الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التنازع في العمل
التنازع في اصطلاح النحويين، وهو الإعمال أيضا: أن يتقدم عاملان فأكثر ويتأخر عنها اسم يجوز لكل واحد منهما أن يعمل فيه لتعلقهما به، وطلبهما له من جهة المعنى، وقد بين الناظم هذا المعنى في قوله:
إن عاملان اقتضيا في اسم عمل
…
قبل فللواحد منهما العمل
فقوله: "إن عاملان اقتضيا" أراد بالعاملين الفعلين. وما أشبههما، وإنما أتى بهذا اللفظ ولم يقل:"إن فعلان اقتضيا" ليدخل غير الفعلين من الأسماء العاملة عمل الأفعال كاسم الفاعل، والمفعول، وما أشبه ذلك، نحو: أنت ضارب وشاتم زيدا، إذا أعملت الثاني، وأنت ضارب وشاتمه زيدا إذا أعملت الأول، وكذلك إذا كان أحدهما اسما، والآخر فعلا، نحو: أنا ضارب ويضربني زيد أو زيدا. ونحو ذلك قوله تعالى: {آتوني افرغ عليه قطرا} هذا في الفعلين وكذلك قوله: {يستفتونك فل الله يفتيكم في الكلالة} . وأما في الاسم والفعل فـ {يقول هآوم اقرءوا كتابيه} . ولم يقيد العاملين بتصرف فدخل له الإعمال في فعلي التعجب، نحو: أحسن وأجمل بزيد، إن أعملت الثاني، وإن
أعملت الأول قلت: أحسن وأجمل به بزيد، وكذلك تقول: ما أحسن وأجمل زيدا، إن أعملت الثاني، وما أحسن وأجمله زيدا، إن أعملت الأول، وهذا مبني على فرض إجازة الفصل بين أحسن ومفعوله، وإلا فيلزم إعمال الثاني. وهو رأي المؤلف في التسهيل، وشرحه. وقد يقال: إن فعلي التعجب لا يدخل فيهما الإعمال؛ للزوم الفصل، وهو قد منعه، لكن يجاب بأن المنع إنما ينسحب على مسائل الفصل فحيث لا يلزم الفصل لا تمتنع المسألة، وهو رأيه في الشرح كما تقدم. وهذه المسألة مختلف فيها فمن النحويين من منع دخول الإعمال في فعلي التعجب؛ وكأنه منع ذلك اعتبارا بلزوم الفصل في تصوير مسائله، وهو ممتنع في التعجب، أو لأجل أن الأعمال، وتنازع العاملين في معمول واحد من باب التصرف، وفعل التعجب غير متصرف؛ أو لأن الإعمال على خلاف القياس للزوم الإضمار فيه قبل الذكر، فلا يتعدى به ما سمع، وإنما سمع في العوامل المتصرفة.
وللناظم أن يجيب عن الأول بأنا نمنع المسائل التي يلزم فيها الفصل، ونجيز ما عداها.
وعن الثاني: أن الإعمال ليس من باب التصرف، بل من باب طلب العامل معموله خاصة. وأيضا ففي القرآن:{أسمع بهم وأبصر} فحذف المجرور الثاني لدلالة الأول عليه، والإعمال مثل هذا، إلا أن الأول هو المحذوف لدلالة الثاني، فيجوز الاستدلال بأحدهما/ على الآخر.
وعن الثالث: أن كون الإعمال على خلاف الأصل لا يمنع القياس فيه وإلا لزم ألا يقال منه إلا ما سمع، ولما لم يلزم ذلك باتفاق لم يلزم أن يمتنع في فعلي التعجب. وقوله:"اقتضيا" معناه طلبا من جهة المعنى فهما الطالبان معا، واحترز باقتضائهما معا من اقتضاء أحدهما دون الآخر؛ لكونه جيء به لمجرد التوكيد، نحو قولك: قام قام زيد، ورأيت رأيت زيدا؛ فإن الثاني من الفعلين جيء به لتوكيد الأول، لا لطلب المعمول، ولو جيء بالثاني طالبا لكنت تقول: قاما قام أخواك، أو قام قاما أخواك، فتضمر لأحدهما إذا أعملت الآخر، وليس الحكم كذلك، وإنما يأتي الثاني مع الأول على مساق واحد؛ لأن الطلب للأول وحده، وأنشد على ذلك المؤلف في الشرح:
فأين إلى أين النجاة ببغلتي
…
أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس
وقوله: "اقتضيا في اسم عمل" أراد عملا إلا أنه أتى به على لغة من قال: رأيت زيد؟ ، والعمل في كلامه مطلق لم يقيده برفع ولا نصب، فقد يكون العاملان متفقين في عمل الرفع، نحو: قام وقعد زيد، أو في طلب النصب، نحو: أكرمته وأهنت زيدا، وقد يكونان مختلفي الطلب، فأحدهما يطلب بالرفع، والآخر يطلب بالنصب، نحو: ضربني وضربت زيدا، أو يكون أحدهما يطلبه بنفسه، والآخر يطلبه بحرف الجر، نحو: جاءني فأحسنت إلى زيد، وأكرمت وأحسنت إلى زيد، كما أنهما قد يطلبانه بحرف الجر، نحو: اللهم صل وسلم على محمد، كما
صليت وسلمت على إبراهيم، والمنصوب أيضا لا يلزم أن يكون مفعولا به بل قد يكون مصدرا، وظرف زمان أو مكان، ومفعولا له، وقد نص على ذلك ابن خروف في دره على ابن مضاء على جواز ذلك إذا دل الدليل على طلب الفعلين لها، قال:"وفي كلام العرب من الإعمال في الظروف وغيرها كثير".
وقوله: "في اسم" أراد جنس الاسم، وليس مقيدا بالإفراد أن يريد في اسم واحد؛ إذ قد يكون التنازع في اسمين كما سيأتي، نحو: ظننت وظنني قائما زيدا قائما، وأيضا قوله:"اقتضيا في اسم" لم يقيد العاملين بكونهما معطوفا أحدهما على الآخر بالواو أو غيرها من الحروف العاطفة، فدل ذلك على جواز الإعمال عنده من غير تقييد، خلافا لمن اشترط في جوازه أن يكون أحدهما معطوفا على الآخر بالواو، وهو الجرمي، قال الفارسي:"فاحتججنا عليه" بقوله: {آتوني افرغ عليه قطرا} فأعمل الثاني وليس بمعطوف بالواو، وقال: فحكي لي أنه يقول: في نحو هذا عمل الأول، وإن المفعول من الثاني محذوف، لأنه لما أعمل الأول استغني بإعماله عن إعمال الثاني، وسلم الفارسي هذا التأويل وقواه بجواز حذف المفعول إذا دل عليه الدليل كقوله:{وينزل من السماء من جبال فيها من برد} وأن (من) غير زائدة بل حذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وما قاله الناظم أولى؛ فقد جاء في القرآن:{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} ، {هآوم اقرءوا كتابيه} ، / {وإذا قيل لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية،
{وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} ، وفي الشعر قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه
وأنشد سيبويه لابن أبي ربيعة:
إذا هي لم تستك بعود أراكة
…
تنخل فاستاكت به عود اسحل
وقال جزء بن ضرار أخو الشماخ:
أتاني فلم أسرر به حين جاءني
…
حديث بأعلى القنتين عجيب
وقال ذو الرمة:
ولم أمدح لأرضيه بشعري
…
لئيما أن يكون أصاب مالا
وأنشد أبو زيد:
قطوب فما تلقاه إلا كأنما
…
زوى وجهه أن لاكه فوه حنظل
وأنشد الجمهور:
بعكاظ يعشى الناظرين إذا هم لمحوا شعاعه
ومثل ذلك كثيرا جدا، فإن زعم أن هذا من الإعمال فقد أٌر بمذهب الجماعة، وإن تأوله كما فعل في قوله:{آتوني افرغ عليه قطرا} لزم أن ينكر باب الإعمال أجمع، لأن ذلك التأويل ونحوه يمكن فيما وجد منه، ولم يقل به. فالصحيح جواز ذلك مع العطف بالواو، وغيره.
