المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التمييز / هذا خو النوع الثامن من المنصوبات التي ينصبها كل - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٣

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌التمييز / هذا خو النوع الثامن من المنصوبات التي ينصبها كل

‌التمييز

/ هذا خو النوع الثامن من المنصوبات التي ينصبها كل فعل متعديًا كان أو غير متعد، وهو آخرها، وذلك التمييز. ولم يأت له بحد أو رسمٍ من حيث هو تمييز، وإنما رسم ما يصح أن يكون تمييزًا، وذلك قوله:

اسم بمعنى من مبين نكره

ينصب تمييزًا بما قد فسره

كشر أرضًا وقفيز برًا

ومنورين عسلًا وتمرا

فالاسم هو الجنس الأقرب، إذ لا يكون إلا من جنس الأسماء، ويردي بقوله:(بمعنى من) أنه يفهم معناها، كما يفهم الظرف معنى (في)، والحال معنى (في حال)، ولا يريد أنه يرادف من، كما يرادفها بعض مثلًا، وكما ترادف مذ الاسمية مذ الحرفية، وإنما أراد أنه يفهم منه ذلك المعنى، كما لو لفظ بمن.

فإذا قلت: (شبر أرضًا) فهو يفهم معنى: شبر من أرضٍ، وكذلك سائر المثل.

واحترز بذلك من الحال، فإنها تصدق عليها ألفاظ الرسم، لكنها لا تنتصب على التمييز لأنها ليست بمعنى (من)، وإنما هي بمعنى: في حال، وكذلك يخرج له الظرف بهذا التقدير.

فإذا قلت: زيد أمامك، فهو في تقدير: زيد في هذا المكان. وإذا قلت: زيد في الدار قاعدًا، فمعناه في حال قعود، فليسا بتمييز.

ص: 524

وقوله: (مبين) يعني أنه يبين غيره ويفسر ويوضحه وكذلك التمييز؛ إذ هو مبين لما استبهم من الذوات، كما أن الحال مبينة لما استبهم من الهيئات، فيفترقان في أن الحال مبينة للهيئات، والتمييز مبين للذات، ويجتمعان في أن كل واحٍد منهما مبين لشيء مستبهم، واحترز بذلك مما قد يجيء في الكلام من الأسماء وفيه معنى (من) لكنه ليس بمبين لغيره ولا مفسرًا، كذنبا في قول الشاعر - أنشده سيبويه -:

أستغفر الله ذنبًا لست محصيه

رب العباد إليه الوجه والعمل

فإنه يصدق عليه أنه اسم بمعنى (من)، ولم ينتصب على التمييز، لأنه لم يقع هاهنا مبينًا لشيء غيره، وإنما وقع في الكلام لأنه المحل المستغفر منه، كما يقع المفعول به في الكلام، ولا يقال في المفعول: إنه مبين ومفسر لغيره، وإن قيل ذلك فعلى معنى تعيين [محل] وقوع الفعل خاصة، وبهذا القيد [أيضًا] يخرج له اسم لا العاملة عمل إن؛ إذ كان اسمًا بمعنى من؛ لأن معنى قولك: لا رجل في الدار، لا من رجٍل في الدار، من حيث كان نفيًا لقولك: هل من رجٍل في الدار؟ وقد نطق به الشاعر فقال:

فقام يذود الناس عنها بسيفه

وقال: ألا لا من سبيٍل إلى هند

ص: 525

وأيضًا هو نكرة؛ إذ لا تعمل لا إلا في نكرٍة، فكان يدخل عليه هنا، فأخرجه بقول (مبين) لأن اسم لا ليس بمبيٍن ولا مفسٍر لشيء.

وقوله: (نكرة) يعني أن التنكير من وصف الاسم الذي يصح انتصابه على التمييز، فلا يكون معرفًة قياسًا. وهذا مذهب البصريين.

وذهب/ الكوفيون إلى جواز تعريفه. والصحيح ما أشار إليه الناظم من لزوم التنكير بالقياس والسماع.

أما القياس: فإن التمييز إنما وضعه أن يكون بيانًا لما استبهم، وهذا المعنى يمكن مع التنكير، وإذا كان كذلك فالعدول إلى التعريف من غير حاجٍة إليه تكلف تأباه حكمة العرب، وأيضًا فإن التمييز لم يوضع ليخبر عنه أصلًا، والتعريف إنما يدخل الاسم من حيث تحصل الفائدة بالإخبار عنه، فما لا يخبر عنه لا حاجة إلى تعريفه، ولذلك لم يصح تعريف الأفعال، وأيضًا هو تفسير لمبهم، فلم يحتج إلى التعريف قياسًا على الحال، وأيضًا لو صح تعريفه لصح إضماره، لكن إضماره لا يصح ولم يأت في كلامهم - أعني مضمرًا - فثبت أنه لا يصح تعريفه.

فإن قيل: القياس إنما يصح إذا عضده السماع، والسماع موجود بخلاف ما زعمتم، فقد قالت العرب:"غبن فلان رأيه، ووجع بطنه ورأسه". وفي القرآن: {إلا من سفه نفسه} . وفي الحديث: (تهراق

ص: 526

الدماء). وجاء من كلامهم: قبضت الخمسة عشر الدرهم.

وحكى الكسائي: هو أحسن الناس هاتين، يريد عينين. وأنشد السيرافي:

رأيتك لما أن عرفت جلادنا

رضيت وطبت النفس يا بكر عن عمرو

وقال الآخر:

أيجمع ظهري وألوي وأبهري

ومال الصحيح ظهره كالأدبر

وقال أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان:

إلى ردحٍ من الشيزى ملاء

لباب البر يلبك بالشهاد

ص: 527

وأيضًا قالوا: مررت برجٍل حسٍن وجهه، والسماع بمثل هذا كثير، فدل على أن التعريف في التمييز جائز.

فالجواب أن يقال: إن ما فيه الألف واللام عندهم - أعني البصريين - محمول على زيادة الألف واللام، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في باب المعرفة بالأداة.

وأما الإضافة: فهو عندهم على تضمين الفعل غير المتعدي، معنى فعٍل يتعدى، أو على إسقاط الجار، فكان التقدير في: غبن في رأيه أو جهل رأيه، وكذلك سفه نفسه ووجع بطنه، أي من بطنه، أو عرف ذلك شذوذًا.

وأما هاتين: فإما على نية التنكير كقولهم:

* ولا أمية بالبلاد *

وإما على حذف الجار، كأنه قال: هو أحسن الناس بهاتين، أي زاد حسنه على الناس بعينيه. قال الفارسي. وأيجمع ظهري، كغبن رأيه، وإنما احتاجوا إلى تأويل ذلك كله لأنهم وجدوا عامة كلام العرب في التمييز على أن يكون منكرًا، ولو جاز تعريفه عند العرب لكانوا خلقاء أن يستعملوه كذلك كثيرًا شائعًا، فلما لم يكن كذلك دل على قصدهم للتنكير، وأن ما عداه راجع إلى ما يعرض لهم من الشذوذات الخارجة عن معتاد كلامهم.

فإذا تقرر هذا، فاشتراط الناظم التنكير في الاسم الذي ينصب على التمييز صحيح بناء على الاصطلاح البصري، وعلى هذا يكون قولهم: مررت برجٍل حسٍن وجهه، منصوبًا على التشبيه بالمفعول به لا على التمييز. والذي حصل من

ص: 528

أوصاف ذلك الاسم الخاصة بصحة نصبه تمييزًا ثلاثة: أن يكون بمعنى (من)، مبنيً نكرة. ويرد عليه السؤال في هذا التعريف/ من أوجٍه أربعة:

أحدها: أن التمييز على ضربين: ضرب يكون بمعنى (من) كما قال، كأمثلته التي مثل بها في قوله:(كشبٍر أرضا) وما بعده. وضرب لا يكون كذلك، وهو المنقول من الفاعل وما أشبهه نحو: طاب نفسًا، وكرم أبًا، وسفه نفسًا، وقررت عينًا، وما أشبه ذلك، وكذلك ما انتصب من النكرات في باب الصفة المشبهة نحو: مررت برجٍل حسٍن وجهًا، وكذلك مع أفعل التفضيل نحو: أنت أعلى منزلًا، فليس التمييز في هذه المواضع بمعنى (من) البتة؛ ولذلك لا تقول: طاب زيد من نفٍس، ولا أنت أعلى من منزل، كما تقول: قفيز من بر، وشبر من أرٍض، فاقتضى كلام الناظم هنا أن هذه النكرات التي هي فواعل في المعنى لا تنصب على التمييز، وذلك غير صحيح، فقد جعلها في الباب نفسه مما ينصب على التمييز، فهذا فيه ما ترى.

