المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعدي الفعل ولزومه - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٣

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌تعدي الفعل ولزومه

‌تعدي الفعل ولزومه

الأفعال على قسمين: متعد، وهو ما يطلب بنفسه بعد فاعله مفعولا به، ويسمى ذلك الفعل متعديا، وواقعا، ومتجاوزا، ويسمى طلبه ذلك تعديا؛ وإنما سمي الفعل متعديا لأنه تعدى، أي: تجاوز فاعله إلى مفعول به، وواقعا لأنه وقع على المفعول به، ومتجاوزا إذ تجاوز مرفوعه إلى غيره.

وغير متعد وهو بخلافه، ويسمى لازما، ووصفه ذلك لزوما، لأنه لزم فاعله فلم يتعده، ولم يجاوزه إلى غيره. وكلام القسمين لابد من التفرقة بينهما حتى يعرفا، ويتبين وجه القياس اللفظي بالنسبة إلى كل واحد منهما، ولا يمكن أن يعرف ذلك بالمعنى، لأن الفعلين قد يجتمعان في أصل المعنى وأحدهما متعد، والآخر غير متعد، كآمنت به وصدقته، فالأول غير متعد في الاصطلاح، والثاني متعد؛ لأن الواصل بحرف الجر غير متعد في أشهر الاستعمال، وكذلك: نسيته وذهلت عنه، وأحببته ورغبت فيه، واستطعته وقدرت عليه، ونحو ذلك. فلابد من ضابط لفظي يرجع إليه، والذي ضبط به الناظم ذلك، وفرق به بين/ الفريقين أن قال:

علامة الفعل المعدي أن تصل

"ها" غير مصدر به، نحو عمل

يعني أن الفعل المتعدي علامته الدالة على أنه متعد صحة وصل هاء الضمير به إذا لم تكن تلك الهاء دالة على المصدر، وذلك نحو عمل، فإنك تقول: البيت عملته، وليست الهاء ههنا للمصدر، بل للبيت، وهو المعمول،

ص: 124

وكذلك تقول: ضربه، وأكرمه، وأعانه، وأهانه، واستعمله، ونحو ذلك، والهاء ليست للمصدر، فلو كان الموصول بالفعل هاء المصدر، أي الهاء الدالة على المصدر لم يكن في ذلك دلالة على أنه متعد، فإنك تقول: القيام قمته، وقام لا يتعدى، وتقول: تكلمه، وتكلم لا يتعدى، وخرجه، وخرج لا يتعدى، وذهبه وانطلقه، وكثيرا من ذلك، وليس فيها دلالة على التعدي، لأن الهاء للمصدر، فلو فرضتها في هذه الأفعال لغير المصدر لم يستقم فمن ههنا دل على أنها غير متعدية، ودل على أن الأولى متعدية، فتقول: عملت البيت، وضربت زيدا، وأكرمت عمرا، وأعنت خالدا؛ لأنك تقول: عملته، وضربته، وأكرمته، وأعنته، ولم ترد مصدرا، ولا تقول: قمت زيدا، ولا: تكلمت عمرا، ولا: خرجت زيدا، ولا: ذهبته ولم ترد المصدر، فلو أردت المصدر لصح، وكذلك تقول: قمت القيام. وخرجت الخروج، وذهبت الذهاب، وسبب عدم دلالة هاء المصدر على التعدي أن كل فعل متعديا كان أو غير متعد يتعدى إلى المصدر، وتلحقه هاوه.

وفائدة قوله: "أن تصل ها" الاستظهار، والاحتراز من الفعل الواصل بحرف الجر، فإنك تقول: قام به، وتكلم به، وخرج إليه، وذهب به وانطلق إليه، ونحو ذلك، فيتعدى إلى هاء غير المصدر لكن من غير اتصال، بل بواسطة تفصل بينهما، فلا يسمى لذلك متعديا إذا لم تكن الهاء موصولة به.

وقوله: "أن تصل ها غير مصدر به" لا يعني أن تصل الهاء به كيف اتفق، بل يريد أن يكون الشأن فيه كذلك، والاستعمال جاريا عليه، لان من الأفعال ما هو لازم، لكنه يتعدى في حال الضرورة، أو فيما لا يتعد به في الكلام، ولا يقاس عليه، كمررت في قول جرير:

ص: 125

تمرون الديار ولن تعوجوا

كلامكم علي إذا حرام

فإنه تعدى بنفسه هنا، فساغ بالنسبة إلى هذا البيت: مررته، فلو عوضه منه لكان مثله، لكن ليس من شأنه أن يكون كذلك، فليس بداخل تحت قاعدة المتعدي بهذا الاعتبار. وكذلك قول أعرابي من بني كلاب:

تحن فتبدي ما بها من صبابة

وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني

فقضاني في البيت قد يعوض منه قضاه، وليس الاستعمال فيه كذلك، وإنما يقال: قضي عليه. ومما جاء منه في الكلام ولا يقاس عليه قول الله تعالى: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} الأصل فيه: على صراطك المستقيم، وكذلك الاستعمال في قعد أن يتعدى بحرف الجر، فمثل هذه/ الأشياء إن صح فيها وصل الهاء لغير المصدر، فليست بمراده؛ إذ كان مقصوده ما كان ذلك فيه مطردا.

وهذا التعريف فيه نظر من أوجه:

أحدها: أن ما كان يتعدى تارة بنفسه، وتارة بحرف الجر كشكرت ونصحت، وكلت، ووزنت يشكل دخوله تحت قاعدته وخروجه عنها؛ إذ قد قدمت أن مراده دخول الهاء على ما هو الشأن، ونحن نجد مثل هذا لا يستتب فيه إسقاط حرف الجر، لمشاركة إثباته، فلا تقول شكرته بإطلاق، ولا

ص: 126

نصحته كذلك، فيقتضى أنه غير متعد، وأيضا فلا يستتب فيه ثبوت حرف الجر، وذلك يقتضي أن متعد؛ إذا كان يصح أن تقول: نصحته وشكرت على الجملة. وهذا اضطراب. والثاني: أن ظروف الزمان والمكان قد يتسع فيها حتى إن ما كان منها متصرفا يجوز فيه ذلك قياسا، فصارت أفعالها مما شأنها أن تلحقها هاء غير المصدر، نحو قولك يوم الجمعة سرته، ومكانكم قمته، وشهر رمضان صمته، وفي القرآن الكريم:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا على إجراء الظرف مجرى المفعول به مجازا، وهو كثير في كلام العرب. فإذا كان كذلك فكل فعل صلح معه هاء الظرف متعد على طريقته. وكل فعل يعمل في الظرف متعديا كان أو غير متعد، فاقتضى أن قمت، وصمت، وقعدت، وغير ذلك من غير المتعدي متعد، وذلك غير صحيح؛ إذ النحويون لا يطلقون عليها اسم التعدي حقيقة. ومن هذا الباب: دخلت مع الأماكن المختصة فإن هاء غير المصدر يطرد فيها. مع أن سيبويه وغيره لم يجعله متعديا.

والثالث: أنه أخرج بهذا الضابط قسما من أقسام المتعدي؛ إذا قسم النحويون المتعدي ثلاثة أقسام: قسما يتعدى بنفسه، وقسما يتعدى بحرف الجر، وقسما ثالثا يتعدى بنفسه تارة وبحرف الجر أخرى. وإنما عدوا ما يتعدى بحرف الجر قسما ثالثا من اجل لزومه الطلب للمعول كالمتعدي بنفسه، كمررت، وعجبت، ورغبت، فإنها طالبة للمجرور لزوما. وفرقوا بينها وبين ما لا يطلبه لزوما، كقام، وقعد، فجعلوا طلبها للمجرور إن وجد غير تعد، وسموه تعلقا. فالناظم قد نظم هذا القسم في سلك ما لا يتعدى. وذلك خلاف ظاهر.

ص: 127

والرابع: أن الأفعال المتقدم ذكرها، مما انتصب في الشعر، أو في النادر على إسقاط الجار، كمررت، ونحوها متعدية بلا بد؛ لأنها وصلت إلى ما نصبته بنفسها. وإطلاق اسم المتعدي عليها صحيح، وإن كان غير مقيس. ولا يصح أن يقال في "تمرون الديار" إن (تمرون) غير متعد، وهو قد نصب المفعول به، وكذل الأمر في "لقضاني" وفي:{لأقعدن لهم صراطك المستقيم} وما أشبه ذلك، فإن الفعل قد وصل إليها بنفسه، ولا معنى للتعدي إلا ذلك. فكيف يقال: إن علامة المتعدي وصل هاء غير المصدر به، وها هنا لو قلت ذلك/ فيها لم يصح.

والخامس: أن من الأفعال أفعالا كثيرة جدا تستعمل متعدية وغير متعدية مع أن البنية واحدة، نحو غاض الماء وغضته، ورجع الشيء ورجعته، ووقف الفرس ووقفته، وعمر المنزل وعمرته، ومن ذلك كثير، فمن أين يعرف في هذا الباب المتعدي من غيره بهذا العقد، وأنت إذا نظرت في رجع الشيء مثلا هل يتعدى أم لا؟ فوصلت به هاء المصدر. قلت: رجعته، وهو صحيح مع أنه كان عندك غير متعد، فمثل هذا لا يتم تعريفا لهذه الأفعال وأشباهها.

