المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الاستثناء ثم قال: هذا هو النوع السادس من المنصوبات التي ينصبها - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٣

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌باب الاستثناء ثم قال: هذا هو النوع السادس من المنصوبات التي ينصبها

‌باب الاستثناء

ثم قال:

هذا هو النوع السادس من المنصوبات التي ينصبها كل فعل، وهو المستثنى. وترك الناظم حد الاستثناء فلم يذكره، ولم يشر إليه اتكالًا على فهم معناه من مساق الكلام، ومفهوم الجملة، وحد في التسهيل المستثنى بأنه: المخرج تحقيقًا أو تقديرًا [من مذكور أو متروك] بإلا أو ما في معناها بشرط الفائدة. فقوله: "المخرج" هو الجنس الأقرب، لأن المستثنى مخرج عن ما تقدم من مذكور أو مقدر، ومعنى إخراجه أن ذكره بعد إلا مبين أنه لم يرد دخوله فيما تقدم، فبين ذلك للسامع بتلك القرينة لا أنه كان مرادًا للمتكلم ثم أخرجه. هذه حقيقة الإخراج عند أئمة اللسان: سيبويه وغيره، وهو الذي لا يصح غيره حسب ما تبين موضعه. وقوله:"تحقيقًا" أراد به المتصل. "أو تقديرًا" أراد به المنفصل، وسيبينه. وقوله:"بإلا" وكذا، هي خاصة المستثنى فيتميز بها عن التخصيص بالصفة وغيرها. وقوله:"بشرط الفائدة" احترازًا من نحو: جاءني ناسٌ إلا زيدًا، وجاءني القوم إلا رجلًا، وما أشبه ذلك مما لا يفيد. [ثم قال].

ص: 343

ما استثنت إلا عن تمام ينتصب

وبعد نفي أو كنفي انتخب

اتباع ما اتصل وانصب ما انقطع

وعن تميم فيه إبدال وقع

اعلم أن المستثنى على قسمين:

أحدهما: ما توقف الكلام قبله عن أن يتم دونه، فلا يتم إلا به من حيث القصد، وهذا هو الاستثناء المفرغ، أي فرغ العامل فيه لطلب ما بعد إلا فصار معربًا بحسب ما يطلبه. وسيأتي.

والثاني: ما تم الكلام دونه، واستقل بمعناه، فصار لما بعد إلا حكم الفضلة المستغنى عنها. وهذا القسم هو الذي شرع فيه الآن، ويكون على وجهين: متصلًا، ومنفصلًا. وقد أجمل الكلام فيهما أولًا ثم فصله، فيريد بقوله:"ما استثنت إلا عن تمام" هذا القسم يعني أن ما كان واقعًا بعد إلا مستثنى بها فإنه ينتصب إذا كان الكلام تامًا لم يفرغ العامل له، وسواء أكان متصلًا أو منقطعًا، ومثال ذلك: قام القوم إلا زيدًا، ورأيت القوم إلا زيدًا، ومررت بالقوم إلا زيدًا. هذا في المتصل. ومثاله في المنقطع: جاءني بنو تميمٍ إلا زيدًا الهاشمي. ورأيت القوم كلهم إلا فرس بني فلان، ومنه في القرآن الكريم:{فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} الآية وقال تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيةٍ ينهون عن الفساد في

ص: 344

الأرض إلا قليلًا ممن أنجينا منهم} وذلك كثير، وجميعه مما وقع الاستثناء فيه بعد تمام الكلام من غير افتقر إلى ما بعد إلا. هذا معنى الكلام على الجملة، ثم فيه بعد مسائل خمس:

إحداها: أن قوله: "ما استثنت إلا" نسب فيه الاستثناء إلى الأداة، وليست هي المستثنية، وإنما هي مستثنى بها، ولكن لما كانت الأدوات في هذه الصناعة إليها ينسب العمل، وتضاف الأحكام ساغ ذلك فيها أيضًا، فجرى على مطلق الاصطلاح، كما يقال: ما النافية، وإن المؤكدة، وما الكافة، وليست هذه المعاني إلا فعل المتكلم، وله أصل في كلام العرب أن ينسب الفعل إلى ما انتسب إليه بوجهٍ ما، كقولهم: نهاره صائمٌ، وليله قائمٌ، وفي التنزيل الحكيم:{بل مكر الليل والنهار} وهو كثير.

والثانية: أن الظاهر في إطلاقه الاستثناء إنما هو بمعنى الإخراج حسب ما فسره في التسهيل، فكأنه قال: ما أخرجت إلا، والإخراج في الحقيقة إنما يظهر في الاستثناء المتصل، وأما المنقطع فلا يصلح فيه الإخراج؛ إذ كان الإخراج مخصوصًا بما كان من الجنس، فلا يقال: إن الفرس في قولك: رأيت بني فلان إلا فرس أحدهم مخرجٌ؛ إذ ليس الفرس من جنس بني فلان، إلا أن يتأول ذلك بمجازٍ بعيد. وهو قد يشمل المتصل والمنقطع بكلامه، فقد يشكل هذا.

والجواب: أن الاستثناء شامل لهما معًا، لأن الإخراج حاصلٌ فيهما لكن تارةً يكون الإخراج تحقيقًا، وذلك في الاستثناء المتصل، وتارةً يكون تقديرًا، وهو في الاستثناء المنقطع، وهذا يتنزل بناء على ما رآه المازني في وجه الإبدال

ص: 345

عند بني تميم بأن يطلق الأول على ما بعد إلا، فيشمل المستثنى منه والمستثنى معًا مجازًا، فيكون المستثنى في المنقطع على هذا إخراجًا من الجنس، أو على النحو الآخر. ولكن هذا الجواب غير مخلص، إذ لا يطرد ذلك في جميع مسائل الاستثناء المنقطع. ويمكن على بعدٍ أن يكون جاريًا في ذلك على مذهب الفراء الذي يجعل الاستثناء من العامل لا من الاسم، فإذا قلت: ما رأيت أحدًا إلا حمارًا، فالحمار مستثنى من الرؤية لا من أحد، فعلى هذا يكون قوله:"ما استثنت إلا" واقعًا على القسمين تحقيقًا، لكنه لم يعرج عليه في غير هذا الكتاب، فيبعد أن يقصد إليه لاسيما، وهو مشكل في نفسه.

والأولى في الجواب- والله أعلم-: أن يكون أراد ما وقع بعد أداة الاستثناء منصوبًا لا أنه يريد ما أخرج بإلا.

والثالثة: أنه عين إلا في أول كلامه ولم يقصد غيرها إلا بعد ما قرر أكثر أحكام الباب بها لأنها أم الباب لا معنى لها في الأصل إلا الاستثناء وإنما يدخلها غيره بالعرض حملًا على ما هو الأصل في غيرها، (فغيرُ أصلها الوصف، وإنما دخلت في الباب لعروض معنى إلا، وكذلك سوى، وغيرها من الأدوات، وأيضًا فإن الاستثناء بها مطرد بخلاف غيرها).

والرابعة: أنه أطلق القول في الانتصاب هنا مع أن غير النصب جائز، وذلك في الاستثناء المتصل؛ فإنك إذا قلت: قام القوم إلا زيدًا جاز لك أن تقول: إلا زيدٌ بالرفع، فيجري صفةً على الأول حملًا على غير؛ إذ كان أصلها الصفة، وكذلك تقول: مررت بالقوم إلا زيدٍ، ومن كلامهم: لو كان معنا أحدٌ إلا زيدٌ

ص: 346

لغلبنا وفي القرآن الكريم {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدنا} على قول سيبويه، وأنشد سيبويه لذي الرمة:

أنيخت فألقت بلدةً غير بلدةٍ

قليل بها الأصوات إلا بغامها

وأنشد أيضًا:

لو كان غيري سليمى اليوم غيره

وقع الحوادث إلا الصارم الذكر

وأنشد لعمرو بن معدي كرب:

وكل أخٍ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

فهذا كله، وما كان مثله مما وقعت فيه إلا صفةً بمعنى غير، وهو باب واسع،

ص: 347

وقاعدة مطردة في باب الاستثناء حتى في النفي إذا قلت: ما جاءني أحدٌ إلا زيدٌ، فإن إلا يحتمل أن تكون صفة إذا أردت معنى غير، وإذا كان كذلك أشكل إطلاقه القول بالنصب من غير تعريج على غيره.

الجواب: أنه قد حرر كلامه فلم تدخل له الصفة حين قال: "ما استثنت إلا" فشرط فيها أن تكون للاستثناء بمعنى أنها تدل عليه في تلك الحال، وإلا الواقعة صفة ليست كذلك، بل هي بمعنى غير، وغير خالية في الأصل عن معنى الاستثناء حتى تضمنه، فكذلك (إلا) الصفة تجرد من معنى الاستثناء حتى تصير موافقةً لمعنى غير في الأصل، فقولك: قام القوم إلا زيدٌ، بمعنى قام القوم غير زيدٍ أي القوم المغايرون لزيد، فليس في هذا أن زيدًا مستثنى من جملة القوم، فإذًا ليس بعد إلا التي يستثنى بها إلا النصب على الاستثناء، أعني في الإيجاب، وعلى أن الناظم لم يتعرض هنا للوصف بإلا، ولا تكلم فيه، وهو فصل يجب التنبيه عليه، وليس من الأحكام الأقلية التي يباح لمثله إغفالها، بل هي من الجلائل التي لا غنى به عن ذكرها، ولعله لم يذكر هذه المسألة هنا في إلا، ولا في غير؛ لأنها من باب الوصف، وليس فيها معنى الاستثناء الذي يقتضي النصب.

فإن قيل: فكان ينبغي إذًا أن يترك البدل، نحو: ما جاءني أحدٌ إلا زيدٌ؛ لأنه ليس من باب الاستثناء، بل من باب البدل فلم ذكره وترك ذكر الوصف.

فالجواب: أن البدل عريقٌ في الباب من جهة المعنى وإن كان اللفظ مخالفًا له؛ فيكون رفعًا وجرًا، فالمعنى معنى النصب على الاستثناء، فليس بخارج عن باب الاستثناء بخلاف الوصف، فإنه في المعنى مخالف لمعنى الاستثناء، وإذا ثبت هذا أمكن أن يكون عذرًا للناظم.

والخامسة: أنه قال: "ينتصب" ولم يعين له ناصبًا، وعادته تعيين الناصب

ص: 348

في هذه المنصوبات حسب ما تقدم.

والمسألة قد اضطرب الناس فيها على ثمانية أقوال:

أحدها: أنه انتصب بعد تمام الكلام انتصاب الدرهم بعد العشرين على التشبيه بالمفعول به، ويعزى لسيبويه.

والثاني: أنه انتصب بإلا وحدها، وهو رأي ابن مالك، وزعم أنه مذهب سيبويه، والمبرد.

والثالث: أنه انتصب بالفعل المتقدم بوساطة إلا وهو رأي السيرافي، والفارسي، وابن الباذش، وزاد أن النصب في غير بغير واسطة، بل عمل فيها كعمله في الظروف المبهمة لأن غيرًا تشبهها في الإبهام.

والرابع: أن النصب بالفعل المتقدم بغير وساطة إلا، وهو رأي ابن خروف.

والخامس: أن النصب بما في إلا من معنى الاستثناء، فكأن النصب بفعل، فإذا قلت: قام القوم إلا زيدًا، فالتقدير: استثنى زيدًا، ونسب هذا إلى المبرد، ونحوه منقول عن الزجاج.

والسادس: أنه منصوب بالمخالفة؛ لأن ما بعد إلا مخالف لما قبلها، وهو أصل الكوفيين، وحكي عن الكسائي.

ص: 349

والسابع: أن النصب على إضمار أن، والتقدير: إلا أن زيدًا لم يقم، وينسب أيضًا إلى الكسائي.

والثامن: أن إلا مركبة من إن ولا ثم خففت إن وركبًا، فإذا انتصب ما بعدها فعلى تغليب حكم إن، وإذا لم ينتصب فعلى تغليب حكم لا؛ لأنها عاطفة. وجميع هذه الأقوال القصد بها واحدٌ، وهو ربط القوانين وتثبيتها في النفس، ويمكن على بعدٍ أن يؤخذ له من هنا تعيين الناصب من جهة أنه لما جعل الحكم في الاستثناء إلى الأداة، ونسبه إليها ثم أطلق الانتصاب، ولم يعين له خلافًا كان في ذلك إشارة إلى أن الحكم في النصب لها أيضًا، وهو المختار عنده في التسهيل، وغيره، وحجته في ذلك أن إلا مختصة بالاسم. وليست بجزء منه، فيجب لها العمل كسائر عوامل الأسماء التي هي كذلك ما لم تقع بين عامل مفرغٍ تحقيقًا أو تقديرًا ومعمول، فلا يجب العمل كلا في: لا مرحبًا، تعمل إذا لم تدخل على عامل ومعمول، ولا تعمل هنا.

فإن قيل: فإن إلا تدخل على الأفعال.

ص: 350

قيل: كل فعلٍ دخلت عليه في تأويل الاسم، وذلك لا يبطل الاختصاص بالاسم، وإلا لم يضف إلى الفعل، ولا وقع حالًا، ولا خبرًا لكان أو إن ولا مفعولًا لظن، فلما لم يبطل ذلك الاختصاص بالاسم في تلك الأبواب، فكذلك هنا.

فإن قيل: لو كان كذلك لاتصل بها ضمير النصب، وأن لا تقول إلا: ما ضربت إلا إياه.

قيل: لم يتصل لأنه أشبه المنصوب على النداء في أنه منصوب لا مرفوع معه، وأشبهت أيضًا ما النافية في موافقة الفعل معنى، وفي إعمالها مرةً وإهمالها أخرى. ومعمول ما إذا كان ضميرًا- منفصلٌ، فكذلك ما أشبهه. وأشبهت أيضًا العاطفة في وقوعها وسطًا، ومخالفة ما بعدها لما قبلها، والضمير إذا وقع بعد العاطف منفصلٌ، فكذلك هذا، وأيضًا لما التزم الانفصال مع التفريغ أجروا الباب كله على سننٍ واحد، وأيضًا فإلا وما بعدها في قوةٍ جملة مختصرة، واتصال المنفصل اختصار فيكون إجحافًا، وأيضًا فقد وصلوا تنبيهًا على الأصل في نحو:

* ألا يجاورنا إلاك ديار *

و*

فما لي عوض إلاه ناصر *

ص: 351

وقد تضع العرب المنفصل موضع المتصل، نحو:

*

ضمنت إياهم الأرض

*

والعكس غير موجود، فلو لم يكن الأصل الاتصال لم يسغ لقائل البيتين الانفصال، وأيضًا ليس فيهما ضرورة لتمكن الأول أن يقول: ألا يكون لنا خلٌ ولا جار، والثاني أن يقول:

فما لي غيره عوض ناصر

فإن قيل: اللائق بالعامل الذي لا يشبه الفعل الجر.

قيل: بل اللائق به عمل لا يصلح للفعل، وهو الجر أو نصب لا رفع معه، ثم رجح وجوب النصب مع إلا، والخفض مع غيرها من حروف الاستثناء. وكلامه في ذلك كله طويل، وفي استقراء مذهبه من كلام سيبويه، فمن أحبه بكماله طالع الشرح، ولولا الإطالة لاجتلبته، ونبهت على ما فيه. ثم قال:"وبعد نفي أو كنفي انتخب" إلى آخره هذا الكلام قسيم الكلام المتقدم، لأن الاستثناء على ضربين:

ص: 352

أحدهما: أن يقع في كلامٍ مثبت.