والثاني: أن (من) التي تضمن التمييز معناها هي الجنسية لا غيرها. والناظم قد أجمل الأمر فيها، فلم يبين من أي قسٍم هي من أقسام (من) المذكورة في باب الجر، فقد تشتبه بمن التي لابتداء الغاية، أو للتبعيض، أو غير ذلك من أقسامها، فلا يحصل المقصود من التعريف مع الإبهام والإجمال.

والثالث: أنه يدخل له التابع إذا كان مميزًا في المعنى كقول الله تعالى: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطًا أممًا} . فأسباط ليس بتمييز؛ إذ لو كان تمييزًا لكان سبطًا، مفردًا؛ لأن مميز ما فوق العشرة مفرد منصوب، فدل على أن أسباطًا ليس إلا تابعًا لقوله:(اثنتي عشرة) تبعية البدل. وعلى ذلك

ص: 529

أيضًا جاء قوله تعالى: {ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين} في قراءة تنوين مائٍة، وهي لغير حمزة والكسائي، فيوهم أن أسباطًا وسنين منصوبان على التمييز، وكذلك ما كان نحوهما مثل: قبضت أحد عشر دراهم، وستة عشر دنانير، وعشرة أثوابًا، وأشباه ذلك، وهو مخل بالقصد.

والرابع: أنه يدخل عليه تابع اسم لا إذا كان منصوبًا نحو: لا رجل عاقلًا؛ لأن حكمه في تقدير معنى (من) حكم متبوعه، وهو أيضًا مبين صفة الرجل، فتناوله الرسم، وليس بمنصوب على التمييز أصلًا.

وهذه الأشياء الثلاثة الأخيرة قد تحرز منها في التسهيل؛ إذ حد التمييز فقال: "وهو ما فيه معنى (من) الجنسية من نكرٍة منصوبٍة فضلٍة غير تابٍع" وبين مقصده في الشرح بما ذكر أن التحرز منه واجب.

والجواب: أما الأول فوارد عليه هنا وفي كتاب "التسهيل"، وقد حد الناس التمييز، فلم يقيدوا هذا التقييد الذي لا يشمل إلا أحد قسميه فقال ابن الضائع: هو الاسم النكرة المنتصب بعد تمام الكلام أو بعد تمام الاسم بيانًا لما انبهم من الذوات. وقال بعضهم: الاسم النكرة المنصوب المبين لما انبهم من الذوات. وقيل غير ذلك مما لم يذكر فيه التقييد بمعنى (من).

ص: 530

فالحاصل أن الناظم حد بعض ما ينتصب على التمييز، فأخرج بذلك غيره عن أن يكون نصبه على التمييز، وقد كان يمكن الاعتذار بأنه يمكن أن لم يلتزم النصب على التمييز في نحو: سفه نفسًا، وحسن وجهًا، وأن يجعل نصبه على المفعول به، كما يعرب: مررت برجٍل حسٍن/ الوجه، وحسن وجهه كذلك، ويكون مخالفًا للنحويين في مجرد اصطلاح لا ينبني عليه حكم لولا أنه نص على أن مثل: طب نفسًا، وأنت أعلى منزلًا تمييز، فلم يمكن اعتذار عنه بذلك.

وأما الثاني: فإنه لم يحتج إلى تقييد (من) بالجنسية؛ لأن غاية ما في ذلك أن تحرز به من قوله:

* أستغفر الله ذنبًا لست محصية *

وهذا النوع قد خرج عنه بقوله: (مبين)، إذ ليس (ذنبًا) بمبيٍن غيره كما تقدم. فقوله:(مبين) قام مقام تقييد (من) بأنها الجنسية.

وأما الثالث: فإنه لم يحد التمييز نفسه، وإنما حد ما يصح انتصابه على التمييز، فالتوابع المعترض بها مفتقرة إلى النظر فيها بما حد به فإن اجتمعت فيها الأوصاف المذكورة، صح انتصابها على التمييز حيث يحتاج إليه إذا لم يختص باب من الأبواب المحتاجة إلى التمييز بزيادة شرط كباب العدد، فإن ما فوق العشرة فيه إنما يفسر بواحٍد منصوب، فاختص بزيادٍة على ما عهد في التمييز. وأما غير باب العدد، فانتصاب تلك الأسماء المذكورة فيها على التمييز جائز، كقولك: هو أكثر الناس دراهم أو ثيابًا، وهو أكثر الناس سنين، وما أشبه ذلك، فكان {أسباطًا} يمكن فيه هذه الأوصاف، إذ هو اسم بمعنى

ص: 531

(من) مبين نكرة، أي يصلح لمعنى (من) وإذا أمكن اجتماع الأوصاف فيه صح انتصابه على التمييز، فقلت: هم أكثر الناس أسباطًا، لكن لما كان فوق العشرة، إنما يقع التمييز فيه مفردًا لم يصلح أن يعد في الآية تمييزًا، وإن أمكن فيه معنى (من)، فأول على غير التمييز، وجعل بدلًا، فشرط الإفراد في {أسباطًا} يختص بباب العد، وليس مشترطًا في كون التمييز تمييزًا، فبان الاعتراض على الناظم بهذا.

وأما الرابع: فإن تابع اسم لا ليس بمضمن معنى (من) بل اسم لا هو المضمن إن فرض - وإن قدر كذلك، فمن حيث هو تابع لما فيه ذلك المعنى مجازًا لا حقيقة.

وبيان ذلك أن تضمن معنى (من) إنما جاء من جهة قصد عموم النفي، وهو إنما توجه على الاسم لا على التابع؛ لأن التابع إنما قصد فيه قصد التبعية لا قصد عموم النفي، ومن ثم كان التابع لا يقتصر به على منفي دون موجٍب، ولا على نكرٍة دون معرفة، ففي الحقيقة لم يتضمن معنى (من) فلا يصح الاعتراض به، وهذا كله على تسليم أن (من) المقدرة في اسم لا هي الجنسية، وأما إذا لم يكن كذلك فالاعتراض ساقط من أصله، وقد تقدم الكلام في دخول اسم لا في الحد أو عدم دخوله، فإذا كان اسم لا قد خرج عن الحد بقوله:(مبين) فصفته أولى ألا تدخل فيه.

وأما إتيانه في التسهيل بقوله: (غير تابع) ليخرج صفة اسم لا، فإنه لما أخرج اسم لا بقوله:(فضلة) بقي التابع لأنه فضلة في الحكم، فأخرجه بقوله: غير تابٍع، وكان اسم لا داخلًا عليه في قوله: ما ضمن معنى (من) الجنسية حتى أخرجه بقوله: فضلة. وهذا كله غير محتاٍج إليه هنا، ولو لم يأت

ص: 532

بهذا القيد في التسهيل لم يحتج إليه؛ إذ ليس في التابع معنى (من) الجنسية لما ذكر، فأحرى ألا يحتاج إليه ها هنا

وقوله: (ينصب تمييزًا بما قد فسره) هو خبر المبتدأ الذي هو (اسم) ويعني أن الاسم الموصوف/ بهذه الأوصاف المذكورة يصح أن ينصب على التمييز بخلاف ما لم تجتمع فيه هذه الشروط، فإنه لا ينصب على التمييز، فما ليس بمعنى (من) لا ينصب تمييزًا كالحال، والظرف، وما ليس بمبيٍن كذلك لا ينصب هذا النصب كاسم لا، وما ليس بنكرٍة لا ينصب هذا النحو من النصب كالوجه في حسٍن الوجه، وسفه نفسه، وغبن رأيه، وما أشبه ذلك؛ بل إن نصبت فعلى غير التمييز مما تقدم ذكره في أبوابه، أو على التشبيه بالمفعول به، أو غير ذلك، وكان هذا تقرير لاصطلاح مقرٍر لاصطلاح مقرٍر عند النحويين، وهو أن المنصوب على التمييز إنما هو عندهم هذا الموصوف، وعند هذا لا يعترض بما اعترض به أهل الكوفة؛ وذلك أن الاعتراض على الاصطلاح لا يسمع، وقول النحويين: إن التمييز لا يكون إلا نكرة، معناه أن التمييز عندنا عبارة عن المفسر الذي لا يكون إلا نكرة، فإذ كان معرفة لم يكن عندهم تمييزًا في الاصطلاح، فلا ينبغي أن يعترض على من التزم هذا بأن التمييز قد يأتي معرفة، فإنه يقول: إني لم أصطلح على أن أسمي المعرفة تمييزًا، وينبغي أن يقال لمن اعترض بهذا: التمييز عندك لا يكون إلا منصوبًا، وهو منتقض عليك بقولهم: ثلاث أبواٍب، ومائة درهٍم، فإن أثوابًا ودرهمًا تمييز، وهو غير منصوب. فإن قال: إنهم لا يسمون هذا تمييزًا. قيل له: وكذلك أيضًا لا يسمون المعرفة تمييزًا، فأي فرٍق بين الموضعين.