وقوله: "قبل" في موضع الحال من ضمير العاملين أي: اقتضى العاملان معا، تحرزا من نحو: خرجت ودخلت، فإنهما عاملان معا، وإن طلبا شيئا واحدا، وهو ضمير المتكلم لم يتنازعا في العمل فيه، لاستقلال كل واحد بمطلوبه حين اتصل بكل واحد منهما، وكذلك لو تقدم الاسم فعمل كل واحد في ضميره، نحو: زيد ضربته وضربني، وزيد أنا ضاربه ومخرجه، وما أشبه ذلك، فلذلك قيده بقوله:(قبل). ومثال ما توفرت فيه القيود: ضربني وضربت زيدا، فقد تأخر زيد عن الفعلين، وهما يطلبانه معاً،
ويقتضيان فيه عملا، فأحدهما يطلبه بالفاعلية ليرفعه، والآخر يطلبه بالمفعولية، لينصبه، فإذا قد حصل بقوله:"إن عاملان اقتضيا في اسم عمل" معنى التنازع مكملا على اختصار إلا أن عليه إشكالات:
أحدها: أن العاملين كما ينطلقان على الفعلين، وعلى الاسمين اللذين يشبهان الفعلين كما تقدم، ينطلقان أيضا على الاسمين اللذين لا يشبهان الفعل نحو قول الأعشى- أنشده سيبويه:
إلا علالة أو بداهة قادح نهد الجزارة
وقول قيس بن الخطيم، أنشده سيبويه أيضا:
نحن بما عندنا أنت بما
…
عندك راض والرأي مختلف
فكل واحد من: "علالة وبداهة" طالب لقادح بالإضافة، وكذلك نحن وأنت طالبان لراض بالخبرية، ومن ذلك كثير في السماع، ولم يدخلوه في باب التنازع. وقد ينطلق العاملان على الحرفين فقد جاء فيهما- وإن كان أحدهما مقدرا- نحو ما أنشده سيبويه من قول ضابيء البرجمي:
من يك أمسى بالمدينة رحله
…
فإني وقيارا بها لغريب
وأنشد الفارسي في التذكرة- مع ظهور الحرفين معا- قوله:
حتى تراها وكأن وكأن
…
أعناقهن مشربات في قرن
فكل من هذه الأمثلة قد اشتمل على عاملين/ متقدمين اقتضيا في اسم متأخر عنهما عملا، وليس ذلك بإعمال حسب ما نصوا عليه، وإنما الأعمال خاص بالفعل، وما أشبهه من الأسماء، والناظم لم يبين ذلك، ولا عين العاملين، فكان كلامه غير محرر.
والثاني: أن الأفعال وما أشبهها من الأسماء إذا تنازعت السببي لم يصح فيها التنازع، نحو: زيد قام وقعد أبوه، وزيد قائم وقاعد أبوه؛ لأن الأب في المثالين مضاف إلى ضمير زيد، وبه صح أن يجري الخبر على الأول، فلا يخلو إذا أعملت الثاني أن تضمر في الأول ضمير الأب أو ضمير زيد، فإن أضمرت فيه ضمير زيد لم يكن من باب التنازع، فإن العاملين لم يتنازعا العمل في الاسم الأخير، وإن أضمرت في الأول ضمير الأب لزم عدم ارتباطه بالمبتدأ؛ إذ ليس فيه ضمير يعود عليه، وأيضا فلا يكون في الكلام دليل على أن الضمير للأب، فلزم المحذور على كل حال. وكذلك إذا أعملت الأول وأضمرت الثاني. وهذا المعنى ذكره في شرح التسهيل، وذهب إليه
ابن خروف وغيره، فالإعمال هنا لا يستقيم. وكذلك إذا كان السببي منصوبا؛ لأنك إذا قلت: زيد أ: رم وأعطي أخاه، فإن أعملت الأول فلابد في الثاني من ضمير، وهو ضمير الأخ، وهو سبيي، وضمير السببي لا يتقدم عندهم، وإن قلت: إن أخاه محذوف من الثاني لدلالة ذلك الظاهر عليه خرجت المسألة عن باب الإعمال، وهكذا القول في إعمال الثاني، فإن المحذوف من الأول إما السببي، وإما ضميره، وكلاهما ممنوع لما تقدم، فامتنعت المسألة رأسا عن دخولها في هذا الباب، ومثل ذلك لو قلت: زيد أكرمني وأكرمت أخاه، أو: أكرمت وأكرمني كل ذلك ممنوع. فالحاصل أن كل مسألة تفرض في تنازع السببي فممنوعة، إما بإطلاق، وإما بالنسبة إلى هذا الباب، وإذا تقرر هذا فكلام الناظم يشمل المسألة بإطلاقه فيقتضي جوازها؛ لأن العاملين قد تنازعا العمل في الاسم المتأخر، وهو السببي، وذلك غير صحيح.
والثالث: أنه اقتصر على عاملين فقط، وقد يكون التنازع لأكثر من عاملين ومنه في الحديث:"كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم"، وأنشد المتأخرون على ذلك للحطيئة:
سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا
…
فسيان لا حمد عليك ولا ذم
وأنشد المؤلف:
جيء ثم حالف وثق بالقوم إنهم
…
لمن أجاروا ذرى عز بلا هون
وأنشد أيضا:
أرجو وأخشى وأدعو الله مبتغيا
…
عفوا وعافية في الروح والجسد
ولذلك لما ترجم ابن الأخضر على هذا بباب العاملين اللذين يسوغ لكل واحد منهما أن يعمل في الاسم؛ لتقدمهما عليه في التلفظ، وتعلقه بهما من طريق المعنى، اعترض عليه ابن خروف، فقال: نقصه أن يكون عوامل، فكذلك الناظم نقصه أن تكون عوامل.
والرابع: أن التنازع قد يكون في العمل في اسمين كما يكو في الاسم الواحد، وقد نبه على ذلك آخر الباب ومثله بقوله:
نحو أظن ويظناني أخا
…
زيدا وعمرا أخوين في الرخا
وهذا يقتضي أنه لم ير رأي من نفى التنازع في الاسمين، فقد حكى في الشرح أن بعض أهل البصرة منع من ذلك، والذي نقل السيرافي المنع من التنازع في الثلاثة، حكاه عن الجرمي، ونبعه بعض. أما التنازع في الاثنين فإن الصحيح
فيه مذهب الجمهور فقد حكى سيبويه: متى رأيت أو قلت زيدًا منطلقًا، على إعمال الأول، ومتى رأيت أو قلت زيد منطلق، على إعمال الثاني الذي هو قلت، وهو الحكاية. وأما التنازع في الثلاثة فإنما منع لأنه خارج عن القياس، فما لم تكلم به العرب فمردود إلى القياس، قال السيرافي:"ومن أصحابنا من يقيسه"، وإذا كان كذلك فقد قال الناظم هنا:"إن عاملان اقتضيا في اسم عمل" ولم يقل في: "اسم واحد فأكثر"، بل اقتصر على الاسم الواحد، فظهر منه بهذه العبارة خلل في المفهوم، وتناقض.
والخامس: أن العاملين قد يتنازعان العمل في معمول قبلهما، ولا يلفى في ذلك الخروج عن باب التنازع المفروض، ألا ترى أن الاسم المتنازع فيه قد يكون مقدمًا من تأخير، نحو: زيدًا ضربت وأكرمت، وما أشبه ذلك، فالتنازع هنا صحيح، فإن أعملت الأول قلت: زيدا ضربت وأكرمته، فأعملت الثاني في ضميره، وإن أعملت الثاني لم تعمل الأول في ضميره، فقلت: زيدًا ضربت وأكرمت، فهذا جار على طريقة الإعمال مع أن المعمول مقدم، وهو إنما قال:"إن عاملان اقتضيا في اسم عمل قبل" فقيد العامل بكونه قبل المعمول، فخرج عنه هذا النحو، واقتضى أنه ليس بإعمال، فظهر بهذا كله أن قاعدة الناظم في هذا الباب في غاية القصور والخلل.
والجواب: أن كلامه صحيح، وما اعترض به غير وارد.