والسادس: أن هذا الضابط دوري، فلا يصح، وإنما كان كذلك لأن إلحاقنا الهاء لغير المصدر تتوقف صحته على معرفة كون الفعل متعديا؛ إذ كنا لا نقول: عرفته حتى نقول: عرفت زيدا. وهذا هو المطلوب فقد توقفت معرفة المتعدي على صحة إلحاق الهاء، وإلحاق الهاء متوقف على معرفة المتعدي. وهذا دور لا يصح التعريف به.

والجواب عن الأول: أن باب نصحت، وشكرت متوقف على السماع،

ص: 128

والناظم إنما تكلم على القياس، فلا يعترض بالسماع عليه؛ إذ لم يتعرض له. وأيضا فإنه على أحد الوجهين قابل لهاء غير المصدر في أحد الوجهين، فهو في ذلك متعد، وفي الوجه الآخر غير قابل، فلا يكون متعديا، فدخل تحت ضابطه.

وعن الثاني: أن الاتساع في الظروف مجاز وعلى خلاف الأصل، وإن كان قياسا، والأصل ألا يتعدى بنفسه بل بحرف الجر، أو على تقديره، فإذا جيء بضمير الظرف تعدى بالحرف، وإذا كان كذلك فالضابط غير مستتب فيها على الإطلاق، إذ لا تتصل الهاء فيها بالفعل إلا بقيد، والضابط مطلق. وأيضا الظرف المتسع فيه إن قيل فيه مفعول به، ولو على الجواز، فاتصال هاء غير المصدر به على ذلك التقدير جائز، فيكون علامة صحيحة.

وعن الثالث: أن الناظم اصطلح في التعدي اصطلاحا التزمه، فأطلقه على وصول الفعل للمفعول بنفسه خاصة، ولذلك قال: بعد: "فانصب به مفعوله" ومن سمى المجرور متعدى إليه فاصطلاح ثان، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا كان مفهوم المراد، مع أن سيبويه لم يسم التعدي بحرف الجر تعديا، وإنما سماه إضافة. فما اصطلح عليه الناظم أولى. وأيضا فقد أطلق على المتعدي بالحرف الجار لفظ التعدي في قوله بعد هذا:"وعد لازما بحرف جر" وعلى هذا يسقط السؤال من أصله.

وعن الرابع: أن الناظم لا ينازع في تسمية ما انتصب في الشعر أو غيره

ص: 129

مفعولاً به، فهو داخل تحت التعريف في ذلك الموضع، وهو الشعر مثلا، فإنه لو قال:(لقضاه) موقع (لقضاني)، و (تمرونه) موضع (تمرون الديار) لكان صحيحا في الشعر، سائغا فيه. وأيضا فإنما تكلم على العلامة القياسية الشائعة في كل فعل، فمررت بحسب ذلك غير متعد أي/ إن عدم التعدي هو الشائع فيه في الكلام، وعلى هذا وصفه، والخصوصات أمر آخر يحتاج إلى نظر خاص. وهو لم يتعرض له، وكذلك القول في قضى وقعد ونحوهما وأيضا فإن التعريفات والرسوم في هذه الصناعة إنما هي أكثرية، وقد اقتصر عليها الكثير؛ لعسر الحصر في أمر منتشر، لاسيما ما يرجع إلى الشذوذات والنوادر.

وعن الخامس: أن ذلك الباب وإن كثر متلقى من السماع، فليس للقياس فيه مدخل، فليس في إدخاله تحت الضابط فائدة. وهذا هو الأولى في الجواب عن الأول والرابع. وإذا سلمنا فهو داخل على أحد الاستعمالين لصلاحيته إذا ذاك لهاء غير المصدر، وغير داخل في الاستعمال الآخر لعدم الصلاحية.

وعن السادس: أن مقصوده الاختبار بما يجده الإنسان في نفسه من ذوق صناعي، أو دربة استعماليه، وخبرة عادية على الجملة، وذلك أن الإنسان إذا قال: ضربته مثلا، وهو يريد بالهاء شخصا من الأشخاص، فالنفس تقبل ذلك وتصححه بما لها فيه من الاستعمال العادي، والدربة الذوقية، وإذا قال: قمته، وهو يريد غير المصدر لم تقبله نفسه، ونفرت عنه بالعادة، وكذلك إذا قلت: علمته، وعرفته، وكسوته وكلمته كان مقبولا، فإذا قلت: خرجته وانطلقته، وذهبته، وحسنته. ونحو ذلك كان غير مقبول. هذا الذي يعني خاصة، وهو

ص: 130

الذي جرى عليه في التسهيل، وشرحه إذا تأملته، فالضابط في تقريب التعريف صحيح. ثم يبين إعرابه، وعامله فقال:

فانصب به مفعوله إن لم ينب

عن فاعل، نحو: تدبرت الكتب

يعني أن مفعول الفعل الذي تعدى إليه ينصب به أبدا إذا لم يكن نائبا عن فاعله، وذلك حين يحذف الفعل، فغنه قد تقدم أن له الرفع بنيابته عنه. فإذا لم يحذف الفاعل فلا بد من نصبه، مثال ذلك: تدبرت الكتب، فالكتب هو الذي تعدى إليه تدبر، وحاله النصب إذ لم يقع نائبا. وما ذكره من الضابط حاصل في تدبرت الكتاب أو الكتب، والتدبر: التأمر، والتفهم، وحقيقته: النظر في عاقبة الأمر وما يؤول إليه. وفي قوله: "فانصب به" إشارة، بل تصريح بأن المفعول منصوب بفعله الذي تعدى له؛ إذ الضمير في به عائد على الفعل، أي: انصب بالفعل مفعوله. وهذا رأي سيبويه، وغيره من أهل البصرة. خلافا لأهل الكوفة. والدليل على صحة رأي الناظم أن أصل العمل الطلب، والطالب للمفعول ليس شيئا غير الفعل فهو إذا العامل، ولذلك ترى المفعول يدور مع الفعل في تصرفه وجودا وعدما، فإن كان الفعل متصرفا تصرف المفعول، فتقدم أو توسط، وإذا لم يكن الفعل متصرفا لم يتقدم، ولا زال عن موضعه الخاص به. وهذا/ ظاهر. وقد اضطرب الكوفيون في العامل ما هو، فذهب هشام بن معاوية الملقب بالطوال- صاحب الكسائي- إلى أنه منصوب

ص: 131

بالفاعل، وذهب الفراء إلى أنه منصوب بالفعل والفاعل معا، حكى القولين الفارسي وغيره، وحكى صاحب الإنصاف قولا ثالثا عن خلف الأحمر: أنه منصوب بمعنى المفعولية. فأما مذهب هشام فرد بأنه لو كان الفاعل هو العامل لعمل فيه وهو غير مسند إلى الفعل؛ إذ هو الفاعل مع الإسناد.

فإن قيل: إنما يعمل بهذا الوصف وهو كونه مسندا إليه.

قيل: فأجز أن ينتصب بالابتداء، نحو: زيد ضارب عمرا؛ لأنه مثل الفاعل في أنه محدث عنه، وأيضا لو كان كذل لم يكن لاعتبار الفعل في جواز تقديم المفعول معنى، فلم يعتبر تصرفه، بل كان ينبغي أن يتصرف المعمول الذي يصحبه فعل غير متصرف كما يتصرف المعمول الذي صحبه فعل متصرف، لأن العامل في الموضعين الفاعل، وهو على كل وجه فاعل، فلما لم يجز ذلك مع نحو: نعم، وجاز مع نحو: ضرب مع أن الفاعل واحد فيهما دل على أنه ليس العامل.

وأما مذهب الفراء فرد بأنه لو كان كذلك لامتنع توسيط المفعول بين الفعل والفاعل معا، ولم يوجد مثل قوله:{إنما يخشى الله من عباده العلماء} وأيضا فإن محصول هذا القول راجح إلى أن العامل معنى غير فعل، فيمتنع تقديم المفعول

ص: 132

مطلقا بناء على القاعدة المستمرة: أن العامل إذا كان معنى لم يجز تقديم المعمول فيه على المعنى، ولذلك يمتنع: قائما خلفك زيد، وما أشبه ذلك، فإن أجاز التقديم هذا والعامل معنى. لزمه في كل موضع كان العامل فيه معنى. وأدى إلى خالفه العرب والنحويين. وأما مذهب خلف فرد بأنه لو كان كما قال لوجب ألا يرتفع ما لم يسم فاعله لوجود معنى المفعولية، كما أن رفعه الفاعل بمعنى الفاعلية باطل، لعدم معنى الفاعلية في نحو: مات زيد، وسقط الحائط، وما أشبه ذلك مع أنه قد ارتفع فيه الاسم كما ارتفع في: قام زيد، ونحوه. وأيضا كان يجب أن ينتصب زيد من قولك: زيد مضروب؛ لوجود معنى المفعولية. هذا ما قيل في الرد على هذه المذاهب، فالأصح ما ذهب إليه الناظم إلا ابن خروف لما قرر نحو هذه الأشياء من كلام الفارسي قال:"هذا كله فاسد بني على أصل فاسد، أضاف العمل إلى الألفاظ حقيقة، وتأول ذلك على الأئمة؛ وذلك لأن الرافع والناصب والجار والجازم إنما هو المتكلم، والألفاظ لا عمل لها لكن لما كان المتكلم يرفع عد حضور بعض الألفاظ، وينصب عند آخر، ويجر ويجزم عند آخر، فكانت تجري مع أنواع الإعراب وجودا وعدما نسبوا العمل إليها اتساعا ونظما للاصطلاح فقط" انتهى/ قوله، وما قال هو الذي أراد الفارسي فليس بمخالف لما قال، كيف وابن جنى هو الذي أصل ذلك الأصل الذي بني عليه ابن خروف، وابن جنى صنيعة الفارسي، وناشر علمه، وعبد نعمته في مثل هذه الأشياء، فرد ابن خروف مشكل. ولما رأى الناظم هذا الاصطلاح مما قد يخفى على كثير من الناس حرر عبارته على الأصل المقصود، فلم يبق ما يعتذر منه، فقال:"فانصب به مفعوله"

