المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌حروف الجر لما كان الجر لا يكون إلا بالإضافة، والإضافة على - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٣

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌حروف الجر لما كان الجر لا يكون إلا بالإضافة، والإضافة على

‌حروف الجر

لما كان الجر لا يكون إلا بالإضافة، والإضافة على وجهين: إضافة اسم إلى اسم نحو: غلام زيد، وإضافة فعل إلى اسم بواسطة الحرف المضيف، نحو: مررت بزيد، وكان لكل واحد من القسمين أحكام تختص به، خص كل قسم بباب على حدة، وبدأ بإضافة الفعل إلى الاسم، وهي المختصة بالحروف، فقال:

هاك حروف الجر وهي من إلى

حتى خلا حاشا عدا في عن على

مذ منذ رب اللام كي واو وتا

والكاف، والبا، ولعل ومتى

(ها) مقصورا، وهاء ممدودًا أسما فعل معناهما: خذ، ويجوز لحاق الكاف لهما حرف خطاب بحسب المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، كما في اسم الإشارة، فتقول: هاك، وهاك، وهاكما، وهاكم، وهاكن، وكذلك سائر الحالات، فمعنى قوله:(هاك حروف الجر): خذ حروف الجر، وكأنه على حذف المضاف، أي خذ أحكام حروف الجر، من معانيها، ومواضعها، وغير ذلك من أحكامها، وسماها حروف الجر، لأنها تعمل الجر فيما دخلت عليه؛ فسميت بأثرها، وتسمى أيضًا حروف الإضافة، وذلك من جهة معناها؛ لأنها تضيف إلى الاسم ما قبله أو ما بعده، فإذا قلت: مررت بزيد، فقد أضفت المرور إلى زيد بالباء.

وإذا قلت: رب رجل يقول ذاك، فقد أضفت القول إلى الرجل برب، وكذلك سائر الحروف.

ثم أخذ في تعدادها فقال: (وهي من إلى) إلى آخرها، عطف بعضها على

ص: 561

بعض بحرف عطف تارة، وبغير حرف تارة، بل على تقديره حسب ما / اعتاده في حذفه إياه اختصارًا، والذي ذكر منها عشرون حرفًا، وهي: من، نحو: جئت من الدار، وإلى نحو: ذهبت إلى السوق، وحتى، نحو:{سلام هي حتى مطلع الفجر} ، وخلا، نحو: قام القوم خلا زيد، وحاشا، ؟ نحو: قام القوم حاشا زيد، وعدا، نحو: جاء القوم عدا زيد، وفي، نحو: زيد في الدار، وعن، نحو: أعرضت عن زيد، وعلى، نحو: قعدت على الحصير، ومنذ ومذ، نحو: ما رأيته منذ يوم الجمعة، ومذ يوم الجمعة، ورب، نحو: رب رجل يقول ذاك، واللام، تحو: المال لزيد، وكي، نحو: جئتك كي تكرمني، على قولهم: كيمه، والواو في القسم نحو: والله لأكرمن زيدًا، والتاء كذلك نحو: تالله لا يقوم زيد، وكاف نحو: زيد كأسد، والباء نحو: مررت بزيد. ولعل حرف جر عند بني عقيل، سمعه أبو زيد من بني عقيل. وروى الجر بها أيضًا الفراء وغيره، ولامها الأخيرة مفتوحة أو مكسورة؟ ، وأنشدوا على ذلك:

لعل الله يمكنني عليها

جهاراً من زهير أو أسيد

ص: 562

وروى الفراء الجر بعل، وأنشد:

عل صرف الدهر أو دولاتها

يدنيننا اللمة من لماتها

فيستريح القلب من زفراتها

ومتى أيضًا حرف الجر عند هزيل، حكى يعقوب عنهم أنهم يستعملونها بمنزلة (من).

وقال الكسائي، قال معاذ: سمعت ابن جوية يقول: وضعته في متى كمي، أي: في كمي.

وأنشد الأصمعي لأبي ذويبٍ الهذلي:

شربن بماء البحر ثم ترفعت

متى لججٍ خضر لهن نئيج

ص: 563

وقال أبو المثلم الهذلي:

متى ما تنكروها تعرفوها

متى أقطارها غلق نفيث

وفي كون (متى) في هذه اللغة حرفًا نظر، فقد قال يعقوب في كتاب المقصور والممدود: إنها بمعنى وسط، وإن معنى قولهم: جعلته في متى كمي، أي: في وسط كمي، فأدخل عليها (في) كما ترى، وذلك شاهد على أنها اسم لا حرف.

ثم قال: وقد تكون بمعنى (من)، ثم أنشد البيتين، فحكاية معاذ لهذا لا دليل فيها لوضوح كونها اسمًا؛ بدليل دخول (في) عليها، قال ابن جني: أما (متى) في لغة هذيل، فإنها اسم. قال: وكذلك التي بمعنى (من) هذه، وكأن

ص: 564

حرف الجر مراد معها، أي: ترفعت من متى لجج، أي: من أوساط لجج، وكذلك قول الآخر: متى أقطارها، أي: من متى أقطارها، ثم قال: ولا ينكر أيضًا أن يكون حرفًا كـ "من"، فإذا لم يتحصل يعد كون (متى) في لغة هذيل حرفًا، فإثبات الناظم لها في حروف الجر دعوى لا دليل عليها.

والجواب: أن كون (متى) بمعنى: وسط في تلك اللغة ثابت، وليس هو مراد ابن مالك، وإنما مراده الاستعمال الآخر؛ إذ اللغويين حكوا في (متى) في لغة هذيل استعمالين:

أحدهما: أن تكون بمعنى وسط، وذلك قولهم: وضعته في متى كمي.

والآخر: أن يكون بمعنى (من) كما في الأبيات المذكورة.

وأما ما جوزه ابن جني فبناء على قول من قال: إنها في الشعر بمعنى / وسط أيضًا؛ إذ للعلماء فيها قولان:

أحدهما: هذا، وأن كونها بمعنى (من) لم يثبت بعد، فرد المحتمل إلى المحقق.

والثاني: أنها تستعمل بمعنى (من)؟ ، وهو رأي يعقوب، وجماعة من اللغويين والنحويين - وإلى هذا القول ذهب الناظم هنا، وفي التسهيل ميلًا مع الأكثر - حكى هذين القولين ابن السيد في قوله: متى لجج خضر، فكأن ابن جني جوز كل واحد من القولين واعتمد الناظم على أحدهما. ولم يذكر من حروف الجر (لولا) إذا جاء بعدها الضمير المتصل نحو: لولاك، ولولاه، وإن

ص: 565

كان مذهب سيبويه أنها في تلك الحال جارة؛ لقلة مجيئها كذلك؛ ولذلك لما ذكر (لولا) لم يعرج عليها في ذلك القليل، بل قال:

لولا ولو ما يلزمان الابتدا

إذا امتناعًا بوجود عقدا

ويحتمل أن يكون مذهبه هنا مذهب الأخفش والفراء القائلين بأن هذه الضمائر بعد (لولا) في موضع رفع، كأنه من وضع المتصل موضع المنفصل، ويكون قوله:(يلزمان الابتدا) نفيًا لرأي سيبويه فيها، فلا تكون على هذا من حروف الجر أصلًا.

أو يكون هنا رأي [رأي] المبرد في أن لولاك، ولولاه ليس من كلام العرب. وهذا أظهر في نفي وقوع (لولا) حرف جر، وسيأتي الكلام على هذا كله في: فصل (لو) إن شاء الله.

وأعلم أن هذه الحروف تأتي على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تكون حروفًا لا غير، كالباء، والواو، والتاء، ورب، ومن، وإلى، وحتى، وفي، واللام، وكي، ولعل.

والثاني: أن تكون حروفًا تارة وأفعالًا تارة، وذلك: خلا، وعدا، وحاشا، وقد مر ذكر ذلك في باب الاستثناء.

والثالث: أن تكون حروفًا تارة وأسماء تارة، وذلك: عن، وعلى، ومذ، ومنذ، والكاف، ومتى.

ص: 566

وإنما هذا التقسيم بالنسبة إلى وضع اللفظ بعينه، لا بالنسبة إلى اشتراك اللفظ بسبب الإعلال التصريفي، فإن ذلك عارض، كـ (من) الجارة مع:(من) أمرًا من: مان يمين، و (في) الجارة مع (في) أمرًا للمخاطبة من: وفي يفي، وكذلك ما أشبهه، فليس المراد هذا، وإنما المراد ما كان فيها في أصل الوضع عومل معاملة الحرف والاسم، أو معاملة الحرف والفعل والمعنى واحد، وعلى هذا التقسيم بني الناظم كلامه هنا.

وهذه الحروف تقدم منها في باب الاستثناء: خلا، وحاشا، وعدا، ويختص منها بباب القسم: الواو، والتاء، فأحكامهما مستوفاة هناك، ولم يذكر هنا من أحكامهما إلا بعضًا: وهو ما يتعلق بهما من حيث هما حرفا جر، وأما ما يتعلق بهما في القسم، فلم يذكره في هذا النظم؛ إذ ترك باب القسم جملة، فلم يبوب عليه فيه أصلًا، وهو ضروري الذكر كسائر الأبواب؛ بل الضرورة إليه أشد من الضروري إلى باب الإخبار.

وما أدري ما الذي صده عن ذكره؟ وعلى كل تقدير فالأحرف الجارة في القسم هي هذه، وما / يتعلق بها من أحكام الجر قد ذكره.

فإن قيل: فقد نقصه من حروف القسم الجارة (من)، فإنك تقول: من ربي لأفعلن، إما على أن (من) وضعت موضع الباء. والأصل:(بربي). وإما على أن المعنى: من أجل ربي، وكذلك: مـ الله لأفعلن، على أن أصلها الواو، كأنه قال: والله لأفعلن.

فالجواب: أن (من) أصلها عنده (أيمن)، فهي مما غير في القسم، وكذلك: مـ الله، فهي أسماء لا حروف؛ فلذلك لم يذكرها. والله أعلم.

ثم لما عدها أتى قبل ذكر أحكامها التفصيلية المختصة بكل حرف بأحكام لها

ص: 567

عامَّة مشترك فيها، فقال:

بالظاهر اخصص منذ، مذ وحتى

والكاف، والواو، ورب، والتا

فقسم الحروف الجارة أولًا على قسمين:

أحدهما: ما لا تدخل من الأسماء إلا على الظاهر دون المضمر، وذلك سبعة أحرف:

أحدها والثاني: مذ، ومنذ، وهو قوله:(بالظاهر اخصص منذ، مذ) فتقول: ما رأيته منذ يومين، ومذ يومين، ولا تقول: ما رأيته مذهما، ولا منذهما، ولا مذه، ولا ما كان نحو ذلك.

قال سيبويه: "واستغنوا عن الإضمار في (مذ) بقولهم: مذذاك؛ لأن ذاك اسم مبهم، وإنما يذكر حين يظن أنك قد عرفت ما يعني"، فهو عنده من باب الاستغناء، كما استغنوا عن وذر، وودع بترك، وبليلة عن ليلاة، ولذلك قالوا: ليال وبلمحة عن ملمحة، ولشله عن مشبه، وعليه جاء ملامح ومشابه أغنى عن المتروك، واستغنوا بذكر عن مذكار أو مذكير، وعلى المتروك جاء مذاكير، وعن جمع الكثرة بجمع القلة كأرجل وآذان، وعن جمع القلة بجمع الكثرة كشسوع ورجال. وهو باب واسع.

والثالث: حتى، فتقول: دع القوم حتى يوم كذا، ورأيتهم حتى زيد، ولا

ص: 568

تقول: دع القوم حتاه، ولا رأيتهم حتاه، ولا رأيتهم حتاك. قال سيبويه:"واستغنوا عن الإضمار في (حتى) بقولهم: رأيتهم حتى ذاك، وبقولهم: دعه حتى يوم كذا وكذا، وبقولهم: دعه حتى ذاك وبالإضمار في (إلى) من قولهم: دعه إليه لأن المعنى واحد".

والرابع: الكاف فتقول: أنت كزيد، وعمرو كالأسد، ولا تقول: أنت كه، ولا كك، ولا نحو ذلك. قال سيبويه:"وذلك أنهم استغنوا بقولهم: مثلي وشبهي عنه فأسقطوه".

والخامس: الواو فتقول: والله لأفعلن. {قل بلى وربي لتبعثن} . ولا تقول: وه لأفعلن، ولا وك، فإن أردت الإتيان بالضمير أتيت بالباء مكان الواو، ومن هنا ظهر لهم أن الباء هي الأصل؛ لأنها أعم استعمالًا، وأقوى تصرفًا، وإنما أبدلت من الباء لمضارعتها لها لفظًا ومعنى.

أما اللفظ: فلان مخرجهما معًا من الشفتين.

وأما المعنى: فإن الباء للإلصاق، والواو للجمع، والشيء إذا لاصق الشيء فقد اجتمع به، قاله ابن جني. والسهيلي ينكر إبدالها من الباء، وليس هذا موضع الاحتجاج على الصحيح من المذهبين.

والسادس: (رب) فتقول): رب رجل / يقول ذاك، و:

ص: 569

* ألا رب خصم فيك ألوي رددته *

ولا يجوز أن تقول: ربك، ولا ربني، ولا زيد ربه؛ لأن (رب) خاصتها العرب بالدخول على النكرات، فلا تقول: رب زيد، ولا رب هذا، ولا رب الرجل، والضمائر أعرف المعارف، فلا تدخل عليها من باب أولى. وأما من جاء من نحو: ربه رجلًا، فإنما ساغ من جهة أن هذا الضمير قد انتفى عنه المعنى الذي كان به ضمير النكرة معرفة، وهو عودة على معروف تقدم، فذلك هنا مفقود؛ فإنه عائد على ما لم يعقل إلا بعد الفراغ من ذكره، فلم تدخل عليه (رب) إلا وهو أشد إبهامًا من النكرة الظاهرة؛ لأن النكرة الظاهرة تدل بنفسها على جنس أو نوع منه بخلاف الضمير المفسر بمذكور بعده.

والسابع: التاء، فتقول: تالله لا يقوم زيد، ولا تقول: ته ولا تك، كما تقول: به وبك.

ووجه ذلك أن التاء لما كانت عندهم بدلًا من الواو المبدلة من الباء، وكانت الواو لا تدخل على المضمر كانت التاء أولى ألا تجر المضمر؛ ولذلك اختصت باسم الله تعالى فلم تدخل على غيره إلا شاذًا كقولهم: ترب الكعبة. هذا تمثيل ما ذكر. وقد ذكر سيبويه من هذه الحروف: الكاف، وحتى، ومذ في باب مفرد من أبواب الضمائر، ولكن لا يخالف فيما تقدم؛ إذ قد ذكر أحكام البواقي في مواضعها.

وحكى السيرافي أن المبرد أجاز في الكاف، وحتى، ومذ ما منع سيبويه

ص: 570

فيقول: حتى هو رفعا، وحتى إياه نصبا، وحتاه، وحتاك جرًا، وكذلك: مذه، ومذهو.

وعلى هذا يقول: زيد كك وأنت كه ونحو ذلك.

قال السيرافي: وقول سيبويه هو الموافق لكلام العرب. وما جاء من ذلك على خلاف ما تقرر فمحفوظ كما سيذكر بعد.

وسكوته عن الحروف البواقي يقتضي أن حكمها مخالف لهذه، وأنها لا تختص بالظاهر؛ بل تدخل على كل ظاهر ومضمر، وهو القسم الثاني، فيجوز أن تقول: المال لزيد، والمال له، ومررت بزيد، ومررت به، وبك لأفعلن، وعلى زيد مال، وعليك مال، وجئت من الدار، وقرب مني، وكذلك سائر الحروف، لكنه يلزم من هذا التقسيم أن تكون حاشًا، وخلا كـ "إلى" و"على" تدخلان على الظاهر والمضمر. وقد نص الفارسي في بعض كتبه على أنهما كحتى لا يضافان إلى المضمر، فيبقى هذا الموضع مشكلًا إلا أن يدعي الناظم خلاف ذلك، فقد أنشد في الرشح في فصل حاشا قول الشاعر:

في فتية جعلوا الصليب إلههم

حاشاي إني مسلم معذور

ص: 571

فيمكن أن يدعي مثل ذلك في (خلا) أيضًا؛ إذ لا مانع منه. والله أعلم.

ثم قسم القسم الأول من القسمين تقسيمًا آخر فقال:

وأخصص بمذ ومنذ وقتًا وبرب

منكرًا والتاء لله ورب

فجعله ضربين:

أحدهما: ما يختص ببعض الأسماء الظاهرة دون بعض، وذلك أربعة أحرف: الأول، / والثاني: مذ ومنذ، وهما مختصان بالزمان، وذلك قوله:(وأخصص يمذ ومنذ وقتًا) فتقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة، ومنذ يومين، ولا تقول: ما رأيته مذ قيام زيد، ولا منذ قيام زيد، وهذا الذي قال هو الذي يظهر من كلام سيبويه وغيره حيث جعلوهما لابتداء الغاية في الزمان أو للغاية كلها، لكن في الزمان أيضًا، فيقتضي ذلك أنهما لا يدخلان إلا على الزمان. وهذا مشكل على رأيه؛ لأنه أجاز في التسهيل أن يضافا إلى المصدر، فتقول: ما رأيته مذ قيام زيد، ومنذ قيام زيد. فإذا ليس بمختص بالزمان على رأيه، وكذلك تقول: ما رأيته مذ أن زيدًا قائم، وهو على ذاك لا يختص بالزمان، فكيف يقول:(وأخصص بمذ ومنذ وقتًا).

والجواب عن ذلك: أن (مذ) و (منذ) إذا جرا المصدر، فعلى تقدير الزمان لابد من ذلك، كأنك قلت: مذ زمان قيام زيد، ومذ زمان أن زيدًا قائم، فلم ينفكا إذًا عن الاختصاص بالزمان إما لفظًا وإما تقديرًا، وكذلك أيضًا يقدر الزمان وإن كان اسمًا، ووقع بعدهما الجملة، نحو: مذ قام زيد، حسب ما

ص: 572

يذكر في موضعه إن شاء الله.

والثالث: رب، وهي مختصة بجر النكرة لقوله:(وبرب منكرًا) أي: وأخصص برب منكرًا من الأسماء، فلا تدخل على المعارف، فتقول: رب رجل يقول ذاك، ولا يقال: رب زيد الذي يقول ذاك، وما جاء من قولهم: ربه رجلًا، فقد تقدم العذر عنه، وأنها إنما جرت هنا المضمر لإبهامه كالنكرة مع أنه نادر كما سيأتي بعد.

فإن قيل: كيف تختص بالنكرة، وأنت تقول: رب رجل وأخيه، فتعطف على مخفوضها النكرة معرفة، والمعطوف مقدر الوقوع في موضع المعطوف عليه، فكأنك قلت: رب أخيه. وأبين من هذا أنك تقول: رب ضارب زيد. وقد قرر النحويون أن (رب) تصرف زمان ما تدخل عليه إلى الماضي، فهي مختصة بالماضي من الزمان، واسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي إضافته محضة. فالإضافة إذًا في رب ضارب زيد محضة، وإذا كانت محضة، فضارب معرفة بالإضافة، وقد دخلت عليه (رب)، فـ (رب) إذًا يجوز أن تجر المعرفة والنكرة، فلم تختص إذًا بالنكرة، كما قال- أنشد سيبويه لجرير -:

يا رب غابطنا لو كان يعرفكم

لاقي مباعدة منكم وحرمانًا

ولا يقال: لعل الناظم يقول: إن إضافة اسم الفاعل غير محضة، وإن كانت بمعنى الماضي؛ لأنه نص على اختصاص إضافة التخفيف بما كان من اسم الفاعل

ص: 573

بمعنى الحال أو الاستقبال، فالذي بمعنى الماضي إذًا إضافته لغير التخفيف، وهي إضافة التخصيص أو التعريف.

فالجواب: أن قولك: رب رجل وأخيه، ليس مما نحن فيه؛ إذ يجوز عندهم في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه في مواضع معدودة هذا منها. ومنها: كل رجل وأخيه، وكل شاة وسخلتها، وكم رجل وأخيه، و:

*أي فتى هيجاء أنت وجارها*

ولا رجل وأخاه، وهذه ناقة وفصيلها/ راتعان، وهل من رجل وأخيه؟ فلا اعتراض برب رجل وأخيه؛ إذ لا يحل محل المعطوف عليه وإن كان معطوفًا، كما لا تحل هذه المعطوفات كلها محل ما عطفت عليه.

وأما: رب ضارب زيد، فالإضافة فيه غير محضة، إما على ما رآه في التسهيل من أنها لا يلزم مضي ما تتعلق به، بل قد يكون حالًا ومستقبلًا، فليس بصارفة للمضي. قال ذبك في باب حروف الجر. ونقل عن ابن السراج جواز أن يكون

ص: 574

حالًا ومنع أن يكون مستقبلًا، وأيضًا فإنه نص في باب الإضافة على أن رب تدخل على ما هو حال أو مستقبل، فقال:

وإن يشابه المضاف يفعل

وصفًا فعن تنكيره لا يعدل

ثم قال:

*كرب راجينا عظيم الأمل*

فجعل (رب) داخلة على ما شابه (يفعل) الذي هو للحال أو الاستقبال.

وإما أن يكون يرى هنا أن (رب) تخلص للمضي كمذهب غيره من النحويين، ويتأول (يا رب غابطنا) على حكاية الحال الماضية، فكأن (رب) دخلت اعتبارًا بمعنى المضي الحاصل في الوجود و (غابط) حكت حاله فيما مضى، فصح انفصال إضافته.

وعلى الجملة فقد اتفقوا على أن ما بعد (رب) لا يكون إلا نكرة، وقد ظهر ذلك بما أنشده سيبويه لأبي محجن الثقفي رضي الله عنه:

يا رب مثلك في النساء غريرة

بيضاء قد متعتها بطلاق

فوصف مثلك بالنكرة، فدل على أنه نكرة وإن كانت رب مختصة بالماضي، فصح ما نص عليه الناظم من اختصاص رب بأن تجر النكرة ويتعلق برب هنا مسألتان:

ص: 575

إحداهما: أنه قد تقرر فيها جعله لها من حروف الجر، فالحرفية فيها ثابتة عنده، وهذا مذهب البصريين، وذهب الكوفيين إلى أنها اسم، والأصح ما ذهب إليه الناظم؛ لخلوها من العلامات اللفظية الدالة على الاسمية، وكذلك خلت من الدلالات المعنوية؛ ولأنها مساوية للحرف في عدم استقلالها بالمفهومية دون ذكر مجرورها، وقد خرجت (كم) عن هذا بصلاحيتها لعلامات الأسماء، وهي الإضافة إليها، نحو: غلام كم رجل ضربت؟ ودخول حرف الجر عليها، نحو: بكم درهم اشتريت ثوبك؟ والابتداء بها نحو: كم مالك؟ ووقوعها مفعولًا نحو: كم أكرمت؟ وغير ذلك من خواص الأسماء وليس في (رب) شيء من هذا، وليست بفعل باتفاق، فدل على أنها حرف.

فإن قيل: إن الذي يدل على أسميتها أمور:

منها: أنها مساوية لكم في معنى العدد، ونظيرتها في معنى التكثير، أو نقيضتها إن كانت للتقليل، والشيء يحمل على نظيره ونقيضه في الحكم.

ومنها: اختصاصها عن حروف الجر بما لا يكون في سائرها كلزومها صدر الكلام واختصاصها بجر النكرة الموصوفة، وحذف متعلقها.

ومنها: دخول التصرف فيها بالحذف فتقول: رب. وقد قرئ بالوجهين: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} . والتصرف بعيد عن الحروف قريب من الأسماء، فإذا كان كذلك لحقت بجنس ما يتصرف.

ص: 576

ومنها: وقوعها مبتدأ مثل (كم) فتقول: / رب رجل قائم، وأنشدوا:

إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن

عارًا عليك، ورب قتل عار

فالجواب: أن هذا كله لا دلالة فيه، أما كونها للعدد فليس كذلك؛ بل هي للتقليل أو التكثير أولهما، وكلاهما من معاني الحروف لا من معاني الأسماء. وأما لزومها الصدر؛ فلمضارعتها لحروف النفي، لأن التقليل تقريب من النفي؛ ولذلك تستعمل (قل) في النفي، فتقول: قلما يقوم زيد، بمعنى: ما يقوم زيد، وغن كانت للتكثير فلمضارعة (كم)، ولا يلزم من ذلك أسميتها، كما لم يلزم من مضارعة (قل) للنفي أن تصير حرفًا.

وأما اختصاصها بجر النكرة الموصوفة فلا يلزم من اختصاصها ببعض الأسماء أسميتها، وإلا لزم من اختصاص التاء أو الواو بالظاهر أن تكون أسماء.

وأما التصرف: فقد يأتي في الحروف الحذف، وأكثر ذلك في المضاعف كأن وأن ولعل، تقول فيه: عل، وحاشا: حاش وحشا.

والكوفيون يزعمون أن سوف يلحقها الحذف، وليست باسم باتفاق.

وأما (رب قتل عار) فعار: خبر مبتدأ محذوف، أي هو عار، لا أن (رب) مبتدأ فقد ثبت أن (رب) حرف لا اسم، والله أعلم.

والثانية: أن الناظم أتى هنا برب هكذا خفيفة ساكنة، فيمكن أن يكون ذلك لأجل القافية، والأصل (رب)، فيحتمل أن يكون أتى بذلك على أصل اللغة في استعمالها، فرب منقولة بضم الراء وإسكان الباء. وفي (رب) لغات غير

ص: 577

هاتين، فيقال: رب ورب ورب ورب، وتلحقها التاء مفتوحة ورب ورب. وذكر في التسهيل لها عشر لغات.

والرابع من الحروف المختصة ببعض الأسماء الظاهرة: التاء، فزعم أنها مختصة باسمين من أسماء الله تعالى، وهما: الله والرب، فأما دخولها على اسم الله فهو الشهير نحو:{تالله تفتوا تذكر يوسف} . {تالله لقد آثرك الله علينا} . وأنشد سيبويه:

تالله يبقي على الأيام ذو حيد

بمشمخر به الظيان والآس

وأما دخلوها على الرب، فحكى الأخفش: تربى، ولكن هذا شاذ محفوظ.

ومن هنا يكون قول الناظم مشكلًا؛ لأن حقيقة الأمر في التاء اختصاصها باسم الله ولا تدخل على غيره إلا ما شذ من دخولها على الرب، ولا يصح أن تكون مختصة بالرب بهذا الشذوذ؛ بل هي مختصة بألا تدخل عليه، والشاذ لا

ص: 578

يكسر هذا الاختصاص، كما لا يكسر اختصاص حروف الجر بالأسماء قول من قال:

*والله ما زيد بنام صاحبه*

ولا اختصاص (ال) بالأسماء قولهم: اليجدع، وما أشبه ذلك، وإذا كان كذلك فإطلاقه اختصاص التاء بالاسمين معًا موهم أنهما في ذلك سيان، وذلك غير صحيح، وأيضًا يقتضي أن ذلك قياس في الرب، وأن تقول: تربى، وترب الكعبة، وترب الناس، وتالرب، وتربك، وما/ أشبه ذلك، وهو أيضًا غير صحيح؛ بل هو موقوف على محله بنصه في التسهيل وشرحه على ذلك. فقوله:(لله ورب) فيه ما ترى.

