الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحال
هذا هو النوع السابع من المنصوبات التي ينصبها كل فعل متعديًا كان أو غير متعدٍ، وهو الحال، وابتدأ بتعريف الحال أولًا قبل الحكم عليه على غالب عادته، وهو الصواب؛ لأن الكلام في أحكام الشيء وأوصافه ثانٍ عن فهم معناه، فقال في تعريف:
الحال وصف فضلة منتصب
…
مفهم في حالٍ كفردًا أذهب
فأتى بأربعة أوصاف مساق الجنس والفصول المترتبة في الحدود:
أولها: أنه وصف، وهو الجنس الأقرب للحال، ومعنى كونه وصفًا أنه يصح أن يتصف به، لا أنه يريد الجاري على الموصوف، وهو النعت؛ لأن من شأن الحال ألا يجري على صاحبه وهو حال في الاصطلاح، بل إذا جرى عليه عاد وصفًا وخرج عن كونه حالًا، وهذا ظاهر.
والثاني: أنه فضلة، والفضلة مقابل العمدة، وهو ما استغنى الكلام عنه، نحو: جاء زيدٌ راكبًا، فراكبًا لو لم يأت به لصح الكلام وتم بأجزائه، وكذلك إذا قلت: زيدٌ منطلقٌ راكبًا، فلو لم تأت للفعل بفاعل، ولا للمبتدأ بخبر لكان "راكبًا" فاعلًا مع الفعل وخبرًا مع المبتدأ، فكنت تقول: جاء راكبٌ، ويزيد راكبٌ، فيكون إذ ذاك عمدةً لا فضلة؛ لأن الكلام لا يستغني عنه، فلا يكون إذ ذاك حالًا. فهذا معنى كونه فضلة، فتحرز إذًا منه في قولك: قام راكبٌ، وزيدٌ راكبٌ، وإن كان وصفًا من الأوصاف،
ويخرج عنه بذلك أيضًا المفعول الثاني في باب علمت، نحو: علمت زيدًا راكبًا، فإنه عمدة، فلم يتناوله الحد فليس بحال.
والثالث: كونه منتصبًا، فبين بذلك أن إعرابه أبدًا النصب لا غيره من وجوه الإعراب، وخرج عن ذلك النعت أيضًا، نحو: جاءني رجل راكب، ومررت بزيد القائم، فإن القائم [والراكب] في المثالين وصفٌ وفضلة جاءت بعد تمام الكلام مع أنها ليست بحال.
والرابع: أنه مفهم: في حال، أي مفهم هذا اللفظ المحكي الذي هو (في حال) هكذا مخفوضًا بغير تنوينٍ مهيأ للمضاف إليه كأنه اختزل من قولك: جاء زيدٌ في حال كذا، لأن تقدير الحال هكذا، فإذا قلت: جاء زيدٌ راكبًا، فالتقدير: جاء زيد في حال ركوب. وإذا قلت: جاء ضاحكًا، فالتقدير: في حال ضحك، وكذلك سائر المثل، فأتى بقوله (في حال) مقتطعًا من الكلام المقدر ليبين لك خصوصية الحال التي بها يفارق الوصف، وذلك أن راكبًا في قولك: رأيت رجلًا راكبًا وصف فضلة منتصب لكنه غير مفهم معنى (في حال كذا)، وإنما مفهومة رأيت رجلًا صفته كذا، لا في حال كذا، بخلاف: رأيت زيدًا راكبًا فإنه مفهم معنى: في حال ركوب، وكذلك إذا قلت: رأيت زيدًا الراكب لا فرق بينه وبين قولك: رأيت رجلًا راكبًا في منع تقدير (في حال كذا)، وهذا معنى تعريفه.
ثم فيه بعد نظر. فإن هذه الأوصاف لم توف بالمقصود على ما ينبغي في التعريف، أما الأول فإما أن يريد بالوصف [الوصف] المعنوي، أي هو وصف من الأوصاف التي لصاحب الحال، وذلك لا يستقيم، لأن راكبًا من قولك: جاء زيدٌ راكبًا لا يقال فيه إنه وصفٌ معنويٌ، بل هو موصوفٌ بالركوب، والركوب هو الوصف المعنوي، وأيضًا إن كان المعتبر هو الوصف المعنوي لم يصلح له ما بعده من الأوصاف، وهي قوله:"فضلة منتصب إلى آخره"، لأن [هذا] شأن الألفاظ لا المعاني. فهذا الوجه غير متجه، وإما أن يريد الوصف الاصطلاحي، فراكبٌ في المثال وصفٌ بلا شك لكن إنما يدخل له من الأحوال ما كان مشتقًا، وأما ما كان جامدًا فلا يدخل فيه، كما في قولك: بعته مدًا بدرهم، وبعته يدًا بيد، وهو كثيرٌ جدًا بحيث لا يقال فيه: إنه قليل، أو إنه مقصور على السماع، فلذلك لم يعتبر به، بل هو كثير، وقد نبه على كثرته بقوله:"ويكثر الجمود في سعر إلى آخره" فالجمود على الجملة في الحال شهير كثير بحيث لا يخرج عن باب الحال، كقول الله تعالى {فانفروا ثباتٍ} وقوله {فما لكم في المنافقين فئتين} ، {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} ، {هذه ناقة الله لكم آية} إلى أشياء لا تنحصر إلا أن الاشتقاق أكثر على كل
حال، وإذا كان كذلك أشكل تفسير الوصف بكل تقدير.
فإن قيل: إن التأويل فيما جاء من الأحوال الجامدة ممكن، فينصرف به الجامد إلى الاشتقاق، ولا يبقى في هذا الوجه إشكال.
فالجواب: أن كلامه يدفع هذا حيث أثبت الجمود في الحال، وارتضاه، ولم يرتض القول بلزوم الاشتقاق، وتأويل ما جاء من الجوامد. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله، فالإشكال واردٌ.
وأما الوصف الثاني فغير مخلص أيضًا، لأن الحال تأتي كثيرًا غير مستغنًى عنها، إذ لا يتم الكلام دونها [بل] إذا فرض طرحها صار باقي الجملة غير مفيد كقول الله تعالى {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} فكسالى حال لو فرض سقوطها لم يفد قوله {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا} فائدةً، وكذلك قوله {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} ومن ذلك كثيرٌ، وكذا قولهم: ضربي زيدًا قائمًا، وبابه، فإن الحال هنا غير مستغنًى عنه، وكل ما لا يستغنى عنه في الكلام فهو عمدة في ذلك الكلام، وبهذا المعنى بعينه اعترض بعض الناس على النحويين هذا الموضع؛ إذ يشترطون في الحال أن يكون بعد تمام الكلام، وهو معنى ما قال الناظم من كونه فضلة- بقول الشاعر، وهو عدي بن الرعلاء:
إنما الميت من يعيش كئيبًا
…
كاسفًا باله قليل الرجاء
فكئيبًا حال مع أنه لا يتم الكلام دونه؛ إذ لا يصبح أن يكون قوله: "إنما الميت من يعيش" كلامًا حتى يأتي بالحال، فكيف يكون الحال فضلة لزومًا؟ ! وأما الوصف الرابع، وهو قوله:"مفهم في حال" فقد اعترضه عليه ابنه بأنه يشمل النعت؛ لأن معنى: مررت برجلٍ راكبٍ هو معنى قولك: مررت برجلٍ في حال ركوب، كما أن قولك: جاء زيد راكبًا في معنى: جاء زيدٌ في حال ركوب. وما قاله بدر الدين ابنه قد ألم هو به في التسهيل، وفي الشرح، فإنه قال في التسهيل حين عرف بالحال "وهو ما دل على هيئةٍ وصاحبها متضمنًا معنى في غير تابعٍ ولا عمدةٍ". وقال في الشرح:"إذا قلت: جئت ماشيًا، وزيدٌ متكئٌ، ومررت برجلٍ متكئٍ، فإن معناه جئت في حال مشيٍ، وزيد في حال اتكاءٍ، ومررت برجل في حال اتكاء ثم قال: "فشارك الحال في هذا المعنى بعض الأخبار، وبعض النعوت فأخرجتها بقولي:"غير تابع ولا عمدةٍ". فإذا كان كذلك فقوله: "مفهم في حال" يشمل النعت، ويشمل أيضًا بعض الأخبار إلا أن الخبر قد خرج بقوله:"فضلة" فبقي النعت كما قال ابن الناظم، ثم إن تقدير (في حال) غير مبينٍ ولا مبينٍ؛ فإنك إذا قلت: جاء زيدٌ راكبًا فكيف يقال في تقديره، هل يقال: في حال راكبٍ، فلا يصح؛ لأن الراكب هو زيدٌ نفسه، وأنت لا يستقيم لك أن تقول: جاء زيدٌ في نفسه، أو في حال نفسه، وأما قولك: في حال
ركوب، فلا يفهم أيضًا من كلامه هذا دون الأول؛ إذ لا معين له، والإشكال أيضًا واردٌ فيه؛ لأن حال الركوب هو الركوب، ولا يصح أن يقال: جاء زيدٌ في ركوبه. فالحاصل أن هذا التعريف غير معرف.
والجواب عن الأول: أن المراد الوصف الاصطلاحي لكن الوصفية في الحال ضربان: ضربٌ هي فيه صريحةٌ، وذلك حيث الاشتقاق، وضربٌ هي فيه بالتأويل، وذلك حيث الجمود حسب ما يأتي بحول الله، ولا يخرج الجامد بذلك عن كونه جامدًا، وأيضًا فالعمدة في مجيء الحال أن يكون مشتقًا؛ ولذلك قال:"وكونه منتقلًا مشتقًا يغلب" فجعله الغالب في الباب كما ترى، فهو المحدود إذًا، وما سواه يرجع إليه بالتأويل.
وعن الثاني: أن الفضلة في الاصطلاح ما جاز الاستغناء عنه في الأصل أعني أصل التركيب، والعمدة ما لا يجوز الاستغناء عنه في الأصل، وقد يعرض لكل واحد منهما ما يخرجه عن أصله فيستغنى عن العمدة، كقولك: كل رجلٍ وضيعته، وأقائمٌ الزيدانِ؟ ويمتنع الاستغناء عن الفضلة كقولك: زيدًا، في جواب: من ضربت؟ ولا تخرج العمدة بهذا العارض عن كونها عمدةً، ولا الفضلة عن كونها فضلة، ويعبر عن هذا المعنى بأن معنى كون الحال فضلة وبعد تمام الكلام أن يكون الفعل قد أخذ فاعله، والمبتدأ خبره، وذلك حاصل في قوله:
* إنما الميت من يعيش كئيبًا *
ونحوه. والعبارة الأولى أعم.
وعن الثالث: أن ما قاله ابن الناظم غير مسلمٍ، فإن النعت تخصيصٌ
للمنعوت لتقع الفائدة في الإخبار عنه، فالنكرة الموصوفة توافق من جهة المعنى التعريفي الاسم المعروف، فكأنك لفظت باسمٍ واحدٍ مخصصٍ معرفٍ، بخلاف الحال فإنك لم تقصد به تخصيصًا ولا تعريفًا بل اكتفيت بما حصل لك من معرفته بالاسم المتقدم، ثم عبرت عن حالته التي هو فيها كما تخبر عنه بما شئت من الأخبار. والنعت ليس بخبرٍ عن المنعوت بالوضع اتفاقًا، وإنما هو من تمام المنعوت وتكملة له فافترقا، والدليل على ذلك أنه يصح الإتيان برأيت زيدًا قائمًا في جواب: كيف رأيت زيدًا؟ لأن معنى كيف: على أي حال، أو: في أي حال، بخلاف قولك رأيت زيدًا القائم، وما كان نحوه، لا يصلح جوابًا لكيف؛ وما ذاك إلا لأنه لا يفهم معنى: في حال كذا، فخرجت الصفة عن حده، ولعل ما قاله في التسهيل وشرحه لم يقل به ههنا. وهو الصواب. والله أعلم.
وعن الرابع: أن قوله: مفهم كذا دال على أن المراد ما يصح معناه، وذلك أن يقدر: في حال ركوب، فهو المعنى المفهوم من الحال، ولا يفهم منه معنى: في حال راكبٍ، إذ لا يصح من جهة المعنى، فكأن الناظم لم يحتج إلى بيانٍ زائدٍ على معنى: في حال، لقرب فهمه، ووجه هذا الفهم أن راكبًا وإن كان زائدًا في المعنى لا يمتنع فيه تجريد معنى الركوب لأن راكبًا يدل على الركوب. ألا تراهم قد قالوا:
* إذا نهي السفيه جرى إليه *
أي إلى السفه، لما كان في الصفة ذكر المصدر، فإذا كان كذلك لم يمتنع أن يفهم: جاء زيد في حال ركوبه، وإذا سلم أن معنى ذلك: جاء في ركوبه فلا يمتنع ذلك، كأنه يجعل الركوب ظرفًا لفعله مجازًا؛ لأن المصادر قد تكون ظروفًا نحو: مقدم الحاج، قال أكثر هذا المعنى الفارسي في التذكرة، فطالعه ثمة.
وقوله: "كفردًا أذهب" مثال من الحال متقدم على العامل، والفرد بمعنى المنفرد:
وكونه منتقلًا مشتقًا
…
يغلب لكن ليس مستحقا
يشترط في وقوع الاسم حالًا شروطٌ سبعةٌ، منها لازمة لا بد لكل حال منها، ومنها غالبةٌ على جمهور باب الحال، وقد يأتي الحال بدونها.
فاللازمة: أن يكون منصوبًا، بعد تمام الكلام، مقدرًا بفي من جهة المعنى، نكرة. والثلاثة الأول قد تقدمت، وهي التي أتى بها فصولًا في تعريفه. والرابع سيذكره بعد.
وأما الغالبة فأن يكون مشتقًا، منتقلًا، وصاحبه معرفة، فالشرطان الأولان هما اللذان شرع الآن في ذكرهما، وإن كان قد أشار إلى شرط الاشتقاق في التعريف لكنه لم يبين فيه ما يحتاج إلى بيانه. والثالث سيذكره بعد. ويريد هنا أن كون الحال منتقلًا وكونه مشتقًا يغلب في الاستعمال، وليس بوصفٍ لازم له، ولا يستحق الحال أن يشترط ذلك فيه لزومًا عند العرب. والانتقال معناه: أن يكون الحال وصفًا غير لازمٍ لصاحبه، ولا ثابتٍ له، كقولك: ذهب زيدٌ
مسرعًا، وسار راكبًا، وجاء ضاحكًا، وما أشبه ذلك، فالإسراع لزيد ليس بصفةٍ لازمةٍ له لا تفارقه، وكذلك الركوب ليس بصفةٍ لازمةٍ له، وكذلك سائر الأمثلة. والاشتقاق: أن يتضمن معنى الفعل كقائمٍ، وقاعدٍ، ومسرع، وراكب، فهذان الوصفان غالبان للحال، وأكثر مجيء الحال عليهما. وقد يكون على خلاف هذين الوصفين، فلا يكون منتقلًا بل لازمًا، ولا مشتقًا بل جامدًا. فمما جاء منه غير منتقل قول الله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط} . فقائمًا حالٌ من اسم الله، وهو وصف ثابت لا ينتقل، وكذلك قوله تعالى {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلًا} ، وقوله تعالى {وخلق الإنسان ضعيفًا} ، وقوله {ويوم أبعث حيًا} ، وقوله {طبتم فادخلوها خالدين} ، وقالت العرب: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها. ومما جاء منه غير مشتق قوله تعالى {فانفروا ثباتٍ} أي: جماعات في تفرقة، فهذا غير مشتق، وكذلك قوله تعالى {فما لكم في المنافقين فئتين} حال ولا اشتقاق فيه، وقوله تعالى {هذه ناقة الله لكم آية} . ويكثر ذلك في السعر كما قال. ومما اجتمع فيه الثبوت
والجمود ما مثل به سيبويه من قوله: هذا خاتمك حديدًا، وهذه جبتك خزًا. ووجه عدم التزام هذين الوصفين أن الحال خبرٌ من الأخبار، والأخبار لا يشترط فيها اشتقاق ولا انتقال باتفاق، فكذلك ينبغي أن يكون ما في معنى الخبر. وقد يسمي الحال خبرًا سيبويه في بعض المواضع اعتبارًا بأن ذلك معناه. وكأن الناظم نبه هنا على مسألتين: إحداهما: أن المستقر في كلام العرب من وصف الاشتقاق والانتقال أنه يغلب ولا يلزم. فقوله: "وكونه منتقلًا مشتقًا يغلب" بيان أن كلام العرب هكذا، ولا يريد أنه شرط للنحويين شرطوه غالبًا؛ لأن هذا لا معنى له، وإنما كان يكون شرطًا للنحويين لو قال مثلًا:"والأحسن أو والأولى كونه منتقلًا مشتقًا" أو يقول: "ويضعف في القياس كونه غير مشتق أو غير منتقل" أو ما أشبه ذلك. وعلى هذا يجري في كلامه كل ما كان نحوه كقوله: "وغالبًا ذا التا لزم"، وقوله:"غالبًا جا ذا البدل"، "وشارع نحو خاف ربه عمر"، وما كان مثل ذلك. وينبني على ذلك المسألة الثانية، وهي: أن شرطي الانتقال والاشتقاق عنده غير مشترطين بل يجوز عنده أن يأتي الحال جامدًا ولازمًا؛ إذ لم يستحق كونه كذلك في السماع، فلا يستحق ذلك في القياس خلافًا لمن جعلهما شرطين مستحقين، فإن طائفةً من المتأخرين يقولون بذلك، ويؤولون الجامد واللازم
حتى يصيروهما في حكم المشتق والمنتقل، فيعود الشرط لازمًا قياسًا. وقال الشلويين ليس من شرط الحال الانتقال إلا أن تكون غير مؤكدة، فإنها إن كانت مؤكدة فقد تكون غير منتقلة، ثم أتى بقوله {ويوم أبعث حيًا} {ثم وليتم مدبرين} . ثم بين أن المؤكدة على خلاف الأصل، فعدم الانتقال على خلاف الأصل، فالاشتراط صحيح. وما ذهب إليه الناظم أصوب فقد تقدم أمثلة مما الحال فيه مبينة، وهي مع ذلك غير منتقلة، وقد تأول ابن عصفور بعض هذه الأحوال التي هي غير منتقلة وردها إلى معنى الانتقال، وهو على بعده لا ينجيه من وجود الحال غير منتقلة، وكذلك أولوا ما جاء من الأحوال غير مشتقة، وصححوا لزوم الاشتراط. والإنصاف ما قاله الناظم لكثرة ما جاء من ذلك، ولأن التأويل فيها لا يخرجها أو أكثرها عن كونها جامدةً. والضمير في (ليس) عائدٌ إلى كونه، أي ليس ذلك الكون المذكور مستحقًا للحال أن يكون عليه بلا بد، بل قد يكون على خلاف ذلك. ثم أتى بمواضع مجيء الحال جامدًا على غير الغالب فقال:
ويكثر الجمود في سعرٍ وفي
…
مبدي تأولٍ بلا تكلف
كبعه مدًا بكذا يدًا بيدٍ
…
وكر زيدٌ أسدًا أي كأسد
يعني أن الحال يكثر مجيئه جامدًا في موضعين:
أحدهما: السعر مطلقًا، وذلك نحو: بعته الشاء شاةً ودرهمًا، بعته الشاء شاةً بدرهم، وقامرته درهمًا في درهم، وبعته داري ذراعًا بدرهم، وبعت البر قفيزين بدرهم، وبعت السمن منوين بدرهم، واشتريت الخبز رطلين
بدرهم، وأخذت زكاة ماله درهمًا لكل أربعين درهمًا، ولك الشاء شاةً بدرهمٍ شاة بدرهم، وما أشبه ذلك. ومنه مثاله:"بعه مدًا بكذا"، فمدًا حالٌ من الهاء، وبكذا بيان، كذا قال سيبويه كما كان (لك) في سقيًا لك بيانًا أيضًا، وهذا جار في الأمثلة التي فيها المجرور، وأما نحو شاةً ودرهمًا، فإن الواو فيه بمعنى مع، كقولك: كل رجلٍ وضيعته، فهذه كلها أحوال وقعت في التسعير من غير اشتراط للاشتقاق عند سيبويه، والحذاق، وإنما يقدرون فيها الاشتقاق تقديرًا معنويًا، وذلك غير كافٍ في اشتراط الاشتقاق، فقولك: شاةً ودرهمًا، أو بدرهمٍ في تأويل مسعرًا هذا التسعير، ودرهمًا في درهم في تأويل معادلًا هذا بذاك، أو باذلًا هذا البدل، وذراعًا بدرهمٍ في تأويل مقدرة أو مقومة هذا التقدير أو التقويم، وكذلك سائر الأمثلة المذكورة، وغيرها.
والثاني من الموضعين: حيث يكون الحال الجامد يتأول بالمشتق بسهولة من غير تكلف ولا تعسف، وذلك قوله:"وفي مبدي تأولٍ بلا تكلفٍ". فمعنى مبدي: مظهر، والتأول صفة المؤول، فيريد أن الحال إذا أظهر بنفسه المعنى الذي يؤول عليه من غير تكلفٍ حتى يصير في معنى المشتق بسهولةٍ. فذلك أيضًا يكثر عند العرب استعماله، وأتى لذلك بمثالين يحذى حذوهما:
أحدهما قوله: "يدًا بيد" إذا قلت: بعته الثوب يدًا بيد، فيدًا بيدٍ حالٌ في تأويل معاجلًا أو مناجزًا. وهذا المثال دال على المفاعلة ومنه سايرته قدمًا بقدم، وقابلته دينارًا بدينارٍ، وفاخرته أبًا بأب، وما أشبه ذلك.
والثاني: قوله: "كر زيدٌ أسدًا" على حذف المضاف المشتق كأنه قال: مثل أسدٍ أو شبيه أسدٍ، وهو معنى تقديره بالكاف في قوله:"أي كأسد"، ومنه عند المؤلف قول النميري:
تضوع مسكًا بطن نعمان إن مشت
…
به زينبٌ في نسوةٍ عطرات
أي: تضوع مثل المسك، ومنه في الحديث قوله عليه السلام:"أحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا" أي: مثل رجل، وما أشبه ذلك مما كان على حذف المضاف. فهذان نوعان من الأنواع التي يسهل فيها التأويل، ويظهر معناه من الحال بلا تكلف.
ومنها: أن يوصف الحال بصفة مشتقة كقولك: رأيته رجلًا جميلًا، ومنه قوله تعالى:{فتمثل له بشرًا سويًا} . فالتأويل هنا قريب، لأن الصفة هي المقصودة فكأنه على معنى: رأيته جميلًا، وتمثل لها سويًا في صفة البشر.
ومنها: أن يكون دالًا على ترتيب نحو قولهم: بينت له الحساب بابا بابًا،
يريد مرتبًا سويًا، وادخلوا رجلًا رجلًا، يريد مرتبين هذا الترتيب، وتصدقت بمالي درهمًا درهمًا أي مصروفًا هذا النوع من الصرف.
ومنها: أن يدل على أصالة نحو: هذا خاتمك حديدًا، ورأيت ثوبك خزًا، وفي القرآن {قال أأسجد لمن خلقت طينًا} تقديره: متأصلًا في هذا الجنس، أو مصنوعًا من كذا.