ص: 133

ففاعل (انصب) هو المتكلم، والباء في (به) للسبب، كأنه قال: انصب أيها المتكلم مفعول الفعل بسببه وبحضوره، فلم ينسب العمل إلا للمتكلم، لكن بقرينة حضور الفعل الطالب للنصب. وهذا كله ظاهر. قال ابن جنى الخصائص:"سألت الشجري يوما فقلت: يا أبا عبد الله كيف تقول: ضربت أخاك، فقال: كذاك، فقلت: أفتقول: ضربت أخوك، فقال: لا أقول: أخوك، أبدا. قلت: كيف تقول: ضربني أخوك، فقال: كذاك، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول أخوك أبدا، فقال: أيش ذا! اختلفت جهتا الكلام". فهذا نحو من قولك: رفعته لأن الفعل طلبه بالفاعلية، ونصبته لأنه طلبه بالمفعولية، وهو قريب من الاصطلاح. وعلى الجملة فمثل هذه المسائل لا يجدي فيها الخلاف فائدة غير تنقيح وجه الحكمة الصناعية والله أعلم.

ولازم غير المعدي وحتم

لزوم أفعال السجايا كنهم

كذا افعلل والمضاهي اقعنسسا

وما اقتضى نظافة أو دنسا

أو عرضا أو طاوع المعدى

لواحد كمده فامتدا

هذا هو القسم الثاني، وهو غير المتعدي، وسماه لازما بقوله:"ولازم غير المعدي" يعني أنه يسمى لازما في الاصطلاح؛ لكونه لزم فاعله فلم يتجاوزه إلى غيره. ولما ضبط المتعدي بضابط يتحصل به أكثر الأفعال المتعدية تحت التمييز حاول مثل ذلك في اللام أو نحوا منه، وذلك أن المتعدي وغير المتعدي إنما هو سماعي، والضابط القياسي فيه ضعيف؛ لأنه إنما يشمل من الأفعال جملة أكثرية، لكن النحويين تكلفوا لها ضوابط بحسب الإمكان في صنعة القياس، كما

ص: 134

فعلوا في ضبط أبنية المصادر، وأسماء الفاعلين، والمفعولين، والصفات، والجموع المكسرة، وغير ذلك. فكان من أقرب ما وجدوا في ضبط غير المتعدي ما اختار الناظم، وهو أنه ردها إلى عقود خمسة، اثنان منها لفظيان، وثلاثة معنوية، وذلك كون الفعل من أفعال السجايا، وكونه على وزن افعلل، وكونه على وزن افعنلل، واقتضاؤه نظافة أو دنسا، أو عرضا، وكونه مطاوعا للمتعدي إلى واحد، وإن شئت جعلتها ستة فتفرد ما/ اقتضى عرضا عقدا مستقلا، فأما كونه من أفعال السجايا فذلك قوله:"وحتم لزوم أفعال السجايا" يعني أنه أوجب أن تكون الأفعال الراجعة إلى معاني السجايا لازمة غير متعدية، والسجايا هي الطبائع والغرائز المطبوع عليها، وهي الدالة على معنى قائم بالفاعل لزوما، وذلك مثل: نهم الراجل ينهم نهما فهو نهم: إذا أفرط في شهوة الطعام، ومثله كرم، ولوم، ونبه، وسفل، وشجع، وجبن، وذكو، وبلد، ورطب، وصلب، وصغر، وعظم، وسهل، وصعب، وضخم، وضول. فهذه الأفعال وما كان نحوها إنما هي لمعنى مطبوع عليه، أو لاحق به، وأكثر ما تأتي على فعل ويشاركه فعل، ومنه نهم في تمثيل الناظم، ونحوه شنب، وحول، عور، وحور، وعرج، ولهي، ونكب، ونغل، وعجل، ونكظ، وغضب، وضرب، وضحك، وضهيت، ولقس، ولثغ، وجعم، وقرم، وما أشبه ذلك. وأما كونه على افعلل فمثاله اطمأن، واقشعر، واشمأز، واجرعن، واشمعل، واصمعد، وارثعن، واقصعل، واقلعف، وازمهر، واسبطر، وامذقر، واشمخر

ص: 135

وارجحن، وازلغب، وإنما كثرت المثل ليتبين عدم التعدي إذا استقرأها في الاستعمال العربي.

وقوله: "كذا افعلل" حذف منه واو العطف على عادته أي وكذا افعلل، وأتى بالمثال على ظاهر الأمر فيه في اطمأن، وبابه من أن اللام الأولى من لامات الكلمة متحركة، وذلك موهم أنه الأصل في المثال، وقد ركب في ذلك ما ركبه المازني، وقد قال ابن جنى: إن أصل افعلل افعللل- يعني باسكان اللام الأولى، قال:"فعلى هذا ينبغي أن يكون أصل اطمأن اطمأنن، فكرهوا اجتماع مثلين متحركين فأسكنوا الاول، ونقلوا حركته إلى ما قبله، ثم أدغمت اللام الثانية في اللام الثالثة، فصار اطمأن كما ترى" قال: "ويدل على ذلك أنه إذا سكن الآخر منهما عاد البناء إلى أصله ألا ترى أنك تقول: اطمأننت فتبين النون الأولى لما سكنت النون الآخرة، ثم بين ذلك بباب شد حين تقول مع الضمير: شددت فتظهر التضعيف، وبباب احمر حين تقول: احمررت. فإذا كان كذلك، فكان الأولى أن يأتي بالمثال على أصله.

والعذر له أمران: أحدهما أنه في ذلك متبع لإمام من أئمة النحو، فلا عتب عليه

ص: 136

والثاني: أن هذا المثال لا يأتي أبدا إلا مضاعف اللام الأخيرة ولم يأت فيه مثل: اسفرجل؛ إذ لا يجاوز بحروفه الأصلية الأربعة، وإنما ذلك للأسماء وحدها، والإدغام لام للتضعيف فأتى بلفظ المثال الذي هو أظهر في الاستعمال من الأصل، وأما كون الفعل مضاهيا لاقعنسس فمعناه أن يكون مشابها له، ومشاكلا، فإن المضاهاة هي المشاكلة والمشابهة، وعلى ذلك يحتمل أمرين: /

أحدهما: أن يريد المشابهة تحقيقا فلا يدخل تحته إلا ما كان ملحقا بالتضعيف باحرنجم؛ لأن حقيقة المضاهاة أن تكون في جميع الوجوه، فكما تكون في زيادة النون بين حرفين قبلها، وحرفين بعدها فكذلك تكون في كون الحرف الرابع والخامس زائدا بالتضعيف، فلا يشمل إلا مثال اسحنكك، وما أشبهه. وهذا صحيح، ولكنه قاصر في التعريف.

والأمر الثاني: أن يريد بالمضاهاة ما هو أوسع من ذلك، وهو المشابهة التي لا يلزم فيها الموافقة في جميع الوجوه، فيدخل له ما كانت فيه النون زائدة بين حرفين قبلها وحرفين بعدها مطلقا، كان الحرفان بعدها أصلين، أو أحدهما زائدا بالتضعيف، أو من حروف سألتمونيها فيشمل ما كان على وزن افعنلل من الرباعي الأصول، نحو: احرنجم، واجرنمز واسحنفر، واخرنطم، واقرنبع، واعرنزم، وادرنفق، وما أشبه ذلك، وكذلك يشمل ما ألحق

ص: 137

بزيادة التضعيف من باب أولى، وهو الذين عين المثال، ويشمل أيضا ما ألحق بزيادة سألتمونيها، ونحو: احرنبي، واسلنقى واعلنبى، واحبنطى غير مهموز، واحبنطا مهموزا أيضا، واجلنظى، فهذا كله على هذا التفسير يدخل تحت قوله:"والمضاهي اقعنسا" وهو أيضا صحيح في الضربين الأولين إذ لو يوجدا إلا غير متعديين.

وأما في الثالث، وهو مثال افعنلي ففيه نظر فإن ابن جني زعم أنه على وجهين: يتعدى ولا يتعدى فكونه غير متعد هو الأكثر فيه، وكونه متعديا مثاله قول الراجز:

قد جعل النعاس يغرنديني

أدفعه عني ويسرنديني

قال أبو عبيدة: المغرندي، والمسرندي: الذي يغلبك ويعلوك، ثم أنشد البيتين، فيبقى على الناظم أنه لم يتحرز من وزن افعنلي فاقتضى أنه لازم على الإطلاق، وكذلك ابن خروف أتى بالبيتين، وسلم مقتضاهما من صحة التعدي، فظهر أن إطلاق الناظم غير محرر لاحتياجه إلى التقييد.