والقسم الثاني: ما عدا هذه الأربعة، لا يختص ببعض الأسماء الظاهرة دون بعض، فحتى، والكاف، والواو تدخل على كل ظاهر، فتقول: حتى زيد، و {حتى مطلع الفجر} . وحتى يوم كذا، وكذا سائرها، ثم استدرك ذكر ما خرج عن هذا الضابط المذكور فقال:

ص: 579

وما رووا من نحو ربه فتى

نزر كذاكها ونحوه أتى

يعني أن القاعدة المطردة في (رب) إنما هي الدخول على الظاهر النكرة، فما جاء فيها من الدخول على المضمر وجرها له نزر قليل، ولا يكون ذلك إلا والضمير قد لزمه بعده مفسر منصوب على التمييز، فلا يكون الضمير مما يعود على ما قبله أصلًا، وإنما يكون ضميرًا موضوعًا على الإبهام يفسر بمنصوب كنعم في قولك: نعم رجلًا زيد، فتقول: ربه رجلًا، وربه غلامًا، وربه امرأة، وربه امرأتين، وربه رجالًا، وريه نسوة، لا يختلف الضمير وإن اختلف ما يفسره؛ بل يلزمه الإفراد والتذكير في أشهر الاستعمالين.

وقد نبه الناظم على اشتراط المفسر بعده، وأنه لا يفسره متقدم بمثاله الذي مثل به، وهو (ربه فتى) لكنه لم ينه على لزومه طريقة واحدة، أو جواز أن يختلف باختلاف المفسر كرأي الكوفيين، وحكايتهم، ولكن المطابقة قليلة الاستعمال بالنسبة إلى عدمها، فإذا كان الأمران منقولين، فلا يضيره السكوت عن ذلك مع أن جرها للضمير قليل في نفسه.

ثم قال: (كذاكها ونحوه أتى) يعني أنه أتى من كلامهم دخول الكاف على الضمير المتصل، لكن نزرًا أيضًا لقوله:(كذاكها)، ونبه بهذا المثال المخصوص الذي دخلت الكاف فيه على ضمير الواحدة المؤنثة على ما جاء في الشعر بهذا اللفظ بعينه، كأنه يشير إلى سماع في ذلك معين، وذلك قول العجاج أنشده سيبويه:

ص: 580

*وأم أوعالٍ كها أو أقربا*

كأنه قال: مثلها أو أقرب. ونبه بقوله: (ونحوه) على ما جاء في كلامهم من نحو هذا الضمير، وهو ما أنشده سيبويه للعجاج:

فلا ترى بعلًا ولا حلائلًا

كهو ولا كهن إلا حاظلًا

وأنشد الفراء:

وإذا الحرب شمرت لم تكن كي

حين تدعو الكماة فيها نزال

وقال الفراء: سمعت بعض من يروي عن الحسن، وكان فصيحًا:"حتى يكون كك وتكون كه".

وأنشد الفارسي في دخولها على الضمير المنفصل قول الشاعر:

فأحسن وأجمل في أسيرك إنه

ضعيف ولم يأسر كإياك آسر

ص: 581

وحكى الأخفش أو غيره: ما أنا كانت ولا أنت كأنا.

وهذا الأخير أعني دخولها على الضمير المنفصل ضعيف في القياس، والقياس الاتصال.

قال سيبويه/ في توجيه ما أنشده: إلا أن الشعراء إذا اضطروا أضمروا في الكاف؟ ، فيجرونها على القياس" ثم أتى بالشاهدين. ثم قال:"شبهه بقولهم: له ولهن".

قال: "ولو اضطر شاعر فأضاف الكاف؟ إلى نفسه قال: "كي". وقد ورد مثل هذا في حتى. قال الشاعر:

فلا والله لا يلفى أناس

فتى حتاك يا ابن أبي يزيد

أنشده ابن خروف، ولم ينبه على مثله الناظم.

وإنما ترك ذلك لشذوذه جدًا بخلاف ما نبه عليه، فإنه شهير في النقل، وفيه على شذوذه كثرة ما في الشعر، وقد وجد بعضه في الكلام.

ص: 582

فإن قيل: فكذلك الأمر في (حتى) و (مذ) و (منذ) عند المبرد هو مما يقاس، فكان أولى أن ينبه عليه.

قيل: إنما تعرض الناظم للتنبيه على السماع، والمبرد لا سماع له في مذهبه، وإنما يقول بمقتضى القياس، كما أجاز (أعطاهوني) و (منحتنيني) قياسًا، وإن لم يسمع، فاقتصار الناظم على ما اقتصر عليه حسن.

وقوله: (كذاكها ونحوه أتى) يعني أنه أتى نزرًا أيضًا.

ثم شرع في الكلام على الحروف على التفصيل فقال:

بعض وبين وابتدئ في الأمكنة

بمن وقد تأتي لبدء الأزمنة

وزيد في نفي وشبهه فجر .... نكرة كما لباغ من مقر

فابتدأ في ذكر معاني هذه الحروف حرفًا حرفًا. وقبل الشروع في شرح كلامه لابد من إيراد سؤال يسأل عنه ابن مالك في هذا النظم وغيره من تواليفه؛ بل هو سؤال وارد على جميع من تكلم في حصر معاني هذه الحروف حتى إن باب حروف الجر صار غالب ما يذكر فيه تفسير معانيها بحيث صارت الأحكام المتعلقة بها في القياس أقلية بالنسبة إلى تفسير المعاني، ولا شك أن هذا نحلة اللغوي لا نحلة النحوي من حيث هو نحوي، فمن تعرض لتفسير معاني الحروف وصيرها كالأمر الضروري في صناعة النحو فليتعرض لتفسير معاني الأسماء والأفعال وحينئذ يصير لغويًا ولا نحويًا، أو ليترك تفسير الجميع حتى يكون تحويًا فقط وهو الأحق، لأن غيره تخليط لبعض العلوم ببعض.

فالجواب عن هذا: أن حروف المعاني على الجملة مما يحتاج في إدراك

ص: 583

حقائق معانيها إلى قياس ونظر، كما يحتاج في سائر أبواب النحو إلى القياس والنظر لتمييز الصواب من الخطأ، وهذا النحو ليس على وضع تفسير الغريب؛ إذ كنت تفسر الشيء بمرادفه فقط.

وأيضًا تفسيرها يصعب لأنها تدور بين المولدين والعرب على معنى واحد لشدة الحاجة إلى معانيها، فتفسيرها أشد من تفسير الغريب، لأن الغريب له / ما يساويه من اللفظ المعروف للمعنى الواحد، فإذا طلب ذلك وجد ما يقوم مقامه، فيفسر به، ولأنه قد كان يستغني به عن الغريب العربي. وأما الحروف فليست كذلك، لأنها تجري في كلام العرب والمولدين سواء. فليس في كلام المولدين ما يستغني به عنها، كما كان في الأسماء والأفعال، فإذا طلب ما تفسر به أعوز ذلك، فصار بيانها أشد من بيان غيرها. هذا ما قال ابن سيدة في المخصص في توجيه المسألة، وكأنه منتزع من كلام سيبويه، فإنه لما تكلم على معاني الحروف وما أشبهها من الأسماء في باب عدة ما يكون عليه الكلم ختم الباب بأن قال:"وإنما كتبنا منن الثلاثة وما جاوزها غير المتمكن الكثير الاستعمال من الأسماء وغيرها الذي تكلم به العامة، لأنه أشد تفسيرًا، وكذلك الواضح عند كل أحد هو أشد تفسيرًا؛ لأنه يوضح به الأشياء، فكأنه تفسير التفسير".

ثم قال: "وإنما كتبنا من الثلاثة على نحو الحرف والحرفين، وفيه الإشكال والنظر". هذا ما قال، وهو يشير إلى ما تقدم، فكان إذًا تفسير الحروف العربية وما أشبهها من مشكلات الكلم التي لا مرادف لها تفسر به مما يلحق النظر فيه بعلم النحو بهذا التقرير، وعلى هذا جرى النحويون فيما أشكل معناه من

ص: 584

الأدوات أو ما أشبه الأدوات، فما فعل الناظم في هذا الباب وغيره صواب لم يخرج به عن النظر القياسي النحوي على هذه الطريقة.

ثم نرجع إلى كلام الناظم فقوله: (بعض وبين وابتدئ في الأمكنة (بمن)

) إلى آخره جعل (من) أولاً على قسمين: زائدٍة، وغيره زائداة.

فأما غير الزائدة: فلها عنده في الوضع الأول أربعة معانٍ:

أحدها: أن تأتي للتبعيض بقوله: (بعض) أي بعض بها ما أتى بعدها، أي أجعل الفعل الذي تعلقت به مسلطًا على مجرورها بقيد التبعيض فيه، وذلك قولك: أكلت من الرغيف، وشربت من الماء. وفي القرآن الكريم:{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعٍض، منهم من كلم الله} . {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} . {والله خلق كل دابٍة من ماء، فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع} . {ومنهم من يستمعون إليك} . {ومنهم من ينظر إليك} .

وعلامة كونها للتبعيض صلاحية بعٍض مكانها، كما جاء في قراءة عبد الله:{تنالوا البر حتى تنفقوا بعض ما تحبون} . وهذا المعنى متفق عليه في (من).

والثاني: أن تأتي لبيان الجنس، وهو قوله:(وبين) أي أجعلها للبيان مثاله

ص: 585

قولك: لبست ثوبًا من كتان وسوارًا من ذهب، وجعلوا من ذلك قول الله تعالى:{فاجتنبوا الرجس من الأوثان} . وجعل بعضهم علامة كونها لبيان الجنس أن تقع بيانًا لما قبلها مقدرة بالذي كما في الآية.

ورد هذا ابن أبي الربيع بأنه لو كان كما قال لصح أن تقول على مثله: مررت برجٍل من زيد، ومررت/ بزيد من أخيك، على تقدير الذي هو زيد والذي هو أخوك. وهذا لا يقال.

وللناظم أن يجيب عن هذا بأن (من) لم تدخل فيه على الجنس، فإنها إذا كانت لبيان الجنس، فيلزم دخولها على الجنس الذي تكون به مبينة. وعلى هذا تقول: مررت بالعصبة من الرجال، فتكون على تقدير: الذين هم الرجال. ومررت بالمنتجعة من بني تميم، وبالفرسان من قريش.

ومن ذلك أيضًا قول الله تعالى: {يحلون فيها من أساور من ذهٍب ويلبسون ثيابًا خضرًا من سندٍس وإستبرٍق} . وما كان نحو ذلك.

ومنه أيضًا: (من) الجارة للتمييز نحو: لي ملؤه من عسل، وبكم درهٍم اشتريت ثوبك؟

وما ذهب إليه من إثبات هذا القسم في (من) مذهب طائفة ونفاه

ص: 586

بعضهم، وهو رأي الشلويين، ويظهر من سيبويه، وتأولت هذه الأمور على أن تكون (من) فيها للتبعيض، وابن مالك إنما وقف مع ظاهر المعنى بناء على قاعدة سيبويه وغيره من الحمل على الظاهر وإن أمكن أن يكون المراد غيره، فإذا كان ظاهر المعنى شاهدًا بأمر، فلا ينبغي أن يتعدى إلى ما يكون فيه تكلف.

فإن قيل: فإن الأولى أيضًا تقليل المعاني، وردها إلى أقل ما يمكن، بناء على قاعدة تقليل الأوضاع.

فالجواب: أن هذا يعارضه الحمل على الظاهر، فإذا تعارضت القاعدتان وجب الرجوع إلى الترجيح، فمال الناظم إلى ترجيح قاعدة الظاهر، ومال غيره إلى ترجيح قاعدة تقليل الأوضاع.

والثالث: أن تأتي لابتداء الغاية في المكان وهو قوله: (وابتدئ في الأمكنة)، أي: اجعلها لابتداء الغاية في المكان بمعنى أن يكون ما بعدها أول غاية الفعل

ص: 587

الذي تعلقت به، وعلامتها أن يصلح معها (إلى) التي هي لانتهاء الغاية، نحو: سرت من الدار إلى المسجد، وكذلك تعرف التي لابتداء الغاية في الزمان بصلاحية (إلى) معها. ومثال ذلك قول الله تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} . وقوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} . وقوله: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} . وهو كثير. ولا خلاف في ثبوت هذا القسم.

والرابع: أن تأتي لابتداء الغاية في الزمان. وذلك قوله: (وقد تأتي لبدء الأزمنة). يعني أن (من) قد تدخل قليلًا على الأزمنة، فتكون لابتداء الغاية فيها، كما كانت كذلك في الأمكنة إلا أنها في الأزمنة لا تكثر كثرتها في الأمكنة، وحقيقة المعنى: وقد تأتي لبدء الغاية في الأزمنة لكن حذف واختصر، وأضاف البدء إلى نفس الأزمنة لما كان المبدوء واقعًا فيها، نظير قوله تعالى:{بل مكر الليل والنهار} . فالمعنى: بل مكر كم في الليل والنهار، فحذف واختصر لعلم المخاطب، فكذلك هذا.

وهذا القسم مختلف في ثبوته، فمذهب أكثر البصريين نفيه، وأن (من) هنا لا تدخل على الزمان أصلًا، وإنما هي في المكان نظير (مذ) في الزمان، فكما لا تدخل مذ على الأمكنة باتفاق كذلك لا تدخل (من) على الأزمنة.

ص: 588

وأما الكوفيون: /فأجازوا ذلك - ووافقهم المؤلف في التسهيل - واستدلوا على ذلك بالسماع، ففي القرآن:{لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} . فدخلت (من) على (أول يوم) وهو زمان. وحكى الأخفش عن بعض العرب: من اليوم إلى غد. وقال النابغة الذبياني:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

تورثن من أزمان يوم حليمة

إلى اليوم قد جربن كل التجارب

وقال زهير بن أبي سلمى:

لمن الديار بقنة الحجر

أقوين من حجج ومن دهر

وقال أبو صخر الهذلي:

ص: 589

كأنهما ملآن لم يتغيرا

وقد مر للدارين من بعدنا عصر

وقال قيس بن ذريح:

فمن كان محزونًا غدًا لفراقنا

فملآن فليبك لما هو واقع

والمراد من البيتين (من الآن) فحذقت نون (من) ضرورة.

وأنشد في الشرح:

ألفت الهوى من حيث ألفيت يافعًا

إلى الآن مبلوًا بواٍش وعاذل

وأنشد أيضًا:

ونجوت من عرض المنو

ن من الغدو إلى الرواح

إلى أبيات أخر ذكرها في شرحه.

وفي الحديث: "من يعمل لي من نصف النهار على قيراط، فعملت النصارى

ص: 590

من نصف النهار على قيراط، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين، ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر" الحديث.

وفي الحديث: "فمطرنا من يوم جمعة إلى جمعة".

وقال عائشة رضي الله عنها: "ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل"؛ وهذا على رأي المؤلف في الاستشهاد بالحديث، فهذه الشواهد تدل على صحة ما رآه الكوفيون، وقد تردد الفارسي في المسألة، فذكر في التذكرة مذهب سيبويه، وأن (من) و (مذ) لا تدخل إحداهما على الأخرى، ثم ذكر ما خالف ذلك من كلام العرب مما تقدم ذكره ومن غيره.

ثم قال: فلو قال قائل: إن (من) قد لزم الجر وكثر تصرفه، والحروف التي تلزم ولا تنتقل إلى موضع آخر قد يكون فيها من الاتساع والتصرف ما لا يكون فيما ينتقل ولا يلزم، فإذا كان كذلك لم يمتنع أن تدخل (من) على الزمان ولا تكون كمذ؛ لأنها تنتقل عن عمل الجر.

قال: "وينبغي أن يستقرأ هذا، فإن أصيب في مواضع تكثر قطع على هذا، يعني على دخولها على الزمان، ولم يحمل على حذف المضاف، كما تأول أصحابنا قوله:{من أول يوم} و:

ص: 591

"*

من حجج ومن دهر *"

هذا كلامه.

وقد أنصف؛ فلذلك أتى الناظم رحمه الله فاعتبر المسألة بكلام العرب، فوجد دخول (من) على الأزمنة قليلًا لا يقوى أن يقاوم دخولها على الأمكنة ولا يقارب، فأقرها على ما هي عليه، ولم يطلق القول بالجواز، ولا حتم بالمنع، ولا شك فيما رأى أنه الصواب.

وقد تأول المانعون ما جاء من الشواهد مخالفًا لمذهبهم، فقدروا مصادر من قبل الزمان، فيقولون: التقدير: من تأسيس أول يوم، ومن مر حجج، ومن مر أزمان يوم حليمة، وكذلك سائرها: وهذا ضعيف من وجهين:

أحدهما: أن السماع هنا قد كثر كثرة تؤذن بأن التأويل فيها تكلف؛ إذ التأويل إنما يسوغ في النوادر، وليس هذا منها، وإن كان قليلًا، فمثله لا يصرف بالتأويل إلى خلاف ظاهره.

والثاني: أني سمعت شيخنا الأستاذ - رحمة الله عليه - يحكي عن شيخه أبي عبد الله بن عبد المنعم إبطال تقدير المصدر لما يلزم عليه من التسلسل، وأن مذهب الكوفين هو الصواب، لأنك إذا قدرت في الآية: من تأسيس أول يوم، اقتضى قصد التاريخ تقدير زمان قبل التأسيس حتى يكون المعنى: من زمان تأسيس أول يوم، فترجع المسألة إلى أول أمرها، فيفتقرون إلى تقدير مصدٍر هكذا أبدًا، وهو باطل، وهكذا سائر الشواهد، فالذي تلخص من هذا أن دخولها على الزمان ثابت غير مندفع، لكنه قليل عملًا بالاستقراء، ولمن معنى آخر سيذكره بعد هذا إن شاء الله.

ص: 592

فإن قيل: ما ذكره قاصر من وجهين:

أحدهما: أنه ذكر في التي لابتداء الغاية تقييدًا لو سكت عنه لكان أتم، فإنه ذكر أنها لابتداء الغاية في الزمان والمكان، وهي في الحقيقة لابتداء الغاية مطلقًا، كانت في زمان أو مكان أو غيرهما، فقد قال سيبويه:"وتقول إذا كتبت كتابًا من فلان إلى فلان"، قال:"فهذه الأسماء سوى الأماكن بمنزلتها"، يعني أنها ليست بأماكن كقولك: من مكان كذا إلى مكان كذا، لكنها بمنزلتها في ابتداء الغاية وانتهائها، وكذلك قال غيره، وهو صحيح، فالصواب هنا ما قاله في التسهيل حيث قال:"وهي لابتداء الغاية مطلقًا على الأصح".

والثاني: أنه ذكر لمن هنا من المعاني أقل مما ذكره في التسهيل؛ لأنه ذكر هنا التبعيض، وبيان الجنس، وابتداء الغاية في المكان والزمان، والبدل. ونقصه أن تكون للتعليل، نحو: جئتك من أجل إكرامك. ومنه: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق} . {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} . الآية. وأن تكون للبدل نحو: {أرضيتهم بالحياة}

ص: 593

الدنيا من الآخرة} بمعنى بدلًا من الآخرة. {ولو نشأ لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} . وأن تكون للمجاوزة نحو: عذت منه، وأنفت منه. وفي القرآن:{إني عذت بربي وربكم من كل متكبر} . ومن ذلك: زيد أفضل من عمرو، لأن المعنى جاوزه في الفضل. وأن تكون لانتهاء الغاية نحو: قربت منه؛ لأنه يفيد معنى قربت إليه. وأن تكون للاستعلاء فتوافق على كقوله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} أي على القوم. قاله الأخفش. وأن تكون للفصل بين المتضادين نحو: {والله يعلم المفسد من المصلح} ، {حتى يميز الخبيث من الطيب}. وأن تكون بمعنى الباء كقوله:{ينظرون من طرٍف خفي} . حكاه الأخفش عن يونس قال كما تقول: ضربته من السيف، أي بالسيف، وأن تكون بمعنى (في) كقول الشاعر، وهو من أبيات الحماسة:

ص: 594

/ عسى سائل ذو حاجة إن منعته

من اليوم سؤلًا أن يكون له غد

وهذا منتهى ما زاد في التسهيل، فذكر هنا أقل من النصف، فهو تقصير ظاهر.

فالجواب عن الأول: أنه يمكن أن يكون جعل ابتداء الغاية للمكان هو الأصل، وما سواه راجع إليه بالمجاز، فكأنه جعل الأشخاص أماكن بالتأويل لملازمة الأماكن لها؛ إذ لا يقال من فلان إلى فلان إلا ولهما مكانان بينهما مسافة، ويصل الكتاب من أحد المكانين إلى الآخر.

وعن الثاني: أن يقال: إن ما ذكر هنا من المعاني هو الأشهر في الذكر، والأكثر في الاستعمال، وهذا النظم لم يوضع للتتبع؛ بل للاقتصار على جل المهمات كما قال في آخره:

* نظمًا على جل المهمات اشتمل *

وبهذه الطريقة لا يعترض عليه فيما ترك من معاني هذه الحروف، وإنما ينظر معه فيما ذكر خاصة.

وأما الزائدة: فهي التي قال فيها: (وزيد في نفي وشبهه) أي: زيد الحرف الذي هو من، والحروف تذكر وتؤنث على تأويل الحرف، أو اللفظ، أو الكلمة، ومعنى كونه زائدًا كونه يدخل في موضٍع يطلبه العامل بدون ذلك الحرف، فيعمل فيه.

ص: 595

فإذا قلت: ما في الدار أحٍد، فأحد قد تسلط عليه عامل الابتداء من جهة المعنى ليرفعه بأنه مبتدأ، وكذا: ما جاءني من أحٍد، الفعل طالب لأحد بالفاعلية، فجاءت (من) عاملة في اللفظ مع طلب العامل الأول العمل كذلك في اللفظ، فسميت زائدًة لذلك، لأنها مقحمة بين طالب ومطلوب، ولذلك قد يقولون في (لا) من قولهم: جئت بلا زاٍد، إنها زائدة وإن كان سقوطها مخلا بالمعنى المراد، فإنما قصدوا بالزيادة ما ذكر، فعلى هذا قولهم: ما جاءني من رجٍل. (من) فيه زائدة، وإن كانت تدل على الكثرة والعموم، لأن ذلك المعنى المذكور موجود فيها، فلا يرد إذًا على النحويين على هذه الطريقة اعتراض المبرد في جعلهم (من) في هذه المواضع زائدة لحدوث معنى الكثرة بحدوثها، لأنك إذا قلت: ما جاءني رجل، احتمل أن تريد: ما جاءني رجل واحد، بل اثنان أو ثلاثة، أو: ما جاءني رجل في قوته ونفاذه، بل ضعيف الرجولية، أو ما جاءني رجل بل امرأة.

فإذا قلت: ما جاءني من رجٍل، عم جميع ذلك، فأين كونها زائدة.

فأجيب عن ذلك بهذا المعنى المقرر.

وذكر بعضهم طريقة أخرى في الزيادة: وهي الزيادة لمجرد التوكيد من غير

ص: 596

إفادة كثرة ولا عموم، ورد على المبرد بقولهم: ما جاءني من أحد؛ إذ لا دلالة على عموم ولا كثرة؛ لأن أحدًأ قد أفاد ذلك المعنى؛ إذ هو مرادف لكراٍب، وعريٍب، ودياٍر ونحوها، وهي موضوعة لعموم النفي، فإذًا لا يمكن إلا الزيادة. فإذا ثبتت زيادتها البتة في: من أحٍد جاز في: ما جاءني من رجٍل أن تزاد، فتكون على ضريين: تكون زائدة على حد زيادتها في: ما جاءني من أحٍد، وتكون / /287/ أيضًا مفيدًة للعموم، وهذا المعنى قرره الفارسي، وهو صحيح في نفسه إلا أن اعتراض المبرد قد يرد عليه؛ لأن زيادة (من) هنا للتوكيد، فالتوكيد هو أصل معناها، فليست بزائدة لأن حقيقة الزائدة ما دخوله كخروجه، وهذه ليست كذلك لأن التوكيد قبل دخولها مفقود، فلما أتى بها حصل بها التوكيد، وهو معنى كالتبعيض، والابتداء، فلا تسلم هذه الطريقة على هذا التقدير، كما أن في الطريقة الأولى محلا للبحث.

فقد يمكن أن يريد الناظم بالزيادة على هذه الطريقة ما لم يأت لمعنى العموم.

وأما على الأولى: فهي تسمى زائدة، وإن جاءت لمعنى العموم، ومذهبه في التسهيل يشير إلى الطريقة الأولى، وإليها يشير تمثيله هنا؛ لأنه يمكن في قوله:(ما لباغ من مقر) أن تكون (من) للتوكيد، أو لإفادة العموم.

فإذا تقرر معنى زيادة الحرف، فنرجع إلى كلام الناظم، فقوله:(وزيد في نفٍي وشبهه) إلى آخره، يعني أن (من) تزاد بشرطين:

أحدهما: أن تقع في نفٍي أو ما أشبه النفي. أما زيادتها في النفي، فنحو: ما

ص: 597

جاءني من رجٍل، وما في الدار من رجٍل، وما ضربت من أحٍد، هذا على الطريقة الأولى.

وعلى الثانية: إنما يصح التمثيل بما في الدار من أحد، وما جاءني من أحد، وما أشبه ذلك، فعند ذكر أحد تتعين الزيادة، ولكن إنما يقع الاعتماد في التمثيل هنا على الأولى، وعند ذلك يتسع مجال التمثيل، ففي القرآن:{وما من إله إلا الله} . {وما من إله إلا إله واحد} ، {أن تقولوا ما جاءنا من بشيٍر ولا نذير} . {وما آتيناهم من كتٍب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير} . وذلك كثير.

وأما شبه النفي: فالاستفهام، والنهي، فالاستفهام نحو قولك: هل جاءك من أحد؟ ، وهل في الدار من أحٍد؟ وفي القرآن:{هل من خالق غير الله} . {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحٍد} . {هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} . والنهي نحو: لا تضرب من أحد، ولا تقم من أحد. واشتراطه هذا الشرط بناء منه على مذهب الجمهور من البصريين.

وذهب الكوفيون والأخفش إلى جواز زيادتها في الواجب من غير اشتراط نفٍي أو شبهه، وإليه مال في التسهيل، واستدل عليه في الشرح

ص: 598

بأشياء محتملة.

والصواب ما ذهب إليه ها هنا؛ لأن السماع المستمر قضى أنها تختص بالنفي، إذ لم تأت زيادتها في الإيجاب إلا في محل الاحتمال أو في النذور، فلا يصح أن يقضى بالقياس حتى يتبين من الاستقراء إليها بكثرة مجيئها في الكلام، فإذا لم يكن ذلك، فيجب الوقوف مع السماع؛ لئلا ندعي على العرب ما لا نعرف.

فإن قيل: قد ثبتت الزيادة كثيرًا في الواجب بحيث لا يسع إلا القول بمقتضاها، فمن ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى:{ولقد جاءك من نبأ المرسلين} . وقوله: {يحلون فيها من أساور من ذهب} . {ويكفر عنكم من سيئاتكم} . {يغفر لكم من ذنوبكم} . {تجري من تحتها

ص: 599

الأنهار}. {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} .

وقال المؤلف: "إذا دخلت (من) على قبل، وبعد، ولدن، وعن، فهي زائدة" فهي إذًا في قوله: {لله الأمر من قبل ومن بعد} . {قد بلغت من لدني عذرًا} . وقول الشاعر:

* من عن يمين الحبيا نظرة قبل *

ونحو ذلك زائدة؛ لأن دخولها لا يزيد معنى على ما كان قبل دخولها.

وعلى ذلك حمل الكسائي قوله عليه السلام: "إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون".

وعلى ذلك أيضًا حمل ابن جني القراءة المروية عن الأعرج: {لما آتينا كم من

ص: 600

كتاب وحكمة} على أن أصلها لمن ما، فزاد (من).

وقد حكى الناس: قد كان من مطٍر، وقد كان من حديٍث فخل عني.