وقوله: (بما قد فسره) متعلق بينصب، ويريد أن الناصب لهذا التمييز الكلام الذي قد فسره التمييز أو الاسم الذي قد فسره، وذلك أن التمييز على قسمين:

ص: 533

قسم ينتصب عن تمام الكلام نحو: طاب زيد نفسًا {واشتعل الرأس شيبًا} وقسم ينتصب عن تمام الاسم (كشبر أرضًا) ورطٍل زيتٍا. فالأول يعمل فيه الفعل، لأنه مفسر به بوجٍه ما. ألا ترى أن الفعل بالنسبة إلى من أسند إليه غير بين، كما أن المسند إليه بالنسبة إلى الفعل غير واضٍح، فصار نفسًا في قولك: طاب زيد نفسًا، مفسرٍا للطيب بالنسبة إلى زيٍد بوجه وبوجه للنسبة الحاصلة بين زيٍد والطيب، أو لمحل تلك النسبة، وهو زيد، فعلى هذا ينبغي أن يفهم قوله (بما قد فسره) بالنسبة إلى مميز الجملة، إذ كان قد يشمل القسمين معًا مميز الجملة ومميز المفرد، وإنما كان ذلك لأن أصل الكلام على غير ذلك الوضع؛ إذ كان أصل قولك: طاب زيد نفسًا، طابت نفس زيٍد، ثم نسب الفعل إلى زيٍد والمراد نفسه مبالغة، فلما أسند الفعل إلى زيٍد، وأريد بيان ذلك المعنى المقصود أتوا بالنفس منصوبٍة؛ إذ لم يمكن رفعها لوجود المرفوع في اللفظ وأشبهت المفعول به من جهة مجيئها بعد تمام الكلام، فانتصب على التشبيه بالمفعول به، وخصوها باسم التمييز حين كانت نكرة، وخصوا ما كان معرفة بالتشبيه فرقًا بينهما، وإلا فكل واحد منهما منصوب على التشبيه. وعلى هذا الحد انتصب شيبًا في {اشتعل الرأس شيبًا} وسائر ما جاء من ذلك.

وأما/ القسم الثاني: وهو ما انتصب عن تمام الاسم، فالعامل فيه ذلك الاسم فقوله:(شبر أرضًا) الناصب لأرضًا قولك: (شبٍر) تشبيهًا له بضارب إذا قلت: ضارب زيدًا. وذلك أنك إذا قلت: عندي شبر، فليس التمييز لهذا المقدار نفسه؛ بل للمقدر به، فالمعنى عندي قدر شبٍر، فلما استبهم القدر فسر،

ص: 534

وهو في التقدير مضاف إلى المقدار، فينبغي ألا يضاف إلى المفسر الذي هو (أرضًا) لأنه قد أضيف قبله إلى المقدار، فلما اقتضاه ولم تمكن إضافته إليه؛ إذ هو قد تم بما أضيف إليه أشبه الصفة المشبهة باسم الفاعل، فنصب ما بعده على التشبيه. ويسمى تمييزًا كما تقدم، فهذا معنى كونه ناصبًا له، وكذلك تجري سائر المثل المنتصبة عن تمام الاسم.

ثم تأتي بأمثلٍة من التمييز لكن مما هو منصوب عن تمام الاسم فقال: (كشبرٍ) أرضًا) إلى آخره، وهي ثلاثة كلها مميز للمقدار. والمقادير أربعة: مقدار المساحة، ومقدار الكيل، ومقدار الوزن، ومقدار العد. فقوله:(كشبرٍ أرضًا) من مقدار المساحة، وقوله:(وقفزٍ برًا) من مقدار الكيل. وقوله (ومنوين عسلًا وتمرًا) من مقدار الوزن. وبقي المقدار الرابع لم يأت له بمثال، وكان حقه أن يأتي به؛ لأنه قصد بهذه الأمثلة بيان أنواع المقدار، وهو مقدار العد نحو: عشرين درهمًا، وخمسة عشر ثوبًا وكأنه ترك ذكره لبابه.

ومن الأول قولك: عندي ذراع ثوبًا، وما في السماء موضع راحٍة سحابًا، ومن الثاني قولك: عليه نحي سمنًا، وهذا راقود خلا. ومن الثالث:{فمن يعمل مقال ذرٍة خيرًا يره ومن يعمل مثقال درٍة شرًا يره} . فتكثير الناظم المثل إشعار بأنواع المقادير. وأيضًا فإن فيها إشارة إلى ما به تمام الاسم، وذلك أن الاسم الذي ينتصب بعده التمييز لا يكون إلا تامًا، ومعنى تمامه أن يكون فيه تنوين أو نون تشبهه، وهي نون التثنية والجمع، وما جرى مجراهما، وما يعاقب التنوين وذلك الإضافة، والألف واللام، فالتنوين في قوله:(كشبرٍ أرضًا وقفيزٍ برًا) والنون التي

ص: 535

تشبهه في قوله: (منوين عسلًا وتمرًا). وأما الإضافة والألف فنحو: لله دره فارسًا، {وملء الأرض ذهبًا} وما فعل الشبر أرضًا والذراع ثوبًا.

وقد نبه على الإضافة بعد، وترك ذكر الألف واللام؛ لأنه قليل في الاستعمال وأكثر ما يستعمل في العدد، وسيأتي ذكره هنالك.

فأما إن كان الاسم غير تام فلا بد من الإضافة، نحو: شبر أرٍض وقفيز بر ومنوى عسٍل وتمٍر، وسيأتي ذكره. وإنما جرى الحكم هكذا لما ذكر من تشبيه الاسم هنا بالصفة كضارٍب وحسٍن، فكما تنصب ما بعدهما إذا نونتهما، وما بعد ضاربين وحسنين إذا ثبا نونهما، وتخفض بالإضافة إذا حذفتهما كذلك تفعل في هذا الباب.

والشبر: معروف. والقفيز: مكيال يقدر بثمانية مكاكيك، والمكوك: ثلاثة كيلجاتٍ، والكيلجة: منا وسبعة أثمان منا، / والمنا: مفرد المنوين، وهو رطلان وهو المن أيضًا.

ثم قال:

وبعد ذي ونحوها اجرره إذا

أضفتها كمد حنطٍة غذا

(ذي) إشارة إلى الأمثلة المتقدمة الذكر، وهي أن هذه الأمثلة وما كان نحوها مما انتصب بعد تمام الاسم بالتنوين أو بالنون التي تشبهه لك فيها وجه آخر من الإعراب غير النصب على التمييز، وهو الجر بالإضافة، وذلك إذا حذفت ما به التمام، ثم أضفتها إلى ذلك المنصوب فتقول: ما حنطٍة وكان الأصل فيه على ما تقدم مد حنطًة، لأنه مثل قوله قفيزٍ برًا، لكن لما حذفت التنوين أضفت فقلت: مد حنطٍة، وعلى هذا تقول: شبر أرٍض، وقفيز بر، ومنوا عسل وتمر،

ص: 536

وراقود خل، ونحي سمن، وما أشبه ذلك. فقوله:(إذا أضفتها) يريد إذا أردت إضافتها فأجرر التمييز بالإضافة، فإن الإضافة توجب الجر، أو إذا حصلت الإضافة معنى، فاجرره بسبب حصولها. والحاصل من كلامه أن التمييز في هذه المثل وما كان نحوها يجوز فيه الأمران: النصب المتقدم، والجر بالإضافة. و (غدا) في قوله:(كمد حنطٍة غذا) بدل أو حال.

ثم هنا مسألتان:

إحداهما: أنه قيد الجر بالإضافة، ولم يقل (وبعد ذي ونحوها أجرره) فيطلق الجر ولا يقيده، وكان ذلك أولى؛ إذ معلوم أن الجر هنا إنما يصح معها، فإنه لا موجب له في الموضع إلا هي، فكان الإتيان به كالفضل غير المفتقر إليه، فيسأل لم أتى به هل تحت ذلك التقييد فائدة أم لا؟

والجواب: أن له فائدة حسنة، وذلك أنه لو لم يقل:(إذا أضفتها) فيقيد بالإضافة لسبق الوهم إلى بقاء التنوين والنون في المميز وجر التمييز بمن المقدرة، وأن يقال: مد حنطٍة، ومنوان سمٍن وتمٍر على تقدير: مد من حنطة ومنوان من كذا، وهذا غير جائز باتفاٍق، فلما قيد بالإضافة زال هذا التوهم، وتبين أن الجر إنما موجبه الإضافة.