والثاني: أن يقع في كلامٍ منفي أو ما أشبه المنفي. ولكل قسم حكم يختص به. فأما الأول فهو الذي تقدم لكنه لم يكن فيه ما يشعر بأنه قسيم المثبت، فلما أتى بالقسم الثاني، وهو قسم المنفي دل على المقصود بالأول، وتعين أنه المثبت، فكأنه قال:"ما استثنت إلا بعد الإثبات مع تمامٍ ينتصب" وكثيرًا ما يجري له مثل هذا؛ أن يجتزئ بتعيين القسم الثاني عن الأول، وقد مضى منه بعض المواضع.

ويعني أن الاستثناء بإلا بعد النفي أو ما أشبه النفي يختار فيه الاتباع للأول، فيجري على حكمه في الإعراب، إن كان مرفوعًا ارتفع، وإن كان منصوبًا انتصب، وإن كان مجرورًا انجر، وذلك إذا كان الاستثناء متصلًا، نحو: قولك: ما قام القوم إلا زيدٌ، وما رأيت القوم إلا زيدًا، على الاتباع لا على الاستثناء، وما مررت بأحدٍ إلا أخيك، وما أشبه ذلك. وهذا مثال النفي الصريح، وأما ما أشبه النفي فمنه النهي، نحو: لا تضرب أحدًا إلا زيدًا، ولا يقم أحدٌ إلا زيدٌ، ولا تمرر بأحدٍ إلا زيدٍ، ومنه الاستفهام، نحو: هل قام أحدٌ إلا زيدٌ، وهل مررت بأحدٍ إلا زيدٍ، ومن أكرمك إلا زيد؟ وفي التنزيل:{ومن يغفر الذنوب إلا الله} وقال: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} . وقد يكون من النفي ما ليس بصريح لكنه كالنفي الصريح فيدخل تحت قوله: "أو كنفي": ما كان [نحو]: أقل رجلٍ يقول ذلك إلا زيدٌ، وقل رجلٌ يقول ذلك إلا زيدٌ، فهو على معنى: ما يقول ذلك إلا زيدٌ، فالرفع هو المختار في هذه

ص: 353

الأمور، ويجوز النصب لكن مرجوحًا غير منتخبٍ، فتقول: ما قام أحدٌ إلا زيدًا، وما مررت بأحدٍ إلا زيدًا، وفي القرآن:{ما فعلوه إلا قليلًا منهم} على ما في مصحف أهل الشام، وكذلك تقول: هل يقوم أحدٌ إلا زيدًا، ومن يقوم إلا أخاك؟ وقد حمل على هذا الوجه قوله تعالى:{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} فجعل من منصوب المحل، و (نفسه) توكيد له، والنصب لغةٌ لبعض العرب، قال سيبويه:"حدثنا بذلك يونس وعيسى جميعًا أن بعض العرب الموثوق بعربيته يقول: ما مررت بأحدٍ إلا زيدًا، وما أتاني أحدٌ إلا زيدًا، وعلى هذا: ما رأيت أحدًا إلا زيدًا، فتنصب زيدًا على غير رأيت"- يعني على الاستثناء قال: "وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلًا من الأول، ولكنك جعلته منقطعًا مما عمل في الأول" يعني منصوبًا، ووجه اختيار الإتباع أن المعنى فيه معنى التفريغ فأجري الكلام على معناه. هذا معنى تعليل سيبويه، وغيره. وقال في الشرح:"وإنما رجح الإتباع في غير الإيجاب على النصب؛ لأن معناه ومعنى النصب واحد، وفي الإتباع تشاكل اللفظين".

ثم هنا مسائل:

إحداها: أن قوله: "انتخب إتباع ما اتصل" أطلق فيه القول، ولم يقيد فدلَّ على

ص: 354

ارتضائه مذهب الجماعة، وخلاف قول القائل: إن المستثنى إن تباعد من المستثنى منه رجح النصب، كقولك: ما ثبت أحد في الحرب ثباتًا ينفع الناس إلا زيدًا، ولا تنزل على أحدٍ من بني تميم إن وافقتهم إلا قيسًا، وإليه ذهب المؤلف في الشرح، قال:"لأن سبب ترجيح الإتباع طلب التشاكل وقد ضعف داعيه بالتباعد" قال: "والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يختلي خلاها، ولا يعضد شجرها، فقال له العباس: إلا إلاذخر يا رسول الله، فقال: إلا إلاذخر" وأتى بحديث آخر. والأصح في هذا قول الجماعة بعدم التفصيل بناء على تعليل سيبويه، ولموافقته كلا العرب، وما استشهد به لا شاهد فيه لندوره.

والثانية: أنه لما أجاز الوجهين من غير تقييد دل على مخالفته من ألزم النصب حيث يقدر ما قبل الاستثناء مستقلًا، وهو ظاهر ابن السراج حيث قال:"إن لم تقدر البدل جعلته كقولك: ما قام أحد- كلامًا تامًا لا ينوى فيه الإبدال من أحد. ثم استثنيت، نصبت، فقلت: ما قام أحدٌ إلا زيدًا". والأولى مذهب الجمهور؛ إذ لم يفصلوا هذا التفصيل، وليس في كلام العرب عليه دليل.

ص: 355

والثالثة: أن إطلاقه في جواز الوجهين دليلٌ على مخالفته للفراء القائل بأن المستثنى منه إن كان معرفة فالوجهان، وإن كان نكرةً فلا يجوز النصب، فقوله تعالى:{ما فعلوه إلا قليل منهم} لما كان معرفةً جاز الوجهان، ولما كان نكرة في قوله:{ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} لم يقرأ إلا بالاتباع. قال المؤلف: "ولا حجة له؛ لأن النصب هو الأصل، والاتباع داخلٌ عليه، وقد رجح عليه لطلب المشاكلة فلو جعل بعد ترجيحه عليه مانعًا منه لكان ذلك إجحافًا بالأصل".

والقاطع في المسألة ما حكى سيبويه عن يونس وعيسى بن عمر: "أن بعض العرب الموثوق بعربيتهم يقول: ما مررت بأحدٍ إلا زيدًا، وما أتاني أحدٌ إلا زيدًا" وهو نص في موضع الخلاف.

والرابعة: أنه بإطلاقه قائلٌ بجواز الوجهين كان المنفي مما يصلح في الإيجاب أولا خلافًا لمن قال من القدماء: إن المنفي إذا صلح أن يقع في الإيجاب فلا يجوز فيه إلا النصب، فيجوز عندهم أن تقول: ما قام أحدٌ إلا زيدٌ، ولا يجوز أن تقول: ما قام القوم إلا زيدٌ. وإنما تقول: إلا زيدًا، ورد عليهم سيبويه بالسماع والقياس، فأما السماع ففي القرآن الكريم:{ما فعلوه إلا قليلٌ منهم} وأيضًا فإنه حكى عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن الوجه

ص: 356

في اللغة: ما قام القوم إلا عبد الله بالرفع.

وأما القياس فإن للنفي أحكامًا ر تكون في الواجب كحذف المستثنى منه، وتفريغ العامل للمستثنى، وذلك لا يكون في الواجب فلو كان حكم النفي حكم الواجب لما جاز أن تقول: ما أتاني أحدٌ كما لا يجوز أن تقول: أتاني أحدٌ. وهذا ظاهرٌ فلكل واحد من النفي والإيجاب حكمٌ يخصه، وقد يجتمعان في بعض الأحكام، وذلك غير منكر، وإنما المنكر دعوى التزام الاجتماع في جميع الأحكام.

والخامسة: أنه بإطلاقه أن الاتباع جائز كان المستثنى منه مفردًا أو جمعًا خلافًا للفراء حيث أجازه إذا كان المستثنى منه مفردًا، نحو: ما قام أحدٌ إلا زيدٌ، ولم يجزه إذا كان جميعًا، نحو: ما قام القوم إلا زيدًا بل ألزم النصب لأنه راعى في البدل اللفظ. ورد قوله سيبويه بأنه إن كان وجوب النصب، لأن الذي قبل إلا جمع فقد قال الله تعالى:{ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} فقد وقع الجمع قبل إلا، والقراء على الاتباع، وإن كان جواز الإتباع لأن الذي قبل إلا واحد فينبغي أن يجوز الرفع في مسألة: ما أتاني أحدٌ إلا قد قال ذلك إلا زيد؛

ص: 357

لأن الذي قبله واحد، وذلك لا يجوز البتة، بل الواجب النصب؛ لأنه قد صار موجبًا بدخول إلا الأولى. قال ابن خروف: لا يراعي في الباب إلا كون الثاني بعض الأول موافقًا له في الإعراب.

والسادسة: أنه يشترط [في] هذا الحكم المذكور كون المستثنى مؤخرًا عن المستثنى منه، وذلك مستفادٌ من كلامه من موضعين:

أحدهما: قوله: "انتخب إتباع ما اتصل"، والاتباع لا يتصور إلا كذلك، فإتباع ما اتصل هو إتباع المستثنى المتصل، وإتباعه أن يجعل تابعًا، والتابع شأنه أن يتبع ما قبله لا ما بعده.

والثاني: أنه قد بين على إثر هذا حكم المستثنى إذا تقدم المستثنى منه وقرره على خلاف هذا الحكم، فدل على أنه هنا ليس بمقدم. وهذا ظاهر.

والسابعة: أنه أطلق القول في الإتباع ولم يبين هل يكون على اللفظ أو على الموضع، أو عليهما. وكان من حقه ذلك كما فعل في باب المصدر الموصول وغيره، فإن الإتباع قد يكون على اللفظ خاصة، وهو بين. وقد يكون على الموضع خاصة، وذلك أن يكون ما قبل إلا مجرورًا بمن الزائدة، كقولك: ما جاءني من أحد إلا زيدٌ، فالرفع هنا لازمٌ، وقولك: ما رأيت من أحدٍ إلا زيدًا، النصب واجبٌ، وكذلك المجرور بالباء الزائدة، نحو: ليس زيدٌ بشيءٍ إلا شيئًا لا يعبأ به، وكذلك اسم لا الجنسية لا يتبع إلا على الموضع خاصة كقولك: لا إله إلا الله، ولا عالم إلا زيد، لا يجوز هنا النصب على لفظ لا أصلًا.

ص: 358

والثامنة: أن الإتباع هنا لم يقيده الناظم اتكالًا على تفهيم المعلم، وخروجًا عن تعيين أمرٍ مختلفٍ فيه، فإن البصريين يقولون: إنه إتباع على البدل ومذهب الكوفيين أنه على العطف. وعلى أنه قد يؤخر له أنه على البدل من نصه عليه في الاستثناء المنقطع بقوله: "وعن تميم فيه إبدال وقع"، إذ هو الإتباع ههنا، فلو كان مذهبه أنه ليس على البدل لنص على العطف؛ إذ الإتباع في الجميع إما إبدالٌ وإما عطفٌ. وقد تقدم أنه لم يتعرض هنا لحكم النعت، فلا يدخل له تحت قوله:"إتباعُ ما اتصل"؛ إذ لو دخل له لكان الإتباع على النعت عنده راجحًا كالبدل، وليس كذلك. وعلى الجملة فالأصح مذهب الناظم؛ إذ هو على حقيقة البدل من صحة وقوعه موقع المبدل منه على حكم الاستقلال، وإلغاء الأول. وأيضًا فإن إلا لم يثبت أن تكون عاطفةً بعد فكيف يبنى على ما لم يثبت. قال ثعلب: كيف يكون بدلًا، والأول منفي، وما بعد إلا موجب. وأجاب السيرافي بأنه لا يخرجهما اختلافهما عن حقيقة البدلية؛ لأن معنى البدل أن تقدر الأول كأنه لم يذكر، وتقدر الثاني في موضعه. قال:"وقد يقع في العطف والصفة ما يكون الأول فيه موجبًا، والثاني منفيًا، نحو: جاءني زيد لا عمرو- كمسألتنا- وفي الصفة: مررت برجلٍ لا كريمٍ ولا لبيبٍ". قال ابن الضائع: كان الأول أن يجيء بهذا في البدل ألا ترى أنك تقول: مررت برجل لا زيدٍ ولا عمروٍ هذا بدل، وليس بعطفٍ؛ لأن من شرط لا

ص: 359

العاطفة أن تكون مؤكدة لثبوت الحكم الأول، وهي هنا مبينة أن المجرور به ليس بزيد ولا عمرو، ولو جاز أن تكون هنا عاطفة لجاز: مررت برجلٍ لا زيد، كما تقول: مررت بزيدٍ لا عمرو، فلزوم التكرار دليل على أنها غير عاطفة.

والتاسعة: أنه ذكر اختيار الإتباع، ولم يصرح بمقابله، والذي يقابله النصب على الاستثناء.

فإن قيل: من أين يؤخذ له هذا.

قيل: من حكم القسم المقابل؛ إذ كان قد حكم عليه بالنصب في قوله: "ما استثنت إلا عن تمام ينتصب" فجعل النصب فيه حتمًا، ثم اختار في هذا القسم الإتباع فدل على أن غيره هو النصب المذكور، فكأنه قال: يتحتم النصب في الإيجاب، ولا يتحتم في النفي، وإذا لم يتحتم فلا بد من وجه آخر فعينه، وجعله المختار، فصار النصب المذكور فيه غير مختار. ويمكن أن يكون النصب في كلامه منصوصًا عليه على طريقة أخرى من التفسير في قوله:"ما استثنيت إلا" إلا آخره، وهو أن يكون معناه أن ما بعد إلا حكمه النصب على الإطلاق كان موجبًا أو منفيًا، وهذا على الجملة ثم استثنى المنفي، وما أشبهه، فأثبت له على المختار حكمًا آخر، وهو الإتباع، فبقي غير المختار داخلًا تحت الإطلاق المتقدم وهو النصب.

