المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المفعول له هذا هو النوع الثاني من المنصوبات التي ينصبها كل - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٣

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌المفعول له هذا هو النوع الثاني من المنصوبات التي ينصبها كل

‌المفعول له

هذا هو النوع الثاني من المنصوبات التي ينصبها كل فعل كان متعديا أو غير متعد، ويسمى مفعولا له، ومفعولا من أجله، والمعنى واحد، وإنما أتى به بعد المصدر؛ لأنه إنما يكون مصدرا، فكأنه نوع منه، لكنه فصله من باب المصدر فدل على أنه ليس بمنتصب على ما انتصب عليه نوع المصدر، وإنما هو منصوب على إسقاط الجار، فالواصل إليه الفعل الأول، لا بمعناه فقط، بل بلفظه ومعناه.

وقد نُقِل عن الزجاج أنه منصوب على ما انتصب عليه نوع المصدر؛ لأنك إذا قلت: قصدتك ابتغاء الخير، فمعناه: ابتغيت الخير ابتغاء بقصدي إياك، فقصدت في معنى: ابتغيت، فهو مصدر، وأسقط المفعول له من الوجود، فالمفعولات عنده أربعة لا خمسة، ورد بأن قصدت ليس معناه ابتغيت، ولا يجوز أن ينتصب المصدر إلا بفعل من لفظه أو بمرادف له كـ"آلت حلفه" وأيضا فالدليل على أنه منصوب على إسقاط الجار مجيئه كثيرا في جواب لم فعلت؟ فتقول: لابتغاء الخير، ويجوز أن يقول: ابتغاء الخير، فلو كان مصدرا لم يجز وقوعه في جواب الاستفهام المجرور بلام التعليل؛ لأن الجواب إنما يكون على حد اسم الاستفهام في إعرابه. ولا يجوز جر المصدر باللام، إذ لا يقال: قعد

ص: 267

للقرفصاء، ولا: عد للبَشكَى، ولا ما أشبه ذلك، وأيضا فإن نوع المصدر متحد بعامله معنى كقَعَد القرفصاء، فإن القرفصاء هو القعود المذكور، وأنت إذا قلت: قصدتك ابتغاء الخير، فابتغاء الخير ليس نفس القصد. فهذا دليل على صحة ما رآه الناظم، ورد ما قاله الزجاج. وقد زعم بعضهم أن هذا المصدر ليس بمفعول له، ولكنه حال، فالمصدر فيه واقع موقع الحال كقتلته صبرا، وسرت إليه ركضا، وغير ذلك مما يأتي في باب الحال. ورد بأنه لو كان كذلك لم يأت معرفة بالألف واللام، ولا بالإضافة، وقد أجازوا في القياس جئتك ابتغاء الخير، وفعلت ذاك حذر الشر، وفي القرآن الكريم:{يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} ، ومنه ما أنشده سيبويه لحاتم الطائي:

وأغفر عوراء الكريم إدخاره

وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

وأنشد أيضا للعجاج:

يركب كل عاقر جمهور

مخافة وزعل المحبور

والهول من تهول الأمور

وهو كثير، فالصحيح أنه ليس كما قال هذا القائل. وقد قال النحاة: إن قولك

ص: 268

فعلته حذر، جواب لقوله: لم فعلت كذا؟ وقولك: قتلته صبرا، جواب لقوله: كيف قتلته؟ فالأول سؤال عن السبب، والآخر سؤال عن الكيفية، وبينهما بوْن، ولا يصح أن يقع أحدهما موقع الآخر، قال سيبويه:"واعلم أن هذا الباب أتاه النصب كما أتى الباب الأول ولكن هذا -يعني باب قتلته صبرا- جواب لقوله: كيف قتلته؟ كما كان الأول جوابا لقوله: لمه؟ " ولنرجع إلى تفسير كلامه بعد ما تبين اختياره:

ينصب مفعولا له المصدر إن

أبان تعليلا كجد شكرا ودن

المفعول له هو: الاسم المنتصب بالفعل على أنه علة في وجوده، بهذا حده بعضهم، وقيل هو: السبب الذي له يقع ما قبله، وهو بمعنى الأول؛ وذلك أنك إذا قلت: قصدتك ابتغاء الخير، فالابتغاء علة في وجود القصد، وهو قول الناظم:"إن أبان تعليلا" أي إن أبان سبب الفعل وعلته الذي لأجله أوقع الفاعل الفعل، والحاصل من كلام الناظم أن المفعول له: هو ما اجتمع فيه أربعة أوصاف.