ومنها: أن يدل على فرعية كقولك: هذا حديدك خاتمًا، وهذا ذهبك سوارًا، ورأيت فضتك خلخالًا، والتقدير: مصوغًا على هذا النحو.
ومنها: أن يدل على نوع الشيء، كقولك: هذا تمرك شهريزًا، وهذا تمرك عجوة، أي متنوعًا هذا النوع.
ومنها: أن يدل على تطوير وقع فيه تفضيل، نحو: هذا بسرًا أطيب منه رطبًا، وهذا الذهب سوارًا أحسن منه خلخالًا، وهذا عنبًا أحسن منه زبيبًا، وما أشبه ذلك، والتقدير: هذا مطورًا هذا التطوير (أحسن منه هذا التطوير) الآخر. فهذه ثمانية أنواع مما وقع الحال فيه جامدًا لقرب تأوله بالمشتق يقاس عليها ما سواها، والجميع ينتظمه كلام الناظم بإشارة التمثيل، وينضم ذلك إلى نوع السعر، فالجميع تسعة أنواع، وهو ما نص عليه في التسهيل بقوله:"ويغنى عن اشتقاقه وصفه، أو تقدير مضاف قبله، أو دلالته على مفاعلة، أو سعرٍ، أو ترتيب أو أصالةٍ، أو تنويع، أو طورٍ واقعٌ فيه تفضيل" لكن فصلها في التسهيل، وأجملها
هنا في ضابط، وهو أن يكون الجامد يظهر فيه التأويل بلا تكلفٍ فهذا أخصر، والأول أظهر. والله أعلم، ثم إن كلامه يتم النظر فيه بذكر مسائل أربع: إحداها: أنه لم يصرح هنا بقياس في هذا الذي كثر ولا عدمه بل قال: "ويكثر الجمود في سعر" إلى آخره، والكثرة تحتمل أن تبلغ مبلغ القياس عليها، وتحتمل ألا تكون كذلك، لكن قوله أولًا:"لكن ليس مستحقًا" دليل على أنه قياس؛ إذ لو كان موقوفًا على السماع لكان الشرطان مستحقين، فهذا مشعرٌ بالقياس في هذه الكثرة.
والثانية: أن قوله: "ويكثر الجمود في سعر" من غير تقييد بأن يكون التأويل غير متكلف، ثم قال:"وفي مبدي تأولٍ بلا تكلف". فشرط عدم التكلف في التأويل دال على أحد ثلاثة أمور:
إما أن يكون السعر غير محتاج إلى التأويل عنده (فكأنه يقول: ويكثر الجمود في سعر من غير افتقار إلى تأويل) بخلاف غير السعر فإنه مفتقر إليه، فيصح أن يقع الجامد حالًا في السعر من غير احتياج إلى تأويل، ولا يصح أن يقع حالًا في غير السعر إلا مع صحة تأوله بالمشتق.
وإما أن يكون السعر قد كثر فيه ذلك، وإن كان التأويل متكلفًا فكأنه يقول: يكثر الجمود في السعر على التأويل، لكن لا يشترط ألا يكون متكلفًا، بل قد يكون كذلك وقد لا يكون كذلك، بخلاف غير السعر.
وإما أن يكون التأويل في السعر ظاهرًا غير متكلف لزومًا بحيث لا يوجد الجامد في السعر إلا ظاهر التأويل بخلاف غير السعر فإن الأمر فيه يختلف، فيكون منه متكلف، وغير متكلف، فغير المتكلف هو الذي يكثر، والمتكلف قليل أو معدوم وكأن هذا الثالث أولى؛ لأنه الموجود في السعر كما تقدم.
والثالثة: المتكلف التأويل من الأحوال الجامدة ظاهر أنه ليس بقياس، إذ أخرجه عن الكثرة في السماع فهو إما معدوم فلا يصح القياس، لأن القياس إنما ينبني على أصلٍ وقد فرض معدومًا، وإما قليل لا يقاس على مثله، إذ لو كان عنده قياسًا لم يخرجه عن حكم غير المتكلف التأويل؛ لأنه لا أثر للقلة والكثرة إذا كان الجميع مقيسًا عليه، فلا معنى لقوله:"بلا تكلف" إذًا، فإذا كان الأمر على هذا ثبت أن ذا التأويل المتكلف لا يقاس عليه أصلًا.
والرابعة: ما ذو التأويل المتكلف المتحرز منه. فاعلم أنك إذا قلت: هذا مالك دينارًا، وجمعت دراهمي أربعةٌ، ومررت برفيقك رأسين، وما أشبه ذلك فتأويل مثل هذا بعيد متكلف لو قدرت معنى دينارًا قليلًا أو متنوعًا، أو قدرت معنى أربعة معدودة، وكذلك الباقي- بخلاف قولك: بينت له حسابه بابا بابًا؛ فإن معنى مفصلًا فيه تأويل ظاهر المعنى، والحال يدل عليه- فمثل هذا لا يقع حالًا، وإن وقع حالًا فمسموع لا يقاس عليه.
والكر ضد الفر، وهو راجع إلى معنى الإقدام. وقوله:"أي كأسد" بيان لوجه التأويل في المثال؛ إذ لو لم يبينه لخفي مقصوده فكان البيان أولى. والله أعلم. [ثم قال]
والحال إن عرف لفظًا فاعتقد
…
تنكيره معنى كوحدك اجتهد
هذا هو الشرط الرابع من الشروط اللازمة المنبه عليها قبل، ولم يأت به تصريحًا ولكنه أتى به ضمنًا، فمعنى كلامه أن الحال إن ج اء معرفًا بأحد وجوه التعريف، فليس في الحقيقة بمعرفٍ، وإنما هو منكر، وهذا الكلام لا يقال إلا فيما ثبت له التنكير أصلًا يرجع إليه، فيريد أن الحال لا يكون أبدًا إلا نكرة، نحو: جاء زيدٌ مسرعًا، وكر زيدٌ راجعًا، ومر بشرٌ ضاحكًا، وما أشبه ذلك، فإن ظهر في اللفظ تعريفٌ فليس في المعنى كذلك، وإنما كان كذلك؛ لأن الحال غالب أمره أن يكون مشتقًا، وصاحبه معرفة، والحال خبرٌ من الأخبار فألزموه التنكير؛ لئلا يتوهم كونه نعتًا لا حالًا، وأيضًا فإن الحال فضلةٌ ملازمٌ للفضيلة؛ إذ لا يكون في الكلام عمدةً أصلًا، فلا يقام مقام الفاعل كغيره من الفضلات: المفعول به، والمجرور والظرف، وغيرها. فلم يستحق أن يعرف؛ إذ لا فائدة لتعريفه، واستحقه غيره من الفضلات لوقوعه عمدةً، وقيامه مقام الفاعل، فجاز مجيئه معرفةً، بهذا وجه التنكير في الشرح. وإذا صح استحقاقه للتنكير فمتى وجدته معرفةً في اللفظ فاعتقد تنكيره في المعنى. والتعريف للحال يكون بالإضافة، ويكون بالألف واللام.
فمما جاء مضافًا مثاله الذي مثل به، وهو: وحدك اجتهد، فوحدك حالٌ من ضمير اجتهد، ومثله جاء زيدٌ وحده، ومررت بهم وحدهم، ومررت بالزيدين وحدهما، فهذا ليس على ظاهره من التعريف، وإنما هو منكرٌ في المعنى؛ إذ معناه: منفردًا، ومنفردين، ومنفردَيْن، ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز: مررت بهم ثلاثتهم، وأربعتهم، وكذلك إلى العشرة. قال سيبويه: "وزعم
الخليل رحمه الله [أنه] إذا نصب ثلاثتهم فكأنه يقول مررت بهؤلاء فقط، لم أجاوز هؤلاء. كما أنه إذا قال وحده فإنما يريد أن يقول: مررت به فقط لم أجاوزه". ومثل ذلك: مررت بهم قضتهم بقضيضهم، وأنشد سيبويه للشماخ:
أتتني تميم قضها بقضيضها
…
تمسح حولي بالبقيع سبالها
ومعناه: جاؤوا جميعًا، وهو من الانقضاض، كأنه يقول: انقض آخرهم على أولهم، ومنه: رجع عوده على بدئه، ومعناه عائدًا على بدئه، أي: راجعًا على طريقه. وقالوا: كلمته فاه إلى في، يريد مشافهًا له، وحكى ابن خروف عن الفراء: جانبته ركبته إلى ركبتي، وجاورته بيته إلى بيتي، وصارعته جبته عن جبتي، وناضلته قوسه عن قوسي، وحكى أبو زيد: بعته ربح الدرهم للدرهم. فهذه جملة من الحال المعرف بالإضافة، وهو الذي وقع التمثيل به.
وأما التعريف بالألف واللام الذي شمله قوله: "إن عرف لفظًا" فمثاله قولهم: ادخلوا الأول فالأول، أي: ادخلوا مرتبين واحدًا فواحدًا، فهو في تقدير النكرة، وقالوا: جاؤوا الجماء الغفير، والناس فيها الجماء الغفير، ومعناه جميعًا. وقالوا: أرسلها العراك، أي معتركة، أنشد سيبويه للبيد بن ربيعة:
فأرسلها العراك ولم يذدها
…
ولم يشفق على نغص الدخال
وقرأ الحسن {لنخرجن الأعز منها الأذل} معناه ذليلًا، أو أذل من غيره. وقد يكون التعريف بالعلمية نحو: جاءت الخيل بداد، أي متبددة، ومنه: ذو الرمة ذا الرمة أشهر منه غيلان، والمعنى: ذو الرمة مسمى بهذا الاسم أشهر منه مسمى بالآخر. فهذه كلها على خلاف الأصل؛ فلذلك أمر باعتقاد كونها في المعنى نكرات.
وبقي النظر هنا في ثلاث مسائل:
إحداها: أن كلامه يشعر بأن ما جاء من الحال معرفًا فإنما هو سماعٌ لقوله: "إن عرف لفظًا" يريد في كلام العرب، فهو قد أوصى بتأويله على التنكير. ولو كان قياسًا لم يحتج إلى ذلك بل كان يقول: إن الحال يجوز الإتيان به معرفة صح تأويله بالنكرة أو لم يصح.
فإن قيل: أمره بالتأويل لا يدل على عدم القياس؛ إذ قد أحال على التأويل قبل هذا في قوله: "وفي مبدي تأويل بلا تكلف". وقد تقدم أنه مقيس، فالتأويل لا ينافي القياس.
فالجواب: أنه لم يقل هناك أول الحال الجامد بالمشتق إذا أتاك من كلامهم، ولو قال ذلك لكان سماعًا، وإنما عرف المقيس بكونه يسهل تأويله فذلك الذي لا ينافي القياس، وقال هنا: إذا أتاك المعرفة فأوله بالمنكر، ولا تعتقد تعريفه تعريفًا صحيحًا. فهذا ظاهر في أن تعريف الحال لا يصح قياسًا، وأنه لو كان قياسًا لم يحتج إلى تأويله.
والثانية: في وجه اعتقاد التنكير، إذ قد أمر به في قوله:"اعتقد" واعتقاد التنكير قد يكون في ذي الأداة باعتقاد زيادتها، وفي ذي الإضافة باعتقاد كونها غير محضة، وفي ذي العلمية باعتقاد التنكير، وقد يكون بغير ذلك. والذي يشعر به كلامه اعتقاد التنكير من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ؛ فإنه قال:"فاعتقد تنكيره معنى" يريد أن تنكيره ليس من جهة اللفظ بأن تقدر اللام زائدة، والإضافة غير محضةٍ، فإن هذا أمرٌ لفظي، بل هو من جهة المعنى؛ لأن معنى وحده: منفردًا، ومعنى ثلاثتهم: جميعًا، وكذلك سائر المثل. وعلى هذا المجرى أجراه النحويون على أن بعضهم أجاز أن تكون الألف واللام فيما هي فيه زائدة، ولكن مثل هذا لا يجري في ذي الإضافة، فالأولي أن يكون التنكير بالتأويل المعنوي كما أشار إليه فهو المطرد.
والثالثة: أنه مثل الحال المعرفة بوحدٍ فدل على أنه عنده حالٌ بنفسه، ويظهر ذلك منه في شرح التسهيل أيضًا. والنحويون في (وحده) مختلفون على ثلاثة أقوال: فمذهب سيبويه والخليل أنه اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فالأصل في قولك: اجتهد وحدك: اجتهد منفردًا،
فمنفردًا حال ثم وضع موضعه (انفرادًا)، فـ (انفرادًا) مصدرٌ في موضع الحال، ثم وضع موضعه وحدك، فوحدك اسم- لأنه لا فعل له في موضع المصدر الموضوع موضع الحال. وذهب قومٌ إلى أنه مصدرٌ موضوعٌ موضع الحال؛ إذ حكي يوحد وحدًا ووحدةً ووحادةً. وذهب يونس إلى أنه ظرفٌ بمنزله عند، أو منصوبٌ على إسقاط الجار، ولم يأخذ به سيبويه. وما ذهب إليه المؤلف مذهبٌ رابعٌ، فهو عنده اسمٌ جامدٌ حالٌ بنفسه على الظاهر من كلامه في هذه الأحوال المعارف؛ إذ بها مثل مع أنها ليست عند غيره بمنزلةٍ واحدةٍ، بل منها ما هو حالٌ بنفسه، ومنها ما هو مصدرٌ في موضع الحال، ومنها ما هو كوحده اسمٌ في موضع المصدر الذي في موضع الحال؛ ولجعله هذه الأنواع بمنزلة واحدة خلطتها أنا في التمثيل المتقدم كما رأيت، فإن كان الأمر فيها على ظاهر كلامه من أنها أحوال بأنفسها حقيقةً فله وجهٌ من النظر، فإنه قد تقرر أن الجامد من الأسماء يقع حالًا قياسًا إذا كان ذا تأويل غير متكلفٍ، ولا شك أن هذه المعارف كلها يصح فيها التأويل على غير تكلف كما تقدم. فهي إذًا في عداد: بعته يدًا بيد، وكر أسدًا، وما أشبه ذلك، وإنما خالفتها في القلة والكثرة، فقل الحال المعرفة فوقف على محله، وكثر النكرة فقيس، فكما لم يقدر في: يدًا بيدٍ ونحوه أنه اسم في موضع الحال، أو في موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فكذلك لا ينبغي أن يقدر هنا لأنه غير محتاج إليه. وإن كان مراده أنها وقعت أحوالًا على الجملة من غير نظر إلى نيابةٍ أو عدمها فصحيحٌ، ويكون موافقًا لغيره
على هذا الوجه. ويدل على هذا القصد من كلامه قوله على إثر هذا: "ومصدر منكر حالًا يقع" فجعله- كما ترى- حالًا بنفعه، وهو مصدر، وعادة النحويين أن يقولوا في نحو: قتلته صبرًا: إنه مصدرٌ في موضع الحال، ولا يقولون عادةً: إنه حالٌ بنفسه، فكذلك يقدر جعله هذه الأشياء أحوالًا بأنفسها أمرًا جمليًا. وبهذا الوجه تظهر مخالفته ليونس في جعله وحده ظرفًا أو منصوبًا على إسقاط الجار، وهو مذهب مرجوح لم يره سيبويه؛ لأن معنى الظرفية فيه بعيدٌ، وأيضًا فإنه يلزم على قوله أن تقول: زيدٌ وحده، فتجعل وحده واقعًا موقع خبر المبتدأ، كان المبتدأ مصدرًا أو جثةً كسائر الظروف، وليس ذلك بجائزٍ عند سيبويه والخليل لما يلزم على مذهبها من رفعه، ولا يرتفع أبدًا. وعلى مذهب يونس لا يلزم رفعه؛ لأنه ظرف. ويبقى المذهبان الآخران أن يكون وحدك عند الناظم على رأي سيبويه والخليل، وأن يكون على رأي من يجعله مصدرًا في موضع الحال. فالله أعلم بمراده.
ثم قال:
ومصدر منكرٌ حالًا يقع
…
بكثرةٍ كبغتةً زيدٌ طلع
يعني أن المصدر المنكر يكثر في كلام العرب وقوعه حالًا كما تقول: طلع زيدٌ علينا بغتةً، فبغتةٌ مصدرٌ واقعٌ موقع الحال، وكان الأصل فيه ألا يقع حالًا؛ لأنه غير صاحب الحال لكنهم لما كانوا يخبرون بالمصادر عن الجثث كثيرًا مجازًا واتساعًا، كقولهم: زيدٌ عدلٌ، وزيدٌ رضا، وصومٌ وفطرٌ، و:
* فإنما هي إقبالٌ وإدبار *
فعلوا مثل ذلك في الحال؛ لأنه خبر من الأخبار كما تقدم، فقالوا: قتلته صبرًا، ولقيته فجاءة ومفاجأة، وكفاحًا ومكافحة، ولقيته عيانًا، وكلمته مشافهةً، وشفاهًا، وأتيته ركضًا وعدوًا ومشيًا، وأخذت الحديث عنه سمعًا وسماعًا، ومن ذلك في القرآن الكريم {ثم ادعهن يأتينك سعيًا} ، {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية} الآية، {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} ، {وادعوه خوفًا وطمعًا} ، {ثم إني دعوتهم جهارًا} ، وأنشد سيبويه لزهير بن أبي سلمى:
فلأيًا بلأيٍ ما حملنا وليدنا
…
على ظهر محبوكٍ ظماءٍ مفاصله
وأنشد أيضًا:
ومنهلٍ وردته التقاطا
يريد فجأة، وقال أوس بن حجر:
فكان من أفلت من عامرٍ
…
ركضًا وقد أعجل أن يلجما
وذلك في الكلام كثير كما قال: "بكثرة"، لكن هذا اللفظ يشعر بأمرين:
أحدهما: أن هذا المصدر حال بنفسه لا بالنيابة، وهو مذهب الجمهور. وذهب الأخفش والمبرد [إلى] أن المصدر ههنا منصوبٌ بفعل مضمرٍ نصب المصادر المطلقة، والفعل المضمر في موضع الحال، لكن حذف وقام مصدره مقامه، فأما الأخفش فذلك عنده على الجواز، ولم ينكر مذهب سيبويه. وأما المبرد وأصحابه فالتزموه، ولم يقولوا بغيره. قال السيرافي:"كان المبرد يدعي أن هذا القياس قول النحويين" قال: "وكان الزجاج يذهب إلى تصحيح قول سيبويه، وهو الصواب؛ لأن قول القائل: أتانا زيدٌ مشيًا يصح أن يكون جوابًا لقول من قال: كيف أتاكم زيدٌ؟ وكذلك: كيف لقيت زيدًا؟ فيقول: فجأة"، قال:"ولو كان على قول المبرد لجاز: أتانا زيدٌ المشي، وهو لا يجيزه". هذا ما قال السيرافي. ورد غيره قول المبرد بأنه إن كان الدليل على الفعل المضمر لفظ المصدر المنصوب به فينبغي أن يجوز ذلك في كل مصدر له فعلٌ، وألا يقفوا ذلك على السماع، وإن كان الدليل هو الفعل الظاهر، فذلك لا يمكن؛ لأن القتل لا يدل على الصبر، ولا اللقاء على الفجأة، ولا الإتيان على الركض؛ ولذلك منع سيبويه من دخول السرعة قياسًا.
فإن قيل: فقد أجاز سيبويه أن يكون (سيرًا) في قولك: سير عليه سيرًا على إضمار فعلٍ، وذلك قياسٌ. فهذا مثل ذلك. فالجواب: أنه إنما أجاز الإضمار لما كان عليه دليل، وهو الفعل الظاهر، فليس ذلك كمسألتنا؛ إذ لا دليل فيها. وتمام هذا الوجه في شرح ابن خروف فتأمله هنالك.
والأمر الثاني: التوقف في القول بالقياس في هذا المصدر؛ إذ لو كان عنده قياسًا لم يحتج إلى قوله: "بكثرة"، فلما قال ذلك دل على أن في القياس مغمزًا. ومذهب سيبويه والأكثر أنه ليس بقياس، فلا تقول: أتانا سرعةً، ولا أتانا رجلةً، كم تقول: أتانا عدوًا، وأتانا ركضًا، وقاس ذلك المبرد في كل شيء يدل عليه فعل من المصادر، فأجاز: أتانا سرعةً، ورجلةً، لأن السرعة والرجلة من ضروب الإتيان، ولا يجيز: أتانا ضربًا، ولا ضحكًا؛ لأنه ليس من ضروب الإتيان. والمذهب الأول أولى، لأن الحال- كما تقدم- في معنى الخبر، فكما لا يقع المصدر خبرًا عن الجثة قياسًا، وإنما يكون بالسماع فلا تقول: زيدٌ ضربٌ- ولا: أنت قيامٌ ولا عمروٌ أكلٌ قياسًا على قولهم: زيد عدلٌ، وزيدٌ رضا، فكذلك الحال لا يكون بالمصادر قياسًا، وكذلك الحال وصفٌ من الأوصاف التي تجري على النكرات فكما لا تقول: مررت برجل ضربٍ قياسًا على قولهم: مررت برجل عدلٍ، فكذلك لا تقول: أتيته سرعةً كما تقول: أتيته سعيًا. وهذا ظاهر.
وقوله: "ومصدرٌ منكرٌ حالًا يقع بكثرة" فقيد الكثرة فيه بكونه منكرًا تحرز من المصدر المعرف، فإن وقوعه حالًا قليلٌ، ومنه قولهم: أرسلها العراك، قال لبيد:
فأرسلها العراك ولم يذدها
…
ولم يشفق على نغص الدخال
وقال أوس بن حجر:
فأوردها التقريب والشد منهلًا
…
قطاه معيدٌ كرة الورد عاطفٌ
ومن ذلك: طلبته جهدك وطاقتك، وفعله رأي عيني، وسمع أذني، وأنشد ثعلب عن الأثرم عن أبي عبيدة:
تعفي الشيب جهدك بالخضاب
…
لترجع فيلك أبهة الشباب
وذلك كله قليلٌ كما قال. ويبقى على كلام الناظم إشكالٌ وهو أن المساق مشعرٌ بعدم القياس في وقوع المصدر حالًا كما سبق، وثم من المصادر ما يقع حالًا قياسًا لا على مذهب المبرد فقط، بل على مذهب غيره من النحويين فقد نص في التسهيل على ثلاثة مواضع:
أحدها: ما كان نحو: أنت الرجل علمًا، وأنت الرجل أدبًا، وأنت الرجل نبلًا، وأنت الرجل فطنةً، أي: أنت الكامل في حال أدبٍ، وحال نبلٍ، وحال علمٍ، وحال فطنة.
والثاني: ما كان نحو: هو حاتمٌ جودًا، وزهيرٌ شعرًا، وهو يوسف حسنًا، وما أشبه ذلك، فالتقدير: هو مثل حاتمٍ في حال جود، ومثل زهير في حال شعرٍ، ومثل يوسف في حال حسنٍ.