وإتباع: مفعول بانتحب. و (بعد) المتقدم متعلق به. وقوله: "ما اتصل" يعني من الاستثناء، والانتخاب: الاختيار، ورجل نخبة، والجمع نخب، كرطبةٍ ورطب، يقال: جاء في نخب أصحابه، أي: في خيارهم. وقوله:

ص: 360

"وانصب ما انقطع"، أي: انصب من الاستثناء منقطعًا، وهو ما كان فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه، يعني أن المنقطع من الاستثناء حكمه النصب بإطلاق إلا عند بني تميم فإنه جاء عنهم الإبدال، فتقول: ما في الدار أحدٌ إلا حمارًا، وما لي عليه سلطان إلا التكلف. وفي القرآن من ذلك قوله تعالى:{ما لهم به من علمٍ إلا اتباع الظن} وقوله: {وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمةً منا ومتاعًا إلى حين} والقرآن نزل في غالبه بلغة أهل الحجاز، وأنشد سيبويه للنابغة الذبياني:

وقفت فيها أصيلانًا أسائلها

عيت جوابًا، وما بالربع من أحد

إلا الأواري لأيًا ما أبينها

والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

قال سيبويه: "وأهل الحجاز ينصبون الأواري"، وأنشد أيضًا للنابغة:

حلفت يمينًا غير ذي مثنوية

ولا علم إلا حسن ظنٍ بصاحب

وإنما نصب أهل الحجاز هذا؛ لأنه لا يصح فيه الإبدال حقيقة من جهة أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، قال سيبويه: "جاءوا به على معنى:

ص: 361

ولكن، وكرهوا أن يبدلوا الآخر من الأول، فيصير كأنه من نوعه، فحمل على معنى ولكن". وأما بنو تميم فيرفعون هذه الأمثلة على البدل، فيقولون: ما فيها أحدٌ إلا حمارٌ، وينشدون بيت النابغة:

*

وما بالربع من أحد *

* إلا الأواري ...... *

بالرفع. وأنشد سيبويه:

وبلدةٍ ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

وأنشد أيضًا لابن الأيهم التغلبي:

ليس بيني وبين قيسٍ عتاب

غير طعن الكلي وضرب الرقاب

وأنشد أيضًا للحارث بن عباد:

والخيل لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح

إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح

ص: 362

وأنشد أيضًا:

لم يغذها الرسل ولا أيسارها

إلا طري اللحم واستجزارها

وأنشد أيضًا:

عشية لا تغني الرماح مكانها

ولا النبل إلا المشرفي المصمم

فهذه الأبيات ونحوها مما جاءت على لغة تميم، وحين ذكر سيبويه: ما له عليه سلطانٌ إلا التكلف، وذكر الآيتين، والبيت:

* حلفت يمينًا غير ذي مثنوية *

قال: وأما بنو تميم فيرفعون هذا كله

وينشدون بيت ابن الأيهم رفعًا. وأهل الحجاز ينصبون". وهذا كله على ما قال الناظم: "وعن تميم فيه إبدال وقع" فالضمير في (فيه) عائدٌ على: "ما انقطع"، وبين أن حكمه الإبدال من الأول، وهذا يستلزم إعرابه بإعرابه، فكأنه قال: وعن تميم فيه ابتاعٌ على البدلية وقع، كأن الأصل النصب لما تقدم في التعليل لكن راعى فيه بنو تميم أحد معنيين: إما أنهم حملوا على معناه؛ لأن المقصود هو المستثنى، فالقائل: ما في

ص: 363

الدار أحدٌ إلا حمارٌ، المعنى فيه: ما في الدار إلا حمارٌ، وصار ذكره أحدًا توكيدًا؛ ليعلم أنه ليس ثم آدمي ثم أبدل من أحدٍ ما كان مقصوده من ذكر الحمار، وإما على جعل الحمار إنسان الدار، أي: الذي يقوم مقامه في الأنس كما قال، أنشده سيبويه:

* تحية بينهم ضربٌ وجيع *

جعلوا الضرب تحيتهم؛ لأنه الذي يقوم مقام التحية، وكذلك قوله أنشده أيضًا:

* أنيسك أصداء القبور تصيح *

وكقوله: ما لي عتاب إلا السيف. ذكر الوجهين سيبويه في تأويل الرفع. وهذا كله إنما هو إذا تقدم المستثنى نفي أو شبهه، وفيه تكلم؛ إذ هو داخلٌ تحت قوله:"وبعد نفي أو كنفي انتخب" كذا، أما إذا لم يتقدم شيءٌ من ذلك فالنصب هو الواجب دل على ذلك.

قوله: ما استثنت إلا عن تمام ينتصب. وفي كلامه بعد نظران:

أحدهما: أنه لما قال: "وعن تميم فيه إبدال وقع" لم يصرح بكيفية هذا الإبدال عندهم أهو لازمٌ في لغتهم لزوم النصب في لغة أهل الحجاز فلا يجوز

ص: 364

عندهم: ما في الدار أحدٌ إلا حمارًا، أم جائزٌ؟ فيجوز مع الإتباع النصب، فتقول: ما في الدار أحدٌ إلا حمارًا كالحجازيين، وإلا حمارٌ كالمتصل، والذي نص عليه في التسهيل الجواز، وهو نص ابن خروف وغيره، أن الاستثناء المنقطع إذا رفعه بنو تميم فعلى حدٍ ما يرفع الجميع المتصل، فالمختار الإتباع، ويجوز النصب على غير الوجه المختار؛ لأن المنقطع في التأويل قد صار إلى معنى المتصل، وإذا صار إليه فيجري على حكمه، وقد يؤخذ من كلام الناظم جواز الوجهين؛ فإنه لما قال:"وانصب ما انقطع" ثبت أن النصب فيه حاصلٌ بإطلاق على كل لغةٍ، وحين قال:"وعن تميم فيه إبدال" دل على أنه وجه ثانٍ لهم فيه زائدٌ على النصب، فحصلت الإشارة من كلامه إلى ثبوت الوجهين على الجملة، وإلى تعيين الأرجح على مذهبهم وهو الإتباع.

والثاني: أن شرط الإبدال عند بني تميم أن يصح وقوع المستثنى موقع المستثنى منه، نحو ما تقدم من الأمثلة، فإنك إذا قلت: ما في الدار أحدٌ إلا حمارًا، فلك أن تسقط أحدًا، فتقول: ما في الدار إلا حمارٌ، وتقول أيضًا: ما بالربع إلا الأواري، والخيل لا يبقى لجاحمها إلا الفتى الصبار، وبلدةٍ ليس بها إلا اليعافير وإلا العيس. وهذا كله كلامٌ مستقيمٌ، أما إذا لم يصح أن يقع موقعه فليس في المستثنى إلا النصب كقولهم: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر، ففاعل زاد ونفع ضمير مستتر، فكأنه قال: ما نفع ذلك الشيء ولكن ضر، ولا زاد ذلك الشيء ولكن نقص. وما التي بعد إلا مصدرية، وفي إعرابها اضطراب، ولكن الحاصل أنه ليس بمرفوع على البدل، ولا يصح وقوعه موقع

ص: 365

الضمير فلا يصح أن يقول: ما زاد إلا النقص، وما نفع إلا الضرر، وكذلك قول الفرزدق، أنشده سيبويه:

وما سجنوني غير أني ابن غالبٍ

وأني من الأثرين غير الزعانف

فلا يمكن أن يقال هنا: وما سجنوا غير ابن غالب على أن يكون غير مفعولًا بسجنوا، ومن ذلك كثير، فإذا تقرر هذا. فكلام الناظم لا يخرج عنه مثل هذه الأشياء بل أطلق القول بأن الإبدال واقعٌ عن تميم، فيقتضي فيها جواز الإبدال، وهو باطل، وقد تحرز هو في التسهيل منه فقال:"وأجاز التميميون إتباع المنقطع إن صح اغناؤه عن المستثنى منه" فكان من حقه أن يفعل ذلك هنا.

ويجاب عن هذا من وجهين:

أحدهما: أنه إنما قال: إن الإبدال وقع لبني تميم في الاستثناء المنقطع على الجملة وليس فيه ما يعين أن كل استثناء منقطع كذلك، ولا شك أن الأمر كذلك، وغاية ما فيه أنه لم يبين موضع الإبدال، وذلك قريب؛ إذ قد يقصد في هذا النظم التعريف الإجمالي ويحيل في بيانه على الشيوخ، وقد تقدم منه أشياء، وستأتي أخر، ولا يقال: إن هذا إخلالٌ، إذ يوهم أن الإبدال تتابع في الجميع، لأنا نقول: إنما يكون إخلالًا إذًا أتى بعبارة عامة محكومٍ عليها في جميع أفرادها بحكم غير مطردٍ، كما لو قال: وجوز فيه الإبدال عند تميم، أو نحو ذلك، وأما حين قال: قد وقع فيه الإبدال عند تميم، فليس فيه ما يدل على شمول الحكم، لأنه جعل الاستثناء المنقطع محلًا لوقوع الإبدال، ولا يلزم من وقوع الشيء في

ص: 366

محلٍ شموله لجميع أجزاء ذلك المحل؛ لصحة وقوعه في محلها.

والثاني: أن قوله: "فيه إبدال" قد يشعر بذلك الشرط، وذلك أن من حقيقة البدل أن يصح وقوعه موقع المبدل منه من حيث هو مقصودٌ بالحكم، كما قال في باب البدل:"التابع المقصود بالحكم"؛ ولذلك سمي بدلًا، وإذا كان كذلك فلا يتأتى الإبدال إلا حيث يصح الاستغناء به عن الأول، وذلك عين ما قيده به في التسهيل بقوله:"إن صح اغناؤه عن المستثنى منه" وإذا تأملت جميع ما تقدم من المثل فلا يصح فيها الإبدال؛ لأنه لا يغني عن الأول، ويدل على هذا القصد من كلامه إتيانه بلفظ الإبدال ولم يأت بلفظ الإتباع، فيقول: وعن تميم فيه إتباع وقع، كما قال في البيت المتقدم: "وبعد نفي أو كنفي انتخب.

إتباع ما اتصل" وهذا حسن من التنبيه في حسن من الاختصار لا تنبو مقاصده عن مثله، وفي هذا النظم من هذا القبيل أشياء. والله أعلم.

وغير نصب سابقٍ في النفي قد

يأتي ولكن نصبه اختر إن ورد

يعني أن المستثنى إذا كان سابقًا على المستثنى منه فلا يخلو أن يكون في النفي أو في الإيجاب، فإن كان في الإيجاب فليس إلا النصب على الاستثناء، ولم يذكره هنا لأنه داخلٌ فيما تقدم في الإثبات إما بالشمول، وإما بالقياس من باب أولى. وإن كان في النفي فقد أجاز هنا فيه وجهين: أحدهما- وهو غير المختار-: أن يعرب بإعراب المستثنى منه رفعًا أو نصبًا أو جرًا، فتقول: ما قام إلا زيدٌ أحدٌ، وما رأيت إلا زيدًا أحدًا، وما مررت إلا بزيد أحدٍ، ويكون الثاني بدلًا من الأول، وهو المتقدم الذكر فيما إذا كان متأخرًا، وأتى الناظم في هذا الوجه بقد فقال:

ص: 367

"قد يأتي" أي قد يأتي قليلًا غير النصب، وهو الإتباع في المستثنى السابق؛ إذ ليس بكثير في كلام العرب، قال سيبويه:"وحدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: ما لي إلا أبوك أحد، فيجعلون أحدًا بدلًا، كما قالوا: ما مررت بمثله أحدٍ، فجعلوه بدلًا" وإنما كان غير مختار لأنهم كرهوا أن يبدلوا الأكثر من الأقل، إذ كان البدل على خلاف ذلك، لأنه لا يوجد بدل كلٍ من بعض. بهذا يعلل النحويون، ويفسرون به كلام سيبويه في التعليل حين قال:"وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما حملهم على نصب هذا- يعني ما لي إلا أباك صديق- أن المستثنى إنما وجهه عندهم أن يكون بدلًا، ولا يكون مبدلًا منه؛ لأن الاستثناء إنما حده أن "تدارك به بعد ما تنفي، فتبدله". قال:"فلما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجهٍ قد يجوز إذا أخرت المستثنى" يعني النصب، وفسره ابن الضائع بأن الأصل في الاستثناء أن يأتي بعد المستثنى منه، فحده إذًا أن يكون بدلًا لا مبدلًا منه؛ لأن البدل ثانٍ عن المبدل منه؛ فلذلك لم يجز: ما أتاني إلا زيدٌ أحدٌ، على أن يكون أحدٌ بدلًا من إلا زيد، فإنه في تقدير: ما أتاني إلا زيد، ما أتاني أحدٌ، فلما لم يكن حده كذلك، ولم يكن مع التقديم أن يكون بدلًا حملوه على وجهٍ قد يجوز فيه وهو مؤخر، وهو

ص: 368

النصب. قال ابن الضائع: "ويظهر من سيبويه أنه يمكن أن يكون المستثنى منه بدلًا من المستثنى، ولذلك علله بذلك التعليل". ثم ذكر أن من علل بما تقدم لم يفهم عن سيبويه، وبين أن المراعى في البدل في الاستثناء أن يقع موقع المستثنى منه، والبعض في الاستثناء لا يقع موقع الكل إلا مع إلا، وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ، وزيدٌ مع إلا بمعنى غير زيد، وغير زيدٍ هو مدلول أحد، فهو من بدل الشيء من الشيء وهما لعينٍ واحدة، فإلا زيد أشبه ببدل الشيء من الشيء منه ببدل البعض؛ ولذلك لا يقع البدل هنا موقع المبدل منه إلا مع إلا، فليس البدل إلا الحرف مع الاسم، والدليل على أن سيبويه أراد هذا الذي فسرت تشبيهه البدل في الاستثناء بقولك: مررت برجلٍ زيد، وهذا ليس بدل بعض من كل، ولم يتعرض حيث ذكر البدل لبدل البعض من الكل أصلًا، قال:"وتعليله في منع البدل في المستثنى المقدم دليلٌ على ذلك، ولم يفهم عنه أحدٌ مراده" قال: "فعلى هذا كان يصح البدل في: ما قام إلا زيدٌ أحدٌ؛ لأنه يقع موقعه، ويبدل مكانه، ويقع موقع "إلا زيدٌ" لا موقع زيدٍ وحده" انتهى المقصود من كلامه، وبه تبين وجه الإتباع، ووجه اختيار النصب. ومما جاء على الإتباع ما أنشده يونس في نوادره من قول الشاعر:

ص: 369

رأت إخوتي بعد الولاء تتابعوا

فلم يبق إلا واحدٌ منهم شفر

وأنشد الفراء لذي الرمة:

مقزع أطلس الأطمار ليس له

إلا الضراء وإلا صيدها نشب

ولحسان رضي الله عنه:

لأنهم يرجون منه شفاعةً

إذا لم يكن إلا النبيون شافع

والوجه الثاني- وهو المختار- النصب على الاستثناء، وهو الذي قال [فيه]. ولكن نصبه اختر إن ورد" فتقول على المختار: ما لي إلا زيدًا أحدٌ، وما قام إلا زيدًا القوم، وما مررت إلا زيدًا بأحدٍ، ووجه ذلك ما تقدم من الخروج عن قبح البدل، كما فعلوا في نحو: فيها قائمًا رجلٌ، لما لم يحسن أن يجري قائم على رجلٍ مع تقديمه، ولا رجلٌ على قائمٍ نصبوه على الحال، قال سيبويه: "لما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجهٍ قد يجوز إذا أخرت المستثنى، كما أنهم حيث استقبحوا أن يكون الاسم صفةً في قولهم: فيها قائمًا رجلٌ، حملوه على وجهٍ قد

ص: 370

يجوز لو أخرت الصفة- يعني النصب على الحال- وكان هذا أمثل عندهم من أن يحملوا الكلام على غير وجهه". ثم أنشد لكعب بن مالك رضي الله عنه:

والناس ألبٌ علينا فيلك ليس لنا

إلا السيوف وأطراف القناوزر

وقال الكميت:

وما لي إلا آل أحمد شيعة

وما لي إلا مشعب الحق مشعب

هذا تحصيل ما قصد. ثم فيه بعد نظر من وجهين:

أحدهما: أن السبق الذي ذكر إما أن يريد به السبق المطلق كان سبقًا على جزأي الجملة معًا أ، على أحدهما دون الآخر، أعني أن يكون السبق على المستثنى منه وحده دون العامل، فإن كان الأول فهو غير صحيح؛ إذ لا يجوز تقدم المستثنى على الجملة كلها أصلًا، فلا تقول: إلا زيدًا قام القوم، ولا: ما إلا زيدًا في الدار أحدٌ، فإن جاء من ذلك شيءٌ فهو خاص بالشعر، كقول الشاعر- أنشده الزجاجي- وغيره:

خلا أن العتاق من المطايا .. حسين به فهن إليه شوس

ص: 371

وهو لأبي زبيد الطائي، وقال الآخر- أحسبه الأعشي-:

خلا الله لا أرجو سواك وإنما

أعد عيالي شعبة من عيالكا

وقال الآخر:

وبلدةٍ ليس بها طوري

ولا خلا الجن بها إنسي

فلا يبنى على مثل هذا، وإطلاق لفظ السبق في كلامه يقتضي جواز مثل هذا.