أحدها: أن يكون مصدرا، وهو المشار إليه بقوله:"ينصب مفعولا له المصدر" فلو كان غير مصدر لم يصح أن ينتصب على المفعول له، كقولك: جئت لزيد، وأتيت لك أي لأجلك، فما كان هكذا فلا ينصب بل يلزم الجر باللام، ولا تحذف أصلا؛ قال بعضهم:"لأن اللام إنما تحذف من المصدر هنا تشبيها به إذا اقتضاه فعله المشتق منه، وغير المصدر لا يشبه ذلك المصدر"، وللزوم الجر تعليل آخر، وهو أنه لو انتصب لوقع اللبس بينه وبين غيره؛ لو قلت: فعلتك هذا، وأنت تريد: فعلت لك هذا، بخلاف المصدر؛ إذ لا لبس فيه إذا قلت: فعلت هذا حذرًا من زيد.

ص: 269

والثاني: أن يدل على معنى السببية والعلة، وذلك قوله:"إن أبان تعليلا" وقد تقدم. فلو لم يبين تعليلا لم يكن مفعولا له، كقولك: قتلته صبرا، وأتيته ركضا، وما أشبه ذلك فهو على هذا من نوع آخر، وباب آخرن وكذلك: رجع القهقري، واشتمل الصماء، *أرسلها العراك* وما أشبه ذلك مما لا يدل على التعليل.

والثالث والرابع: أن يتحد المفعول له مع الفعل في الزمان والفاعل وذلك قوله:

وهو بما يعمل فيه متحد

وقتا وفاعلا وإن شرط فقد

فاجرره بالحرف وليس يمتنع

مع الشروط كلزهد ذا قنع

فقوله: "وهو بما يعمل فيه متحد" جملة في موضع الحال من ضمير أبان، أو من المصدر، كأنه قال: إن أبان المصدر تعليلا في حال اتحاده بكذا، أو ينصب المصدر في هذه الحال، ويحتمل أن يكون الكلام معطوفا على الكلام قبله، على معنى أنه من شأنه اتحاده بكذا، فأما اتحاد المفعول له بما يعمل فيه وقتا فأراد به أن يكونا معا واقعين في زمان واحد، فقولك: قصدتك ابتغاء الخير، قد اتحد فيه القصد مع الابتغاء في الزمان غير أن أحدهما علة للآخر، فلو لم يتحد الزمان لرجعت إلى الجر باللام كما إذا قلت: أكلت للعيش، وسرت للحاق فلان، وقد قال امرؤ القيس:

ص: 270

فجئتُ وقد نضَت لنوم ثيابها

لدى الستر إلا لِبْسة المُتفضِّل

وفي المثل السائر:

*لدوا للموتِ وابنوا للخراب*

فالأكل ليس بمتّحد مع العيش في الزمان بحسب القصد، كذلك النوم لم يقع في زمان خلع الثياب، وكذا سائر المُثُل؛ فلأجل هذا قال:"وهو بما يعمل فيه متّحد وقتًا" أي والمفعول متّحد بفعله العامل فيه. ووقتًا منصوب على التمييز المنقول من الفاعل، والمعنى وهو متّحد وقته بوقت فعله. وفي قوله: "بما يعمل فيه نصٌّ على أنّ الفعل المتقدّم هو العامل فيه، وهو صحيح لكنه على إسقاط الجار كأحد المفعولين في باب الأمر.

وأما اتحاده بالعامل فيه فاعلًا فمعناه أنْ يكون فاعل العامل وفاعل المفعول له واحدًا، كقصدتك ابتغاء الخير، فلو اختلف فاعلهما لروجع الأصلُ، ونحو: أكرمتك لإجلالٍ زيدٍ إياك، ومن ذلك قول الشاعر:

