الواقعة عوض الفعل في باب الاشتغال إذا لم تكن أسماء فاعلين، أو أسماء مفعولين، أو أمثلة مبالغة عاملة عمل الفعل لم يكن في الاسم السابق إلّا الرفع. ولا تراعي المجرورات التي جاءت مع الصفات غير العاملة، فإنّها وإن كانت في موضع نصب فلا تقوى الصفات أن تعمل في الاسم السابق، فلا تفسّر لعا عاملًا. وقد تكون المجرورات معمولة لغير الصفات.
والشرط/ الثاني: ألا يمنع مانع من إجراء الوصف مجرى الفعل، وذلك قوله:((إن لم يك مانعٌ حصل)). وذلك أنّ الفعل تقدّم له خمسة أقسام:
قسم يلزم نصبه، وهذا القسم لا يتصور مع الوصف، لأنّ وجوب النصب لأمر يختص به الفعل، وذلك (إن) الشرطية مثلًا، فيصح وقوع الاسم بعدها إذا كان بعده فعلٌ، ولا يصح إذا لم يكن بعده فعلٌ، فتقول: إنْ زيدًا أكرمته أكرمك، ولا تقول: إنْ زيدًا أنت مُكرمه أكرمك، لا بالرفع، ولا بالنصب. وكذلك سائر ما يجري مجرى إنْ.
وقسم يلزم رفعه بالابتداء، وهو جاور ههنا من حيث إطلاق القاعدة لا من حيثُ خصوصُ التمثيل، فما التعجبية، وأدوات الشرط لا حظّ للوصف فيها، وله الحظ في الموصول، والحرف الناسخ، فإذا قلت: زيد إنّك ضاربُه، فلا بدّ من الرفع، وكذلك: زيدٌ ليتني لاقيه، وما أشبه ذلك، ومثله إذا قلت: زيدٌ أنا الضاربه، وزيدٌ أنا المكرمُ أخاه، وتقول: زيدٌ ما أنا مكرِمه، وزيدٌ إنْ أنا مكرِم أخاه، وعلى هذا السبيل يجري الحكم في سائر الأمثلة.
وقسم يُختار نصبه، ويجري في الوصف فيما غلب إيلاؤه الفعل، نحو: أزيدًا أنا ضاربُه؟ وأعمرًا أنت مكرمه؟ وما زيدًا أنا ضاربٌ أباه، ولا عمرًا أنت مارٌّ بأخيه، وفي العطف على الجملة الفعليّة، فتقول: قام زيدٌ وعمرًا أنا مكرمُه، وضربتُ زيدًا وعمرًا أنا ضارب أباه، وما أشبه ذلك. وأمّا الطلب فلا حظّ للوصف فيه، فيمتنع تصوير مسألته.
وقسم يختار رفعه، وهو جار في الوصف، نحو: زيدٌ أنا ضاربه، فإنّه في الحكم مثل: أنا ضربته.
وقسم يستوي فيه الأمران وهو متأت هنا، فتقول: زيد ضربته وعمرًا أنا ضاربُه، كما تقول/ وعمرًا ضربتُه، وكذلك الرفع. فتقرّر من ذلك أنّ ما مرّ في الفعل ليس كلّه جاريَا في الوص بل تختَصُّ منه أشياء بالفعل، ولا تكون في الوصف لمانع منع من ذلك، فلذلك قال:((إنْ لم يكُ مانعٌ حَصَل)) يريد: فإن حصلَ مانعٌ فلا تسؤ الوصف مع الفعل لحصول الافتراق بينهما. وقوله: (بالفعل) متعلّق بسوّ، أي: سوّ الوصفَ بالفعل في هذا الباب. و (حَصَل) خبرُ (يكُ) في قوله: ((إن لم يك)). واعلم أنّ الناظم ترك ذكر المصدر العامل في هذا الباب، وإنّما خصّه بالفعل والوصف، والمصدر غير داخل في واحد منهما، بل قد يفهم له أنّه أخرجه عن أن يكون مقسّرًا في هذا الباب، كما يفهم له ذلك في اسم الفعل؛ زيدًا دونك أخاه، وما أشبه ذلك، فكذلك يفهم له أنّه لا يقال: زيدًا سقْيًا له، ونحو ذلك:
والجواب: أنّ دخول المصدر في هذا الباب قد وقع النزاع فيه بين النحويين، فمنهم من منَع من دخوه فيه، واعتلّ على الجملة بضعفِه عن مقاومة الفعل، وبأنّه إذا كان موصولًا يمتنع عمله فيما قبله. ومنهم من فصّل فقال: إن كان موصولًا امتنع أنْ يفسّر، وإن كان غير موصول لم يمتنع، ودخل في الباب،
وعمل فيما قبله إن كان مفرغا. ومنهم من أجاز/ دخوله، وإن لم يصح عمله فيما قبله، وفي كلام سيبويه متعلق لمن أجاز على الجملة، ولكن المسألة بعد ذات شغب في النظر، فكأنه ترك ذكر المصدر لذلك، وأيضا فقد تقدم في عقده الأول ما يفهم منه اشتراط صحة عمل المفسر فيما قبله، والمصدر قد يمتنع ذلك فيه في مواضع، ويشكل جوازه في مواضع، فكان الأولى به السكوت عنه. والله أعلم.