أما الأول: فإنه عين الفعلين في الباب، ولم يمثل بغيرهما، فأشعر ذلك من كلامه بأنه لا يريد الحرفين، ولا الاسمين اللذين لا يشبهان الفعل، وأيضًا فالعوامل كلها أصلها الأفعال كما تقرر في الأصول، وما عدا الأفعال من العوامل محمول عليها، وإذا كان كذلك فأول سابق إلى الذهن من إطلاقه لفظ العامل
الفعل، وهو ذلك وما أشبه الفعل؛ فإن اسم الفاعل، والمفعول، واسم الفعل، ونحوها جاريةٌ مجرى الفعل في العمل، والدلالة على معنى الحدث، بخلاف غيرها من العوامل، فإنها لا تجري ذلك المجرى، وهذا معنى تعليل ابن خروف دخول اسم الفاعل، ونحوه، وخروج ما عداهما، فلا يحمل هذا الإطلاق إلا على ما يقرب فهمه دون ما يبعد على أن الفارسي قال فيما أنشده الباهلي:
حتى تراها وكأن وكأن
…
أعناقهن مشرفاتٌ في قرن
ينبغي أن يكون على إعمال الثاني، قال: ولو أعمل الأول لقال: * وكأن وكأنهن أعناقهن مشرفاتٍ * ثم اعتذر عن تخفيف الثانية، وأنه للقافية، مع أنها قد تعمل مخففة نحو:
* كأن وريديه رشاء خلب *
قال: ولا يحوز أن يكون على الزيادة، يعني التوكيد لمكان العطف بالواو؛ لأن هذا الحرف لم يزد في موضعٍ، فهذا من الفارسي إقرارٌ بصحة الإعمال في
الحروف، وهو ظاهر من حيث صدقت عليه قاعدة الإعمال. ذكر ذلك في التذكرة، وأيضًا فالمبرد يجعل نحو:
* إلا علالة أو بداهة قارحٍ *
من باب الإعمال حسب ما يأتي إن شاء الله في موضعه، فقد يمكن أن يقال باطراد ذلك في سائر العوامل على ظاهر اللفظ، فيدخل المضاف والمبتدأ أو غيرهما غير أن السماع لم يحقق وجود الإعمال إلا في الفعل وما أشبهه لتصرفهما في العمل، قال ابن خروف:"ولم يدخل في هذا الباب المبتدأ والمضاف وغيرهما" وإذا كان كذلك فلا ينبغي إطلاق القول بالتنازع في جميع العوامل.
وأما الثاني: فإن مسألة السببي لا يحتاج إلى ذكرها ههنا، لأن الامتناع فيها ليس لسببٍ يختص بباب التنازع بل لسبب آخر: إما مختص بباب الابتداء فقد تقدم فيه حكم ذلك وأن الخبر إذا كان جملة فلا بد فيها من ضمير عائد على المبتدأ حين قال:
ومفردًا يأتي ويأتي جمله
…
حاويةً معنى الذي سيقت له
أو بغير الباب الابتداء مما يفتقر إلى ضمير يعود عليه كالمنعوت مع النعت فكذلك، وإما مختص بباب الضمائر، وهو كون إضمار السببي لا يتقدم وإن جاء في الكلام ما ظاهره جواز مثل: زيدٌ قائمٌ وخارجٌ أبوه فمحمولٌ على أن العامل في السببي هو العامل الأول لا غير، وعلى أن السببي مبتدأ، وخبره العاملان حيث
يمكن ذلك، ومن هذا قول كثير:
قضى كل ذي دينٍ فوفى غريمه
…
وعزة ممطولٌ معنى غريهما
وقد نص سيبويه في أبواب الصفات على منع نحو: مررت برجلٍ لبيبةً عاقلةٍ أمه، مقلوبًا من قوله: مررت برجل عاقلةٍ أمه لبيبةً فقال: لا يصلح أن تقدم لبيبة مضمرًا فيها الأم، ثم تقول: عاقلةٍ أمه، قال ابن خروف: هذا نص بإبطال رفع غريهما بمعنى من قوله:
* وعزه ممطول معنى غريهما *
قال: والذي منع الإضمار في لبيبة كون المضمر فيها عائدًا إلى الأم، فصار المضمر لو تقدم عوضًا من اسمين مضافٍ إليه؛ لأنه بتقدير: برجلٍ لبيبةٍ أمه عاقلةٍ أمه، وهذا لا سبيل إليه، ثم تأول البيت، واستشهاد الفارسي في الإيضاح بالبيت على إعمال الثاني محمول عند ابن أبي الربيع وغيره على أن الشاهد في صدره لا في عجزه، ولأنه لو كان كذلك لبرز الضمير في ممطول؛ لأنه جارٍ على غير من هو له، وقد حملته طائفةٌ على أن الشاهد في العجز، وليس بجارٍ على قاعدة سيبويه المتقدمة، ولذلك حمله بعضهم على أنه يشبه الإعمال وليس به. وهذا كله على فرض كون المهمل من العاملين طالبًا ضمير السببي، فإن فرض أنه
طالبٌ للسببي ظاهرًا فحذف للدلالة فلم يتكلم على هذا؛ إذ ليس من باب الإعمال. فعلى كل تقدير كلام الناظم صحيح.
وأما الثالث: فإنما اقتصر على العاملين فقط لمعنى، وهو أن الثلاثة فأكثر لا يوجد لها أثر في هذا الباب إلا في الأخيرين، وأما الأول فلا يعتبر في عمل في الاسم المتنازع فيه وإن كان يطلبه من جهة المعنى، فقد زعم ابن خروف أن إعمال الأول في أكثر من عاملين لا يوجد في كلام العرب، وإذا كان الزائد على الاثنين لا يتجدد معه حكم لم يكن قبله اطرح الناظم اعتباره. وفي هذا الجواب نظرٌ؛ فإن إعمال الثاني من الثلاثة كذلك أيضًا، وإلى هذا فإنهم قد أضمروا للأول قبل الذكر، وذلك من أحكام باب الإعمال؛ إذ لا يجوز ذلك إلا في أبوابه المعلومة، فلو لم يكن من هذا الباب لم يجز لخروجه عن جميع الأبواب فيمتنع. وأبين من هذا أن يقال: لعله ترك التنبيه على أكثر من عاملين استغناءً بما ذكر؛ لأن العاملين والثلاثة على حكم واحد، فما يجري في الاثنين يجري فيما هو أكثر.
فإن قيل: فيلزم على هذا جواز إعمال الأول أو الثاني دون الثالث، وإعمال غير الثالث لم يسمع وقد منعه هو وغيره.
قيل: قد أجاز ذلك بعضهم قياسًا، وإن لم يرد سماعًا فقد يصح أن
يقول به الناظم. والله أعلم.
وأما الرابع: فإن قوله: "اقتضيا في اسم" لا يعني به الاسم بقيد الإفراد بل يعني حقيقة الاسم مجردًا من اعتبار إفرادٍ أو غيره، سمعت شيخنا القاضي أبا القاسم الحسني رحمه الله يقول: تقول: هذا رجلٌ على معنيين: أحدهما: أن تريد حقيقة الرجل خاصةً من غير نظر إلى إفراد ولا غيره. والثاني: أن تريد بذلك حقيقة الرجل بقيد الإفراد، فإذا قيل لك: أعطاك زيدٌ غلامًا وثوبًا وكذا، فقلت: إنما أعطاني غلامًا فمعنى ذلك: إنما أعطاني هذه الحقيقة ولم ترد أن تقول: إنما أعطاني غلامًا واحدًا، وإذا قيل لك: أعطاك غلامين أو ثلاثة؟ فقلت: إنما أعطاني غلامًا، فمعناه إنما أعطاني غلامًا واحدًا لا أكثر، قال: وهذا الثاني هو الذي يثنى، وأما الأول فلا. هذا معنى ما سمعت منه؛ فلأجل أن الإطلاق الأول يراد به الحقيقة ينطلق على المفرد والمثنى والمجموع، فلا يثنى ولا يجمع، وإطلاق الناظم الاسم من هذا القبيل فيدخل تحته الاسم الواحد والاثنان، وما هو أكثر من ذلك لكن يبقى فيه اشتماله على ما هو أكثر من اثنين، وقد مر أنه غير مسموع، وهذا لا محذور فيه؛ إذ يمكن حمله على أحد وجهين: إما على أن يقيد التعدد بما ذكر في الباب، ولم يذكر إلا معمولًا واحدًا أو معمولين وسكت عن الثالث، فكأنه لم يرده بهذا اللفظ الذي هو قوله:"اقتضيا في اسم". وإما على أنه اعتبره على إطلاقه استنادًا إلى رأي من أجاز القياس فأجرى الإعمال في الثلاثة كما أجراه في الاثنين، وإذا كان هذا ممكنًا فلا اعتراض عليه.