وإني لتعروني لذكرك فترة

كما انتفض العصفور بلَّلَه القَطْرُ

ص: 271

ففاعل تعرو الفترة، وفاعل الذكر المتكلّم، فلا يصح نصب الذكر. ونصُّ الناظم على هذين الشرطين دليل على أنّ كلّ واحد منهما مُنفَكٌّ عن الآخر فقد يفترقان فيتّحد الفاعل دون الزمان تارة، وبالعكس أخرى كما تقرّر، وزعم بعضهم أنّ ذلك شرْطٌ واحد؛ إذ لا يتصوَّر ألا يتّحد الزمان إلّا إذا كانا لفاعلين كما تقول: أكرمُك لإجلالك إيّاي، وردّ عليه ابن عصفور بأنّك تقول: أكرمتك أمس طمعًا في معروفك غدًا، قال ابن الضائع: وهذا الردُّ فاسد؛ لأنك وقت إكرامك إيّاه طامعٌ، ولو لم تكن طامعًا في ذلك الوقت لم يكن الطمع علّة في وجود الإكرام، قال: وإنّما الغد ظرفٌ لحصول المعروف. قال: "وإنما يرُدُّ عليه بالمثال الذي قدمنا، وهو أن يكون الفعل مستقبلًا وسببه ماضيًا -يعني قوله: أكرمك غدًا إكرامي إيَّاك أمس- يريد: لإكرامي، وما تقدم أيضًا من الأمثلة في الشرط الثالث ردٌّ عليه. ونصُّه عليهما أيضًا دليلٌ على أنّه لم يأخذ بمذهب ابن خروف في إسقاطه الشرط الرابع؛ إذ ردَّ على الأعلم في اشتراطه، وقال: إنَّه لم ينُصَّ عليه أحدٌ من المتقدّمين، ولا يمتنع جئتك حَذَرَ زيدٍ الشر، قال: "ويظهر من تمثيل سيبويه، وهو في الكلام والشعر موجود". والأصح ما ذهب إليه الناظم، وهو رأي الشلويين أيضًا والمتأخرين، وعمدتهم في ذلك السماع، فالأصل في هذا المفعول حرف الجر، ولا خلاف أن أكثر ما وجد في كلامهم بتلك الشروط، فلا ينبغي أن يقاس مع خلافها كما لا ينبغي أن يُقاس في غير المصادر بل مواضع الاتساع لا ينبغي أن تُتَعدَّى أصلًا. هذا إن جاء من ذلك

ص: 272

شيء في السماع، وهو قليل ومحتمل للتأويل. وقد احتج ابن خروف على الجواز بقول الله تعالى:{هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا} فالخوف والطمع ليس من صفة الفاعل.

قإن قيل: ذلك من فعل الله تعالى.

قيل: هذا المشترط لا يريد بقوله: " فعلًا لفاعل الفعل المعلّل" إلا صفة للموصوف بالفعل المعلّل، وإلا فكل شيء فعل الله، ومما احتجّ به لمذهبه أيضًا ما أنشده في الكتاب للفرزدق:

منا الذي اختير الرجال سماحةُ

وجودًا إذا هَبَّ الرياح الزعازعُ

فسماحة مفعول له، وليس فعلًا للمختار الفاعل. وقول العجاج:

يركب كل عاقر جمهور

مخافة وزعل المحبور

فإن الزعل -وهو النشاط- للمحبور لا للراكب، وأنشد السيرافي:

مدّت عليك الملك أطنابها

كأسٌ رَنَوْناةٌ وطِرْفٌ طِمِرْ

أراد: مدت عليك كأس أطنابه من أجل الملك، فالملك ليس من فعل الكأس.

ص: 273

ولا حجة في هذه الأشياء على قلتها؛ أمّا الآية فلاحتمال أن يكون خوفًا وطمعًا مصدرين على حذف الزيادة، كأنه قال: إخافة وإطماعًا، كقوله:{والله أنبتكم من الأرض نباتًا} وقال المؤلف في شرح التسهيل: إنّ معنى يريكم: يجعلكم ترون، ففاعل الرؤية على هذا هو فاعل الخوف والطمع، وقيل: هو على حذف المضاف، أي إرادة الخوف والطمع، وقد جعل الزمخشري الخوف والطمع حالين، وإذا اتحملت هذه الأمور لم يصحّ الاستدلال بها. وأمَّا بيت الفرزدق فسماحة فيه تمييز منقول من الفاعل، أي اختيرت سماحته. وأما (زعل المحبور)، فالمحبور هو الحمار الموصوف بأنه يركب. وأما:(مدّت عليه الملك أطنابها) فحمله السيرافي على الحال، وجعله كقولهم (أرسلها العراك) هذا وإن كان ذلك سماعًا فهو محتمل، والمحتمل لا تقوم به حُجَّة فالأصح ما رآه الناظم.

فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الأربعة كان الموصوف بها مفعولًا [له]، ونُصبَ على ذلك نحو: ما مثَّل به في قوله: "كجُد شكرًا ودِن"، فشكرًا مصدر قد أبان التعليل للجود، واتّحد بفعله العامل فيه، وهو الجود في الزمان والفاعل؛ لأن الشاكر هو الجائد، واتَّحد بفعله العامل فيه، وهو الجود في الزمان والفاعل؛ لأن الشاكر هو الجائد، وكلاهما حاصلان في زمان واحد، ومن ذلك قول النابغة:

وحَلَّت بُيوتي في يَفَاعٍ مُمنَّع

يُخال به راعي الحمولة طائرًا

ص: 274

حِذارًا على أن لا تصابَ مَقادَتي

ولا نِسوَتي حتَّى يَمُتنَ حرائرًا

وقال الحارث بن هشم -أنشده وما قبله سيبويه:

فَصَفَحْتُ عنهم والأحبة فيهمُ

طمعًا لهم بعقاب يومٍ مُفسِد

وقوله: "ودِن" يحتمل أن يكون تكميلًا للمثال، وهو أمرٌ من: دان يدين بالشيء إذا اتخذه دينًا وعادة، أي اجعل ذلك عادة، فلا تزال تجود على الناس شكرًا لما أُعطِيت، ويَحتمل أن يكون إشارة إلى مثال ثانٍ حُذف منه المفعول له لدلالة الأول عليه، كأنه قال: ودِن شُكرًا، ويكون أمرًا من: دان لع يدينُ إذا ذلَّ وخضع، كأنه يقول: اخضع لمن أعطاك شكرًا له، أو من: دِنتُه إذا جازيتُه، أي: جازِ من أعطاك شكرًا له.

هذا تمام الكلام على هذه الأوصاف التي بمجموعها تبيّن المفعول له، إلا أنّ كلام الناظم فيها غير تام من أوجهٍ ثلاثة:

أحدها: أنّ حقيقة المفعول له هو: الاسم المنصوب على أنّه عِلَّة لحصول الفعل المُتَقَدِّم كما تبيّن قبل، ثم ما سوى ذلك شروط للنصب خارجةٌ عن حقيقته في الاصطلاح، والناظم عكس الأمر فعرَّفه بأنه المصدر بشرط أن يُبين تعليلًا، وبشرط كذا، وأنت تعلم أنّ كونه مصدرًا ليس عِلَّةً في كونه مفعولًا له، ولا المصدرية من حقيقته، وأنَّ كونه يُبيّن التعليل ليس بشرط خارج عن

ص: 275

حقيقته، بل هو أصله، لذلك سموه مفعولًا من أجله، فما فعل الناظم من ذلك مخالفٌ لما عليه الأمر في نفسه. وعلى هذا ينبني الاعتراض الثاني، وهو أنّه لما بيّن الشروط وأتى في أثنائها بقوله:"إن أبانَ تعليلًا" ظهر منه أنّ كونه يُبين التعليل من جملة الشروط، ثم بنى على ذلك أنّه إن فُقد شرطٌ من الشروط المذكورة جُرَّ بالحرف الجار، وذلك ظاهر في جملتها ما عدا إبانة التعليل، فإنه لا يلزم جرّه باللام؛ لأنّك إذا قلت: رجع القهقري، وقتلته صَبْرًا لم يصحَّ دخول الحرف عليه، وكلامه يقتضي ذلك، فكانت إحالته على فَقْد شرط مما ذكر غير صحيحه.