فإن قيل: هذا التوهم غير متوهٍم، إذ يسبق مثل هذا إلى ذهن نحوي، لأنه ليس بمعهوٍد في القياس عند أحٍد منهم أن يحذف الجار ويبقى عمله في غير رب على خلاٍف في ذلك، ولو توهم ذلك لتوهم مثله في الحال والظرف؛ إذ هما في تقدير في، فكما لا يجب ولا يحسن التحرز من ذلك في الحال والظرف لا يجب ذلك أيضًا هنا.

فالجواب: أن في باب التمييز من ذلك ما يقع التوهم به في هذا الموضع

ص: 537

وذلك في موضعين:

أحدهما: أنه أجاز بعد الجر بمن ظاهرة بقوله:

(وأجرر بمن إن شئت غير ذي العدد)

إلى آخره، فلو لم يقيد الجر هنا بالإضافة لتوهم أنه يريد ما قال هناك من الجر بمن ظاهرة وليس ذلك مقصوده.

والثاني: أن من التمييز ما يجر بمن مضمرًة لا بالإضافة، وذلك مميز (كم) فإن الجر هناك إذا قلت: بكم درهٍم اشتريت ثوبك؟ بمن مضمرة عند المؤلف، ذكر ذلك في التسهيل، ونصره في الشرح، / وارتضاه فيهذا النظم فقال في باب (كم):

وأجز أن تجره من مضمرا

إن وليت كم حرف جر مظهرا

وكذلك الجر في (كم) الخبرية عند الفراء إذا قلت: كم درهٍم أعطيت؟ بمن مضمرة لا بالإضافة. ويسهل ذلك أن (من) في قوة الظهور، ولذلك تقول: شبر من أرٍض، وقفيز من بر، كما تقول في (كم): بكم من درهٍم اشتريت ثوبك؟ وكم من درهٍم أعطيت؟ فلما كان الأمر كذلك لم ينبغ أن يترك تقييد الجر بالإضافة رفعًا لتوهٍم ربما لحق في الموضع لو لم يقع البيان.

والثانية: أن قوله: (ونحوها) إشارة إلى كل ما كان مثل المثل المتقدمة مما كان فيه تمام الاسم بالتنوين أو بالنون المشبهة به، فذلك هو الذي يجوز فيه الجر، لإمكان حذف ما به التمام، فلو تم الاسم بالإضافة لم تجز الإضافة وجر التمييز بها، لأن ذلك لا يمكن إلا مع حذف المضاف إليه الذي به وقع تمام الاسم،

ص: 538

والمضاف إليه لا يحذف كما يحذف التنوين، ولا - أيضًا - تمكن الإضافة مع بقائه، وهذا هو الذي أراد بقوله:

والنصب بعد ما أضيف وجبًا

إن كان مثل "ملء الأرض ذهبا"

يعني أن ما كان من الأسماء تمامه بالإضافة، فإن نصب التمييز بعده واجب لا يجوز غيره، لأن الإضافة لا تكون إلا بعد حذف ما به التمام، وحذف ما به التمام هنا لا يصح. فإذا قلت: عندي ملء الإناء عسلًا، فملء تام بالمضاف إليه وهو الإناء، فلو حذفته وأضفت إلى التمييز فقلت: لي ملء عسٍل لاختل الكلام، وكذلك: ما في السماء موضع راحٍة سحابًا. و {من يعمل مثال ذرٍة خيرًا يره} . وأتى هو بمثاٍل قرآني وهو قول الله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا} . وشرط في وجوب النصب بع الاسم المضاف أن يكون ذلك المضاف مماثلًا لـ (ملء) المذكور في المثال في وصفه، وهو ألا يكون أفعل تفضيٍل على الوصف الذي يذكر، فإن كان المضاف أفعل التفضيل فليس النصب فيه واجبًا مطلقًا؛ بل فيه تفصيل، وهو أنه لا يخلو أن يكون التمييز هو ما ينطلق عليه أفعل من جهة المعنى أو يكون غيره، فإن كان غيره فالنصب بلا بد، وهو المذكور في البيت الآتي على إثر هذا، وإن كان إياه، فمفهوم هذا الكلام أن الوجهين فيه جائزان، وذلك أنه ذكر أن النصب بعد المضاف واجب إن كان مثل كذا أو كان المضاف أفعل تفضيٍل ليس هو التمييز في المعنى، فاقتضى أن ما سوى هذين القسمين لا ينحتم فيه النصب ولا يجب، فدخل له هنا أفعل التفضيل إذا كان هو التمييز في المعنى، فكأنه جعل التمييز من المضاف كالتمييز

ص: 539

من غير المضاف إلا في موضعين:

أحدهما: ما كان مثل {ملء الأرض ذهبًا} . والآخر: ما كان مثل: أنت أعلى منزلًا، فما سواهما يجوز فيه النصب والجر، ومثال ذلك قولك: زيد أفره الناس عبدًا، وهو خير الناس رجلًا، وهما خير الناس اثنين، / وهو أشجع الناس رجلًا على رأي سيبويه، لأن التمييز عنده هو الأول لما مثل بهذين المثالين الأخيرين:"والرجل: هو الاسم المبتدأ والاثنان كذلك، إنما معناه: هو خير رجل في الناس، وهما خير اثنين في الناس".

ووجه النصب ظاهر لوجود ما به التمام في اللفظ وهو بالإضافة.

وأما الجر: فعلى حذف ما به التمام فتقول: زيد أفره عبد في الناس، وخير رجل في الناس، وهما خير اثنين في الناس، وهو أشجع رجل في الناس.

قال سيبويه: "لأن الفارهَ هو العبد ولم تلق أفره ضميرًا خيرًا على غيره، ثم تختص شيئًا، فالمعنى مختلف" يعني أن في أفره ضميرًا يرتفع به وهو الأول. والفراهة له لم تنقل له عن سببي، والمضاف إليه هو المضاف، لأن المعنى: أفره العبيد، فصار هذا مخالفًا لقولك: هو أفره الناس عبدًا، فلما كان المعنى مختلفًا اختلف حكم اللفظ، وفي هذا الكلام بعد مسألتان:

إحداهما: أن الإضافة فيما أضيف تارة تكون ظاهرة - وذلك ما فرغ من الكلام فيه. وتارًة تكون مقدرًة، فتجري مجرى الإضافة الظاهرة، كما أن من

ص: 540

التنوين ما هو ظاهر، ومقدر، والمقدر يجري مجرى الظاهر.

فإذا قلت: الإناء ممتلئ ماء أو ملآن ماء، أو زيد ممتلئ غضبًا، والإناءان ممتلئان ماء، والزيدون ممتلئون غضبًا، فالظاهر في مثل هذا جواز النصب والجر كالذي فيه التنوين أو النون المشبهة، لكنه لا يجوز فيه إلا النصب لأنه على تقدير الإضافة كأنه في التمثيل ممتلئ الأقطار أو ملآن الأقطار ماء أو غضبًا، وإذا كان كذلك امتنع أن يضاف إلى التمييز وهذا بعينه حكم التنوين المقدر.

فإذا قلت: هند شنباء أنيابًا، فقدرت التنوين نصبت ى غير، ولا تضيف إلا مع تقدير طرحه فتقول: شنباء أنياٍب، وهذا داخل تحت إطلاق الناظم بقوله:

(بعدما أضيف) إذ يصدق على المقدر الإضافة أنه أضيف.

والثانية: أن قوله: (إن كان مثل ملء الأرض ذهبًا) كما يدخل له فيه المقادير المذكورة يدخل له فيه ما أشبه المقادير، وذلك قولك: لي مثله عبدًا، وما في الناس مثله فارسًا، وعلى التمرة مثلها زبدًا، وما كان من المثل والشبه فهو جاٍر مجرى الملء؛ إذ جعل سيبويه جميع ذلك من المقادير، وذلك أن المقدار عام في أنواع، فجيء بالنوع لبيان المقدار المراد، وكذلك إذا قلت: لي مثله، المثل عام في أنواع الصفات كالعبودية والفروسية والشجاعة وغير ذلك، فاستبهم لفظ المثل، فجيء بقولك: عبدًا أو فارسًا أو شجاعًا مفسرًا ذلك كما جيء بقوله (ماًء) مفسرًا لقولك: ملء كذا. ومن ذلك قولك: داري خلف دارك فرسخين؛ لأنه لما قال: خلف دارك علم أن بين الدارين مسافًة، فميزت ذلك بالفرسخين، فصار كقولك: ما في السماء موضع راحٍة سحابًا. وعلى هذا الباب

ص: 541

حمل الشلوبين قول الله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} . قال: لأنه تعالى لما قال: {وواعدنا} علم أن / هناك مسافًة في الزمان، فميزت بثلاثين. ثم قال الناظم:

والفاعل المعنى انصبن بأفعلا

مفضلًا كأنت أعلى منزلا

قد تقدم أن التمييز بعد أفعل التفضيل على قسمين:

أحدهما: أن يكون هو أفعل في المعنى وهو الذي مر الكلام عليه.