والثالث: ما كان نحو: أما علمًا فعالمٌ، وأما سمنًا فسمينٌ، وأما نبلًا فنبيلٌ، وما أشبه ذلك، ومعنى الكلام مهما يذكر إنسانٌ في حال علم فالموصوف به عالم، أو مهما يكن من شيء فالمذكور عالمٌ في حال علمٍ، ويكون على هذا التقدير حالًا مؤكدًا، وإنما يصح هذا التقدير حيث يجوز عمل ما بعد الفاء فيما قبلها على ما هو مقرر في موضعه. فهذه المواضع ليست بموقوفةٍ على السماع.
والجواب: أن إطلاق القول بالكثرة قد يقال: إنه لا يعطي منه القياس حتمًا، وإنما هو تصريحٌ بمجرد الكثرة في السماع، ويبقى النظر بعد ذلك في القياس، فيكون الأمر عنده في القياس مختلفًا، فمنه ما هو مقيسٌ، ومنه ما ليس كذلك، وسكت عن تفصيل الحكم لنظر الناظر في المسألة، ويترجح هذا القصد بأن النظم الذي في اليد لا يبلغ فيه بسط مثل هذه الأمور لاسيما باب: أما علمًا فعالم، فإن فيه من الصعوبة ما قال بسببها الزجاج: إنه لم يفهمه أحدٌ، إلا الخليل وسيبويه، فإذا كان كذلك لم يلق التفصيل بهذا الموضع، وأيضًا فلا يدخل هنا باب: أما علمًا فعالمٌ على مذهبه في الشرح؛ إذ هو عنده منصوبٌ على المفعول به، والتقدير: مهما تذكر علمًا فالذي وصفته عالم. وأولى من هذا أن يقال: إن تمثيله قيد في المصدر الذي أراد ذكره، وعلى هذا يبقى ما تقدم غير متعرض له، ولا يلزمه ذكر كل مسألة في الحال، كما لا يلزمه ذلك في غيره. والبغت أن يفجأك الشيء، تقول: بغتة بغتًا أي فاجأه، ولقيته بغتة أي فجأةً، ثم قال:
ولم ينكر غالبًا ذو الحال إن
…
لم يتأخر أو يخصص أو يبن
من بعد نفيٍ أو مضاهيه كلا
…
يبغ امرؤٌ على امرئٍ مستسهلًا
هذا هو أحد الشروط الغالبة للحال، وهي ثلاثة، تقدم منها اثنان، وهما: الاشتقاق، والانتقال، وهو الآن يشرع في الثالث، وهو: أن يكون صاحب الحال معرفةً، والغالب فيه أن يكون معرفةً، لأن الحال خبرٌ من الأخبار- كما مر- فكما يشترط التعريف في المخبر عنه؛ لأن به حصول الفائدة غالبًا، فكذلك يشترط في صاحب الحال، وأيضًا فإن النكرة أحوج إلى الصفة منها إلى الحال؛ لأن الصفة مبينة ومخصصة للموصوف بخلاف الحال، فعلى هذا يكون صاحبها نكرة إلى مع حصول الفائدة كما كانت النكرة لا تقع مبتدأ ولا فاعلًا إلا مع حصول الفائدة، فالناظم أتى بالمواضع التي تحصل فيها الفائدة مع النكرة إذا أتى الحال منها، فيريد أن الحال لا يكون صاحبه نكرةً في الغالب إلا في أحد ثلاثة مواضع:
أحدها: أن يتأخر صاحب الحال عنه ويتقدم هو، وسيأتي بيان تقديم الحال على عامله، وذلك قوله:"إن لم يتأخر" فضمير يتأخر عائدٌ على صاحب الحال، ويريد يتأخر ويتقدم عن الحال، ومثال ذلك: فيها قائمًا رجلٌ، وهذا قائمًا رجلٌ، الأصل: هذا رجلٌ قائمٌ، وفيها رجلٌ قائمٌ، وإذا كان كذلك فالأصل أن يجري قائمٌ نعتًا على رجلٍ، وإن كان النصب جائزًا، فالنعت أقوى. وقال سيبويه: "إنما كان النصب بعيدًا هنا من قبل أن هذا يكون من صفة الأول، فكرهوا أن يجعلوه حالًا كما كرهوا أن يجعلوا الطويل والأخ حالًا حين قالوا: هذا زيدٌ الطويل، وهذا عمروٌ أخوك، فألزموا صفة النكرة النكرة، كما ألزموا صفة المعرفة المعرفة، وأرادوا أن يجعلوا حال النكرة فيما يكون من اسمها كحال
المعرفة فيما يكون من اسمها" يريد بحال النكرة وحال المعرفة حكمها، أي حملوا حكم النكرة على حكم المعرفة في الامتناع من نقل صفتها إلى الحال. وقال ابن السراج: "إنما ضعف الحال هنا؛ لأن الحال خبر، وحمل الصفة على الصفة أقرب من حملها على الخبر" انتهى. فلما أرادوا أن ينصبوا القائم على الحال على غير ضعفٍ نقلوه إلى موضع لا يجري فيه على موصوفه، فقالوا: هذا قائمًا رجلٌ، وفيها قائمًا رجلٌ؛ إذ لا يصح في النعت أن يجري على منعوته، وهو متقدمٌ عليه؛ لأن من شرط جريانه التأخير عن الموصوف، ولا يختص هذا الحكم بتقديمه على صاحبه وحده، بل ينصب إذا تقدم صدر الكلام حيث يجوز ذلك، كقولك: ضاحكًا جاءني رجلٌ، وقائمًا رأيت رجلًا، وما أشبه ذلك، ومن ذلك ما أنشد سيبويه لذي الرمة:
وتحت العوالي في القنا مستظلةً
…
ظباءٌ أعارتها العيون الجآذر
وأنشد أيضًا:
وبالجسم مني بينًا لو علمته
…
شحوب وإن تستشهدي العين تشهد
وأنشد أيضًا لكثير عزة:
* لمية موحشًا طلل *
وتمامه عند الأعلم:
* يلوح كأنه خلل *
وروي هكذا:
لمية موحشًا طلل قديم
…
عفاه كل أحسم مستديم
وقال آخر:
وما لام نفسي مثلها لي لائم
…
ولا سد فقري مثل ما ملكت يدي
ومن أبيات الحماسة:
فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا
…
وفي الأرض مبثوثًا شجاعٌ وعقرب
والثاني: أن يتخصص صاحب الحال النكرة بوجهٍ من وجوه التخصيص، وذلك قوله:"أو يخصص" ومثاله قولك: مررت برجلٍ قائمٍ مستلقيًا، وجاءني أخٌ كريمٌ ضاحكًا، ومنه قول الله تعالى:{فيها يفرق كل أمرٍ حكيمٍ أمرًا من عندنا} . فهذا من التخصيص بالوصف، وقد يتخصص بالإضافة كقولك: مررت بغلام امرأةٍ فارسًا، وفي القرآن الكريم {وقدر فيها أقواتها في أربعة أيامٍ سواءً للسائلين} ، وقال:{وحشرنا عليهم كل شيءٍ قبلًا} على قراءة غير نافعٍ وابن عامر، هو جمع قبيلٍ، أي: قبيلًا قبيلًا، وصنفًا صنفًا، وإنما ساغ هنا الحال من النكرة المخصصة كما ساغ الابتداء بالنكرة إذا خصصت؛ لأنها بذلك تقرب من المعرفة فعوملت معاملة المعرفة في صحة نصب الحال عنها.
والثالث: أن يكون صاحب الحال واقعًا بعد نفي أو شبهة، وذلك قوله:"أو يبن من بعد نفي أو مضاهية". فمعنى يبن: يظهر، أي ما لم يظهر بعد كذا أو كذا. والمضاهي: معناه المشاكل والمشابه، فأما النفي الصريح، فنحو: ما سافر أحد ضاحكًا، ولا أتى أحدٌ راكبًا، وفي القرآن الكريم {وما أهلكنا من قريةٍ إلا ولها كتابٌ معلوم} فقوله:{ولها كتابٌ معلومٌ} جملة حالية مصدرة بواو الحال، وكذلك:{وما أهلكنا من قريةٍ إلا لها منذرون} بغير واوٍ جملة حالية أيضًا. وأما المضاهي للنفي فالنهي والاستفهام، فالنهي قد مثله بقوله:
"لا يبغ امرؤٌ على امرئٍ مستسهلًا". البغي: التعدي، يقال بغى الرجل على الرجل إذا استطال عليه، أي لا يتعد امرؤٌ على امرئ مستسهلًا لذلك ومستخفًا له، ومن ذلك ما أنشده في الشرح:
لا يركنن أحد إلى الإحجام
…
يوم الوغى متخوفًا لحمام
وأما الاستفهام فنحو قولك: هل أتاك أحدٌ طالبًا، وأجاءك امرؤ راغبًا، وأنشد في الشرح:
يا صاح هل حم عيش باقيًا فترى
…
لنفسك العذر في إبعاده الأملا
وإنما ساغ ههنا انتصاب الحال من النكرة من حيث أشبهت المعرفة في حصول الفائدة بها كالمبتدأ إذا تقدمه نفي أو استفهام. فهذه ثلاثة مواضع حصر الناظم فيها ما يصح أن ينتصب الحال منه من النكرات قياسًا، وعلى هذا يكون ما عداه مما جاء صاحب الحال فيه نكرة نادرًا، وهو الذي نكت عليه بقوله:"غالبًا"؛ إذ نص أنه لم ينكر غالبًا ذو الحال في غير هذه المواضع، فيفهم له أنه نكر في غيرها قليلًا، وقد أجاز سيبويه على ضعف: هذا رجلٌ قائمًا، وفيها رجلٌ قائمًا. قال لما ذكر: هذا قائمًا رجلٌ، وهو قائمًا رجلٌ، وذكر وجه النصب فيها، وحمل هذا النصب على جواز: فيها رجلٌ قائمًا، فكأنه جائزٌ عنده على قلة-
أعني: فيها رجل قائمًا- (ومن ذلك قولهم: مررت بماءٍ قعدة رجلٍ، وعليه مائة بيضًا). وفي هذا الحصر نظرٌ، لاقتضائه أن ما عدا ما ذكر نادرٌ، وليس كذلك فقد استثنى في التسهيل مع تلك المواضع الثلاثة ثلاثة مواضع أخر جاريةً مجراها في القياس غير الأقلي:
أحدها: كون جملة الحال مقرونة بالواو كقوله تعالى {أو كالذي مر على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها} . فالحال هنا من نكرة سائغٌ واردٌ في الكلام الفصيح الذي لا أفصح منه، ومنه قول الشاعر:
مضى زمن والناس يستشفعون بي
…
فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
وإنما ساغ ذلك لكون الجملة لا يتوهم فيها أنها نعت له.
والثاني: كون الحال لا يصح أن يكون وصفًا لكونه بالجامد، كقولهم: هذا خاتمٌ حديدًا، وعندي راقودٌ خلًا، وهذه صفة خزًا، الظاهر من كلام سيبويه انتصاب هذه الأشياء على الحال، وحسن ذلك التخلص من قبح جريانه نعتًا.
والثالث: اشتراك المعرفة مع النكرة في الحال، كقولك: هؤلاء ناس وعبد الله منطلقين، وهذان رجلان وعبد الله منطلقين بنصب منطلقين على الحال؛ إذ لا يصح جريانه نعتًا على أحدهما للمخالفة التي بين النكرة والمعرفة، وقد بوب
سيبويه على هذا النوع بابًا على حدة. وثم مواضع أخر:
منها: أن تكون النكرة لا يصح وصفها بمعرفة ولا نكرة، وذلك قولك: مررت بكل قائمًا ومررت ببعضٍ قائمًا، لا يصح أن يجري قائمٌ وصفًا عليهما؛ لأنهما في التقدير معرفتان بنية الإضافة، ولا يصح أن يوصفا بالمعرفة أيضًا؛ لأنهما في اللفظ نكرتان، فلم يسغ إلا أن تنصب الصفة حالًا.
ومنها: أن تجتمع نكرتان مختلفتا الإعراب، نحو: قاتل رجلٌ غلامًا فارسين، ومررت برجلٍ ولقيت غلامًا راكبين، فقولك فارسين ينتصب على الحال؛ إذ لا يصح جريانه عليهما مع اختلاف الإعراب، فإذا تقرر هذا فالناظم قد أدخل هذه المواضع بمقتضى كلامه في حيز القليل النادر مع أنها ليست كذلك.
وقد يجاب عن الأول بأنه داخلٌ في باب القليل، ولم يشتهر مثل ذلك، وكونه جاء في فصيح الكلام لا يخرجه عن كونه قليلًا، فكم في القرآن، والكلام الفصيح من الأمور التي تدخل في هذا النصاب، نعم لو منع ذلك جملةً لكان عليه الدرك، وهو لم يفعل ذلك، فلا درك عليه.
وعن الثاني أن النحويين مختلفون فيه، والأظهر فيه النصب على التمييز، فلا يكون حجةً عليه؛ إذ لعله أخذ هنا بمذهب من جعل النصب فيه على التمييز، قال السيرافي: وهو القياس، وجوزه ابن خروف مع تسليم الحال حسب ما ظهر من سيبويه، وقد قال ابن مالك في الشرح: إن المشهور في غير كلام سيبويه نصبه
على التمييز، وإذا احتمل أن يكون رأيه هذا فلا اعتراض عليه، بل الظاهر من حصره أنه رأيه.
وعن الثالث أته لما اشتركت المعرفة مع النكرة في الصفة صار جريانها على الاسمين جريانًا على المعرفة/ أو كالجريان عليها؛ إذ لم تختص النكرة بها فلا يصدق على الحال أن صاحبه نكرة، فخرج بهذا الاعتبار عن مسألته.
وعن الرابع أنه من القليل أيضًا؛ إذ لا تكاد تجد من ذلك إلا كلًا وبعضًا، وعليهما بوب سيبويه.
وعن الخامس أنه لم يذكره لإمكان النصب فيه على إضمار فعل لا على الحال، ألا ترى أنه يجب ذلك إذا اختلف عاملا الاسمين، فلم يجتمعا في معنى عاملٍ واحد كما تقول: فوق الدار رجل وقد جئتك برجل آخر عاقلين، لا يصح الحال هنا لعدم اجتماع العاملين في معنى عامل واحد، فقد يقال: إنهما إذا اجتمعا في معنى العامل الواحد فالأولى النصب على غير الحال فلما كان الأمر كذلك ترك ذكر هذا الموضع؛ إذ ليس الحال فيه بضرورة. والله أعلم. ثم قال:
وسبق حال ما بحرفٍ جر قد
…
أبوا ولا أمنعه فقد ورد
هذا الفصل يتكلم فيه على الحال من المجرور بحرف هل يجوز تقديمه عليه أم لا يجوز؟ وهذا الحكم ثانٍ عن كون الحال يجوز تقديمه على صاحبه، وثانٍ عن جواز الحال من المجرور بحرف مطلقًا، بخلاف المجرور باسمٍ، فإن فيه تفصيلاً، وسيأتي ذكر ذلك كله إن شاء الله. وقوله:"وسبق" مفعول بأبوا، و (حال) مضاف إلى (ما)، وهي موصولة صلتها (جر)، و (بحرفٍ) متعلق بجر،
والتقدير: قد أبوا- يعني النحويين- سبق حال الاسم الذي جر بحرفٍ، ويعني أن النحويين منعوا إذا كان صاحب الحال مجرورًا بحرف أن يتقدم الحال عليه، وإنما يكون عندهم متأخرًا عنه لزومًا بحيث لا يجوز في القياس غيره، فإذا قلت مررت بزينب ضاحكة، فهو اللازم، وكذلك إذا قلت: مررت بالزيدين قائمين لا يجوز أن تقول: مررت ضاحكة بزينب، ولا مررت قائمين بالزيدين، وإلا يجوز تقديمه على متعلق الجار وهو الفعل ونحوه أولى، فلا يقال ضاحكة مررت بزينب ولا قائمين مررت بالزيدين. هذا ما حكاه عن النحويين، ولم يذكر المسبوق ما هو، إذ هو مفهوم أن المراد سبق الحال على صاحبه، وسبقه على صاحبه تارة يكون مع سبق العامل عليهما، وتارة مع سبق الحال على صاحبه والعامل معًا، ثم ذكر ما اختاره مذهبًا ورجحه على غيره، وهو الجواز، فقال:"ولا أمنعه فقد ورد" يريد: لا أمنع ذلك السبق الذي منعتم بل أجيز سبق الحال لصاحبه المجرور بحرفٍ، وسبقه لصاحبه وللعامل معًا، وبين سبب هذه الإجازة، والمخالفة، وأنه السماع المقتضى للجواز بقوله:"فقد ورد" يعني أنه ورد من كلام العرب فهو فيه موجود، وإذا كان مسموعًا فلا سبيل إلى المنع جملة؛ إذ السماع هو الإمام المتبع، فمن ذلك قول الله تعالى {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا}. فالظاهر في كافةٍ أنه حال من الناس كما لو/ قال: للناس كافة. والعرب لا تستعمل كافة قط إلا حالًا، وهو الزمخشري: إن كافة صفة لموصوف محذوف، أي إلا إرسالة كافة للناس، ضعيف، وكذلك قول الزجاج في جعل كافة حالًا من الكاف؛ إذ هو إذ ذاك مؤنث حال من مفرد
مذكر، وذلك كله لا يعرف إلا بالسماع، ولا سماع إلا ما في محل النزاع، ومن أمثلة الفارسي في التذكرة: زيد خير ما تكون خير منك، على أن مراده: زيد خير منك خير ما تكون، فقدم الحال على صاحبه المجرور بحرفٍ، ومن المنظوم قول الشاعر من أبيات الحماسة:
إذا المرء أعيته الرياسة ناشئًا
…
فمطلبها كهلًا عليه شديد
فكهلًا حال من ضمير عليه، وأنشد المبرد:
لئن كان برد الماء حردان
…
صاديًا إلى حبيبًا إنها لحبيب
فحران حال من الياء في إلي، والعامل حبيبًا، والتقدير: لئن كان برد الماء حبيبًا إلى حران صاديًا، فقدم الحال على صاحبه والعامل، وأنشد في الشرح من ذلك أيضًا:
مشغوفة بك قد شغفت وإنما
…
حتم الفراق فما إليك سبيل
وأنشد أيضًا منه:
غافلًا تعرض المنية للمرء
…
فيدعى ولات حين إباء
تقديره: تعرض المنية للمر غافلًا، وكذلك تقدير ما قبله: قد شغفت بك مشغوفةً، ومثل الآية في تقديمه على صاحبه خاصة قول الآخر، أنشده في الشرح:
تسليت طرًا عنكم بعد بينكم
…
بذكراكم حتى كأنكم عندي
تقديره: تسليت عنكم طرًا. فهذه الأدلة كلها، وما كان مثلها تشهد بصحة القول بالجواز، لكن التقديم على ذي الحال والعامل معًا قليل.
وقد احتج المانعون لتقديم الحال هنا بأوجهٍ من القياس:
منها: أن تعلق العامل بالحال ثانٍ لتعلقه بصاحبه، فحقه إذا تعدى لصاحبه بواسطة أن يتعدى إليه بتلك الواسطة، لكن منع من ذلك خوف التباس الحال بالبدل، وأن فعلًا واحدًا لا يتعدى بحرف واحدٍ إلى شيئين، فجعلوا عوضًا من ذلك التزام التأخير.
ومنها: أن منع التقديم هذا بالحمل على حال المجرور بالإضافة.
ومنها: أن حال المجرور شبيه بحال عمل فيه حرف جر مضمن معنى الاستقرار، نحو: زيد في الدار متكئا، فكما لا يتقدم الحال على حرف الجر هذا وأمثاله كذلك لا يتقدم عليه في نحو: مررت بهند جالسة، وهذه التعليلات ضعيفة في أنفسها:
أما الأول: فلا نسلم أن حق الحال تعدي الفعل إليه بواسطة إذا تعدى إلى صاحبه بها، بل حقه الاستغناء عنها لشبهه بالظرف، ولذلك يعمل فيه ما لا يتعدى بحرف كاسم الإشارة، وغيرهما.
وأما الثاني: فإن المجرور بحرف أصل للمجرور بالإضافة أو كالأصل له فلا يصح له أن يحمل حال المجرور عليه؛ لئلا يكون الأصل تابعًا للفرع عكس القاعدة، وأيضًا فالمضاف إليه بمنزلة الموصول مع الصلة، والحال بمنزلة جزء الصلة فيجب تأخيره، وحال المجرور بحرفٍ/ لا يشبه جزء الصلة، فأجيز تقديمه.
وأما الثالث: فالرف ظاهر؛ فإن جالسه منصوب بمررت وهو فعل متصرف لا يفتقر في نصب الحال إلى واسطة كما لا يفتقر إليها في نصب الظرف والمصدر، وحرف الجر الذي عداه إلى صاحب الحال لا عمل له إلا الجر، ولا جيء به إلا لتعدية مررت، والمجرور به بمنزلة المنصوب فيتقدم حاله كما يتقدم حال المنصوب. وأما متكئًا في مسألة التنظير فمنصوب بفي لتضمنها معنى الاستقرار، وهي رافعة لضميرٍ هو صاحب الحال فلم يجز تقديمه (متكئًا) على (في)؛ لأن العمل لها وهي عامل ضعيف فمانع التقديم في: زيد في الدار متكئًا مفقود في: مررت بهندٍ جالسة. فهذا وجه ضعفها، وإذا فُرضت قوية لم تُعتبر لوجود السامع مخالفًا لها كما تقدم. وهذا الوجه هو الذي اعتمد الناظم في الرد؛ إذ قال:"ولا أمنعه فقد ورد". والصواب_ والله أعلم_ مع النحويين دون ابن مالك، لأنهم لم يأتوا بوجه المنع إلا بعد استقراء كلام العرب، وأنهم لم يجدوا التقديم إلا في شعر لا يجعل وحده مأخذ قياس، أو في الآية الكريمة مع احتمالها وعدم نظير لها في ظاهرها، ومعارضة الاستقراء للقياس في المسألة، فحينئذ جزموا بمنع المسألة، وأولوا الآية الكريمة حين لم يجدوا لها في الكلام
نظيرًا، ولم يثبت عندهم جواز التقديم في لغةٍ من اللغات، فالحق ما ذهبوا إليه. ومن عادة ابن مالك التعويلعلى اللفظة الواحدة تأتي في القرآن ظاهرها جواز ما يمنعه النحويون، فيعول عليها في الجواز، ومخالفة الأئمة، وربما رشح ذلك بأبيات مشهورة أو غير مشهورة، ومثل ذلك ليس بإنصاف، فإن القرآن الكريم قد يأتي بما لا يُقاس مثله، وإن كان فصيحًا، وموجهًا في القياس لقلته، ولما تكلم ابن ملكون على بيت الحماسة:
إذا المرء أعيته الرياسة ناشئًا
…
فمطلبها كهلًا عليه شديد
مذيلًا على كلام ابن جني فيه قال: "وإنما منع سيبوية من إجازته- يعني تقديم الحال هنا- أرى؛ لقلته في كلامهم، فجرى ما جاء منه مجرى الأشياء الموقوفة على السماع لقلتها، وإن كان لها أقيسة تجوزها كما يتكلم بما تكلموا به، فإن القياس يدفعه، ألا نسمع قوله: "وليس لك أن تريد إلا ما أرادوا" انتهى كلامه. وهو واضح في أنه ليس كلما تكلم به العرب يُقاس عليه، وربما يظن من لم يطلع على مقاصد النحويين أن قولهم: شاذ، أو: لا يُقاس عليه، أو: بعيد في النظر القياسي، أو ما أشبه ذلك ضعيف في نفسه، وغير فصيح، وقد يقع مثل ذلك في القرآن فيقومون في ذلك بالتشنيع على قائل ذلك، وهم أولى لعمر الله أن يُشنع عليهم، ويُمال نحوهم بالتجهيل والتقبيح؛ فإن النحويين إنما قالوا ذلك
لأنهم لما استقروا كلام العرب ليقيموا منه قوانين يحذى حذوها وجدوه على قسمين:
قسم سهل عليهم فيه وجه القياس ولم يعارضه معارض لشياعه في الاستعمال، وكثرة النظائر فيه فأعملوه بإطلاق علمًا بأن العرب كذلك كانت تفعل/ في قياسه.