وأما إن أراد الثاني فصحيح إلا أن لفظه لا يقتضيه بخصوصه، فكان كلامه غير محرر، وقد وجه في الشرح امتناع التقديم بأن المستثنى جارٍ من المستثنى منه مجرى الصفة المحضة من الموصوف بها، ومجرى المعطوف بلا من المعطوف عليه، فكما لا يتقدمان على متبوعهما كذا لا يتقدم المستثنى على المستثنى منه إلا إذا تقدم ما يشعر به مما هو المسند إليه أو واقع عليه.

ص: 372

والجواب: أن إجازته الرفع على البدل يعين أن التقديم لا يكون إلا على المستثنى منه خاصةً؛ لأنك إذا قلت: إلا زيدٌ لم يقم القوم لم يصح أن يكون واحدٌ منهما بدلًا، وكذلك: إلا زيدٍ لم أمر بإخوتك، وما أشبه ذلك، فلا بد من محل يتصور فيه البدل، وذلك لا يكون إلا عند توسط المستثنى. هذا وجهٌ من الاعتذار جارٍ، ويمكن أن يعتذر عنه بأنه قد ذهب في ذلك مذهب من رأى جواز التقديم على الجملة بأسرها، حكاه ابن الأنباري عن الكسائي من الكوفيين، وعن الزجاج من البصريين. وإذا كانت المسألة خلافية أمكن أن يطلق العبارة بناءً على القول بالجواز، ويترجح هذا المذهب بأمرين: الأول: السماع في نحو ما ذكر، والآخر: أن المانع عند البصريين من التقديم شبهه بالصفة مع الموصوف، أو بالبدل مع المبدل منه، أو بالمعطوف بلا مع المعطوف عليه، وذلك الشبه غير معتبر، ولا محصل؛ إذ لو كان كذلك لم يجز تقديمه على المستثنى منه وحده، وهو جائز باتفاق من المختلفين. وما فرق بن ابن مالك في الشرح ليس بفرقٍ قوي يعمل مثله في بناء الأحكام عليه، وكذلك قول من قال: لما تجاذبه شبهان شبهه بالمفعول، وشبهه بالبدل، والأول طالبٌ بجواز التقدم مطلقًا، والثاني مانع منه مطلقًا، أعطي منزلة بين المنزلتين إعمالًا للشبهين فلو أجيز التقديم بإطلاق

ص: 373

لأهمل أحدهما، وهو خلاف الأولى. فهذا فرقٌ ضعيف لا يقوى أن يبنى عليه قياس، وإنما يكون توجيهًا للسماع بعد ثبوته. هذا إن سلمنا صحة شبهه بالمفعول. وإلا فلقائل أن يقول بمنعه وأيضًا إذا ثبت أن إلا هي العاملة فلا محذور في تقديم المستثنى؛ إذ كانت (إلا) تتقدم أيضًا، وإنما كان يلزم المحذور على القول بأن الفعل هو العامل بوساطة إلا، فالحاصل أن للقول بجواز التقديم مطلقًا وجهًا لا يبعد من أجله ميل الناظم إليه. والله أعلم.

والنظر الثاني: أن قوله: "ولكن نصبه اختر إن ورد" عبارة غير محررة وذلك أن الكلام مفروض على أن التقديم قياسٌ لا أنه سماع، وهذه العبارة تؤذن بأنه سماع لا قياس، ألا ترى أن قوله:"إن ورد" إنما معناه: إن ورد في السماع، إذ لا يقال فيما كان قياسًا الوجه فيه كذا إن ورد عن العرب، [لأن ما ورد عن العرب]، وكان الكلام فيه موقوفًا على الورود عنهم بعيدٌ من أن يقال إنه قياس، وأيضًا فإن قوله:"نصبه اختر" مع قوله: "إن ورد" كالمتناقض؛ فإنه إذا توقف الحكم باختيار النصب على وروده، فوروده لا بد أن يكون منصوبًا أو مرفوعًا، وعلى كلا التقديرين لا اختيار فيه؛ إذ لا يقال إلا كما سمع، فثبت أن قوله:"إن ورد" غير محصل ولا محرر، فلو قال مثلًا:"ولكن نصبه قد اعتمد" أو ما أشبهه مما يزيل ذلك اللفظ المشكل لكان أولى. ولا جاوب لي عنه الآن. ونصبه مفعول (اختر) قدم عليه. [ثم قال: ]

ص: 374

وإن يفرغ سابق إلا لما

بعد يكن كما لو إلا عدما

هذا هو القسم الثاني من قسمي المستثنى، وهو المفرغ، والتفريغ: عبارة عن كون ما قبل (إلا) طالبًا لما وقع بعدها طلبًا لا يفتقر إلى (إلا) من حيث التركيب، فلا يتم الكلام من حيث القصد إلا به، فيطلبه إما بالفاعلية وإما بالخبرية، وإما بالمفعولية على أقسامها، وإما بالحالية، وإما بغير ذلك من الأحكام التي يقتضيها فيه ما قبل (إلا)؛ لأنه لم يذكر له قبلها شيءٌ من ذلك، فيريد أن ما قبل (إلا) إذا كان مفرغًا لما بعدها لأن يطلبه بما تقتضيه من الأحكام، فإنه يعرب بإعراب ما يطلبه به على حد ما لو عدمت (إلا) من الكلام فلم تذكر، لكن لا بد أن يتقدم نفي أو شبهه؛ إذ لا يصح التفريغ من عدمها كما يأتي، فتقول في الفاعلية: ما قام إلا زيدٌ، فزيدٌ فاعل بقام كما كان فاعلًا في قولك: ما قام زيدٌ، وفي الخبرية: ما زيدٌ إلا قائمٌ، فقائم خبر زيد على حد قولك: ما زيد قائم، وعلى ذلك يجري الأمر في المفعولية نحو: ما ضربت إلا زيدًا، وما قمت إلا قيامًا حسنًا، وما خرجت إلا يوم الجمعة، وما قعدت إلا مكانك، وما ضربته إلا تأديبًا، وفي الحال: ما سرت إلا مسرعًا، وفي المجرور: ما مررت إلا بزيدٍ، وما اشتريت إلا من السوق، وفي التمييز: ما امتلأ الإناء إلا ماءً، أو ما شبه ذلك؛ وإنما كان كذلك لأن المستثنى صار خلفًا من المستثنى منه حين ترك؛ إذ كان الأصل: ما قام أحدٌ إلا زيدٌ، وما رأيت أحدًا إلا زيدًا، وما زيدٌ في موضع من المواضع إلا مكان كذا، وكذلك سائرها، فلما ترك ذكرها لفهم معانيها أقيم المستثنى مقامها، فأعطي اللفظ حقه من العمل فيها على حسب ما كان يطلب المستثنى

ص: 375

منه، وقطعه على الحكم بذلك بناءٌ منه على مذهب الجمهور القائلين بأن لا مقدر قبل (إل) ايعتد به في أحكام اللفظ. ومن الناس من ذهب إلى أنه يصح تقدير معمول للعامل المتقدم، ويكون له الحكم دون ما بعد إلا، لكن على تفصيل، فقال: لا يخلو أن يكون المعمول الذي يطلبه العامل مما لا يجوز حذفه، أو مما يجوز حذفه، فإن كان مما لا يجوز حذفه لم يصح تقديره قبل (إلا)، ويلزم أن يكون ما بعد (إلا) هو معموله، فوجود إلا هنا كعدمها، كالفاعل والمفعول الذي لم يسم فاعله، كقولك: ما قام إلا زيدٌ، وما ضرب إلا زيدٌ. وإن كان مما يجوز حذفه جاز فيما بعد (إلا) وجهان: أحدهما: أن تجعله على حسب العامل المتقدم. والآخر: أن تنصبه على الاستثناء، وتجعل معمول العامل المتقدم محذوفًا فتقول على الأول: ما مررت إلا بزيد، وعلى الثاني: ما مررت إلا زيدًا. وما قاله دعوى لا تقوم عليها حجة، وكلام العرب يخالفها، ولو كان على ما قال لجاز ذلك في الفاعل والمفعول الذي لم يسم فاعله، فيكونان مضمرين لا محذوفين كما يقولون في: قام القوم ليس زيدًا، ولا يكون زيدًا.

فإن قيل: الفرق بينهما أن الفضلة يجوز حذفها والفاعل لا يحذف، ولا يصح أن يكون مضمرًا؛ إذ لا دليل عليه، ولا يفهم العموم إلا بعد ذكر زيد، والدليل على أنه حذف في الجميع، وأن ذلك المحذوف معتبر في غير المرفوع ما أنشده الفارسي في التذكرة من قوله:

نجا سالمٌ والنفس منه بشدقه

ولم ينج إلا جفنَ سيفٍ ومئزرَا

ص: 376

فلولا أن ثم محذوفًا مقدرًا لم ينصب مع التفريغ، ومثل هذا لم يأت في المرفوع، فدل على أن مثل:(ما قام إلا زيد) ليس فيه مقدر، وأن مثل: ما مررت إلا بزيدٍ فيه مقدر في أحد الوجهين.

فالجواب: أن هذا الفرق غير صحيح؛ لأمرين: الأول: أن هذا البيت من الشاذ الذي لا يقاس عليه مع احتمال أن يكون الأصل: فلم ينج إلا بجفن سيف ومئزرٍ، لكنه حذف الجاز فانتصب المجرور كما قال:

* تمرون الديار ولم تعوجوا *

والثاني: أنه إن كان مثل هذا حجةً في جواز تقدير محذوفٍ فليكن مثل ذلك حجةً في تقدير المرفوع؛ فإنهم قد نقلوا أن الراجز قد قال: لم يُعن بالعلياء إلا سيدًا

ولا شفى ذا الغي إلا ذو هدى

فيستوي إذًا تقدير المرفوع وغيره، فيبطل ما ذهب إليه من التفصيل، وأيضًا لو صح اعتبار التقدير بإطلاق لجاز البدل من ذلك المقدر، ولو جاز لتكلموا به، فكانوا يقولون: ما مررت إلا زيدٍ- بغير باء، كما يجوز ذلك مع ذكر المستثنى منه؛ إذ لا يشترط في البدل تكرير العامل، فالصحيح أن ما بعد إلا هو مطلوب الفعل، نعم لا ينكر أن يكون المعنى طالبًا بتقدير أمر لا يعتبر لفظًا؛ إذ لا يلزم من التقديرات المعنوية اعتبار الأمور اللفظية بها، قال السيرافي:"إنما جاز أن يستثنى الشيء من لا شيء؛ لأنه وإن "اعتمد لفظ ما قبل حرف الاستثناء على الاسم

ص: 377

الذي بعده في العمل، فلا يخرجه ذلك من معنى الاستثناء كما أن الفعل إذا بني للمفعول

لم يخرجه ذلك أن يكون مفعولًا به" قال: "وكذلك ما قام إلا زيد نعلم أن القيام نفي عن غير زيد لكن تصحيح اللفظ ألا يعرى الفعل من فاعل يجعل ما بعد إلا فاعله مع فائدة إلا، وهي نفي الفعل عما سواه".

وقوله: "وإن يفرغ سابق" السابق عبارة عن العامل الطالب، و (إلا) مفعولٌ بسابق؛ لأنه اسم الحرف حكاه على العادة في الاصطلاح، ولما متعلق بيفرغ، و (بعد) على حذف المضاف إليه، وهو الضمير العائد على إلا، والتقدير: وإن يفرغ عاملٌ سابقٌ أداة الاستثناء لما بعدها يكن ذلك الواقع بعد إلا في الإعراب كما يكون لو عدمت من الكلام. فإن قيل: من شرط التفريغ أن يتقدم الكلام نفي، أو استفهام، أو نهي، كقولك: ما زيدٌ إلا قائمٌ، وهل أنت إلا قائمٌ، ومنه في القرآن:{قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا} {وما محمد إلا رسول} {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} و {لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} ونحو ذلك، والناظم لم يأت بما يعطي اشتراطه بتصريحٍ أو إيماءٍ، فالظاهر أن هذا تقصير، وإلا فمن أين يفهم له ذلك الشرط، وكلامه في التسهيل أصح حيث قال بعد ما ذكر التفريغ:"ولا يفعل ذلك دون نهيٍ أو نفيٍ صريحٍ أو مؤولٍ" فالجواب من وجهين:

ص: 378

أحدهما: إمكان أن يكون ترك ذلك لما لم يستقم التفريغ إلا كذلك، فإن الإيجاب لا يصح فيه ذلك، لو قلت: قام إلا زيد، وضربت إلا زيدًا لم يكن كلامًا مستقيمًا، بخلاف ما إذا لم يكن موجبًا.

والثاني- وهو أشبه-: أن كلامه فيما تقدم إنما هو على الاستثناء الواقع بعد النفي وشبهه من لدن قوله: "وبعد نفي أو كنفي انتخب" إلى ههنا فيكون فصل التفريغ إذًا داخلًا تحت ذلك التقييد، ومنتظمًا في سلكه. والله أعلم. [ثم قال]:

وألغ إلا ذات توكيدٍ كلا

تمرر بهم إلا الفتى إلا العلا

هذا الفصل يذكر فيه تكرير إلا في الاستثناء، أعني أن تكرر مع ما يقع مستثنًى بها. وهو قد قسمها أولًا قسمين بحسب التكرير المذكور: أحدهما: أن تكرر لمجرد التوكيد لما قبلها، والآخر: أن تكرر لا لتوكيد. فأما الأول فهو الذي ذكر في هذين الشطرين، فبين أن حكمها حكم ما لو لم تذكر إلا بخصوصها، وهذا معنى الإلغاء في قوله:"وألغ" أي أن ما بعدها يجري على إعراب ما قبلها إبدالًا منه تحرزًا مما يذكره بعد في القسم الثاني من مخالفة ما بعدها لما قبلها في الإعراب، ومثل ذلك بقوله: لا تمرر بهم إلا الفتى إلا العلا، فإلا الفتى بدلٌ من الضمير المجرور بالباء، والعلا بدلٌ من الفتى، وإلا لمجرد التوكيد، كأنه قال: إلا الفتى العلا، ويتعلق بهذا الحكم مسائل ثلاث: إحداها: أن هذا الحكم مشروطٌ بأن يكون ما بعد إلا الثانية بحيث إذا سقطت إلا صح معه الكلام، وهو حقيقة كونها مؤكدة، وذلك يتصور على أن يكون الثاني بدلًا من الأول، أو

ص: 379

معطوفًا بالواو. فأما البدل فأن يكون الثاني هو الأول، وهو بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، وهو الذي مثل به، ومثله: قام القوم إلا زيدًا إلا أبا عبد الله، إذا كان أبو عبد الله هو زيد، ومنه في أحد الاحتمالات ما أنشد الإمام للفرزدق:

ما بالمدينة دارٌ غير واحدةٍ

دارُ الخليفة إلا دار مروانا

على أن يكون غير واحدةٍ استثناء لا صفةً، وإلى ذلك ينحو قول القطامي:

أما قريش فلن تلقاهم أبدًا

إلا وهم خير من يحفى وينتعل

إلا وهم جبل الله الذي قصرت

عنه الجبال فما ساواهم جبل

وبدل البعض من الكل نحو: ما أعجبني إلا زيدٌ إلا وجهه، وما قطع إلا زيدٌ إلا يده، ومن ذلك عند بعضهم ما أنشده سيبويه من قول الراجز:

مالك من شيخك إلا عمله

إلا رسيمه إلا رمله

الرسم والرمل بعض عمله، وظاهر سيبويه أنه من الأول. وبدل الاشتمال كقولك: ما أعجبني إلا زيدٌ إلا حسنه. وبدل الإضراب كذلك أيضًا، وتقول: ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله إذا كان غيره على الغلط، والنسيان،

ص: 380

والبداء. وأما العطف بالواو فكذلك أيضًا إذا قلت: جاءني القوم إلا زيدًا وإلا عمرًا، فهذا من ذلك لأنك إذا أسقطت إلا صح الكلام، فتقول: جاء القوم إلا زيدًا وعمرًا، وأنشد المؤلف على ذلك قول الشاعر:

وما الدهر إلا ليلة ونهارها

وإلا طلوع الشمس ثم غيارها

وكل هذا داخلٌ تحت عبارته.