ص: 138

والجواب عنه: أن سيبويه أطلق القول بعدم التعدي في افعنلل، وافعنلي، فقال:"وليس في الكلام افعنللته ولا افعنليته". وقال الزبيدي: "أحسب البيتين مصنوعين". فإذا كان التعدي لم يسمع إلا في البيتين، وفيهما للناس متكلم ترك الاعتماد عليهما، واعتمد على نقل سيبويه، وأيضا لو صح البيتان لم يكن فيهما رد عليه لشذوذهما بالنسبة إلى عامة الباب. وأما كون الفعل مقتضيا للنظافة أو الدنس فلذلك قوله:"وما اقتضى نظافة أو دنسا" يعني أن ما كان من الأفعال يرجع معناه إلى معنى النظافة أو معنى الدنس فهو أيضا لازم، غير متعد، ومثاله: نظف، وطهرت الحائض وطهرت، ونقي، ونجس ونجس، وقذر، ورجس، وجنب/ وسمج، وشحب، ونزه، وحسن، وقبح، وبزع، ومن ذلك كثير.

وأما كونه يقتضي عرضا فهو قوله: "أو عرضا" وهو معطوف على المنصوب قبله، أي: وما اقتضى عرضا، يريد كان فيه معنى العرض فهو لازم، والعرض ما كان داخلا على الشيء مخالفا لأصل جبلته، وعارضا له كالمرض، والفرح، والحزن، وبالجملة كل ما يدخل على الأشخاص من زيادة أو نقصان فهو عرض، نحو: مرض، وبريء، وبرأ، ونشط، وكسيل، وفرح، وحزن، وشبع، وسقم، ونقه، وغرث، وظمئ، وروي، وفرع، وأمن، وأشر، وبطر، وقلق، وغضب، وسكر، وما أشبه ذلك. ويدخل فيه بمقتضى

ص: 139

إطلاق اللفظ أيضا إلا الأولون، نحو: أحمر، واصفر، واسود، وادهم، واغبر، وأفعال منها كلها أيضا، وما كان نحوها.

وأما كونه مطاوعا للمتعدي إلى واحد فذلك قوله: "أو طاوع المعدي لواحد" طاوع معطوف على اقتضى، أي: وما طاوع المعدي لواحد فبين أن الفعل المطاوع فعل يتعدى إلى مفعول واحد لازم غير متعد، ومثله بقوله:"مده فامتد" ومن باب ما مثل به: رددته فارتد، وعددته فاعتد، وعدلته فاعتدل، وكلته فاكتال، وغممته فاغتم، وانغم أيضا، ومثله أيضا: كسرته فانكسر، وحطمته فانحطم، وحسرته فانحسر، وسويته فانشوى، قال سيبويه:"وبعضهم يقول فاشتوى"، وصرفته فانصرف، وقطعته فانقطع، وكسرته فتكسر، وعشيته فتعشى، ودحرجته فتدحرج، وقلقتله فتقلقل، وما أشبه ذلك. وإنما قال:"لواحد" تحرزا من مطاوع المعدي لأكثر من واحد فإنه يتعدى إلى وحد؛ لأن الفعل المطاوع ينقص تعديه عما طاوعه بواحد، فإن كان المطاوع متعديا إلى واحد نقص الواحد في المطاوع له، فصار لازما، وإن كان متعديا إلى اثنين الواحد في مطاوعه فصار متعديا إلى واحد، فإذا قلت ناولته الشيء فتناوله، فقد تعدى المطاوع إلى واحد، فلذلك قال:"أو طاوع المعدي لواحد". وقد أتى في هذا الفصل بما لم يأت به في التسهيل هكذا فهو من الزيادات التي أفادها هذا النظم، وللناظم في هذا الرجز من الفوائد الحسان ما لم يقع له مثله في التسهيل، وقد تقدم من ذلك،

ص: 140

وستأتي أشياء أخر إن شاء الله، وإلى ما ذكره هنا يرجع ما قاله الجزولي وغيره في ضبط اللازم إذا تومل إلا أن ما هنا أقرب وأخصر. ثم ذكر التعدي بالحرف فقال:

وعد لازما بحرف جر

وإن حذف فالنصب للمنجر

نقلا وفي أن وأن يطرد

مع أمن لبس كعجبت أن يدوا

يعني أن اللازم من الأفعال قد يتعدى بحرف الجر، فتقول: كرم علي، وشرف بكذا، وانطلق إلى موضع كذا، وامتد على الأرض، ومرد بزيد، وعجب من فعلك، وما كان نحو ذلك. وهذا التعدي لا يقدح في كونه/ لازما بحق الأصل؛ لأن حروف الجر تتعلق برائحة الفعل فضلا عن نفس الفعل، وسماه تعديا، وهو عند بعض المتأخرين على وجهين في الاصطلاح: تعد وتعلق، فالتعدي: يطلق حيث يكون الفعل طالبا لحرف الجر على اللزوم كمررت بزيد، وعجبت من فعله، ورغبت في الخير، فإن مثل هذه الأفعال في طلبها للمجرور كالمتعدي بالنسبة إلى المفعول. والتعلق حيث يكون لا يطلبه على اللزوم بل بالنسبة إلى القصد في الكلام، كذهبت معك، وقعدت في منزلك، وانطلقت إليك، فإن هذه الأفعال إنما تطلبه بحسب ما طلبته مقاصد الكلام، فتقول مرة: انطلقت من عندك، وتارة: انطلقت بسببك، ولأجلك، من جرائك، وتقول مرة: انطلقت لا غير، فلا تعديه، ولا يطلب شيئا، وفرق بين فعل يطلب الحرف الجار من جهة وضعه، وفعل يطلبه من حيث هو مقصود في الكلام، فالناظم لم يكترث بالفرق بين المعنيين؛ لأن الجميع تعد ومجاوزة للفاعل إلى غيره، ألا ترى أنه إذا سقط حرف الجر انتصب الاسم، ويستوي في ذلك لازم التعدي، وغير لازمه، وأيضا طلب الفعل لحرف جر

ص: 141

بحسب القصد كطلبه له بحسب الوضع، فكانا بابا واحدا، ويكون إطلاق التعدي في أحد الوجهين كإطلاقه في قول سيبويه:"واعلم أن ما لا يتعدى يتعدى إلى اسم الحدثان". فسمى نصب المصدر تعديا، وكذلك في الزمان، والمكان، ولا مشاحة في الاصطلاح، ثم قال:"فالنصب للمنجر نقلا" ضمير (حذف) راجع لحرف الجر، يعني أن الحرف إن حذف فلا للمنجر به من النصب، فيصير الفعل متعديا بنفسه بالعرض كالمتعدي بحق الأصل، وذلك لأنه إذا تعلق به الجار فقد صار موضعه نصبا، ولذلك تقول: مررت بزيد وعمرا، فتعطف على موضعه نصبا، ومما جاء من ذل قول جرير:

تمرون الديار ولن تموجوا

كلامكم علي إذا حرام

أراد: تمرون بالديار، أو على الديار، وقال الكلابي أنشده المبرد:

تحن فتبدي ما بها من صبابة

وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني

يريد: لقضى علي. وقال الشمردل بن شريك:

يشبهون سيوفا في مضائهم

وطول أنضيه الأعناق والأمم

أراد بسيوف. وأنشد في شرح التسهيل قول الآخر:

كأني إذا أسعى لأظفر طائرا

مع النجم في جو السماء يصوب

أي لأظفر بطائر.

ص: 142

وأنشد سيبويه لساعدة بن جوية:

لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب

أي: في الطريق، وأنشد أيضا للمتلمس:

آليت حب العراق الدهر أطعمه

والحب يأكله في القرية السوس

قدره سيبويه: على حب العراق، فهذه الأمثلة، وأشباهها لما حذف منها الجار انتصب الاسم، ولم يبق ما كان عليه من الجر، لأن الجار لا يعمل محذوفا. وما جاء من نحو:

إذا قيل: أي الناس شر قبيلة

أشارت كليب/ بالأكف الأصابع

فشاذ نادر، وإنما الباب فيه النصب، وجميع ذلك بابه النقل، وليس بقياس، وذلك قول الناظم:"نقلا" بعد قوله: "وإن حذف فالنصب للمنجر" يريد أن

ص: 143

حذف الجار، ونصب الاسم الذي قد كان جبر به موقوف على السماع، ويستوي في ذلك ما كان الحذف فيه مختصا بالعشر كالأمثلة المتقدمة، وما كان مستعملا في الكلام كوزنت لزيد ما له، وكلت له طعامه، إذ قلت: وزنت زيدا ماله، وكلته طعامه، وكذلك نصحت، وشكرت، فإنك تقول: شكرت له، ونصحت له، وتقول أيضا: شكرته، ونصحته. هذا إن ثبت أن ثبوت الجار فيها هو الأصل، وإلا فهما استعمالان مستأنفان ليس أحدهما أصلا للآخر.

فإن قيل: كلامه هنا مشكل من وجهين: أحدهما: أن قوله: "وغد لازما بحرف جر" قاصير، لأن التعدي بحرف الجر ليس مقصورا على اللازم دون المتعدي، بل كل فعل متعديا كان أو غير متعد يتعدى بحرف الجر، ألا ترى أنك تقول: ضربت زيدا في الدار، وأكرمته بسببك، وأعطيته درهما لانتفاعه به، وعرفت زيدا بكذا، وكثيرا من ذلك بحث لا يقصر في التعدي عن قولك: قام في الدار، وانطلق إلى فلان، ومررت على عمرو، وما أشبه ذلك، بل الضربان على سواء في هذا التعدي كما أنهما مستويان في التعدي للمصدر، والظرفين، والحال وغيرها من المنصوبات التي ينصبها كل فعل. ثم إن حكمها في النصب بعد حذف الجار حكم اللازم، فإن الشاعر إذا اضطر جاز له أن قول: أظفرت زبدا طائرا، وأمررته الدار، ومنه:

يشبهون سيوفا في مضائهم

ولا أعلم أن أحدا يخالف في هذا المعنى، ويدخل في هذا النمط باب: اختار، واستغفر مما يتعدى لواحد بنفسه ولآخر بحرف الجر، ويجوز إسقاطه، فإن الأصل في الثاني حرف الجر، وحذفه سماع.