والثالث: أنَّ النحويين يستثنون من هذا المفعول قِسمًا لا يلزم فيه الجر بالحروف مع فقد الشروط، فيقولون: إذا كان المفعول له أنْ وأنَّ فإنّه يجوز إسقاط حرف الجر منه على الإطلاق من غير شرط؛ لأنَّ هذين الحرفين يُحذَفُ معهما حرفُ الجر على كل حال، فتقول: جئتك أن تكرمني، وجئتك أنَّك كريم، ولو قلت: جئتك إكرامك، أو جئتك كرمَك لم يجز، ولا بد من اللام، وكلامه يقتضي أن لا بد من الشروط في جواز نصب هذه المفعول، ولا يقال: لعله يجعل أنْ وأنَّ في موضع جر؛ لأنا نقول: ليس هذا مذهبه، وقد تقدّم في باب تعدّي الفعل ولزومه نَصُّه على أنّهما مع إسقاط الجار في موضع نصْبٍ بقوله:"وإن حُذف فالنصبُ للمنجر" إلى آخره فكان إطلاقه قاصرًا عن بلوغ المقصود.

فأمَّا الأول والثاني فلا جواب لي عنهما الآن. وأمَّا الثالثُ فسهْلٌ وهو أن

ص: 276

المفعول له إذا كان أنْ وأنَّ فقد قدم حكمه في الجملة فيما قَدَّم، وإنما تكلّم هنا على ما إذا كان اسمًا صريحًا، وزاد الشلوبين في الأسئلة والأجوبة شرطًا أغفله الناظم: وهو أنْ يكون من أفعال القلوب كقولك: جئتك رغبة ورهبة، فلو كان من أفعال الجوارح لم يصحّ نصبه، كقولك: جئتك لبُنْيان الدار، وقد أشار الرُّندي إلى أنَّ غالب هذا المفعول أنْ يكون من أفعال القلوب، فكان من حقِّ الناظم أن يذكر هذا الشرط.

والجواب: أنّه مُستغني عنه بشرط اتحاد الزمان؛ لأنّ أفعال الجوارح لا تجتمع في الزمان مع الفعل المُعلَّل، كما أنّه لم يشترط ألا يكون من لفظ الفعل؛ لأنّ المصدر لا يكون علَّة لفعله فما فعل الناظم من ذلك لا دَرَكَ فيه.

ثم قال: "وإنْ شرطٌ فُقِد فأجْرُوه بالحرف" يعني أنَّه إذا تخلّف شرطٌ من هذه الشروط المتقدّمة في المفعول له فأجرُره بالحرف. والحرف المراد: هو المختصُّ بمعنى التعليل، والمشهور من الحروف المؤدية معنى التعليل هو اللام، وإنما لم يَقُل فأجُروه باللام لمشاركة غيره له في تلك الدلالة، وفي الاستعمال في هذه المواضع كالباء ومن وفي، فأمَّا الباء فنحو قوله تعالى:{فَبِظُلمٍ من الذين هادُوا حرَّمنا عليهم طيِّبات أُحِلَّت لهم} الآية. وأمَّا مِنْ فنحو قوله تعالى: {وإنَّ منها لما يَهْبِطُ من خشية الله} وقوله: {لَرَأَيتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا من خشية الله} . وأمَّا في

ص: 277

فنحو قول النبي عليه السلام: "إنَّ امرأة دخلت النار في هِرَّة ربطتها" على رأي الناظم في هذا الحرف، فهذه الأحرف وما كان نحوها بمعنى من أجل، وهو المعنى الذي في اللام، فالمثال الأول المجرور بالباء امتنع النصب فيه لعدم اتحاد الفاعل؛ لأنَّ فاعل التحريم غير فاعل الظلم. والمثال الثاني المجرور بمنْ متوفر الشروط فلو قال: لما يهبط خشيةَ الله، ولرأيته خاشعًا متصدعًا خشية الله لصحَّ، فهو مما جُرَّ على الجواز لا على اللزوم. والمثال الثالث امتنع فيه النصب؛ لأنَّ لفظ الهِرَّة ليس بمصدر. فإذا ثبت أنَّ الجار قد يكون يكون اللام وقد يكون غيرها. فلك أن تجُرَّ ما اجتمعت فيه الشروط، على ما ذكر من الجواز على إثر هذا بأحد هذه الأحرف حسب ما يذكر، وقد تقدّمت أمثلة ما عُدِم فيه بعض الشروط، وأنَّه يلزم الجر.