وأما الخامس: فإن الاسم إذا تقدم على العاملين في نحو: زيدًا ضربت وأكرمت، لم يتعين أن المسألة من الإعمال، أما إذا أعملت الأول فقلت: زيدًا ضربت وأكرمته، فلاحتمال أن يكون زيدٌ معمولًا لأول الفعلين، والثاني طالبٌ لضميره فقط فصار مثل: زيدًا ضربت وضربني فلا إعمال.
وأما إذا أعملت الثاني فقلت: زيدًا ضربت وأكرمت فكذلك أيضًا لاحتمال أن تكون المسألة كالأولى فحذف مفعول الثاني اختصارًا وهو ضمير الأول، أو غيره وحذف اقتصارًا، وأيضًا فلو سلم فيها الإعمال فالأصل في زيد التأخير، والتقديم غير معتد به لعروضه.
ثم قال الناظم: "فللواحد منهما العمل" هذا جواب (إن) المتقدمة الذكر في قوله: "إن عاملان اقتضيا في اسم عمل" يعني أن الاسم لا يعمل فيه إلا واحد من ذينك العاملين- إما الأول، وإما الثاني- وإن كانا معًا طالبين للعمل فيه، فتقول إن أعملت الأول: ضربت وضربني زيدًا، وإن أعملت الثاني قلت: ضربت وضربني زيدٌ، وفي هذا كلام التنبيه على أمرين: أحدهما: أنه لا يصح أن يعملا معًا في المعمول سواءًا أكانا متفقي العمل أو مختلفيه، أما في الاختلاف فظاهر؛ إذ لا يحتمل الاسم الواحد أن يكون مرفوعًا منصوبًا في حالٍ واحدة، أو مرفوعًا مجرورًا أو منصوبًا مجرورًا في حال واحدة، وهذا متفق عليه، وأما في الاتفاق فكذلك اعتبارًا بالاختلاف، فكما لا يصح أن يعمل العاملان في الاسم رفعًا ونصبًا معًا؛ لأنهما ضدان فكذلك لا يصح أن يعملا فيه رفعين، ولا نصبين، ولا جرين معًا؛ لأن المثلين على المحل الواحد متضادان حسبما هو مبين في غير هذا الموضع، وأيضًا لم يثبت من كلام العرب عمل عاملين في معمول واحد، فقياس هذا عليه، وأيضًا إذا قلت: قام وقعد زيد فهذا العطف إما أن
يكون من عطف المفردات أو من عطف الجمل؛ إذ لا ثالث لهما، وكلاهما غير صحيح، أما عطف المفردات فلا بد فيه من التشريك في عامل، قاله ابن أبي الربيع، وليس ذلك هنا، وأما عطف الجمل فلا يتصور إلا بأن تجعل كل واحد من العاملين مسندًا إلى اسم يستقل به، وأما إذا جعلتهما معًا مسندين إلى اسم واحد فلا لعدم استقلال أحدهما بنفسه دون الآخر فلا يصح إذًا أن تكون من عطف الجمل، فصح أن العامل فيه أحدهما لا كلاهما، وهو ما ذكره الناظم ونكت بذلك على الفراء القائل بأن العاملين معًا هما الرافعان بناء على أن الإضمار قبل الذكر ممنوع، وههنا يلزم إذا أعملت أحدهما الإضمار قبل الذكر، فكان الوجه المنع، لكن جاء من كلامهم: قام وقعد زيدٌ، فلا بد أن يعملا معًا في الاسم؛ إذ لا ثالث، قال في شرح التسهيل: "والذي ذهب إليه غير مستبعد فإنه نظير قولك: زيد وعمرو منطلقان على مذهب سيبويه فإن خبر المبتدأ عنده مرفوعٌ بما هو له خبرٌ فيلزمه أن يكون (منطلقان) مرفوعًا بالمعطوف والمعطوف عليه؛ لأنهما يقتضيانه معًا.
وقد يجاب عن هذا بأن يقال: أما الإضمار قبل الذكر فموجود من كلام العرب في باب نعم وبئس، وضمير الأمر والشأن، وغيرهما، وقد حكى سيبويه من كلام العرب: ضربوني وضربت قومك. وغير ذلك مما سيأتي بعضه على إثر هذا بحول الله، وأما قولك: زيد وعمرو منطلقان فإن المعطوف أبدًا مع المعطوف عليه في حكم الاسم المثنى، والاسم المثنى في حكم المعطوف بالواو، وإذا كان كذلك فالعامل إنما هو واحد عمل في اسم واحد. والله أعلم.
والأمر الثاني من الأمرين اللذين نبه عليهما الناظم: أن إعمال الأول من المتنازعين دون الثاني أو الثاني دون الأول جائز جميع ذلك؛ إذ قال: "فللواحد منهما العمل" ولم يعين ذلك الواحد، فدل على أنه قصد أي واحدٍ كان، وذلك صحيح، ولا خلاف فيه بين البصريين والكوفيين، فمثال إعمال الأول: قولك: ضربت وضربني زيدًا، وضربني وضربته زيدٌ، ومما جاء من ذلك في السماع قول عمر بن أبي ربيعة:
إذا هي لم تستك بعود أراكةٍ
…
تنخل فاستاكت به عود إسحل
فلو أعمل الثاني لقال: فاستاكت بعود إسحل، وقال أخو الشماخ:
أتاني فلم أسرر به حين جاءني
…
حديث بأعلى القنتين عجيب
ولو أعمل الثاني لقال: فلم أسرر بحديث، وقال ذو الرمة:
ولم أمدح لأرضيه بشعري
…
لئيمًا أن يكون أصاب مالًا
وأنشد أبو زيد:
قطوبٌ فما تلقاه إلا كأنما
…
زوى وجهه أن لاكه فوه حنظل
وأنشد ابن خروف وغيره:
* بعكاظ يعشي الناظرين إذا هم لمحوا شعاعه *
وأنشد المؤلف:
يرنو إلي وأرنو من أصادفه
…
في النائبات فأرضيه ويرضيني
وأنشد سيبويه للمرار الأسدي:
فرد على الفؤاد هوى عميدًا
…
وسوئل لو يبين لنا السؤالا
وقد نغنى بها ونرى عصورًا
…
بها يقتدننا الخرد الخدالا
وأنشد ابن الأنباري:
ولما أن تحتمل آل ليلى
…
سمعت ببينهم نعب الغرابا
ومثال إعمال الثاني قولك: ضربت وضربني زيدٌ، وضربني وضربت زيدًا، مما جاء من ذلك في السماع قول الله تعالى:{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} فلو أعمل الأول لقال: قل الله يفتيكم فيها في الكلالة، وقال:{وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدًا} فلو أعمل الأول لقال: كما ظننتموه كذلك أن لن يبعث الله أحدًا، وقال:{هاؤم اقرؤا كتابيه} ولو أعمل الأول لقال: هاؤم اقرؤه إلى كتابيه، وقال:{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية لو أعمل الأول لقال: تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله. وقال: {الذين كفرو وكذبوا بآياتنا} . وفي الشعر من ذلك كثير، أنشد سيبويه للفرزدق:
ولكن نصفًا لو سببت وسبني
…
بنو عبد شمسٍ من منافٍ وهاشم
وأنشد لطفيل الغنوي:
وكمتًا مدماة كأن متونها
…
جرى فوقها واستشعرت لون مذهب
وأنشد لرجل من باهلة:
ولقد أرى تغنى بها سيفانة
…
تصبي الحليم ومثلها أصباه
وأنشد المؤلف:
خالفاني ولم أخالف خليليـ
…
ي، ولا خير في خلاف الخليل
وفي الحديث "كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" ولو أعمل الأول لقال: كما صليت ورحمته وآله، وباركت عليه وعليهم على إبراهيم
وعلى آل إبراهيم. ثم يبقى النظر في ترجيح أحد الوجهين على الآخر فقال:
والثان أولى عند أهل البصرة
…
واختار عكسًا غيرهم ذا أسرة
قوله: "والثان أولى" أراد الثاني فحذف الياء، ويعني أن أهل البصرة اختاروا من الوجهين الجائزين إعمال الثاني، واختار غيرهم العكس، وهو إعمال الأول.