فإن قلت: كيف يكون سماعا، وإسقاطه مطرد سائغ غير موقوف عندهم

ص: 144

على السماع.

قيل: بل هو عندهم سماع غير قياس إذ لم يعدوه إلى غير الأفعال المسموع فيها الإسقاط، وإنما أجازوا الإسقاط في مواضع السماع خاصة حيث أجازته العرب، فعلى الجملة قول الناظم:"وعد لازما" قاصر فكان حقه أن يقول: "وعد لازما أو غيره بحرف جر، أو: وكل فعل يجوز أن يتعدى بحرف الجر، وإذا حذف نصب، أو ما يعطي هذا المعنى.

والثاني: أن قوله: "فالنصب للمنجر نقلا" يظهر منه أن المنقول هو نصب المنجر؛ وإذ ذاك يلزمه أمران محذوران: أحدهما: أنه يصير معنى الكلام: إذا حذف الجار فالنصب مع حذفه نقلي، فيقتضي أن غير النصب وهو بقاؤه على جره قياسي لا نقلي، وليس كذلك، أما أن النصب مع ذلك نقلي فغير صحيح بل هو اللازم الذي لا يصح غيره إلا ما شذ، وأما أن بقاءه على جره قياسي فغير صحيح أيضا؛ لأن/ مثل قولهم: خير عافاك الله، أراد: بخير، وقوله:

أشارت كليب

أراد: إلى كليب لا اعتبار به، لأن حرف الجر ضعيف فلا يقوى أن يعمل محذوفا، كما يقوى الفعل.

والثاني: أنه لا يمكن ترتيب ما بعد هذا الكلام عليه وهو قوله: "وفي أن وأن يطرد؛ إذ يصير المعنى: أن النصب مطرد في أن وأن، ويبقى الحذف غير محكوم عليه لا باطراد ولا بغيره، مع أنه المقصود بالذكر. وهذا كله مشكل.

ص: 145

فالجواب عن الأول بأمرين: أحدهما: أن يكون ذكر اللازم وحده، ليكون أصلا لغيره، فيقاس عليه؛ لأن المتعدي بنفسه بالنسبة إلى غيره كاللازم بالنسبة إلى المفعول؛ إذ كل واحد منهما غير مطلوب للفعل من جهة وضعه، وإذا كان كذلك ساغ القياس، فكأنه ترك غير اللازم ليقاس على اللازم للاجتماع في المعنى الذي لأجله تعدى اللازم، بل التعدي أولى؛ لأنه إذا كان ما لا يتعدى أصلا يتعدى بحرف الجر فأولى ما شأنه التعدي.

والثاني: أن يكون سمي المتعدي لازما باعتبار تعديه إلى زائد، فالمتعدي إلى واحد لازم في المعنى عن التعدي إلى ثان. وكذلك المتعدي إلى اثنين بالنسبة إلى الثالث، فأطلق لفظ اللزوم وهو يريد اللازم في الحقيقة وهو ما لم يتعد أصلا، واللازم مجازا، وهو ما لم يطلب من المفعولات زائدا على ما تقضى منها. واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه جار على ما ذكره أهل الأصول، وغيرهم.

والجواب عن الثاني: أن قوله: "نقلا" إنما يرجع إلى حذف الحرف والتقدير: وإن حذف نقلا فالنصب للمنجر، وعلى هذا التقدير يصبح الكلام مع قوله:"وفي أن وأن يطرد" فإن قسم الحذف قسمين:

أحدهما: سماعي في غير أن وأن فذكره أولا، وبين أن حكم المجرور بعد الحذف النصب. والآخر قياسي، وذلك مع أن وأن، وهذا المحمل لا بد منه، ويبقى النصب على إطلاقه؛ إذ كان ما حذف منه حرف الجر في الشعر- وإن كان سماعا- لا بد فيه من الرجوع إلى النصب قياسا مطردا. وأما بقاؤه على الجر ففي غاية الشذوذ. وقوله:"وفي أن وأن يطرد" أن وأن هما المصدريان، وضمير يطرد عائد على الحذف المفهوم من قوله:"وإن حذف" كما في قوله تعالى:

ص: 146

{وإن تشكروا يرضه لكم} أي: يرض الشكر لكم. فهكذا يقدر هنا: "وفي أن وأن يطرد الحذف" يريد أن حذف الجر مع هذين الحرفين لا يقتصر به على المنقول، بل يجوز معها قياسا فنقول: جئت أن أكرمك، تريد: لأن أكرمك، وعجبت أن يقوم زيد، تريد: من أن قوم زيد، وعجبت أنك سائر، وجئت أنك كريم، ومنه في القرآن الكريم:{وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} التقدير: ولأن هذه أمتكن، وقال تعالى:{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أني لكم نذير مبين} على قراءة الفتح أي: يأتي لكم نذير مبين، ومثله قوله:{وأن المساجد لله فلا تدعو/ مع الله أحدا} حمله سيبويه على تقدير اللام. وقال تعالى: {فدعى ربه أني مغلوب فانتصر} وأنشد سيبويه للفرزدق:

منعت تميما منك أني أنا ابنها

وشاعرها المعروف عند المواسم

ص: 147

على تقدير: لأني، وقد روي بالكسر على الابتداء.

وهذا كثير في الكلام لكن لا بد في جواز الحذف من شرط وهو ألا يودي حذف الجار إلى اللبس. وذلك قوله: "مع أمن لبس" أي إن الحذف يطرد مع أن وأن إذا أمن اللبس كالأمثلة المتقدمة، فإن وقع بسببه لبس لم يحذفن ولزم إثباته، نحو قولك: رغبت أن يكون كذا، فإن هذا الحذف غير جائز لاحتماله؛ إذ لا يعرف هل المراد: رغبت في أن يكون كذا، أو رغبت عن أن يكون كذا، وهما معنيان مختلفان، فامتنع الحذف للبس الحاصل بسببه، فلو كان على المقصود دليل في رغبت ونحوه لجاز الحذف، كما تقول: أحببت مرافقتك ورغبت أن تكون معي، ومنه في الكتاب العزيز:{وترغبون أن تنكحوهن} فسياق الآية يدل على أن المعنى: وترغبون في أن تنكحوهن، ولو لم يكن ثم دليل لما جاز، بل يجب التصريح بالحرف الجار. ومثل الناظم ما لا لبس فيه بقوله:"عجبت أن يدوا" فهو على حذف من، والأصل: عجبت من أن يدوا، وهو من ودى الرجل يدي: إذا أعطى الدية، والرجلان يديان، والرجال يدون، وينصب، فيقال: عجبت أن يدوا، أي: يعطوا الدية. ويحتمل أن يكون من ودى الرجل الناقة بالتودية، وهي خشبة تشد على أطباء الناقة لئلا يرضعها الفصيل.

وظاهره حين قال: "وفي أن وأن يطرد" ولم يحكم على موضعهما بالنصب، كما حكم على القسم المسموع أن موضعهما محتمل للنصب والجر، وهي مسألة اختلاف بينهم، فمذهب الخليل أنهما في موضع نصب، وإليه ذهب الفراء،

ص: 148

والمبرد. اعتبارا بالاسم الصريح إذا سقط معه الجار فإنه ينتصب بلا بد. قال سيبويه: "فإن حذفت اللام من أن فهو نصب كما أنك لو حذفت اللام من {لإيلاف} كان نصبا. هذا قول الخليل".

ومذهب الكسائي أنهما في موضع جر، ومال إليه السيرافي اعتبارا بأن حرف الجر يحذف معهما كثيرا لطولهما، كما حذف الضمير في نحو: الذي ضربت زيد للطول، ولم يحسن الحذف في قولك: الضارب أنا زيد؛ لعدم الطول. وتقول: أنا على ثقة أنك مقيم، أي: من انك مقيم، ولا يحذف مع المصدر فإذا حذف في اللفظ فكأنه موجود في الحكم، وأيضا فتقدم أن في:{وأن هذه أمتكم} {وأن المساجد لله} مع امتناع: أن زيدا قائم عرفت- دليل على أن الجار في حكم الملفوظ به، وإلا لزم الكسر، وأيضا فله نظائر كرب، ولاه أبوك، ونحوهما، فلا محذور على كل تقدير. والحكم شاهد للجر.

ومنهم من أجاز الوجهين، وهو رأي الزجاج، وهو يظهر من سيبويه إذ قال: "ولو قال إنسان: إن أن في موضع جر في هذه الأشياء، ولكنه- يعني الجار/ حذفت لما كثر في كلامهم، فجاز فيه الجار كما حذفت رب في قولهم:

* وبلد تحسبه مكسوحا *

ص: 149

لكان قولا قويا، وله نظائر، ويحكي الناس عن سيبويه أنه حتم القول بذل كالكسائي، ومساق كلامه يدل على إجازته الوجهين. وعلى كل تقدير فالقول بأنهما في موضع نصب هو للخليل، والقول ببقاء الجر حتما أو جوازا هو قول سيبويه. وقد عكس ابن مالك في التسهيل وشرحه هذه النسبة فيجعل النصب لسيبويه، والجر للخليل، واتبعه ابنه في ذلك في شرح هذا النظم. وذلك وهم بلا شك. فالناظم لم يلتزم واحدا من هذه المذاهب بل تركها في محل النظر؛ لقوة أدلتها كما تقدم، وقد فعل ابن خروف مثل ذلك، إذ قال- لما حكى الخلاف بين الخليل وسيبويه-:"وكلاهما ممكن".