ثم قال:
وعلقة حاصلة بتابع
…
كعلقة بنفس الاسم الواقع
العلقة عبارة عن الضمير العائد على الاسم السابق، وذلك أن الجملة التي بعد الاسم السابق لابد أن يكون فيها ضمير عائد عليه، والأصل أن يكون هو المشتغل به عن العمل في السابق، ثم إن العامل قد يعمل في ملابس ذلك الضمير، وهو الذي ذكر في قوله:"وفصل مشغول بحرف جر أو بإضافة" إلى آخره، وقد ينتقل الحكم من التابع إلى المتبوع، وهو الذي قصد ذكره ها هنا. والحاصل أنه لابد من ضمير يربط الجملة الثانية بالاسم الأول؛ لأن الأصل في ذلك المبتدأ والخبر، ودخل حكم الاشتغال عليه فلذلك لا يجوز أن تقول: ازيدا رأيت عمرا؛ لأنه لا يجوز: زيد رأيت عمرا إلا مع ضمير عائد على الأول، فلذلك الضمير الرابط من حيث كان معلقا للجملة الثانية بالأولى، وبه كان الاتصال والعلاقة سماه علقة من أجل ذلك، وكأن العلقة اسم العلاقة الحاصلة بسبب الضمير، وهو الاتصال بين أول الكلام وآخره، فيريد أن الرابط بين أول
الكلام وآخره- وهو الضمير العائد على الاسم السابق- قد يكون متعلقا بالتابع، كما يكون متعلقا بالمتبوع نفسه، وقد لا يريد بالعلقة الضمير نفسه، ولكن يريد حقيقتها، وهي الارتباط، فيقول: قد يحصل الارتباط بسبب المجيء بالتابع لكون الضمير ملتبسا به كما يحصل بالاسم الواقع لكونه ملتبسا به أيضا، وذلك قولك: أزيدا رأيت رجلا يحبه، فالضمير العائد على زيد ليس إلا الملتبس بالنعت، وكذلك أزيدا لقيت عمرا وأخاه، فهذا يتنزل منزلة قولك أزيدا رأيت محبه، وأزيدا رأيت أخاه. قال سيبويه:"ومما ينتصب أوله لأن آخره ملتبس بالأول قولك: أزيدا ضربت عمرا وأخاه، وأزيدا ضربت رجلا يحبه، وأزيدا ضربت جارتين يحبهما، فإنما نصب الأول- يعني زيدا- لأن الآخر- يعني منصوب الفعل- ملتبس به إذ كان صفته"- يعني لأنك تقول: مررت برجل منطلق رجل يحبه، أو منطلق زيد وأخوه فيصح للتلبس الحاصل في المعنى المتبوع. ونفس الاسم الواقع هو الاسم الذي اشتغل به الفعل عن الاسم السابق، وهو المتبوع في هذا الموضع، كأنه قال: والعلقة الحاصلة بالتابع كالعلقة الحاصلة بالمتبوع، وإنما سماه واقعا من حيث كان واقعا على الضمير وعاملا فيه. وهذا/ عبارة كوفية، حكى الجوهري أن الكوفيين يسمون الفعل المتعدى واقعا، وقد سماه في التسهيل واقعا أيضا، فالاسم الذي اشتغل به الفعل
إذا أضيف إلى الضمير كان عاملا في الجر، سماه واقعا بهذا الاعتبار، ويتحقق هذه المحمل بان يفرض الاسم الذي اشتغل به الفعل واقعا حقيقة، أي متعديا نحو أزيدا ضربت مكرمه، وأزيدا أكرمت محبه، فيقال كما أن العلقة حاصلة بهذا الاسم المتعدي إلى الضمير الرابط من حيث كان معمولا للفعل المشتغل كذلك تحصل بالتابع المتعدي إلى الضمير الرابط من حيث كان في حكم المعمول للفعل لأنه نعت للمعمول له، ألا ترى أن معمول الفعل إذا كان متعديا فهو وصف على تقدير موصوف كأنك قلت: أزيدا ضربت رجلا مكرمه، فقد صارت المسألتان واحدة. ومثل ذلك المعطوف بالواو لأنه والمعطوف عليه ملتبسان بالأول، فإذا قلت: أزيدا رأيت عمرا وأخاه، فهو في تقدير: أزيدا رأيت ملتبسا به، لأن التباس عمرو بما هو من سبب الأول في معنى التباسه بالأول. أو يقال: هو في تقدير: أزيدا رأيت أخاه؛ لأن الأخ يقع في المعنى موقع عمرو حتى كأنك قلت: أزيدا رأيت أخاه وعمرا، على التقديم والتأخير. فقد تبين قصد الناظم بالاسم الواقع، ومعنى كونه واقعا، وأن العلقة بالتابع كالعلقة بغيره.