فإن قيل: كيف تنزيل العكس هنا؛ إذ معناه تصيير أول الكلام آخرًا، وأخره أولًا مع استقامة الكلام، وهذا التعريف أعم من تعريف أهل المنطق.
قيل: تحقيقه يتبين بأن تظهر ما حذف من الكلام الأول في قوله: "والثاني أولى" لأنه يريد أولى من الأول، فعكس هذا أن نقول: الأول أولى من الثاني، وهو مذهب غير أهل البصرة، فوجه ما ذهب إليه أهل البصرة أوجه: أحدها: كثرة إعمال الثاني: وقلة إعمال الأول حتى إنه يكاد لا يوجد في غير شعر، بخلاف الأول فإنه قد جاء في القرآن، بل لم يجئ به إلا هو- كما تقدم- والسماع هو المتبع.
والثاني: أن الثاني من العاملين أقرب إلى المعمول فكان أولى به مما بعد عنه، وهو الأول كما قالوا: خشنت بصدره وصدر زيد، بخفض الصدر حملًا على الباء لأنها أقرب إليه من الفعل الذي هو خشنت، وزعم سيبويه أن ذلك وجه الكلام، والحمل على خشنت ونصب الصدر دون ذلك. والثالث: أنهم قد اعتبروا الجوار مع فساد المعنى، فقالوا: هذا جحرضب خرب، فحملوا الخرب على الضب، وهو في المعنى للجحر لقرب الجوار، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} بخفض المتين حملًا على القوة، والمعنى لذو؛
لقرب الجوار، وقال امرئ القيس:
كان أبانًا في أفانين ودقه
…
كبير أناسٍ في بجادٍ مزمل
وهذا كله ليس بضرورة، فإذا كان ذلك موجودًا في الكلام مع فساد المعنى لو اعتبر اللفظ وكان ذلك مراعاةً لمناسبة الجوار، فأولى أن تعتبر الجوار مع صحة المعنى.
والرابع: أن إعمال الأول يلزم منه توالي حروف الجر نحو نبئت كما نبئت عنه عن زيد، وذلك غير مستحسن، والعطف على الجملة قبل إتمامها، وذلك لا يحسن، والفصل بين العامل ومعموله بجملة أجنبية، وذلك قبيح في غير هذا الباب، وكذلك في هذا الباب.
والخامس: أن اتصال العامل بما عمل فيه هو الأصل، وذلك فيما اختاره البصريون موجود، ومفقود في المذهب الآخر. والسادس: أن إعمال الآخر أخصر مع بلوغ أقصى الحاجة من الكلام، إذ تحذف من الأول الفضلة، فتقول: ضربت وضربني زيدٌ، وأعطيت وأعطاني زيدٌ درهمًا بخلاف ما إذا أعملت الأول فإنه مؤدٍ إلى الطول الذي لا يحتاج إليه، ومبنى كلام العرب على الاختصار والاكتفاء بالإشارة والرمز إلا في المواضع التي لا تجد فيها بدًا من البسط مع أنها تعمل الاختصار في أثنائه، وإذا كان كذلك فينبغي أن يكون الأولى في مسألتنا ما كان موافقًا لهذا الأصل، وهو إعمال الأخير ولاسيما إن كثرت العوامل.
والسابع: إن إعمال الأول لم يوجد فيما إذا زادت العوامل على اثنين بل قد زعم ابن مالك أن العرب التزمت هنا إعمال الأخير، ولا يوجد إعمال ما قبله، فإن كان كذلك فليس إعمال الأول بمطرد فضلًا على أن يكون مختارًا.
والثامن: أن في إعمال الثاني تخلصًا من الإخلال بحق دون حق وذلك؛ لأن كل واحد من العاملين له حظٌ من عناية المتكلم، فإذا قدم أحدهما، وأعمل الآخر عدل بينهما؛ لأن التقديم اعتناء، والإعمال اعتناء، وإذا أعمل المتقدم لم يبق للآخر قسطٌ من العناية فكان المخلص من ذلك راجحًا.
ووجه المذهب الآخر أمورٌ: أحدها: أن الأول سابقٌ صالح للعمل كالثاني فكان إعماله أولى من إعمال الثاني؛ لأن للسبقية أثرًا في العمل، ألا ترى أن ظننت وأخواتها لا تلغى إذا تقدمت على معموليها بخلاف ما إذا لم تتقدم، وكذلك كان لا تلغى إذا تقدمت، وأنها تلغى إذا توسطت ففقدت رتبة التقديم، وكذلك (إذن) تعمل متقدمة، ولا تعمل متوسطة، ونحو ذلك في القسم والشرط من تقدم منهما فله الحكم، وألغي الآخر، والأفعال غير المتصرفة تقوى على العمل متقدمة، ولا تقوى متأخرة. فالحاصل أن للتقدم أثرًا في العمل على الجملة، وقد حصل هنا لأحد الفعلين فليكن هو الأولى.
والثاني: أن إعمال الثاني يؤدي إلى محذور وهو الإضمار قبل الذكر إذا قلت: ضربني وضربت زيدًا، والإضمار قبل الذكر لا يجوز فكذلك ما أدى إليه.
والثالث: أن العرب راعت السبقية في قولهم: ثلاث من البط ذكورٌ، فقالوا
ثلاث بإسقاط التاء اعتبارًا بالبط لتقدمه، ولم يقولوا ثلاثة بالهاء اعتبارًا بالذكور لتأخره، فإذا عكسوا فقدموا الذكور على البط قالوا ثلاثة ذكور من البط بالهاء، وذلك دليل على أن الحكم للسابق، وأنه أولى به.
والرابع: أنكم أيها البصريون قد اعتبرتم السابق وأعملتموه دون الثاني في نظير مسألة النزاع، وذلك في قول الأعشى أنشده سيبويه:
* إلا علالة أو بداهة قارحٍ نهد الجزارة *
فجعلتم العامل في قارح هو المتقدم من المضافين، وكلاهما يطلبه بالإضافة وكذلك قول الفرزدق: أنشده سيبويه:
يا من رأى عارضًا أسر به
…
بين ذراعي وجبهة الأسد
فحملتموه على أن العامل في الأسد الذراعان دون ما بعده، ووجهتم ذلك بأن الأشبه أن يحذف الثاني اكتفاء بالأول، لأن الأول إذا ورد فحكمه أن يوفى حقه من اللفظ، فكذلك ينبغي في مسألتنا أن يكون الأولى يوفى حقه من اللفظ، فإن قلتم غير ذلك فقد ناقضتم. وكان الناظم مائل مع البصريين لكثرة السماع في إعمال الثاني ولذلك، والله أعلم قدمه، وهو نص مذهبه في التسهيل وشرحه.
وأهل البصرة هم النحويون الناشئون بالبصرة، ويعني بهم: سيبويه ومن أخذ هو عنهم كالخليل، ويونس، وأبي عمرو بن العلاء، ومن تبع هؤلاء في المذهب، وإن لم ينشأ بالبصرة فهو أيضًا بصري نسبةً إلى المذهب. وقد يطلق
لفظ البصريين ويراد بهم ما هو أعم من هؤلاء كأبي الأسود، وهو أول الواضعين في العربية، وعبد الرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وغيرهم. والأشهر من الإطلاقين هو الأول؛ لأن سيبويه وشيوخه هم الذين جمعوا أطراف النحو، واستولوا على أمره، وأتوا على آخره، وتكلموا مع المخالفين فإليهم ينسب، وأما من قبلهم فإنما وضعوا نتفًا وأبوابًا لا تفي بالمقصود من ضبط اللسان.