وأما الشعر: فمن ذلك قول الشاعر:

وكنت رأى كالموت من بين ساعة

فكيف يبين كان موعده الحشر

وقال الراجز:

* أمهرت منها جبة وتيسا *

ص: 601

إلى غير هذا من الأبيات المذكورة في الشرح، فهذا سماع كثير ثابت نظمًا ونثرًا، فما الذي يمنع من القياس؟

فالجواب: أن جميع ما ذكر من السماع لا يثبت به ما قال.

أما أولًا: فإن الأصل الثابت في الحروف ألا تدعى فيها الزيادة إلا إذا تيقنت، وقام الدليل عليها، وأما مع بادي الرأي فذلك غير مخلص.

وأما ثانيًا: فإن هذه المواضع المستشهد بها محتملة لما قال، ولغير ذلك.

أما الآية الأولى: فعلى حذف الموصوف حملها طائفة كأن قال: نبأ من جملة نبأ المرسلين تعبر به أو تتأسى أو نحو ذلك مما يليق، فـ (من) إذذاك للتبعيض، وعلى هذا يجري الحكم في الآية التي تليها، وفي قوله:{يغضوا من أبصارهم} ، وقولهم: كان من مطر، ومن حديث. وقد تحذف العرب المفعول لمقاصد، وتجتزئ دونها لدلالة عليها، ولغير دلالة. وأما {يكفر عنكم من سيئاتكم} {يغفر لكم من ذنوبكم} . فإنه مؤول كله على تضمين الفعل معنى فعل آخر، كأنه قال: يخلصكم من ذنوبكم، فرجع إلى معنى قوله في الآيات الأخر {يغفر لكم ذنوبكم} . فـ (من) إذًا لابتداء الغاية، كقولك: خلصت منه، وخرجت منه، وكذلك هي لابتداء الغاية مع قبل وبعد ونظرائهما، فالمعنى استقر له الأمر من هذه الغاية، ومن هذه الأخرى، ولم يذكر انتهاء الغاية؛ إذ لا يلزم ذكرها، وقد يكون ترك ذلك أبلغ، أو تكون غير محتاٍج إلى ذكرها للعلم بها، أو لغير ذلك.

ص: 602

وأما حديث: "إن من أشد الناس عذابًا"، فعلى إضمار الشأن؛ فلذلك رفع (المصورون).

والعجب أن المؤلف حمل الحديث في التسهيل على إضمار الشأن، وصرح بمخالفة الكسائي، ثم التزم هنا مذهبه، فاستدل به في الشرح على الزيادة. وأما {لما آتيناكم} فإن ما قاله ابن جني فيها تفريع على مذهب الأخفش، والرواية فيها مقال، وإن سلم ما قال فذلك شاذ كشذوذ ما أتى في الشعر من ذلك.

وأما {تجرى من تحتها} فـ (من) لابتداء الغاية كسائر الظروف المجرورة بـ (من)، / وإذا كان كذلك لم يثبت لها زيادة في الواجب. وأجاز بعض الناس زيادتها في غير النفي والاستفهام والنهي، وذلك الشرط، فيقال عنده: إن أكرمت من رجٍل أكرمك. ورد بأن القائل: إن ضربت، وإن كان غير واقٍع مفروض الوقوع بخلاف الاستفهام، فالشرط في معنى الواجب، وإن كان غير واجب؛ ولذلك يخالف الاستفهام في الأحكام الجوابية، وفي غيرها، مع أن السماع في ذلك معدوم أو نادر فلا يلتفت إليه.

فإن قيل: فقول الناظم: (وزيد في نفٍي وشبهه) يقتضي دخول الشرط، فإنه يشبه النفي في كونه غير واقع.

قيل: وكذلك يدخل له إن اعتبر هذا المقدار من الشبه، الأمر، والعرض، والتحضيض، والتمني، والترجي، والدعاء، فكنت تقول على هذا المفهوم: اضرب من رجل، وهلا ضربت من رجل، وليتك تضرب من رجل، وكذلك

ص: 603

سائرها، وذلك غير صحيح، وكانت هذه الأشياء داخلًة عليه في الاستثناء المفرغ، وفي زيادة الباء في الخبر، وفي غير ذلك من المواضع التي قيد فيها بالنفي وشبهه، وإنما أراد بشبه النفي ما اختص بخصوصية النفي، وذلك أن يدخل على الأسماء المختصة بالنفي كأحٍد، وغريٍب، ودياٍر، وكتيٍع، ونحوها، وذلك يختص بالاستفهام، والنهي؛ لأن النهي إنما محصوله نفي الفعل، والاستفهام يفهم هذا المعنى من حيث كان يستدعي الجواب بالنفي، ولذلك لا تدخل (من) مع كل أداة استفهام، فلا تقول: أين قام من رجٍل؟ أو متى ضربت من رجٍل؟ وإنما تدخل مع هل؟ وما يكون مثلها؛ إذ كان؛ لأن متى، وأين، ونحوهما لا تستدعي نفي الفعل؛ بل تقتضي ثبوته، وأن الاستفهام إنما هو عن وصٍف من أوصاف الفعل الواجب، وليس الفعل واجبًا مع هل، فقد تبين أن غير الاستفهام ليس بشبيٍه بالنفي بهذا الاعتبار، فلا يشمله قول الناظم:(وشبهه) أصلًا.

والشرط الثاني: لزيادة (من) أن تدخل على نكرة كما تقدم تمثيله، وذلك قوله:(فجر نكرة).

ومثل اجتماع الشرطين بقوله: (كما لباغ من مقر)، والباغي: الظالم. المتعدي. يقال: بغى الرجل: إذا تعدى، وبغى عليه: تعدى، وجاوز حد القصد. والمقر: ما يستقر فيه من الأرض، والشرط المذكور هنا يشترطه البصريون، ويوافقهم على اشتراطه الكوفيون إلا الأخفش من البصريين، فإنه يزعم أنها تزاد على الإطلاق من غير شرط، ونحا نحوه المؤلف في التسهيل أيضًا، إذ قال في المجرور بمن الزائدة: "ولا يمتنع تعريفه، ولا خلوه من نفي أو

ص: 604

شبهه، وفاقًا للأخفش".

واستدل على ذلك بما تقدم، وما استدل به غير ثابت كما مر.

ثم في هذا الكلام مسألتان:

إحداهما: أن ظاهره يعطي أن هذه الزيادة سماع؛ لأن قوله: (وزيد) يخبر عن أمٍر ماٍض، وأنه مفروغ منه، وذلك إنما يصدق على العرب، فإنهم الذين زادوا، ولو أراد زيادة القياس لقال: يزاد، أو يزاد في كذا، أو يجوز زيادته، أو ما يعطي معنى القياس، ولكنه لم يفعل ذلك، فأشكل كلامه من حيث إنه يوهم الوقوف على السماع/ وليس كذلك؛ بل هو قياس مطرد.

والجواب: أن قوله: (وزيد) لا يتعين للعرب؛ بل يمكن أن يريد أن أهل القياس من النحويين المتقدمين زادوه، فإذا أمكن هذا لم يحمل على الأول لأمرين:

أحدهما: أنه إنما انتصب للإخبار عما يقاس، فهو الأصل الذي انتصب لتقريره، فلا يحمل على غيره إلا بدليل.

والآخر: أنه قيد الزيادة بقيود، ومثلها بمثاٍل مرتجٍل مقيٍس، ولم يعين للمثال مثالًا مسموعًا، فدل على أنه قصد تقرير القياس لا التنبيه على السماع.

والثانية: أن هذه الزيادة لم يعين لها موضعًا مخصوصًا، وكان من حقه ذلك؛ إذ لا تزاد في كل موضع، وإن كان ثم نفي أو ما أشبهه؛ إذ لا تقول: ما زيد من قائٍم، وما هذا من رجٍل، ولا ما كان نحو ذلك، وإنما تزاد في مواضع مخصوصٍة، وهو لم ينبه عليها، فكان كلامه غير محرر.

والجواب: أن تمثيله أعطى شرطًا ثالثًا لا بد منه، وهو أن تكون النكرة يراد بها العموم، فيكون الحرف داخلًا يفيد نصية العموم أو تأكيده، فإن قوله: (ما

ص: 605

لباغ من مقر (مقر) فيه يراد به العموم، نفى كل مقر في الدنيا على أي وصٍف كان أو أي جهٍة كان، فإذا كان كذلك لم يدخل له: ما زيد قائم ونحوه؛ إذ لا يراد بقائٍم العموم أصلًا، بخلاف ما إذا قلت: ما في الدار رجل، فإنه يصح أن يراد فيه برجل العموم، فتدخل (من) إن شئت، فتقول: ما في الدار من رجٍل، وكذلك تقول: ما قام من رجٍل، لأن رجلا يراد به العموم، فإذا كان كذلك فقد حصل للزيادة ضابط صحيح، فيجوز دخولها على المبتدأ في نحو: ما في الدار من رجل، وما من عالٍم إلا زيد. وفي القرآن:{ما لكم من إلهٍ غيره} . {وما من إلهٍ إلا الله} . وعلى الفاعل نحو: ما قام من أحٍد، وما جاءني من رجٍل، وفي القرآن:{هلا يراكم من أحٍد} . وعلى المفعول نحو: ما ضربت من رجٍل، وقال الله:{وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء} . ويونس بمعنى العموم في الموضع صلاحية (أحد) في مكان النكرة التي تريد أن تدخل عليها (من)، فإن كانت لغير عاقل فقدرها للعاقل، فإن صلح (أحد) مكانها فهو موضع زيادة (من)، وإلا فلا.

ولقد أسقط هذا الشرط الثالث بعض النحويين. ومنهم ابن عصفور، وهو مخل بموضع القياس، وممن اعتنى به ابن أبي الربيع، فزاد: أن يراد بالنكرة

ص: 606

استغراق الجنس، واعترض عليه بأن استغراق الجنس مستفاد من زيادة (من) في أحد الوجهين، فكيف يشترط ما هو لازم عنها.

وأجيب بأن (من) لا تزاد في النكرة إلا بشرط أن يراد بها استغراق الجنس قبل دخول (من) عليها، ودخول (من) علامة على ذلك المعنى، فإن كانت تلك النكرة غير مراٍد بها استغراق الجنس، لم يجز دخول (من) عليها، كقولك: ما قام رجل واحد بل اثنان، أو أكثر، فالصحيح اشتراطه.

وأيضًا إن لم تقيد بذلك القيد لم يكن دخولها على المنفي النكرة منضبطًا، وهذا ظاهرة.

/ للانتها حتى ولام وإلى

ومن وباء يفهمان بدلا

يعني أن هذه الأحرف الثلاثة، وهي: حتى، واللام، وإلى تأتي لانتهاء الغاية، أما (حتى) فهي على أربعة أقسام: حرف عطٍف، وحرف ابتداٍء، وحرف تعليل، وحرف جر. فالثلاثة الأولى سيأتي حكمها في مواضعها إن شاء الله.

وأما الجارة: فهي التي تكلم فيها هنا، ومعناها انتهاء الغاية كما ذكر، إلا أن مجرورها قد يكون مصدرًا مؤولًا، أي مسبوكًا من فعٍل وحرٍف مصدري، نحو قولك: صل حتى يطلع الفجر، تقديره: حتى طلوع الفجر، ومنه:{وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} . الآية، وموضع ذكر هذا باب إعراب الفعل. وقد يكون اسمًا صريحًا، نحو قوله تعالى: {سلام هي حتى مطلع

ص: 607

الفجر}، وقوله:{ليسجننه حتى حين} . وقوله: {فتول عنهم حتى حين} . وقال الشاعر: قيل: هو الملتمس، وقيل غيره.

ألقى الصحيفة كي يخفف رحله

والزاد حتى نعله ألقاها

يروى برفع النعل، ونصبه، وجره. والشاهد في الجر، فإن قوله:(للانتها حتى) يريد الجارة، لأنها التي ذكرها هنا بخلاف غيرها، فإنها ليست بهذا المعنى، بل لها معاٍن أخر، فالعاطفة كالواو، والتعليلية كاللام، أو كي، والابتدائية كإنما، ونحوها من حروف الابتداء، إلا أن الغاية يصحبها معناها، فإنه المعنى الأصلي لها، فحتى هنا مرادفة لـ (إلى)؛ ولذلك يصح تعويض (إلى) منها.

وأما (اللام) فتكون أيضًا كما قال لانتهاء الغاية، وهو أحد معانيها التي يذكرها بعد، نحو قولك: هديته للطريق، كهديته إليه. قال الله تعالى:{وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا} . كقوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى

ص: 608

صراط مستقيم}. وقال تعالى: {بأن ربك أوحى لها} . فاللام بمعنى إلى كقوله: {وأوحى ربك إلى النحل} . وقال العجاج:

* وحى لها القرار فاستقرت *

ووحى وأوحى بمعنى واحد. ومنه أيضًا قوله تعالى: {حتى إذا أقلت سحابًا ثقالًا سقناه لبلٍد ميٍت} . لقوله في الآية الأخرى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابًا فسقناه إلى بلٍد ميٍت} . وقال: {كل يجري لأجٍل مسمى} . وفي موضع آخر: {كل يجري إلى أجٍل مسمى} .

وأما (إلى) فمثالها في انتهاء الغاية قولك: جئت من الدار إلى المسجد. وفي القرآن: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} . {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} . {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} . {إليه مرجعكم جميعًا} {وإليه ترجعون} . وأطلق القول

ص: 609

في انتهاء الغاية، فدل على أنها في (إلى) لا تختص بالمكان، كما كانت (من) في ابتداء الغاية لا تختص بالمكان، فكما تقول: سرت من الدار إلى المسجد تقول: سرت من يوم الجمعة إلى يوم الخميس.

ومنه قول النابغة:

تورثن من أزمان يوم حليمٍة

إلى اليوم قد جربن كل التجارب

وقال كثير:

وما زلت من ليلى لدن طر شاربي

إلى اليوم كالمقتضى بكل سبيٍل

وحكى الأخفش: / من الآن إلى غد. وفي الحديث: "فمطرنا من جمعة إلى جمعة". والكلام في (إلى) كالكلام في (من)، ولا يرد عليه هنا ما ورد عليه

ص: 610

من كون الغاية توجد لا في زمان ولا في مكان، كما قال سيبويه:"وتقول - إذا كتب كتابًا: من فلان إلى فلان"؛ لأنه أطلق القول هنا في الغاية، ولم يقيدها بالزمان والمكان، كما فعل في (من) فكان كلامه ها هنا محررًا.

وقوله: (ومن وباء يفهمان بدلًا) يعني أن هذين الحرفين، وهما (من)، والباء يكونان لمعنى البدلية، أي: عن ما دخلا عليه يفهمان أنه أبدل منه غيره.

فأما (من) فهو المعنى الرابع، أو الخامس لها من المعاني المذكورة لها قبل، مثال ذلك: رضيت من إكرامك بالكلام الحسن. وفي القرآن: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلقون} . {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} .

وقال الشاعر - ويقال هو أبو الغول الطهوي:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

وأما الباء: فمعنى البدلية من جملة معانيها التي يذكرها بعد، وذلك نحو: عوضت كذا بكذا. ومن قول رافع بن خديٍج رضي الله عنه: "ما يسرني

ص: 611

أني شهدت بدرًا بالعقبة".

وقال الطهوي المذكور:

فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا

شدوا الإغارة فرسانًا وركبانا

وعلامة كون الباء أو (من) للبدلية صحة وقوع (بدل) موقعها، وكان قول الناظم:(يفهمان بدلًا) يشير إلى هذا، أي: يفهمان معنى هذا اللفظ حتى يصح وقوعه موقعه، وهو صحيح، والله أعلم.

واللام للملك وشبهه وفي

تعديٍة أيضًا، وتعليٍل قفي

وزيد، والظرفية استبن ببا

و (في) وقد يبينان السببا

هذه معاني اللام الجارة، وذكر هنا أنها تجيء على قسمين: زائدة، وغير زائدة، فغير الزائدة تتصرف على خمسة أوجه من المعنى: فتأتي للملك، ولشبه الملك، وللتعدية، وللتعليل، والخامس: ما ذكره قبل من انتهاء الغاية.

أما كونها للملك فمعناه أن مجرورها مالك لما ذكر قبلها أو بعدها في الكلام، ومثال ذلك: المالك لزيٍد، والدابة لعمرٍو، ومن ذلك قولنا: إنا لله وإنا إليه راجعون. وفي القرآن: {قل إن الأمر كله لله} . {إن الأرض لله} الآية. وهو كثير.

ص: 612

وأما كونها لشبه الملك: فيدخل تحته أشياء: منها الاستحقاق، نحو: الجلباب للجارية، والسرج للدابة، والجل للفرس، ومنها النسب، ويعبر عنه بالتخصيص أيضًا، نحو: لزيٍد عم، ولعمرٍو خال، وأما أبوك فلك أب، وما أشبه ذلك.

ومنها التمليك الذي عده في التسهيل نحو: وهبت لزيد، وشبه التمليك، نحو:{والله جعل لكم الأرض بساطًا} . {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} . ومنه قولهم: أدوم لك ما تدوم لي.

وفي الشعر ما أنشده في الشرح:

ما لمولاك كنت كان لك المو

لي ومثل الذي تدين تدان

ومنها المقابلى لعلى/ نحو: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} .

وقال النمر بن تولب:

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر

ومنها اللام التي سماها لام التبليغ: وهي التي تأتي مع قول أو ما في معناه، نحو:

ص: 613

قلت له، وبينت له، وأذنت له، وفسرت له، وما أشبه ذلك، فكل هذه الأنواع داخلة تحت شبه الملك.

وأما التعدية: فإن المؤلف لم يذكر اللام - حيث استوفى معانيها - معنى تعديٍة، ولا ذكر أحد من المتقدمين - فيما أعلم - لها هذا المعنى. وأيضًا فليست التعدية من المعاني التي وضعت الحروف لها، وإنما ذلك أمر لفظي مقصوده إيصال الفعل الذي لا يستقل بالوصول بنفسه إلى الاسم فيتعدى الفعل إلى ذلك الاسم بوساطة ذلك الحرف، وهذا القصد يشترك فيه جميع حروف الجر، فإنها وضعت لأن توصل الأفعال إلى الأسماء، فهي كما قالوا في الواو التي بمعنى مع في باب المفعول معه، و (إلا) في باب الاستثناء وما أشبه ذلك؛ ولأجل هذا المعنى سميت حروف إضافٍة، فإنها تضيف الأفعال إلى الأسماء ولم تكن الأفعال لتصل إليها دون تلك الحروف، فإذا توسطت صار الاسم مطلوبًا للفعل وصار في موضع نصب به، ولذلك تعطف على موضع الحرف نصبًا. وبهذا المعنى فسر السيرافي قول سيبويه:"ولكنها - يعني حروف الجر - يضاف بها إلى الاسم ما قبله أو ما بعده"، وهذا الحكم في هذه الحروف غير منفرد عن معانيها التي وضعت لها؛ فلذلك صار هذا الموضع مشكلًا جدًا، وقد فسر ابنه التعدية بنحو:{فهب لي من لدنك وليا} ، وقلت له: افعل. ومعنى التعدية في هذا غير ظاهر إلا بالمعنى العام لجميع الحروف، وأيضًا قد جعل أبوه لما مثل به من ذلك معنى غير التعدية، فجعل للمثال الأول معنى التمليك، وللثاني معنى التبليغ. ولقائل أن يقول: قد

ص: 614

جاءت الباء للتعدية في نحو: ذهبت به بمعنى أذهبته، كقوله تعالى:{ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} . فلم لا تكون اللام كذلك؟

والجواب عنه: أن ذلك لم يثبت في اللام، كما ثبت عند الجمهور في الباء؛ إذ لا يقال: دخلت لزيٍد، بمعنى أدخلته، كما يقال: دخلت به، فالتعدية على هذا المعنى غير ثابتٍة للام مطلقًا، بل ولا لحرٍف من حروف الجر عند المبرد.

وأقرب ما يعتذر به عنه أن يريد بلام التعدية اللام التي تلحق المفعول به للمتعدي في الأصل بنفسه لضعٍف لحقه أن يبقى على أصله، فكأنه لما ضعف عن تعديه بنفسه بإطلاٍق قوي باللام، فصارت اللام لاختصاصها بتقوية ما صار ضعيفًا تسمى لام التعدية، ولذلك مواضع:

أحدها: أن يتقدم معمول الفعل المتعدي بنفسه، فيجوز دخول اللام على المفعول قياسًا، فيتعدى الفعل بها، نحو قولك: لزيٍد ضربت، ولزيٍد أعطيت درهمًا. وفي القرآن/ الكريم:{إن كنتم للرويا تعبرون} . ويقاس على هذا، ولا يقتصر به على السماع.

والثاني: ما كان من العوامل فرعًا عن الفعل المتعدي بنفسه كاسم الفاعل، والمفعول، وأمثلة المبالغة، فإن الفرع لا يقوى في أحكامه قوة الأصل، نحو: هذا ضارب زيدًا، فتقول: هذا ضارب لعمرٍو. ومنه في القرآن: {إن ربَّك

ص: 615

فعال لما يريد}. وهذا أيضًا قياس مطرد، وكذلك المصدر الموصول كقولك: أعجبني ضربك زيدًا، فجائز أن تقول: ضربك لزيٍد؛ لأنه فرع، والفروع لا تقوى قوة الأصول.

والثالث: ما كان من الأفعال المتعدية قد بني للتعجب على صيغة (ما أفعله) نحو: ما أضرب زيدًا لعمرٍو وما أعطى زيدًا لعمرٍو الدراهم. قالت طائفة: إنما دخلت اللام على المفعول به في الأصل؛ لضعف الفعل بدخول معنى التعجب فيه، كما ضعف الفعل حين قدم مفعوله عليه؛ لأن الفعل قد رد في التعجب إلى (فعل)، و (فعل) ضعيفة مختصة بغير المتعدي، وإنما تعدى بنفسه إلى المفعول الآخر من أجل النقل بالهمزة. وهذا توجيه حسن.

والرابع: الفعل النائب عنه حرف النداء، إذا دخله معنى التعجب أو الاستغاثة جاز جره باللام، وقد كان قبل دخول ذلك المعنى يصل بنفسه؛ لأنه لما حذف الفعل ودخله معنى الإنشاء ضعف عن التعدي بنفسه، وخص ذلك بباب الاستغاثة والتعجب لما دخل على إنشاء النداء إنشاء آخر، فكانت اللام مقوية للعامل على التعدي، وهو معنى كون اللام معدية، وذلك أن اللام في هذه المواضع لم يؤت بها لإفادة معنى زائٍد قصد الإتيان به زيادًة على التعدية، وإلا كان سائر حروف الجر آتيًا فيها عند قصد معانيها، وليس كذلك. فهذا دليل على قصد التعدية وحده دون الالتفات إلى المعاني التي وضعت لها، ولكن لما كان هذا محتاجًا إليه في الكلام على الجملة صار هذا

ص: 616

الاستعمال نحوًا من أنحاء اللام، فعده الناظم.

فإن قيل: أما في باب التعجب فقد نص في غير هذا الكتاب على أن المتعدي بنفسه يتعدى فيه باللام، فالظاهر ما تقدم فيه. وأما لام الاستغاثة: فيمكن أن يقول به، ولم ينص فيه على مخالفٍة. وأما ما عدا ذلك فقد نص في التسهيل على زيادتها، وأنها ليست للتعدية؛ إذ قال: "وتزاد مع مفعول ذي الواحد قياسًا في نحو: {للرويا تعبرون} ، {إن ربك فعال لما يريد} . وإذا كانت عنده زائدة بطل كونها للتعدية عنده، ولم يصح ذلك التفسير المتقدم.

فالجواب من وجهين:

أحدهما: أنه يمكن أن يكون هنا رأي خلاف ما رآه هنا؛ لوجٍه ظهر له، ودليٍل عن له. وهذا من عادته، فقد يرى هنا ما يرى في التسهيل خلافه، وقد مضى من هذا مواضع، وستأتي أخر يقع التنبيه عليها إن شاء الله لله تعالى.

والثاني: أن القول/ هنا بالزيادة على خلاف الدليل من وجهين:

أحدهما: أنه خروج عن أصل وضع الحروف، وذلك لا يصلح إلا إذا اضطر إليه، ولم يوجد عنه مندوحة، وقد وجدت بما ظهر له هنا.

والآخر: أن العلة في زيادتها عنده في هذا الموضع ضعف العامل عند تقدم المعمول على العامل، أو كونه فرعًا عن مباشرة العامل فيه بنفسه، وهذه العلة

ص: 617

أولى في الاعتلال لقصد التعدي باللام منها لقصد الزيادة؛ إذ لا يناسب ضعف العامل زيادة اللام من حيث هي زيادة ويناسب الإتيان بها للتعدية، فإن أراد بالزيادة هذا المعنى فصحيح، ويرجع الخلاف في اللفظ، وسماها زائدة بمعنى أن العامل مما يصل بنفسه على الجملة، فعدي بحرف، ولا مشاحة في الألفاظ، وقد أطلق لفظ الزيادة على اللام هنا شيخنا الأستاذ - رحمة الله عليه، ثم قال: ويمكن أن يقال: إنها في هذه المواضع غير زائدٍة، ولكنها لتعدية ما ضعف عن التعدي إما بالتأخر، وإما بكون عمله غير أصيٍل، كما قالوا في لام المستغاث ونحوها، فكأنه رحمه الله أجاز الإطلاقين باعتبارين، والذي يصح دعوى الزيادة فيه ما كان نحو:{ردف لكم} ؛ لأنه لا وجه لدخول اللام المعدية هنا؛ لعدم الموجب إلا أن يقال ما يقال في نحو: نصحت لك، وكلت لك على القول بأنهما أصلان في نحو: جئتك، وجئت إليك، فيمكن - وقد أشار إليه ابن أبي الربيع، فلا زيادة إذًا في نحو:{ردف لكم} .

فإن قيل: كيف حملت القول بالزيادة وعدمها على أنه خلال في لفٍظ، والخلاف موجود نقلًا، فمنهم من قال: إنها توجد زائدة، ومنهم من قال: لا تكون زائدًة البتة، والقائل الأول هو المبرد، واستدل بقوله:{للرؤيا تعبرون} . وبقوله: {ردف لكم} . ورد عليه بأن (ردف لكم) مضمن معنى الوصول، فلذلك تعدى باللام وأن (للرؤيا تعبرون) قد ضعف العامل فيه عن الطلب، فقوي. فهذا كله نزاع معنوي لا لفظي.

ص: 618

فالجواب: أن تحقيق الخلاف راجع إلى ما تقدم، فإن أراد القائل بالزيادة أنها لم تأت لقصٍد آخر أصلًا، فقوله غير صحيح؛ إذ لو كانت اللام في نحو:{للرؤيا تعبرون} . كما قال، وقد كثر ذلك فيها مع التقدم لكانوا خلقاء أن يزيدوها مع التأخير كثيرًا حتى يصير قياسًا، لكن ذلك باطل، فما أدى إليه كذلك، فلما اختصت بالتقديم، أو بكون العامل فرعًا، دل على أن الزيادة لقصٍد، وهو معنى كونها غير زائدة.

ثم دلنا الدليل أن التقديم يضعف به العامل عن طلب المعمول بدليل أنك تقول: زيد ضربت، فلا يتسلط (ضربت) على (زيد)، ولا تقول: ضربت زيد البتة، وما ذاك إلا أن التقديم يضعف العامل عن العمل في ذلك المقدم، فذلك بعينه هو السبب في دخول اللام كثيرًا، وأن اللام لتقوية الفعل على الوصول إلى ذلك المتقدم، وهو معنى التعدية.

وأما كون اللام للتعليل، وهو معنى السببية، / أي أن المجرور بها على

للحكم المذكور قبلها أو بعدها، فمثاله: جئت لكرمك، وأتيتك لنيل فضلك، وكلمتك لنصحك، ومنه: كل لامٍ دخلت على المفعول له. ومنه بالتأويل قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس} الآية.