والثاني: ما هو غيره، وهو الذي أراد ذكره هنا، فيريد أن التمييز إذا تقدمه أفعل التفضيل وكان في المعنى فاعلًا به، فإنه ينتصب لا غير، نحو قولك: أنت أعلى منزلا، فمنزلا يلزم نصبه لأنه في المعنى فاعل بأفعل، وعلامة ذلك أن تقدر أفعل فعلًا فيكون التمييز فاعلًا به، فإذا سبكت من أعلى فعلًا فقلت: علا - صار (منزلا) مطلوبًا له بالرفع على الفاعلية فتقول: علا منزلك.

وعلى هذا تقول: زيد أكثر منك مالًا، وأعز حمى، وأفضل أما، وأحسن وجهًا. هذا إذا كان المميز غير مضاٍف، وكذلك إذا كان مضافًا، نحو: زيد أكثر الناس مالًا وأعزهم حمى، وأفضلهم أما وأحسنهم وجهًا. فهذا الباب ونحوه التمييز فيه فاعل معنى بأفعل؛ إذ التقدير: زيد كثر ماله وعز حماه، وفضلت أمه وحسن وجهه.

وإنما لزم النصب هنا لأن أفعل لازم للإضافة أو الفصل بمن، لأن معنى قولك: أنت أعلى منزلًا، أنت أعلى من فلاٍن، أو من الناس، أو أنت أعلى الناس

ص: 542

منزلًا، فلم يصلح أن يحذف ما به التمام وهو المضاف إليه كما تقدم.

وأيضًا فإن أفعل هنا المميز غير المميز، فلا تصلح إضافته إليه، إذ لا يضاف أفعل التفضيل إلا إلى ما هو بعضه، والأعلى هنا غير المنزل، فلم يمكن أن يضاف إليه، فلزم النصب كما ترى، وبهذين فارق القسم المتقدم في أفعل، فجازت فيه الإضافة، لأن أفعل هو المميز، فإذا قلت: هو أشجع الناس رجلًا، فأشجع هو الرجل، فجازت إضافته إليه على معنى هو أشجع الرجال، ولم يكن ثم فضل بمن ولا بإضافٍة.

وأيضًا لما كان أفعل هنا متضمنًا لمصدر الفعل وزيادته ومشعرًا به، فإن معنى قولك: أنت أعلى منزلًا من زيد، علو منزلك يزيد على علو منزله، كان بمنزلٍة الفعل الذي تضمن المصدر والزمان، فلم يضف، كما لم يضف الفعل؛ ولذلك أيضًا منع أفعل التثنية والجمع والتعريف لما لم يكن ذلك في الفعل.

وقول الناظم: (انصبن بأفعلا) يعني انه انتصب عن تمامه، فهو العامل فيه. وقوله:(كانت أعلى منزلا) مثال معين لما يقع من الأسماء تمييزًا مما هو فاعل معنى، وذلك أن كل ما كان من سبب الأول، كما تقدم من الأمثلة؛ إذ هو الذي يصح أن يصاغ منه فعل وفاعل، هما خبر عن المبتدأ المتقدم ويستقيم الكلام به، فلو قلت: زيد أفضل رجلًا، والرجل ليس الأفضل في المعنى، لم يصح، لأن رجلًا ليس من سبب الأول، فلا يستقيم أن يقدر منه كلام فيه فعل وفاعل يكون خبرًا عن زيٍد، فلا تقول: زيد فضل رجل./ قال سيبويه لما ذكر الأمثلة: "ولا يكون المعمول فيه إلا من سببه" وإنما قال (مفضلًا) فقيد به أفعل، ولم يقتصر على قوله:(بأفعل) لأن ما ذكر من الحكم لا يكون إلا لأفعل المراد به التفضيل، فلو كان أفعل لا يراد به التفضيل، لم يلزم النصب كقولك: زيد أحمر أبًا، وأحمر

ص: 543

أبٍ وأشنب أنيابًا وأشنب أنياٍب، وفلان أشعر جسدًا وأشعر جسٍد، على حد قولك: زيد حسن وجهًا وحسن وجٍه لأن (أفعل) هنا من الصفة المشبهة.

و(مفضلًا) حال من فاعل (انصبن) و (الفاعل) مفعول به. وأصل الكلام: وانصب التمييز الفاعل معناه بأفعل حالة كونك مفضلًا به أو حالة كونك مفضلًا، كأنه ينسب التفضيل إلى (أفعل) لما كان التفضيل به يكون، وإنما نسب الفاعلية إلى المعنى مجازًا، ومراده الفاعل في المعنى. والله أعلم.

وبعد كل ما اقتضى تعجبا

ميز كأكرم بأبي بكٍر أبا

(بعد) متعلق بميز، يعني أن من المواضع اللازم فيها النصب أن يقع المميز بعد كل ما يقتضي معنى التعجب، وما يحصله من أنواع الكلام، وذلك أن ما يؤدي معنى التعجب على قسمين:

أحدهما: يرجع إلى القياس، وإلى الأبنية الخاصة به، وذلك ما أفعله وأفعل به وفعل الجاري مجراهما.

والثاني: ليس داخلًا تحت قانون القياس؛ بل يأتي في الكلام في مواضع يوقف عليها، وكلا القسمين داخل تحت (كل) في قوله:(وبعد كل ما اقتضى تعجبا).

فأما الأول فنحو ما أتى به من قوله: (أكرم بأبي بكر أبا) فـ (أبًا) منصوب على التمييز من أبي بكر، ومن مثل سيبويه: أكرم به رجلًا. وعلى هذا تقول: ما أكرم زيدًا أبًا! وما أحسن زيدًا فارسًا! وفي التنزيل الكريم: {ساء مثلًا القوم الذين كذبوا بآياتنا} وقوله: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} وقوله:

ص: 544

{وساءت مرتفقا} . {وحسنت مرتفقا} . وهو كثير.

وأما الثاني: فنحو قولك: ويحه رجلًا، ولله دره رجلًا، وحسبك به رجلًا، ولله دره فارسًا. وأنشد سيبويه لعباس بن مرداس:

ومرة يحميهم إذا ما تبددوا

ويطعنهم شزرًا فأبرحت فارسا

وأنشد أيضًا للأعشى:

تقول أبنتي حين جد الرحيل

أبرحت ربًا وأبرحت جارًا

وأجاز الفارسي أن تكون جارة من قول الأعشى:

بانت لتحزننا عفاره

يا جارتا ما أنت جاره

تمييزًا لجواز دخول من عليها لأن ما استفهام على معنى التعجب، فجارة يصح أن يقال فيها:(ما أنت من جارة). كما قال الآخر:

ص: 545

يا سيدًا ما أنت من سيد

موطأ الأكناف رحب الذراع

ومن ذلك قولهم: لا كزيٍد فارسًا، أراد: لا فارس كزيٍد، فلما حذف الاسم استبهم ففسره، وكذلك سائر ما تقدم لما أردت التعجب من المذكور، واستبهم المعنى الذي تمدحه أتيت بما يفسر المراد. ومثل قولك: لا كزيد فارسًا، ما أنشده سيبويه:

لنا مرفد سبعون ألف مدجٍج

فهل في معد فوق ذلك مرفدا

فمرفد: تمييز، والأصل: فهل في معد/ مرفد فوق ذلك؟ فلما لم يذكره احتاج إلى تفسيره لاستبهامه، وعلى هذا الحد سائر ما فيه معنى التعجب، كان التعجب فيه قياسيًا أو سماعيًا.

فإن قيل: أما إذا كان التعجب قياسيًا، فهذا ظاهر. وأما غير القياسي فمشكل، لأن الناظم جعل نصب المميز ها هنا قياسيًا. وكون التعجب سماعيًا بنافي كون نصب التمييز والإتيان به معه قياسيًا، بل الظاهر أن التمييز معه سماعي أيضًا، وإذ ذاك لا يصح قوله:(وبعد كل ما اقتضى تعجبا).

فالجواب: أن هذا غير لازٍم، بل قد يصح أن يكون الكلام سماعًا ويجري القياس في بعض أحواله؛ ولذلك نظائر قد مضى منها بعض ويأتي منها أشياء إن

ص: 546

شاء الله. فمن الكلام الذي يتعجب به (تالله) يستعمل بمعنى ما رأيت مثله أو ما في الدنيا مثله. وقولهم: ما أنت، وويحه ولله دره، ونحوها تستعمل في التعجب على غير قياٍس ولكن منها ما يكون ظاهر المعنى فيما قصدت في التعجب، كما إذا قلت: ما أحسن زيدًا وأنت متعجب من حسنه، أو قلت: وقد ذكر في الفروسية: لله دره! فهذا غير محتاٍج إلى التمييز لظهور القصد، وقد يكون وجه التعجب خفيًا، فتحتاج إلى بيانه. فإذا بينته بتمييز يكون حكمه النصب على ما بين، فيكون معنى القياس أنك إذا تعجبت بلفٍظ لا يقاس وخفي لك وجه التعجب، فجائز أن تفسره بمميٍز على هذا الوجه، ولا تناقض في هذا، وإنما التناقض في كون وجه القياس هو بعينه وجه الوقف على السماع، وليس كذلك؛ لأن القياس في الإتيان بالتمييز، والسماع في اللفظ المتعجب به، فقد ظهرت المباينة بين موضعي القياس والسماع، فلا تناقض. والله أعلم.