وهنا سؤال، وهو: أنه أطلق القول أن العلقة إذا حصلت بتابع، أي تابع كان فهو جائز، وليس بصحيح من وجهين:
أحدهما: أن ذلك مختص بالنعت وعطف النسق خاصة حسب ما نص عليه في التسهيل، ولم يذكر سيبويه غيرهما، وظاهر ذا أنه إن حصلت العلقة بعطف بيان، أو بدل، أو توكيد أجزأ. والثاني: أن العطف الذي تحصل العلقة به. له شرطان:
أحدهما: أن يكون بالواو خاصة كما تقدم تمثيله، فإن كان بغير الواو لم يصح، فلا تقول: أزيدا ضربت عمرا ثم أخاه؟ ولا أزيدا عمرًا أو أخاه؟
ولا ما أشبه ذلك، كما لا تقول: أزيدا رأيت عمرا أخاه؟ على العطف البياني، ولا على البدل، ولا أزيدا رأيت عمرا نفسه.
وكذلك لا تقول: أزيدا رأيت عمرا ورأيت أخاه؟ فتعيد العامل. وهذا هو الشرط الثاني: وهو عدم إعادة العامل مع المعطوف. وإذا ثبت هذا كان إطلاقه مشكلا.
والجواب عن الأول: أن يقال: أما التوكيد فعدم دخوله بين؛ إذ العلقة لا تحصل به البتة؛ لأن الضمير المتعلق به عائد على المؤكد أبدا، وألفاظ التوكيد محصورة، وعلى طريقة لا تتعدى، فإنما تحصل صورة المسألة حيث يكون ثم تابع تعلق به ضمير عائد على الاسم السابق، والتوكيد لا يكون فيه ذلك.
وأما عطف البيان فلا نسلم عدم الربط بالضمير المتعلق به، بل يجوز أن تقول: أزيدا رأيت عمرا أخاه؛ إذ عطف البيان كالنعت، وإنما يفترقان في الاشتقاق، وعدمه، فإذا كان جائزا/ في النعت جاز فيما أشبهه، وهو رأي ابن عصفور، فقد يقال: إن عطف البيان مراد للناظم.
وأما البدل فحكى ابن عصفور الخلاف في جريانه في هذا الباب مجرى النعت، وارتضى القول بالمنع محتجا بأن البدل على تقدير تكرار العامل، فصار مثل تكراره نصا. وهذا فيه نظر؛ فإن تقدير تكرار العامل ليس في البدل كاللفظ به، وإنما وتقدير معنوي، ويستوي معه في ذلك العطف؛ إذ هو أيضاً على
تقدير تكرار العامل، ألا ترى أنك تقول: يا عبد الله وزيد، كما تقول يا عبد الله زيد، ومع ذلك فلم يمتنع أن تقول: أزيدا رأيت عمرا وأخاه؟ فكذلك لا يمتنع أن تقول: أزيدا رأيت عمرا أخاه؟ وأيضا فلو كان البدل على تقدير تكرار العامل حقيقة لم يكن من بدل المفرد بل من بدل الجملة من الجملة، وذلك باطل بالاتفاق، وإذا كان كذلك جرى في الحكم مجرى المعطوف، وهو ظاهر إطلاق الناظم، ولا حجة في اختياره لغير ذلك في التسهيل؛ فإنه قد نصب نفسه منصب المجتهدين في العربية، وقد تختلف أقوال المجتهدين كثيرا في المسألة الواحدة بحسب الأوقات والأنظار.
والجواب عن الثاني لا يحضرني الآن. والظاهر لزومه إذا سلم أن ذلك مختص بالعطف بالواو.