والثانية: أنه حين بين أن إلا إذا كانت مؤكدة فهي ملغاة في الحكم كأنها لم تكن، فلا بد أن يكون ما بعدها تابعًا لما قبلها في الإعراب، فتقول: ما قام إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله، وما أعجبني إلا زيدٌ إلا وجهه أو إلا حسنه، وما مررت إلا بزيدٍ إلا أبي عبد الله، وما أشبه ذلك، فلا تنصب واحدًا منهما على الاستثناء إلا إذا نصبت الآخر على الاستثناء أيضًا، كما أنك إذا لم تأت بإلا المؤكدة لم يختلفا أصلًا، فتقول: ما جاءني إلا زيدٌ أبو عبد الله، وما مررت إلا بزيدٍ أبي عبد الله، ولا تقول: ما جاءني القوم إلا زيدٌ إلا أبا عبد الله، كما لا تقول: ما جاءني القوم إلا زيدٌ أبا عبد الله، وهذا ظاهر.

والثالثة: أنه أطلق القول، ولم يقيده كما تقدم، فاقتضى أن ذلك الحكم يكون في الإيجاب كما يكون في النفي، وكذلك في الاستفهام، والنهي، وكذلك اقتضى أنه ثابت مع التفريغ وغيره، وأيضًا فيشعر بذلك من كلامه أنه قسم التكرير إلى ما هو توكيد، وإلى ما هو على غير التوكيد، ثم فصل ما هو على

ص: 381

غير التوكيد إلى ما هو مع التفريغ، وإلى ما ليس كذلك، ولم يفصل ما هو توكيد، فدل على أنه لا تفصيل فيه، وأيضًا فيدل على أن هذا الحكم مطلق تقدم الاستثناء أو تأخر لا يختلف الحكم في المستثنى مع التكرار للتوكيد، وأشعر بالإطلاق تقييده في قسم التكرار لغير توكيد، وتفصيله الحكم مع التقديم والتأخير، فعلى هذا تقول في الإيجاب: قام القوم إلا زيدًا إلا أبا عبد الله، وهل قام إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله، ولا تكرم إلا زيدًا إلا أبا عبد الله. وتقول: ما قام إلا زيد إلا أبو عبد الله، وقام الناس إلا زيدًا إلا أبا عبد الله، وكذلك: قام إلا زيدًا إلا أبا عبد الله القوم، وما قام إلا أبو عبد الله إلا زيدٌ القوم، وما أشبه ذلك كله يشمله كلامه.

القسم الثاني من قسمي تكرار إلا، وهو أن تكرر لغير توكيد، ذكر فيها الناظم ضابطًا أذكره على الجملة ثم أمشيه على لفظه، فاعلم أنه إذا تكررت إلا فلا يخلو أن يكون ما قبلها مفرغًا لما بعدها أو غير مفرغ له، فإن كان مفرغًا له شغل بواحد من تلك المستثنيات على حسب ما كان يطلبه من فاعليةٍ أو مفعوليةٍ أو غير ذلك، ونصب الباقي منها على الاستثنائية، فتقول: ما جاءني إلا زيدٌ إلا عمرًا، وما مررت إلا بزيدٍ إلا عمرًا. وما أشبه ذلك. وإن كان ما قبل إلا غير مفرغٍ لما بعدها فإما أن تكون المستثنيات متقدمة على المستثنى منه أو لا تكون كذلك، فإن تقدمت فالنصب لا غير في جميع المستثنيات، ولا يجوز الإتباع، فتقول: ما جاءني إلا زيدًا إلا عمرًا أحدٌ، وما مررت إلا زيدًا إلا عمرًا بأحدٍ، ومنه قول الكميت أنشده سيبويه:

ص: 382

فمالي إلا الله لا رب غيره

ومالي إلا الله غيرك ناصر

وإن تأخرت عن المستثنى فلأحدها حكمه إن كان منفردًا، وللبواقي النصب على الاستثناء، فتقول: قام القوام إلا زيدًا إلا عمرًا، وما قاموا إلا زيدٌ إلا عمرًا على المختار، وما قاموا إلا زيدًا إلا عمرًا على غير المختار، هذا معنى ما قاله على الجملة، ثم رجع إلى لفظة فقال رحمه الله:

وإن تكرر دون توكيدٍ فمع

تفريغٍ التأثير بالعامل دع

في واحدٍ مما بإلا استثنى

وليس عن نصب سواه مغني

يعني أن إلا إذا كررت مع مستثنى ولم يرد بالتكرير التوكيد فمع تفريغ ما قبلها لا يصح تأثير العامل في واحدٍ من تلك المستثنيات، وإنما يعمل فيه المفرغ له، وهذا يدل على أن العامل المتقدم على إلا ليس هو العامل في المستثنى، أعني المفرغ لما بعد إلا، والمشغول في القسم الآتي، وإنما يعمل فيه غير ذلك، وهو إلا نفسها على ما تقدم، ولا أثر للفعل، ولا لغيره في نصب المستثنى؛ لأنه جعل المفرغ مانعًا لعمل العامل فيه، وهذا يدل على أنه غيره، وإذا كان غيره فهو ما حصلت الإشارة إليه فيما تقدم، فالعامل في قوله:"التأثير بالعامل دع" هو إلا، و"التأثير" منصوب بدع، و"في واحد" متعلق بدع أيضًا، ولا يتعلق بالتأثير؛ لما يلزم من اعتراض دع بين أثناء الصلة، وهو أجنبي منها، وقوله:"في واحد" يريد أي واحد كان منها، متقدمًا كان على البواقي أو متأخرًا؛ إذ الرتبة في هذا غير لازمةٍ، بل يجوز أن تقول: ما جاءني إلا زيدًا إلا عمرو، فيكون "إلا عمرو" هو

ص: 383

المفرَّغُ له، وهو متأخر، ويجوز: ما جاءني إلا زيدٌ إلا عمرًا؛ وسبب ذلك أن المستثنى يجوز تقديمه على المستثنى منه أو ما يقوم مقامه، قال سيبويه:"وإن شئت قلت: ما أتاني إلا زيدًا إلا عمرو، فتجعل الإتيان لعمرو، ويكون زيدٌ منتصبًا من حيث انتصب عمرو" يعني على الاستثناء في المسألة الأولى، قال:"فأنت في ذا بالخيار إن شئت نصبت الأول ورفعت الآخر، وإن شئت نصبت الآخر، ورفعت الأول". ثم قال: "وليس عن نصب سواه مغنٍ" يعني أن ما عدا المستثنى الذي اشتغل به العامل المفرغ له لا بد له من النصب، ولا يغني النصب غيره فلا يتبع على البدل؛ لما يلزم من إبدال المستثنى من المستثنى؛ لأنهما معًا مستثنيان. قال السيرافي:"لا بد من رفع أحدهما مع التفريغ؛ لأن الفعل المنفي لا فاعل معه، ولا يرفع الآخر؛ لأن المرفوع بعد إلا على أحد وجهين: إما على التفريغ، وإما على البدل، ولا يصح واحدٌ منهما، فوجب النصب لأحدهما" و"مغنٍ" واقع على ما عدا النصب، وهو الرفع أو الجر على البدل، وهو اسم ليس، وخبرها محذوفٌ و"عن نصب سواه" متعلق بمغن، والتقدير: ليس ثم أو ليس في الوجود أو في الحصول إعراب ٌ مغنٍ عن نصب سواه، واستعمل سوى متصرفة على مقتضى اختياره فيها على حسب ما يأتي ولا يعني بالنصب هنا مطلق النصب على أي وجهٍ كان، وإنما يعني النصب على الاستثناء. فكأنه يقول: لا بد فيه من النصب على الاستثناء، ولو حملت العبارة على إطلاقها لأوهم أنه يصح النصب على البدل إذا كان المستثنى الأول المفرغ له

ص: 384

العامل منصوبًا نحو: ما رأيت إلا زيدًا إلا عمرًا، والنصب على البدل كالرفع من غير فرق، ويبين هذا القصد من كلامه نصه على التزام النصب؛ إذ لا يكون ذلك إلا مع النصب على الاستثناء، وأما النصب على البدل إذا كان ما قبله منصوبًا فغير متجهٍ؛ لأنه كالرفع والجر، فمن حيث امتنعا يمتنع النصب، ولا وجه لجواز البدل في النصب، ومنعه في الرفع والجر. ثم قال:

ودون تفريغٍ مع التقدم

نصب الجميع احكم به والتزم

يعني إذا تقدمت المستثنيات على المستثنى منه؛ وذلك مع عدم التفريغ؛ إذ هناك يتصور التقديم فلا بد من نصبها كلها، فتقول: ما جاءني إلا زيدًا إلا عمرًا أحدٌ، ولا يجوز الرفع في واحد منها كما جاز في قولك: ما جاءني إلا زيدٌ أحدٌ؛ لأن البدل لا يصح كما لو تأخرت المستثنيات؛ لأن المستثنى لا يكون بدلًا من المستثنى، قال سيبويه:"وذلك أنك لا تريد أن تخرج الأول من شيء تدخل فيه الآخر" يعني أنك لم ترد أن يكون الأول مستثنًى منه، والثاني مستثنًى، وإنما هما معًا مستثنيان من المتروك، والبدل إنما يكون حيث يوجد مدخل ومخرج، وذلك معدوم هنا، فامتنع الرفع؛ فلذلك قال الناظم:"نصب الجميع احكم به" وأكده بقوله: "والتزم" أي التزم الحكم بالنصب، ولا تتعداه إلى غيره، ويريد النصب على الاستثناء، لا النصب مطلقًا كما تقدم في قوله:"وليس عن نصب سواه مغن"، و"نصب" منصوب بمقدرٍ من باب الاشتغال، والمفسر قوله:"احكم به" و"دون تفريغ" متعلق باسم فاعل هو حالٌ من الضمير في (به) أي احكم بالنصب حال كونه دون تفريغ، و"مع التقدم" متعلق باحكم، وقوله:

ص: 385

"والتزم" على حذف المفعول أي: والتزم الحكم بذلك أو النصب.

وانصب لتأخير وجيء بواحد

منها كما لو كان دون زائد

كلم يفوا إلا امرؤ إلا علي

وحكمها في القصد حكم الأول

قوله: "وانصب لتأخير" أراد النصب على الاستثناء، ومعنى الكلام أن تلك المستثنيات إذا تأخرت عن المستثنى منه فالنصب أيضًا لازمٌ فيها إلا في واحدٍ منها أي واحدٍ كان، فإن حكمه في جواز النصب أو الإتباع كما لو كان وحده دون استثناءٍ آخر، فتقول: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ إلا عمرًا، برفع زيد على البدل، وهو المختار، وما أتاني أحدٌ إلا زيدًا إلا عمرًا بنصبهما معًا على غير المختار، ومثل ههنا بقوله: لم يفو إلا امرؤ إلا علي" وعلي خلاف امرئ فأتى بأحدهما مرفوعًا على ما يجب، وكان الأصل أن يقول: إلا عليًا، وبه يتم المثال ليتبين المراد إلا أن النظم ألجأه إلى الإتيان به على لغة.

* جعل القين على الدف إبر *

وكذلك تفعل في الإيجاب إلا أنه لا أثر للحكم في الظاهر، وقوله:"وجيء بواحدٍ منها" لم يقيد فيه ذلك الواحد بكونه أولًا أو ثانيًا ليظهر أن كل واحدٍ منهما قابلٌ لما حكم به، فيجوز أن يكون المحكوم عليه الأول أو الآخر فتقول: ما أتاني أحدٌ إلا زيدًا إلا عمروٌ فترفع الآخر على البدل، وتنصب الأول، وذلك

ص: 386

ظاهر، إلا أن هذا المثال في ظاهره ليس من هذا القسم بل من قسم المفرغ له العامل، فكان حقه أن يأتي به هنالك، أو يأتي هنا بغير مفرغ، ولكن يقال: هذا مثال لقسم المكرر على غير التوكيد، أتى به في آخره كما أتى للأول، وهو المكرر للتوكيد، بمثال في آخره فاتفق أن كان من المفرغ. وأما قوله:"وحكمها في القصد حكم الأول" فالضمير في حكمها عائدٌ على المستثنيات الثواني للأول، ويعني أن المستثنى الثاني وما بعده حكمه في المعنى المقصود حكم المستثنى الأول في أنها كلها مخرجات من المستثنى منه المذكور أو المتروك، قال في الشرح:"وما بعد الأول من هذا النوع مساوٍ له في الدخول إن كان الاستثناء من غير موجبٍ، وفي الخروج إن كان موجبًا" انتهى. واختلاف إعرابها لا يخرجها عن ذلك المعنى، قال السيرافي:"المستثنيان وإن اختلف إعرابهما مشتركان في معنى الاستثناء، وإنما رفع أحدهما ونصب الآخر على ما يوجبه تصحيح اللفظ" قال: "ويدل على أنهما مستثنيان معًا أنك لو أخرت المستثنى منه وقدمتهما نصبتهما"، وقال ابن خروف: إن الكل مستثنى من مقدر.

فإن قلت: فإذا كان حكمها كلها واحدًا على حكم الأول فكان ينبغي أن يعطف بعضها على بعضٍ، فإن ابن الناظم قال:"إنهم قصدوا بالمستثنى الثاني إخراجه من جملة ما بقي بعد المستثنى الأول، وبالثالث إخراجه من جملة ما بقي بعد المستثنى الثاني" قال: "ولم يقصدوا إخراجها دفعة واحدة وإلا وجب العطف".

ص: 387

واعلم أن هذا الحكم الذي ذكر عامٌ فيما كان من المستثنيات يمكن استثناء بعضها من بعضٍ، وفيما لا يمكن فيه، أعني الحكم بوجوب النصب فيها أو جوازه، ورفع أحدها في التفريغ أو غيره، إلا أن التمثيل بقوله:"كلم يفو إلا امرؤ إلا علي" تعيين لأحد القسمين، وهو قسم ما لا يصح فيه استثناء بعض المستثنيات من بعض، فعلى هذا القسم حكم بأن حكمه حكم الأول؛ لأن المستثنيات فيه لا يصح رجوع بعضها إلى بعض، ولا استثناؤه منه حسب ما أعطاه التمثيل، وانبنى على ذلك أمران:

أحدهما: أن كل ما كان من المستثنيات كذلك فهذا حكمه، فإذا قلت: له عندي عشرة إلا اثنين إلا اثنين فالمقر به ستة؛ لأن الجميع مخرج من العشرة، وكذلك إذا قلت: له عندي عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة، أو قلت: له عندي [عشرة إلا] ثلاثة إلا أربعة، وهو رأي الأكثر في هذا؛ لأن الأخير لا يمكن استثناؤه مما قبله، والقائل: إلا اثنين إلا ثلاثة مقر بخمسة، والقائل: إلا ثلاثة إلا أربعة مقر بثلاثة. وذهب الفراء إلى أنهما ليسا بمستثنيين من العشرة- فيكون قد أقر بخمسة أو بثلاثةٍ بل يحكم بأنه قد أقر بأحد عشر؛ لأنه عنده في تقدير: له عندي عشرة إلا اثنين فليسا له عندي إلا الثلاثة التي له عندي، وكذلك الأخرى في تقدير: له عندي عشرةٌ إلا ثلاثة، فليست له عندي سوى الأربعة التي له عندي، وارتضاه المؤلف في التسهيل، وشرحه، وظاهر إشارته هنا أنه مع الجمهور، وهو الأصح قياسًا على مسألة: قام القوم إلا زيدًا إلا عمرًا،

ص: 388

ولأن الاستثناء الثاني لا يمكن على هذا المعنى إلا أن يكون منقطعًا، فيكون التقدير: له عندي عشرةٌ إلا ثلاثة سوى الأربعة التي له عندي، ومتى أمكن حمله على الاتصال لم يجز حمله على الانفصال.