وقسم لم يظهر لهم فيه وجه أو عرضه معرض لقلته وكثرة ما خالفه. فهنا قالوا: إنه شاذ، أو موقوف على السماع، أو نحو ذلك، بمعنى أننا نتبع العرب فيما تكلموا به من ذلك، ولا نقيس غيره عليه، لا لأنه غير فصيحٍ، بل لأنًا نعلم أنها لم تقصد في ذلك القليل أن يُقاس عليه، أو يُغلب على الظن ذلك، وترى المعارض له أقوى وأشهر وأكثر في الاستعمال، هذا الذي يعون لا أنهم يرمون الكلام العربي بالتضعيف والتهجين حاش لله، وهم الذين قاموا بفرض الذب عن ألفاظ الكتاب، وعبارات الشريعة، وكلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ فهم أشد توقيرًا لكلام العرب وأشد احتياطًا عليه ممن يغمز عليهم بما هم منه بُراء. اللهم إلا أن يكون في العرب من بعد عن جمهرتهم، وباين بحبوحة أوطانهم، وقارب مساكن العجم، أو ما أشبه ذلك ممن يخالف العرب في بعض كلامها وأنحاء عباراتها، فيقولون: هذه لغة ضعيفة، أو أشبه بذلك من العبارات الدالة على مرتبة تلك اللغة في اللغات. فهذا واجب أن يُعرف به، وهو من جملة حفظ الشريعة والاحتياط لها، وإذا كان هذا قصدهم، وعليه مدارهم فهم أحق أن يُنسب أليهم المعرفة بكلام العرب ومراتبه في الفصاحة، وما من ذلك الفصيح قياس، وما ليس
بقياس، ولا تضر العبارات إذا عُرف الاصطلاح فيها، وعلى هذا المهيع جرى النحويون في منع هذه المسألة، فلم يغفلوا السماع أصلًا ثم مالوا إلى المنع بالقياس، وإنما قالوا بالقياس عضدًا لما حصل لهم بالاستقراء من امتناع العرب من التقديم، ولكن للكوفيين هنا قاعدة يبنون عليها القياس- مخالفة لما تقدم، وهي أنهم قد يعتبرون اللفظ الشاذ فيقسون عليه، ويبنون على الشعر الكلام من غير نظر إلى مقاصد العرب، ولا اعتبار لما كثر أو قل، فمن ههنا وقع الخلاف بينهم في مسائل كثيرة. والناظم قد ينحو نحوهم في مسائل كثيرةٍ، وهذه المسألة منها، وكذلك مسألة تقديم التمييز على عامله، ومسألة العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، ومسألة الفصل بين المضاف والمضاف إليه، وغير ذلك مما سيأتي ذكره. وقدمرت منه مسائل، ولعله ينبه على بعض ذلك إن شاء الله. فقد ظهر قصد الناظم في إعمال القياس في هذه المسألة، وتبين علام بنى في أمثالها على الجملة، وتفصيل النظر في القاعدة المبني عليها مقرر في علم الأصول النحوية. ثم على الناظم في هذا الموضع سؤالان:
أحدهما: أنه نسب إلى جملة النحويين المنع في المسألة بقوله: "قد أبوا". فظاهر هذا أنه متفق على المنع فيه، وهذا غير صحيح؛ أما البصريون فإن الجمهور منهم على ما قال، وقد ذهب ابن كيسان إلى جواز المسألة، وقال ابن جني:"رأيت أبا علي يُسهل تقديم حال المجرور عليه، ويقول: هو قريب من حال المنصوب"، وفي التذكرة ما يدل على إجارته إياه، وقال ابن ملكون:
"هو الذي يقتضيه القياس عندي على ما يصفون به الحال من أنه زيادة في الخبر" قال: "ولا شك أن الخبر في مثل: / مررت بزيد إنما هو الفعل دون الحرف، فإذا كان الحال زيادة في الخبر الذي هو الفعل، وفضله من فضلته، وجب التصرف فيه حسب ما يُتصرف في غيره من فضلات الفعل". هذا ما قال فيه وجه القياس، وأنت تراه قد مال إلى ما فر عنه الجمهور. وذكر ابن أبي الربيع أنه منقول عن بعض الكوفيين. فهؤلاء جماعة قد قالوا بمثل ما قال به الناظم، فإذا ليس جميع النحويين بقائلين بالمنع، فكان إطلاق ذلك اللفظ عنهم غير لائقٍ من جهتين: من جهة إيهام الاتفاق في المسألة، ومن جهة مخالفة لهم بعد ذلك الإطلاق حتى يتوهم أنه صرح بمخالفة بالإجماع. وفي ذلك ما فيه.
والثاني: أنه أظهر حجة على ما ذهب أليه ليس فيها متعلق لقوله (فقد ورد) وهذا لا ينجيه؛ لأن المخالفين مقرون بأنه قد ورد، فهم الين أنشدوا أكثر الأبيات المتقدمة، وأتوا بالآية الكريمة، وتكلموا عليها، وأولوا ظاهرها، وحملوا الأبيات على الاضطرار الشعري، وأولوا منها ما أمكن، وإذا كان كذلك فأي حجة في قوله:"فقد ورد" فإن الوارد في كلام العرب على قسمين: قسم يُقاس عليه، وقسم لا يُقاس عليه لا اعتبار به في القياس، وإنما الاعتبار بالآخر فهو الذي كان الحق أن يعنيه فيقول:"فقد ورد كثيرًا في الكلام" أو نحو ذلك، مما يُعطي أنه حجة، أما إذا لم يفعل ذلك، فكلامه كالعبث الذي لا يليق بمثله.
والعذر له عن الأول أنه لم يجهل أن المسألة مختلف فيها، كيف وقد ذكر الخلاف في التسهيل وشرحه؟ ولكنه أطلق لفظ الجميع على الأكثر، وهذا
سائغ في كلام العرب، شهير الاستعمال، فيقال: جاءني أهل غرناطة إذ جاءك جمهورهم، بل تقول ذلك وإنما جاءك كبراؤهم، وهم قليل بالإضافة إلى جميعهم، فلا محذور فيه.
وعن الثاني: أن مقصوده إنما هو ورود يُعتد بمثله في القياس، لا مطلق الورود بدليل عدم اعتباره للشذوذات في هذا النظم كثيرًا، فعرفالاستعمال يعين له ما أراد، وهذا ظاهر. والله أعلم.
ولما تكلم هنا على صاحب الحال المجرور بحرفٍ، وكان المجرور تارة يجر بحرف، وتارة باسم، وحصل حكم النوع الأول، وأن الحال أصبح أن تأتي منه لكنه لا يتقدم- شرع الآن في الكلام على المجرور باسمٍ، وهل تأتي الحال منه أم لا؟ وهو الحال من المضاف إليه فقال:
ولا تجر حالًا من المضاف له
…
إلا إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزءًا ما له أضيفا
…
أو مثل جزئه فلا تحفيا
يعني أن الحال من المضاف إليه لا يجوز، فلا يقال: هذا غلام هندٍ ضاحكة، ولا هذه دار اليزيدين ساكنين فيها، ولا جاءني كتابك قاعدًا، ولا أشبه بذلك؛ لأنه كما لا يكون صاحب خبر لا يكون صاحب حال؛ إذ الحال خبر من الأخبار، وإنما كان كذلك؛ لأن المضاف إليه مكمل للمضاف، وزائد عليه. /لأنه واقع منه موقع تنوينه الزائد عليه، فالعمدة هو الأول المضاف لا الثاني المضاف إليه، وهذا هو الفرق بينه وبني المجرور بحرفٍ؛ إذ المجرور بحرف هو مطلوب العامل بالقصد إلا أنه لم يتصل إليه إلا بواسطة الحرف، فلذلك جاز الحال، والمضاف إليه ليس مطلوب العامل أصلًا فلم يكن الحال من جائزًا، ثم استثنى منه المنع الكلي ثلاث مسائل، فأجاز فيها الحال من المضاف إليه.
إحداها: أن يكون المضاف في الأصل عاملًا في المضاف إليه الرفع أو النصب، فتكون الإضافة ثانية عن ذلك، وهو معنى قوله: "إلا إذا اقتضى
المضاف عمله" سعني أن يكون المضاف مقتضيًا أي طالبًا عمل المضاف إليه، يريد عمله فيه، فالعمل في الحقيقة للمضاف، ونسبة إلى المضاف إليه من حيث كان واقعًا فيه، ويعني بالعمل هاهنا العمل المقدر لا الظاهر الآن؛ لأن المضاف هو العامل في المضاف إليه الجر على كل حال، وإنما يريد العمل الخاص الذي لا يكون له مضاف، وهو الرفع أو النصب، ومثاله قولك: عرفت قيام زيد مسرعًا، فمسرعًا حال من زيد، وإن كان مضافًا إليه؛ لأن القيام قد اقتضى الرفع في زيد، فإن التقدير: عرفت أن قام زيد مسرعًا، أو أن يقوم زيد مسرعًا، وكذلك: هذا الشارب السويق متلوتا فمتلوتًا حال من السويق، إذ كان (شارب) قد اقتضى النصب فيه، فالتقدير: هذا شارب السويق ملتوتًا، وإنما جاز هذا اعتبارًا بالأصل من الرفع أو النصب، والمرفوع والمنصوب مقصود في الكلام فهو في الحقيقة خارج عن كونه من المضاف إليه، ومما جاء في ذلك قوله تعالى:{إليه مرجعكم جميعًا} ، وأنشد المؤلف:
تقول ابنتي: إن انطلاقك واحدًا
…
إلى الروع يومًا تاركي لا أباليا
وأنشد سيبويه:
وإن بني حرب كما قد علمتم
…
مناط الثريا قد تعلت نجومها
والثانية: أن يكون المضاف جزءًا من المضاف إليه، وذلك قوله:"أو كان جزء ما له أضيفا". فالضمير في (كان) عائد إلى المضاف إليه في قوله: "إلا إذا اقتضى المضاف عمله". والضمير في (له) عائد على (ما) وهي المضاف إليه، وفي (أضيف) عائد على المضاف، والتقدير: أو كان المضاف جزء الاسم الذي أضيف له ذلك المضاف، وذلك إذا كان المضاف جزء المضاف إليه صار كأنه هو، فصار الحال في التقدير من المضاف الذي هو المقصود في الكلام، لا من المضاف إليه، وذلك نحو قولك: أعجبني وجهك راكبًا، ومنه قوله تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين}. وقال الفند الزماني:
وطعن كفم الزق
…
غدا والزق ملآن
فغدا حال من الزق عند أبي جني، وكثيرًا ما يعتبرون المضاف إليه إذا كان جزءه، كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه، فأنث البعض؛ لأن بعض الأصابع كأنه الأصابع، وأنشد سيبويه للأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته
…
كما شرقت صدر القناة من الدم
قال سيبويه: لأن صدر القناة من مؤنث، وأنشد أيضًا لجرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت
…
سور المدين والجبال الخشع
وذلك كثير. فهذا كله إما على أن بعض الشيء كأنه الشيء، فكأن الحال من المضاف لا من المضاف إليه، وإما على توهم إسقاط المضاف اعتبارًا بصحة الكلام دونه؛ ومن هنا أجاز الفارسي في قول الشاعر:
أرى رجلًا منهم أسيفًا كأنما
…
يضم إلى كشحيه كفًا مخضبًا
أن يكون (مخضبًا) حال من الهاء في (كشحيه) وهو مضاف، ولكن هفي تقدير: يضم إليه؛ لأنه إذا ضمه إلى كشحيه فقد ضمه إليه، فهو في التقدير حال من المجرور بحرف وهو جائز كما تقدم، وكذلك جعل (مضاعفا) من قوله:
عوذ وبهثة حاشدون عليهم
…
حلق الحديد مضاعفًا يتلهب
حالًا من الحديد.
والثالثة: أن يكون المضاف كجزء من المضاف إليه، وذلك قوله:"أو مثل جزئه" يعني أنه إذا كان المضاف جزءًا من المضاف ولكنه يشبه الجزء منه، فحكمه حكم الجزء الحقيقي في جواز انتصاب الحال من المضاف إليه، وذلك نحو قولك: أعجبني حسن زيد راكبًا وفصاحته متكلمًا، ومنه قول الله تعالى {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} . فهذه صفات أضيفت إلى موصوفاتها قامت مقام الجزء منها، والعرب تعامل غير جزء الشيء معاملة الجزء إذا كان ملتبسًا به، كما قال العجاج، أنشد سيبويه:
* طول الليالي أسرعت في نقضي *
وأنشد لذي الرمة أيضًا:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت
…
أعاليها مر الرياح النواسم
فأنث طول الليالي، لأنه من صفتها، ولذلك أنث مر الرياح، فعامل ذلك معاملة الجزء كما تقدم، وكأن المضاف هنا في حكم السقوط، والمراد المضاف إليه بدليل صحة الكلام مع إسقاطه، وبذلك علل في الشرح جواز الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزأه أو كجزئه، وهي طريقة الفارسي في البيت المتقدم، وهو ظاهر.
وقد علل امتناع الحال من المضاف إليه بأن العامل في الحال هو العامل في
صاحبه، والمضاف هو العامل في المضاف إليه، ولا يصح أن يعمل في الحال؛ لأنه ليس بفعل، ولا مؤد معنى فعل، والحال إنما يعمل فيه فعل، أو معنى فعل، ولو عمل فيه الفعل، وعمل فيه صاحبه المضاف لكان خلاف ما استقر من كلامهم. فعلى هذا إذا كان في المضاف معنى الفعل جاز كما في المسألة الأولى لاتحاد العامل، وإن كان عمله من جهتين؛ لأنه راجع إلى العمل من جهة معنى الفعل؛ وكذلك إذا كان المضاف جزء المضاف إليه أو كجزئه فهو كالزائد لصحة الكلام مع إسقاطه كما تقدم، فهو من الكلام المحمول على المرادف فكأنه لا مضاف ثم، وإنما هو مرفوع أو منصوب أو مجرور بحرف، وقد تقرر من هذا أن المضاف إن لم يكن أحد هذه الثلاثة لم يجز وقوع الحال من المضاف إليه، فلا تقول: ضربت غلام هندٍ ضاحكة؛ إذ ليس الغلام جزء من هند، ولا كالجزء؛ ولذلك لا يصح إسقاطه، فلا تقول: ضربت هندًا ضاحكة في معنى: ضربت غلام هندٍ ضاحكة. وهذه المسألة حكي في شرح التسهيل الإجماع على منعها، وفي نقل الإجماع نظر؛ فقد حكى غيره الخلاف فيها، وأن من الناس من يجيز الحال من المضاف إليه مطلقًا. وليس بصحيح ما تقدم.
وقوله: "فلا تحيفا" الألف فيه بدل من نون التوكيد، كقوله:
* ولا تعبد الأوثان، والله فاعبدا *
والحيف: الجور، والظلم، وقد حاف عليه يحيف حيفًا، وأشار بقوله:"فال تحيفا" إلى اعتبار ما هو من الشيء كجزئه، فإنه رب كل شيء يظن كالجزء فيعامل معاملته، فيجاء بالحال من المضاف إليه، وليس في الحقيقة المضاف كالجزء كما تقول: أعجبني مال زيد تاجرًا، فإن المال ليس كالجزء، فلا يجوز انتصاب الحال من زيد؛ إذ لا تقول: أعجبني زيدٍ تاجرًا، وأنت تريد ماله، كما تقول: أعجبني زيد ماشيًا، وأنت تريد: أعجبني حسن زيد ماشيًا، وكذلك لا تعامل ما هو كالجزء معاملة ما ليس كذلك، فتمنع ما كان نحو: أعجبني حسن زيد ماشيًا كما تمنع: أعجبني/ مال زيد تاجرًا، فهذا هو القانون في ذلك فلا تخف فتعامل ما هو كالجزء معاملة ما ليس كذلك، وبالعكس، وقد يكون قوله:"فلا تحفيا" أيضًا إشارة إلى التنكيت على من أجاز الحال من المضاف إليه بإطلاق؛ وذلك أن المجيز لذلك إنما أجازه لما وجد جائزًا في المسائل الثلاث المستثناه من المنع، فكأنه اعتبر المضافات كلها اعتبارًا واحدًا، وهذا حيف في النظر، وتقصير في الاعتبار، فالحق في ذلك التفصيل، وان يجاز حيث وجد المجيز، ويمنع حيث وجد المانع.
ثم قال:
والحال أن ينصب بفعل صرفا
…
أو صفةٍ اشبهت المصرفا
فجائز تقديمه كمسرعًا
…
ذا ذهب، ومخلصًا زيد دعا
هذا الفصل يذكر فيه ما يصح من الحال أن يتقدم على عامله، وما لا يصح، والحال لابد له من عامل يعمل فيه؛ لأنه منصوب، والنصب لابد له من ناصبٍ، ودل على أنه لابد له من عامل مساق كلامه، وتقسيمه له إلى لفظي وإلى معنوي.
وقسم العامل في الحال قسمين:
أحدهما: ما كان من العوامل فعلًا متصرفًا أو ما أشبهه من الصفات الجارية مجراه، فهذا يجوز فيه تقديم الحال على عامله إن لم يمنع مانع من خارج.
والثاني: ما كان من العوامل مضمنًا معنى الفعل، وليس بجارٍ مجراه، أو كان فعلًا غير متصرف فلا يتقدم الحال على عامله، بل يلزم التأخير، وذلك على تفصيل يذكره. وابتدأ بالقسم الأول، فيعني أن الحال إن كان عامله فعلًا متصرفًا أو صفة من الصفات التي تشبه ذلك الفعل المتصرف فإنه يجوز تقديم الحال على ذلك العامل، فمثال الفعل المتصرف فإنه يجوز تقديم الحال على ذلك العامل، فمثال الفعل المتصرف: زيد دعا مخلصًا، فدعا فعل متصرف، فيجوز تقديم (مخلصًا) عليه، فتقول: مخلصًا زيد دعا، وهو مثاله الذي مثل به، وكذلك تقول: ضاحكًا جاء عمرو، وراكبًا ضربت زيدًا، وما أشبه ذلك. ومثال الصفة المتصرفة قولك: هذا ذاهب مسرعًا، فمسرعًا حال العامل فيه صفة تشبه الفعل المتصرف، لأن (ذهب) فعل متصرف، فذاهب مثله في التصرف، فجائز أن تقول مسرعًا هذا ذاهب، وهو مثال الناظم. ومعنى كون الصفة تشبه الفعل: أن تكون متضمنة معناه وحروفه، وتجري مجراه في عمله، ولحاقه العلامات، وغير ذلك من الأحكام اللاحقة للفعل المتصرف، والذي يدل على قصد المشابهة في تضمن أنفس حروف الفعل قوله بعد:"وعامل ضمن معنى الفعل لا حروفه" فدل على أنه أراد هنا أن يدخل في ضمن المشابهة الحروف، وبذلك فسر في الشرح الصفة التي تشبهه. ويدخل في ذلك اسم الفاعل كما مثل، واسم المفعول، كقولك: زيد مضروب قاعدًا، فيجوز أن تقول: قاعدًا زيد مضروب، والصفة المشبهة، كقولك: زيد سمح ذا يسار، لأنها جارية مجرى الفعل في العمل، والمعنى، ولحاق علامات التأنيث، والتثنية، والجمع،
فيجوز أن تقدم الحال فتقول: ذا يسار زيد سمح/ وأنشد في الشرح:
* لهنك سمح ذا يسار ومعدما *
ثم قال: "فلو قيل في الكلام: إنك ذا يسار ومعدما سمح لجاز، لأن سمحًا عامل قوي بالنسبة إلى أفعل التفضيل؛ لتضمنه حروف الفعل ومعناه، مع قبوله لعلامات التأنيث، والتثنية، والجمع"
وقيل من يذكر في العوامل المشبهة، وذكرها مما ينبغي كما فعل ابن مالك، وقد دل المثالان على أن كلامه هنا في تقديم الحال على العامل خاصة، وسكت عن حكم تقديمه على صاحبه، فيرد عليه الاعتراض نصًا من وجهين:
أحدهما: أنه موهم جوازه هنا بإطلاق إذا كان العامل ما قال؛ إذ لم يستثن من ذلك إلا حال المجرور بحرف، فحكى المنع عن النحويين، وارتضى هو الجواز، فاقتضى أن الجواز منسحب على جميع المواضع سوى ذلك الموضع، وذلك غير صحيح؛ فإن التقديم على صاحبه فقط قد يمتنع في مواضع:
منها: أن يكون صاحبه مضافًا إليه، نحو: أعجبني قيام زيد مسرعًا، فلا يجوز هنا أن تقدم الحال فتقول: أعجبني قيام مسرعًا زيدٍ؛ للفصل بين المضاف والمضاف إليه في غير موضعه.
منها: أن يكون الحال مقرونًا بإلا أو في معنى المقرون بإلا، نحو: ما جاء زيد إلا مسرعًا، وإنما جاء زيد مسرعًا، وما أشبه بذلك، وقد تقدم مثل ذلك في
الفاعل والمفعول.
ومنها: أن يكون صاحب الحال ضميرًا متصلًا، نحو: زيد لقيني طالبًا له، فلا يجوز هنا تقديم الحال على (ني)، لما يلزم من فصله بغير موجب، إلى أشياء من هذا القبيل يُوهم هذا الموضع جوازها، وليست بجائزة.
والثاني: أنه أطلق هنا جواز تقديم الحال على العامل ولم يستثن شيئًا، وذلك غير صحيح أيضًا، فإن التقديم على العامل قد يمتنع في مواضع:
منها: أن يكون العامل مصدرًا موصولًا، نحو: أعجبني قيام زيد مسرعًا، فلا يجوز أن تقول: أعجبني مسرعًا قيام زيد. ومسرعًا حال من زيدٍ؛ لأن الحال من صلة المصدر، وصلته لا تتقدم عليه، ولا شيء منها.
ومنها: أن يكون العامل صلة الألف واللام، نحو: أعجبني الآتي مسرعًا؛ إذ لا يتقدم ما في حيز الموصول إليه.
ومنها: أن يكون الحال مقرونًا بإلا أو في معناه، نحو: لم يأت زيد إلا مسرعًا، إلى أشياء من هذا النوع. وأيضًا فإنه قال:"فجائز تقديمه كذا" فاقتضى أنه لا يكون إلا كذلك، وهو غير صحيح أيضًا بل قد يكون واجبًا كإضافة صاحب الحال إلى ضمير ما لابس الحال، نحو: جاءني زائر هندٍ أخوها، فلا يجوز هنا: أن تقول: جاءني أخوها زائر هندٍ؛ لما يلزم من عود الضمير على ما بعده لفظًا ومرتبة، وذلك ممنوع كما تقدم.