وقد جعل الزمخشري من ذلك ما كان نحو قوله تعالى: {وقال الذين كفروا آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه} . وقوله: {وقالت أخراهم لأولاهم} . {ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يوتيهم الله خيرًل} . وما أشبهه من القول المحكي

ص: 619

على الغيبة. ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسدًا وبغيًا: إنه لذميم

وعلامة هذه اللام أن يصح تقدير (من أجل) أو (بسبب) في موضعها.

و(قفي) في كلام الناظم فعل مبني للمفعول من: قفوت أثره، أي اتبعته، والضمير فيه اللام.

وقوله (في تعديٍة) متعلق به، والتقدير: وقفي اللام في التعدية والتعليل، أي اتبع واعتمد يعني أن ذلك ثابت في اللام من كلام العرب.

وأما الزائدة: فهي التي نبه عليها بقوله: (وزيد)، والضمير اللام، وكل حرف من حروف المعجم يجوز تذكيره وتأنيثه، فمن التذكير قول الراجز:

* وكافًا وميمين وسينًا طاسما *

ومن الثابت قول الآخر أنشدهما معًا سيبويه:

* كما بينت كاف تلوح وميمها *

ص: 620

ويعني أن العرب زادت اللام لغير معنى من تلك المعاني، بل جعلت دخوله كخروجه وأكثر زيادته بالسماع. فمن ذلك الآية الكريمة:{قل عسى أن يكون ردف لكم} . وقد تقدم. ومثل ذلك قول ملحة الجرمي:

عملس أسفاٍر إذا استقبلت له

سموم كحر النار لم يتثلم

أراد استقبلته.

ومن ذلك أيضًا قول النابغة:

قالت بنو عامٍر خالوا بني أسٍد

يا بوس للحرب ضرارًا لأقوام

وقول سعد بن مالك بن قيس بن ضبيعة جد طرفة:

يا بوس للحرب التي

وضعت أراهط فاستراحوا

أراد: يا بوس الحرب، ثم أقحمت اللام بين المضاف والمضاف إليه. وهذا مختص بالشعر، وكذلك قول الآخر، وهو أضعف:

ص: 621

فلا والله لا يلفى لما بي

ولا للما بهم أبدًا دواء

أي: ولا لما بهم، فزاد اللام ضرورة، وتزاد قياسًا على مذهب الجمهور بين المضاف والمضاف إليه في باب (لا)، نحو: لا أبا لك، ولا يدي لك بهذا الأمر.

وأنشد سيبويه:

أهدموا بيتك لا أبا لكل

وزعموا أنك لا أخا لكا

فأنا أمشي الدالي حوالكا

إلا أن ابن مالك لم يرتض هذا المذهب في الشرح، ولم يتكلم في هذا النظم على هذه اللام فيظهر أنه موافق للشرح أو مخالف.

ثم قال: (والظرفية استبن بيا)، الظرفية مفعول بـ (استبن)، ومعنى استبان: عرف، يقال: استبان الشيء بمعنى ظهر، واستبنته أنا: عرفته، فهو يتعدى ولا

ص: 622

يتعدى، فأتي الناظم بالمتعدي، فالمعنى: أعرف الظرفية بسبب الباء أو أعرف الظرفية في الباء وفي، فتكون الباء في (ببا) سببية أو ظرفية، ويريد أن هذين الحرفين يأتيان لمعنى الظرفية، فيكون ما جر بهما ظرفًا للفعل الواقع قبلهما أو بعدهما.

فأما الباء: فمعنى الظرفية لها هو ثاني معنى تأتي له؛ لأنه قدم لها معنى البدلية / وسيذكر باقي معانيها التي قصد ذكرها، ومثال الظرفية فيها قولك:

زيد بالبصرة، وأقمت بمكة، وفي القرآن الكريم:{وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا} . {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} . {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} . {ولقد نصركم الله ببدٍر وأنتم أذلة} . {إلا آل لوٍط نجيناهم بسحر} . {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل} . وعلامة كونها للظرفية صحة وقوع (في) موقعها، وهي علامة أكثرية ينكسر أطرادها، بقولهم: علمت به، وظننت به، وهي عندهم للظرفية، ولا تقع موقعها (في).

وأما (في): فالظرفية فيها ظاهرة أيضًا، كقولك: زيد في الدار، والمال في الكيس. ومنه قوله تعالى:{واذكروا الله في أياٍم معدوداٍت} . {ويذكروا

ص: 623

اسم الله في أياٍم معلومات}. {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} . {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} . إلا أن الظرفية فيهما قد تكون حقيقية، وذلك كما في الأمثلة، وقد تكون مجازية، كما في قولك: فلان ينظر في العلم. وفي القرآن: {ولكم في القصاص حياة} . {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} . {لقد كان في قصصهم عبرة الأولي الألباب} . وفي الباء نحو: علمت به، وظننت به بمعنى جعلته موضع علمي أو ظني.

ثم قال: (وقد يبينان السببا) ضمير (يبينان) عائد على الباء وفي، يعني أنهما قد يأتيان لمعنى السببية، فيبينان معناها بمعنى أن المجرور بهما يكون سببًا لما ذكر قبلهما أو بعدهما. فأما الباء فقولك: أكرمتك بإكرامك زيدًا، ومنه قوله تعالى:{إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} . وقوله: {فبظلٍم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباٍت أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا} . {فبما رحمٍة من الله لنت لهم} . وقال الشاعر:

ولكن الرزية فقد شخص

يموت بموته بشرٌ كثيرٌ

ص: 624

وهذا معنى ثالث ذكره للباء؛ إذ قدم معنى البدلية والظرفية. وأما (في) فلم يقدمها لها معنى إلا الظرفية، وهذا معنى ثاٍن لها، ومثالها في السببية: عذلتك في حب فلان، وأحببتك في لومه. ومنه في القرآن:{لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} {قالت فذلكم الذي لمتنبي فيه} . وفي الحديث: "عذبت امرأة في هرٍة ربطتها". فمعنى (في) هنا السببية؛ ولذلك يصح في موضعها (بسبب). ومن ذلك قول الشاعر:

فليت رجالًا فيك قد نذروا دمي

وهموا بقتلي يا بثين لقولي

وهنا مسألتان:

إحداهما: أن السببية التي ذكر هنا بمعنى التعليل كما تقدم في الأمثلة.

وقد أطلق في التسهيل عليها لفظ التعليل، أعني على (في)، وأطلق على الباء التي يسميها النحويون باء الاستعانة باء السببية، نحو: كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، وضربته بالسوط. واعتذر عن إيثار هذا الإطلاق الذي اصطلح عليه

ص: 625

من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله عز/ وجل، فإن استعمال السببية فيها يجوز، واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز، نحو قوله تعالى:{فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم} . {فأخرجنا به من كل الثمرات} . {فأخرجنا به نبات كل شيء} . وهذا الإطلاق لم يرده الناظم هنا، ولا أراد بالسببية إلا معنى التعليل؛ لأنه شرك مع الباء (في)، و (في) لا تأتي للاستعانة أصلاً، وتأتي للتعليل كما تبين.

وأيضًا فسيذكر للباء معنى الاستعانة على إثر هذا، فهو هنا فيما يظهر لبادي الرأي موافق لإطلاق النحويين ومفارق لنظره في استحداث ذلك الاصطلاح.

وسيأتي توجيه الموضع بما يمكن بحول الله.

والثانية: أن قوله: (وقد يبينان السبب) يقتضي أن هذا المعنى فيهما قليل. وهذا مسلم في (في) إن سلم ما قال فيها، فإن كونها لمعنى السببية قليل. أما إن قيل بنفي هذا المعنى فواضح. وأما الباء فالسببية فيها معنى شهير كثير لا يوصف بالقلة، فإتيانه بقد المعطية لمعنى التقليل غير محرر، والله أعلم. ثم أخذ في تكميل معاني الباء فقال:

بالبا استعن وعد عوض ألصق

ومثل مع ومن وعن بها انطق

فذكر لها في هذين البيتين سبعة معاٍن، فجميع ما ذكر للباء عشرة معانٍ:

الأول: الاستعانة، وهو قوله:(بالبا استعن) أي اجعلها في الكلام لمعنى الاستعانة، وهي في محصول الأمر الباء الداخلة على الآلات، نحو: كتبت بالقلم، فالقلم آلة يحصل بها للكاتب الكتب، وكذلك: ضربت بالسوط،

ص: 626

وقطعت بالسكين. ومنه في القرآن: {الذي علم بالقلم} . {ترهبون به عدو الله وعدوكم} . واعلم أنه حيث أثبت معنى الاستعانة للباء هنا يلزمه أحد أمرين:

إما أن يطلق القول بذلك بالنسبة إلى ما جاء للعباد، وما جاء لله عز وجل، فيلزم من ذلك أن يطلق على الله عز وجل لفظ الاستعانة، وأنه مستعين، كما أن العبد مستعين، وذلك لا يجوز كما قال في الشرح، فإن الله هو المستعان، وليس بالمستعين.

وإما أن يقال: إن الباء للسببية بالنسبة إلى الله تعالى في نحو: {فأخرجنا به من كل الثمرات} فيلزم مثل ذلك فيما كان راجعًا إلى العباد، ويرتفع معنى الاستعانة عن الباء جملة؛ فلا يكون إتيانه به هنا صحيحًا على هذا التقدير، فعلى كلا التقديرين يلزم المحذور.

والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجٍه:

أحدها: أن القرآن إنما نزل بلسان العرب على حسب ما يخاطب به بعضهم بعضًا وعلى ما يتعارفون بينهم، ومن جملة ما تعارفوا أن وضعوا الباء تدل على أن ما دخلت عليه آلة للفعل، وهي التي سماها النحاة المتأخرون باء الاستعانة، فإذا جاء في القرآن من خطاب الله للعباد ما هو على ذلك التقرير، فلا نكر فيه بناء على أن كتاب الله أنزل على قانون كلام العباد، كما أنه لا نكر في دخول أداة الترجي في خطاب الله تعالى للعباد في نحو:{لعلة يتذكر أو يخشى} . وقوله:

ص: 627

{عسى الله أن يتوب عليهم} . / بناء على جريانه على قانون كلام العباد، فباء الآلات التي تسمى في الاصطلاح باء الاستعانة كلعل وعسى اللتين تسميان حرفي ترج، والترجي والاستعانة على الله محال.

فإذا قيل: لا يقول ابن مالك لأن لعل وعسى للترجي في الآيتين، بل للتعليل. قيل: فقد قال: إن لعل في قوله: {لعلك باخع نفسك} . إنها للإشفاق، ونسبة الإشفاق إلى الله عز وجل كنسبة الترجي إليه في أن ذلك عليه مستحيل.

فإن قيل: فإن في ذلك الإطلاق إبهامًا فيجتنب.

قيل: فكذلك في إطلاق لفظ الترجي والإشفاق، فكما يسوغ أن تقول في (لعل) مثلًا أنها للترجي أو للإشفاق بإطلاٍق، مع تنزه الله عن الاتصاف بهما، فكذلك تقول في الباء إنها للاستعانة إذا دخلت على الآلات بإطلاق مع تنزه الله عن الاستعانة.

والثاني: أن معنى الاستعانة لا يلزم فيه أن يكون المستعين مفتقرًا إلى الآلة المستعان بها ولا بد، بل معنى ذلك إيقاع الفعل بآلةٍ، وقد يكون الفاعل غنيًا عن الآلة، وقد يكون مفتقرًا إليها، فلا يكون معنى الاستعانة مفهومًا من هذا الاصطلاح، ولا فرق بين قولك: باء الاستعانة وبين قولك: الباء الداخلة على الآلات، أو الدالة على أن المجرور بها آلة، أو نحو ذلك، فالخلاف إذًا في لفٍظ ليس تحته معنى يخالف فيه.

فإن قيل: كيف يصح أن ينسب إلى الله تعالى الفعل بآلة.

ص: 628

قيل: يصح على الوجه الذي ينسب إليه الفعل بسبٍب.

فإن قيل: إن الآلة تقتضي الاحتياج إليها.

قيل: فيلزم أن يكون السبب مقتضيًا للاحتياج إليه.

فإن قلت في السبب: إن الله مسببه، فكذلك الآلة الله مصيرها آلة، فهو خالق الآلة وما صنع بها، وخالق السبب والمسبب عنه.

فإن قلت: الآلة تقتضي أن لها فعلًا لا يكون دونها.

قيل: فكذلك السبب، [لأنه] من حيث وضع سببًا، إنما وجد المسبب بوساطته حتى إذا [لم يوجد السبب] لم يوجد المسبب، فقد صار المحذور المتوهم في الآلة لازمًا في السبب، فإن لزم في القول بباء الآلة أمر لزم مثله في القول بباء السبب، فلزم ابن مالك ما فر منه.

فإن قيل: فالمراد إذًا من باء السبب وباء الاستعانة معنى واحد، وإذا كان كذلك فما أطلقه المؤلف على الباءين من المعنى الواحد لا محذور فيه، إذ لم يلزم فيهما محذور في كلام الله تعالى.

قيل: إطلاقه على باء الاستعانة أنها باء السبب خطأ؛ بل معقول السببية غير معقول الاستعانة، فجعل إحداهما هي الأخرى مخالف للوضع والمعقول، فإن السبب علة معقول وجد الفعل لأجلها، وليس كذلك الآلة؛ ولذلك تقول: أكرمتك بإكرامك إياي، فيعقل منه أن إكرامه لك علة في إكرامك له لا آلة؛ لأن الإكرام لا يتوهم فيه أنه آلة. وتقول: كتبت

ص: 629

بالقلم، فيعقل منه أن القلم آلة لا علة؛ إذ لا يتوهم أن كتبك وقع بسبب القلم، وكذلك تفهم من قوله تعالى:{الذي علم بالقلم} . أن/ القلم آلة التعليم، ولا يفهم أنه سبب التعليم. وهذا ظاهر.

والثالث: أنا إن سلمنا أن ما وقع من ذلك في كلام الله تعالى يجب حمله على أن الباء معناها السبب، فلا يجب ذلك في كلام العباد، بل نقول: إن قولك: كتبت بالقلم، وضربت بالسوط، وسائر ما تدخل الباء فيه على الآلات في كلام العباد تحمل الباء فيه على ظاهرها من الاستعانة؛ لظهور ذلك المعنى فيها.

ويحصل بهذه الطريقة الجمع بين كلامه هنا وتحرزه في الشرح، ويؤيد ذلك أن ما ذكره من الأمثلة في القرآن يظهر فيه معنى التعليل لصحة تقدير الباء بقولك (بسبب) أو (لأجل)، فتقول: فأخرجنا بسببه من كل الثمرات، وذلك صحيح بخلاف قولك: كتبت بالقلم كما تقدم.

والثاني من معاني الباء التعدية، وذلك قوله:(وعدى) أي: عد بها بمعنى أجعلها لذلك المعنى، ومعنى التعدية أن تدخل في الكلام على معمول الفعل، فيصير في المعنى كالمعدى بالهمزة، وذلك قولك: ذهبت به، بمعنى أذهبته، وخرجت به بمعنى أخرجته، وقعدت به، بمعنى أقعدته. ومنه في القرآن الكريم:{ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} . بمعنى: لأذهب سمعهم وأبصارهم؛ إذ لا يصح توهم المعنى الآخر؛ إذ فيه نسبة الذهاب إلى

ص: 630

الله، وهو محال، وكذلك قوله:{ذهب الله بنورهم} . معناه: أذهب الله نورهم. ومنه قول امرئ القيس:

كميت يزل اللبلد عن حال متنه

كما زلت الصفواء بالمتنزل

فالمعنى كما أزلت الصفواء المتنزل، وإلا فالصفواء لا تزل.

وقال قيس بن الخطيم:

ديار التي كادت ونحن على منى

تحل بنا لولا نجاء الركائب

فالمعنى تحلنا. ومن كلامهم: تكلم فلان فما سقط بحرف، وما أسقط حرفًا، على معنى واحد، وأنكر المبرد أن تقع الباء للتعدية، وحمل ما جاء مما ظاهره ذلك على أنها للمصاحبة، وما تقدم من الأمثلة لا يسوغ له هذا التأويل في

ص: 631

جميعها، فإنه إن ساغ له في الآية الأولى أن يقول إن المعنى: ولو شاء الله لذهب البرق بسمعهم، فيعيد الضمير على البرق - لم يسغ له في قوله:{ذهب الله بنورهم} ، ولا في البيتين، ولا في المثال الآخر، فالأصح ما ذهب إليه الناظم من إثبات هذا المعنى للباء، وهو مذهب الجمهور.

والثالث: من معاني الباء التعويض وذلك قوله: (عوض)، والمراد: وعوض، فحذف العاطف على عادته، وكذلك في (الصق) يعني أنها تجيء أيضًا لمعنى التعويض، يريد أن يقع ما جر بها عوضًا مما بعدها أو قبلها أو معوضًا منه، ويشمل هذا الموضع موضعين مما ذكره في التسهيل، وهما معنى البدل، والمقابلة، كقولهم: اشتريت الفرس بألٍف، وقابلت الإحسان بضعٍف. وفي القرآن:{أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} . {أولائك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} . ويقال: بعته ناجزًا بناجٍز، والسمن منوان بدرهٍم. وقال الشاعر، وهو من أبيات الحماسة:

فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا

شدوا الإغارة فرسانًا وركبانا

ومنه أيضًا/ قول الله تعالى: {اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} .

ص: 632

وقال معن بن أوس:

وكنت إذا ما صاحب رام ظنه

وبدل سوءًا بالذي كان يفعل

قلبت له ظهر المجن ولم أدم

على ذاك إلا ريثما أتحول

وقال عبد الله بن الحارث يذكر نفي قريٍش له، ولمن أسلم من بلادهم:

وبدلت شبلًا شبل كل ضعيفٍة

بذي فخٍر مأوى الضعاف الأرامل

وفي الحماسة قول الآخر:

أبدلها الله بلوٍن لونين

سواد وجٍه وبياض عينين

وقال عدي بن زيد:

وبدل الفيج بالزرافة والـ

أيام خون جم عجائبها

والرابع: من معاني الباء الإلصاق، وذلك قوله:(ألصق) يريد أن الباء تقع أيضًا للإلصاق، ومعنى الإلصاق: أن تأتي لمعنى وصل الشيء بالشيء حقيقة أو

ص: 633

مجازًا، كقولك: مررت بزيٍد، ومسحت برأسي، وضربته بيدي، وما أشبه ذلك، وهي عند المؤلف: ما وقع في نحو: وصلت كذا بكذا. وخلطت كذا بكذا. وهو عند غيره على أعم من هذا، فإنها الأصل عندهم في معاني الباء، وما عدا ذلك من معانيها إلى معنى الإلصاق يرجع في الغالب، قال سيبويه:"وباء الجر إنما هي للإلصاق والاختلاط وذلك قولك: خرجت بزيد، ودخلت به وضربته بالسوط، ألصقت ضربك إياه بالسوط".

قال: "فما اتسع من هذا في الكلام، فهذا أصله" وما قاله صحيح، ولذلك قال الجزولي:"الباء للإلصاق، ويدخلها معنى الاستعانة، ومعنى الظرف، ومعنى المصاحبة".

قال الشلوبين - لما ذكر معانيها - ومعناها إنما هو الإلصاق، وما سوى ذلك من المعاني المذكورة، فليس بخارج عنه، أي أنه مناسب له. ولم يعول ابن مالك على هذا الأصل؛ بل عد لها ما كان أصلًا أو فرعًا بناء على أنها في أصل وضعها لذلك، حملًا على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، وقد تقدم لهذا نظائر في كلامه.

والخامس: أن تأتي مرادفة في المعنى لـ (مع)، وذلك قوله:(ومثل مع ومن وعن بها انطق) مثل: منصوب بانطق، أي انطق بها مثل كذا، يريد أنها تقع مواقع هذه الأدوات على معانيها، فتنطبق بالباء في الموضع الذي تنطق فيه بمع،

ص: 634

وكذلك ما ذكر معها، فأما كونها تقع بمعنى (مع) فهي التي تسمى باء المصاحبة، وهي التي يصلح في موضعها (مع)، ويغني عنها وعن مجرورها الحال، وذلك قولك:"المرء بأصغريه". أي مع أصغريه، ومصاحب لهما، وذهبت بزيد، أي مع زيٍد، وخرجت بثيابي، أي معها، ومصاحب لها.

وفي القرآن الكريم: {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم} أي مع الحق.

وقال تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلاٍم منا وبركاٍت عليك} . أي مع سلام. وكذلك قوله: {تنبت بالدهن} . وسمى هذه الباء في التسهيل باء المصاحبة.

وأما كونها تقع بمعنى (من)، وهو السادس من معانيها، فمثاله قول الله تعالى:{عينًا يشرب بها عباد الله} . تقديره: يشرب منها، وعلى هذا حمل ابن قتيبة قوله تعالى:{فإن لم يستجيبوا لكم فأعلموا أنما أنزل/ بعلم الله} .

أي: من علم الله. وقال أبو ذؤيب الهذلي.

ص: 635

شربت بماء البحر ثم تصعدت

متى لجٍج خضٍر لهن نئيح

وقال عنترة العبسي:

شربت بماء الدحرضين فأصبحت

زوراء تنفر عن حياض الديلم

وقال عمر بن أبي ربيعة:

فلثمت فاها آخذًا بقرونها

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

ولم يعين الناظم أي تصريف (من) تقع الباء موقعه، فيوهم أحد أمرين كلاهما محذور.

أحدهما: أن تكون واقعة موقع (من) في جميع تصاريفها، فيوتى بها لابتداء الغاية، وللتبعيض، ولبيان الجنس، ولغير ذلك من معاني (من).

والثاني: أن تقع موقعها في معنى واحٍد من تلك المعاني، وهو لم يبينه، فربما يسبق أنها تقع موقع التي لابتداء الغاية، أو لبيان الجنس، وذلك غير صحيح؛ لأنها إنما تقع موقع التبعيضية خاصة، كما تبين في التمثيل. وقد نص على ذلك في التسهيل إذ قال:"ومن التبعيضية"، فكان الواجب أن يقيد هنا كذلك. ويمكن أن يعتذر عنه بأنه أحال على ما وقع في كلام العرب من ذلك؛

ص: 636

إذ لا توجد إلا بمعنى (من) التبعيضية، فلم يضطر إلى الاحتراز من غيرها. وليس هذا الاعتذار بجيٍد؛ لأنه لم يتكلم في المسموع، وإنما تكلم في القياس؛ ولذلك قال:(بها انطق) أمرًا لمن أراد أن يتكلم بها كذلك قياسًا، فالظاهر أن كلامه غير مخلص.

وهنا مسألة وهو أنه إذا ثبت وقوع الباء بمعنى (من) التبعيضية، وأنها مرادفتها ثبت أن الباء تقع للتبعيض عند الناظم، فيقرب مذهب الشافعية في دعوى أن الباء في قوله تعالى:{وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} للتبعيض، كما لو قال: وامسحوا من رءوسكم، كما أن قوله:{عينًا يشرب بها عباد الله} بمعنى: يشرب منها.

فإن قلت: من أين يتعين في الآية أن الباء هي التي بمعنى (من)، ولعلها بمعنى آخر كالإلصاق أو الاستعانة، ونحوهما، أو زائدة؟

قيل: هي عندهم متعينة إذا دخلت على مفعول يتعدى إليه الفعل بنفسه، فإنك تقول: مسحت رأسي، ومسحت برأسي، فإذا لم تدخل اقتضى مسح جميعه، وإذا دخلت اقتضى مسح البعض.

قال الرازي: نحن نعلم بالضرورة الفرق بين أن تقول: مسحت يدي بالمنديل والحائط، وبين أن تقول: مسحت المنديل والحائط، في أن الأول يفيد التبعيض، والثاني يفيد الشمول، وقد اعترض على هذا بأمرين:

ص: 637

أحدهما: إمكان كونها زائدًة، لأن معنى الزيادة ممكن؛ إذ يقال: مسحت رأسي، ومسحت برأسي على معنى واحد.

والثاني: أن ابن جني ذكر أن كون الباء للتبعيض شيء لا يعرفه أهل اللغة.

وأمر ثالث: وهو إمكان أن تكون للإلصاق كأنه إلصاق المسح بالرأس. وقد قيل بهذا، كما أنه قد قيل بالزيادة.

وأجيب عن الأول: أن الزيادة على خلاف الأصل، فلا يقال بها ما وجد عنها مندوحة، وقد وجدناها بأن تكون للتبعيض.

وعن الثاني: بأن قول ابن جني شهادة على النفي، وقول من أثبت التبعيض شهادة على الإثبات، وشهادة الإثبات مقدمة حسب ما تقرر في علمه.

وعن/ الثالث: أن كونها للإلصاق لا ينافي كونها للتبعيض؛ لأن معنى الإلصاق هو الأصل فيها، ثم يدخل عليه ما سواه من المعاني حسب ما بينه الحذاق.

وأيضًا إذا ثبت التبعيض بها في المثل المتقدمة، لم يصح نفيه عن الآية، وقد رد بوجه رابع حكاه عياض في "ترتيب المدارك" عن محمد بن عبد الحكم قال: قلت للشافعي: لأي شيء أخذتم أنه إذا مسح الإنسان بعض رأسه وترك بعضه أنه يجزئه؟

قال: من سبب الباء الزائدة. قال الله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} ولم يقل رءوسكم.

قال قلت: فأي شي ترى في التيمم إذا مسح الإنسان بعض وجهه

ص: 638

وترك بعضًا؟

قال: لا يجزئه. قلت: لم؟ وقد قال الله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} . قال: فسكت. انتهى. وهذا إلزام للشافعي حسن غير أن الرازي قد اعتذر عنه بأنه الأصل أيضًا في آية التيمم، التبعيض، فكان الواجب القول به لولا معارضة ما دل على وجوب مسح جميع الوجه من السنة أو الإجماع، فقوي على هذا مذهب الشافعية بعض القوة. وهذا شيء عرض، والمقصود أن هذا الموضع من كلام ابن مالك يعضد ما ذهب إليه الشافعية من إثبات معنى التبعيض على الجملة.

وأما كون الباء بمعنى (عن) وواقعة موقعها فأكثر ما يكون مع السؤال إذا قلت: سألت به، فإنه في معنى سألت عنه. ومنه قوله تعالى:{فاسأل به خبيرًا} أي: عنه. ومنه قول علقمة بن عبدة:

فإن تسألوني بالنساء فإنني

بصير بأدواء النساء طبيب

وقال ابن أحمر، واسمه عمرو:

تسائل بابن أحمر من رآه

أعارت عنه أم لم تعارا

ص: 639

وقال الأخطل:

دع المغمر لا تسأل بمصرعه

وسل بمصقلة الكبرى ما فعلا

وقال مالك بن حريم، أو خريم أو خزيم الهمداني:

ولا يسأل الضيف الغريب إذا شتا

بما زجرت قدري له حين ودعا

وقد تقع موقع (عن) في غير السؤال. ومنه في القرآن: {ويوم تشقق السماء بالغمام} . قال في الشرح: أي عن الغمام. وكذلك قال في قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} : "أي وعن أيمانهم". ويقوي ذلك الآية الأخرى: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم

ص: 640

وعن شمائلهم}. فإن الباء هنا أعطت من المعنى ما أعطته (عن) هنالك.

فإن قيل: فإن الباء على قسمين: زائدة، وغير زائدٍة، ومواضع الزائدة كثيرة قياسية، وغير قياسية، فلم لم يذكر قسم الزائدة هنا، كما ذكر قسم (من) الزائدة، واللام الزائدة، وغيرهما.