والأصل سبق فاعل معنى كمن

من: ألسن من زار كم نسج اليمن

ويلزم الأصل لموجب عرا

وترك ذاك الأصل حتما قد يرى

لما قدم قبل هذا بيان الرتبة بين الفاعل والمفعول وما يبني عليه، أخذ الآن يبين الرتبة بين المفعولين، وما ينبني على ذلك أعني المفعولين اللذين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، وهو من باب أعطى، فذكر أن الأصل تقدم المفعول الذي هو فاعل من جهة المعنى على المفعول الذي ليس كذلك، نحو: أعطيت زيدا درهما، وكسوته ثوبا، وألبسته حلة، وأريته دار فلان، فالأصل في زيد في هذه المثل التقديم على الدرهم، والثوب، والحلة، والدار، لأنه كالفاعل في المعنى، لأنه آخذ، وكاس، ولابس، وراء، وقد تقدم أن الفاعل الحقيقي رتبته التقديم

ص: 150

على المفعول، فكذلك ما كان في معناه بخلاف غيره من المفعولات. وقوله:"كمن من ألبسن من زار كم نسج اليمن" تمثيل للمفعول الذي هو فاعل في المعنى، وهو المقرون بحرف التشبيه في قوله:"كمن في المثال الذي هو: "ألبسن من زار كم" فمن زار كم هو المفعول الذي هو في المعنى فاعل، و (نسج اليمن) هو المفعول الثاني، وليس فيه معنى فاعلية. فكان أصله التأخير، وأصل من التقديم، ثم بين أن ذلك الأصل قد يعرض له أمران.

أحدهما: أن يلزم ذلك الأصل فلا يتعدى. والثاني: أن يمتنع فلا يجوز استعماله. وفي هذا الكلام ما يدل على أن الأصل عدم لزوم هذين الأمرين، وأنه يجوز تقديم ما أصله التأخير، وبالعكس. وذلك صحيح، فإنك تقول: أعطيت درهما زيدا، وكسوت حلة زيدا، وألبسن نسج اليمن من زار كم، وما أشبه ذلك؛ فأن الفعل متصرف في نفسه فيتصرف في معموله، فأما لزوم الأصل من تديم ما هو فاعل معنى، فهو الذي قال فيه:"ويلزم الأصل لموجب عرا" فيعني أن تقديم المفعول الذي هو فاعل في المعنى على الآخر قد يلزم؛ وذلك لموجب يجب ذلك هو/ عار في الموضع، أي عارض على خلاف الأصل، وكونه لموجب دليل على أن خلافه هو الأصل، ويقال: عراني الأمر يعروني: إذا نزل بك فأراد أنه قد يعرض في الموضع مانع يمنع من جواز تأخيره. ولم يعين هذا الموجب ما هو اتكالا على فهم المراد مما تقدم؛ إذ قد بين مثل ذل في الفاعل والمفعول، فمن ذلك خوف اللبس بين الأول والثاني، نحو: أعطيت زيدا عمرا، فيلزم هنا تأخير المأخوذ عن الآخذ، لأنه إذا تقدم أوهم أنه الآخذ، وكذلك إذا قلت: أريت زيدا عمرا، وذلك نظير مسألة: ضرب موسى عيسى.

ومن ذلك أن يكون الثاني مقرونا بأداة الحصر، نحو: ما أعطيت زيدًا إلا

ص: 151

درهماً، وما كسوت عمرا إلا قميصا، وقد بين مثل هذا في قوله:"وأخر المفعول إن لبس حذر" إلى آخره. وأما امتناع تقديم المفعول الذي هو فاعل في المعنى، فهو قوله:"وترك ذاك الأصل حتما قد يرى" يعني أنه قد يلزم تأخير المفعول الذي هو فاعل معنى عن الآخر، وذلك لموجب أيضا، فمن ذلك أن يكون مقرونا بأداة الحصر، نحو: ما أعطيت درهما إلا زيدا، وما كسوت ثوبا إلا أخاك. وقد تنبه على مثله في قوله:"وما بإلا أو بإنما انحصر أخر". ومنه أن يتصل به ضمير يعود على الآخر، فإنه يلزم تأخيره نحو أعطيت الثوب مالكه، وكسوت الحلة صاحبها، وأريت الدار ساكنها؛ إذ لا يجوز أن يقال: أعطيت مالكه الثوب، ولا كسوت صاحبها الحلة، ولا أريت ساكنها الدار إلا على قول:

جزى ربه عني عدي بن حاتم

وه زان نوره الشجر

وقد مر ذكر ذلك، وأما إذا كان الضمير متصلا بالمفعول الثاني فيجوز التقديم والتأخير على الأصل، فتقول: أعطيت زيدا درهمه، وأعطيت درهمه زيدا، وكسوت زيدا ثوبه، وكسوت ثوبه زيدا، وما أشبه ذلك لأن الضمير هنا إذا

ص: 152

تقدم يعود على ما بعده لفظا لا رتبة وفي المسألة الأخرى إذا تقدم عاد على ما بعده لفظا ورتبة فامتنع، لأن بابه أن يعود على ما قبله وقد مر بسط ذلك، وكذل ما مضى من السؤال والجواب هنالك فيتصور هنا ورود مثله، فعلى الناظر في هذا الشرح بسط ذلك؛ إذ لا كبير فائدة في إعادته.

واعلم أن الناظم لم يبين من الترتيب بين المفعولين إلا ما كان في باب أعطى، وترك بيان ذلك في باب ظن، وفي باب أمر. أما باب ظن فالأصل فيه تقديم ما كان مبتدأ قبل دخولها على ما كان خبرا، فتقول على الأصل: ظننت زيدا قائما، وعلى الوجه الجائز: ظننت قائما زيدا، وقد يلزم تأخير ما كان خبرا. نحو: ظننت زيدا عمرا، ما ظننت زيدا إلا قائما، وقد يمتنع نحو: ما ظننت قائما إلا زيدا. وأما باب أمر فالأصل فيه تقديم ما يتعدى إليه الفعل بنفسه على ما يتعدى إليه بحرف الجر وإن جاز إسقاطه، فتقول على الأصل: أمرت/ زيدا خيرا، وعلى الوجه الجائز: أمرت خيرا زيدا، ومنه قول الله تعالى:{واختار موسى قومه سبعين رجلا} ، وقد يلزم تأخير المتعدي إليه بنفسه، نحو: ما أمرت خيرا إلا زيدان وقد يمتنع تأخيره نحو ما أمرت زيدا إلا خيرا، فالحاصل أن ما يجري في باب أعطى من أحكام الترتيب بين الفعلين جار مثله في بابي ظن وأمر، فكان من حق الناظم تبين ذلك كله. والعذر عنه أن باب ظن أصل مفعوليه المبتدأ والخبر، وقد ذكر حكم الترتيب في بابه حيث قال:"والأصل في الأخبار أن تؤخرا" إلى آخر الفعل. وهو فيه مستوفى، فلو أعاد ذكر ذلك هنا لكان التكرار الذي لا يحتاج إليه. وأما باب أمر فلعله لم يذكره هنا؛ لأن

ص: 153

الفعل في حكم المتعدي إلى واحد حيث كان أصل الثاني حرف الجر، فكان غير داخل في ترتيب المفعولين؛ فلذلك لم يذكره. والله أعلم.

وحذف فضلة أجز إن لم يضر

كحذف ما سيق جوابا أو حصر

مراده: أن يبين ما يحذف من الجملة الفعلية، وما لا يحذف، وقد تقدم أن الفاعل لا يجوز حذفه وحده أصلا، وإنما يحذف مع فعله إلا أن ينوب عنه المفعول، فيصير إذ ذاك عمدة، فلا يجوز حذفه فإنه نائب ما لا يجوز حذفه، فبقي المفعول والفعل. أما المفعول فقال فيه:"وحذف فضلة أجز" يعني أن كل فضلة وقعت في الكلام وذلك المفعول، وما أشبهه من المجرورات فجائز حذفها سواء كانت مفعولا واحدا أو اثنين، فتقول: ضربت، وأكرمت، وأهنت وفي التنزيل:{فأما من أعطى واتقى} وقوله تعالى: {قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء} وقوله: {فسقى لهما} ويقال: فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع.