والجواب عن الأول: أن كلامه في تقديم الحال على صاحب المجرور بحرف قد دل على إجازته إذا لم يكن صاحبه مجرورًا، بل مرفوعًا أو منصوبًا؛ لأنه إذا لم يذكر المنع إلا في قسم واحد دل على أن ما عداه غير ممنوع، وعند ذلك نقول إنه أجاز التقديم، وإن كان صاحب الحال منصوبًا، /نحو: لقيت هندًا راكبة،
فيجوز أن تقول: لقيت راكبة هندًا، وكذلك إن كان مرفوعًا، نحو: جاءت راكبة هند، وما أشبه ذلك. وهو في الجواز على رأي البصريين، وذهب الكوفيون على أنه لا يجوز أن يقال: لقيت راكبة هندًا؛ لئلا يتوهم أن الحال هو المفعول وأن صاحب بدل منه قال في الشرح: "والصحيح جواز التقديم مطلقًا؛ لأن راكبة من قولنا: لقيت راكبة هندًا يتبادر الذهن إلى حاليته، فلا يلتفت إلى عارض توهم المفعولية". وأنشد على التقديم:
وصلت ولم أصرم مسيئين أسرتي
…
وأعتبتهم حتى تلافوا ولائيا
وانشد أبياتًا أخر أيضًا. وعلى الجملة فالاعتلال باللبس في مثل هذا ضعيف جدًا، ويلزم إن روعي هذا اللبس ألا يجوز عطف البيان في نحو: رأيت زيدًا أخاك؛ لئلا يتوهم أن ذا العطف بدل، ولا أن يخب رعن المبتدأ بخبرين فصاعدًا؛ لئلا يتوهم أن الثاني بدل أو نعت، وطول لهم القصة، بل ينعكس ألا يتأخر الحال في المسألة السابقة، لئلا يتوهم أن الحال بدل، وكل هذا فاسد، فما أدى أليه مثله. وإذا ثبت الجواز من إشارة كلامه فلا يقدح فيه ما اعترض به؛ لأن هذه الأمور قد تقدم أمثالها في أبوابها فما عرض هنا من العوارض القادحة في الجواز تعرف مما تقدم، وأخص الأبواب بهذا الباب باب المفعول به، فيه يتبين. ونحو هذا يتمشى في الجواب الثاني أيضًا؛ لأن امتناع تقدم ما في حيز الصلة على الموصول مبين في بابه، وحكم المقرون بإلا معروف من باب الابتداء والمفعول، وكذلك القول في
الاعتراض على نفي الجواز، فإن ما اعترض به يُعرف من باب المفعول به، وإنما يتمكن الاعتراض بما يخالف ما كر مما يختص بالحال، وقد ذكروا أن الحال إذا كان جملة قد تقدمه الواو فلا يجوز تقديمه، فلا تقول: وهو نائم جئته؛ لأن الواو هنا أصلها العاطفة، فلا تقع إلا حيث تقع العاطفة، والعاطفة لا تقع صدر الكلام. ويعتذر عنه بأن الواو لها نظير تقدم، وهو واو المفعول معه، والمفعول معه قد تقدم أنه لا يتقدم فكذلك لا يتقدم هنا الحال المصدر بالواو. والله أعلم.
وأعلم أن هنا مسألتين: إحداهما: أن ما ذكره من جواز التقديم على العامل هو مذهب البصريين، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم الحال على العامل فيه مع الاسم الظاهر، فلا يقال عندهم: راكبًا جاء زيد، ويجوز مع الاسم المضمر، نحو: راكبًا جئت، بناء منهم على أنه لا يجوز تقديم المضمر على المظهر، وأنت لو قلت: راكبًا جاء زيد كان في (راكبًا) ضمير زيد، وقد تقدم عليه. والصحيح الجواز، ولا يمتنع تقديم المضمر على المظهر إ ذا كان المضمر مؤخرًا في الرتبة على المظهر، كمل قال زهير:
إن تلق يومًا على علاته هرما
…
تلق السماحة منه والندى خلقا
ومن أمثالهم: في بيته يؤتى الحكم، وفي أكفانه يلف الميت، وقد تقدم بيان هذا، وأيضًا فإذا كان العامل متصرفًا في نفسه وجب أن يكون متصرفًا في معموله مل لم يمنع مانع، ولا مانع هنا، فوجب الحكم بالجواز. وإلى هذا
فالسماع يدل على الجواز. ففي المثل السائر: شتى تؤوب الحلبة. وأنشد في الشرح:
* سريعًا يهون الصعب عند أولي النهى *
ولم أقيد بقيته كما أحب
والثانية: أن تقييده العامل بالتصرف الدال على أن ما ليس بمتصرف من العوامل لا يتقدم عليه الحال، فالفعل غير المتصرف، نحو: ما أحسن زيدًا راكبًا، وما أنصره مستنصرًا، فلا يجوز هنا تقديم الحال أصلًا بمقتضى مفهوم الشرط، وكذلك: أحسن به راكبًا. لا تقول: راكبًا أحسن بزيدٍ، والصفة غير المتصرفة أفعل التفضيل، نحو: زيد أكفى القوم ناصرًا، وهو أسمحهم ذا يسار، فلا يجوز هنا أيضًا التقديم. أما فعل التعجب فلإلزام العرب له طريقة واحدة حتى صار كالمثل الذي لا يُغير عما وُضع عليه، وأما أفعل التفضيل فلضعفه عن مشابهة الفعل بكونه لا يرفع ظاهرًا في الغالب، ولا يؤنث، ولا يُثني، ولا يُجمع فلما لم يتصرف تصرف الفعل الذي تضمن حروفه ومعناه لم يتقدم الحال عليه؛ ولأن أفعل التفضيل جارٍ مجرى فعل التعجب في أشياء كثيرة فلزمه حكمه، لكنه قد جاء تقديم الحال على أفعل التفضيل في موضع خاص يذكره الناظم على إثر هذا. ثم أخذ في ذكر القسم الثاني من عوامل الحال فقال:
وعامل ضمن معنى الفعل لا
…
حروفه مؤخرًا لن يعملا
كتلك ليت وكأن وندر
…
نحو: سعيد مستقرًا في هجر
يعني أن العامل الذي ليس بفعل ولا ما أشبه الفعل من العوامل التي ضمنت
حروفه بل ضمن معنى الفعل خاصة من غيرتضمن حروفه لا يعمل في الحال مؤخرًا عنه، فتقدم الحال عليه، بل يتمنع تقدم الحال عليه، فلا يعمل فيه إلا مؤخرًا. ثم فسر هذا العامل المذكور فأتى له بأربعة أمثلة هي: اسم إشارة، وليت، وكأن المجرور- وفي معناه الظرف- فأما ليت فتعمل في الحال بما فيها من معنى التمني، فتقول: ليتك زائرًا زيد، وليت زيد ضاحكًا عمرو. وأما كأن فكذلك تعمل بما فيها من معنى التشبيه، فتقول: كأنه مقاتلًا أسد، وكأنه مسرعًا ريح، وقال النابغة:
كأنه خارجًا من جنب صفحته
…
سفود شرب نسوه عند مفتاد
وقال زهير:
كأني وقد خلفت تسعين حجة
…
خلعت بها عن منكبي ردائيا
لأن (وقد خلفت) جملة حالية، فالعامل فيها معنى كأن، وأنشد الفارسي وغيره:
بتيهاء قفر والمطي كأنها
…
قطا الحزن قدك كانت فراخًا بيوضها
فقوله: (قد كانت) حال من (قطا الحزن) والعامل معنى كأن. وأما تلك
فكذلك أيضًا لأن الإشارة ضمن معنى الإشارة، فتقول: تلك هي منطلقة، فمنطلقة حال منتصب بما في (تي) أو (تا) من معنى الإشارة، ومنه في القرآن الكريم {وإن هذه أمتكم أمة واحدة} وقوله {وهذا بعلي شيخًا} وهذا كثير، وسائر أسماء الإشارة تجري على هذا الحكم. ولما قال كتلك وكذا وكذا دل على أن العامل المعنوي المراد ليس مقتصرًا به على ما ذكره دون غيره، وقد جاء مثل ذلك أشياء كثيرة في كلامهم ضمونها معنى الفعل وليس ذلك لها في القياس، فمن ذلك لعل فإنها كأن وليت، ألا تراهم قالوا:
* لعلك يومًا أن تلم ملمة *
فعلق / الظرف بلعل، إذ لا يصح تعقله بتلم فكذلك يجوز أن تقول: لعلك قائمًا فشل. ومنه الاستفهام في نحو قول الأعشى:
* يا جارتا ما أنت جارة *
فجارة حال من أنت، العامل فيه [ما] بما فيها من معنى الاستفهام المراد به
التعظيم أو التعجب، أي أنت المعظمة في هذا الحال. ومنها اسم الجنس المراد به التعظيم، نحو: أنت الرجل علمًا ودينًا وفضلًا، أي أنت الكامل في هذه الحال. ومنها المشبه من الأعلام أو غيرها، نحو: زيد شهير شعرًا، وحاتم جودًا، والأسد شدة، أي البالغ درجته في هذه الحال، أو نحو ذلك. ومنه أما وذلك بما تعطيه من معنى الفعل، نحو: أما عالمًا فلا علم له، وما أشبه ذلك، والتقدير: مهما ذكرته عالمًا فلا علم له. ومنه عند بعضهم- وإن لم يره ابن مالك- الأعلام التي تُعطي معنى المعروف أو المذكور نحو قولك: أنا زيد شجاعًا، وأنت زيد حليمًا تقديره: أنا المعروف في هذه الحال أو المذكور أو نحو ذلك؛ ولذلك ينصب الظرف، ألا ترى الشاعر قال:
أنا أبو المنهال بعض الأحيان
فهذه العوامل كلها ليس بأفعال، ولا تضمنت حروفها، ولكنها عملت بما ضمنت من رائحة الفعل، فلا يتقدم عليها ما عملت فيه من الحال لضعفها عن تصرفها تصرف الأفعال. فإن قيل: فإن كان يدخل له في كلامه كل ما ضمن معنى الفعل من الكلم فالحروف كلها من هذا القبيل، فإن العرب وضعتها مواضع الأفعال، فحروف النفي عوض من أنفي، وحروف الاستفهام عوض من أستفهم، وحروف العطف عوض من أعطف، وحروف الإضافة عوض من أضيف، وكذلك سائرها. نص على هذه الأئمة كابن السراج، والفارسي وابن جني، وغيرهم، وإذا كان كذلك فيقتضي أن يقال: أزيد أبوك قائمًا؟ بمعنى: أستفهم عنه في هذا الحال، وكذلك، ما زيد أخوك راكبًا بمعنى أنفيه راكبًا،
وأن يجوز أيضًا: زيد أخوك وعمرو محترمًا، بمعنى أعطفه محترمًا، أو ما كان مثل ذلك، وهو غير جائز اتفاقًا فكيف يطلق القول في أن ما ضمن معنى الفعل يعمل في الحال؟
فالجواب: أن الحروف لم تضمن معاني الأفعال على حد ما ضمنته ليت ولعل ونحوهما، وإنما عبروا عن ذلك بأن الحروف في أصل الوضع جُعلت عوضًا من الأفعال، ونائبة عنها لا أنها تضمنت معانيها، وفرق بين تضمين معنى الفعل والتعويض عنه. أم التضمين فهو طارئ على الوضع الأول، حادث بعد التركيب. وأما التعويض- هنا- فهو في أصل الوضع، لا مثل تعويض (ما) عن الفعل في نحو:
* أم أنت ذا نفر *
فإن هذا عرض أيضًا بعد التركيب، وتعويض ما مثلًا عن أنفي أصلي قبل التركيب. وأيضًا فإن معنى الفعل في الحروف قد استهلك جملة كما استهلك معنى الفعل من يزيد، ويشكر وأحمد التي/ هي أعلام، ومعنى الفعل في كأن، وليت لم يستهلك بل لُحظ واعتبر. وأيضًا فإن المعنى المضمن ليس ذلك المعنى الأصيل بل هو زائد عليه، ولذلك عبر عنه بضمن الذي هو في الاصطلاح لجعل معنى لم يكن، ولم يقل عوض عن الفعل؛ لأن التعويض أتم من التضمين عندهم. فالحاصل أن لفظ (ضمن) أحرز أن المعنى المراد هنا ليس المعنى الأصلي الذي في الحروف، وإنما هو معنى طارئ، فتأمله. وقد بين هذا المعنى ابن جني في كتاب التعاقب.
ثم أتى بالمثال الرابع وهو المجرور، فقال:"ونذر نحو سعيد مستقرًا في هجر" فقدم فيه أولًا أن ما ضمن من العوامل معنى الفعل لا حروفه فلا يتقدم عليه معمولة- وهو الحال- وكان ذلك لازمًا في الأمثلة الثلاثة لا في الرابع، فبين الآن في الرابع أن ذلك الحكم غالب فيه لا لازم؛ فقد نُقل في كلام العرب تقديم الحال عليه لكن نادرًا؛ فلذلك قال:"ونذر نوح كذا" وتمثيله مشعر بشرطٍ في هذا التقديم معتبر، وهو كون الحال متوسطًا بين العامل وصاحب الحال كما في قوله: زيد مستقرًا في هجر، فمستقرًا عامله مجرور، وصاحبه زيد هذا الظاهر إما حقيقةً وإما مجازًا، فلو قدمت الحال عليهما معًا فقلت: مستقرًا زيد في هجر لكان ممنوعًا، ولم يأت من كلام العرب. أما من كان كالمثال فقد وجد في كلامهم حسبما يذكر، فأما تقديم الحال عليهما معًا فلم يذكروا خلافًا في منعه وأما تقديمه على العامل وحده ففيه خلاف، فمذهب سيبويه والجمهور المنع إلا في الشعر، وحجتهم أن المجرور- في معناه الظرف- ليس من العوامل القوية فلم يقو أن يتصرف في معموله تصرفها، وعمله في الحال إنما كان لشبه الحال بالظرف الذي يعمل فيه رائحة الفعل. والعامل المعنوي لا يقوى على التصرف بتقديمه عليه كما قد يقوى على تقديم الظرف؛ لأن المشتبه لا يقوى قوة ما شبه به. وأيضًا فالسماع في ذلك نادر، ومحتمل التأويل. وذهب الأخفش إلى جواز ذلك بإطلاق، وحجته ما جاء في السماع من ذلك كقراءة عيسى بن عمر {والسموات مطويات بيمينه} بنصب مطويات على الحال، والعامل ليس إلا المجرور. وقول من قال إنه منصوب على إضمار فعل، والعامل السموات بما
فيها من معنى السمو تكلف. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متواريًا بمكة، بنصب متواريًا، والعامل قوله (بمكة). وأنشدوا للنابغة الذبياني:
رهط ابن كوز محقبي أدراعهم
…
فيهم ورهط ربيعة ابن حذار
فمحقبي حال الفاعل فيه قوله (فيهم)، ولما كان هذا المسموع لا يبلغ أن يطلق القياس عليه إطلاقًا أخبر أن مثل هذا نادر، وكأنه توسط بين المذهبين فلم يطرح السماع جملة، ولم يطلق القياس البتة. والشائع في المسألة/ أن تقول: زيد في هجر مستقرًا، وزيد عندك مستقرًا، ومنه قوله تعالى:{قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} وهي قراءه غير نافع من السبعة، وحكى سيبويه: أتكلم بهذا وأنت هنا قاعدًا؟ وأنشد أيضًا:
إن لكم أصل البلاد وفرعها
…
فالخير فيكم ثابتًا مبذولا
وهجر: اسم موضع وهو المذكور في قولهم: كمبضع تمرٍ إلى هجر.
ثم قال:
ونحو زيد مفردًا أنفع من
…
عمرو معانًا مستجاز لم يهن
هذه المسألة مستثناه أيضًا من الحكم المتقدم في العامل غير المتصرف، وهو منع تقديم الحال عليه، فأتى هنا بحكم في أفعل التفضيل مخالف لما تقرر فيه، فيعني أن أفعل التفضيل إذا توسط بين حالين كهذا المثال الذي أتى به، وهو: زيد مفردًا أنفع من عمرو معانًا، فهو جائز مغتفر فيه تقديم الحال، لم يضعف الكلام لأجل التقديم ولم يمنع، كما ضعف ومنع فيما إذا لم يكن أفعل التفضيل إلا ناصبًا حالًا واحدًا. وقد تقدم شرحه، وأتى بالمثال مشعرًا بالوجه الذي يتوسط معه أفعل التفضيل بين الحالين، وهو أن يأتي لتفضيل شيء في حال على شيء في تلك الحال أو في حال آخر. وقد يكون التفضيل لشيء على نفسه لكن في حالين، فمثاله من تفضيل شيء في حال على شيء آخر في حال آخر هو مثال الناظم، ففضل زيدًا في حال الإفراد على عمرو في حال الإعانة، ومثاله من تفضيل شيء في حال على شيء آخر في ذلك الحال: مررت برجل خير ما يكون خير منك ما تكون، ومررت برجل أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون. ومثاله من تفضيل شيء في حال على نفسه في حال آخر: هذا بسرا أطيب منه رطبًا، وهذا زبيبًا أفضل منه عنبًا، وما شبه ذلك. ومعنى مثال الناظم أن زيدًا يفضل نفعه إذا كان مفردًا على نفع عمرو إذا كان معانًا غير منفرد. وهذا يفضل طيبة بسرًا على طيبة رطبًا، وكذلك سائر المثل. قال ابن خروف: انتصب بسرًا ع سيبويه على الحال من الضمير في أطيب، وأنتصب رطبًا على الحال- أيضًا- من الضمير المجرور في منه، والعامل فيهما أطيب بما تضمنه من معنى المفاضلة بين شيئين، كأنه قال: هذا في حال كونه بسرًا أطيب منه في حال كونه رطبًا، يريد أن يفضل
البسر على الرطب. قال: فأطيب ناب مناب عاملين؛ لأن التقدير: يزيد طيبه في حال كونه بسرًا على طيبه في حال كونه رطبًا. وأشار بهذا إلى التمر. والمعنى بسره أطيب من رطبه، فعلى ما قال ابن خروف جرى الناظم، ولم يجعل العامل في الحال كان مضمره كما زعم السيرافي، ومن ذهب مذهبه، لأن التقدير عند سيبويه: هذا إذا كان بسرًا أطيب منه إذا كان رطبًا. قال سيبويه: "وإنما قال الناس منصوبًا على / إضمار (إذ كان) فيما يُستقبل، (وإذا كان) فيما مضى؛ لأن هذا لما كان [ذا] معناه أشبه عندهم أن ينتصب على إذا كان أو إذ كان". وبهذا الكلام تعلق السيرافي فجعل بسرًا وتمرًا حالين من المشار إليه في زمانين والعامل في الحال كان، وكان ما قال يظهر من كلام سيبويه، ولكن الناظم عدل عنه إل ما قال ابن خروف، وهو مذهب طائفة كابن كيسان، والفارسي، وابن جني، وغيرهم. وضعف مذهب السيرافي ومن قال بقوله لما فيه إذا أضمرت (كان) من تكلف إضمار ستة أشياء لا حاجة إليها، وهي: إذا أو إذ في الموضعين، وكان وضميرهما المرفوع في الموضعين أيضًا، ولأن أفعل في هذا الباب هي أفعل في قول الله تعالى {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} في أن القصد بهما تفضيل شيء على نفسه باعتبار متعلقين، فكما اتحد هنا المتعلق به كذلك يتحد في الأمثلة المذكورة، وأيضًا على تسليم الإضمار يلزم إضمار أفعل في إذ وإذا؛ لأنه لابد منه لهما فيكون ما وقع فيه شبيهًا بما فر منه. هذه الأدلة مما استدل بها المؤلف
في الشرح، وأصلها لأبن خروف وتأول كلام سيبويه المتقدم ذكره بأن ما قاله تفسير معنى الكلام لا تقدير للعامل، وإنما العامل أفعل.
وقوله: (لم يهن) معناه لم يضعف، وهو من: وهن الشيء يهن وهنا إذ ضعف ووهنته أنا ووهنته أصله يوهن فاعل بحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة.
وفي هذا الموضع سؤال، وهو أن شرح كلام الناظم جرى على أن مراده في قوله:(ونحو زيد مفردًا) إلى قوله: (مستجاز لم يهن) أراد به أن أفعل التفضيل هو العامل في الحال مع التقديم، وليس في كلامه نص على ذلك؛ إذ غاية ما قال: إن هذا المثال وما كان مثله مستجاز عند العرب غير ضعيف، وليس فيه أن العامل هو أفعل أو غيره، لا تعيين في كلامه لشيء من ذلك.
والجواب عنه: أن الناظم وإن لم يذكر ذلك نصًا قد أشار إليه بما هو مبين لمقصوده، وذلك أن كلامه في هذا الفصل في تقديم الحال على عامله، وما يجوز من ذلك، وما يمتنع، فقدم أن الذي يتقدم عليه الحال من العوامل هو المتصرف من الأفعال، وما أشبهها، فخرج أفعل التفضيل عن جواز تقدين الحال عليه حسب ما وقع في تفسيره، ثم استثنى من ذلك صورة هي هذه منبهًا عليها بقوله:(مستجاز لم يهن)، أي: لم يضعف كما ضعف تقديم الحال على أفعل التفضيل إذا لم يتكرر الحال، وكما ضعف تقديم الحال على عاملها المجرور في قولهم: زيد مستقرًا في هجر، فحصل بهذا المساق، وهذا الاقتران أن المستجاز هنا هو التقديم على العامل غير المتصرف الذي هو أفعل التفضيل المذكور في مثاله، لا (كان) مضمرة، ولا غير ذلك، إذ لا يستقيم فهمه على اعتبار غير أفعل في العمل وهو الظاهر. والله أعلم./ ثم قال:
والحال قد تجيء ذا تعدد
…
لمفرد فاعلم وغير مفرد
لما كان الحال خبرًا من الأخبار، وكان الخبر يتحد تارة، نحو: زيد قائم، ويتعدى أخرى، نحو: زيد ناظم ناثر، وعالم شاعر- كان الحال كذلك أيضًا، فيجوز أن يتعدد كما كان ذلك في الخبر، فتقول: لقيت زيدًا راكبًا مصاحبًا زيدًا مفارقًا عمرًا، كما تقول: زيد راكب مصاحب عمرًا مفارق بكرًا، وكما تقول في النعت: رأيت رجلًا راكبًا مصاحبًا زيدًا مفارقًا عمرًا، وذلك سائغ من جهة اللفظ والمعنى، فأخبر الناظم بهذا الحكم وأن الحال قد يأتي متعددًا كان صاحبه مفردًا أو غير مفرد بل متعددًا أيضًا فلا محذور فيه، وهو تنكيت على رأي من منع ذلك كابن عصفور؛ إذ زعم أن عاملًا واحدًا لا ينصب أكثر من حالٍ واحدٍ لصاحبٍ واحدٍ قياسًا على الظرف، قال: كما لا يجوز أن يقال: قمت يوم الخميس يوم الجمعة كذلك لا يقال: جاء زيد ضاحكًا مسرعًا، واستثنى منه ذلك الحال المنصوب بأفعل التفضيل الذي تقدم ذكره. وما قاله ابن عصفور غير صحيح للفرق بين المسألتين، إذ وقع قيام واحد في يوم الخميس ويوم الجمعة، محال، ومجيء زيد في حال ضحك وحال إسراع ممكن غير محال، فما أبعد ما بين الموضعين، وإنما نظير مسألته: جاء زيد راكبًا راجلًا، أو مسرعًا مبطئًا أو رأيته سائرًا قاعدًا، وما أشبه ذلك، هذا هو الذي لا يمكن وجوده إن لم يحمل على وجه يصح ولو بمجاز، وإذ ذاك لا يكون الامتناع من جهة العامل بل من جهة المعنى. وأما الظرفان فلهما حكم آخر غير حكم الحال. وقوله:"لمفرد وغير مفرد" أما مجيئه لمفرد فهو الذي فرغ منه، وأما مجيئه لغير مفرد بل لمتعدد فيتصور ذلك على نحوين:
أحدهما: أن يكون الحالان أو الأحوال مجتمعة في اللفظ بتثنية، أو جمع إن وجد لذلك موجب.