فالجواب: أنه قد تقدم له ذلك في باب ما ولا وإن المشبهات بليس، فذكر هنالك المواضع القياسية وما لحق بها، والذي لم يذكره من ذلك إنما هو نادر أو شاذ، نحو قوله عز وجل:{تنبت بالدهن} على قراءة ابن كثير. وقوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} على احتماٍل. وفي قراءة أبي جعفر: {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} .

ومن ذلك في الشعر قول قيس بن زهير:

/ ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

ص: 641

وقول الآخر:

فكفى بنا فضلًا على من غيرنا

حب النبي محمٍد إيانا

إلى أشياء من هذا القبيل لا يقاس عليها، وقد زيدت أيضًا قياسًا في أفعل به في التعجب، وقد وقعت الإشارة إليه في بابه فلم يحتج إلى ذكر شيء من ذلك هنا.

ثم أعلم أن هنا نظرًا من وجهين:

أحدهما: أن هذه المواضع التي توضع فيها الحروف بعضها مكان بعض ظاهر مستنكر؛ وذلك أنه قد تقرر في الحروف أنها لا تتصرف وتلزم مواضعها التي وضعت فيها، وكون الحرف يخرج عن أصل معناه فيضمن معنى حرف آخر حتى يوضع في موضعه تصرف ظاهر، فالواجب فيما كان ظاهره هذا ألا يرسل القول فيه إرسالًا، وألا يقال بظاهره إلا إذا دعت إليه ضرورة، ولم يوجد عنه ملتحد. وأما إذا لم تضم إليه ضرورة فلا ينبغي أن يحمل على ظاهره حتى يعطى من التأمل حقه، ومن القياس ما يسوغه، وقد وجدنا هذه المواضع التي استشهد بها محتملة لخلاف ما قال الناظم، ومن وافقه هو. وإثبات معنى لكلمٍة ما بالمحتمل لا يسوغ؛ لأنه تقول على كتاب الله، وكلام العرب، وذلك أن هذا الاتساع بوضع الكلم بعضها مكان بعض أولى أن ينسب إلى الأفعال التي لها التصرف بحق الأصل بحيث يصير الفعل إلى معنى فعل آخر، فيبقى الحرف على وضعه الأصلي، فإن الحمل على المعنى في الأفعال سنن واضح، وأمر

ص: 642

مستعمل كثيرًا جدًا، مناسب في القياس، فإذا ساغ ذلك في الأفعال فلا يصح أن ينسب إلى الحروف، ولابن جني في "الخصائص" فصل بين فيه هذا المعنى وأظهر وجه الصنعة فيه فقال ما معناه: إن الفعل إذا كان في معنى فعٍل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف جر، والثاني: بحرف جر آخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع الآخر مجازًا وإيذانًا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، كما صححوا عور وحول إيذانًا بأنهما بمعنى أعور وأحول، واجتوروا إشعارًا بأنه بمعنى تجاوروا، وكان جاءوا بمصادر بعض الأفعال على غير ما يقتضيه القياس حملًا لذلك الفعل على فعٍل هو في معناه كقوله:

* فإن شئتم تعاودنا عوادًا *

وكان القياس تعاودًا، فجاء به على عاود؛ إذ كان تعاود راجعًا إلى معنى عاود، وكذلك قول القطامي:

* وليس بأن تتبعه إتباعا *

والقياس تتبعًا، ولكن لما كان تتبع يؤول إلى معنى اتبع حمله عليه، وكذلك وجدناهم يحملون الشيء على الشيء إذا كان بينهما علقة لفظية أو معنوية، فاللفظية كحملهم تعد، ونعد، وأعد على يعد في حذف الواو، وتكرم،

ص: 643

ونكرم، ويكرم على أكرم في حذف الهمزة.

وأما المعنوية: فكقول أبي كبيٍر الهذلي:

ما إن يمس الأرض إلا منكب

منه وحرف الساق طي المحمل

لأن قوله: (ما إن يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق) يفيد أنه طاٍو، فأنابه لذلك مناب الفعل لو ذكره، فصار كقوله: طوى (طي المحمل).

ولهذا نظائر كثيرة في كلامهم، فكذلك حملوا بعض هذه/ الحروف على بعض لتساوي المعاني وتداخلها، أعني معاني الأفعال التي تعلقت الحروف بها.

ثم ذكر من هذا الباب أمثلة كثيرة رد فيها الحروف إلى أصول معانيها بكون أفعالها في معنى أفعاٍل أخر، وكان هذا عنده أولى من إثبات معنى لحرٍف لم يثبت فيه من استقراء صحيح. وهذا الأصل جاٍر فيما تقدم من الأمثلة في وقوع الباء موقع مع، أو عن، أو من.

أما قولهم: "المرء بأصغريه". فمعنى الإلصاق فيه ظاهر؛ لأن المعنى موجود أو كائن بهما، فقد ألصق وجوده بهما، كما كان معنى مررت بزيٍد: ألصقت مروري بزيد، وكذلك قولهم: ذهبت بزيد، أي ألصقت ذهابي به، وخرجت بثيابي، على معنى ملتبسًا بها، فالمجرور في موضع الحال، ولو نطق بذلك كان الإلصاق فيها ظاهرًا. وأما قول الله تعالى:{قد جاءكم الرسول بالحق}

ص: 644

فالمجرور في موضع نصٍب على الحال؛ إذ هو حال من الفاعل وحدة، ولو كان من الفاعل والمفعول معًا لصح تعلقه بالفعل الظاهر، فلا يكون في موضع الحال بناء على ما تقرر قبل في باب الحال، وإذا كان كذلك كان التقدير: آتيًا أو ملتبسًا بالحق، فتخرج الباء إلى معنى الإلصاق والاختلاط، وكذلك الباء في قوله:{اهبط بسلاٍم منا} . و {تنبت بالدهن. وسائر ما جاء في الباب من ذلك. وعلى هذا النحو أو ما يرجع إليه يتخرج كونها بمعنى (من) أو (عن) من غير استحداث معنى لم يتقرر بعد؛ فإذًا ما ارتكب الناظم غير مخلص.

والثاني من النظرين: أن ظاهر هذا الكلام أن وضع الباء موضع هذه الحروف مقول أو معمول به قياسًا؛ لقوله: (ومثل مع ومن وعن بها انطق) أي ضعها في وضع هذه الحروف، واستعملها فيها من غير قيد، وهذا غير صحيٍح. ألا ترى أنك لا تقول: جعلت يزيٍد رفيقًا، بمعنى جعلت معه رفيقًا، ولا: وضعت درهمي بالدراهم، تريد مع الدراهم، ولا: سيرت زيدًا بالبريد، تريد مع البريد، ولا: زيد بعمرو، تريد مع عمرو، وتقول: الله معك، كما قال الله تعالى:{والله معكم} . {وهو معكم أينما كنتم} ، ولا يصح أن تقول: الله بك.

فإن قيل: إنما منع هذا للإبهام.

قيل: إن سلم فالوجه الآخر مانع أيضًا. وهو الشامل لها، وذلك أن هذه المواضع التي استشهد بها المؤلف على تلك المعاني، وإن كان فيها كثرة لم تبلغ مبلغ أن يقاس عليها غيرها، وكذلك جميع ما يذكره من هذا اللفظ لا يبلغ مبلغ القياس، فلا يقال منه إلا ما سمع، بخلاف المعاني الأصلية التي أثبتها

ص: 645

الأئمة - سيبويه، وغيره - فإن القياس جاٍر فيها، وما ذكر في الباء بمعنى (مع) مقول في التي بمعنى (عن) و (من)؛ إذ لا يقال: أعرضت بفلان، تريد: أعرضت عنه، ولا: نبت به، بمعنى: نبت عنه، ولا: رضيت به، بمعنى: / رضيت عنه، وكذلك لا تقول: أكلت بالرغيف، تريد: من الرغيف، ولا: أنفقت بالدراهم، تريد: من الدراهم، وهذا كله واضح، فما أطلق فيه من القياس غير مستقيم، أو يلتزم القول بقياس هذه الأمثلة، وهو غير صحيٍح.

والجواب عن الأول: أن هذا الموضع مختلف فيه بين النحويين، فأجازه قوم أكثرهم الكوفيون، ومنع منه قوم أكثرهم البصريون والخلاف راجع إلى تحقيق أصٍل، وذلك أن أهل البلدين متفقون على أنه موقوف على السماع؛ إذ المجيزون لا يجيزونه في كل موضع، والمانعون إنما سوغوا التأويل فيما سمع، وهم لا يجيزون مثل ذلك على ذلك التأويل، وأيضًا الحمل على المعنى لا يقاس في كل موضع، ولم يعدوا هذا الموضع مما يقاس.

وإذا ثبت هذا، وكان ما ورد من وقوع الحروف في مواضع أخر لم يكثر كثرة يعتد بها في القياس رده المانعون إلى أصل آخر لاحتماله، ولم يعتبر المجيزون ذلك الاحتمال أخذًا بالظاهر، وعملًا بالظن في أن تلك الحروف قد أدت تلك المعاني، كما أدت معانيها المتفق عليها، فكأن الباء مثلًا مرادفة لمع في معنى (مع) ولمن وعن في معناهما في الاستعمال، إلا أنهم لم يبلغوا الأصل الذي اعتبره المانعون جملة؛ بل جعلوا الحرف منسوبًا إلى الحرف، فقالوا: الباء تأتي بمعنى (من) مثلًا، ولم يقولوا: إن الباء ومن تأتيان للتبعيض؛ إعلامًا - والله أعلم - بأن معنى التبعيض في

ص: 646

الباء دخيل غير أصيٍل، ويشهد لذلك عدم كثرته، وقصوره عن بلوغ ما يقاس عليه حتى إنه لو فرض كثيرًا شهيرًا لما نسبوه إلى الحرف، بل نسبوا الحرفين معًا إلى المعنى، كما قال المؤلف في إلى واللام إنهما معًا لانتهاء الغاية، ولم يقل إن (وإلى) لانتهاء الغاية، واللام بمعنى إلى، كما قال هنا: إن الباء بمعنى مع، وكذا؛ إيذانًا بأصالة اللام عنده في ذلك، وعدم أصالة الباء فيه.

وعلى هذا المهيع يجري سائر ما ذكروا من ذلك، فاعتبروا الحال الظاهرة، فأثبتوا من المعاني ما شهدت لهم به، ولم يهملوا الأصالة والفرعية، فبينوها بإشارة لطيفة يهتدي إليها الذكي.

فهذا هو الذي اعتمد عليه الناظم، وقد بان وجهه، وزال بعده، ولم يبق فيه إلا أن يقال: إن هذا التصرف غير لائق بالحروف، وهم قد نسبوها إليها؛ إذ قد عوض بعضها من بعض، ولم يجعلوا ذلك منسوبًا إلى الأفعال، فيقال: لا ينكر في الحروف تعويض بعضها من بعض، فقد عوضوا همزة القطع، وهمزة الاستفهام من حرف القسم في اسم الله فقالوا: الله لأفعلن، والله؟ وعوضوا الواو من رب في قولهم:

* وبلدٍة ليس بها أنيس *

وعوضوا لم ولن من ما. فقال الأعشي:

* أجدك لم تغتمض ليلة *

ص: 647

أراد: ما تغتمض؛ لأن (لم تغتمض) في موضع الحال، و (لم) لنفي الماضي، فالمناسبة لنفي الحال (ما) الموضوعة لذلك. وقال الآخر:

* أجلدك لن ترى بثعيلباتٍ *

أراد: ما ترى؛ لأن (لن) لا تنفي الحال، فهي إذًا في موضع (ما) النافية للحال، هذا كله من وقوع حرف المعنى عوض حرف المعنى على الجملة، وقد عوضوا الحرف من الاسم والفعل/ والجمل، والكلام في ذلك يطول، وكله تصرف في الحرف؛ لأنه إذا عوض من شيء فقد وقع التصرف فيه، كما أنه إذا عوض منه حرف مثله فذلك أيضًا تصرف فيه، لكن مثل هذا لا يعد تصرفًا يوازن تصرف الأفعال.

وإذا أردت الاطلاع على وقوع الحرف موضع غيره، فطالع كتاب "التعاقب" لابن جني، ففيه شفاء الغليل، وإذا كان كذلك حصل الأنس بوقوع بعض حروف الجر موقع بعٍض لوجود النظائر.

والجواب عن الثاني: أن الناظم يمكن أن يكون قصد تخصيص بعض المواضع الممكن فيها القياس لا جميع المواضع، وذلك أن وقوع الباء في موضع أحد هذه الأحرف على ضريين:

أحدهما: ما لا يصح فيه القياس، وذلك ما لا يرتبط إلى قياٍس مخصوص، ولا موضٍع معلوٍم من المواضع التي تقع فيها تلك الأحرف، فهذا لا يصح أن تجري فيه الباء مجراهن؛ إذ يلزم أن تساويهن في الاستعمال، وقد فرضناها فرعًا

ص: 648

عنهن، والفرع لا يقوي قوة الأصل حسب ما تقرر في الأصول العربية. ومن هنالك امتنعت المسائل المعترض بها، فلا بد إذًا أن يكون الفرع قاصرًا وهو الباء عن أصله الذي هو هذه الأحرف في الاستعمال، فلا يستعمل إلا في بعض المواضع التي تصلح فيها هذه الأحرف، كما قصر اسم الفاعل أن يقع في العمل في جميع مواقع الفعل، والصفة المشبهة أن تقع في جميع مواقع اسم الفاعل، وما الحجازية أن تعمل عمل ليس بإطلاٍق، وكذلك جميع النظائر.

فإذًا إن صح في الباء أن تقع قياسًا في بعض مواضع هذه الأحرف، صح كلامه وإلا فحينئذ يلزمه السؤال، وترد عليه الشناعة، وقد وجدنا فيها مواضع يصح القياس فيها، أما في وقوعها موقع (مع) فبين؛ لأنه فسر المواضع بباء المصاحبة، وباء المصاحبة قد أتى بها القياس في جملة أنواع الباء.

فإذا قلت: جاء زيد بثيابه، وخرج بأخيه، وأتى بالحق، وما أشبه ذلك مما في معناه مما يعطى المصاحبة كان صحيحًا، ولم يشكل قياسه بخلاف:

جعلت بزيد رفيقًا، ونحوه فإنهما لا تفهم من المصاحبة ما تفهم الباء في: جاء زيد بثيابه.

وأما في وقوعها موقع (من) فحيث كان الفعل في معنى الشرب ونحوه، كما مر في الأمثلة بخلاف ما إذا تعدى بها ذلك الموضع كالمثل المعترض بها.

وأما في وقوعها موقع (عن) فحيث وجد معنى السؤال كالأمثلة المذكورة ونحوها بخلاف ما اعترض به.

ص: 649

وإن وجد لها موضع آخر مثل هذا لم يلزم في القياس محظور، ولم يتأت فيه نزاع؛ لأن ذلك في الحقيقة راجع إلى استعمال موضع السماع على نحٍو مما سمع لا التزام عين ما سمع.

وهذا ظاهر لا خفاء به، وإذا ثبت هذا انكسرت سورة الاعتراض، وظهر وجه هذا الأغراض، وبالله التوفيق.

ثم قال الناظم:

على للاستعلا ومعنى في وعن

بعن تجاوزا عني من قد فطن

وقد تجي موضع (بعٍد) وعلى

كما على موضع عن قد جعلا

أما (على) فذكر لها ثلاثة معان هنا، وبين بعد هذا أن على وعن يقعان اسمين: أحدها: أن تكون للاستعلاء، وذلك قوله:(على للاستعلا) بمعنى أن ما يقع مجرورًا بها مستعلى عليه، إما حسا، كقولك: صعدت على الحائط، وجلست على الحصير، وصليت على الأرض. وفي القرآن:{كل من عليها فاٍن} {وعليها وعلى الفلك تحملون} ، وهو كثير.

وإما معنى كقولهم: عظم علي الأمر، وضاقت علي الأرض، وسهل علي الأمر، وصعب علي.

ص: 650

قال سيبويه: "وأما: مررت على فلاٍن، فجرى هذا كالمثل، وعلينا أمير كقولك: وعليه مال؛ وهذا لأنه شيء قد اعتلاه" قال: "وتقول: عليه مال، وهذا كالمثل، كما يثبت الشيء على المكان كذلك يثبت هذا عليه". وفي القرآن {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} . {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} " {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} . وأنشد سيبويه للنمر بن تولب.

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر

والثاني من معاني (على) أن تقع موقع (في) الظرفية، وذلك قوله:(ومعنى في) وهو معطوف على الاستعلاء، أي: ولمعنى (في)، وذلك قولك: كان هذا على عهد فلان، تقديره في عهد فلان. وفي القرآن:{واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} . {ودخل المدينة على حين غفلٍة من أهلها} . {يبين لكم على فترٍة من الرسل} . وأنشد سيبويه:

ص: 651

يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم

ويخرجن من دارين بجر الحقائب

على حين ألهى الناس جل أمورهم

فندلًا زريق المال ندل الثعالب

والثالث: أن يكون بمعنى (عن) أي: تسد مسدها في معنى المجاوزة الذي يذكره، ومثال ذلك: بعد علي المكان، وتعذر عليه الأمر، وأبطأ عليه، وخفي علي مكانك. ومنه أيضًا قول القحيف العقيلي:

إذا رضيت علي بنو قشيٍر

لعمر الله أعجبني رضاها

فـ (على) في هذه المواضع بمعنى (عن) لصحة وقوعها موقعها، فتقول: بعد عنه، وتعذر عنه، وأبطأ عنه، وخفي عنه، ورضيت عني بنو قشير، وأنشد سيبويه:

أرمي عليها وهي فرع أجمع

وهي ثلاث أذرٍع وإصبع

التقدير: أرمي عنها، لقولهم: رميت عن القوس.

وقال ذو الإصبع العدواني:

لم تعقلا جفوة علي ولم

أوذ صديقًا ولم أنل طمعا

ص: 652

يريد عني.

وقال دوسر بن غسان اليربوعي:

إذا ما أمرؤ ولى علي بوده

وأدبر لما يصدر بإدباره ودي

أي: ولى عني.

فإن قيل: فأين جريان القياس في وقوع (على) موقع (في) و (عن)؟

فالجواب: إن القياس جاٍر في بعض ما تقدم في التمثيل:

أما في وقوعها موقع (في) فحيث يكون الموضع تاريٍخ وتعيين وقت، فيؤتى بالزمان كقوله:{على حين غفلة} . أو بمصدر يقدر معه الزمان كقوله: على عهد فلاٍن، إذ المعنى: على حين عهد فلان، وعلى/ وقت كذا، فلا يمنع هنا القياس.

وأما في وقوعها موقع (عن) فقد قال في الشرح: واستعمالها للمجاوزة كوقوعها بعد: بعد، وخفي، وتعذر، واستحال" وأشباه ذلك من: أبطأ، وأحال، وولى نحوها، فهذه المواضع قد يسوغ قياسها. والله أعلم.

ثم قال: (بعن تجاوزًا عنى من قد فطن)

إلى آخره. أتى لعن أيضًا بثلاثة معاٍن:

أحدها: وهو الأصل: أن تكون للمجاوزة، بمعنى أن مجرورها مجاوز أو مجاوز، نحو قولك: صددت عن زيٍد، وأعرضت عنه، ووليت عنه،

ص: 653

فالمعنى: جاوزته بهذه الأشياء، وكذلك أضربت عنه، وانحرفت عنه، وعدلت عنه ورحلت عنه، وغفلت عنه، وسهوت عنه. قال سيبويه:"وأما (عن) فلما عدا الشيء، وذلك قولك: أطعمه عن رجوٍع، جعل الجوع منصرفًا تاركًا له قد جاوزه. وقال: سقاه عن العيمة، وكساه عن العري، جعلهما قد تراخيا عنه، ورميت عن القوس؛ لأنه بها قذف سهمه عنها وعداها".

قال: "وتقول: جلس عن يمينه، فجعله متراخيًا عن بدنه وجعله في المكان الذي بحيال يمينه. وتقول: أضربت عنه، وأعرضت عنه، وإنما تريد أنه تراخى عنه وجاوزه إلى غيره". قال: "وتقول: أخذت عنه حديثًا، أي عدا منه إلى حديث" انتهى كلام سيبويه، وإنما أتيت به شرحًا لمعنى المجاوزة، وبسطًا له، وردا للمواضع المختلفة في (عن) إلى هذا المعنى (الأصيل، وكان الناظم إلى هذا المعنى أشار، أي أن التجاوز في (عن) هو المعنى) المعني المقصود المطرد، و (من قد فطن) يمكن أن يريد به العرب، يعني أن التجاوز هو الذي وضعت العرب له هذا اللفظ.

والفطنة كالفهم، فطنت للشيء بمعنى فهمته، وفي التعبير بـ (من قد فطن) هنا عن العرب بعد ما، ويمكن أن يريد بذلك النحويين: سيبويه،

ص: 654

ومن حواليه؛ لأنهم الذين فطنوا لمقاصد العرب في (عن)، وأنها للمجاوزة في جميع تصرفاتها، أو أكثرها.

والثاني: من معانيها أن تأتي بمعنى (بعد)، وهو قوله:(وقد تجي موضع بعد) يعنى أنها قد تأتي قليلًا واقعة موقع (بعد) التي هي ظرف الزمان، كقولك: عن قليل يندم زيد. وفي القرآن الكريم: {عما قليل ليصبحن نادمين} . فالمعنى بعد قليل يكون كذا، وكذلك قوله:{لتركبن طبقًا عن طبق} . معناه: حالا بعد حال. وقال الحارث بن عباد:

قربا مربط النعامة مني

لقحت حرب وائل عن حيال

أي: بعد حيال، والمعنى: حملت بعد أن كانت تضرب فلا تحمل. وقد امرؤ ألقيس:

ويضحي فتيت المسك فوق فراشها

نؤوم الضحى لم تنطق عن تفضل

وقال العجاج:

ومنهل وردته عن منهل

قفرين هذا ثم ذا لم يوهل

ص: 655

وقال النابغة الجعدي:

واسأل بهم أسدًا إذا جعلت

حرب العدو تشول عن عقم

فـ (عن) في هذه الأبيات بمعنى (بعد)، وهو قليل، كما قال؛ فلذلك لا يطالب هنا بالقياس في وضع (عن) موضع (بعد)، وكذلك في وضعها موضع (على)؛ لأنه قد قيد مجيئها كذلك بالقلة.

/ وأعلم أن وقوع (عن) في موضع (بعد) إما أن يكون بالنيابة، كما تنوب مثلًا واو (رب) عن (رب) من غير أن تضمن معناها، وكما تنوب (يا) عن (أنادي).

و(أما) في نحو:

*

أما أنت ذا نفر*

عن الفعل.

وإما أن يكون على أن تفيد معناها بنفسها لا أنها نائبة، فإن كان الأول فلا إشكال في صحة حرفية (عن) عند ذلك، إلا أن ظاهر النقل إن (عن) هي المودية لمعنى (بعد)، وحينئذ يلزم أن تكون اسمًا لا حرفًا؛ إذ الحرف إنما يؤدي معنى الاسم، ولم يعهد في كلام العرب أن يرادف الحرف- وهو حرف- الاسم، بل إذا أدى معنى الاسم صار اسمًا؛ ولذلك لما دخل على (عن، و (على) حرف الجر صارا اسمين مرادفين لناحية،

ص: 656

وفوق، وكذلك الكاف لما صارت اسمًا صار معناها معنى مثل، لا معنى التشبيه. ومثله: مذ ومنذ، وغيرها، وهذا أيضا بعينه لازم في الباء التي بمعنى (مع (؛ لأن (مع) اسم، والباء مودية معناها فهي مرادفة له، فيلزم أن يكون اسمًا، وإذا كان الأمر كذلك فالناظم كان من حقه أن يذكر ذلك كما ذكر الاسمية في (مذ)، و (منذ)، و (عن)، و (على) لكن لم يذكر ذلك، فيوهم أن (عن) إذا أدت معنى (بعد)، أو الباء إذا أدت معنى (مع) باقيتان على حرفيتهما. والقاعدة تأبى ذلك.

فإن قيل: بل الظاهر البقاء على الحرفية- كما يشير إليه كلامه- ولا يلزم إذا أدى الحرف معنى الاسم أن يصير اسمًا، وإنما يلزم القول بأسمية الحرف إذا دخلت عليه خاصة من خواص الاسم، كحرف الجر، ووقوعه جزء الكلام. والدليل على أن دلالة الحرف على معنى الاسم لا يصير الحرف اسمًا أنه لو كان كذلك لصارت الواو التي بمعنى (مع) اسمًا، ولم يقل بذلك أحد من أهل البلدين، ولوجب أن يكون اسم الفعل فعلًا؛ لدلالته على معنى الفعل، ولكان الاسم المتضمن لمعنى الحرف حرفًا؛ لدلالته على معنى الحرف، فلما لم يكن ذلك لازمًا لم يلزم أيضا أن تكون (عن)، والباء في مسألتنا اسمين حتى يكون ثم خاصة دالة على ذلك، وليست بموجودة، فلا تخرجان عن أصلهما من الحرفية بذلك.

فالجواب: أن النحويين قد جعلوا الدلالة على معنى الاسم علامة على الاسمية، وابن مالك واحد منهم، فإنه قال في التسهيل حين عدد ما يعرف به الاسم، فقال:"وبموافقة ثابت الاسمية في لفظ أو معنى" ولم يقتصر على الخواص اللفظية، ومن هناك حكيم على (سبحان) ونحوه بالاسمية؛ إذ هو بمعنى

ص: 657

الاسم الذي هو البراءة، وكذلك (قد) جعلوه اسمًا في نحو: قدك درهم؛ لأنه بمعنى حسبك درهم.

وكذلك استدل على أن "كيف" اسم بإبدال الاسم منه، وهو راجع إلى موافقتها إياه في المعنى، وكذلك اعتبر الناظم في هذا النظم المرادف بمرادفه، فجعل دخول الألف واللام في المرادف دليلًا على كون الآخر معرفة في قوله:

نكره قابل (أل) مؤثرًا

أو واقع موقع ما قد ذكرا

وهذا مشعر بصحة الاعتبار/ بالمرادف وأنه إذا ثبت لأحدهما حكم ثبت للآخر، وإذا كان كذلك فالسؤال وارد أولًا. وأما إلزام اسميه الواو التي بمعنى (مع)، وفعلية اسم الفعل، وحرفية الأسماء المتضمنة معنى الحرف فنقول بموجبه لو لم يكن ثم معارض، وقد ثبت المعارض، فإن المعارض في الواو ثابت عنده وهو أنه ليس في الأسماء ما هو على حرف واحد إلا وموقعه موقع العجز لا موقع الصدر، كتاء الضمير، وبائه، وإنما يقع موقع الصدر ما هو حرف كباء الجر ولامه، فلو حكم على الواو المذكورة بالاسمية لزم عدم النظير، وهذا- وإن كان فيه نظر- فهو على الجملة صحيح- أعني وجود المعارض- ولوجود المعارض حكيم على أسماء الأفعال بالاسمية، وعلى أسماء الشرط، والاستفهام بالاسمية لوجود خواص الاسم، وفقد خواص الفعل والحرف ما عدا الدلالة على المعنى. قال ابن مالك: والدلالة اللفظية أقوى من المعنوية، فإذا بنينا على طريقة ابن مالك في هذا قلنا في الباء: إنها لم تخرج عن الحرفية لوجود المعارض في دعوى الاسمية، وهو

ص: 658

المعارض في الواو المتقدمة.