وقال تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيى

وأنه هو أغنى وأقنى} وهو كثير جدا. وكذلك نقول: مررت، وعجبت، ونصحت، ووهبت، وأمرت، واخترت، وأعرضت، ورغبت، وما أشبه ذلك. وعبر عن ذلك بالفضلة؛ لأن المفعول والمجرور، وكذلك الظرف قد تكون عُمَدا تقام مقام الفاعل فلا يجوز حذفها فلو قال:"وحذف مفعول أجز" لكان غير صحيح لشموله المفعول المُقام فكان تحرزه بالفضلة حسنا، ولم يشترط هنا في الحذف فهم المعنى كما اشترط ذلك في باب ظن حيث قال:

ص: 154

ولا تجز هنا بلا دليل

سقوط مفعولين أو مفعول

وكما شرط في حذف الفعل هنا إذ قال: "ويحذف الناصبها إن علما، بل أجاز الحذف سواء أعلم المحذوف أم لم يعلم فمثال ما علم قولك: ضربت، لمن سألك: هل ضربت زيدا؟ فسؤال السائل قد جرى فيه ذكر المضروب فكان معلوما، وإن حذف من الجواب، ونحو ذلك قول الله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} بعد قوله: {فأتوا بسورة من مثله} وقوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} وقوله: {ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} وكذلك إذا كان ضميرا عائدا من الصلة إلى الموصول نحو: {إن ربك فعال لما يريد} ومثال ما لم يعلم قولهم: فان يصل ويقطع، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويخفض ويرفع، وما أشبه ذلك. ثم شرط في جواز حذف الفضلة شرطا فقال: "إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حُصِر" يعني أن الحذف جائز لكن بشرط ألا يكون المفعول مثل المسوق جوابا أو مثل المحصور بإلا أو بإنما فمثال ما سيق جوابا قولك: زيدا، لمن قال: من رأيت، أو قولك له: رأيت زيدا، فالحذف هنا لا يجوز، ومنه في القرآن الكريم:{إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما} ومثال المحصور قولك: ما ضربت إلا زيدا، وإنما ضربت زيدا، فالمفعول هنا لا يحذف، ووجه ذلك أن الكلام مبني على القصد إلى ذكر

ص: 155

المفعول، أما في الجواب فإنما سأل السائل عن تعيينه، فإذا تركته في الجواب لم تجب عما سأل، فكلامُك ليس بجواب لكنك بنيته على أنه جواب، فلا بد من ذكره وإلا كان نقضَ الغرض، وأما في المحصور فإنما بنيت الكلام وأتيت بإلا لأجل حصر الفعل والمفعول، فلو حذف لاختل الكلام لفظا ومعنى، إذا قلت: ما ضربت إلا، وإنما ضربت، ولم تحصر أفعالك في المضروب فلا يصح الكلام إلا بذكره؛ إذ بني عليه، فحذفه نقض الغرض، ونقض الغرض ممتنع في صناعة العربية. وقد ظهر بهذا التوجيه ما أشار إليه الناظم بقوله:"إن لم يضر كحذف كذا"؛ إذ كان الحذف في المثالين مضادا لما بني عليه الكلام من ذكر المفعول، والقصد إليه، فعلى هذا قد حصل من إشارته أصل يشمل أنواعا حيث أتى بمثالين يشبه بهما غيرهما، فمن ذلك أن يكون المفعول محذوف العامل نحو قولك: خيرا لنا وشرا لأعدائنا؛ فإن العامل لم يحذف إلا ومعموله دال عليه، فلو حذف لانتفض [؟ لانتقض] الغرض من جعله دالا، ومن ذلك أن يكون المفعول مؤكِّدا؛ فإن مواضع التأكيد تنافي الحذف، قال ابن جني في الخصائص:"وما طريقه التوكيد غير لائق به الحذف؛ لأنه ضد الغرض ونقضه، ولأجل ذلك لم يجز أبو الحسن توكيد الهاء المحذوفة من الصلة، نحو: الذي ضربتُ نفسَه زيدٌ على أن يكون نفسه توكيدا للهاء المحذوفة من ضربت" قال ابن جني: "وهذا مما يترك مثله كما يترك إدغام الملحق إشفاقا من/ انتقاض الغرض بإدغامه" فعل هذا لا يجوز: زيد

ص: 156

ضربتُ نفسَه، على حذف هاء ضربته؛ لأنها قد أكدت، والتأكيد مناسب للتطويل والتكثير، فلا يليق به الحذف، ويجري هذا على طريقة الناظم في عامل المصدر المؤكد حيث منع من حذفه بناء على هذه القاعدة، وهي مختلف فيها من أصل، فظاهر سيبويه في بعض المواضع أن التوكيد لا ينافي الحذف، ففي الكتاب:"وسألت الخليل- رحمه الله عن: مررت بزيد وأتاني أخوه أنفسهما، فقال: الرفع على: هما صاحباي أنفسهما، والنصب: على أعنيهما" قال ابن خروف: وهذا دليل على حذف المؤكد وبقاء المؤكد، وقال: "وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في قوله:

أم الحليس لعجوز شهربة

داخلة على المبتدأ ثم أضمر ونقلت اللام للخبر، تقديره:"لهي عجوز". ومنه قوله تعالى: {إن هذان لساحران} فقد حملها الزجاج على إضمار المبتدأ، وإن

ص: 157

كان الفارسي قد رد عليه بأن الحذف والتأكيد يتنافيان، فقد قال ابن خروف: لا يمتنع تأكيد المحذوف، لأن حذفه للعلم به، وتأكيده لرفع المجاز في الحديث عنه.

ومن ذلك أن يكون حذف المفعول يؤدي إلى تهيئة وقطع، وذلك مثل: زيد ضربته، فإنك إن حذفت الهاء فقد هيأت الفعل للعمل في الأول ثم قطعته عنه من غير اشتغال بغيره، فهو نقض ما أريد بالحذف، وذلك غير حسن، قال سيبويه:"ولكنه قد يجوز في الشعر، وهو ضعيف في الكلام" ثم أنشد في ذلك أبياتا. ومثل ذلك: ضربني وضربته زيد، فهاء ضربته عند النحويين لا تحذف إلا قليلا، والباب إثباتها؛ إذ في حذفها تهيئة ضربت للعمل في زيد ثم قطعه عنه، وذلك لا ينبغي؛ لأنه نقض للغرض. فهذه المسائل وما أشبهها مما يمتنع فيه حذف المفعول باتفاق أو باختلاف يشمله كلام الناظم.

وهنا مسألة، وهي أنه لما قال:"وحذف فضلة أجز" ولم يشترط العلم بالمحذوف كان ظاهرا في أن عدم ذكرها يسمى حذفا اصطلاحا سواء أتيت بها ثم حذفتها أو لم تأت بها أولا، وذلك أن الحذف المستعمل في اصطلاح النحويين عبارة عن ترك ذكر ما يقتضي الكلام ذكره إما من جهة الطلب اللفظي أو المعنوي، وليس معناه أن يكون مذكورا ثم يحذف؛ إذ لا يثبت هذا أبدا. ولا يلزم أن يكون مقصود الذكر للمتكلم ثم لا يذكره؛ إذ قد يكون كذلك وقد لا يكون كذلك، فإن الضمير العائد في قولك: أعجبني الذي ضربت، مقصود الذكر للربط بين الصلة والموصول، لكنه حذف لطول الصلة، واسم الفاعل في قولك: زيد في الدار غير مقصود الذكر، ويسمى محذوفا، استغناء عنه

ص: 158

بالمجرور، وكذلك الفعل المنوي في: انته أمر قاصدا، ونحو ذلك. وإذا ثبت معنى الحذف فقولك: ضربت/، وأكرمت، وما أشبههما من قبيل ما يطلق عليه أنه حذف مفعوله اصطلاحا، لأن معنى ضربت يطلب مضروبا هو زيد، أو عمر، أو خالد، أو غيرهم، ولا يضر كون المفعول مثلا لم يقصد ذكره، أو قصد ترك ذكره فمنع منه عارض، فلذلك أطلق الناظم القول بالحذف هنا، ولم يعتبر ما يقصده المتكلم في ترك ذكره من تضمين الفعل معنى فعل لازم، أو قصد المبالغة أو اعتبار بعض الأسباب الباعثة على ترك ذكر الفاعل في: ضرب زيد، ونحوه فإن ذلك كله طارئ على أصل الوضع، وكلام النحويين ونظرهم إنما هو في أصل الوضع، أما البياني فينظر في مقاصد الحذف بعد تسليم نظر النحوي، إذ لا تنافي بينهما؛ ولذلك جمع ابن مالك في التسهيل بين النظرين فقال:"وما حذف من مفعول به فمنوي لدليل أو غير منوي، وذلك إما لتضمين الفعل معنى يقتضي اللزوم، أو للمبالغة بترك التقييد، أو لبعض أسباب النيابة عن الفاعل" فتأمل كيف جمع بين اعتقاد حذف المفعول، واعتقاد التضمين لمعنى الفعل اللازم، وهما في الظاهر متنافيان لكن إذا ردا إلى الأصول علم أن اعتقاد التضمين يكون مع تناسي الأصل، ولا يتناسى الأصل جملة بل هو ملحوظ من طرف خفي، وكذلك الوجهان الآخران لا تنافي بينهما عند التحقيق، وفي علم أصول العربية شفاء الغليل في أمثال هذه المسائل، وكثيرا ما يخفى هذا الأصل على الشادين في علم العربية بل على من يدعي فيها التحقيق، فلقد وقع في كتاب مغني اللبيب لابن هشام- هذا المشرقي المتأخر- خلاف ما تقدم فقال: "وقد يظن أن الشيء من باب الحذف، وليس

ص: 159

منه، كقولهم في حذف المفعول اقتصارا، وتمثيلهم بنحو:{كلوا واشربوا} ، ومن يسمع يخل والتحقيق أنه تارة يتعلق الإعلام بمجرد وقوع الفعل فلا يذكر المفعول ولا ينوى؛ إذ المنوي كالثابت، ولا يسمى محذوفا، لأن الفعل بهذا القصد كغير المتعدي، وتارة يقصد مع الفعل من أوقع به فيذكران، فإذا لم يذكر المفعول قيل: محذوف نحو: {ما ودعك ربك وما قلى} وقد يكون في اللفظ ما يطلبه نحو: {وكل وعد الله الحسنى} هذا ما قال، ولم يطابق تقريره ما قصدوا