والثاني: أن تكون مفرقة إن لم يحصل موجب الاجتماع. أما الأول فقد يتفق فيه أن يكون العامل واحدًا وعمله عملًا واحدًا، نحو: جاء زيد وعمرو مسرعين، ومنه قول الله تعالى {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} وقوله تعالى {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} ومنه قولهم: هذه ناقة وفصيلها راتعين، على جعل الفصيل معرفة. وقد يكون العامل واحدًا وعمله مختلفًا، نحو: لقيت زيدًا مسرعين، وضار زيد عمرًا راكبين، ومنه قول أمريء القيس:
خرجت بها نمشي تجر وراءنا
…
على أرينا ذيل مرط مرحل
فقوله (نمشي) حال من التاء في خرجت، والهاء في (بها). وقول عنترة:
متى ما تلقني فردين ترجف
…
روانف أليتيك وتستطارا
ففردين حال من الضميرين المتصلين بتلق. وقد يكون الفاعل متعددًا والعمل
متحدًا، نحو: جاءني زيد وأتاك أخوه مسرعين، وذهب بكر وانطلق رجل آخر مبادرين، وما أشبه ذلك، وقد يكون العامل متعددًا وعمله مختلفًا نحو: هذا زيد مع عمرو مارين، ورأيت زيدًا مع امرأة ماشيين، وما أشبه ذلك. وأما الثاني وهو تفريق الحالين أو الأحوال/ فقد يتفق- أيضًا- إعراب صاحبي الحالين، نحو أقبل زيد وهند محبوبة محبًا، وجاء زيد والعمران باكيين ضاحكًا. وقد يختلف الإعراب نحو: لقيت زيدً مصعدًا منحدرًا. ومنه بيت امرئ القيس:
* خرجت بها نمشي تجر وراءنا *
فتجر حال من الهاء في (يها) ونمشي حال من الضميرين معًا. وقال عمرو بن كلثوم:
وأنا سوفتدركنا المنايا
…
مقدرة لنا ومقدرينا
فمقدره حال من المنايا، ومقدرين حال من الضمير المنصوب في تدركنا. وأنشد في الشرح:
عهدت سعاد ذات هوى معنى
…
فزدت وعاد سلوانًا هواها
ولاحظ في هذا القسم تعدد العوامل، وإنما جاء مع اتحاده. والله أعلم.
وقوله (فاعلم) جملة اعتراضية تفيد توكيد النظر في هذه المسألة وتحصيلها، وأنه مما لا ينبغي أن يغفل؛ إذ تعدد الحال مع اتحاد صاحبه قد أنكره فإياك أن تنكره، فإن الإقرار به هو الصواب.
وعامل الحال بها قد أكدا
…
في نحو: لا تعث في الأرض مفسدا
وإت تؤكد جملة فمضمر
…
عاملها، ولفظها يؤخر
هذا فصل الحال المؤكد، فإن الحال عل ضربين: مبينة، ومؤكدة. فالمبينة هي الأصل فتكلم عليها بحكم الإطلاق، ثم خص الكلام على المؤكدة، وإنما بين الناظم هنا ما يؤكده بها، وهو العامل فيها أو الجملة الواقعة قبلها، فدل ذلك من كلامه أنها تأتي للتوكيد، ثم إن توكيدها حسب ما قرر عليه وجهين: أحدهما: أن تكون مؤكدة للعمل فيها، وهو قوله:(وعامل الحال بها أكدا) يعني أن الحال تعطي من المعنى ما يعطيه العامل فيها لكن أتى بها توكيدًا على حد ما يؤكد المفرد بالمفرد، والجملة بالجملة، بل كما يؤكد الفعل بمصدره، ومثل ذلك قوله:(لاتعث في الأرض مفسدًا) فإن مفسدًا حال مؤكده لمعنى: لا تعث، لأن معناه: لا تفسد، تقول: عثا يعثو، وعثى يعثي عثوًا في الأول، وعثا في الثاني. وعلى اللغة الثانية جاءت الآية الكريمة {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} . ومثال الناظم يحتمل الضبطين على اللغتين. وعلى الجملة فالحال المؤكدة لعاملها لما كانت مؤكدة لمعناه تارة تأتي موافقة في اللفظ والمعنى، وتارة تأتي موافقة له في المعنى خاصة.
فأما الموافقة في المعنى فقط فهو الممثل به، وكأنه أشار إلى الآية الكريمة {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} ومنه أيضًا قوله {ثم وليتم مدبرين}
وقوله {ويوم أبعث حيا} وقوله {فتبسم ضاحكًا من قولها} ومنه ما أنشده لأمية بن أبي الصلت:
سلامك ربنا في كل فجر
…
بريئًا ما تغنثك الذموم
فسره أبو الخطاب على معنى: براءتك ربنا في كل فجر. وأما الموافقة فيهما كقوله:
قم قائمًا قم قائمًا
…
إني عسيت صائمًا
وينشد أيضًا:
قم قائمًا قم قائمًا
…
صادفت عبدًا نائمًا
وأنشد في الشرح:
أصخ مصيخًا لمن أبدى نصيحته
…
وألزم توقي/ خلط الجد باللعب
وهذا الضرب قليل بخلاف الموافقة في المعنى فقط، فإن ذلك كثير؛ لأن العرب تتحاشى في أكثر كلامها عن التكرار اللفظي، ولكن فد جاء في القرآن الكريم {وأرسلنا للناس رسولًا} {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} ، ولأجل قلة هذا القسم لم يُمثل به الناظم، وإنما مثل بالأول؛ لأن الباب الغالب، وترك التمثيل بالآخر؛ لأنه ليس في درجته، ولكنه في المعنى لاحق بالأول. ويمكن أن يكون أتى بالمثال تقييدًا لما تقدم من لإطلاق الحكم حتى يكون قاصدًا لإخراج نحو: قم قائمًا؛ لأنه عنده غير مقيس، فلا يجوز على هذا التنزيل أن تقول: خرجت خارجًا، ولا ضربت زيد ضاربًا، ولا ما أشبه لك. وهو خلاف ما يظهر منه في التسهيل. وقد نص في الشرح أنه قليل، فذلك احتمل هذا التمثيل البيان، واحتمل التخصيص والتقييد، وتوجيه كل واحد من الوجهين ظاهر، فإن الجميع مستند إلى السماع، فيمكن أن يقول بالقياس لمجيئه في الكلام، وإن كان قليلًا كعادته، في أمثال ذلك، ويمكن أن يقول بوقفه على السماع لقلة استعماله وضعف قياسه.
والثانيمن وجهي الحال المؤكدة: أن تقع مؤكدة لمعنى جملة ليس واحد من جزئيها بصالح للعمل في الحال، ولا يكون ذلك إلا وهما اسمان جامدان، وذلك قوله:(وأن تكون جملة) يريد: ليس فيها ما يصلح للعمل، ويعين هذا المقصد أنه لو كان واحد من جزئيها صالحًا للعمل لكانت الحال مؤكدة له،
ودخلت في قوله أولًا (وعامل الحال بها قد أكدا) ولذلك جعل هنا العامل مضمرًا، فلو كان ثم ما يصلح للعمل لم يحتج إلى تقديره، ومراده أن الحال قد تؤكد معنى الجملة، فإن أردت ذلك- ولابد من عامل في الحال- فأضمر لها عاملًا، إذ المنصوب مفتقر إلى ناصب، أما التوكيد بها، فنحو: قولك: هو الحق بينًا، وهو زيد معروفًا، وأنا زيد معلوم المرتبة، وما أشبه ذلك مما يكون فيه المبتدأ والخبر معرفتين؛ لأن مقصودك أن تخبر عن المكور باسمه المعروف به من كان يجهله، أو ظن أنه يجهله ثم أتيت بالحال تؤكد أن المذكور زيد وتحققه، وكأنك إنما أردت بقولك: هو زيد أنه هو المعروف المعلوم الخبر والقصة فأكدت ذلك المعنى بالحال. وعلى هذا لا يجوز أن تذكر بعد هذه الجملة من الأحوال إلا ما يعطيه قصد الجملة أولًا من اليقين، نحو ما مثل به، وأنشد سيبويه لسالم بن دارة:
أنا ابن دارة معروفًا له نسبي
…
وهل بدارة يا للناس من عار
أو الفخر بصفةٍ يفخر بها، نحو: أنا زيد شجاعًا، وأنا عبد الله كريمًا. ومنه ما أنشده ابن خروف من فول الشاعر:
فإني الليث مرهوبًا حماه
…
وعيدي زاجر دون افتراسي
وقول الآخر:
وقد علمت عرسي مليكة أنني
…
أن الليث معديًا عليه وعاديا
أو التعظيم، نحو: هو زيد عظيمًا في قومه، وأنا زيد جليلًا مهيبًا. أو التحقير، نحو أن عبدك فقير إلى رحمتك/ وأنا عبد الله آكلًا كما يأكل العبد. أو التهديد والوعيد وقد يكون منه قول الشاعر:
فإني لليث مرهوبًا حماه
…
وعيدي زاجر دون افتراسي
وهو أظهر من كونه فخرًا، ومنه قولك: أن زيد متمكنًا منك، وما أشبه ذلك. ولا يكون الحال هنا بغير ذلك مما لا ينبئ عنه معنى الجملة، كما تقول: أنا زيد قاعدًا، وهو زيد منطلقًا، فإن معنى الجملة لا يُشعر بالحال فليست الحال مؤكدة كما كانت مؤكدة في قولك: أنا زيد معروفًا، فلو فرض أن يكون في الجملة مع منطلق معنى التنبيه والتعريف كما كان مع معروف لجاز، كما إذا قيل ذلك الكلام خلف حائط أو موضع يجهل فيه المسمى؛ لأنه جواب لمن قال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله فإنه لو يعرفه باسم قد علمه، فكأنه قال: أنا من تعرف منطلقًا في حاجتك فهذا جائز؛ فإنه في عداد قولك: أنا عبد الله معروفًا، فهذا كله يجري هذا المجرى. وقد جرى مجرى التصدير بالضمير التصدير باسم الإشارة، فتقول: هذا زيد معروفًا أو فاخرًا، أو نحو ذلك، وكذلك: أخوك زيد معروفًا، والذي في الدار زيد مشهورًا، وما كان نحو ذلك؛ فلهذا لم تحتج الناظم إلى تقييد المبتدأ بأن يكون ضميرًا وإن كان ذلك فيه كثيرًا.
فإن قيل: فكان حقه استيفاء ما تحتاج إليه الجمل المذكورة من القيود المعتبرة في الإتيان بالحال المذكورة، وهي أن يكون جزآها معرفتين جامدين جمودًا
محضًا، أما كونهما جامدين فقد تقدم التنبيه على، وأما كونهما معرفتين فلا دليل في كلامه على ذلك، وهو قيد ضروري، إذ لا يقال: أنا أخ لك معروفًا، ولا: هو رجل معروفًا إلا والحال غير مؤكدة، لأن الجملة لا تنبئ عن ذلك.
فالجواب: أن قوله (وإن تؤكد جملة) يستلزم أن الجملة تعطي من المعنى ما تعطيه الحال حتى يصدق عليها أنا مؤكدة لمعنى الجملة، وإذا كان كذلك لم يتصور أن تكون الجملة إلا مركبة من معرفتين كما تقدم بيانه، فإن كان أحد جزأيها نكرة لم يتصور، فلا يصدق أن الحال مؤكدة، فترك التقييد بذلك اعتمادًا على هذا المعنى. والله أعلم.
وأما العمل في هذه الحال فليس في اللفظ ما يمكن أن يجعل عاملًا فلابد من تقديره، وقد اختلف فيه النحويون، فمذهب الناظم أنه مضمر، وهو فعل تفسره الجملة، وذلك: أحق ونحوه، أو أعرفه، أو أتحققه، أو شبه ذلك، فإذا قلت: هو زيد معروفًا، فالتقدير: أحقه أو أعلمه معروفًا، وإذا قلت: أنا زيد معروفًا، فالتقدير: اعرفني، أو أعرف، أو نحو ذلك. وهذا مذهب السيرافي.
وذهب الزجاج إل أن العامل هو الخبر لتأوله بمسمى ونحوه. وذهب ابن خروف إلى أن العامل هو المبتدأ بما فيه من معنى تنبه. والظاهر من كلام سيبويه أن العامل معنى الجملة لا معنى المبتدأ بانفراد، ولا الخبر بانفراد، إذ معناها إذا قلت: هو زيد معروفًا، أي انتبه له، أو ألزمه معروفًا، فإنما/ قدر معنى قدر الجملة، وأما تقدير ذلك في المفرد فمتكلف، ولأنه أمر معنوي فلا يكون إلا من الجملة، وعلى هذا يقرب رأي الناظم، ويؤنس به بأنه قد يريد
ههنا تقدير فعل عليه الجملة ما تقدم في المصدر المؤكد لنفسه إذا قلت: له علي ألف درهم عُرفًا؛ إذ هو عنده وعند غيره على إضمار الفعل المتروك إظهاره، فكذلك ينبغي أن يكون هذا. وهو ظاهر. واعلم أن قوله:(فمضمر عاملها) تنبيهًا على مسألتين: إحداهما: التنكيت على مذهبي الزجاج وابن خروف، أي ليس العامل بظاهر في اللفظ كما يقوله المخالف، بل هو مضمر يدل عليه الكلام. والثانية: التنبيه على لزوم الإضمار، ودل على ذلك تقديمه الخبر في قوله (فمضمر عاملها) إشعارًا بتأكيد الحكم بذلك، وكذلك الأمر فيه؛ إذ لا يجوز إظهاره، فلا تقول: أنا زيد اعرفني معروفًا، وذلك لأنهم جعلوا الجملة كالبدل من اللفظ بالعامل كما جعلوا الجملة في قولهم له علي [ألف عرفًا] عوضًا عن العامل في المصدر. ولا أعلم في هذا الحكم خلافًا.
ثم قال: (ولفظها يؤخر) الهاء عائد على الحال، ويعني أن الحال في هذه المسألة يؤخر، ولا يجوز تقديمه فلا تقول: معروفًا هو زيد، ولا شجاعًا أنا زيد، وكذلك لا تقول: أنا معروفًا زيد، ولا أنا شجاعًا زيد، وإنما لزم تأخيرها لأنها إنما أعطت من المعنى ما أعطت الجملة من قبل، إذ كان قولك: هو زيد، أو أنا زيد معناه: أنا المعروف أو هو المعروف أو أعرفني أو أعرفه، فصار قولك: معروفًا يعطي عين ما يعطيه: أنا زيد، وهو زيد، فصار كالجملة المؤكدة لجملة أخرى، أو المفرد المؤكد لما قبله. ومن شأن المؤكد التأخير عن المؤكد. وأيضًا الجملة إذا قامت مقام العامل لم يبق للعامل ذلك التصرف الذي كان قبل أن يُحذف، ويُعوض عنه، يُبينه أنك لا تقول: صوت حمارٍ له صوت، ولا: عرفًا له على ألف، ولا حقًا أنت ابني، ولا ما أشبه ذلك، بل يلزم المعمول التأخير لعدم تصرف ما ناب عن العامل.
فإن قيل: هذا الحكم الذي قرر من لزوم تأخير الحال هل هو مقتصر به على الحال المؤكد بها الجملة أم هو شامل للحال المؤكدة كانت مؤكدة لعاملها أو للجملة؟ .
فالجواب: أن الظاهر من كلامه الاقتصار على المؤكد بها الجملة. وأيضًا فإن العامل النائب عنه غيره لا يقوى قوة العامل الظاهر كما تقدم بخلاف نحو: (لا تعث في الأرض مفسدًا). فإن العامل لفظي وهو قوي كما في المصدر المؤكد، فكما يجوز تقديم المصدر المؤكد على عامله كذلك يجوز هنا، فإذا قوله (ولفظها يؤخر) راجع إلى الوجه الثاني، وهو الحال المؤكد للجملة. والله أعلم.
ثم قال:
وموضع الحال تجيء جملة
…
كجاء زيد وهو ناوٍ رحله
لما كانت الحال خبرًا من الأخبار، وكان الخبر يأتي مفردًا، وهو الأصل، ويأتي جملة في موضع المفرد/ جاءت الحال كذلك، وكذلك النعت، فالثلاثة جارية من وادٍ واحد، فالأصل في الحال أن تأتي مفردة ثم أنها قد تأتي جملة، وتكون تلك الجملة مقدرة بالمفرد الذي يقع عليه النصب على الحال، وقد ذكر حكم المفرد فيما فمضى فأخذ يذكر حكم الجملة، فيريد أن الحال قد تأتي في موضعها جملة، وهذا مشعر بأن الجملة ليست الحال بنفسها بل هي في موضعها فحيث جاءت كذلك فلابد من تقديرها بالمفرد، لأنه الأصل فيها، وأيضًا لم يقيد الجملة بكونها اسمية أو فعلية فدل على أن كل واحدةٍ منهما في موضع الحال، فتقول: جاءني زيد وهو ضاحك، وجاءني يضحك
…
فإن قيل: تقييده بالمثال يُشعر بأنها إنما تكون اسمية، لأن التقدير: وموضع الحال تجيء جملة تسبه هذه الجملة، وقوله (وهو ناوٍ رحله) جملة اسمية، فكأن التقدير: وموضع الحال تجيء جملة اسمية، فخرجت الفعلية عن ذلك، وهو غير صحيح.
فالجواب: أن مراده الجملة على [نوعيها، والدليل] على ذلك قوله بعد (وذات بدء بموضع ثبت) وهذا تفصيل لمجمل قد [سبق، والجملة المبدوءة] بالمضارع فعلية بلا بد، فالجملة في كلامه إنما المقصود بها كيف كانت، وإنما أتى بالمثال إشعارًا بقيد آخر ضروري للجملة الواقعة حالًا، وهو كونها خبرية، فإن الطلبية لا تقع في موضع الحال، لو قلت: جاء زيد كيف حاله؟ أو جاء زيد هل رأيته؟ على أن تكون الجملة الطلبية في موضع الحاللم يصح، كما لا يكون ذلك في النعت لأنهما من باب واحد، ألا ترى أن النكرة يجري الحال عليها نعتًا في الأكثر، ولا تقع حالًا إلا قليلًا، بخلاف المعرفة فإنه لابد من انتصابها معه، إذ لا يصح جريانها نعتًا عليها، فالحال جارية بين شبه خبر المبتدأ أو شبه النعت، فتأخذ من الخبر أحكامً كثيرة، ومن النعت أحكامًا أخر. وهذا الموضع مما غلب فيه شبه النعت، فلذلك لا تقع جملة الحال طلبية، كما لم تقع جملة النعت حسب ما يذكره. ثم أتى بمثال للجملة الحالية، وهو قوله: جاء زيد وهو ناوٍ رحله، أي: جاء: في هذه الحال، والتقدير جاء زيد ناويًا رحلة، فقد وقع (وهو ناوٍ) موقع قولك: ناويًا، والشأن أبدًا أن تقدر المفرد من الخبر، لا من المخبر عنه، ففي الجملة الفعلية تقدرها من الفعل، وفي الجملة الاسمية تقدرها من خبر المبتدأ، لأن ذلك هو محل الفائدة، فتقول في قولك: جاء زيد يضحك: جاء ضاحكًا، كما قلت: جاء زيد ناويًا رحلة، وهكذا الأمر في خبر المبتدأ إذ وقع جملة، وفي النعت كذلك لا فرق بينهما. وهذا ضابط لابد منه، لكنه قد يعرض في ذلك عوارض لفظية ربما يُشكل على
من لم يثبت قدمه في هذه الصناعة، ولعله يأتي من ذلك في أثناء الكلام على بعض المسائل التقديرية في الحال أو في النعت إن شاء الله.
فإن قيل: هذا الحكم الذي أتى به مجملًا للجملة الحالية ناقصة الشرائط، فإن جملة الحال لها شرط آخر لابد منه، وهو ألا تكون مفتتحة بدليل استقبال، وقد اشترطه في التسهيل، وهو ضروري أيضًا، إذ لا تقول: جاء زيد سيضحك ولا جاء زيد لمن يضحك، ولا ما أشبه ذلك للتناقض بين الحال /240/ والاستقبال، وليس في/ الإتيان بذلك المثال ما يشعر بهذا الشرط؛ لأنه من الجملة الاسمية بمعزل؛ إذ دلائل الاستقبال يختص الاستفتاح بها الجملة الفعلية فيوهم إطلاقه دخولها، وهو غير صحيح.
فالجواب: أن دلائل الاستقبال عارضة الدخول على الأفعال ليست بأصلية لها، فالسابق للفهم من الجملة الفعلية ما كان للفعل أول سابقٍ فيهما من غير شعور بما يتقدمه أداة من الأدوات، وإذا ثبت هذه فالعوارض لها أحكام إذ عرضت، ولا يلزم من ثبوت حكم أصلي في موضع أن يكون ثابتًا له مع العوارض الطارئة، فلا يلزم إذًا التحرز منه ابتداء في تقرير الحكم الأصلي؛ فلذلك لم يتحرز من الجملة المفتتحة بدليل استقبال.