وأراد بغير البصريين أهل الكوفة، وهم النحويون الناشئون بالكوفة وأشهرهم الكسائي علي بن حمزة القارئ، ومن أخذ عنه كيحيى بن زياد الفراء، وخلف الأحمر، وهشام بن معاوية الضرير، وإسحاق البغوي، وأضرابهم، وكذلك من تبع مذهبهم وطريقتهم وإن لم ينشأ بالكوفة فهو كوفي؛ نسبة إلى المذهب. وقد يطلق اسم الكوفيين أيضًا على ما هو أعم من هذا فيدخل تحته من كان قبل الكسائي كأبي جعفر الرؤاسي، ومعاذ بن مسلم الهراء، وأبي مسلم مؤدب عبد الملك بن مروان، والأشهر من الإطلاقين هو الأول؛ لأن الكسائي وأصحابه هم الذين مهدوا العلم، وبثوا حكمته وناظروا المخالفين، نظير الخليل
وسيبويه، ومن والاهما. وإنما فسرت الغير الذي ذكر الناظم بأهل الكوفة فقط مع أن النحويين ليسوا بمنحصرين في هاتين الفقرتين؛ لأن هذا المذهب عنهم نقل، وأيضًا فيرجع غيرهم إليهم غالبًا؛ لأنهم الذين تجردوا لضبط كلام العرب من بين سائر الناس فهم المنفردون فيه بالتقدم.
وقوله: "ذا أسرة" أسرة الرجل: رهطه وعترته التي يشتد بها، ويقوى وأصل الأسر الشد، وكأن الناظم قصد بالغير هنا واحدًا من الكوفيين ثم جعله ذا أسرة وأتباع، فلا يكون واحد هنا إلا الكسائي، وتتبعه أسرته، لكن يقال: فهلا اقتصر على قوله: "واختار عكسًا غيرهم" ولم يزد لأنه إذ ذاك معلوم أن يريد الكوفيين؛ إذ الغيرة لا يتعين لواحد دون أكثر، بل يطلق على الجميع، فلأي فائدة أتى بقوله:"ذا أسرة". فالجواب: أن لفظ الغير لا يعين واحدًا من جماعة لصحة إطلاقه على كل واحد منهما، فلو اقتصر عليه، لاحتمل أن يكون الغير واحدًا من الكوفيين أو اثنين أو أكثر، كما يحتمل أن يريد جميعهم، فجعل الغير لواحدٍ وأضاف إليه أهل مذهبه؛ ليعين أن أهل الكوفة جميعًا قائلون بذلك لا يختص به واحدٌ منهم ولا بعضٌ، و"ذا أسرة" منصوب على الحال من غيرهم، أي حالة كون الغير ذا أسرة. والله أعلم.
وأعمل المهمل في ضمير ما
…
تنازعاه والتزم ما التزما
كيحسنان ويسيء ابناكا
…
وقد بغى واعتديا عبداكا
لما بين أن العمل في المتنازع فيه لا يكون إلا لواحد من العاملين أخذ الآن يبين حكم المهمل إذا أعمل الآخر، والمهمل: هو الذي لم يعمل في الاسم الآخر المتنازع فيه، فيريد أن المهمل يعمل في ضمير الاسم الذي تنازعه العاملان، فطلبا العمل فيه، فيحصل له ما طلبه على الجملة كان المهمل هو الأول أو الثاني، وأتى هنا بمثالين أحدهما لإهمال الأول وهو قوله:"كيحسنان ويسيء ابناك" فابناك هو المتنازع فيه، وقد أعمل فيه الثاني، فبقي الأول مهملًا فعمل في ضميره، وهو
الألف في يحسنان، والثاني لإهمال الثاني وهو قوله:"وقد بغي واعتديا عبداك""فعبداك" متنازع فيه، والمعمل فيه هو الأول، فبقي الثاني مهملًا، فعمل في ضميره وهو الألف في (اعتديا).
وفي هذا التمثيل قيد وتنكيت. أما القيد فهو أنه لما قال: "واعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه" حصلت العبارة مطلقة يظهر منها التزام إعمال المهمل كان طالبًا للضمير بالنصب أو الرفع، وليس الحكم كذلك بل فيه تفصيل ونظر سيأتي ذكره، فقيد الكلام بما إذا كان المهمل طالبًا له بالرفع؛ إذ لا بد فيه من الإعمال في الضمير؛ لئلا يبقى الفعل دون فاعل. وأما التنكيت فإنه حتم بإعمال المهمل في الضمير وأن ذلك مقول ومعمول به فأشعر بعدم ارتضائه لمذهبي الكسائي والفراء؛ فإن الكسائي يقول: إذا أهمل الأول وكان طالبًا للمتنازع فيه بالرفع فإنه لا يعمل في ضميره بل يهمل بإطلاق، فلا يقدر فيه شيء، ويكون فارغًا من مرفوعٍ؛ إذ هو مراد في المعنى فلا محذور في حذفه من اللفظ، ولأن السماع قد جاء به، فقد حكى سيبويه: ضربني وضربت قومك، وقال علقمة بن عبدة:
تعفق بالأرطى لها وأرادها
…
رجال فبذت نبلهم وكليب
فلو كان فيه ضمير لقال: ضربوني وضربت قومك، وتعفقوا بالأرطى، وهذا لا دلالة فيه؛ أما أولًا: فإن كل فعل لا بد له من فاعل مظهر أو مضمر؛ إذ لم يوجد في كلام العرب دونه، ووقع النزاع في هذا الموضع وليس بنص فيما قال؛ لاحتمال الإضمار، وأضمر ضمير المفرد اعتبارًا بما يصلح في الموضع، كأنه قال ضربني من ثم، وتعفق من أراد صيدها، وقد يوجد مثل هذا في كلامهم، مع
أن مثل قولك: ضربني وضربت قومك قليلٌ قبيح، قال سيبويه:"وإن قال: ضربني وضربت قومك، فجائزٌ وهو قبيحٌ أن تجعل اللفظ كالواحد كما تقول: هو أجمل الفتيان وأحسنه، وأكرم بنيه وأنبله"، وقال:"ولا بد من هذا- يعني من الإضمار- لأنه لا يخلو الفعل من مضمر أو مظهر مرفوع من الأسماء، كأنك قلت إذا مثلته: ضربني من ثم وضربت قومك"، ثم بين أن المطابقة هي الوجه الأجود وأن تركها رديء في القياس. وأما الفراء فإنه يمنع المسألة، فلا يجيز أن تقول: يحسنان ويسيء ابناك، ولا: ضرباني وضربت الزيدين؛ للزوم الإضمار قبل الذكر، وهم لا يجيزونه إلا ندورًا، وقد تقدم أن الإضمار قبل الذكر موجود في كلام العرب في باب نعم وبئس، وذلك نحو: نعم رجلًا زيدٌ، وبئس غلامًا عمرو، ففيها ضمير لم يتقدم له مفسر، وذلك يظهر في التثنية والجمع عند من قال: نعما رجلين، ونعموا رجالًا، وفي باب ضمير الأمر والشأن نحو:{قل هو الله أحد} ، {فإنها لا تعمي الأبصار} وفي باب رب نحو: ربه رجلًا، وفي باب الاستثناء نحو: قاموا خلا زيدًا، وعدا عمرًا، ولا يكون زيدًا، وقام القوم ليس زيدًا، وما أشبه ذلك مما يكون مفسرًا لضمير فيه متأخرًا، فكذلك هذا الباب فلا نكير فيه. وإذا ثبت هذا فلا موجب للمنع إذا لم يكن المانع إلا الإضمار قبل الذكر؛ لأنه إذا كان موجودًا فهذا مثله.