فإن قيل: يعين الحمل على الانفصال هنا أنه لو أراد استثناءها من الأول معًا لقال: عشرة إلا سبعة لأنه أخصر، فتخصيصه الثلاثة بالاستثناء ثم جاء بالأربعة دليل على أن الأربعة تزاد على ما أقربه أولًا، وهي السبعة.

فالجواب: هذا لازم في: عشرة إلا ثلاثة، فلقائل أن يقول: لو أراد استثناء الثلاثة من الأول لقال: له عندي سبعة لأنها أخصر، فأن لم يفعلوا ذلك دليل على أنهم قصدوا أمرًا آخر، وهذا فاسدٌ.

فإن قيل: إن للعرب في كلامها تصرفاتٍ كثيرةً فلا يمتنع مثل هذا عليها.

قيل: فكذلك يلزم في مسألتنا.

والأمر الثاني: أن قاعدته تشعر بأنه إذا أمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض فليس الحكم كذلك خلافًا لمن زعم أن الحكم في القسمين واحدٌ. وفي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن الجميع مخرجٌ من الأول، فإذا قلت: له عندي عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة فالمقر به خمسة كما تقدم، وإذا قلت: عشرة إلا ثلاثة إلا اثنين فكذلك وهذا إذا أمكن أن تكون المستثنيات كلها مخرجة من الأول.

والثاني: مذهب الفراء المتقدم فيجعل الاستثناء الثاني منقطعًا كما تقدم.

والثالث: مذهب الأكثر أن يجعل الثاني مستثنى من الأول، والثالث مستثنى من الثاني، فإذا قلت: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا اثنين، فالثلاثة مخرجة من العشرة، والاثنان مخرجة من الثلاثة، فالمقر به إذًا تسعة، وليس في كلام

ص: 389

الناظم ما يعين هذا الأخير، ولا ما قبله، وفيه ما يعين مخالفته للأول من جهة ما أشار إليه من مخالفة القسم الأول لهذا القسم في حكم الإخراج، ولما لم يتعين له رأي في هذا القسم لم نتعرض للاحتجاج عليه. وبالله التوفيق ثم قال:

واستثن مجرورًا بغيرٍ معربًا

بما لمستثنًى بإلا نسبًا

أدوات الاستثناء على أربعة أقسام: قسم هو حرف فقط، وذلك إلا، وهو الذي قدم الكلام عليه، وقد فرغ من شرحه، والحمد لله، وقسم هو اسم فقط، وذلك غير وسوى، بلغاتها، وهو الذي شرع في الكلام عليه، وقسم هو فعل فقط، وذلك ليس، ولا يكون، وقسم هو متردد بين الفعلية والحرفية، تارة يكون فعلًا، وتارةً يكون حرفًا، وهو خلا، وعدا، وحاشا بلغاتها. وإذا تقرر هذا فاعلم أن الأصل في غير أن تكون صفةً؛ لأنك تقول: مررت برجلٍ غيرك، تريد أنه مغايرٌ لك، كما تقول: مررت برجل مثلك على معنى مماثلك غير أنها ضمنت معنى إلا حيث يصح ذلك فيها، وذلك إذا تقدم ما يكون المضاف إليه غير جزءٍ منه، فتقول: قام القوم غير زيدٍ، تريد غايرهم في أنه لم يقم، لأنك لا تريد أن القوم ليسوا زيدًا، وإذا صح فيها معنى إلا بتضمينها إياه جرت مجرى إلا في الاستثناء بها كما يستثنى بإلا؛ فلذلك أدخلوها في حكمها، فيريد الناظم أن غيرًا يستثنى بها ما أضيفت إليه فتعرب معه بإعراب الاسم الواقع بعد إلا، فكل حكم لزم فيما بعد إلا فهو لازمٌ في غير، من نصب، وإتباعٍ، واتصال، وانقطاع غير أن إعراب ما بعد إلا من رفعٍ أو نصبٍ أو جرٍ حاصلٌ في غيرٍ لا فيما بعدها؛ إذا كان ما بعدها قد استحق الجر بالإضافة؛ لأن غيرًا من الأسماء فهي بمنزلة ما بعد إلا في الإعراب، وبمنزلة إلا نفسها في معنى الاستثناء، فقوله:"واستثن مجرورًا بغيرٍ" أي اجعل المجرور بغيرٍ هو المستثنى، وغيرًا أداة الاستثناء،

ص: 390

و (معربًا) حالٌ من غير، أي استثن بهذا الاسم حالة كونه معربًا بإعراب ما بعد إلا مما نسب إليه فيما تقدم، والذي نسب إلى ما بعد إلا هو جميع ما تقدم من الوجوه، فإذا كان الكلام موجبًا فالنصب في غيرٍ، نحو: أتاني القوم غير زيدٍ، وإن كان غير موجب فالإتباع إن لم يكن العامل مفرغًا هو المختار، نحو: ما أتاني القوم غير زيدٍ، ويجوز النصب قليلًا، نحو: ما أتاني القوم غير زيدٍ، وإن كان مفرغًا فالجريان على حكم العوامل المتقدمة، نحو: ما أتاني غير زيدٍ، وما مررت بغير زيدٍ، وما زيدٌ غير قائمٍ، وكذلك يجري الاستفهام والنهي فيها مجرى النفي، فتقول: هل أتاك أحدٌ غير زيدٍ، على البدل، وغير زيد- على الاستثناء، وهل أتاك غير زيدٍ- على التفريغ، ولا تمرر بأحدٍ غير زيدٍ، ولا تمرر بغير زيدٍ. وسائر الأحكام في الاتصال كذلك، وكذلك في الانقطاع أيضًا النصب في الإيجاب لازمٌ، وفي غير الإيجاب النصب في لغة الحجازيين، والإتباع جوازًا في لغة التميميين، نحو: جاءني القوم المسافرون غير زيدٍ المقيم، وما في الدار أحدٌ غير حمارٍ وغير حمارٍ، وما أشبه ذلك. وكذلك يكون النصب مع تقديم المستثنى على المستثنى منه أولى في النفي وشبهه، نحو: ما أتاني غير زيدٍ أحدٌ، وما أتاني غير زيدٍ أحدٌ، على خلاف المختار. وما جرى من المسائل في تكرير إلا جارٍ في تكرير غيرٍ، فقد تقول: ما أتاني غير زيد غير أبي عبد الله، وما أتاني أحدٌ غير زيد غير أبي عبد الله، وما أتاني غير زيدٍ غير عمر أحدٌ، وما أتاني أحدٌ غير زيدٍ غير عمروٍ، وما أشبه ذلك- الحكم في هذه المسائل كلها واحدٌ، والمعنى واحدٌ؛ إذ قد اشتركا أيضًا في معنى الوصف الأصلي؛ فلذلك أتى الناظم بما المقتضية للعموم في قوله:"بما لمستثنى بإلا نسبا"، أي معربًا بجميع ما نسب للمستثنى بإلا، فإذا تقرر هذا فههنا ثلاث مسائل متعلقة بهذه القاعدة.

ص: 391

إحداها: أنه لما جعل حكم غير حكم ما بعد إلا كان ذلك ظاهرًا في أن نصبها في المواضع التي ينصب ما بعد إلا على الاستثناء فيها نصب على الاستثناء، فإذا قلت: جاء القوم غير زيد، فغير منصوب على الاستثناء إذا أشربت معنى إلا لا على الحال خلافًا لمن زعم ذلك؛ لأن الحال أصلها الصفة "لكن امتنع جريانها على الموصوف حين اختلفا في التعريف والتنكير، وإذا كان أصلها الصفة"- وهي الآن كذلك بالفرض- فلم يدخلها معنى إلا كما في نحو: قام القوم غير زيدٍ، فالظاهر أن النصب على الاستثناء، ولا يحتمل الحال مع إشراب معنى إلا. نعم يجوز أن تكون حالًا من حيث أن تكون صفةً بغير إشكال.

والثانية: أن قوله: "معربًا بكذا" مشعرٌ بتصرفه بوجوه الإعراب، وذلك ظاهرٌ في أنه لا يجوز بقاؤه على حالةٍ واحدةٍ بإطلاقٍ، وهو معنى كونه لا يبنى مطلقًا أضيف إلى معرب أو إلى مبني، وهذا مذهب البصريين: أنه لا يطلق فيه جواز البناء، ونقل عن الفراء أن ذلك جائز لتضمنه معنى إلا، فيجوز أن تقول على مذهبه: ما قام غير زيدٍ، وما أتاني غير عمروٍ، ولم يعجبني غلى أن قلت كذا، قياسًا على قول الشاعر:

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامةٌ في غصون ذات أوقال

وكلام العرب على خلاف ما قال، إذ لم يأت ذلك في غير إلا عند إضافته إلى

ص: 392

مبني، وهناك يجوز أن تبنى على الفتح اتفاقًا، وأما مع إضافته إلى معربٍ فلا.

والثالثة: أنه أحال في أحكام غيرٍ على حكم ما بعد إلا على العموم فاقتضى أن كل موضع تقع فيه إلا يصح أن تقع فيه غير، وذلك غير مستقيم، لأن إلا قد يقع بعدها المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، فتقول: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ خيرٌ منه، وما جاءني إلا يضحك، ولا تقع غير في هذا الموضع فلا تقول: ما أتاني أحدٌ غير زيدٌ خيرٌ منه، ولا غير يضحك، لأن غيرًا مختصة بالإضافة إلى المفرد فلا تضاف إلى جملة، وأيضًا فإن غيرًا تخالف إلا في مواضع أخر.

وجملة ما يتخالفان فيه خمسة مواضع:

أحدها: ما تقدم من صحة وقوع الجملة بعد إلا، ولا تقع بعد غير.

والثاني: أن غيرًا يوصف بها حيث لا يتصور الاستثناء وإلا ليست كذلك، فتقول: عندي درهمٌ غير جيد، ولا تقول: عندي درهمٌ إلا جيد.

والثالث: أن إلا إذا كانت مع ما بعدها صفةً لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه، فتقول: قام القوم إلا زيد، ولو قلت: قام إلا زيدٌ لم يجز بخلاف غير فإنك تقول: قام غير زيدٍ كما تقول: قام القوم غير زيدٍ.

والرابع: أنك إذا عطفت على الاسم الذي بعد إلا لم تعتبر إلا اللفظ، فتقول: قام القوم إلا زيدًا وعمرًا، وما قام إلا زيدٌ وعمرو، وإذا عطفت على

ص: 393

الاسم الواقع بعد غير كان لك وجهان: أحدهما: الحمل على اللفظ، فتقول: ما أتاني أحد غير "زيدٍ وعمروٍ، بالجر حملًا على لفظ زيد. والثاني: الحمل على المعنى، فتقول: ما أتاني أحدٌ غير زيدٍ" وعمرو، برفع عمرو؛ لأن المعنى: ما أتاني إلا زيدٌ وعمروٌ، فهو من باب الحمل على المرادف الذي يقول فيه النحويين الحمل على التوهم.

والخامس: أنك إذا فرغت العامل قبل إلا لما بعدها على أن يكون مفعولًا له صح نصبه بخلاف غير فإنه لا بد من جره، فتقول: ما جئتك إلا ابتغاء الخير نصبًا، وتقول في غير: ما جئتك لغير ابتغاء الخير، ولا تحذف اللام. فهذه المواضع كلها تنقض على الناظم كليته التي عمم، وقاعدته التي أصل.

والجواب: أن الناظم لم يذكر وقوع الجمل بعد إلا، ولا وقوعها مع ما بعدها صفةً، ولا حكمك العطف على المستثنى، ولا تعرض في هذا النظم لتلك الأحكام المعترض بها في إلا، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه؛ لأنه إنما أحال على ما ذكر هنا، ألا تراع كيف قال:"بما لمستثنى إلا نسبا" يعني ما أضيف إليه في نظمه هذا من الأحكام، ولا شك أن جميع ما ذكر في ما بعد إلا جارٍ في غير. وأما مسألة المفعول له فغير داخلة عليه، إذ قد قدم أن من شرطه أن يكون مصدرًا، وغير ليس مصدرًا، فقد تخلف فيه شرط النصب فلا بد من الجر باللام. والقاعدة العامة في غير مع إلا أن غيرًا لا تقع موقع إلا في الاستثناء إلا أن تكون غير على أصلها وتجري في الاستثناء، وأصلها أن تجري صفة على

ص: 394

ما قبلها كما أن إلا لا تقع موقع غير في الصفة إلا حيث تكون إلا على أصلها من الاستثناء، ولا تكون كذلك إلا ومعنى الاستثناء حاصلٌ فيها، فإلا لا تفارق أصلها كما أن غير لا تفارق أصلها. وهذه القاعدة هي أصل النظر في الأداتين فتأملها.