فإن قيل: لم لم يذكر هنا وقوع الظرف والمجرور حالًا ألكونهما بمعزل عن ذلك أم لكونهما يدخلان تحت حكم المفرد إن قدروا بالمفرد، أو حكم الجملة؟ [وقد ترك] ذكرهما في التسهيل وهنا فما وجه ذلك؟ فالجواب: أن
الظرف والمجـ[ـرور لا مانع يمنع من وق] سوعهما حالين كما يقعان صفة وخبرًا، فأنت إذا قلت: ضرب زيد عمرًا في الدار، أو: ضرب زيد عمرًا أمامك أو يوم الجمعة فجائز أن يكونا متعلقين بضرب، وعلى هذا لا يكونان حالين. وجائز أن يكونان متعلقين باسم فاعل حالٍ من المفعول وحده، أو من الفاعل وحده. وأن يكون حالًا منهما معًا. وقد حمل الزمخشري قولهم: لقيته عليه جبة وشي على أنه في تقديره: مستقرة عليه جبة وشي. وتأول ابن العصفور قولهم: رأيت الهلال من داري من خلل السحاب، على أن يكون (من خلل السحاب) متعلقًا باسم الفاعل على تقدير: باديًا من خلل السحاب، وحمل ابن مالك قول الله تعالى {فلما رآه مستقر عنده} على أن مستقرًا هو ذلك المحذوف في قولك: رآه عنده- ظهر في الآية، ولا شك أنه حال من الهاء في رآه، فكذلك الحكم لو لم يظهر على مذهبه. وحدثنا شيخنا الأستاذ أبو عبيد الله بن الفخار- رحمه الله عن شيخه أبي إسحاق الغافقي أنه كان يقول: الظرف والمجرور الذي في معناه لا يتعلق واحد منهما بالفعل المذكور إلا بشرط أن يكون الفاعل والمفعول في ذلك المحل، فإن كان فيه أحدهما دون الآخر كان الظرف أو المجرور متعلقًا بحال من الكائن في ذلك المحل، قال: وعلى ذلك يُحمل قول امرئ القيس:
فشبهتهم في الآل لما تكمشوا
…
حدائق دوم أو سفينًا مقيرًا
فقوله (في الآل) متعلق بحالٍ من ضمير المفعول دون الفاعل، لأنه لم يكن معهم
في الآل؛ لأن الآل لا يُرى إلا عن بعد، قال: وكان يقول على ذلك: رأيت أمامك زيدًا خلفك، فيكون أمامك معلقًا بحالٍ من الفاعل، وخلفك معلقًا بحال من المفعول. فإذا تقرر هذا فلا يمتنع وقوع الظرف والمجرور في موضع الحال، ويكون الناظم اكتفى بذكر المفرد عن ذكر بناءً/ على أنه في تقدير المفرد، ويمكن أن يكون في تقدير الجملة، كما يمكن ذلك في النعت، وقد أجاز الوجهين في باب الابتداء في قوله:
* ناوين معنى كائن أو استقر *
ثم قال:
وذات بدء بمضارع ثبت
…
حوت ضميرًا، ومن الواو خلت
وذات واو بعدها انو مبتدأ
…
له المضارع اجعلن مسندًا
فقسم الجملة الواقعة في موضع الحال إلى قسمين: أحدهما المصدرة بالفعل المضارع المثبت غير المنفي. والثاني ما سوى ذلك. فأما القسم الأول فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون بلا واو، والآخر أن يكون بالواو، فقوله:(وذات بدء بمضارع ثبت) يريد أن الجملة المبدوءة بالمضارع إما أن تكون قد دخلها نفي أو لا، فإن دخلها النفي فيأتي حكمها، وإن لم يدخلها نفي بل كان المضارع فيه مثبتًا فلابد فيها من ضمير يعود على ذي الحال، كما يلزم في الصفة والخبر إذا وقعا بالجملة؛ ليربط بين الحال وصاحبها كانت الجملة بالواو أو دونها، فتقول: جاء زيد يضحك، وجاء أخوك يضحك، ففاعل الفعلين هو الضمير العائد على ذي الحال، ودل على ذلك بقوله: (ومن الواو خلت
…
وذات واو) يريد أن الضمير لابد منه مطلقًا فقوله: (ومن الواو خلت) جملة في
موضع الحال من الضمير (في حوت) وهي مصدرة بالماضي عاريًا من قد، كأنك قلت: حوت ضميرًا من الواو. وقوله: (وذات الواو) معطوف على موضع الجملة، أي: خالية من الواو، وذات واو. ثم قال (بعدها انو مبتدأ) فأتى بجملة مستأنفعة تبين حكم المضارع بعد الواو أنه على تقدير مبتدأ يكون المضارع خبرًا له، فقولك: جاء زيد ويضحك، في تقدير: وهو يضحك.
فإن قيل: هذا التفسير غير لائق وظاهرة عدم الارتباط بين قوله: (بعدها انو مبتدأ) وبين ما قبله، فلم لم تجعل الجملة الأولى وهي قوله:(ومن الواو خلت) حالًا، وقوله:(وذات واو بعدها انو) جملة أخرى مستأنفة، ويكون المعنى: أن الجملة ذات واو لابد أن ينوى بعد الواو فيها المبتدأ، وما المانع من هذا التفسير؟ حتى تكلف في البيت هذا التكلف.
فالجواب: أن الضرورة دعت إلى ذلك؛ لأن قوله: (حوت ضميرًا) يحب أن يكون قيدًا في الجملتين معًا ذات الواو والعارية من الواو، إذ لا يقال جاء زيد ويضحك عمرو، على أن الجملة في موضع الحال، فلو جعلت قوله:(وذات واو) جملة منقطعة من الأولى لاقتضى استغناء ذات الواو عن الضمير، بل كان يقتضي بحكم المفهوم ألا تكون ذات ضمير أصلًا، لأنه قيد الجملة العارية من الواو بأنها حوت ضميرًا، فاقتضى أن ذات الواو على خلاف ذلك، وذلك غير صحيح، / ولا يضر جعل قوله:(بعدها انو مبتدأ) جملة مقطوعة، لأنه قد يفعل مثل ذلك كقوله في باب ظن:
وإن، ولا، لام ابتداء أو قسم
…
كذا، والاستفهام ذا له انحتم
وغايته في القبح أن يكون حذف حرف العطف، وذلك في نظمه شائع،
وعلى هذا فقد أعطى كلامه أمرين: أحدهما: أن لابد من ضمير في الجملة المصدرة بالمضارع، كانت بواو أو بغير واوٍ، فإنك لا تقول: جاء زيد يضحك عمرو، ولا يضحك عمرو. والثاني: أن النوعين معًا جائزان في الكلام قياسًا؟ ؛ إذ لم يُفرق بينهما. فأما العارية من الواو فلا إشكال في جواز القياس فيها، وأما المصدرة بالواو فمن الناس من يمنع القياس فيها، فلا تقع عندهم حالًا إلا أن يُتلقى مسموعًا لقلة ما جاء من ذلك؛ لأن القياس يأباه، فإن المضارع في تقدير اسم الفاعل، وأنت لو قلت: جاء زيد وضاحكًا لم يستقم، وكذلك ما كان في تقديره. وأجاز ذلك ابن مالك في التسهيل لكن قليلًا، فقال هنالك:"وقد تصحب الواو المضارع المثبت أو المنفي بلا فيجعل على الأصح خبر مبتدأ مقدر" لكن القياس فيه جاز عنده، واستدل على ذلك بالقياس، والسماع. فالسماع نحو ما رواه الأصمعي من قولهم: قمت وأصك عينه وقول عنترة:
علقتها عرضًا وأقتل قومها
…
زعمًا ورب البيت ليس بمزعم
وقال زهير:
بلين وتحسب آياتهن
…
عن فرط حولين رقًا محيلا
وقال عبد الله بن همام السلولي:
فلما خشيت أظافيرهم ..... نجوت وأرهنهم مالكًا
فقوله: (وأوصك عينه) جملة في موضع الحال، وكذلك:(وأقتل قومها)
وقوله: (وتحسب آياتهن) وقوله: (وأرهنهم)، قال المؤلف: "ويمكن أن يكون من هذا قول الله تعالى {قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه} وقوله {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} . فهذا كله مما يقوي الجواز. وأما القياس فكما تقع سائر الجمل الفعلية حالًا فكذاك هذه، وما ألزموه من التقدير الفاسد فلا يلزم؛ فإنه كما تقدر الجملة الاسمية ذات الواو بغير واو فكذلك تقدر الجملة الفعلية ذات الواو بغير واو.
فإن قيل: الفعل المضارع في تقدير اسم الفاعل، فإذا تقدمته الواو كان بمنزلة تقدمه على اسم الفاعل، فكما لا تقول: جاء زيد قائمًا، كذلك لا يجوز: جاء زيد ويقوم، بخلاف الجملة الاسمية فإن المبتدأ فيها ليس في تقدير اسم الفاعل، فلا يقبح أن يتقدم الواو عليها، وإذ ذاك لا تتقدر الحال بعد الواو بغير واوٍ، وإذا ثبت هذا فالجملة كلها إذا كانت اسمية في موضع الحال، فلا تذكر الواو مع تقديرها، وإذا كانت فعلية فالفعل وحده هو الواقع في موضعه، فلذلك لزم ذكرها في التقدير؛ وسبب ذلك كله أن الواو تصلح مع الجمل، لأنها كأنها عاطفة جملة على جملة فروعي اللفظ فجاز الإتيان بالعاطف، فإذا قدر المفرد لم تصلح الواو؛ لأن عطف المفرد على جملة لا موضع لها من الإعراب لا
يصح، فإذا أتى بالحال/ جملة مصدرة بالمضارع كان المضارع مقدرًا بالمفرد؛ لأنه على وزانه، ومموله عليه- أعني اسم الفاعل- فلم تصلح الواو معه ولذلك لزم الضمير، فإذا أجيز دخول الواو كان تجويزًا لدخولها على المفرد فكان (ويضحك) في تقدير: ضاحكًا، وذلك فاسد.
فالجواب: أن هذا منتقض بالفعل الماضي فإنه مقدر باسم الفاعل ومع ذلك فلم تمتنع الواو، فتقول: جاء زيد وضحك، وإن كان في تقدير: وضاحكًا؛ اعتبار بلفظ الجملة الآن، وإذا قدر المفرد سقطت الواو، فكذلك تقول في المضارع: إن الواو دخولها من حيث كان لفظه مع فاعله لفظ الجملة. والتقدير بالمفرد أمر آخر تسقط معه الواو، فإن العرب تراعي أحكام اللفظ وتحافظ في التقديرات على ما يليق بها، ويُصدق هذا وجود الواو مع المضارع سماعً كما تقدم كما وجدت مع الماضي، فلا فرق بينهما في المعنى. وهذا كله مع عدم التعرض إلى التأويل الذي ذكر مع كون المضارع يُقدر قبله المبتدأ. ثم إنه لم يكتف بهذا الطريق من الاستدلال حتى جعل الجملة الفعلية في تقدير الاسمية بأن قال (بعدها انو مبتدأ) إلى آخره، يريد: قدر بعد الواو مبتدأ يكون الفعل المضارع مسندًا إليه- أي خبرًا عنه- فقوله: قمت وأصك عينه في تقدير: وأنا أصك عينه، وكذلك قول عنترة:(وأقتل قومها) تقديره: وأنا أقتل قومها، وكذلك سائر الأمثلة، فإنه إذا كان الأمر في المسألة على هذا التقدير صارت في عداد الجمل الاسمية، ولم يبق إشكال، ولا احتيج إلى اعتذار عن الواو. والذي يسوغ تقدير المبتدأ هنا أن الباب الأكثر والطريق المهيع مع المضارع تقدم الاسم عليه إذا وقعت جملته حالًا، فتقول: جاء زيد وهو يضحك، وضربته وأنا أبكي، وما أشبه بذلك، فإذا كان معظم الباب هكذا حملنا على الأقل- وهو
عدم ظهور المبتدأ مع الواو- على ما هو الأكثر فقدرناه على القاعدة المستمرة في حمل ما خُفي على ما ظهر، ولا يدل هذا التأويل على الوقف على السماع؛ إذ يمكن القياس على ذلك تأويل بعينه، وهذا صحيح من الاعتبار. ويمكن في ترتيب هذا الكلام وجه آخر وه أن يكون قوله (حوت ضميرًا ومن الواو خلت) معطوفًا أحدهما على الآخر، واقتضى المضارع المثبت يقع حالًا بشرطين: أحدهما: أن يكون معه ضمير يعود على ذي الحال. والآخر: أن يخلو من واو تتقدمه، فيكون الخلو من الواو شرطًا لازمًا في القياس. وقوله (وذات واو) إلى آخره جملة مستقلة تفيد تأويل ما جاء من المضارع المثبت حالًا، وقد دخلت عليه الواو، بأن يكون على إضمار مبتدأ، كأنه قال: إن جاءت جملة المضارع بالوا فقدر قبلها المبتدأ- أعني قبل الجملة وبعد الواو- لتخرج بذلك الملة عن كونها مبدوءة بالمضارع، وانتصب (ذات) على إضمار فعل من باب الاشتغال يفسره قوله: انو مبتدأ) ولا يُعترض هذا التفسير بما تقدم من توهم استغناء ذات الواو عن الضمير، لأن شرط احتواء الجملة على ضمير ثابت لم يتخلف عنه شيء بخلاف شرط الخلو من الواو. وهذا الوجه أسهل مما تقدم لكنه يقتضي المخالفة لما ذهب إليه/ في التسهيل من أن ذلك قياس، فإن هذا التنزيل يقتضي كون دخول الواو موقوفًا على السماع من حيث أولها على إضمار المبتدأ بعدها، ولو كانت المسألة عنده قياسًا لم يحتج إلى ذلك، ونظير هذا قوله في الإلغاء في باب ظن:
وانو ضمير الشأن أو لام ابتدا
من موهم إلغاء ما تقدما
إلا أن هذه المخالفة لا تضر؛ فهو بذلك موافق لأكثر النحويين في أنه لا يجوز في الكلام: جاء زيد ويضحك، وكثيرًا ما يرى هنا خلاف ما يراه هنالك. وقد تقدم منه أشياء، وستأتي أخر غن شاء الله. وإذا قلنا بالتفسير الأول، وأن ابن مالك وافق هنا قوله في التسهيل فكونه ذهب إلى التأويل بإضمار المبتدأ نبذ لمذهب
من لم يره، فإن من النحويين من لم يقدر شيئًا كما لم يحتج إلى تقديره مع الماضي. وهذا رأي من قوي عندما تقدم من الاحتجاج غير أن الناظم حمل الأقل على الأكثر كما تقدم، وفرق بين المضارع والماضي بأن الماضي قد كثر فيه مصاحبة الواو فدل على أن ذلك فيه أصل، وانه غير راجع إلى غيره، بخلاف المضارع فإن قلة مصاحبته للواو دل على أن له أصلًا يرجع إليه. وهذا من باب الاستدلال بالأثر، فلذلك رأى الناظم رأي الإضمار. والله أعلم.
وأما القسم الثاني من قسمي جملة الحال فهو الذي قال فيه الناظم:
وجملة الحال سوى ما قدما
…
بواو أو بمضمر أو بهما
يعني أن عدا ما تقدم من الجمل الواقعة موقع الحال تارة تكون بالواو خاصة من غير أن يكون فيها ضمير عائد على صاحب الحال، وتارة يكون فيها ضمير من غير واو تدخل عليها، وتارة تجمع بينهما فتكون ذات واو وضمير معًا. والذي قدم من الجمل هو الجملة المصدرة بالفعل المضارع المثبت بواو كانت أو بغير واو، والذي بقي من الجمل الثلاث، وهي: الجمل المصدرة بالاسم مطلقًا كانت موجبة أو منفية، والجمل المصدرة بالمضارع المنفي، والجملة المصدرة بالماضي مطلقًا كانت موجبة أو منفية. وكل واحدة منها تأتي- كما قال- على أحد ثلاثة أوجه: فأما الجملة الاسمية- وهي المصدرة بالاسم- فمثالها بالواو خالية من الضمير قولك: جئت والشمس طالعة، وطلع الفجر وزيد قائم، ومنه قوله تعالى {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نُعاسًا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم}. فقوله:{طائفة قد أهمتهم} في موضع الحال، ولا ضمير فيها عائد على صاحب الحال. وقوله تعالى {لئن أكله الذئب ونحن
عصبة إنا إذًا لخاسرون} وقوله {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغن فريقًا من المؤمنين لكارهون} وقال امرئ القيس:
وقد أغتدى والطير في وكناتها
…
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
وقال أيضًا:
إذا ركبوا الخيل واستلاموا
…
تحرقت الأرض واليوم قر
وقوله أيضًا:
بعثت إليها والنجوم طوالع
…
حذارًا عليها أن تقوم فتسمعا
وهو كثير في الكلام والشعر.
ومثال الجملة الاسمية بالضمير خالية من الواو/ قولك: جاء زيد يده على رأسه، ومنه قول الله تعالى {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} [فقوله: بعضكم لبعض عدو] في موضع الحال من واو (اهبطوا). وقال تعالى: {قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو} ، وقال تعالى: {ويوم القيامة ترى
الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة}، وكذلك قوله تعالى {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} . وهي من الجمل الداخل عليها الناسخ، وكذلك قوله:{وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام} وحكى سيبويه: كلمته فوه إلى في، ورجع عوده على بدئه. ومنه قول الشاعر- أنشده الجمهور-:
فعدت كلا الفرجين تحسب أنه
…
مولى المخافة خلفها وأمامها
وقال امرؤ القيس:
حتى تركناهم لدى معرك
…
أرجلهم كالخشب الشائل
ومنه في النفي عند ابن مالك {والله يحكم لا معقب لحكمه} ، وأنشد في الشرح:
من جاد لا من يقفو جوده حمدا
…
وذو ندى من مذموم وإن مجدا
وقال عنترة:
فرأيتنا ما بيننا من حاجز
…
إلا المجن ونصل أبيض مقصل وهو كثير.
ومثال ما اجتمع فيه الأمران الضمير والواو قولك: جاء زيد ويد على رأسه.
ومنه في القرآن الكريم: {فلا تجعلوا لله أندادًا أنت تعلمون} ، وقوله {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنت تتلون الكتاب} ، وقوله {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} ، ومن الشعر قول امرئ القيس:
تنورتها من أذرعات وأهلها
…
بيثرب أدنى دارها نظر عال
على أن يكون (وأهلها بيثرب) حالًا من مفعول تنورت، وكذلك قوله:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
…
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وقوله أيضًا:
أيقتلني وقد شغفت فؤادها
…
كما شغفت المهنوءة الرجل الطالي
وتخييره بين الوجه الثلاثة في الجملة الاسمية يقتضي أنه مخالف لمن زعم خلاف ذلك. ومحل الخلاف الواو، فزعم الكوفيون أنه لازمة في الجملة
الاسمية، ونحا هذا النحو الزمخشري في المفصل؛ إذ جعل ما جاء من ذلك شاذًا، فقال:"فإن كانت اسمية- يعني الجملة الحالية، فالواو إلا ما شذ من قولهم: كلمته فوه إلى في، وما عسى أن يعثر عليه في الندرة" قال: "وأما لقيته عليه جبه وشي فمعناه مستقرة عليه جبة وشي" وما قال وقالوه غير صحيح، وقد تقدم جملة من كلام العرب في هذا، وهو من الكثرة بحيث لا يُعذر مخالفة، ولذلك أكثرت من المثل والشواهد بحيث لا يمكن فيها ما تأوله الزمخشري. هذا وإن كان ذلك لم يكثر كثرة وجود الواو فإنه جائز قياسًا وذلك ظاهر من كلام سيبويه.
وأما الجملة المصدرة بالمضارع المنفي فمثالها بالواو خالية من الضمير قولك: جاء زيد ولم تطلع الشمس، ومنه قول عنترة:
وقد كنت أخشى أن أموت ولم تقم
…
/قرائب عمرو وسط نوحٍ مُسلب
ومثالها بالضمير خالية من الواو قوله تعالى {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء} وقوله {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا}
ومنه قول زهير:
كأن فتات العهن في كل منزلٍ .... نزلن به حب الفنا لم يُحطم
وقول امرئ القيس:
فأدرك لم يجهد ولم يثن شأوه
…
يمر كخذروف الوليد المثقب
وقول عنترة:
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم
…
عنها ولو أني تضايق مقدمي
ومثال ما اجتمعا فيه قول الله تعالى {أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} وقوله {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} . ومنه قول كعب ابن زهير:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
…
أذنب وإن كثرت في الأقاويل
وقال النابغة الذبياني:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
…
فتناولته واتقتنا باليد
وقال الآخر:
بأيدي رجال لم يُشيموا سيوفهم .... ولم تكثر القتلى بها حين سُلت
والمضارع المنفي بلما كالمنفي بلم قياسًا، إذ لا فرق بينهما، ومما استعمل منه بالواو والضمير معًا قول الله تعالى {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} الآية، وقوله {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم}. وأما الجملة المصدرة بالماضي فمثال مجيئها بالواو خالية من الضمير قول امرئ القيس:
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها .... لدى الستر إلا لبسة المتفضل
وقول النابغة:
فلو كانت غداة البين منت
…
وقد رفعوا الخدور على الخيام
وقول علقمة:
فجالدتهم حتى اتقوك بكبشهم
…
وقد حان من الشمس النهار غروب
ومثال مجيئها بالضمير بغير واو قول الله تعالى {أو جاءوكم حصرت صدورهم} وقوله {قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا} وقوله
{ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه} . ومنه قول امرئ القيس:
له كفل كالدعص لبده الندى
…
إلى حارك مثل الغبيط المذاب
وقوله:
درير كخذروف الوليد أمره
…
تقلب كفيه بخيط موصل
وقول النابغة الذبياني:
وقفت بربع الدار قد غير البلى
…
معارفها والساريات الهواطل
ومثال اجتماعهما معًا قوله عز وجل {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقًا منهم يسمعون كلام الله} وقوله {قالوا أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون} وقوله {قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون} . ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
كأني وقد خلفت تسعين حجة
…
خلعت بها عن منكبي ردائيا
وقول علقمة بن عبدة:
يُكلفني ليلى وقد شط وليها
…
وعادت عوادٍ بيننا وخطوب
والأصل في الربط بالضمير؛ لأنه هو الرابط في جملة الخبر، وجملة النعت، وقد أدخلت العرب الواو في جملة / الحال، ربطت بها بين الحال وصاحبها واستغنت بها عن الضمير، وقد يجتمعان تأكيدًا للربط، ولكن الجملة لا تخلو من واحد منهما، فلو لم يأت بواحدٍ منهما لم يحصل الربط بين الجملتين، ولا عُلم أن أحدهما قيد في الأخرى، فلو قلت: جاء زيد عمرو ضاحك، أو: أقبل محمد على عمرو قلنسوة، أو: جئت قد قام عمرو، أو: جئت لم يأت أخوك، على أن تكون هذه الجمل أحوالًا لم يجز؛ إذ لم تأت برابط من واو أو ضمير، غير أنه قد تأتي جملة الحال خالية منهما على تقدير الضمير، ويكون جائزًا كقولك: بيع السمن منوان بدرهم، تقديره: منوان منه بدرهمٍ، ومررت بالبر قفيز بدرهم، أي قفيز منه بدرهم، كما تقول: البر قفيز بدرهم، ومررت ببر قفيز بدرهم، وأبعد من هذا ما أنشده ابن جني من قول الشاعر:
نصف النهار الماء غامره
…
ورفيقه بالغيب لا يردي
يصف غائصًا في الماء من أول النهار إلى انتصافه ورفيقه على شاطئ الماء ينتظر ولا يدري ما كان منه، فهذه الجملة التي هي (الماء غامره)
حالية ولا رابط فيها من ضمير يعود على الاسم المتقدم، ولا واو تنوب عنه، لكن قدر صاحب الحال محذوفًا، والعائد عليه الهاء في (غامره)، فكأنه قال: نصف النهار على الغائص الماء غامره. هذا تمتم المقصود من شرح كلامه على الجملة، غلا أن في التفصيل نظرًا معتبًرا في الجمل الثلاث. فأما الجملة الاسمية فلا يخلو أن تكون مؤكدة أو غير مؤكدة، فإن كانت غير مؤكدة فالحكم كما ذكر، وإن كانت مؤكدة فلا تدخل عليها الواو أصلًا، فتقول: هو الحق لاشك فيه، ويمكن أن يكون منه قوله تعالى:{ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه} أي: ذلك الكتاب يقينُا، وهكذا أيضًا يجري الدرك فيما إذا وقعت الحال المؤكدة جملة فعلية نحو قوله: أخوك زيد قد عرفته، وقال امرئ القيس:
خالي ابن كبشة قد علمت مكانه
…
وأبو زيد وكلهم أعمامي
فهذه الجملة لا تدخل عليها الواو، ووجه امتناعها أن الجملة مؤكدة، والمؤكد هو المؤكد في المعنى، فالواو تنافي الدخول بين التوكيد والمؤكد، فكما لا يصح أن تقول: قام زيد نفسه وعينه، لا يقال: هو الحق ولا شك فيه، على أن تكون الجملة حالًا، ولا أخوك زيد وقد عرفته كذلك. وأما الجملة الفعلية المصدرة بالماضي فلا يجري فيها ذلك الحكم إذا كان الماضي تاليًا لإلا، نحو قوله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدثٍ إلا استمعوه} ، {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} .