وأما (عن) فيلتزم أنها حينئذٍ اسم، ويجوز دخول (من) عليها عند ذلك ويدخل تحت قوله بعد (واستعمل اسمًا) - يعنى الكاف- (وكذا عن وعلى) إلى آخره، فتقول من مواضع استعمال (عن) اسمًا أن يكون بمعنى (بعد)، والذي يرد عليه في كلامه في الواو أن الكاف قد صحت أسميتها، وهي على حرف واحد غير واقعة موقع العجز، لكن له أن يقول: لم يتعارض هنا أمر لفظي وأمر معنوي، بل أمران لفظيان، وهو كون الكاف على حرف واحد- وليست في العجز، ودخول الحروف الجارة، ووقوعها فاعلة، ومفعولة. وليس أحدهما أولى بالاعتبار من الأخر إلا من حيث الترجيح، ونحن وجدنا من الأسماء ما هو على حرف واحد في الجملة، ولم نجد ما دخل عليه شيء من الخواص اللفظية، فلم نحكم بالاسمية، فرجحنا ما له نظير على الجملة على ما ليس له نظير البتة، فحكمنا باسمية الكاف الجارة، وإن وقعت على حرف واحد صدرًا؛ لأن لها نظيرًا من الأسماء في وقوعها على حرف واحد، ولم نحكم بالحرفية؛ إذ لم نجد حرفًا يدخل عليه حرف الجر لغير معنى التوكيد كقوله:

"ولا للما بهم أبدًا دواء*

فثبت على هذا أن الباء التي بمعنى (مع) حرف كواو المصاحبة تغليبًا للحكم اللفظي على المعنوي، وأن (عن) التي بمعنى (بعد) اسم؛ إذ لا معارض للاسمية فيه، كما أنه لا معارض لدعوى الاسمية في (قد) بمعنى حسب، إلا أن أخذ ذلك من كلام الناظم هنا هو من حيث سكت في الباء عن التنبيه، وحكم على (عن) بها بعد هذا.

وهذا كله تكلف، والصواب ألا يحكم على (عن) بالاسمية إلا مع دخول (من)

ص: 659

لا دونها، فعن التي بمعنى (بعد) إذا لم يدخل عليها (من) لا يحكم عليها بالاسمية. فالأولى في هذا الموضع أن يقال: إنما تدعي الاسمية في الكلمة إذا وجدت فيها خواص/ الاسم كان معناها معنى الاسم أو معنى الحرف، وإذا لم يوجد فيها شيء من ذلك، فالمدعي فيها الحرفية كان معناها معنى الاسم أو معنى الحرف، هذه طريقة المحققين.

وقد سمعت شيخنا القاضي أبو القاسم الحسني- رحمه الله ووقع الكلام في الفرق بين (من) و (بعض) في قولهم: أكلت من الرغيف، وأكلت بعض الرغيف: لا فرق بينهما أصلًا إلا من جهة جريان أحكام الأسماء على (بعض) من وقوعها فاعلة، ومفعولة، ودخول الجر، والتنوين فيها، وغير ذلك، وعدم ذلك في (من). وأما من جهة المعنى فهما واحد. وكذا قال الشلوبين في كلامه على جملة من الأسماء المبنية بحق الأصل: أنها لا فرق بينها وبين الحروف إلا في الأحكام، وإذا كان كذلك لم يكن في وقوع (عن) بمعنى (بعد) دليل على الاسمية، إلا أن كان ثم دليل لفظي، وإلا فهي حرف لا غير، وهو أدرى على كلامه هنا. والله اعلم.

والثالث: من معاني (عن) أن تأتي بمعنى (على) - يعني للاستعلاء- وذلك قوله: (وعلى) وهو معطوف على (بعد)، والمعنى أنها تجئ في موضع (على) قليلًا مؤدية معناها، ومثال ذلك قول ذي الإصبح العدواني:

لا ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ

عني ولا أنت دياني فتخزوني

ص: 660

أراد: لا أفضلت علي؛ لأن المعنى لا تفضل في الحسب علي من قولهم: أفضلت على الرجل إذا أوليته فضلًا. وقال قيس بن الخطيم:

لو أنك تلقي حنظلًا فوق بيضنا

تدحرج عن ذي سامه المتقارب

أي: على ذي سامه المتقارب.

وقوله: (كما على موضع عن قد جعيلا) يعني أن (عن) وضعت موضع (على) في نحو هذه الأمثلة كما وضعت (على) موضع (عن) في قوله:

* إذا رضيت علي بنو قشير*

ونحوه مما مر ذكره، حملت إحداهما على الأخرى، فكان بينهما ضرب من التكافؤ، وحذف الهمزة من (تجئ)، وهي لغة لبعض العرب يحذفون الهمزة من يجئ ويسوء، فأتى بتجي في هذا النظم على تلك اللغة القليلة.

ثم قال الناظم:

شبه بكافٍ، وبها التعليل قد

يعني وزائدًا لتوكيد ورد

واستعمل اسمًا، وكذا عن وعلى

من أجل ذا عليهما (من) دخلا

ذكر للكاف قسمين أولين: الزيادة، وعدم الزيادة، وذكر لها في عدم الزيادة معنيين:

ص: 661

أحدهما: التشبيه، وذلك قوله:(شبه بكاف) يريد أن الكاف تقع للتشبيه، بمعنى أن المجرور بها مشبه به، كقولك: زيد كالأسد، وهنا كالبدر. وفي القرآن:{أو كصيب من السماء} {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر} {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} . وهو كثير.

والثاني: التعليل، وذلك قوله:(وبها التعليل قد يعني) الضمير في (بها) للكاف، وكذلك في قوله:(وزائدًا لتوكيد ورد) للكاف أيضًا، لكنه أتى بالأول مؤنثًا على معنى الكلمة، أو اللفظة. وبالثاني مذكرًا على معنى الحرف /313/ أو اللفظ؛ إذ/ الحرف يؤنث ويذكر، ويريد أن الكاف قد تأتي قليلًا مؤدية معنى التعليل، كاللام، والباء، وذلك قولك: زرني كما أحسنت إليك. وفي التنزيل الكريم: {واذكروه كما هداكم} . وقال الأخفش في قوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم} . الآية. إن التقدير والمعنى: "كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم فاذكروني، أي كما فعلت هذا فاذكروني، واشكروا لي"، وهو معنى كلام الفراء فيها؛ إذ قال: الكاف تكون شرطًا. تقول: كما أحسنت إليك فأحسن؛ لأنها يدخلها معنى إذ، ولذلك دخلت الفاء.

ص: 662

وحكي سيبويه: كما أنه لا يعلم ذلك، فتجاوز الله عنه.

ثم قال الناظم: (وزائدًا لتوكيد ورد). هذا هو القسم الثاني من قسمي الكاف، يعني أن الكاف تأتي زائدة لمعنى التوكيد في كلام العرب. مثال ذلك قوله تعالى:{ليس كمثله شيء} . لأن المعنى: ليس مثله شيء، ولا يجوز أن تكون هنا غير زائدة؛ لأنه يؤدي معنى أثبات مثل ينفي عنه المثل، وذلك محال مبني على مجال آخر. وقال تعالى {وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون}. ويمكن أن يكون من ذلك قوله:{مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} . وأشباهه. وحكي الفراء قال: قيل لبعض العرب كيف تصنعون الأقط؟ قال: كهين، يريد هينا، فزاد الكاف. وقال رؤية:

* لو أحق الأقراب فيها كالمفق*

المعنى فيها المفق، وهو الطول. وقال خطام المجاشعي، أنشده سيبويه:

* وصاليات ككما يؤثفين*

ص: 663

الكاف الأولى حرف زائد. وقال الآخر:

* فصيروا مثل كعصف مأكول*

ثم قال: (واستعمل اسمًا) يعني أن العرب استعملت الكاف المذكورة اسمًا لا حرفًا دل على ذلك الدليل؛ لأن الأصل فيها الحرفية، لكن لما قام على أسميتها الدليل قيل بها.

وفي قوله: (واستعمل اسمًا) إحالة على كلام العرب، وأنه لم يطلق القول باسميتها قياسًا، بل أخبر عن السماع، وذلك يشعر عنده بأنه أقلي وموقوف على السماع. وفي المسألة ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها حرف مطلقًا، ولا يكون اسمًا إلا في الشعر.

والثاني: أنها اسم مطلقًا، وهذا مذهب الأخفش. والأول رأي سيبويه

ص: 664

والجمهور.

والثالث: أنها أكثر ما تكون اسمًا في الشعر، وأقل ما تكون اسمًا في الكلام، وهذا مذهب ابن أبي الربيع، ونحوه نحا الناظم.

أما مذهب الأخفش فرد بأمرين:

أحدهما: وقوعها صلة في نحو: أعجبني الذي كزيدٍ، وهو كثير جدًا.

ووجه الدليل: أن الصلة محصورة في أربعة أشياء، وهي إما جملة اسمية، أو جملة فعلية، أو ظرف، أو جار ومجرور. وقولك (كزيدٍ) في صلة (الذي) قد انتقي عنه أن يكون واحدًا من الثلاثة الأول، فتعين الرابع، وذلك يقضي بالحرفية.

فإن قيل: إنها في الصلة اسم مبني على مبدأ محذوف تقديره: أعجبني الذي هو كزيد.

أجيب: بأن حذف المبدأ/ من صلة (الذي) مع عدم الطول قليل جدَا، ووقوع الكاف صلة للذي مطرد كثير، فكثرة هذا، وقلة ذاك دليل على أنها حرف في الصلة.

والثاني: قول الله تعالى: {ليس كمثله شيء} . ووجه ذلك أنه إن قال باسميه الكاف مطلقًا لزم أن تكون في الآية غير زائدةٍ؛ لامتناع زيادة الأسماء عنده. والقول بذلك يؤدي إلى ما هو كفر؛ لأن تقديره على ها: ليس مثل مثله شيء، وهذا إثبات مثل لله- تعالى عن ذلك- وذلك لمن يقول به كفر صراح، فلزم إذا أن تكون زيادة للتوكيد، وإذا لزمت الزيادة تعينت الحرفية على الأصل الذي قال به البصريون.

ص: 665

وأما مذهب سيبويه: فإنه أتبنى على ما سمع، ولم تثبت أسميتها، إلا في الشعر، فقال بذلك.

وأما الناظم، ومن قال بقوله، فإنه لما رأي ذلك قد جاء في الكلام، وإن كان قليلًا، وذلك كقول الله تعالى:{إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير} . فالكاف هنا مفعولة بأخلق؛ لأن المعنى: أنى أخلق لكم من الطين مثل هيئة الطير، وذلك يقضي بالاسمية في ظاهر الأمر، وجاء في الشعر ما يعين الاسمية أيضًا، وكثر ذلك فيه، فقد وقعت فيه فاعلا نحو قول الأعشى:

أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والقتل

فالكاف في كالطعن هو فاعل ينهي، وكذلك قول امرئ ألقيس:

وإنك لم يفخر عليك كفاخر

ضعيف ولم يغليك مثل مغلب

ومفعولة أيضا، ومبتدأ، واسم كان في أبيات ذكرها في الشرح، لم أقيدها كما أحب، فأحلت عليها، وتكون مضافًا إليها كقول الشاعر أنشدده في الشرح:

تيم القلب حب كالبدر لا بل

فاق حسنًا من تيم القلب حبا

وتجر بالحرف الجار نحو قول ابن غادية السلمي:

ص: 666

وزعت بكالهراوة أعوجي

إذا ونت الركاب جرى وثابا

وبيت الكتاب:

* وصالياتٍ ككما يوثقين*

فالكاف الثانية مجرورة بالأولى.

وقال امرؤ ألقيس، وهو ثابت في ديوان شعره، ويروي لعمرو بن عمار الطائي:

ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا

تصوب فيه العين طورًا وترتقي

وقال امرؤ ألقيس أيضا، ويروي لسلامة ألعجلي:

على كالخنيف السحق يدعو به الصدى

له قلب عفي الحياض أجون

ص: 667

وقال الآخر، ونسبه ابن جني إلى ذي الرمة

أبيت على مي كئيبًا وبعلها

على كالنقا من عالجٍ يتبطح

إلى أبيات كثيرةٍ في الباب تقضي كثرتها ألا يحكم ألا يحكم عليها بالشذوذ، وعند ذلك يصبح ما ذهب إليه الناظم.

ثم قال: (وكذا عن وعلى) يعني أنهما استعملا اسمين كما استعملت الكاف اسمًا، وإنما يدعي ذلك فيهما عند إقامة الشاهد على الاسمية، وذلك دخول حرف الجر عليهما، ولذلك قال:(من أجل ذا عليهما من دخلا) يريد أن دخول من: الجارة عليهما إنما كان بسبب كونهما اسمين لكونهما في موضع/ جر بمن، وإلا، فلو كانا عند دخول (من) عليهما حرفين لم يدخل لم يدخل عليهما حرف الجر، لأن حرف الجر لا يدخل علي حرف الجر، لأن حرف الجر لا يدخل عليه حرف الجر، وما جاء من نحو:

"ولا للما بهم أبدا دواء"

فليس من ذلك؛ لأن هذا من باب إعادة الحرف توكيًدا، كقوله:

ص: 668

لا لا أبوح بحب بثنة إنها

أخذت على مواثقًا وعهودًا

فثبت أن (عن) و (على) عند دخول حرف الجر عليها اسمين.

وفي قوله: (من أجل ذا عليهما (من) دخلا) تنبيه على أمرين:

أحدهما: اختصاص (من) من بين سائر حروف الجر بالدخول عليهما؛ إذ قال: (من أجل ذا) أي من أجل الاسمية دخلت (من)، ولم يزد على ذلك، فقيه إشارة إلى اختصاص (من) بذلك؛ إذ لو كان دخول غيرها سائغًا عنده لقال: من أجل ذا دخل عليهما حرف الجر، أو نحو هذا من الكلام الذي يعطي عدم الاختصاص بمن.

والثاني: أنه لا علامة لهما عن الاسمية إلا دخول هذا الحرف؛ لأنه قيد وقوعها اسمين بدخول (من)، ولو كان له خاصة أخرى لم يقل ذلك، ولأطلق القول كما أطلق القول في الكاف؛ إذ قال:(واستعمل اسمًا) فلم يقيد؛ لأنها تقع فاعلة، ومفعولة ومضافًا إليها، وداخلًا عليها حروف الجر، فلما أطلق في الكاف، وقيد في غيرها دل تقيده على الاختصاص بما قيد، وهذا حسن من التنبيه، فإن الذي سمع فيهما دخول (من) وحدها كقول ذي الرمة:

وهيف تهيج البين بعد تجاوز

إذا نفخت من عن يمين المشارق

وقال القطامي:

فقلت المركب لما أن علا بهم

من عن يمين الحبيا نظرةٌ قبل

ص: 669

هذا مما دخلت فيه من على عن. ومن دخولها على على قول مزاحم بن الحارث العقيلي، أنشده سيبويه:

غدت من عليه بعد ما تم ظموها

تصل وعن قيض بزيزاء مجهل

وعلى هذا ينبني النظر في مسألتين:

إحداهما: أنه لا يرى رأي من رغم أن (على) لا تكون إلا اسمًا مطلقًا، دخل عليها خافض أو لم يدخل.

واستدل على ذلك بأنها في كل موضع لها موضع من الإعراب، وهو المفرق بين الاسم والحرف، فإذا كان لها موضع من الإعراب، فهي اسم، فإن إعرابها يحدثه العامل، ولا يعمل فيها إلا على معنى من المعاني، وهي الفاعلية، والمفعولة، والإضافة، وفي كل واحد من هذه الأحوال الثلاثة يقع الإخبار عنها، فتصبح لها الاسمية بخلاف ما لا موضع له. قال: فانظر أبدا (على) تجدها ذات موضع، ن فينبغي أن تدعي فيها الاسمية حتى يجئ ثبت. وما قاله هذا القائل قد يظهر من سيبويه في باب: عدة ما يكون عليه الكلم، ولكنه غير قاطعٍ، لأنه بين في قوله:

* آليت حب العراق الدهر أطعمه"

ص: 670

أنه من باب:

* أمرتك الخير

*

فليست عنده اسمًا بإطلاق، لكن كما قيد في (عن) حين قال:"وأما عن فاسم إذا قلت: من عن يمينك" وايضأ فقد قال الخد: لا يبعد في "عن" أو: لا / يمتنع في "عن" أن تكون مقرًا، لكونها اسمًا بمعنى ناحية، ألا ترى قول ساعده:

أفعنك لا برق كأن وميضه

غاب تشيمه ضرام مثقب

أبو سعيد: أفعن شقك هذا البرق، أو عن ناحيتك هذا البرق. تقول العرب هذا كله، وجعل (لا) زائدة.

قال ابن خروف: وهو صحيح، فظاهر هذا الحكم عليها بالظرفية وإن لم تدخل عليها (من)، وهو مخالف لما أشار إليه الناظم، وشاهده البيت؛ لأن ظاهره النصب على الظرفية، وهو خبر المبتدأ.

فأما من خالف في (على) فلا دليل فيما قال، وليس الأمر كما زعم، فإنك إذا قلت: جلست على الحصير، فهمت المباشرة، وحروف الجر إنما جيء

ص: 671

بها لتوصل معاني الأفعال إلى الأسماء وتضيفها إليها، وإضافة معاني الأفعال إلى الأسماء لا تتصور إلا في الحروف، فإذا قلت: جلست فوق الحصير، كان الفعل واقعًا بمدلول (فوق) لا بمخفوضها، فدل ذلك على انتقاء المرادفة، فلا يصح إن قال: إن (على) بمعنى فوق، إذا قلت: جلست على الحصير.

أما إذا تعين ذلك فلا محيص عن القول به، وذلك إذا دخل عليها حرف الجر كما تقدم، وأيضا فإن دعوى من ادعى أن لها موضعًا من الإعراب في كل موضع غير ظاهرة؛ إذ لا دليل يدل على إن قولك: جلست على الحصير، (على) فيه في موضع نصب، وإنما كان يكون الدليل على ذلك لو وقعت فاعلة أو مفعولًا بها كالكاف، أو مضافًا إليها، فعند ذلك يتعين كونها في موضع الإعراب.

وأما إذا قلت: جلست على الحصير، فلا دليل فيه لإمكان أن يكون الواقع في موضع النصب المجرور لا (على).

فإن قيل: إن الظرفية ظاهرة المعنى فيها، فهو الدليل. قيل: إن كان معنى الظرفية هو الدليل لا على أنها في موضع نصب، فليكن ذلك دليلًا في (في) إذا قلت: قعدت في الدار، فهي أولى بذلك، وكذلك الباء بمعنى (في)، وإذ ذاك يلزم اسمية هذه الحروف. وهذا كله شنيع من القول، ومخالفة للإجماع، ثم إنا نقول: إن (على) لا يفهم منها الظرفية، وإنما يفهم منها معنى الاستعلاء، ولو كان معنى (على) الظرفية، وأنها مرادفة لـ (فوق) للزم أن يكون معنى: على زيدٍ مال، فوق زيدٍ مال، وأن توضع موضعها (فوق) في كل موضع، وذلك غير صحيح. ومثله يشنع في نحو:{توكلت على الله} . {ولا تقولوا على الله

ص: 672

إلا الحق}. {إن الله وملائكته يصلون على النبي} . الآية.

فإن قيل: وكذلك الاستعلاء يقبح، بل يستحيل في هذه الأشياء، فهو مشترك الإلزام.

فالجواب: أن مثل هذا راجع في المعنى إلى قولك: على زيدٍ حق، وعليه مال، والفوقية لا تصلح فيما تقدم لا حقيقية ولا مجازًا، فافترقا. والكلام هنا له مجال واسع يكفي هذا منه.

وأما من خالف في (عن)، فلا حجة له على ما قال. والبيت المستشهد به محتمل لأن تكون فيه (عن) عن أصلها من الحرفية على حذف المضاف؛ لكونه مفهومًا، أو جعل البرق مجازًا للمخاطبة نفسها/ واتساعًا. ويجري هنا من: : البحث اسمية عن وعلى بحالة دخول حرف (من) عليهما.

والمسألة الثانية: أن الناظم لم يعول على ما قاله ابن عصفور في تعيين أسميتها، وذلك أنه جعل لأسميتها موضعين:

أحدهما: ما أشار إليه الناظم من دخول الجار.

والآخر: أن يؤدي جعلها حرفًا إلى تعدي فعل المضمر المتصل إلى مضمره كقولك: دع عنك كذا، وهون عليك، كما قال امرؤ ألقيس:

دع عنك نهبأ صيح في حجراته

ولكن حديثًا ما حديث الرواحل

وأنشد سيبويه:

ص: 673

* هون عليك فإن الأمور

بكف الإله مقاديرها *

وقال الآخر:

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسوط قونس الفرس

وقال زهير بن أبي سلمى:

فلما تبلج ما فوقه

أناخ فسن عليه الشليلا

وضاعف من فوقها نثره

ترد القواضب عنها فلولا

فإنك إذا جعلت (عن) و (على) هنا حرفين، أدى ذلك إلى باب ممنوع، وهو تعدي (هون) الذي فاعله ضمير المخاطب إلى مضمر المخاطب الذي هو (عليك)، وهو متصل، وذلك غير حائرٍ، كما لم يجز: ضربتني، ولا: أضربك، ولا: زيد ضربه، تريد: ضرب نفسه إلا في باب ظنت، فإذا ادعي في (على) في قوله:(هون عليك): أنه اسم صار (هون) إنما تعدى إلى غير ضمير المخاطب، فصار كقولك: اضرب غلامك. وهكذا القول في (دع عنك) وفي بقية النظائر.

وهذا المرتكب غير مرضي من وجهين:

أحدهما: أنه لو كان كما قال لم يجز أن يتعدى فعل المضمر المتصل إلى مضمره المتصل بحرف جر أصلًا حتى تصبح أسميته، وليس كذلك، فإنك تقول:

ص: 674

قربت زيدًا إلى، وبعدته مني، وأدنيته مني، ومتعت زيدًا بي، ولا أعلم أحدًا يمنع هذا ممن تقدم. وفي القرآن الكريم:{واضمم إليك جناحك من الرهب} . و (إلى) لا تصح أسميتها باتفاق. ومنه: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} ؛ لأن المعنى على تعلق (لهم) بـ (يجعلون)، ولا يمكن جعل اللام اسمًا. ومثل ذلك في الكلام كثير.

والثاني: أن الضمير المجرور ليس بمتصل بالفعل لفظًا، فليس إذ ذاك بجارٍ مجرى المنصوب المتصل؛ ولذلك لم يذكره سيبويه حين ذكر امتناع نحو: أضربك، بل هو جارٍ في الحكم مجرى الاسم الظاهر بمثابة أن أو نطقت بالنفس، ونحو ذلك، فتقول: ضربت نفسي، كما تقول، ضربت غلامي، فالحق إذًا ما ذهب إليه الناظم، وهو رأى شيوخنا- رحمهم الله.

فإن قيل: إن النحويين يقولون: لا يكون (عن) و (على) اسمين إلا إذا دخل عليهما الجار، فيجعلون دخوله هو السبب في الاسمية، والناظم عكس الأمر، فجعل دخول الجار عليهم مسببًا عن كونهما اسمين يقوله: / من أجل ذا عليهما من دخل) أي: من أجل إنهما يكونان اسمين دخل عليهما (من) الجارة، وذلك يقتضي أنهما قبل دخول (من) محتملان للاسمية والحرفية، فلا يدخل عليهما إلا بعد استقرار الاسمية، وظاهر كلام غيره أنهما لا تستقر أسميتهما إلا إذا دخل [عليهما](من) فكيف هذا؟

فالجواب: أن ما قاله الناظم صحيح؛ إذ لا يصح دخول الجار إلا على

ص: 675

مستقر الاسمية وإلا فلو كان الجار داخلًا قبل استقرارها لما كان دليلًا عليها، وحينئذٍ يلزم أن يكون (عن) و (على) محتملين مع التجريد من الجار.

فإن قيل: فهل لنا أن ندعي أنهما عند التجريد محتملان كالكاف الجارة.

قيل: إنما يدعي هذا على رأي من يدعي أن الاسمية فيهما قياس، وإن كان ضعيفًا.

وأما على رأي من لا يرى ذلك فلا ينبغي دعوى الاحتمال فيهما لأمرين:

أحدهما: أن الأصل فيهما الحرفية، فلا يخرجان عنه إلا بدليل، ولا دليل؛ إذ لم يثبت لهما الاسمية على الإطلاق.

والثاني: أن ما جاء فيهما متعين الاسمية نادر لا يقوى أن يقاس عليه غيره، وإذا كان كذلك كان كلام الناظم واردًا على اعتقاد العرب فيهما الاسمية، لا على اعتقادنا؛ إذ كان اعتقادنا لها ثانيًا عن وجود الجار داخلًا عليهما، عكس اعتقاد العرب؛ إذ كانت إنما أدخلته عليهما بعد اعتقاد الاسمية، فلا إشكال، فإذا وقع لنا في شعر أو غيره أن ندخل الجار عليهما، فلذلك قياس على ما نطقت به العرب، لا على مجرد الاحتمال، فكان الناظم تكلم على حسب اعتقاد العرب (قبل إدخال الجار، وغيره إنما تكلم على حسب اعتقادنا) فيما تكلمت به العرب، فإذا قد انتظم كلامه مع كلام النحويين.

فإن قيل: هل في كلامه دلالة على كون أسميتها وإدخال الجار عليهما قياسًا أو سماعًا أم لا؟

فالجواب/: (واستعمل اسمًا) ظاهر أنه يريد أن العرب استعملته كذلك- يعني الكاف-، ثم قال:(وكذا عن وعلى) أي استعملتهما العرب

ص: 676

اسمًا كذلك، فهذا إخبار عن السماع، فالظاهر أن ذلك عنده غير قياسٍ كما تقدم في الكاف.

ثم قال:

ومذ ومنذ اسمان حيث رفعا

أو أوليا الفعل كجئت مذ دعا

وإن يجرا في مضي فكـ (من)

هما، وفي الحضور معنى (في) استنب

جعل الناظم: (مذ ومنذ) على وجهين:

أحدهما: أن يكونا اسمين:

والثاني: أن يكونا حرفين، فإن قال:(ومذ ومنذ اسمان) في موضع كذا، ثم قال:(وإن يجرا في مضى فكمن) يعني حرفين. وهذا رأي الجمهور.

وذهب بعض النحويين إلى أنهما اسمان أيضا إن انجر ما بعدهما؛ لأنهما قد ثبت لهما الاسمية إذا ارتفع ما بعدهما، أو أوليا الفعل، فليكن كذلك إذا انجر ما بعدهما؛ إذ الجر لا ينافي الاسمية. والأصل بقاء ما كان على ما كان، فوجب استصحاب الحكم الثابت لهما قبل أن يجرا ما بعدهما.

ورد هذا المذهب بأمرين:

أحدهما: قاله ابن عصفور أن الظرف إذا نفي عنه الفعل استغرقه النفي ولم يتعده، كقولك: ما رأيته يوم الجمعة، فقد استغرق النفي جميع أجزاء يوم الجمعة/ ولم يتعدها، وإذا نفيت الفعل قبل (مذ) لم يستغرقها وتعداها، فإذا قلت: ما رأيته مذ يوم الجمعة، فلا بد أن تكون رأيته في جزء من يوم الجمعة، ثم لم تره إلى زمانك الذي أتت فيه، فقد رأيت تعدي النفي لها، وامتنع استغراقه، فلو كانت (مذ) ظرفًا لكان حكمها حكم الظرف فيما ذكر، فلما

ص: 677

اختلف الحكمان، دل على فساد قول من قال فيها بالظرفية، فلما ظهر فساده تعين صحة قول الجماعة في أنها حرف إذا جرت ما بعدها، واسم إذا رفعت.

قال شيخنا الأستاذ- رحمه الله: لا يلزم ذلك القائل بالظرفية؛ لأن تلك المعنى موجود فيها إذا ارتفع ما بعدها، وهى هنالك اسم أو ظروف، ولم يوجب ذلك أن تكون حرفًا، وإنما وجب أن يكون كذلك من جهة أنها كلمة موضوعة لابتداء الغاية، أو للغاية كلها، فكل كلمة لها حكم نفسها الذي وضعت له.