وقوله: (ميز) معناه انصب المفسر على التمييز حتمًا لازمًا البتة، ويستوي ها هنا المميز المضاف وغيره، كما كان لازمًا في قوله:(والنصب بعدما أضيف وجبا) إلى آخره. فالمسألتان سواء، لأنه لا يصح أن تقول: أكرم برجٍل! ولا: لله در رجٍل! ولا: حسبك برجٍل! ولا ما أشبه ذلك.

وقد يحتمل من جهة اللفظ أن يكون معنى قوله: (ميز) ايت بالتمييز إن شئت بعدما اقتضى تعجبا؛ وإنما قال هذا لأن التعجب يقتضي متعجبًا منه، فقد شئت بعدما اقتضى تعجبًا؛ وإنما قال هذا لأن التعجب يقتضي متعجبًا منه، فقد يكون بينًا نحو: ما أشجع زيدًا! وأحسن بزيد! وقد يكون مبهمًا، فإذا قلت: أحسن بزيٍد، أو حسن زيد، وأنت تريد التعجب من شجاعته أو كرمه أو نحو

ص: 547

ذلك لم يفهم ما المتعجب منه، فاحتجت إلى التمييز لتبين ما أردت التعجب منه فقلت: شجاعًا أو كريمًا، كما كان قولك:(عشرون) مبهمًا في المعدودات حتى قلت: درهمًا أو ثوبًا. قال سيبويه: حين تكلم على وجه نصب هذه الأشياء: "ومع هذا أنك إذا قلت: ويحه فقد تعجبت وقد أبهمت من أي أمور الرجل تعجبت وأي الأنواع تعجبت منه، فإذا قلت: فارسًا أو حافظًا، فقد اختصصت ولم تبهم وبينت في أي نوٍع هو". فلما كان للتعجب وجه في الإبهام نص على أن التمييز يقع بعده، ويلزم من ذلك النصب، لأن التمييز لا/ يكون إلا منصوبًا، والظاهر في تفسير كلامه الوجه الأول. وعلى كل تقديٍر فالنصب لازم، لأن التمييز هنا إما من مضاٍف، وإما من مؤوٍل بالمضاف فقولك: لله دره فارسًا في تأويل: ما في الدنيا مثله فارسًا، وكذلك: حسبك به عالمًا وما أحسنه فارسًا. وسائر ما تقدم على هذا التأويل يجري، فيصير المبهم هو المثل وهو مضاف، فلا يمكن فيه الجر. والله أعلم. ثم قال:

وأجرر بمن إن شئت غير ذي العدد

والفاعل المعنى كطب نفسًا تفد

يعني أن التمييز يجوز جره بمن ظاهرة، فتقول: لي ملوه من عسل. وهذا راقود من خل، ورطل من زيٍت، ومنوان من عسٍل، وما في السماء موضع راحة من سحاٍب، ولله دره من رجل، وحسبك به من رجٍل. وما أشبه ذلك كله جائز، وإنما جاز لأن التمييز هذا أصله، فهو إذا انتصب إنما ينتصب على تضمين معنى من، فساغ إظهارها والجر بها، ولا يريد بقوله:(واجرر بمن) أن الجر بها جائز وهي مقدرة متضمنة؛ لأن حروف الجر لا يبقى عملها مع عدم ظهورها، وما جاء من ذلك في الشذوذ لا معتبر به،

ص: 548

وإنما يريد: ايت بها في الكلام وجر بها إن شئت ذلك، لكن ليس في كلامه نص على إظهارها، وبذلك يكون كلامه غير محرٍر؛ إذ قد يفهم منه الجر بها مضمرة، لأن من التمييزات ما يجر كذلك، وذلك مميز كم الاستفهامية، إذا أدخل عليها جار نحو: بكم درهٍم اشتريت ثوبك؟ فدرهم عند الناظم مجرور (بمن) مضمرٍة، نص عليه في بابه، وكذلك قولك: كم غلاٍم أعتقت. في الخبرية، الغلام عند بعض القدماء مجرور (بمن) مضمرة، لأن المعنى في الجميع شاهد من حيث كان معنى (من) مفهومًا ظاهرًا، فقد يقول القائل: هذا كذلك، وليس بصحيح؛ إذ لا يجوز هنا الجر إلا (بمن) ظاهرًة أو بإضافٍة كما تقدم. فعبارة الناظم موهمة.

والعذر أنه لو كان قصده الإضمار لبين ذلك، ولا يحتاج إلى بيانه إذا لم يكن إضمار، وذلك أن قاعدة العوامل وأصلها أن تعمل ظاهرًة ملفوظًا بها، فإن عملت وهي مضمرة فذلك عارض لها ليس بأصٍل، ولا بد من التنبيه على ذلك العارض، فعادته وعادة غيره أنه إذا تكلم في العمل لا يحتاج إلى تقييد العامل بكونه ظاهرًا إذا كان باقيًا على أصله، فإن عرض له الإضمار نبه عليه، وكذلك فعل في كم حين بين أن درهمًا في قولهم: بكم درهٍم اشتريت ثوبك؟ وفي غير ذلك من المواضع التي يضمر فيها الجار، فلما يقيد هنا (من) بكونه مضمرًة، علمنا أنها إنما تعمل على أصلها من الإظهار. وهذا بين.

وقوله: (إن شئت) تخيير بين النصب المذكور أولًا والجر، أي أن أحدهما ليس بخارج عن القياس؛ بل هما معًا جائزان قياسًا، فلك الخيرة بينهما في الاستعمال إلا في موضعين استثناهما:

ص: 549

أحدهما: تمييز العدد، وذلك قوله:(غير ذي العدد) فـ (ذي) بمعنى صاحب، واقع/ على التمييز كأنه قال: غير التمييز صاحب العدد، يعني أن تمييز الأعداد لا يجر (بمن) ظاهرًة أصلًا؛ بل يلزم النصب على التمييز لا غير، فتقول: أحد عشر درهمًا، وعشرون درهمًا، ولا تقول: أحد عشر من درهم، ولا عشرون من درهم ولا ثلاثون من ثوب، ولا ما أشبه ذلك، وإنما كان ذلك لأن (من) إنما تدخل على النوع الذي المميز بعضه، فيحتاج إلى أن يكون ذلك النوع أكثر من المميز. وهذا واضح في: رطل من عسٍل، وراقود من خل، ونحو ذلك، وأما الأعداد فقد عرف مقدارها وعدد أفرادها من لفظها، فبقي حقيقة الإفراد، فاكتفى في ذلك بواحد منها، فلم يصح أن تدخل (من) لأنها جنسية تفيد أن ما دخلت عليه جنس لبعٍض تقدم قبلها، فإذا كان العدد على خلاف ذلك لأن الدرهم بعض مما قبله، لم يصح دخولها لما يلزم من عكس القضية، وهو أن يكون ما تدخل عليه وهو التمييز بعض المميز، وذلك خلاف ما عليه الأمر في (من) الجنسية بخلاف: رطل من عسٍل، فإنه على القاعدة الظاهرة. بهذا علل المسألة بعضهم، وفيه نظر، فإن درهمًا إنما المراد به الجنس لا درهم واحد.

والموضع الثاني: التمييز الذي هو فاعل من جهة المعنى، وذلك قوله:(والفاعل المعنى) وهو معطوف على (ذي) أي: غير ذي العدد وغير الفاعل المعنى، يعني أن التمييز الذي هو فاعل في أصل المعنى لا يصح أن تدخل عليه (من)، نحو قولك: زيد أكثر مالًا، وأعز نفرًا، فمالًا ونفرًا فاعل في المعنى، والمراد: زيد كثر ماله وعز نفره، وكذلك: زيد أطيب نفسًا، ومثله الناظم بقوله:(طب نفسًا) أي لتطب نفسك، فلا يجوز ها هنا الجر بمن، فلا تقول: زيد أكثر من ماٍل، ولا أعز من نفٍر، ولا أطيب من نفٍس، ولا طب من نفٍس، ولا ما أشبه ذلك، ومثله: مررت برجٍل حسٍن وجهًا، لا تقول: حسن من

ص: 550

وجه، لأنه فاعل في المعنى، والتقدير: حسن وجهه، وإنما امتنع دخول (من) ها هنا اعتبارًا بما في التمييز من معنى الفاعلية، فلم يدخلوها عليه؛ لأن الفاعل لا يقع مجرورًا بحرف غير زائد، هذا تعليل بعضهم. وأيضًا: فإن التمييز ها هنا ليس على معنى (من) كما كان في نحو: رطل زيتًا، وما أفضله رجلًا، فلا ينجر بحرٍف لا يقتضيه معناه، وقد كان التمييز يقتضي معنى (من) في عشرين درهمًا وشبهه، لأن المعنى: من الدراهم، ولكن لم ينطق بها مع الإفراد، فأحرى ألا يؤتى بها إذا لم يقتضيها معنى التمييز.