ثم قال: "وليس يمتنع مع الشروط"، الضمير في (ليس) وفي (يمتنع) عائد على الجر بالحرف المفهوم من قوله:"فاجرُرْه بالحرف" وذلك جائز: أن يعودَ الضمير على ما تَضَمَّنَه الفعلُ من الحدث، ومن قوله تعالى:{اعدِلوا هو أقرب للتقوى} أي العدل أقربُ، وقوله:{وإنْ تشكروا يَرْضَهُ لكم} أي يرضى الشكر، ويعني: أنّ المفعول له إذا توفَّرت فيه الشروط المذكورة أولًا فلا يمتنع جرُّه بالحرف الجار بل يجوز، فتقول: قصدتُك لابتغاء الخير، وجئتك لرغبَةٍ في معروفك، وداريتُك من مخافَةِ شَرِّكَ، ومثَّل هو ذلك بقوله:"لزُهدٍ ذا قنع"

ص: 278

أصله قَنِعَ ذا زُهدًا، فالشروط موجودةٌ، والجر بالحرف جائزٌ، فتقول: قَنِعَ ذا لزهد، وقنِعَ بِزُهدٍ. وقد نصَّ ابنُ خروف على دخول الباء ومن في هذا الباب، ولكنّ التفسير على اللام؛ لأنّها الأصل، والأكثر في الاستعمال؛ فلذلك قدّمها الناظم في المثال، وآثرها على غيرها. وأمَّا في فذلك رأيه فيها، وقليلٌ من يثبتها، وفي إطلاقه القول بجواز الجر ما يَدُلُّ على أنَّه لا يختص بالمفعول له المعرفة بل يجوز وإنْ كان نكرة فكما تقول: جئتك للرغبة في معروفك، وجئتك لابتغاء الخير، كذلك تقول: جئتك لرغبة فيك، وكففت عنك لتكرُّمٍ، ويُعَيَّنُ هذا القصدَ من كلامه تمثيله بالنكرة في قوله:"لزهد ذا قَنِع" وهو تنكيت على ما ذهب إليه أبو موسى الجزولي من أنَّ النكرة لا يجوز جرُّها مع استيفاء الشروط. حيث قال: "ولا يكون منجرًا باللام إلا مختصًا" قال الشلوبين: "وهذا غيرُ صحيح، بل هو جائز لا مانع منه" قال: " ولا أعرفُ له سلفًا في هذا القول" انتهى. فالواجب الرجوع إلى رأي الجمهور لكن يجب أن يُبحَث عن السماع في هذا فإنّه إن كان الجزولي يزعم ذلك عن استقواء منه أو مِمّن أخذ عنه فلا إشكال في قوّة قوله، وإن كان بخلاف ذلك لم يلتفت إليه، وقد جاء الجر في المختص كما تقدّم في قوله تعالى:{وإنَّ منها لما يهبطُ من خشية الله} وقوله: {لرأيتهُ خاشِعًا مُتصّدّعًا من خشية الله} ولا أحفظه في غيره، ولكن الناظم زعم أنّه موجود لكنه قليل كما سيأتي. وفي تمثيله بقوله:"لزهد ذا قنع" ما يشعر بأنّه يجيز تقديم المفعول له على العامل فيه، فالأصل: قنِعَ لزُهدٍ ثم قدَّمه. وهذه المسألة لم يَنُصَّ عليها في التسهيل، ولا شرحه، ولا الفوائد، وهي

ص: 279

صحيحة، فقد نصَّ الرماني في شرح الموجز على جواز قولِك: مخافة شَرِّه جئتُه؛ لأنّ العامل متصرف في نفسه فيتصرف في معموله إلّا أنْ يمنع من ذلك مانعٌ طاريءٌ.

وقنِعَ هنا بكسر النون -على فَعِل- يَقْنَعُ قَنَاعَةً وقَنَعانًا إذا رضي عن الله تعالى، وقنِعَ أيضًا بقسمه، وقنِع بقولك، وبالشيء: إذا رضي به، وقَنَع بالفتح يقْنِعُ قُنوعًا إذا سأل، وقد يطلق القُنُوع بمعنى القناعة.