وللقائل أن يقول: لا يختص ذلك بالواو أصلا، بل يجوز مع الفاء، وثم، وغيرهما من حروف العطف، لان الكلام كله جملة واحدة، وفيها ضمير الاسم السابق، وإذا كان كذلك جاز في الجميع، وغاية المانع أن يقول إن الفاء، وثم يقتضيان الترتيب وتكرار العامل، وذلك يفيد الاستقلال، فالمعطوف في حكم المستقل، بخلاف الواو فإنها تعطي الجمع، ومعنى مع، وذلك يقتضي عدم الاستقلال، فالمعطوف بها لا يستقل الكلام دونه، ولا يستقل هو بنفسه. هذا ما احتج به ابن عصفور للمنع. ورد عليه بعض المتأخرين بان الفاء، وثم إنما يعطيان أن الثاني بعد الأول، وما بعدهما ليس مستقلا، فاتصال بما قبله، وإلا فيلزمه ألا يجوز في الواو أيضا حيث لا يستقل الأول، نحو أزيد اختصم عمرو وأخوه، ويلزم أيضا ألا يجوز: أزيدا ضربت عمرا وأخاه بعده؟ وما أشبهه مما يتبين به أن المعطوف متأخر، وأيضا ما أبعد ذلك في الفاء مع أنها تصير
الجملتين واحدة فيجوز معها ما لا يجوز مع الواو، فكيف يمتنع معها ما لا يمتنع مع الواو، وأيضا يلزمه ألا يجيز ذلك في أو فلا يجيز: أزيدا ضربت عمرا أو أخاه؛ لأنه قيد العطف بالواو وحدها. وذلك كله فاسد. وهذه المسألة فرع عن باب الابتداء فما جاز في الابتداء جاز فيها؛ لأن أصل الاسم السابق الابتداء. وقد نص المازني وابن السراح وغيرهما على جواز الإخبار عن المعطوف بالفاء، وثم، وأو، وغيرها. فأجازوا في نحو: قام زيد ثم عمرو، الذي قام زيد ثم هو عمرو، ولا فرق بين الموضعين. وقد أجاز ابن عصفور ذلك أيضا في الإخبار، فكيف لا يجيزه هنا؟ وقد يجوز في الاشتغال ما لا يجوز/ في الإخبار، ألا ترى أنه يجوز نحو: أزيدا ضربت أخاه. وضربت عمرا، ولو قلت: الذي ضربت أخاه وضريت عمرا زيد لم يجز. وكذلك في الصفة، فتقييد العطف بالواو خاصة خطأ، بل الصحيح في هذه المسألة ما قال السيرافي في ضبطها إذ قال:"إذا كان في الجملة ضمير اسم متقدم فهي من سبب ذلك الاسم، وإن لم يكن فيها ضمير، وجئت بجملة أخرى فيها ضمير الاسم لم يجز" قال: "ولا تبال في أي موضع، من الجملة وقع ذلك الضمير". فهذا كله يدل على صحة ما اقتضاه إطلاق الناظم. وإنما اقتصر في التسهيل على العطف بالواو خاصة؛ لأن سيبويه لم يذكر في الاشتغال إلا ذلك، كما أنه لم يذكر من التوابع إلا النعت، وهذا العطف. وليس في ذلك دليل؛ إذ لم ينف ما عداهما.
فإن قيل: إن كان كذلك فكيف الأمر في الشرط الثاني، وهو ألا يتكرر العامل.
فالجواب: أن هذا أسهل، فإن العامل إذا تكرر فقد صار الكلام جملتين، وصار التابع غير تابع؛ إذ ذلك الآن من عطف الجمل، لا من عطف المفردات، وعلى أنك إن قدرت تكرار العامل لمجرد التأكيد، فلا مانع من المسألة؛ لأن عطف المفردات باق، فالأخ تابع لعمرو، وضربت الثاني كالعدم. وقد أجاز بن السراج في الإخبار: الذي ضربته وضربت عمرا زيد، على أن يكون ضربت الثاني لمجرد التأيد. فكذل هنا. ولم يتكلم سيبويه على ذلك، بل على أن يكون تكرار العامل لغير التأكيد، فهو الذي منه. فقد ظهر أن كلام الناظم هو الجاري على القواعد، وكلام غيره ليس كذلك، وهو مما يؤكد البحث عن كلامه وإطلاقاته في هذا النظم وتقييداته، فإن تحتها دفائن قلما يشعر لها. وقد مضى من ذلك أشياء، وسيأتي أخر إن شاء الله. وبالله التوفيق.