[ثم قال]:

ولسوى سوى سواءٍ اجعلا

على الأصح ما لغير جعلا

أراد: ولسوى وسوى وسواء فحذف العاطف على عادته في أمثال هذا، ونبه بذلك على أن فيها ثلاث لغاتٍ: سوى بكسر السين، وسوى بضمها، وكلاهما مع القصر، وسواء بفتحها لكن مع المد، ومعناها معنى غير، ويريد أن سوى بجميع لغاتها من أدوات الاستثناء، ولها في الاستثناء من الحكم ما تقرر لغير؛ فتقول: قام القوم سواك، وما قام سواؤك بالرفع، لأنه فاعل، وما قام أحد سواؤك، وما مررت بأحدٍ سوائك، كما تقول ما قام غيرك، وما قام أحد غيرك، وما مررت بأحدٍ غيرك، وكذا سِوى وسُوى. ومما جاء من ذلك قول الفند الزماني من شعراء الحماسة:

ولما صرح الشر

فأمسي وهو عريان

ولم يبق سوى العدوا

ن دناهم كما دانوا

وعلى هذا يجري الحكم في سائر المسائل، والحاصل عنده في سوى أنها مثل غيرٍ بإطلاق، فيكون إعرابها كإعراب غير، وأحكامهم كأحكام غير، ويشمل ذلك

ص: 395

الإطلاق غير باب الاستثناء، فتقع عنده مبتدأ، وفاعلًا، وقد تقدم آنفًا كونها فاعلًا، ومثال كونها مبتدأ ما أنشده ابن الأنباري من قول الشاعر:

وإذا تباع كريمة أو تشترى

فسواك بائعها وأنت المشتري

وأنشد المؤلف على دخول إن عليها:

لديك كفيلٌ بالمنى لمؤملٍ

وإن سواك من يؤمله يشقى

وتقع مضافًا إليها بحرفٍ، وغير حرفٍ، فمثال الإضافة بالحرف قول أبي دؤاد، أنشده ابن الأنباري:

وكل من ظن أن الموت يخطئه

معلل بسواء الحق مكذوب

وأنشد سيبويه للمرار بن سلامة العجلى:

ولا ينطق الفحشاء من كان منهم

إذا جلسوا منا ولا من سوائنا

ص: 396

وأنشد أيضًا للأعشى:

تجانف عن جو اليمامة ناقتي

وما قصدت من أهلها لسوائكا

وأنشد ابن الأنباري:

أمر على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها

فالتقدير: أم في سواها، ومثال الإضافة بغير حرفٍ ما أنشده المؤلف من قول الشاعر:

ذكرك الله عند ذكر سواه

صارفٌ عن فؤادك الغفلات

وقوله: "على الأصح" متعلق باسم فاعل محذوف هو حال من "ما"، والتقدير: اجعل لسوى جميع أحكام غير كائنًا على الأصح، أو مشتملًا أو مستقرًا على الأصح- أو باجعلا. وهذا إشعار بمخالفته في التعميم للبصريين، فإن الخليل، وسيبويه، والجمهور لا يجعلون سوى وأختيها كما جعلها ابن مالك، بل هي عندهم لازمة النصب على الظرفية، فلا تقع مبتدأة، ولا ترفع على الفاعلية، ولا تجر بالإضافة، فهي من الظروف غير المتصرفة غير أن العرب ضمنتها معنى الاستثناء، إذ وقعت في موضع نصب، نحو: قام القوم سواء

ص: 397

زيدٍ، وسوى زيدٍ، فلا تجري في هذا الباب مجرى غيرٍ إلا في كون ما بعدها مستثنى بها في نحو المثال المذكور، وإنما تجري عندهم مجرى غير في ضرورة الشعر كالشواهد المتقدمة، وأما في الاختيار فلا. وما ذهب إليه الناظم- هو مذهب الكوفيين أنها تكون عندهم غير ظرف. وحجته في ذلك القياس والسماع. أما القياس فإن سواءً أصلها الوصف كقوله تعالى:{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم} ، وقوله:{في أربعة أيامٍ سواءً} الآية، وإذا كانت غير ظرف في أصلها بل صفة متصرفة، فالأصل بقاءها على ما كانت عليه من التصرف حتى يقوم الدليل على عدم التصرف، ولم يقم بعد، ثم تضمينها معنى حرف الاستثناء لا يوجب لها عدم التصرف، ولو كان ذلك كذلك لوجب ألا تتصرف غير حين ضمنت معنى حرف الاستثناء فلما لم يكن ذلك موجبًا في غير لم يكن موجبًا في سواءٍ، وأيضًا فإن معنى سوى وسواء معنى غير، وقد ثبت تصرف غير في باب الاستثناء وغيره، فكذلك يجب فيما كان في معناها، وقد أقر سيبويه بموافقتها لغير في المعنى فقال في: باب ما يحتمل الشعر، بعد ما أنشد بيتي المرار، والأعشى:

ص: 398

* إذا جلسوا منا ولا من سوائنا *

و* ما قصدت من أهلها لسوائها *

"فعلوا ذلك لأن معنى سوى معنى غير" فهذا تصريح بأن معناها معنى غير، وذلك يستلزم انتفاء الظرفية كما هي منتفية عن غيرٍ، ولو كانت ظرفًا لأعطت معنى (في) الذي كانت تتضمنه؛ إذ معنى الظرف ما ضمن معنى (في) من أسماء الزمان أو المكان، وسوى ليس فيها معنى (في)، ولا هي اسم زمان ولا مكان، فلا ظرفية فيها البتة، فهي وغير سواء. وأما السماع فقد تقدم من الشعر جملة، ومنه في النثر ما في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"دعوت ربي ألا يسلط على أمتي عدوًا من سوى أنفسهم" وقوله عليه السلام: "ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود" الحديث، وحكى ابن

ص: 399

الأنباري: أتاني سِواؤك، ومن أمثلة الفراء: أتيت سواك، أي غيرك. فهذا كله دليل واضح على صحة ما تقدم، ولا يبقى في المسألة إلا أن يقال: إن العرب تقول: مررت بمن سواك في شهير الكلام، فتصل الموصول بها كما تصل بسائر الظروف، ولولا أنها ظرفٌ لما جاز ذلك.

والجواب: أنه لا يلزم من معاملتها معاملة الظرف أن تكون ظرفًا "فإن حرف الجر يعامل معاملة الظرف ولم يكن بذلك ظرفًا" وإن سمي ظرفًا فمجاز، فكذلك إن أطلق على سوى لفظ الظرف مجازًا فجائزٌ، أما إطلاقه حقيقة فممنوع.

فإن قيل: فلم وقعت سوى صلةً دون غير، فعن ذلك جوابان:

أحدهما: أن ذلك من النوادر كنصب غدوةٍ بعد لدن، وإضافة ذي إلى تسلم في قولهم: اذهب بذي تسلم.

والثاني: أن سوى لزمتها الإضافة لفظًا ومعنى فأشبهت عند ولدي فعوملت معاملتها في الوقوع صلةً مع كثرة الاستعمال، بخلاف غيرٍ فإنه لا يلزم الإضافة لفظًا فلم يتحقق الشبه.

وقد ظهر من هذا أن سوى وأختيها عند الناظم لا تكون ظروفًا كما زعم البصريون؛ فإنه لما قال: "ما لغير جعلا" ظهر أنها لا تكون ظرفًا؛ لأن عدم الظرفية مما جعل لغير، ودليله ما مر.

ص: 400

واعلم أنَّ جميع ما استدل به الناظم أو استدل له به مبناه على السماع، فإن القياس عند أهل اللسان تابعٌ غير متبوع، أي تابعٌ للسماع من العرب، فالسماع هو الحاكم على القياس، وليس السماع تابعًا للقياس، فلا يكون القياس حاكمًا على السماع، ولذلك قال الإمام:"قف حيث وقفوا ثم فسر" فأخذ الناس هذا منه أصلًا يرجعون إليه. والسماع الذي اعتمده الناظم أمران: أحدهما: الشعر والآخر الحديث. أما الحديث فإنه خالف في الاستشهاد به جميع المتقدمين؛ إذ لا تجد في كتابٍ نحوي استدلالًا بحديثٍ منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على وجه أذكره بحول الله، وهم يستشهدون بكلام أجلاف العرب وسفهائهم، وبأشعارهم التي فيها ذكر الخنا والفحش، والذين لا يعرفون قبيلًا من دبيرٍ، بل روى أبو حاتم عن أبي عمر الجرمي أنه أتى أبا عبيدة معمر بن المثنى بشيءٍ من كتابه في تفسير غريب القرآن، قال: فقلت له: عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة، فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء، فقال لي: هذا تفسير لأعراب البوالين على أعقابهم، فإن شئت فخذ، وإن شئت فذر. ويتركون الأحاديث الصحيحة كما ترى. ووجه تركهم للحديث أن يستشهدوا به ما ثبت عندهم من نقله على المعنى، وجواز ذلك عند الأئمة؛ إذ المقصود الأعظم عندهم فيه إنما هو المعنى لتلقي الأحكام الشرعية لا اللفظ، ولذلك تجد في الأحاديث اختلاف الألفاظ كثيرًا، فترى الحديث الواحد في القصة الواحدة، والمقالة

ص: 401

الفذة التي لا ثانية لها قد اختلفت فيه العبارات اختلافًا متفاوتًا، ما بين جارٍ على ما عرف من كلام العرب، وما لم يعرف، وليس ذلك إلا لما ساغ لهم- أعني للرواة- من نقله بالمعنى. ومن ههنا أجاز المحققون ذلك للعارفِ بدلالات الألفاظ؛ لأن المعاني إذا سلمت في النقل فلا مبالاة بمجرد الألفاظ إلا من باب الأولى خاصة، خلاف ما عليه الأمر في نقل الشعر، وكلام العرب فإنهم- أعني رواته- لم ينقلوه أخذًا لمعناه فقط، بل المعتنى به عندهم كان اللفظ لما ينبني على ذلك من الأحكام اللسانية فاعتنى النحويون بالاستنباط مما نقل من كلام العرب عن الثقات، وتركوا ما نقل من الأحاديث لاحتمال إخراج الراوي لفظ الحديث عن القياس العربي، فيكون قد بنى على غير أصلٍ، وذلك من جملة تحريهم في المحافظة على القواعد اللسانية، فاعتنى النحويون بالاستنباط مما نقل من كلام العرب عن الثقات، وتركوا ما نقل من الأحاديث؛ لاحتمال إخراج الراوي لفظ الحديث عن القياس العربي، فيكون قد بنى على غير أصل، وذلك من جملة تحريهم في المحافظة على القواعد اللسانية ولو رأيت اجتهادهم في الأخذ عن العرب، وكيفية التلقي منهم لقضيت العجب فليس بمنكرٍ تركهم للاستشهاد بالحديث والاستنباط منه، كيف وهم قد بنوا على ما نقل أهل القراءات من الروايات في ألفاظ القرآن، فبنوا عليها لما كان اعتناؤهم بنقل الألفاظ، وإذا فرض في الحديث ما نقل بلفظه، وعرف بذلك، بنص أو بقرينةٍ تدل على الاعتناء باللفظ صار ذلك المنقول أولى ما يحتج به النحويون، واللغويون، والبيانيون، ويبنون عليه علوهم. وعلى هذا نقول: إن الحديث في النقل ينقسم قسمين:

ص: 402

أحدهما: ما عرف أن المعتنى به فيه نقل معانيه لا نقل ألفاظه، فهذا لم يقع به استشهاد من أهل اللسان.

والثاني: ما عرف أن المعتنى به في نقل ألفاظه لمقصودٍ خاص بها، فهذا يصح الاستشهاد به في أحكام اللسان العربي، كالأحاديث المنقولة في الاستدلال على فصاحةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ككتابه إلى همدان: أن لكم "فراعها ووهاطها وعزازها، تأكلون علافها، وترعون عفاءها، لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب، والناب، والفصيل، والفارض، والداجن والكبش الحوري، وعليهم فيها الصالغ، والقارح" وكتابه إلى وائل بن حجر الذي فيه: "في التيعة شاةٌ لا منوطة الألياط ولا ضناك" إلى آخر ما كتب عليه

ص: 403

السلام، ومن هذا ما روي أن قومًا وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"من أنتم، فقالوا: بنو غيان، فقال: بل أنتم بنو رشدان"، فاستدل ابن جني بهذا الحديث على أن النون في غيان زائدة، وأنه مشتق من الغي لا من الغين، لأن مثل هذا مقصود فيه نقل اللفظ، وروي أن رجلًا قال: يا رسول الله أيدالك الرجل امرأته؟ فقال: نعم إذا كان ملفجًا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما قلت وما قال لك رسول الله، فقال عليه السلام: قال لي: أيماطل الرجل امرأته، فقلت: نعم إذا كان فقيرًا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد طفت في أحياء العرب فما رأيت أحدًا أفصح منك يا رسول الله فقال: وما يمنعني وأنا قرشي وأرضعت في بني سعد" إلى أمثال هذا من الأحاديث المتحرى فيها اللفظ، وابن مالك- رحمه الله لم يفصل هذا التفصيل الضروري الذي لابد منه، فبنى الأحكام على الحديث مطلقًا، ولا أعرف له فيه من النحاة سلفًا إلا أن ابن خروف يأتي بأحاديث في تمثيل جملةٍ من المسائل، وقصده في الغالب لا يتبين في ذلك حتى قال ابن الضائع: لا أدري هل يأتي بها بانيًا عليها أم هي لمجرد التمثيل، هذا معنى كلامه، وكأن ابن مالك بنى- والله أعلم- على القول بمنع نقل الحديث بالمعنى مطلقًا، وهو قولٌ ضعيف يرده المقطوع به من نقل القضايا المتحدة بالألفاظ المختلفة غير مختصٍ بزمان الصحابة دون غيرهم، ولا مقتصر به على العرب دون من عداهم، ومن تأمل في كتب الحديث وجد فيها

ص: 404

من ذلك من الألفاظ الحائدة عن كلام العرب أشياء كثيرةً حتى تقع تخطئة الرواة من الأئمة الناقدين، والعلماء العارفين بكلام العرب من غير نكيرٍ من غيرهم، فالحق أن ابن مالك في هذه القاعدة غير مصيب، كما أنه غير مصيب في قاعدته الأخرى في اعتبار ما في الشعر من الضرورات اعتبار ما يجوز تبديله أو لا يجوز، وأما اعتماده على الشعر مجردًا من نثر شهيرٍ يضاف إليه، أو يوافق لغةً مستعملة يحمل ما في الشعر عليها- فليس بمعتمد عند أهل التحقيق؛ لأن الشعر محل الضرورات. وسيأتي بيان هذا الأصل بعد- إن شاء الله تعالى- والمقصود بيان ضعف مدرك الناظم في جعله سوى متصرفةً كغيرٍ، فإن اعتماده هنا كان على هذين الأصلين، وهو يعتمدها كثيرًا كما أنه يعتمد غيرهما مما لم يعتمده غيره من الأئمة حسب ما ذكر بعضه، ويأتي باقيه- إن شاء الله-:

وقوله: "اجعلا" الألف فيه مبدلة من نون التوكيد الخفيفة.

واستثن ناصبًا بليس، وخلا

وبعدا، وبيكون بعد لا

هذا هو الكلام على القسم الثالث والرابع من أدوات الاستثناء، فمن القسم الثالث الذي أدواته أفعالٌ ليس ولا يكون. ومن الرابع المتردد بين الفعلية والحرفية خلا، وعدا وحاشا التي يذكرها آخرًا. وصدر الكلام بالأربعة، وهي غير حاشا وأخر الكلام في حاشا لمخالفتها للبواقي في حكم يذكره. و"ناصبا" حالٌ من فاعل (استثن) ويعني أن هذه الأدوات الأربعة، وهي ليس المعروفة الفعلية، وخلا، وعدا المفسرين بعد، ولا يكون، وهي المعبر عنها بقوله:"وبيكون بعد لا"

ص: 405

يستثنى بها ما بعدها، فيكون منصوبًا بها؛ لأنها إذ ذاك أفعالٌ، والفعل لا بد له من فاعل، وقد يقتضي منصوبًا، ففاعلوها ضمائر مستترة فيها، ولم ينبه على ذلك علمًا به، والنصب بحسب ما تطلبه تلك الأفعال، لا على محض الاستثناء كما بعد إلا في الفعل المشغول، بل كما بعدها في الفعل المفرغ، فلذلك قال:"واستثن ناصبًا بكذا" فليس ولا يكون تطلبان ما بعدهما بالنصب على الخبرية لأنهما من باب كان الداخلة على المبتدأ والخبر، فتقول: قام القوم ليس زيدًا، وقام القوم لا يكون زيدًا، فزيدًا خبر ليس وكان، فذلك وجه نصبه معهما، وخلا، وعدا فعلان يطلبان الاسم الذي بعدهما بالمفعولية، فتقول: قام القوم خلا زيدًا، وقام القوم عدا زيدًا، فزيدًا مفعولٌ؛ لأن معنى خلا وعدا عند سيبويه جاوز، كأنه قال: جاوز بعضهم زيدًا، ضمنا في الاستثناء هذا المعنى، والبعض المضمر هم من عدا زيدًا، وهذه الأفعال ضمنت معنى إلا؛ فلذلك عدمت التصرف، وقد دل على عدم تصرفها حين قال:"بليس وخلا" وكذا فعيّن لخلا وعدا صيغة الماضي، وعين ليكون صيغة المضارع، وعين لها حرف (لا) دون غيرها من حروف النفي، فلا يجوز إذًا أن يقال: قام القوم يخلو زيدًا، أو: يعدو زيدًا، أو ما يكون زيدًا، أو ما كان زيدًا، أو ما أشبه ذلك، وأيضًا فأتى بها على لفظ المسند إلى ضمير مفردٍ مذكرٍ، فدل على أن مرفوعها مفردٌ مذكر أبدًا، وهو ضمير البعض المقدر، وهو رأي البصريين، أو ضمير المجهول- كنايةٌ عن الفعل، والاسم في موضع الفعل كأنه قال: ليس فعلهم فعل زيدٍ. وليس