و(تفد) جواب لقوله: (طب نفسًا) ومعناه: تعطى الفائدة من: أفاده يفيده إفادة، والاسم الفائدة، وهي ما استفاده الإنسان من علم أو ماٍل أو غيرهما.

ثم قال رحمه الله:

وعامل التمييز قدم مطلقا

والفعل ذو التصريف نزرًا سبقا

عامل التمييز على قسمين:

فعل متصرف نحو: طاب زيد نفسًا، {واشتعل الرأس شيبًا} . وامتلأ الإناء/ ماء، وما أشبه ذلك.

وفعل غير متصرٍف، أو غير فعل نحو:{كبرت كلمة} ، وأكرم بزيٍد أبًا، وزيد أفضل أبًا، ولي ملء الإناء عسلًا، وما لي مثله عبدًا، ونحو ذلك، وكلاهما يلزم فيه تقديم العامل عند الناظم في هذا الكتاب لقوله:(وعامل التمييز قدم مطلقا) يعني أنه يلزم تقديمه عليه كان متصرفًا أو غير متصرف، فلا يجوز تأخير العامل، نحو: نفسًا طاب زيد، وشيبًا اشتعل الرأس، ولا كلمة كبرت،

ص: 551

وأبًا أكرم بزيٍد، ولا عسلًا لي ملء الإناء، ولا ما كان مثل ذلك، فإن ورد من ذلك شيء فهو من محفوظات الشعر، نحو ما أنشده الفراء من قول الراجز:

ونارنا لم ير نارًا مثلها

قد علمت ذاك معد كلها

وأعني مع كون العامل غير متصرٍف، وإذا كان متصرفًا فسيأتي ما فيه، ولم يلتفت إلى تقديم التمييز على صاحبه دون العامل، لأن العامل إما أن يكون هو المميز أو غيره، فإنه كان هو المميز، فالنص على تقديم العامل نص على تقديم المميز، لأنه هو، وإن كان غيره فلا مبالاة بتقديم التمييز على المميز إذا كان العامل متقدمًا، فيجوز: اشتعل شيبًا الرأس، وطاب نفسًا زيد، ونحو ذلك. قال ابن الضائع: وهو متفق عليه.

وإنما اختلفوا في تقديم التمييز على العامل على تفصيل، وهو أنه لا يخلو أن يكون العامل متصرفًا أو غير متصرف، فإن كان غير متصرف في خلاف في منع التقديم، وأما إن كان متصرفًا، فإن النحويين اختلفوا فيه، فالجمهور من البصريين على منع التقديم، وإليه مال ابن مالك هنا، وفي الفوائد المحوية له، لأنه جعل التقديم نزرًا بقوله:(والفعل ذو التصريف نزرًا سبقا) يعني أن الفعل المتصرف قد جاء في السماع مسبوقًا بالتمييز، لكن نزرًا: نادرًا لا يعتبر.

فإن قيل: لعله أخذ في القياس بذلك النزر لأن النزر بمعنى القليل، والقليل عنده قد يقيس عليه، وقد تقدم من ذلك.

فالجواب: أن قوله أولًا: (وعامل التمييز قدم مطلقا) نص في وجوب التقديم، فاللازم عن ذلك أن تقديم التمييز عنده ممنوع مطلقًا في القياس، ثم

ص: 552

أخبر عن السماع، والذي جاء في السماع من ذلك نزر كما قال. ومنه ما أنشده المازني للمخبل، وهو ثابت له في كتاب سيبويه.

أتهجر ليلى بالفراق حبيبها

وما كان نفسًا بالفراق تطيب

والتقدير على قوله: وما كان تطيب نفسًا بالفراق. وأنشد المؤلف في الشرح:

ضيعت حزمي في إبعادي الأملا

وما ارعويت ورأسي شيبًا اشتعلا

التقدير: اشتعل شيبًا، وأنشد أيضًا:

ولست إذا ذرعًا أضيق بضارٍع

ولا يائٍس عند التعسر من يسر

وأنشد أيضًا:

أنفسًا تطيب بنيٍل المنى

وداعي المنون ينادي جهارا

والذي اشتهر عند النحويين الأول، والجميع إن صح نادر، فلا اعتداد به في القياس عنده.

ص: 553

وذهب الكسائي من أهل الكوفة، والمازني وتلميذه المبرد - من أهل البصرة/ إلى جواز التقديم، وهو مذهب ابن مالك في التسهيل وشرحه. والصحيح منع ذلك من جهة القياس والسماع.

أما السماع: فلو كان مقولًا لسمع، لكنه لم يسمع إلا نادرًا في الشعر الذي هو محل الضرورة، فدل على أن العرب تمتنع منه قصدًا.

وأما القياس: فإن التمييز هنا منقول من الفاعل، فأصله أن يكون فاعلًا، فكرهوا أن ينقلوه عن موضعه الأصلي، وهو أن يؤخروه عن العامل فيه؛ إذ كان الفاعل لا يتقدم على عامله. وهذا قاله الفارسي وغيره.

ورد ذلك ابن عصفور باتفاقهم على جواز التقديم في نحو: أذهبت زيدًا، وإن كان فاعلًا في أصله.

وأجيب بأن التمييز فاعل في أصله بهذا الفعل الذي نصبه، وزيدًا في: أذهبت زيدًا، لم يكن قط فاعلًا بهذا الفعل الذي هو أذهبت، وإنما كان فاعلًا بالفعل الذي نقل منه، وهو ذهب، وهو الآن مفعول صحيح، فوجب أن يغلب عليه الحكم الحاضر، وأما التمييز فإنما هو فاعل في الحقيقة وانتصابه إنما هو مجاز، وعلى التشبيه هذا وجه.

ووجه ثاٍن: أن المانع شبهه بالنعت في أنه بيان لما قبله، فلا يتقدم، كما لا يتقدم النعت. وهذا منقول عن الفارسي أيضًا، واستحسنه ابن خروف، ورده

ص: 554

ابن عصفور بأنه لو كان كالنعت لم يتقدم على المميز متوسطًا بينه وبين الفعل، كما لا يتقدم النعت.

قال ابن الضائع: ولهم أن يفرقوا بأن النعت بيان للمنعوت والتمييز ليس بيانًا للمرفوع فيه، وإنما هو بيان لمن له الفعل حقيقة، فهو بيان للفعل وإسناده حقيقة فلا يتقدم عليه.

ووجه ثالث: أن المانع كون عامله غير متصرفٍ، لأن ناصبه تمام الكلام لا الفعل المذكور. قاله ابن عصفور. ورد بأن ذلك دعوى؛ إذ لا يصح أن ينسب العمل إلى غير الفعل مع حضوره وإمكان نسبة العمل إليه.

فإن قال: قد ثبت في المنتصب بعد تمام الاسم أنه لا يعمل فيه الفعل.

أجيب بأن الأحكام من جره عند زوال التمام، دلت على تعذر نسبة العمل إلى الفعل، فليس حكمهما واحدًا، بل هما نوعان مختلفان، ولذلك يمتنع التقديم هنا باتفاق، وكالحال أيضًا إذا عمل فيها الفعل تقدمت عليه، وإذا عمل فيها المعنى لم تتقدم.

ووجه رابع: أن الأصل في الحال والتمييز امتناع التقديم لضعف العامل. ألا ترى أنه لا يعمل فيها إلا نكرتين، لكن الحال أشبهت الظرف، فجاز تقديمها، كما جاز تقديم الظرف، وبقى التمييز على أصل الامتناع. وهذا منقول عن الجرمي.

ووجه خامس: أن المانع أنهم كرهوا الاتساع بعد الاتساع مع اعتبار الفاعلية في الحقيقة. قاله بن أبي الربيع، وهو معنى ما نقل ابن مالك في الشرح عن المانعين من أن هذا النوع من التمييز فاعل في الأصل، وقد أوهن بجعله

ص: 555

كالفضلات، فلو قدم لازداد وهنا إلى وهنه، فمنع، لأنه إجحاف، ورده من أوجه ستة - أجاب عن جميعها / شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار، رحمة الله عليه:

أحدها: أنه دفع روايات برأي لا دليل عليه.