وهو كثير، فقد نص هو على أنه لا يصح الإتيان بالواو هنا، وكذلك إذا كان الماضي متلوا بأو، نحو: أكرم زيدًا أحسن أو أساء؟ وأنشد في الشرح:
كن للخليل نصيرًا جار أو اعتدلا
…
ولا تشيح عليه جاد أو بخيلًا
فالواو عنده أيضًا لا تصلح ههنا، فلا /تقول: ما يقوم زيد إلا وبكى، ولا أكرم زيدًا أحسن أو أساء؛ إذ لم يُسمع في كلام العرب، وأيضًا فقد تقدم ما في الجملة المؤكدة. وأما الجملة المصدرة بالمضارع المنفي فإنما يجري فيها ذلك الحكم- على ما نص عليه في التسهيل- إذا كان النفي بلم حسب ما مر في التمثيل، وأما إذا نفُي بلا أو ما فلا سبيل للواو، وغنما لا تأتي بلا واو كقوله تعالى {ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق} {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم} وقال امرئ القيس في ما:
ظللت ردائي فوق رأسي قاعدًا
…
أعد الحصى ما تنقضي عبراتي
وأنشد في الشرح:
عهدتك ما تصبو وفيك شبيبة
…
فما لك بعد الشيب صبًا متيمًا وأيضًا فإن الجملة المصدرة بالماضي لابد فيها من قد ظاهرة أو مقدرة،
فقولك: جاء زيد وقد ركب هو الأصل، فإن قلت: جاء زيد وركب، فيجوز لكن على تقدير قد، فإن لم تقدرها لم يجز أن تكون حالًا، ويلزم ظهورها عند ابن مالك إذا لك يكن في الجملة ضمير يعود على ذي الحال، نحو قول امرئ القيس:
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها
…
لدى الستر إلا لبسة المتفضل
وقول النابغة:
فلو كانت غداة البين منت
…
وقد رفعوا الخدور على الخيام
وقول علقمة:
فجالدتهم حتى اتقوك بكبشهم
…
وقد حان من شمس النهر غروب
وسبب التزام قد لفظًا أو تقدير أمران:
أحدهما: أن الفعل الماضي لا يدل على الحال، فينبغي ألا يقوم مقامه.
والثاني: أنه إنما يصلح أن يوضع موضع الحال ما يصلح أن يقال فيه الآن أو الساعة، وهذا لا يصلح في الماضي فينبغي ألا يكون حالًا، ولهذا لم يجز أن يقول: مازال زيد قام، ولا: لبس زيد قام؛ لأن ما زال وليس يطلبان الحال، وقام فعل ماضي الزمان، فلو جاز أن يقع الماضي حالًا لجاز هذا، وأيضًا فإذا لم يقع المستقبل في المعنى حالًا إلا بتأويل، نحو: زيد في يده اليوم صقر صائدًا به غدًا، فهو على تقدير: مقدرًا اليوم الصيد به غدًا، فكذلك لا يجوز في الماضي إلا بقرينه تقربه في الحال، وذلك قد، فإنها تقرب الماضي إلى الحال؛ ولذلك كان جوابها، لما يقم. ولما لنفي الماضي المتصل بزمان الحال، ولذلك تقول: قد
قام الآن، وقد خرج اليوم. قال ابن الأنباري. فإذا ثبت هذا فالناظم لم يتعرض لهذا التقدير، فاقتضى أن جملة الفعل الماضي تقع حالًا قدر مع الماضي قد أو لا، وذلك غير صحيح على ما تقرر، وأيضًا، فإن الجملة المصدرة بالمضارع الماضي معنى محتاجة إلى الواو في القياس كان فيها ضمير أو لم يكن.
قال ابن خروف، كقول النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
…
فتناولته واتقتنا باليد
إلى غير ذلك من الشواهد المذكورة، ولا يقال عنده قياسًا: سار زيد لم يسرع. وهذا خلاف ما قاله الناظم في ظاهر إطلاقه.
والجواب: أن الجملة المؤكدة لا يتعين كونها في موضع الحال، لاحتمال كونها في المواضع المذكورة خبرًا أو بعد خبر/ أو جملًا لا موضع لها من الإعراب، وإنما أتى بها توكيدًا لما قبلها، وإذا لم تتعين لم يثبت أن الحال المؤكدة تأتي جملة فعلية بعد الدليل على إثباتها، وإن سلمنا أنها أتت فهي بالجملة قليلة فلم يعتبرها. وأما ما اعترض به في جملة الماضي ففيه نظر؛ فإن النحويين لا يفصلون ذلك التفصيل الذي ذكر في التسهيل. وإنما يأتون بالمسالة على ما أشار إليه هنا. قال ابن عصفور:"إن كانت الجملة فعلية وكان الفعل ماضيًا لفظًا ومعنى أو معنى دون لفظ واشتملت على ضمير فالاختيار الواو، وقد يجوز ألا تأتي بها، وإن لم تشتمل على ضمير فلابد من الواو" وهذا المعنى ذكره الجزولي أيضًا. وقال صاحب المفصل في الجملة الفعلية "لا يخلو أن يكون فعلها مضارعًا أو ماضيًا، فإن كان مضارعًا لم يخل من أن يكون مثبتًا أو منفيًا، فالمثبت بغير واو، وقد جاء في المنفي الأمران وكذلك في
الماضي ولا بد من قد ظاهرة أو مقدرة" فإذا كان هؤلاء وغيرهم يقرون المسالة على هذا الترتيب اعتمدت، وبقي النظر فيما أتى به من الشواهد، وما الذي يليق هنالك من الإعراب.
وأما المضارع المنفي بلا فقد لا يدخل هنا من حيث اشترط في جملة الحال ألا تكون مفتتحة بدليل استقبال، وظاهر سيبويه وعليه عول الأكثرون أن لا مخلصة للاستقبال. وإنما يرد السؤال على مذهبه في أنها لا تختص بالاستقبال، ولا يُدرى ما مذهبه حين نظم هذه الأرجوزة، فإن فُرض أن رأيه ما قال في التسهيل، فالسؤال وارد، إلا أنه حكى في التسهيل أن الواو قد تدخل على المضارع المنفي بلا، واستشهد عليه بقوله تعالى {إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} في قراءة غير نافع، فقوله:(ولا تسأل) جملة حالية دخلت عليها الواو. وهذا الشاهد لا شاهد فيه لعطفه على بشيرًا ونذيرًا فالواو عاطفة، وإنما الشاهد في قراءة ابن ذكوان:{ولا تتبعان} بتخفيف النون. فالنون فيه نون الرفع، وهو خبر لا نهي، والجملة في موضع حال، أي: فاستقيما غير متبعين، أجاز ذلك
الفارسي وغيره، ولم يجيزوا إلا وهو عندهم جائز أن يقع المضارع المنفي بلا حالًا، وإن كان ذلك قليلًا.
وأما النفي بما فما قاله في التسهيل من امتناع دخول الواو عليه فيه نظر، فإنها إذا دخلت على المنفي بلا، وهي تدخل على المستقبل، فأولى أن تدخل على المنفي بما؛ لأنها خاصة بفعل الحال مع عدم القرائن، فقد قال: عهدتك وما تصبوا، وأعد الحصى وما تنقضي عبراتي، فلنظر في هذا الموضع.
وأما تركه الكلام على قد فالاعتذار عنه أن رأيه في التسهيل عدم التزامها في اللفظ ولا في التقدير، كمذهب الكوفيين والأخفش، ورد على من قال بالتزام ذلك- وهم جمهور البصريين- بأن الأصل عدم التقدير، فالقول به دعوى، ولأن وجود (قد) مع الفعل المشار إليه لا يزيده معنى/ على ما يفهم به إذا لم يوجد، ومن حق المحذوف المقدر ثبوته أن يدل على معنى لا يدرك بدونه.
فإن قيل: إنما تدل على التقريب.
قلنا: دلالاتها على التقريب مستغنى عنه بدلالة سياق الكلام على الحالية كما أغنى عن تقدير السين وسوف- سياق الكلام في مثل {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث} بل كما استغنى عن تقدير (قد) مع الماضي القريب الوقوع إذا وقع نعتًا أو خبرًا، وأيضًا فلو كان الماضي معنى لا يقع حاًلا إلا وقبله قد لامتنع وقوع النفي بلم حالًا ولكان النفي بلما أولى منه بذبك؛ لأن لم
لنفي فعل، ولما لنفي قد فعل. وقد حصل بهذا كله الجواب عن توجيه تقديرها إذا لم توجد. وإذا كان مذهبه عدم الاحتياج غليها فلا يلزمه ذكرها لكن يرد عليه ما التزم من إظهارها إذا لم يكن في الجملة ضمير. وقد يُجاب عنه بأن ذلك لا يلزم فقد تقول: آتيك طلعت الشمس. وما الفارق بين أن يعود من الجملة ضمير على ذي الحال أو لا يعود، ففي التزام ما قال هناك نظر. وأما ما ذهب إليه ابن خروف فلم يرتضه الناظم بل رده بالشواهد المتقدمة الدالة على خلاف ما ذهب إليه. هذا ما يمكن في البحث من المقال في الجواب عن ذلك الاعتراض. والحق أنه إنما أتى فيما عدا الجملة المصدرة بالمضارع المثبت بحكم جملي أكثر يصح إذا أخذت المسألة مأخذ الناس؛ إذ غالب الناس لم يُفصلوا ذلك التفصيل كله، وكثير منه غنما [هو] استقراء من ابن مالك قلما تجده كذلك لغيره. وقد تقدم من كلام الزمخشري والجزولي، وابن عصفور، وغيرهم ما يشير إلى نحو مما ارتكب هنا. وذلك كاف في مثل هذا المختصر.
فإن قيل: فكان الأولى ألا يعترض لهذه الإشكالات وأن تجتنب تلك الإيرادات التي يغلب على الظن أن الناظم لم يقصدها حتى يقصر من هذا التقييد ما استبان طوله، ويكتفي بحاصل ما نص عليه خاصة.
فالجواب: أن القصد في الشرح غير ما ذكرت، وهو استيعاب ما يسر الله من الكلام على ألفاظه وما احتملته بمنطوقها أو مفهومها، وتفصيل مجمل ما ذكر لتتضح معانيه وتكثر مسائله، وتعظم الفائدة به، ويكون عونًا للناظر على التهدي إلى النظر والبحث والاستنباط وفي غيره مما يحتمل ذلك النظر، ولا يكون تعسفًا على مقصده. ونحن نعلم أن ابن مالك في كتبه مما يقصد في وضع
الألفاظ وضبط القوانين، والتحرز من الاعتراض، والتوقي من تداخل القواعد، وانكسار الأصول ما لا يقصده غيره، وقد ظهر بما تقدم من ذلك ما يُستحسن ويُستملح، ويُنشط الكسل، ويُنهض العزائم في النظر في هذا النظم خصوصًا، وسيأتيك من ذلك ما تقر به عين المنصف من مفيد ومستفيد بحول الله. وقوله:(وجملة الحال سوى ما قدما) / مبتدأ خبره (بواوٍ) وما بعده معطوفات. و (سوى) منصوب على الاستثناء.
والحال قد يحذف ما فيها عمل .... وبعض ما يُحذف ذكره حظل
هذه مسألة من أحكام العوامل في الحال، وهو المحذوف، فبين أن عامل الحال قد يُحذف في بعض المواضع كما يُحذف عامل غيره كعامل المفعول به، والعامل في خبر المبتدأ، وهو المبتدأ، ومن شأن العرب الحذف اختصارًا إذا استطالت الكلام، فهو من جملة تصرفاتها في الكلام، ثم إن الناظم هنا ترك بيان أمور:
أحدها: أنه لابد من أن يكون على المحذوف دليل، فربما يوهم ذلك أن هذا العامل يجوز حذفه وإن لم يكن عليه دليل، كما قد يوجد بعض المحذوفات لا دليل عليه.
والثاني: أن عامل الحال قد يكون فعلًا، وقد يكون صفة، وقد يكون حرفًا من الحروف المشربة معنى الفعل، أو من الأسماء الجامدة التي أشربت معنى الفعل، فلم يبين ما الذي يحذف من هذه الأمور، وقد يتوهم أنه مستعمل في هذه الأنواع كلها، أو قد يختص ببعضها، وذلك البعض لم يتعين فيقع الإشكال.
والثالث: أن هذا الحذف يمكن أن يكون قياسًا كله أو سماعًا كله أو يكون بعضه قياسًا ويعضه سماعًا. وهو قد أطلق هنا القول بقلة الحذف على الجملة، ولم يحصل تصريح بقياسٍ ولا سماع، فقد يُوهم إطلاقه أمرًا لم يقصده الناظم.
فهذه مواضع كان الأولى بها بيانها، والظاهر أنه لم يفعل، وقد يقال: إنه وإن لم يُصرح فقد أشار وقصد البيان.
أما الأول، فإن قاعدة الحذف أنه لا يحذف إلا ما دل عليه لدليل، ولو عدم الدليل لم يجز الحذف. أما بالنسبة إلى الكلام المنقول عن العرب فإن إدعاء الحذف في موضع لا دليل فيه تحرص على الغيب، وأيضًا إذا قصدت البيان ثم لم تدل على المحذوف لكان نقص الغرض. وأما بالنسبة إلينا أيها القائسون فإن الحذف من غير دليل ليس من كلام العرب، وأيضًا إذا لم يجعل على المحذوف دليلًا فهو غير مخبر به، ولا عنه فليس بمحذوف في الحقيقة، إذ المحذوف ما جُعل له في الكلام اعتبار ومنزلة، وما لم يدل عليه ليس كذلك أصلًا، فمدعي الحذف من غير دليل مدع لما لا برهان عليه، ومن عادة الناظم ألا يذكر الحذف إلا مع التنبيه على الدليل عليه. كقوله:
* ولا تجز هنا بلا دليل *
إلى آخره. وقوله:
* ويحذف الناصبها إن عُلما *
أو شبه ذلك. وإنما ترك ذكره في المفعول به الذي ليس أصله المبتدأ والخبر؛ للزوم الدليل عليه، فكذلك ترك التنبيه هنا عليه علمًا بتلك القاعدة لتقدم ذكرها مرارًا.
وأما الثاني، فإن القاعدة أن الحذف نوع من أنواع التصرف، وأصل /252/ التصرف إنما هو للفعل حسب ما تقرر في غير موضع، فالفعل/ إذًا أول ما يدعى أنه المحذوف، وأيضًا فإن أصل العوامل الفعل، وإنما عمل غيره بالتشبيه به- أعني عوامل الأسماء في الغالب- فإذا كان ثم عامل محذوف فأول سابق إلى الذهن أنه الفعل، فالمحذوف إذا هنا الفعل لا غيره.
إن قلت: فإن اسم الفاعل أيضًا قريب الفهم فلمدع أن يدعي أنه المحذوف.
فالجواب: أنه ما قرب إلا من جهة فهم الفعل به، فالفعل إذًا سبق للذهن فلا يدعى خلافه، فلأجل هذا ترك الناظم تعيين الفاعل المحذوف، وأيضًا فإن الفعل في باب العمل أكثر دورًا في الكلام فقد صارت له أصالة في العوامل التي تؤدي معنى الفعل، فكان هو الأولى بأن يتصرف فيه بالحذف نظيره (أن) في عوامل الأفعال لما كثر دورها في الكلام دون أخواتها صارت هي التي تنوى من بين سائر النواصب التي لم تدر دورها، ولا استعملت استعمالها وهذا ظاهر.
وأما الثالث: فإن قول الناظم: (والحال قد يحذف ما فيها عمل) يشعر بالقياس، لأن (قد) في استعماله وإن دلت على التقليل إنما يطلقها في موضع القياس، وإلا فيقول شذ أو ندر أو ما يعطي هذا المعنى. وقد تقدم لذلك نظائر كثيرة. وهذا الإطلاق شامل لما الحذف فيه جائز أو واجب؛ لأنه لما أطلق هذا القول قسم الحذف إلى جائز ولازم، فقوله:(وبعض ما يحذف ذكره حظل) يعني أن هذا الحذف المذكور بعضه لا يجوز ذكر المحذو معه فذكره حظل أي منع فلا ينطق به البتة- وأصل الحظل: المنع من التصرف والحركة، ويقال حظل عليه يحظل وحظله أيضًا يحظله حظلًا وحظلانًا إذا منعه، ومنه حظل الأيم وهو منعها النكاح. قال الراجز:
فلا ترى بعلًا ولا حائلًا
…
كهو ولا كهن إلا حاظلا
والحظل والحظر يتقاربان معنى- وبعضه يجوز معه ذكر المحذوف. وهذا القسم لم يصرح به لكنه مفهوم من كلامه، ولم يعين للقياس في القسمين موضعًا، فأما الجائز الحذف فلا يحتاج إلى تعيين موضع. وأما اللازم الحذف فله مواضع يقاس فيها لم يعتن الناظم بتعيينها بل اكتفى بالإشارة خاصة، فمثال الجائز قولك للراحل عنك: راشدًا مهديًا، تقديره: تذهب راشدًا مهديًا، دلت قرينة الحال على ذلك. وقولك للقادم: مبرورًا مأجورًا، أي: قدمت على هذه الحال، وللمحدث: صادقًا، أي: تقول ذلك صادقًا، وللمشتكي: محقًا أو مبطلًا، وما أشبه ذلك. وهذا مما حذف فيه العامل لقرينة حالية. وتقول فيما حذف لقرينةٍ لفظية: راكبًا، لمن قال: كيف أتيت؟ [أي: أتيت] راكبًا، لمن قال: كيف أتيت؟ [أي: أتيت] راكبًا، وكذلك قولك: بلى مسرعًا، لمن قال لك: لم تلأتني أو لمن قال: لا تأت فلانًا، ومن ذلك في القرآن {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه. بلى قادرين على أن نسوي بنانه} تقديره: بلى نجمعها قادرين. وقال سويد المرائد الحارئي- من أبيات الحماسة-:
/لعمري لقد نادى بأرفع صوته
…
نعي حي أن فارسكم هوى
أجل صادقًا والقائل الفاعل الذي
…
إذا قال قولًا أنبط الماء في الثرى
أي: تقول ذلك صادقًا. فهذه المثل، وما كان نحوها يجوز إظهار المحذوف معها وأما الذي يلزم فيه الحذف ولا يجوز الإظهار، فله مواضع: منها: حيث يكون الحال تبين ازدياد ثمن أو غيره شيئًا فشيئًا، أو نقصه كذلك، نحو قولك: أخذته بدرهم فصاعدًا، واشترتيه بدينار فزائدًا، والتقدير: فزاد الثمن صاعدًا، وكذلك تصدقت بدينار فسافلًا، تقديره: فنقص الثمن سافلًا، أو ما أعطيته سافلًا، أو انحط سافلًا، أو نحو ذلك. ومنها الحال السادة مد الخبر في قولهم: ضربي زيدًا قائمًا، وأكثر شربي السويق ملتويًا، وأخط ما يكون الأمير قائمًا، وما أشبه ذلك وقد مر ذكره في باب المتبدأ. وأخطب ما يكون الأمير قائمًا، وما أشبه ذلك وقد مر ذكره في باب المتبدأ. ومنها الواقعة بدلًا من اللفظ بالفعل في التوبيخ كان مع استفهام وهو الأكثر أو بدونه، فالاستفهام، نحو قولهم: أقائمًا وقد قعد الناس؟ وأقاعدًا وقد سار الركب، ؟ وذلك أنه رأى رجلًا في قيام أو قعود فأراد أن ينبهه ويوبخه، فكأنه قد لفظ بقوله: أتقوم قائمًا، وأتقعد قاعدًا، ولكنه حذفه لدلالة الحال على المحذوف، وصار بدلًا من اللفظ بالفعل فلزم ألا يؤتي به مع الاسم، ومثل ذلك قولهم: أتميميًا مرة وقيسيًا أخرى. يقال ذلك لمن هو في حال تلونٍ وتنقل، فكأن التقدير: أتتحول تميمًا مرة وقيسيًا أخرى؟ ، ولكنهم حذفوا الفعل. وحكى سيبويه عن بعض العرب أن رجلًا من بني أسد قال يوم جبلة واستقبله بعير أعور فتطير، فقال: يا بني أسد: أعور وذا تابٍ؟ فالمعنى: أتستقبلون أعور وذا ناب، وذلك على جهة التنبيه لهم ليحذرهم لا على أنه يستفهمهم عنه. وأنشد سيبويه لهند بنت عتبة:
أفي السلم أعيارًا جفاء وغلظة
…
وفي الحرب أشباه النساء العوارك
أي أتتلونون وتنتقلون مرة كذا ومرة كذا، فتتحولون في السلم مثل الأعيار- وهي الحمير- جفاء وغلظة وفي الحرب أشباه النساء الحيض جبنًا وضعفًا، وأنشد أيضًا:
أفي الولائم أولادًا لواحدةٍ
…
وفي العيادة أولادًا لعلات
أي: أتتحولون عند الولائم متواصلين، وعند النوائب متقاطعين. ومن ذلك في غير الاستفهام قولك: قاعدًا قد علم الله وقد سار الركب، وقائمًا قد علم الله وقد قعد الناس، يوبخه بذلك، كأنه قال: يقوم قائمًا ويقعد قاعدًا. وقد يدخل تحت المقيس ما كان منه في الدعاء نحو: عائذًا بالله من كذا، تقول العرب: عائذًا بالله من شرها، كأنه رأى شيئًا يتقى فصار عند نفسه في حال استعاذةٍ، وحذف الفعل؛ لأن الاسم بدل منه، كأنه قال: أعوذ بالله من شرها، وأنشد سيبويه لعبد الله بن الحارث رضي الله عنه:
ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا/ وعائذًا بك أن يعلوا فيطغوني
وتقول على هذا: بريئًا إليك من كذا، ومتوسلًا بكذا على حسب ما يفهم الحال.
هذا كله مما يقبل القياس فيدخل تحت كلام الناظم. والله أعلم.