ثم أخذ يُبيّنُ مراتب هذا المفعول في جواز الجر، وقوته، وضعفه، فقال:

وقلَّ أنْ يصْحَبَهُ المُجَرَّدُ

والعكس في مصحوب أل وأنشدوا

"لا أقعُدُ الجبنَ عن الهيجاء

ولو توالت زُمَرُ الأعداء"

فبيّن أنَّ جرّ المجرد -يعني من الإضافة والألف واللام- قليل في الكلام، والأكثر فيه النصب، فإذا قلتَ: جئتك إعظامًا لك، فهو أكثر من: جئتك لإعظامٍ لك، وقولك لإعظامٍ لك قليل، وهو الذي منعه الجزولي، فالضمير في (يصحبه) عائد على الحرف الجار، مصحوب أل -وهو الذي دخلت عليه- بعكس المجرّد، يعني أنّ نصبَه قليلٌ في الكلام، والأكثر فيه الجرُّ فقولك: جئتك للحذر منك أكثر من: جئتك الحذر منك. وحقيقة العكس أنَّ تقدير الكلام في المجرد: وقلَّت المصاحبة للحرف في المجرد وكثُرَ فيه عدم المصاحبة. فإذا حَوَّلت هذا الكلام على وجهٍ يَصْدُقُ قلتَ: وقَلَّ في مصحوب أل عَدَمُ المصاحبة وكَثُرَت فيه المصاحبة. ولما أخبر بحكم المجرد وتفضيل النصب فيه، وبحكم مصحوب أل وتفضيل الجرِّ فيه بقي المضافُ المسكون عنه دون تفضيل، فاقتضى التسوية بين الأمرين فقولك: جئتُك ابتغاء الخير، وجئتك

ص: 280

لابتغاء الخير لا مَزيَّة لأحدهما على الآخر، وكذلك قال في التسهيل والفوائد:"ويستوي الأمران في المضاف".

فإن قيل: كيف يفهم له حكم المضاف، وهو لم يتعرَّض له بمنطوق ولا مفهوم.

فالجواب: أنَّه مرادُ الذكر، ومفهوم الحكم من قوله:"وقَلَّ أنْ يصْحَبَه المجَرَّد"؛ لأنّ المجرَّد يكون تجريده من الألف واللام ومن الإضافة؛ إذ لم يُقَيَّد التجريد بأحدهما دون الآخر، ثم لما ذكر المصحوب بأل بقيَ المصحوب بالإضافة مشعورًا به، مشعورًا بحكمه، وهذا ظاهر. وهذا الكلام يقتضي بسياقه أنّ المفعول له يكون مجرّدًا، وذلك نحو ما تقدّم، ومنه في القرآن:{ادعوا ربَّكم تضرُّعًا وخُفية} و {ادعوه خوفًا وطمعًا} وقول النابغة:

*حذارًا على ألّا تنال مقادتي*

وهو كثير، ويكون بالإضافة نحو قول حاتم الطائي أنشده سيبويه:

وأغفر عوراء الكريم ادّخاره

وأعرض عن شتم اللئيم تكرّمًا

ومن في القرآن: {ومن يفعل ذلك ابتغاءً مرضات الله} الآية {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاءَ مرضات الله} وهو كثير أيضًا، ويكون بالألف واللام نحو ما أنشده الناظم من قوله:

ص: 281

لا أقعد الجبن عن الهيجاء

ولو توالت زُمَرُ الأعداء

وهذا الشاهد لا أحفظه عن غيره، ولا أعلم قائله. قال في الشرح: "ويمكن أنْ يكون القسط من قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} مفعولًا له، لأنه مستوفٍ للشروط. وممّا اجتمع فيه ثلاثة الأنواع قول العجاج -أنشده سيبويه- يصف حمارًا:

يركبُ كلَّ عاقر جمهور

مخافة وزعل المحبور

والهول من تهول الأمور

فقوله: مخافة، من المجرد، و: زعل المحبور، من المضاف، والهول، من ذي الألف واللام، ومعنى البيت الذي أنشده ظاهر، يقول: لا أقعُدُ عن الهيجاء جُبنًا وفزعًا ولو توالت وتتابعت عليّ الأعداء زُمرًا بعد بَعْدَ زُمرٍ يتلو بعضها بعضًا، فإني لا أكترث بهم، ولا أجبُنُ عنهم، يصف نفسه بالشجاعة، والهيجاء: الحرب تُمَدُّ وتقصر، وهي من هاج الشيء يهيج إذا ثار، والزمر: الجماعات وأحدها زمرة. وتوالت: تتابعت وأتت شيئًا بعد شيء يتبع بعضها بعضًا.

ص: 282