والجواب: أنا لم نرد قط رواية برأي، وإنما قلنا: إن ما سمع من التقديم مخصوص بالشعر الذي يجوز فيه تقديم ما لا يجوز تقديمه في النثر على تسليم أن إعرابه تمييز، وقد يتجه له إعراب آخر.

والثاني: أن جعل التمييز كبعض الفضلات محصل لضرب من المبالغة، ففيه تقويه لا توهين، فإذا حكم بعد ذلك بجواز التقديم ازدادت التقوية وتأكدت المبالغة.

والجواب: أن المسألة من باب تشبيه الأصول بالفروع، وإذا شه أصل بفرع لم يقو الفرع أن يحمل عليه الأصل في جميع وجوهه، وإنما يحمل عليه في الوجه الذي وقع فيه التشبيه دون ما لم يقع فيه تشبيه، وفي تقديم التمييز زيادة بعد عن الأصل، وإنما وقع التشبيه بالمفعول في مجرد النصب لا في جواز التقديم، فوجب الامتناع.

والثالث: أن أصالة فاعلية التمييز المذكور كأصالة فاعلية الحال نحو: جاء راكبًا رجل، فإن أصله جاء راكب على الاستغناء بالصفة، وجاء رجل على عدم الاستغناء بها، والصفة والموصوف شيء واحد في المعنى، فقدم راكب ونصب بمقتضى الحالية، ولم يمنع ذلك تقديمه على جاء مع أنه يزال عن إعرابه الأصلي وعن صلاحية الاستغناء به عن الموصوف، فكما تنوسي الأصل في الحال، كذلك تنوسي في التمييز.

والجواب: أن هذا تلفيق بعيد جدًا، وذلك أن ما ذكره من أصالة فاعلية

ص: 556

الحال غير صحيح؛ لأن الحال لم تكن قط فاعلة لا لفظًا ولا أصلًا، وإنما أصلها أن تكون تابعة لموصوف تكون على حسبه من رفع أو نصب أو خفض، ولم يكن قط راتبًا لها، فيكون كالتمييز.

والرابع: أنه لو صح اعتبار الأصالة في عمدة جعلت فضلة، لصح اعتبارها في فضلة جعلت عمدة، فكان يجوز لنائب عن الفاعل من التقديم على رافعه ما كان يجوز له قبل النيابة، والأمر بخلاف ذلك، لأن حكم النائب فيه حكم المنوب عنه، ولا يعتبر حاله التي انتقل عنها، فكذلك التمييز المذكور.

والجواب: أن النائب إنما ناب عن الفاعل في وجه لا يصح معه تقدم، وهو شغل الفعل به وبناؤه له، وجعله معه كالشيء الواحد، وامتناع حذفه، كما أن الفاعل كذلك فيما ذكر، بخلاف التمييز، فإنه لمن يشبه بالمفعول إلا في مجرد النصب خاصة من حيث اشتغل الفعل بغيره لفظًا، فأشبه الفضلات، فانتصب انتصابها.

والخامس: أن منع تقديم التمييز المذكور عند من منعه مرتب على كونه فاعلًا في الأصل، وذلك إنما هو في بعض الصور، وفي غيرها هو بخلاف ذلك، نحو: امتلأ الكوز ماء، و {فجرنا الأرض عيونًا} . وفي هذا دلالة على ضعف علة المنع لقصورها عن عموم جميع الصور.

والجواب: أنه قد صح في غير موضع من العربية حمل ما ليس فيه سبب/ على ما فيه السبب إذا كان الجميع من باب واحد ليجري الكل على أسلوب واحد، كتعد ونعد وأعد مع يعدـ وكيذر مع يدع، وكامتناع نعت الضمير

ص: 557

بغير نعت البيان حملًا على امتناع نعته به. ونظائره كثيرة، وهذا من ذلك.

والسادس: أن امتناع أصالة الفاعلية في منع التقديم على العامل متروك في نحو: أعطيت زيدًا درهمًا، فإن زيداً في الأصل فاعل وبعد جعله مفعولًا لم يعتبر ما كان له من منع التقديم؛ بل أجيز فيه ما يجوز فيما لا فاعلية له في الأصل، فكذا ينبغي أن يفعل بالتمييز المذكور.

والجواب: أن هذا بعينه هو رد ابن عصفور، وأجيب بالفرق بين المسألتين: أن زيدًا هنا، لم يكن قط فاعلاً بهذه البنية الناصبة له، وإنما كان فاعلًا في بنية أخرى وهي عطا قبل النقل، وهما بنيتان مختلفتان كما ترى، وأما التمييز فإنه فاعل في الأصل والمعنى بهذه البنية الناصبة له في الحال، وليس مفعولًا صحيحًا كزيد في أعطيت زيدًا درهمًا، وقد تقدم هذا المعنى.

هذا ما احتج به ابن مالك، وما رد به الأستاذ رحمه الله. قال ابن الضائع: والصحيح في المنع عدم ورود السماع به، وذلك أن التمييز كثير في الكلام، فإن لم يرد مقدمًا في موضع أصلًا - يعني في الكلام - دليل على رفضه. قال: ويدل على ذلك أن مجوز تقديمه لم يعثر على اتساعه في كلام العرب واتساع من بعده إلا على هذا البيت - يعني بيت المخبل - وليس بنص فيما زعموا، ولو كان نصًا لوجب حمله على الضرورة؛ إذ لم يرد. وما قال ابن الضائع من الاعتماد على السماع هو الأصل عند الجميع، ولكنهم مع ذلك أظهروا للمنع وجوهًا من القياس، فالحق إذا ما ذهب إليه الناظم هنا.

حدثنا شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار - رحمة الله عليه - قال: أخبرني من أثق به من أصحابنا - يعني تلميذه الشيخ أبا جعفر الشقوري شيخنا أنه

ص: 558

لقي الشيخ أبا حيان الغرناطي بالقاهرة، فسأله عن مذهب مدرسي العربية بغرناطة في هذه المسألة. قال: فأخبرته بامتناع التقديم، فقال: بل الصحيح الجواز قياسًا وسماعًا، ثم قام، فأخرج له مبيضة على تسهيل ابن مالك، وقرأ عليه وجه القياس. وأنشد له من السماع أبياتًا كثيرة.

قال الأستاذ: يرحم الله أبا حيان لقد أغفل أصلًا عظيمًا من أصول النحو مع كثرة دوره على ألسنة المقرئين، وذلك أن تقديم التمييز على عامله إذا كان فعلًا - يعني متصرفًا- لو كان جائزًا عند العرب لكثر نظمًا ونثرًا كثرة لا يمكن فيها تأويل، كما كثر تقديم الحال على عاملها إذا كان فعلًا نظمًا ونثرًا كثرة لا يمكن فيها تأويل.

قال: فلما كان الأمر على خلاف ذلك، دل دلالة واضحة على امتناع العرب من تقديمه على عامله وإن كان فعلًا، لأن اختصاص ذلك الشعر مع كثرة استعماله دليل على أنه من ضرائره. وزادني شيخنا أبو عبد الله البلنسي - أجله الله - في هذه الحكاية أن أبا حيان لما قرأ عليه تلك الأبيات على كثرتها قال له: ما تقولون/ في هذه الشواهد؟ فقال له الفقيه أبو جعفر: نجمعها جميعًا، ونقول هذا شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. قال: فانزعج الشيخ أبو حيان لهذا الكلام، وإنما نبه الفقيه أبو جعفر بما قال على الأصل الذي أشار إليه شيخنا الأستاذ - رحمة الله عليه - وهو أصل متفق عليه عند الأكابر: الخليل وسيبويه، فمن دونها إلى الآن، وابن مالك قد يعتبره في مواضع كهذا الوضع، وقد لا يعتبره كما فعل في مسألة دخول واو الحال على المضارع الموجب، وفي مسألة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف، وغيرهما من المسائل التي تقدمت إلى أخر ستأتي في مواضعها إن شاء الله.

ص: 559

والأصل المذكور قد تبين في الأصول، وسيقع التنبيه عليه في باب الإضافة إن شاء الله، و (سبق) فعل مبني للمفعول للعلم بالفاعل، وهو التمييز، أي نزراً سبقه التمييز، والنزر: القليل التافه. يقال: نزر الشيء - بالضم - ينزر نزارة، وانتصب هنا على الحال من ضمير سبق.

وهنا انقضى الكلام على المنصوبات ونصب الأفعال إياها، وأخذ بعد يتكلم على المجرورات وعواملها وأحكامها الخاصة بها. وهذا حين ابتدائه.

ص: 560