ثم استدل على صحة قول الجماعة، وبطلان قول الآخر المخالف بأنها إذا جرت ما بعدها كلمة لا معنى لها إلا من غيرها، ولم توجد إلا مبنية ليس لها حكم من أحكام الأسماء في ذلك الموضع، فوجب القول بالحرفية، وقد كان ينبغي أن يحكم عليها بذلك إذا ارتفع ما بعدها لولا أن فيها هنالك حكمًا من أحكام الأسماء، وهو استقلال الكلام بها مع ما بعدها، وليست بفعل، فهذا هو السبب في القول بحرفيتها إذا انجر ما بعدها، وهو الثاني من الوجهين، فثبت أن (مذ) و (منذ) على وجهين، كما قال الناظم. وأيضا فإن (مذ) و (منذ) في الزمان كـ (من) في الزمان والمكان لابتداء الغاية، وللغاية كلها، فقد ساوتا (من) في المعنى، وساوتاها أيضا في عمل الجر، فهما مثلها، ولو تأتت دعوى الحرفية إذا وقع بعدهما المرفوع، أو الجملة لم ينتقل عنها. أما مع المرفوع؛ فإن حروف الجر لا يرتفع ما بعدها. وأما مع الجملة؛ فلان حروف الجر لا تدخل على الجمل اختيارًا؛ فقيل بالاسمية لذلك. فإذا تقرر هذا فالناظم ابتدأ بقسم الاسمية، وعين لها موضعين:

ص: 678

أحدهما: أن يرتفع ما بعددها، وذلك قوله:(اسمان حيث رفعا) يريد: رفعا ما بعدهما، نحو: ما رأيته مذ يوم الجمعة، وما رأيته منذ يوم الجمعة، فها هنا لا يمكن أن يكونا حرفين، ولكن يكونان اسمين، لكن يبقى النظر في إعرابهما ما هو؟ هل هما مبتدآن ما بعدهما خبر لهما؟ وإليه ذهب الفارسي وطائفة، فقولك: ما رأيته منذ يومان، تقديره: أمد ذلك يومان. أو هما ظرفان خبران للمرفوع بعدهما؟ والتقدير: بيني وبين لقائه أو رؤيته يومان، أو نحو ذلك، وهو رأي الزجاجي. أو ظرفان ما بعدهما مرفوع بفعل مضمر، فقولك: ما رأيته مذ يوم الجمعة أو مذ يومان في تقدير: مذ كان يوم الجمعة، ومذ كان يومان. وهو مذهب الكوفيين، وإليه ذهب المؤلف في غير هذا الكتاب، وليس في نظمه هذا صريح نص على اختيار أحد هذه المذاهب إلا ما يستشعر من قوله:(حيث رفعا)؛ فإنه لما أسند رفع ما بعدهما إليهما لم يستقم ذلك إلا على مذهب الفارسي، فإن المبتدأ هو الرافع/ للخبر عند الناظم، وإذا كان كذلك فهو مخالف هنا لما ذهب إليه في غير هذا، وكان هذا المذهب أرجح من جهة النظر، وذلك أنه إذا قدر بعدهما الفعل فلا بد من تقدير الزمان قبل ذلك الفعل؛ لأن (مذ) و (منذ) مختصان بالزمان، فيلزم على مذهبه تقدير فعلٍ أيضًا قبل ذلك الزمان، وإذا تقدر

ص: 679

الفعل فلا بد من تقدير زمانٍ لاختصاص (مذ) و (منذ) بالزمان، فيتسلسل الأمر، وذلك فاسد، فالأولى عدم تقدير الفعل.

وقد يجاب عن هذا بأنه لا يسوغ تقدير زمان مع القول بظفريتها؛ لأنا إذا فرضنا (مذ) مثلًا ظرفًا، فهي الموقوع فيه، وهي أيضًا الدالة على ابتداء الغاية، أو الغاية كلها، فصارت (مذ) كاسم تضمن معنى حرف، كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام هي نائبة عن الأمرين، فكذلك (مذ) إذا كانت ظرفًا هي دالة على الزمان، وعلى ابتداء الغاية فيه كما كانت (من) في قولك: من زيد؟ دالة على الاستفهام، والمستفهم عنه، فإذا قدرت الزمان بعد (مذ) فقد جردتها عن الاسمية، وصارت حرفًا لابتداء الغاية في ذلك المجرد، كما أنك إذا ذكرت الجزء الثاني في: من زيد؟ أتيت بحرف الاستفهام فقلت: أفلان زيد أم فلان؟ وإذا كان كذلك لم يلزم على تقدير الفعل محظور، فهذا مما يمكن أن يجاب به، لكن الذي يرجح به رأي الناظم على رأي الكوفيين أن الإضمار على خلاف الأًصل، فلا ينبغي أن يدعي إلا بدليل، ولا دليل، بل الكلام تام من غير دعوى الإضمار، فكان القول به تكلفًا من غير حاجة.

فإن قيل: إن في دعوى الإضمار فوائد، منها: إجراء (مذ) و (منذ) في الاسمية على طريقة واحدة، وذلك أولى من اختلاف الاستعمال.

ومنها: التخلص من الابتداء بالنكرة بلا مسوغ إن ادعى التنكير، ومن تعريف غير معتاد إن ادعى التعريف، والتخلص من جعل جملتين في حكم جملةٍ واحدة من غير رابط ظاهرٍ ولا مقدرٍ، فإذا لم يدع الإضمار لزم ارتكابُ

ص: 680

هذه الأمور، وهي مما لا ينبغي ارتكابه لمخالفته صنعة القياس.

فالجواب: أن الإضمار لما كان يلزم منه مخالفة الأصل، وكان عدم الإضمار أيضًا يلزم عليه ما قال من اختلاف الاستعمال تعارض الأصلان، فرجح جانب عدم الإضمار حملًا على الظاهر، وليس فيه ما يخل بالكلام، والإضمار دعوى زيادة في الكلام لو سكت عنها لم تخل به. وأيضا فإضمار شيء- لو ظهر لم تحصل به فائدة- عبث.

وأما الابتداء بالنكرة من غير مسوغ فلنا أن نجيب عنه بأمرين:

أحدهما: أن ندعي التنكير، والمسوغ للابتداء بها حصول الفائدة، فإن تعداد المسوغات ثان عن حصول الفائدة، (فليس فيها حصر إلا بحصول الفائدة؛ وهي هنا حاصلة، فلا مطلوب سواها). وقد تقدم في باب الابتداء بسط هذا المعنى.

والثاني: أن تدعي أن (مذ) و (منذ) لفظهما لفظ النكرة، والمعنى معنى المعرفة، ولذلك نظير، وهو قول العرب: لقيته عامًا أول، فلظه لفظ النكرة، والمعنى معرفة؛ لأنه يريد العام الذي قبل عامك. وعلى هذا حمل طائفة قولهم: لقيته ضحى وضحوه وعشاء وعشية/ وأخواتها من يوم بعينه، / 321/ فليس (مذ) و (منذ) على هذا عديمي المسوغ للابتداء بالنكرة إن ادعي أنهما نكرتان، ولا غير معهودي التعريف إن أدعى أنها معرفتان. وأما التخلص من جعل الجملتين جملة واحدة من غير رابط، فإن (منذ) و (مذ) إذا ارتفع ما بعدها فقد أختلف في الجملة الاسمية الحاوية لواحدة منهما

ص: 681

هل لها موضع من الإعراب أم لا؟ على قولين:

أحدهما: أن لا موضع لها، وإنما هي مفسرة لمقدار الزمان الذي اقتضاه ما قبلها؛ لأنك إذا قلت: ما رأيته، دل على أن انقطاع الرؤية في زمان لا يدري السامع من اللفظ ما مقداره، فجاءت الجملة الثانية مفسرة لهذا المعنى، كما قيل في قوله تعالى:{وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم} . وذلك أن هذه الجملة الثانية مفسرة للموعود الذي هو مفعول ثانٍ لـ (وعد)، لما استحال أن تكون هذه الجملة مفعولًا ثانيًا له، لأن لـ (وعد) من باب أعطى، والمفعول الثاني من باب أعطى لا تقع الجملة موقعة، وإنما ذلك لباب ظنت، وسائر ما يدخل على المبتدأ والخبر. وإذا كانت مفسرة فلا موضع لها، فكذلك هذه الجملة.

والثاني: أن لها موضعًا من الإعراب، وهو النصب على الحال، كأنه قال: ما رأيته متقدمًا، أي تقدمًا زماني؛ لأن انقطاع الرؤية متصل بزمانه الذي هو فيه، وهذا فيه تكلف، وإشكال، ولكن به صارت الجملتان في حكم الواحدة برابط الضمير المقدر، والقول الأول أولى، وعليه الأكثر.

ويبقى النظر بين رأي الناظم ورأي الزجاجي، فيرجح بأنه أقوى- أعنى رأي الناظم من جهة المعنى- بأنك إذا قدرت قولك: ما رأيته مذ يومان: أمد ذلك يومان. وقولك: ما رأيته منذ يوم الجمعة، ابتداء انقطاعها يوم الجمعة، أو أول ذلك يوم الجمعة كان صحيحًا، وأنت إذا قدرت- على مذهب الزجاجي- بيني وبين لقائه يوم الجمعة لم يستقم هذا التقدير حتى تقول: وما بعده إلى

ص: 682

اليوم، وهذا حذف كثير، وتكلف في الت 4 قدير، وهذا، وإن كان وقوع الاسم المبتدأ غير متصرف قليلًا كأيمن الله، ولعمر الله بخلاف وقوعه ظرفًا، فإنه كثي ر، فلا ضرر إذا كان اللفظ سائغًا سهل المأخذ، والمعنى قويًا، ومن قاعدة سيبويه: الاعتبار بالمعنى، وإن ضعف حكم اللفظ، وقد يهمل جانب اللفظ محافظة على المعنى. وهو مذهب المحققين.

والموضع الثاني من موضعي الاسمية: أن يقع بعدهما الجملة من الفعل والفاعل وهو معنى قوله: (أو أوليا الفعل) أي: جعل الفعل واليًا لهما، وكأنه يقول: ومذ ومنذ اسمان حيث وأيهما الفعل كمثاله الذي مثل به، وهو: جئت (مذ) دعا، ومثله: ما رأيته منذ طلعت الشمس، ومذ قام زيد، وأنا قائم عليه منذ ولد، وما أشبه ذلك. ومنه قول الشاعر:

ما زال مد عقدت يداه إزاره .... فسما فأدرك خمسة الأشبار.

وقال أبو ذويب:

/ قالت إمامة ما لجسمك شاحبًا

منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع

وهذا الموضع مما اختلف فيه، فذهبت طائفة إلى ما قاله الناظم من تعين الاسمية. وذهب بعضهم إلى أنه محتمل الاسمية والحرفية، وهو رأي السيرافي، فإنه قال في: ما رأيته منذ كان عندي، أو منذ جاءني: إن (منذ) محتملة أن تكون

ص: 683

من أسماء الزمان، أو حرفًا جارًا يختص به الزمان، وعمله فيما بعده كعمل الاسم المضاف، فجاز إدخاله على الفعل؛ إذ كان معناه، وعمله كزمان مضاف إلى فعل، وما قاله هنا خلاف وذع الحرف؛ إذ حرف الجر مختص بالدخول عن الأسماء لا على الجمل. ألا ترى أنك تقول: جئتك في حين مات زيدٍ. ولا تقول: جئتك في مات زيدٍ؛ بل الذي يدل على أنها ليست بحرفٍ دخولها على الفعل.

فإن قيل: فإن الاسم غير الظرف أيضًا لا يضاف إلى الفعل، وإنما يضاف إلى الفعل الظرف، وقد تقدم أن (منذ) و (مذ) عند الناظم غير ظرفين، فكما لا يقال: هذا غلام قام، فكذلك لا يقال: منذ قام، فإن قدرت زمانًا هنا، فكذلك يقدره هنالك، فالسؤال مشترك الإلزام.

فالجواب: أن هذا غلط، أو مغالطة؛ إذ لم نقل: إن (مذ) مضافة إلى الجملة، بل هي غير مضافةٍ، كما كانت غير مضافة مع المفرد إذا قلت: ما رأيته مذ يومان، بخلاف ما أدعى أنها حرف، فلا بد من أن يكون ما بعدها جرا، فلزم الإشكال على دعوى الحرفية، فلم يصح القول بذلك، وصح كلام الناظم. وهنا مسألتان:

إحداهما: أنه لم يقدر بين (مذ) و (منذ) وبين الفعل شيئًا، فدل على أنه لم ير رأى من قدر هنالك الزمان، وذلك أن الجز ولي، وجماعة يقدرون بينهما زمانًا، فيقولون: إن المعنى- في قولك: ما رأيته مذ قام زيد، : ما رأيته مذ

ص: 684

زمان قام زيد، وكذلك في (مذ) بناء منهم على أنهما مختصان بالزمان لا يدخلان إلا عليه، فإذا وقع بعدهما ما ليس بزمان، فلا بد من تقديره طردًا للأصل فيهما، وأيضًا فالمعنى يدل على ذلك. ويبقي النظر في الزمان هل يقدر مرفوعًا أو مجرورًا؟ أمر آخر يثبت بعد ثبوت هذا التقدير. وأيضا فإن سيبويه قد جعلهما من الأسماء المضافة إلى الأفعال، وذلك مختص بالزمان نحو: جئت إذ قام زيد، وأثبت يوم قام زيد. وقد تقرر أن مذ ليسا بظرفين، فلا تصح إضافتهما إلى الفعل، وإذا كان كذلك فلا بد من تقدير زمان تصح إضافتهما إلى الفعل، وإذا كان كذلك فلا بد من تقدير زمان تصح إضافته إلى الفعل. وما قالوه فيه نظر.

أما أولًا: فإن الإضمار على خلاف الأصل، فلا ينبغي أن يقال به ما وجد غيره.

وأما ثانيًا: فإن مذ ومنذ إذا كانا اسمين فهما دالان على الزمان، وإن لم يقعا ظرفين فلا يحتاج مع ذلك إلى تقدير الزمان، وإنما كان يحتاج إلى ذلك على فرض كونهما حرفين أو ظرفين، ولا يصح هنا كونهما حرفين؛ فلا ينبغي تقدير زمان.

وأما جعل سيبويه لهما من باب ما أضيف إلى الفعل، فلذلك عند جماعة بناء على أنهما ظرفان على ما هب إليه الزجاجي، وإذا كانا ظرفين فلا حاجة بنا إلى تقدير الزمان كسائر/ الظروف المضافة إلى الفعل.

فإن قيل: منذ في: منذ قام زيد، لا بد أن يكون مبتدأ على مذهبك خبره ما بعده، وإذا لم يكن بد من ذلك فلا يصح أن يكون الفعل خبرة. ألا ترى أنك لا تقول: أول ذلك قام زيد، كما تقول: أول ذلك يوم الجمعة، وإنما يستقيم مع تقدير الزمان، كأنه يقول: أول ذلك زمان قام زيد، فلا

ص: 685

يصح الكلام مع عدم تقدير الزمان أصلًا.

فالجواب: أن الناظم ليس في كلامه ما يدل على أن مذ ومنذ هنا مبتدآن، وإنما دل كلامه على أنهما مبتدآن إذا وقع بعدهما المرفوع، وهو الموضع الأول. وأما هنا فإنما قال:(أو أوليا الفعل) وإبلاؤهما الفعل يحتما أن يكون على ذلك، أو على أنهما ظرفان لا مبتدآن، لكن لما جعلهما مبتدأين لا يصح معه أن يكون الفعل خبرًا من غير تقدير زمان، وكان جعلهما ظرفين يصبح معه أن يكون الفعل خبرًا من غير تقدير زمان، وكان جعلهما ظرفين يصح معه وقوع الفعل خبرًا من غير افتقار إلى تقدير، كان الواجب أن يعتقد أنهما هنا ظرفان عنده لأنه لو كان عنده مبتدأين لم يسغ له السكوت عن تقدير الزمان؛ إذ لا يصح الكلام إلا بتقديره، فلما لم يفعل ذلك أشعر بأنهما عنده في هذا الموضع ظرفان، وهو الظاهر من سيبويه، وإياه ارتضى في شرح التسهيل، ويتحصل إذاك في مذ ومنذ إذا رفعا أو أوليا الفعل ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهما مبتدآن بإطلاق، ويقدر مع الفعل زمان.

والثاني: أنهما ظرفان بإطلاق.

والثالث: ما رآه هنا من التفرقة بين أن يقع بعدهما المرفوع فيكونان مبتدأين، وبين أن يقع بعدهما الفعل فيكونان ظرفين.

ووجه التفرقة على هذا التنزيل: أن الاسمية مع المرفوع على غير الظرفية أولى لما تقدم. وأما مع الفعل فظاهر أن مذ ومنذ معه على حد سائر الظروف من الإضافة إلى الفعل، فكان القول بذلك الظاهر فيهما، وأن يكونا متعلقين بما قبلهما أولى لا سيما إذا كان جعلهما هنا اسمين يلزم منه تكلف الإضمار، وما الكلام غنى عن تقديره، وأيضًا فتصير الجملتان بذلك جملة واحدة، فهذه أمور ترجح القول بهذا مع موافقة ظاهر الكتاب، وعليه جماعة كابن

ص: 686

خروف، وغيره.

والمسألة الثانية: أن قوله: (كجئت مذ دعا) يظهر أن الناظم أتى به في معرض التقييد للفعل المذكور؛ لأن قوله: (أو أوليا الفعل) مطلق لا يختص بماضٍ دون مضارع أو أمر، والمستعمل مع مذ ومنذ من الأفعال إنما هو الماضي فلا يقال: ما أفعل ذلك منذ يقوم زيد، وأولى ألا تدخلا على فعل الأمر؛ لأن زمان المضارع إن كان مستقبلًا فهو غير متحصل، فلا يقدر به، وإن كان حالًا، فكذلك ايضًا؛ لأن مذ ومنذ للغاية كلها، أو لابتدائها، وإن كانا اسمين أو ظرفين، ومعنى الغاية كلها مختص بما كان حاضرًا، والفعل لا يعطي انتهاء تلك الغاية إذا قلت: منذ يقوم زيد؛ إذ لعله بعد يقوم، فلا يكون للغاية كلها.

ثم قال: (وإن يجرا في مضى فكم هما) هذا هو القسم الثاني، وهو الذي يكونان فيه حرفين، وهو أن يقع بعدهما الاسم مجرورًا لقوله:(وإن يجرا) إلا أنه قسم المجرور بعدهما/ قسمين:

أحدهما: أن يكون ماضيًا في المعنى نحو: ما رأيته منذ يوم الجمعة، وما رأيته مذ يوم الخميس، فمذ ومنذ في هذا القسم مؤديان معنى ابتداء الغاية، لكن في الزمان كما كانت (من) كذلك لابتداء الغاية في المكان فقط، أو فيهما معًا، وهذا معنى قوله:(وإن يجرا في مضى فكمن هما) يعني لابتداء الغاية.

فإذا قلت: ما رأيته منذ يوم الجمعة، فمعناه: ابتداء زمن القطاع الرؤية يوم الجمعة.

والثاني: أن يكون المجرور بهما حاضرًا نحو: ما رأيته منذ يومنا، ومذ

ص: 687

شهرنا ومذ عامنا، فمذ ومنذ في هذا القسم مؤديان معنى (في) التي تقتضي الظرفية، وهو مراده بقوله:(وفي الحضور معنى (في) استبن) أي: استنبن في جر الزمان الحاضر بهما معنى (في)، فإذا قلت: ما رأيته منذ يومنا، فمعناه: ما رأيته في يومنا، وكذلك ما رأيته منذ عامنا، معناه: في عامنا.

ومعنى قوله: (في مضي) في اسم ذي مضى، فهو على حذف المضاف وكذلك قوله:(وفي الحضور) أي في ذي الحضور معنى (في) استبن.

فإن قيل: إن الناظم هنا لم يقيد كون مجرورهما زمانًا ولا بين معناهما، كما بين سائر معاني الحروف الجارة، وذلك قصور في البيان.

فالجواب أن تقول: بل قد بين ذلك.

أما كون مجرورهما زمانًا فقد تقدم له أول الباب بقوله: (واخصص بمذ ومنذ وقتًا).

وأما بيان معناهما فبقوله هنا: (وإن يجرا في مضي فكمن هما) يعني أن معناهما معنى (من)، وهو ابتداء الغاية.

وقوله: (وفي الحضور معنى (في) استبن) يعني أن معناهما الغاية كلها، ولذلك يصح أن يقدرا بمن وإلى معًا، فتقول في نحو قولك: ما رأيته مذ عامنا، تقديره: ما رأيته من أول عامنا إلى آخره.

فإن قيل: هذا من قوله غير مفهوم؛ لأن قوله: كـ (من) ليس فيه ما يدل على معنى ابتداء الغاية، ألا ترى أنه أحال في معناها على (من)، ولمن معانٍ جملة ذكرها، فما الذي يعين معنى ابتداء الغاية دون غيره؟ وقوله:(معنى (في) استبن) إنما يدل على أن معناهما الظرفية؛ إذ هي معنى (في)، ومعنى الظرفية ليس هو معنى الغاية كلها، بل هما معنيان مخلفان، فلا يدل أحدهما على الآخر.

ص: 688

فالجواب: أنه يمكن أن يكون أحال على معنى ابتداء الغاية في (من)؛ لأنه أول معنى ذكره، أو لأنه الذي يتوهم ابتداء في (مذ)؛ لأن غير هذا المعنى في (مذ) و (منذ) لا يصح. وهذا تلفيق، والظاهر ورود السؤال. وقد مر له مثل هذا في فصل الباء في قوله:(ومثل مع ومن وعن بها انطلق)؛ إذ أحال على معنى (من)، ولم يبين أي المعاني أراد.

وأما (في) فلما كان معناها يشعر بمعنى الغاية استغنى بذكرها عن ذكر الغاية، أو يكون ذهب إلى أنهما هنا- أعنى مذ ومنذ- طرفتين بمعنى (في) حقيقة. وقد قال بذلك بعض النحويين كالجز ولي؛ إذ يصح وضعها موضعهما، فتقول: ما رأيته في عامنا، وفي شهرنا، وإذا صح وقوعها موقعهما، فذلك الدليل على أن معناهن واحد على حكم الترادف. ولكن هذا مخالف لما ذهب إليه كثير من النجاة، وقد تبين وجهة.

ثم أعلم أن هذا الفصل لم يخلصه الناظم كل التخليص؛ بل فيه نظر من ستة أوجه زيادة على ما تقدم:

أحدهما: / أن ظاهر مساقة أن (مذ) على وجهين، لكن إذا تأملته لم يحصل ذلك؛ لأنه إنما قال:(ومذ ومنذ اسمان) في موضع كذا، ثم قال:(وإن يجرا في مضي فمعناه كذا) وليس كونهما بمعنى (من) و (في) بدالين على كونهما حرفين؛ إذ الأسماء المتضمنة معنى الحرف دالة على معنى الحرف، وليست لذلك بحروف، وكذلك يقال هنا: إنهما بمعنى (من) و (في) مع ثبوت الاسمية لابتداء الغاية، أو للغاية كلها، ولذلك يقول النحويون: إنما بنيا لشبه الحرفين في اللفظ، وأصل المعنى، فهذا ممكن أن يدعيه مدع، فلا يظهر

ص: 689

كونهما إذ ذاك حرفين، وكذلك الجر لا يدل بنفسه على الحرفية حتى يبينه من تعرض لبيان كلام العرب كالناظم، فكان من حقه أن يقول:(وأن يجرا فحرفان ككذا) وما أشبه ذلك مما ينص على الحرفية، إلا أنه لم يفعل، فكان معترضًا عليه.

والثاني: أنا إذا سلمنا أنهما على وجهين من الاسمية والحرفية فليسا على وجهين؛ بل على ثلاثة أوجه:

وجه يكونان فيه اسمين لا غير.

ووجه يكونان فيه حرفين لا غير.

ووجه يكونان فيه محتملين للاسمية والحرفية.

والأولان قد بينا، والثالث المحتمل: أن يقع بعدهما (أن) وصلتها، نحو: ما رأيته منذ أن الله خلقتني، فهذا على رأيه ورأي غيره يحتمل أن يكون في موضع جر على أن تكون الحرفية، أو في موضع رفع على أن تكون الاسمية.

وأما غيره فيقولون مثل ذلك، أعنى أنهم يقسمونهما ثلاثة أقسام، لكن على طريقة أخرى، فيقولون، يكونان حرفين إذا دخلا على الزمان الحاضر، وإذا دخلا على كم، نحو: ما رأيته مذ يومنا، ومنذ كم سرت؟ . ويكونان اسمين إذا دخلا على الفعل الماضي، قيل: أو على الجملة الاسمية، نحو:

* ما زال مذ عقدت يداه إزاره*

وأنشد سيبويه قول الآخر:

ص: 690

وما زلت محمولًا على ضغنية

ومضطلع الإضغان مذ أنا يافع

وما عدا ذلك فجائز أن يكونا اسمين أو حرفين.

والناظم لم يأت إلا بقسمين فقد نقصه ثالث.

والثالث: أنه لما قرر أنهما حرفان في كذا، واسمان في كذا، ولم يبين ترجيحًا بين الاستعمالين، ولا قرر ما للعرب فيهما ظهر أن الوجهين سائغان فيهما على كل لغة، وأن الوجهين لا ترجيح بينهما، وليس كذلك؛ فإن الخفض بمنذ أكثر من الرفع، والرفع بمذ بعكس ذلك؛ لأن الاسمية أغلب على (مذ) المحذوفة النون، والحرفية أغلب على الثابتتها، هذا بالنسبة إلى الاستعمال. وأما نقل اللغات: فقد نقل فيهما ثلاث لغات.

منهم من يرفع بهما على كل حال.

ومنهم من يخفض بهما على كل حال.

ومنهم من يفرق بين مذ ومنذ، فيخفض بمنذ ابدً، ويفرق في مذ، فيرفع بها ما مضى، ويخفض بها ما أتت فيه، هكذا حكاها الشلويين، وإذا ثبت ذلك لم ينبغ أن يطلق القول فيهما إطلاقًا، فإنه موهم لاتفاق العرب فيهما،

ص: 691

ولتساوي الاستعمال بينهما. وذلك كله فيه ما ترى.

والرابع: أن تعريفه بأحكامها يقتضي أنها موقوفة على السماع؛ لأنه قال: /326/ إنهما اسمان حيث رفع ما بعدهما، أو أوليا/ الفعل، وحرفان حيث جرا، وهذا تقرير فيما سمع، فاقتضى ذلك أن جميع ما ذكر لهما موقوف على السماع، وأن تأويله ما ذكر، والمقصود إنما هو التعريف بالقياس فيهما لا بالسماع.

والخامس: أن مقصود النحويين في هذا الفصل بيان حكم (مذ) و (منذ) إذا كانا حرفين، وإذا كانا اسمين، فيقولون: إذا كانا حرفين انجر ما بعدهما، أو أسمين ارتفع، ويجرون القياس. وكذلك يقولون: إذا وقع بعدهما الحاضر، فإنهما يجرانه، وفي الماضي الوجهان، فكان الزمان الحاضر لا يدخل عليه إلا الحرفية منهما بخلاف الماضي، فإن كل واحدة من الاسمية والحرفية تدخل عليه، وكذلك ما أشبه هذا الكلام الدال على إجراء القياس بناء على الحرفية أو الاسمية.