ص: 160

فلم يقع ذلك التحقيق موقعه مع أنه راجع إلى تقريرهم، فنعم ما فعل الناظم. وقد تم النظر في حذف المفعول وما أشبهه وهو المجرور وهو الذي أطلق عليه الفضلة خاصة. وأما حذف الفعل فهو الذي قال فيه:

ويحذف الناصبها إن علما

وقد يكون حذفه ملتزما

الهاء من (الناصبها) عائدة على الفضلة، وناصبها هو الفعل، فيريد أن الفعل إذا علم وكان في الكلام أو في السياق ما يدل عليه جاز حذفه، فلو لم يكن ثم ما يدل عليه لم يجز حذفه، والفرق بينه وبين المنصوب في أن المنصوب يحذف وإن لم يدل عليه دليل، والناصب لا يحذف حتى يدل عليه دليل- أن/ المنصوب فضلة مستغنى عنها يستقل الكلام دونها، بخلاف الناصب، فإنه عمدة الكلام، فإذا كان معلوما حذف؛ إذ هو في حكم الملفوظ به؛ لوجود الدليل عليه. وإذا لم يعلم اختل الكلام ولم يعط فائدة، فلذلك اشترط هنا العلم ولم يشترطه في المنصوب. وهذا شأنه أن يشترط فيما كان عمدة في الكلام ألا يحذف إلا لدليل، وقد يشترط العلم في غير العمدة كما اشترطه في أشياء ذكرها قبل هذا، وبعد هذا وفي غير ذلك، بل القاعدة أنه لا يحذف الشيء لغير دليل سواء أكان عمدة أم فضلة، وإنما أغفلوا هذا الاشتراط في المفعول لحكمة اختصت به مع فعله، وهي أن الفعل المتعدي طالب له من جهة معناه ولفظه كضرب مثلا، فإن معناه يطلب مفعولا به، ولفظه أيضا؛ إذ كنت تقول: زيد ضربته، فتلحقه هاء غير المصدر، وإذا كان كذلك فلم يحذف المفعول قط لغير دليل، بل هو محذوف لدلالة الفعل عليه في

ص: 161

الجملة من جهة طلبا له، لكن لما كان هذا لازما لم يشترطوه؛ إذ لا فائدة في اشتراط ما هو لازم غير مفارق. فإن قيل: إنما كان يكون دليلا عليه لو عينه دون غيره، أما إذا لم يعينه فليس بدليل عليه.

قيل: بل هو دليل عليه، ومعين له تعيينا ما، وذلك أنه قد يقع المفعول نكرة، كرأيت شخصا، وأبصرت شيئا، وعرفت أمرا، وأكرمت إنسانا، وذلك ما أشبهه قد يساوي مفهوم: رأيت، وأبصرت، وعرفت، وأكرمت بحسب المخاطب، فقد دل الفعل على ما شأنه أن يصرح به فلم تكن دلالة الفعل واقعة من غير تعيين البتة، وأيضا إن سلم فالدلالة الإجمالية لا تضر في هذا الموضع بخلاف غيره، فقد صح أن الشيء لا يحذف إلا لدليل، وأن اشتراط ذلك في المفعول لا يحتاج إليه. ونبه بقوله:"وقد يكون حذفه ملتزما" على أن حذف الناصب هنا على وجهين:

أحدهما: جائز غير لازم، فيجوز إظهار ذلك الناصب.

والثاني: لازم، فلا يجوز إظهاره فالذي يجوز إظهاره، هو الشائع الكثير، كما إذا رأيت رجلا متوجها وجهة الحاج وفي هيئة الحاج. فقلت: مكة ورب الكعبة، فالتقدير: يريد مكة، وكذلك إذا رأيت رجلا يسدد سهما نحو القرطاس، فقلت: القرطاس والله، أي يصيب القرطاس، وإذا سمعت وقع السهم على القرطاس، فقلت: القرطاس فالتقدير: أصاب القرطاس، أو رأيت الناس يصوبون النظر إلى الهلال ثم كبروا فقلت: الهلال والله، فالتقدير: أبصروا أو رأوا الهلال، أو رأيت رجلا يريد أن يوقع فعلا من ضرب أو إعطاء أو غيرهما، فقلت، زيدا، فالتقدير اضرب زيدا، أو أعط زيدا، وكذلك إذا

ص: 162

سئلت فقيل لك: من رأيت: فقلت: زيدا، فالتقدير: رأيت زيدا، وتقول لمن قطع حديثه عنك: حديثك، أي صل حديثك، ولمن سألك: هل رأيت أحدا؟ فقلت: زيدا، أي رأيت زيدا، والشواهد على ذلك كثيرة، كقول الله:{قل بل ملة إبراهيم حنيفا} كأن معنى ما قيل لهم: {كونوا هودا أو نصارى} أي اتبعوا ملة اليهود أو ملة النصارى، فقيل لهم: بل اتبعوا ملة إبراهيم، وقالوا في الدعاء على غنم: اللهم ضبعا وذيبا، يريدون: اللهم اجعل فيها أو اجمع/ فيها ضبعا وذيبا. قال سيبويه: "وكلهم يفسر ما ينوي"- قال- "وحدثنا أبو الخطاب أنه سمع بعض العرب وقيل له: لم أفسدتم مكانكم؟ فقال: الصبيان بأبي، كأنه حذا أن يلام فقال: "لم الصبيان" قال: "وحدثنا من يوثق به أن بعض العرب قيل له: أما بمكان كذا وكذا وجذ- وهو موضع يمسك الماء فقال: بلى وجاذا، أي: فأعرف بها وجاذا" وأنشد لمسكين الدارمي:

أخاك أخاك إن من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

ص: 163

وليس من هذا القسم. وقالوا: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك، والظباء على البقر، وهو في كلامهم كثير، ويجوز في هذه الأشياء إظهار الفعل المقدر. قال سيبويه: لما ذكر جملة من هذه الأشياء قال: "وكلهم يفسر ما ينوي" قال: وإنما سهل تفسيره عندهم؛ لأن المضمر قد استعمل في هذا الموضع عندهم بإظهار"

وأما الذي لا يجوز إظهاره فنحو قول العرب: هذا ولا زعماتك، تقديره: ولا أتوهم زعماتك، وقالوا: كليهما وتمرا، كأنه قال: أعطني كليهما وزدني تمرا، وقالوا: كل شيء ولا شتيمة حر، أي: ايت كل شيء ولا ترتكب شتيمة حر، وفي القرآن:{انتهوا خيرا لكم} كأنه قال: إيتوا خيرا لكم، ومن ذلك قولهم: أخذته بدرهم فصاعدا، ومن أنت زيدا، وأما أنت منطلقا انطلقت معك، وأما زيد ذاهبا ذهبت معه، ومما جاء من ذلك في اشعر قول غيلان- أنشده سيبويه:

ديار مية إذ مي تساعفنا

ولا يرى مثلها عجم ولا عرب

ص: 164

كأنه قال: أذكر، وأنشد أيضا لابن أبي ربيعة:

فواعديه سرحتي مالك

أو الربا بينهما أسهلا

تقديره: إيتي موضع كذا وكذا.

وأنشد للقطامي:

فكرت تبتغيه فوافقته

على دمه ومصرعه السباعا

تقديره: وافقت السباع، وأنشد أيضا لابن الأسلت:

لن تراها ولو تأملت إلا

ولها في مفارق الرأس طيبا

أي: رأيت في مفارقها طيبا، وأنشد أيضا لابن قميئة:

تذكرت أرضا بها أهلها

أخوالها فيها وأعمامها.

ص: 165

تقديره: تذكرت أخوالها وأعمامها، ومثل ذلك عند الخليل أيضا:

إذا تغنى الحمام الورق هيجني

ولو تعزيت عنها أم عمار

أي تذكرت أم عمار، وهذه كلها لا يجوز فيها إظهار الفعل. وإليها أشار الناظم بقوله:"وقد يكون حذفه ملتزما" أي: حذف الناصب، وبين بقد أن ذلك قليل، وهو كما قال، إلا أنه يشعر بأنه قياس، فإنه قال:"ويحذف الناصبها، إن علما" فأجرى القياس بإطلاق، ولم يقيده بأحد القسمين دون الآخر، ثم قال:"وقد يكون حذفه ملتزما" فجرد قسم اللازم الحذف، وجعله قليلا، وأيضا فقد مر من عادته أنه حيث يأتي بقد للتقليل فهو عنده مما يقاس عليه على قلته، وليس كذلك بإطلاق؛ إذ لا يقاس على: كليهما وتمرا، ولا على: هذا ولا زعماتك، ولا غير ذلك من الأمثلة، ولا الأبيات، ففي هذا ما فيه.

والجواب: أن ما لا يجوز إظهاره في هذا الموضع على ضربين:

أحدهما: جائز فيه القياس كالتحذير، والإغراء، وباب النداء، ونحو: أما أنت منطلقا، وما أشبه ذلك مما نبه عليه في أبواب/ والثاني: ما لا يدخل تحت قياس، فأتى هنا بمجرد التنبيه على وجود هذا القسم، ثم نبه على ما كان منه قياسا، فأشعر أن ما دون ذلك سماع، وإذا كان كذلك صح كلامه، وكل ما التزم حذفه من هذه الأشياء فإما لكثرة الاستعمال وإما لجريان الكلام مجرى المثل، وإما لجعل الكلام أو بعضه كالعوض عنه لما كان يعطي معناه.

ص: 166