وأما قوله: "والتزم ما التزما" فإن ظاهره أنه فضل غير محتاج إليه؛ إذ لا يشك أحد في أنه يلتزم في القياس أو في السماع المحكي ما التزمته العرب، وعلى هذا مبنى النظر في العربية، فلقائل أن يقول لا يحتاج إلى هذا
التنبيه. والجواب أن يقال: بل تحته فائدتان، إحداهما: التنبيه على وجه الرد على الكسائي، والفراء. أما وجه الرد على الكسائي: فإن العرب التزمت أن تأتي لكل فعل بفاعله، ألا تحذفه حذفًا وإن دل عليه الدليل، وهي في التزام هذا الحكم بخلاف المبتدأ إذ يجوز حذفه للدليل حسب ما تقدم، فكأنه يقول: إذا كنا قد علمنا بالاستقراء التزام العرب لذكر فاعل الفعل وألا تحذفه إلا مع تغيير الفعل والنيابة عن الفاعل، فلا بد لنا من التزام ذلك، فإذا لم يظهر لنا هنا عيانًا فهو مضمر، بلا بد لئلا نخرج عن قصد العرب، والجري على مجراها، فإذا قالوا: ضربني وضربت قومك، فهو على إضمار الفاعل إضمار المفرد، وقد وجد مثله- أعني إضمار المفرد كما تقدم- فلنقل به ولنلتزمه. والدليل على ذلك ظهور الضمير في مشهور الكلام نحو: ضرباني وضربت الزيدين، وضربوني وضربت الرجال. وهذا ظاهر من قوله:"والتزم ما التزما".
وأما وجه الرد على الفراء فإنه حكى في التسهيل وشرحه عنه أنه يقول: إضمار الفاعل قبل الذكر ممنوع، فكل مسألة يلفى فيها ذلك ممنوعة، لكن يصححها أن يؤخر الضمير فيفصل ويؤتي به بعد الظاهر، فتقول: ضربني وضربت قومك هم. وهذا الذي حكى عن الفراء لم أجده منصوصًا عنه هكذا،
ولكن النحويين يحكون عنه المنع بإطلاق من غير ذكر تصحيح، فإن صح ما حكاه عنه فوجه الرد عليه من هذا الكلام أن العرب التزمت في الفاعل إذا كان ضميرًا الاتصال ما لم يعرض مانع منه، والموانع منه محصورة مذكورة، وهذا ليس منها. وإذا لم يكن منها فلا بد من الرجوع إلى الأصل من الاتصال وإلا قد خرجنا عن التزام ما التزمته العرب. فإن قال: فهذا أيضًا موجب؛ إذ يلزم من اتصال الضمير محذور، وهو الإضمار قبل الذكر. قيل: ليس الإضمار قبل الذكر بمحذور؛ لما تقدم فلا يخرج الضمير عن أصله من الاتصال لغير موجب ثابت. فهذا معنى التنكيت على الكسائي والفراء بقوله: "والتزم ما التزما".
والثانية: التنبيه على التزام المطابقة بين الضمير والظاهر، فإن كان الظاهر مفردًا كان الضمير كذلك، وإن كان مثنى فالضمير مثنى كما مثَّله بقوله:"كيحسنان ويسيء ابناكا" البيتين، أو كان الاسم مجموعًا فالضمير كذلك إعمالًا للمطابقة اللازمة في مثل هذا، ويكون في ذلك تنبيه على ما نبه عليه سيبويه من أن: ضربوني وضربت قومك هو الوجه، والأحسن، وأن إفراد الضمير رديء في القياس وألزم على القياس فيه أن يقال: أصحابك جلس، تضمر شيئًا يكون في اللفظ واحدًا، قال:"فقولهم هو أجمل الفتيان وأنبله لا يقاس عليه ألا ترى أنك لو قلت وأنت تريد الجماعة: هذا غلام القوم وصاحبه لم يحسن"
لكنه قال أول المسالة: "فإن قلت: ضربني وضربت قومك فجائز، وهو قبيح" فاختلف الناس في تأويله بناء على أن مثل هذا يقاس أو لا يقاس، فظاهر السيرافي، وابن خروف أنه يجوز قياسًا، ونقل عن الشلويين أنه لا يقاس، وإنما قال سيبويه:"فجائز"، يعني حيث سمع على حكم التأويل بما ذكر، والناظم مال إليه، ورأى أن الذي التزمه العرب المطابقة فهي التي تلتزم ههنا فلا يقال: ضربني وضربت قومك، ولا ضربني وضربته قومك، ولا ضربت وضربني قومك إلا بالسماع خلافًا لمن يجيز مثل ذلك؛ إذ لم يكثر كثرةً يقاس عليها، ولا ساعده نظرٌ يعتمد عليه فلا ينبغي القول به. فهذا أيضًا مما نبه عليه كلام الناظم، فكأنه قال: إن العرب قد التزمت المطابقة بين الضمائر وما عادت عليه فيجب أن يلتزم ذلك أيضًا هنا، ولا يعدل عنه، وبهذا فسر ابنه كلامه في شرحه. وهذه القاعدة التي شرحها ومثلها بالمرفوع جارية في الضمير غير المرفوع، فتقول إذا أعملت الأول: ضربني وضربتهم قومك، فتعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه وهو القوم، لكن هذا يطرد مع إعمال الأول، وأما إعمال الثاني فلا تعمل المهمل وهو الأول في ضمير ما تنازعاه بل تحذفه رأسًا ما لم يكن خبرًا، فتقول: ضربت وضربني زيد، ولا تقول: ضربته وضربني زيدٌ؛ لما يلزم عليه من الإضمار قبل الذكر مع خفة حذف الضمير والاستغناء عنه، لأنه فضلة فاستسهل بخلاف المرفوع والمنصوب الذي هو خبر، فلما كان إعمال المهمل مع
غير المرفوع لا يطرد إذا أعمل الثاني أخرجه بأن قال فيه:
ولا تجيء مع أول قد أهملا
…
بمضمرٍ لغير رفع أوهلا
بل حذفه الزم إن يكن غير خبر
…
وأخرنه إن يكن هو الخبر
يريد أن العامل الأول إذا أهمل فلا يجوز أن تأتي بضمير الاسم المتنازع فيه إذا كان ضمير نصبٍ، وليس بخبر في الأصل، بل يلزم حذفه، فتقول: ضربت وضربني زيدٌ، ولا تقول: ضربته وضربني زيدٌ، وكذلك تقول: رضيت ورضي عني زيدٌ، ولا تقول: رضيت عنه ورضي عني زيدٌ؛ إذ لا حاجة إلى الإتيان به مع أنه إضمار قبل الذكر، فلا يرتكب إلا لموجب قوي. وما قاله من لزوم الحذف هو كلام العرب، ففي القرآن:{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} ولم يقل: يستفتونك فيها، وقال:{فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه} ولم يقل: هاؤم إليه، وقال:{إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} ولم يقل: تعالوا إليه. ومن ذلك في الشعر قول الفرزدق:
ولكن نصفًا لو سببت وسبني
…
بنو عبد شمسٍ من مناف وهاشم
وقال رجلٌ من باهلة:
ولقد أرى تغنى بها سيفانة
…
تصبي الحليم ومثلها أصباه
وهو كثير. وما ذهب إليه هنا هو رأي الجماعة، وقد خالف هذا في التسهيل
فأجاز الإتيان بالضمير، غير المرفوع وهو غير خبر، واستشهد على ذلك بأبيات ذكرها منها قوله:
إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحبٌ
…
جهارًا فكن في الغيب أحفظ للعهد
ومنها قول الآخر:
وفيت لها وأخلفت أم جندب
…
فزاد غرام القلب إخلافها الوعدا
ومثل هذا قليل لا ينبني عليه قياس، فالصواب ما أختاره هنا.
واعلم أنه لما قال: "ولا تجيء مع أول قد أهملا بمضمرٍ لغير رفع" فإنما أراد بمضمر عائد على الاسم المتنازع فيه لا مطلقًا كما تقدم، وعند ذلك تقول على مذهبه: ضربني وضربت زيدًا، فتأتي بضمير المتكلم، وهو فضلة؛ لأنه ليس ضمير المتنازع فيه، وكذلك تقول: مر بي ومررت بزيد، وفي التثنية: مرّا بي ومررت بالزيدين، وفي الجميع: مروا بي ومررت بالزيدين، فتأتي بالضمير المجرور؛ لأنه خارج عن معنى التنازع؛ ولذلك قالوا: لا يتنازع فعلا المتكلم، ولا فعلا المخاطب، ولا فعلان أحدهما للمتكلم، والآخر للمخاطب إلا في فضلة لا يكون لمتكلم ولا لمخاطب،
فيجوز على هذا أن تأتي بفضلة الأول المهمل؛ إذ لا يلقى فيه أن يعود الضمير على ما بعده لفظًا ومرتبة، وهو المانع من الإتيان بالفضلة. وإنما بنيت هذا، وإن كان معلومًا مما تقدم؛ لأن شيخنا الأستاذ أبا عبد الله بن الفخار- رحمة الله عليه- بينه كذلك ثم قال: وإنما احتجت إلى هذا البيان؛ لأن هذا البسط غاب عن بعض المقرئين- يريد من مقرئ سبته- وقد سماه لنا رحمه الله.