أما الناظم فإنه عكس الأمر، فجعل تلك الأحكام المحكية عن العرب المسوقة مساق السماع دلالة على الحرفية والاسمية. وهذا يلزم فيه الدور بناء على قصد النحويين، فإنه إذا قيل له: أين يكونان اسمين؟ فقال: في موضع كذا. فقيل له: ما حكم موضع كذا؟ فلا بد أن يقول: إن كانا اسمين فحكمه كذا، أو حرفين فحكمه كذا، فقد توقف العلم بكونهما اسمين أو حرفين على حكم الموضع الذي يقعان فيه، وتوقف العلم بحكم الموضع على كونهما اسمين أو حرفين، فلا يعرف واحد منهما إلا بعد معرفة الآخر، وذلك محال.

والسادس: قوله: (أو أوليا الفعل) تقييد غير محتاج إليه؛ بل هو موهم لحكم غير صحيح، فإنه يقتضي بمفهومه أن الجملة الاسمية إذا وقعت بعد

ص: 692

(مذ) أو (منذ) فلا يكونان معها اسمين. وهذا غير مستقيم، فإنهما لا يكونان معها حرفين؛ لأن حروف الجر كما لا تدخل على الجملة الفعلية لا تدخل أيضًا على الجملة الاسمية، وقد ترك في التسهيل هذا القيد، وهو الصواب، فإن العرب تقول: ما زلت قائمًا مذ زيد قاعد، وما رأيته مذ هو مريض. وما أشبه ذلك ومنه:

*

مذ أنا يافع*

وإذا كان كذلك ظهر أن هذا الفصل قاصر.

والجواب عن الأول: أنه قد قدم أولًا بيان كون (مذ) و (منذ) حرفين حين عد حروف الجر؛ إذ لم يعدها إلا من حيث هي حروف جارة، لا من حيث هي جارة فقط، وإلا فكان الواجب عليه أن يعد كل ما يخفض من الأسماء المتمكنة، وغيرها. وذلك فاسد، فلا بد أن يكون ما عد حروفًا على مقتضى ترجمته لكن منها ما يستعمل اسمًا أو فعلًا، فإذا كان كذلك فلا بد من بيانه، فإذا رجع إلى بيان معاني الكلم علم أنه رجع إلى أصل الباب من الحرفية، وأن الجر المذكور في قوله:(وإن يجرا) هو جر الحرف لا غيره. وهذا ظاهر كسائر ما ذكر من الحروف المستعملة أسماء.

وعن الثاني: أن قصد الناظم في تقرير حكم هذين الحرفين غير قصد غيره، وذلك أن قصده من حيث أتى بهما مع حروف/ الجر أن يبين معانيهما، وقد/ 327/ فعل في قوله:(وإن يجرا)

إلى أخره، وأن يبين استعمالهما اسمين، ويعين مواضع ذلك، وهو الذي ابتدأ به فقال: إنهما اسمان حيث لم يجرا، ولا وقع بعدهما ما ينجر، فإذا جرا فلذلك الذي قصد ذكره في الباب، فلم يحتج إلى

ص: 693

ذكر القسم المحتمل، وأيضا: فإن المحتمل ظاهر حكمه من القسمين المذكورين إذا اعتبر بهما، فلم ينقصه من تلك الجهة قسم ثالث.

وعن الثالث: أن الحاصل من كلام العرب ما ذكر من أنهما يستعملان اسمين وحرفي جر/ وإن قصد أن يبين ما لهما من الحكم إذ كانا حرفين، وينجر بعد ذلك من أحكامهما في الاسمية أو غيرها ما ينجر، فلا عليه في ترك الترجيح إذا كان الجميع بما يقاس.

وعن الرابع: أن قصده من التفرقة بين الاسمية والحرفية اقتضى أن يحيل على ما استقر عند العرب، فيقول: أنهما إذا كان بعدهما المرفوع، أو الجملة، فهما اسمان وإذا كان بعدهما المجرور فهما حرفا جر، معناهما كذا، ووجه كونهما حرفين هناك، واسمين هنا قد تبين. هذا قصده، وهو حاصل بإحالته على كلام العرب، ويبقى القياس على ما سمع لم ينص عليه، كما أنه لم ينص على خلافه، وإنما تركه اعتمادًا على ما تقدم له من ذلك في حروف أخر، وفي أحكام أخر من غير هذا الباب؛ لأنه يذكر ما للعرب من غير تعرض إلى كون ذلك قياسًا أو غير قياس، فيحمل على أنه قياس حتى يبين أنه ليس كذلك، كقوله مثلًا: أنه نادر، أو شاذ أو قليل، أو ما أشبه بذلك، فهذا هو وجه المأخذ في هذا النحو، فلا إشكال.

وعن الخامس: أنه إذا تبين أن المقصود تعريف الفرق بين الاسم والحرف من (مذ) و (منذ)، وقد تبين، وأن ما قرر من السماع جار مجرى القياس-تبين أن كونهما اسمين يقتضي رفع ما بعدهما، أو كونه فعلًا، وكونهما حرفين يقتضي جر ما بعدهما على الوجهين من معنى (من) أو (في)، فها أنت وذاك من غير توقف ولا دور.

وأما السادس: فالظاهر وروده، ولم يحضرني له جواب. والله أعلم بمراده.

ص: 694

ثم قال:

وبعد (من) و (عن) وباء زيد (ما)

فلم نعق عن عمٍل قد علمنا

وزيد بعد (رب) والكاف فكف

وقد تليهما وجر لم يكف

هذا فضل يذكر فيه دخول (ما) على بعض حروف الجر كافة، وغير كافٍة، وأين يجوز كفها، وأين يمتنع؟ فذكر أولًا قسمين:

أحدهما: لم تأت فيه (ما) كافة للحرف عن عمله الذي ثبت له قبل دخول (ما).

والثاني: جاءت فيه (ما) كافة للحرف عن عمله.

فأما القسم الول: فجعل له ثلاثة أحرٍف، وهي: من وعن، والباء، وذلك قوله:(وبعد من وعاء وباٍء زيد ما)

إلى آخره. يعني أن العرب زادت (ما) بعد هذه الأحرف الثلاثة فاصلة بينها وبين ما جرته، فلم يعقها ذلك، ولا أزالها عن عملها الثابت لها، المعلوم فيها.

أما (من) فمثالها قولك: مما كرمك أكرمتك. ومنه القرآن الكريم: (مما/ خطيئاتهم أعرقوا فأدخلوا نارًا}.

وأما (عن) فمثاله قولك: عما قريٍب آتيك. ومنه قول الله تعالى: {عما قليٍل ليصبحن نادمين} .

وأما (الباء) فنحو: بما إكرامك أكرمتك. وفي القرآن: {فبما نقضهم

ص: 695

ميثاقهم لعناهم}. ويظهر من هذا أنه لم يأت في هذه الأحرف (ما) كافة عن العمل، وفي هذا نظر؛ فإن الباء قد تكفها (ما) فلا تطلب اسمًا تعمل فيه، كقول الشاعر:

فلئن صرت لا تحير جوابا

لبما قد ترى وأنت خطيب

وقول عمر بن أبي ربيعة:

فلئن بان أهله

لبما كان يؤهل

وقول كثير عزة:

مغاٍن يهيجن الحليم إلى الهوى

وهن قديمات العهود دوائر

ثم قال:

بما قد أرى تلك الديار وأهلها

وهن جميعات الأنيس عوامر

فهذا عند المؤلف مما كفت فيه الباء عن العمل (ما) فهيأتها للدخول على الفعل، وإنما أتى بالباء في التسهيل على أنها مثل الكاف ورب يجوز أن تدخل عليها ما

ص: 696

كافة وغير كافة، فإذًا قوله:(فلم تعق عن عمٍل قد علما) بالنسبة إلى الباء غير صادق. أما بالنسبة إلى (من) و (عن) فهو صحيح.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأمرين:

أحدهما: أن كون (ما) كافة في تلك الشواهد غير متعين؛ لإمكان كونها مصدرية على معنى: لئن صرت غير مجيٍب لرؤيتك خطيبًا، أي: هذا بذاك، وكذلك باقي الأبيات يمكن حملها على هذا التقدير، فلا يكون فيها دليل على ثبوت الكف لما، كما لو يثبت لها ذلك مع من وعن في نحو: عجبت مما صنعت، أي من صنعك، وما أشبه ذلك.

والثاني: أنا لو سلمنا وجود ذلك كما أنشد لكان لنا أند ندعي قلته وأنه لم يبلغ من الكثرة مبلغ ما يقاس عليه؛ فلذلك لم يذكره، كما لم يذكر في هذه الحروف اللام، وقد لحقتها (ما) غير كافة. قال الأعشى:

إلى ملٍك خير أربابه

فإن لما كل شي قرارا

إلا أن ذلك قليل، فلم يعتن بذكره.

وأما القسم الثاني: وهو ما جاء فيه الكف بما عن العمل فحرفاٍن: وهما رب، والكاف، وذلك قوله:(وزيد) يعني حرف (ما)، (بعد رب والكاف فكف) يريد أن (ما) زيد بعد هذين الحرفين، فكفهما عن العمل، وهيأتهما للدخول على الأفعال فصارا من حروف الابتداء، وذلك قولك: ربما يقوم زيد. قال الله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} . وأنشد أبو عمرو، وغيره قول الشاعر:

ص: 697

ربما تكره النفوس من الأمـ

ـر له فرجة كحل المقال

قال سيبويه: "جعلوا رب مع (ما) بمنزلة كلمة واحدة، وهيئوها ليذكر بعدها الفعل؛ لأنهم لم يكن لهم سبيل إلى "رب يقول" ولا إلى "قل يقول" - يعني في (قلما) - فألحقوها (ما) وأخصلوهما للفعل".

وأما الكاف، فنحو: أكرم زيدًا، كما أكرمت عمرًا. قال الله تعالى:{وقل لو كان معه آلهة كما يقولون} . الآية. وقال: {واذكروه كما هداكم} . وقوله: {كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم} . الآية. وأنشد سيبويه لروبة:

* لا تشتم الناس كما لا تشتم *

قال سيبويه: "وسألت الخليل رحمه الله عن قول/ العرب: انتظرني كما آتيك، فزعم أن ما والكاف جعلتا بمنزلة حرٍف واحد، وصيرت للفعل كما صيرت ربا". ثم أنشد بيت روبة، وأنشد معه قول أبي النجم:

ص: 698

قلت لشيبان أدن من لقائه

كما تغذي القوم من شوائه

ولم يقيد الناظم كفهما عن العمل بكونهما تهيآ للفعل، كما قال سيبويه في (ربما)، لأنهما عنده مما لا يليه إلا الفعل بخلاف الكاف، فإنها عنده يليها الجملتان، بل أطلق الناظم القول في ذلك، فاقتضى أنهما عنده قد يدخلان على الجملة الاسمية، والمسألة مختلف فيها، فنقل عن الكسائي أن (ربما) تدخل على الجملة الاسمية والفعلية، وإليه ذهب الجزولي. ومنه قول الشاعر:

ربما الحامل الموبل فيهم

وعناجيج بينهن المهار

وسيبويه يرى ما تقدم من اختصاصها بالفعل.

وأما الكاف: فعدم اختصاصها بالفعل صحيح عند سيبويه وغيره، ففي القرآن الكريم:{قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة} وفي مثال من أمثلة سيبويه: كما أنت ها هنا. ومن أبيات الحماسة:

وإن بنا لو تعلمين لغلة

إليك كما بالحائمات غليل

ص: 699

وقال كثير:

جزيت أبا بكرٍ عن الود نضرة .... كما الخير محمود على القول قائله

ثم ذكر جواز دخول (ما) على الحرفين معًا غير كافة، فقال:(وقد يليهما وجر لم يكف) يعني أن (ما) قد تلي رب والكاف، والجر الذي كان موجودًا قبل دخولها باق على حاله لم تؤثر (ما) في ذلك شيئًا، وذلك قليل على ما يفهم من إتيانه بقد. فأما رب: فمثال ذلك فيها ما أنشده في الحماسة:

ربما ضربة بسيف صقيل

بين بصرى وطعنة نجلاء

وأما كما: فمثاله قول الآخر:

وننصر مولانا ونعلم أنه

كما الناس مجروم عليه وجارم

وقال سيبويه: "وسألته - يعني الخليل- عن قوله: كما أنه لا يعلم ذلك فتجاوز الله عنه، وهذا حق كما أنك ها هنا: فزعم أن العاملة في (أن) الكاف و (ما) لغو، إلا أن (ما) لا تحذف مما هنا كراهة أن يجيء لفظها مثل لفظ كأن، كما ألزموا النون لأفعلن، واللام قولهم: إن كان ليفعل؛ كراهة أن يلتبس اللفظان". ثم

ص: 700

استدل على صحة قول الخليل بما لا يحتاج إلى ذكره هنا.

وقوله: (وجر لم يكف) جملة في موضع الحال من ضمير المفعول، أي: وقد يليهما غير مكفوفي الجر، أو من ضمير الفاعل، وهو ضمير (ما)، أي: وقد يليهما غير كاف للجر. ويقال: عاقه الشيء عن كذا يعوقه عوقًا وإعتاقه: حبسه وصرفه عنه، ومنه عوائق الدهر، وهي شواغله وأحداثه، فمعنى قوله:(فلم يعق عن عمل) أي: لم يحبس عنه؛ ولم يصرف عنه.

ثم قال الناظم:

وحذفت رب فجرت بعد بل

والفا، وبعد الواو شاع ذا العمل

وقد يجر بسوى رب لدى

حذف، وبعضه يرى مطردا

هذا فصل آخر يذكر فيه حذف حرف الجر وإبقاء عمله، وذلك أن حذف الجار تارة يكون العمل / معه زائلًا بزوال الحرف، كقوله - أنشده في الكتاب-:

استغفر الله ذنبًا لست محصيه

رب العباد إليه الوجه والعمل

وقول الآخر - أنشده المبرد - وغيره -:

تمرون الديار ولم تعوجوا

كلامكم علي إذًا حرام

وهذا القسم هو الأكثر في كلام العرب؛ إذ لم يقو الجار أن يحذف ويبقى عمله، كما قوي الفعل، ولكن هذا الحذف قد يكون قياسًا كالبيت الأول، وقد يكون سماعًا كالثاني، وليس كلامه في هذا. وتارة يحذف الجار

ص: 701

ويبقى عمله، وهو أقلي. وهو أيضًا على ضربين: قياسي، وسماعي، وجميع ذلك يذكره. وبدأ الكلام على (رب)؛ لأنها قسم برأسه، فيريد أن رب قد حذفت من اللفظ وبقي عملها بعد ثلاثة أحرف:

أحدها: بل، نحو قولك: بل دار للأحبة عرفتها، تريد: بل رب دار للأحبة عرفتها. ومنه قول رؤبة أو غيره:

*بل بلد ملء الفجاج قتمه*

وقول أبي النجم:

*بل جوز تيهاء كظهر الجحفت*

تقديره: رب بلد، ورب جوز تيهاء.

والثاني: الفاء، نحو قول امرئ القيس الكندي - في بعض الروايات -:

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا

فألهيتها عن ذي تمائم مغيل

ص: 702

وقال ربيعة بن مقروم الضبي، وهو من أبيات الحماسة:

وإن أهلك فذي حنق لظاه

علي يكاد يلتهب التهابًا

وقال الهذلي:

فحور قد لهوت بهن دهرًا

نواعم في المروط وفي الرياط

والحذف بعد هذين الحرفين قليل، ودل على ذلك من كلامه قوله:(وبعد الواو شاع ذا العمل) ويعني أن حذف رب مع بقاء عملها إنما شاع بعد الواو، فاقتضى أنه لم يشع بعد غيرها من الأحرف الثلاثة.

والواو هو الحرف الثالث، فتقول: وكتاب حفظته في ليلة، وليلة سهرتها في طلب الريح، ومن ذلك قول امرئ القيس:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

علي بأنواع الهموم ليبتلي

وقول رؤبة بن العجاج:

ص: 703

*وقاتم الأعماق خاوي المخترق*

وقال رؤبة أيضًا:

وبلدٍ عامية أعماوه

كان لون أرضه سماؤه

وقال الشماخ:

ودوية قفر تمشي نعامها

كمشي النصارى في خفاف اليرندج

وقال ذو الرمة:

ودويةٍ مثل السماء اعتسفتها .... وقد صبغ الليل الحصى بسواد

وأنشد سيبويه:

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

ص: 704

وذلك كثير شائع كما قال. وفي قوله: (فجرت بعد بل)، وكذا وكذا، ما يقتضي أن (رب) نفسها هي الجارة لا الحروف الثابتة قبلها، وهذا في بل والفاء متفق عليه على ما حكاه في التسهيل. وأما في الواو فالجمهور من البصريين أن الأمر كذلك. وذهب الكوفيون والمبرد من أهل البصرة إلى أن الواو نفسها هي الجارة، وهو مذهب مرجوح من أوجه:

أحدها: أن الواو عاطفة هنا، والعاطف ليس بعامل، ولا يخرجها عن العطف كونها تقع في أوائل القصائد نحو:

*وبلد عامية أعماؤه*

*وبلدة ليس بها أنيس*

لاحتمال العطف على كلام تقدم ملفوظ به لم ينقل، أو مقدر حكم له - منويًا في النفس - بحكم المنطوق به.

والثاني: أنها مع ذكر (رب) عاطفة باتفاق، فكذلك / يكون الحكم مع حذفها، ولا تنقل عن ذلك إلا بدليل، والأصل عدمه.

والثالث: أن الواو لم يثبت كونها حرف جر بنفسها إلا في المبدلة من الباء في القسم، وليست إذ ذاك بحرف عطف، فلا يثبت كونها حرف جر بالاحتمال.

والرابع: أنها تضمر بعد (بل)، ولا يقول أحد أن (بل) تجر، وكذلك تضمر بعد الفاء كما تقدم، وليست نائبة عن (رب)، ولا عوضًا عنها، فكذلك

ص: 705

ينبغي أن يكون الحكم مع الواو.

والخامس: أن الذي يدل على عدم النيابة عنها، وأنها ليست بعوض منها، أنه يحسن ظهورها معها، فيقال: ورب بلد، ورب بلدة، ولو كانت عوضًا عنها لما جاز ظهورها معها؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض عنه، كواو القسم لا يجوز أن يجمع بينها وبين الباء، فلا يقال: وبالله لأفعلن، على أن يكون الواو حرف قسم كالباء، فأما قول الله تعالى:{وتالله لأكيدن أصنامكم} . فالواو فيه عاطفة، لا حرف قسم، فلم يمتنع الجمع بينها وبين التاء، فلما جاز الجمع بين واو (رب) و (رب) دل ذلك على أنها لم تنب عنها، ولا عوضت منها.

وفي هذه الأدلة كلها نظر، وأقربها الرابع، إن ثبت الاتفاق من الفريقين على أن الفاء وبل ليستا جارتين عند حذف (رب)، فإن الفرق بينهما وين الواو فيه بعد.

وبعد فهذه المسألة لا ثمرة لها في النحو، وإنما البحث فيها مظهر للمرتكب الأولى في ضبط القوانين خاصة، وإذا كان كذلك فما قاله أهل البصرة له وجه صحيح، وما قاله الآخرون كذلك. والله أعلم. هذه مسألة تعلقت بقوله:(فجرت بعد) كذا.

ومسألة أخرى: وهو أنه لما قيد الحذف مع بقاء الجر بكونها بعد الأحرف الثلاثة دل أن ذلك الحكم لا يكون لرب بعد غيرها من حروف العطف، فلا يقال: ثم رجل لقيته، على تقدير: ثم رب رجل لقيته، ولا أو رجل لقيته، ولا حتى رجل لقيته، ولا ما كان نحو ذلك. وهذا صحيح، وكذلك أيضًا لا تحذف ويبقى عملها دون أن يكون بعد عاطف أصلًا، فلا يقال: رجل لقيته،

ص: 706

تريد: رب رجل لقيته، وما جاء مما خالف هذا فشاذ، نحو ما أنشده ابن الأنباري، وغيره لجميل:

رسم دار وقفت في طلله

كدت أقضي الحياة من جلله

فلا يعتد بمثل هذا في القياس.

ثم قال: (وقد يجر بسوى رب لدى حذف) يعني أن هذا الحكم المذكور في (رب)، وهو الجر مع حذف الحرف قد يوجد في غير (رب) من حروف الجر، لكن ذلك على الجملة قليل؛ دل على قلته قوله:(وقد يجر) وهذا الحذف على قلته على وجهين: مطرد، وغير مطرد، ولأجل ذلك قال:(وبعضه يرى مطردًا) يريد: وبعض آخر لا يطرد، فأما غير المطرد فمعلوم أنه لا يقاس عليه، ولكن يقبل ما سمع منه ليحفظ، فمن ذلك قول رؤبة - وقيل له: كيف أصبحت؟ -: خير عافاك الله. يريد بخير، أو: على خير.

وأنشد المبرد قول الشاعر:

ألا تسأل المكي ذا العلم ما الذي .... يحل من التقبيل في رمضان

فقال لي المكي أما لزوجة .... فسبع، وأما خلة فثمان

يريد: وأما لخلة فثمان، فحذف. ومنه أيضًا قول الآخر:

ص: 707

إذا قيل: أي الناس شر قبيلة

أشارت كليب بالأكف الأصابع

يريد: أشارت إلى كليب. وأما المطرد: فلم ينبه الناظم على مواضعه، بل اكتفى بالإيماء إليه بقوله:(وبعضه يرى مطردًا) وقد أطرد ذلك على قلته في مواضع الحاضر الآن منها ثمانية:

أحدها: المعطوف على الخبر الصالح للباء في النفي بليس، أو ما أشبهه نحو: ما زيد قائمًا ولا قاعد، وليس زيد قائمًا ولا قاعد، توهمًا للباء موجودة في الخبر. ومن ذلك قول زهير - أنشده سيبويه -:

بدا لي أني لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئًا إذا كان جائيًا

كأنه توهم الباء داخلة على (مدرك)، وكذلك قول الأخوص الرياحي، أنشده سيبويه أيضًا:

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة .... ولا ناعب إلا ببين غرابها

ص: 708

كأنه قال: ليسوا بمصلحين، فلذلك قال: ولا ناعب، وينظر إلى هذا في الجر بالإسم على توهم الإضافة قول امرئ القيس:

وظل طهاة اللحم من بين منضج

صفيف شواء أو قدير معجل

وأنشد المؤلف من ذلك في (ما) قول الشاعر:

ما الحازم الشهم مقدامًا ولا بطل

إن لم يكن للهوى بالعقل غلابا

وهذا- وإن كان قليلًا- قياس عند المؤلف والبغداديين.

والثاني: مميز (كم) إذا جرت بحرف جر، فإنها إذا كانت كذلك جر المميز بمن مقدرة، نحو: بكم درهم اشتريت ثوبك؟ يريد: بكم من درهم؟ فحذفت (من)، وأبقى عملها. قال ابن خروف: وهو مذهب الخليل، وسيبويه، والجماعة، فهذا حذف قياسي لم يخالف فيه على ما نقلوا إلا الزجاج. وهذا الموضع قد ذكره الناظم في باب كم. وسيأتي الاحتجاج عليه هنالك، إن شاء الله تعالى.

والثالث: القسم بالله يجوز فيه حذف الحرف وإبقاء عمله مع تعويض إثبات

ص: 709

الألف، نحو قولك: الله لأفعلن، أو تعويض (ها) ساقطة الألف، نحو: هالله لأفعلن، أو ثابتة الألف نحو: هالله، هكذا ممدودة مع وصل ألف الله، أو مع قطعها، نحو: ها الله لأفعلن، وقد جاء فيه الجر بغير تعويض شيء حكى الأخفش أن من العرب من يجر اسم الله مقسمًا به دون جار موجود، ولا عوض. وذكر غير الأخفش أنه سمع بعض العرب بقول: كلا الله لآتينك، وهذا كله جائز قياسًا عند النحويين، وإن كان قليلًا في نفسه، والجار المحذوف هنا الواوي أو الباء التي للقسم.

والرابع: جواب السؤال الذي تضمن حرف الجر، فيجوز فيه عند المؤلف حذف ذلك الحرف لتقدم ذكره، فتقول - في جواب من قال: بمن مررت؟ -: زيد. التقدير: بزيد، لكنه حذف اختصارًا. وفي الحديث:"وقيل له عليه السلام: فإلى أيهما أهدي؟ قال: أقربهما إليك بابًا" ونحو ذلك. وكان الناظم يزعم أن هذا النوع جائز عند جميع النحويين إلا الفراء. وهذا النقل ظاهر التسهيل، وما أنا من صحته على يقين.

ص: 710

والخامس: ما عطف على الاسم الذي دخل عليه مثل ذلك الحرف، فيجوز حذفه من المعطوف/ لتقدم ذكره في المعطوف عليه، وهذا مخصوص بالعطفعلى معمولي عاملين على رأي من يمنع ذلك كسيبويه، وأتبعه المؤلف نحو: رأيت زيدًا في الدار والسوق عمرًا، فإنه على تقدير إعادة الجار لتقدم ذكره لا أنه على حقيقة العطف؛ إذ لا يجوز أن ينوب العاطف عن عاملين، بل عن واحد خاصة، وهو الفعل هنا، وبقدر الآخر. ومن ذلك في القرآن الكريم:{وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون* واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون} . فجر (اختلاف) بفي مقدرة لتقدم ذكرها في قوله: (وفي خلقكم). وهو نظير ما أنشده سيبويه:

أكل امرئ تحسبين امرءًا

ونار توقد بالليل نارا

ومن أبيات الحماسة:

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته

ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

ص: 711

والسادس: المقرون بالهمزة أو هلا بعد كلام تضمن الحرف الجار، حكى الأخفش في كتاب:"المسائل" أنه يقال: مررت بزيد، فيقال: أزيد بن عمرو، وكذلك هلا نحو قولك: جئت بدرهم، فيقال: هلا دينار. قال: "وهذا كثير".

والسابع: المقرون بأن والفاء الجزائيتين، نحو ما حكاه يونس من قول العرب: مررت برجل صالح إلا صالح فطالح. والتقدير: إلا أكن مررت بصالح فقد مررت بطالح. (وأجاز أيضًا أن يقال: أمرر على أيهم أفضل إن زيد وإن عمرو)، وهذا قليل ولكنهم قاسوه. قال سيبويه بعدما ذكر المسألة الأولى وضعفها:(ولكنهم لما ذكروه- يعني الجار- في أول الكلام شبهوه بغيره) .. قال: (وكان هذا عندهم أثوى إذا أضمرت رب ونحوها في قولهم:

*وبلدة ليس بها أنيس*

يريد من غير أن يتقدم قبلها شيء يدل عليها. قال. (ومن ثم قال يونس: أمرر على أيهم أفضل إن زيد وإن عمرو) فإذا كان أقوى عند سيبويه من إضمار (رب)، وإضمارها قياس، فكذلك يكون الإضمار هنا في مسألتنا.

والثامن: المقرون بأن الجزائية في نحو مسألة يونس: أمرر على أيهم أفضل إن زيد وإن عمرو وقد مر ما فيه.

ص: 712

فهذه مواضع جاء فيها حذف الجار مع بقاء عمله قياسًا مطردًا، وهو الذي أشار إليه بقوله:(وبعضه يرى مطردًا) والرائي أطراده هم النحويون- الناظم أحدهم- وقد أتت أشياء مما يوافق عليها المؤلف أو يخالف، وفيما ذكر هنا كفاية.

وقوله: (وقد يجر بسوى رب) الجار هنا العرب، فمعنى الكلام أن الجر مع حذف الحرف جاء في كلام العرب قليلًا في مواضع معدودة، وبعض هذه المواضع رأى فيها النحويون الاطراد، فقاسوها وطردوها. وقوله:(لدى حذف). بمعنى عند حذف، يريد حذف الحرف الجار.

ص: 713