ص: 406

في كلامه ما يعين أحد المذهبين. وهذا كله يبين عدم تصرف هذه الأفعال، وأنها تأتي على لفظ واحدٍ، فلا تقول: قامت الفرقة ليست زيدًا، ولا تكون زيدًا، ولا خلت، ولا عدت، ولا: قام القوم ليسوا زيدًا، ولا يكونون زيدًا، وأنت تريد الاستثناء، ولا قام القوم خلوا، أو عدوا زيدًا، وإنما جرت مجرى ما ضمنت معناه وهو إلا، فلو خلت من معنى إلا لجاز تصرفها ولحاق الضمائر المطابقة. ولما ذكر النصب في الأربعة وأطلق ذلك فيها إطلاقًا، وكان منها ما يكون ذلك فيه على اللزوم، وما يكون فيه على الجواز استدرك لما كان النصب فيه على الجواز وجهًا آخر، وهو الجر، فقال في ذلك:

واجرر بسابقي يكون إن ترد

وبعد (ما) انصب وانجرار قد يرد

سابقي يكون هما خلا وعدا، ويعني أنك إن أردت الجر بهذين الفعلين فجائز لك ذلك. فإذًا قد حصل في استعمال ما بعدهما وجهان: أحدهما: النصب الذي قدم، ومنه في خلا ما أنشده ابن خروفٍ، وغيره من قول الشاعر:

وبلدةٍ ليس بها طوري

ولا خلا الجن بها إنسي

ومنه في عدا ما أنشده ابن خروف أيضًا:

يا من دحا الأرض ومن طحاها

أنزل بهم صاعقةً أراها

تحترق الأحشاء من لظاها

عدا سليمى وعدا أباها

ص: 407

والثاني: الجر المنبه عليه الآن، ومنه في خلا قول الشاعر الأعشى:

خلا الله لا أرجو سواك وإنما

وأعد عيالي شعبة من عيالكا

ومنه في عدا قول الآخر أنشده ابن خروف:

تركنا بالحضيض بنات عوجٍ

عواكف قد خنعن إلى النسور

أبحناحيهم قتلى، وأسرى

عدا الشمطاء، والطفل الصغير

وسوى بين خلا وعدا في إجازة الجر بهما. أما في خلا فقال السيرافي: لا خلاف أعلم في جواز الجر بخلا، وأما في عدا فللنحويين في إجازة الجر بها خلاف، فذهب ابن خروف إلى الجواز كالناظم، وفي كلام الأخفش ما يشعر بذلك، فإنه قال: وأما عدا فقد ينصبون بها ويجرون، فإذا جروا فهي حرفٌ بمنزلة من، وإذا نصبوا فهي فعلٌ كأنك قلت: جاوز بعضهم زيدًا، قال: وكذلك خلا، وذلك أنك إذا قلت: ما جاءني أحد، توهم السامع أن زيدًا هو أحد الذين لم يأتوك، فقلت: عدا أحدهم زيدًا، أي ليس في الآتين، ولم يذكر سيبويه الجر بعدا، فحمل على أنه غير جائزٍ عنده، وذلك أن السماع في ذلك قليلٌ، فلم يبلغ سيبويه، فلذلك سكت عنه، وبلغ الأخفش فألحقه بخلا،

ص: 408

وأيضًا فإن خلا عند الناظم يجوز فيها النصب على غير قلةٍ؛ إذ لم يقيده بذلك، وهو مذهب سيبويه. وذهب الأخفش إلى أن النصب بها لا يكاد يعرف، وقد استدل ابن خروف على صحة ما حكاه سيبويه من النصب بالنصب بها بعد (ما) باتفاق، ما عدا الجرمي فإنه أجاز الجر بها بعد (ما) حكايةً عن العرب كما سيأتي، فإذا ثبت ذلك فيها مع (ما) جاز فيها دونها من حيث ثبتت فعليتها، وأيضًا فإن سيبويه ما أثبت إلا ما ثبت عنده فليس قول الأخفش حجةً عليه، لأنه نافٍ وسيبويه مثبت، والمثبت مقدم على النافي في مثل هذا، فالأصح ما ذهب إليه الناظم. وهذا كله ما لم يتصل بهما (ما). فأما إن اتصلت بهما (ما) فإن الوجه المختار هو النصب كما نص عليه بقوله:"وبعد ما انصب". فبين أن النصب هو الوجه والقياس المطرد إذا وقعا بعد (ما)، وأما الجر فقليل، لقوله:"وانجرار قد يرد" يريد عن العرب قليلًا، فتقول على المختار: قام القوم ما خلا زيدًا، وقام القوم ما عدا زيدًا، وتكون (ما) مع ما بعدها في موضع نصبٍ، وهي مصدرية كأنه في التقدير: قام القوم مجاوزتهم زيدًا، وهو مصدرٌ منصوبٌ نصب غير وسوى عند ابن خروف، ومصدر في موضع الحال عند السيرافي من باب: رجع عوده على بدئه ونظائره، أي مجاوزين زيدًا أو خالين من زيدٍ؛ فإذا كانت مصدرية لم يصلح أن يكون ما بعدها من خلا وعدا إلا فعلًا، لأن (ما)

ص: 409

المصدرية لا توصل إلا بالفعل، ومن ذلك في الشعر قول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيمٍ لا محالة زائل

وروى الجرمي الجر بهما بعد (ما)، نحو: قام القوم ما عدا زيدٍ، كأنه على تقدير زيادة (ما)، قال في الشرح: "وفيه شذوذ؛ لأن (ما) إذا زيدت مع حرف جر لا تتقدم عليه بل تتأخر عنه، نحو:{فبما رحمة من الله} و {عما قليل} .

ثم قال:

وحيث جرا فهما حرفان

كما هما إن نصبا فعلان

يعني أن خلا وعدا إذا كان ما بعدهما مجرورًا فذلك لأنهما حرفا جر؛ لأن الفعل لا يعمل الجر، ولا يقع بعده المجرور، وإنما يعمل الجر الحرف أو الاسم، وهما ليسا باسمين، فلا بد أن يكونا حرفين. وأما إذا نصبا ما بعدهما فهما فعلان؛ لأنه قد ثبتت لهما الفعلية قبل دخولهما في هذا الباب فلا يخرجان عن ذلك إلا بدليل، ولا دليل على ذلك، فلذلك قال:"كما هما أن نصبا فعلان" وهو تشبيه تنظير، لا تشبيه تعليل لكن قوله:"كما هما أن نصبا فعلان" إن أراد أنهما كذلك بغير مطالبةٍ بالدليل فهذا لا يسلم، وإن أراد بالدليل فلا يلزم من النصب كونهما فعلين؛ إذ قد ينصب الحرف على مذهبه؛ ولأجل ذلك ذهب إلى أن النصب قبل بإلا إذا قلت: قام القوم إلا زيدًا، وقد اعترض هنالك على نفسه فقال: "فإن قيل: لو كانت إلا عاملة

ص: 410

لجرت؛ لأن الجر هو اللائق بعامل الاسم الذي لا يشبه الفعل، ولذا حكم لعدا وخلا وحاشا بالحرفية إذا جرت وبالفعلية إذا نصبت، فالجواب: لا نسلم أن اللائق بعامل الاسم الذي [لا يشبه الفعل] هو الجر خاصة، بل اللائق به عمل لا يصلح للفعل، وهو جر أو نصب لا رفع معه" ثم أتى على باقي كلامه فقد ثبت أن نفس النصب لا يستلزم الفعلية، فالذي تثبت به الفعلية على مذهبه في هذين اللفظين وقوع ما المصدرية قبلهما كما قاله ابن خروف، ولذلك أنكر الجمهور الجر مع ما، فإذا ثبت لهما الفعلية مع النصب في موضع حمل عليه الموضع المحتمل، وأقوى من هذا أن يقال: كما ثبت لهما وهما حرفان عمل الجر لم يصلح أن ينصبا وهما حرفان أيضًا؛ إذ ليس في أدوات الجر ما يعمل تارةً جرًا وتارةً نصبًا، بل إذا ثبت له عملٌ ما لم ينصرف عنه إلى غيره، فلا بد إذا نصبا أن يكونا غير حرفين، فتعينت الفعلية. والله أعلم.

وهنا انقضى كلامه في خلا وعدا، وبقي الكلام في ليس ولا يكون. وهل تتعين لهما الفعلية أم لا، والأمر فيهما يسير؛ إذ قد ثبتت لهما الفعلية بإطلاق، وتبين أن ما بعدهما ينصب، ولم يذكر غير ذلك، فدل على أن لا زائد على ما ذكر فيهما، وهذا ظاهر.

ثم أخذ في الكلام على حاشا فقال:

وكخلا حاشا ولا تصحب ما

وقيل: حاش وحشى فاحفظهما

يعني أن حاشا لها وجهان أيضًا: الجر على أنها حرف، والنصب على أنها

ص: 411

فعل كما كان ذلك لخلا، فتقول في الأول: قام القوم حاشا زيدٍ، ومنه ما أنشده السيرافي وغيره:

حاشا أبي ثوبان إن له

ضنا على الملحاة والشتم

وهذا هو المشهور فيها، وتقول في الثاني: قام القوم حاشا زيدًا، حكى أبو عمرو الشيباني عن بعض العرب:"اللهم اغفر لي ولمن سمعني حاشا الشيطان وأبا الأصبغ". وذكر عنه أن العرب تخفض بها وتنصب حكاه عنه السيرافي، وأنشد ابن خروف قول الشاعر:

حاشا قريشًا فإن الله فضلها

على البرية بالإسلام والدين

وفيما ذهب إليه في حاشا ما يدل على مخالفته للنحويين من وجهين:

ص: 412

أحدهما: أنه خالف أهل الكوفة القائلين بأنهما فعلٌ أبدًا، إلا أن منهم من قال: هو فعلٌ ماضٍ، ومنهم من قال: هو فعلٌ استعمل استعمال الأدوات، فأما إذا انتصب ما بعدها فلا إشكال على مذهبهم، وأما إذا انخفض فعلى تقدير اللام، ولذلك تظهر فتقول: حاشا لزيدٍ.

والدليل على أنها مع الجر حرفٌ أن الفعل لا ينجر ما بعده أبدًا، وتقديرهم حرف الجر غير صحيح، لأن الجار في الأمر العام المطرد إذا حذف زال عمله، وقد يقال: إن اللام زائدة، والأصل عدمها. وأيضًا إذا جر ما بعدها باللام فليست حينئذ أداة استثناء، ولا ما بعدها مستثنى؛ لأنها تقع في أول الكلام لزومًا أو غلبةً، وليس ثم ما يستثنى منه.

والثاني: أنه خالف سيبويه حيث التزم في حاشا الحرفية وجر ما بعدها؛ وذلك أنه لم يحكِ معها غير الجر. ولم يجز أن تأتي بما كعدا وخلا، فلم يكن لها وجهٌ يحكم لأجله بفعليتها، وحكى غيره النصب بعدها، وقد تقدم من ذلك أشياء- وإن كانت قليلة، فهي حجة للنصب الذي أثبته الناظم ومن اقتفى أثره، ودليلٌ على فعليتها، قال الأخفش:"وأما حاشا فقد سمعنا من ينصب بها" قال وهذه أشبه؛ لأنها من حاشيت، فقد ثبت النصب بها على الجملة، وإن كان قليلًا فهي مثل خلا في جواز الوجهين، ولا شك أنها إذ ذاك فعل، لكن كونها من حاشيت فيه نظر. والحاصل أن سيبويه لم يحك النصب بها، وحكاه غيره فلا مخالفة في الحقيقة بين سيبويه والأخفش كما تقدم في عدا.

ولما قال: "وكخلا حاشا" وكانت خلا يجوز أن تصحب ما المتقدمة أوهم ذلك أنها مثلها في مصاحبة ما أيضًا، فرفع ذلك بقوله:"ولا تصحب ما" فبين أنها تخالف خلا في هذا الحكم، فلا تلحقها ما، فلا تقول: قام القوم ما حاشا

ص: 413

زيدًا، كما تقول: قام القوم ما خلا زيدًا، ولأجل هذه المخالفة- والله أعلم- لم يدخلها مع خلا وعدا في الذكر، وإنما لم تلحقها ما؛ لأن الغالب عليها الحرفية، فلم يصلح لها من التصرف أن تدخل عليها ما عند إرادة الفعلية لندور ذلك، ثم حكى في حاشا ثلاث لغات: إحداها: ما بدأ به وهي حاشا على وزن ماشى، وهي الشهيرة، والثانية: حاش على وزن عاش، والثالثة: حشى على وزن مشى، ومنها ما جاء في قوله الشاعر:

حشا رهط النبي فإن منهم

بحورًا لا تكدرها الدلاء

وقوله: "فاحفظهما" تنبيه على قتلهما، وأنهما من المحفوظ القليل الاستعمال، وإنما المستعمل ما قدم. وهناك ثلاث مسائل:

إحداها: أنه أطلق القول في جواز الوجهين في خلا وعدا وحاشا من غير أن اعتنى بترجيح أحد الوجهين على الآخر. وقد أتى بالترجيح غيره؛ فإن الحرفية أغلب على حاشا، والفعلية أغلب على عدا. وأما خلا ففيها خلافٌ، فعند سيبويه أن النصب هو المختار، وعكس الأخفش فجعل الجر هو المختار، وكلاهما مدرعٍ أن السماع كذلك، وكأن الناظم مائلٌ إلى رأي الأخفش، ألا ترى أنه قال:"وكخلا حاشا" والمعلوم في حاشى أن الجر هو الشهير المختار، وهو قد شبهها بخلا دون عدا، فدل على قصده لاختيار الجر فيها. والله أعلم.

والثانية: أن حاشا التي تكلم عليها هنا هي التي تفيد الاستثناء كما تفيده إلا،

ص: 414

ولم يتعرض لغير ذلك، فإن حاشا لها استعمالان: أحدهما في الاستثناء، وقد تقدم. والآخر أن تستعمل استعمال المصادر الموضوعة لإنشاء أمرٍ من تنزيه أو دعاء أو غير ذلك، وهي التي تستعمل باللام فتقول: حاشا لزيد وحاشا لله، وتقول: حاشا الله وحاشا زيدٍ، فالأول مثل تنزيهًا لله، والثاني مثل: سبحان الله. كما أن خلا وعدا لهما استعمالان أيضًا: أحدهما: في الاستثناء، والآخر كسائر الأفعال المتصرفة من خلا يخلو وعدا يعدو.

والثالثة: أنه قال في حاشا: "ولا تصحب ما" وذلك مشكل مع أنه قد حكى في الشرح في بعض الأحاديث: "أسامة أحب الناس إلي ما حاشى فاطمة" ونبه عليه في التسهيل، فكيف يقول هنا:"ولا تصحب ما".

والجواب: أنه أراد لا تصحب ما قياسًا، وسكت عن السماع الآتي، فلم ينفه ولا أثبته، ولو أراد نفي السماع لقال: ولم تأت بما، أو لم ترد بما، أو ما أشبه ذلك، فعبارته بينة لا إشكال فيها. والله أعلم.

ص: 415