ولما قال الناظم: ولا تجيء بكذا دل كلامه على أنك تجيء به مع الثاني، وذلك صحيح، فإنك تقول: ضربني وضربته زيد، ومر بي ومررت به خالد، ومن ذلك قول ابن أبي ربيعة:
إذا هي لم تستك بعود أراكة
…
تنخل فاستاكت به عود إسحل
وقول أخي الشماخ واسمه جزء:
أتاني فلم أسرر به حين جاءني
…
حديث بأعلى القنتين عجيب
وهو كثير، ثم يبقى النظر في وجوب ذلك أو جوازه، والجمهور على أنه لازم فلا يقال: ضربني وضربت زيد، إلا أن يأتي نادرًا نحو قول الشاعر:
بعكاظ يعشي الناظرين
…
إذا هم لمحوا شعاعه
وأنشد ابن مالك:
يرنو إلي وأرنو من أصادقه
…
في النائبات فأرضيه ويرضيني
وذهب السيرافي إلى جواز ذلك اعتبارًا بأنه فضلة، ورجح الجواز بقوله تعالى:
{والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات} أي والحافظاتها، والذاكراته، فكما يجوز إذا تأخر عن المتنازع فيه كذلك يجوز إذا تقدم. وأيضًا ما تقدم في الشعر، فإذا ثبت هذا فما الذي ذهب إليه الناظم هنا، وما الذي يعطيه هذا الكلام؟ . والقول في ذلك أن المسألة تجري على مسألة أصولية؛ وذلك أنهم لما اختلفوا في الصلاة على الميت أهي فرض أم لا؟ ذهب ابن عبد الحكم إلى أنها فرض بدليل الآية:{ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا} : لأن الآية لما نهت عن الصلاة على الكفار أعطى ذلك النهي وجوب الصلاة على غيرهم، وهم المؤمنون إما من جهة المفهوم، وإما من جهة أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وضعف الشيوخ هذا الاستدلال، ورأوا أن الآية إنما فيها عند اعتبار الوجهين الإذن المطلق في الصلاة على المؤمنين. فإذا نزلنا كلام الناظم على الطريقتين ظهر أنه محتمل للمذهبين؛ فإن قوله:"ولا تجيء مع أول" على طريقة ابن عبد الحكم أعطى الأمر بالمجيء به مع الثاني. وهذه طريقة الجمهور، وعلى طريقة غيره يعطي الإذن في المجيء بالضمير من غير انحتام لاسيما إن ضممنا إلى ذلك قوله:"حذفه الزم" فإنه يفيد أن حذفه مع الثاني لا يلزم بل يجوز فيجيء من ذلك مذهب التسهيل، وهذا هو أولى الاحتمالين، وقد تقدم وجهه، ورجحه أيضًا بما قدر من جواز عود الضمير على ما بعده لفظًا ومرتبة في مسألة:
زان نوره الشجر؛ إذ احتج عليه في الشرح بما تقف عليه هناك.
(أوهل) معناه معنى أهل لكذا، أي جعل له أهلًا، يقال: آهلك الله للخير، وأهلك للخير أي جعلك له أهلًا، فمعنى الكلام: لا تجيء بمضمر أهل لغير الرفع فجعل منصوبًا أو مجرورًا، وقوله:"بل حذفه الزم" تأكيد لما تقدم، وضمير (حذفه) عائد على مضمر المذكور، وفيه توطئة لما يذكره من قوله:(إن يكمن غير خبر)، وأراد أنه إنما يلزم حذفه مع الأول إذا لم يكن مرفوعًا بشرط أن يكون غير خبر، فإنه إذا لم يكن خبرًا، فهو فضلة مستغنًى عنها كما تقدم، وإذا كان خبرًا فلا يحذف بل يؤتى به لكنه يؤخر لقوله:"وأخرنه إن يكن هو الخبر"، وتأخير إنما يكون عن مفسره، ومثال ذلك- فيما إذا لم يكن خبرًا- قولك: ضربت وضربني زيدٌ، وكذلك إذا كان الفعلان من باب أعطى فإنك تقول: أعطيت وأعطاني زيدٌ درهمًا، ولا تقول: أعطيته إياه، ولا أعطيته وأعطاني زيد درهمًا، وتقول: أعطاني وأعطيته إياه زيدٌ درهمًا، فتضمر للثاني ما يطلبه ولا تضمر للأول شيئًا؛ لأن ضمير المتنازع فيه مع الأول فضلة مستغنًى عنها، ومثال ذلك فيما إذا كان خبرًا ظنني وظننت زيدًا قائمًا إياه، فإياه هو الضمير المنصوب بظنني، وهو في الأصل خبر مبتدأ؛ لأن ظننته تنصب المبتدأ والخبر، وكان الأصل أن يقال: ظنني إياه وظننت زيدًا قائمًا، إلا أنه أخر؛ إذ لا يلزم من تأخيره محذور، ويؤمن بتأخيره المحذور، فإن فصل الثاني من مفعولي
ظننت جائزٌ، وأنت لو أبقيته متقدمًا لزم الإضمار قبل الذكر من غير ضرورة، وما ذهب إليه الناظم هو أحد المذاهب الثلاثة. وزعم ابنه أنه مذهب البصريين. والمذهب الثاني أنك تحذفه اختصارًا فتقول: ظنني وظننت زيدًا قائمًا؛ لأن الحذف اختصارًا في الخبر جائز، وهذا مثله لأن خبر الفعل الثاني دال عليه وهو رأي منقول عن الكوفيين، وإليه ذهب ابن خروف، والشلوبين وغيرهما. وهو ظاهر في القياس من غير احتياج إلى فصل بين العامل والمعمول بجملة أجنبية منهما. والمذهب الثالث: ألا يحذف ولا يؤخر بل يبقى ثابتًا في موضعه، فتقول: ظنني إياه وظننت زيدًا قائمًا؛ لأنه في الكلام عمدة، وإن كان بلفظ الفضلة، فلا يجوز حذفه ولا يلزم تأخيره اعتبارًا بالضمير المرفوع، فكما يجوز إضمار المرفوع قبل الذكر من حيث هو عمدة، فكذلك ما كان عمدة، وإن انتصب، وأجاز هذا ابن خروف أيضًا. وقد حكى ابن الناظم الإجماع على منع تقديمه. وفي هذا النقل ما فيه فقد ثبت الخلاف في المسألة.
واعلم أن في كلامه بعد هذا التقدير نظرًا من وجهين: أحدهما: أنه بنى في هذا الفصل على أن المهمل عامل في ضمير المتنازع فيه على التفصيل المتقدم لا في ظاهر، وذلك صحيح فيما كان المتنازع فيه واحدًا، فإن المهمل إنما يعمل أو يطلب العمل في ضميره، أما إذا كان المتنازع فيه أكثر من واحد فليس طلب المهمل لضمير المتنازع فيه بمطرد، بل قد يكون كذلك، وقد لا يكون فإذا
قلت: أعطيت وأعطاني درهمًا زيد درهمًا، فكان جائزًا على وجه، وممتنعًا على وجه آخر، فإن اعتقدت أن الدرهم الأول هو الثاني، فهنا لا يؤتى بالدرهم إلا مضمرًا؛ لأن إظهاره يعطي الغيرية، ويتنزل على هذا كلامه. وإن كان الدرهم الأول غير الثاني، فالأصل الإظهار لأن الإضمار يفهم اتحادهما، وقد فرضنا تعددهما، لكن أجاز الزجاجي وغيره الإضمار فتقول: أعطيت وأعطانيه، أو وأعطاني إياه، زيدًا درهمًا؛ إذ قد يعود الضمير على نظير الأول، لأن الأول يدل عليه؛ ولذلك يقال إنه عائد عليه، وهو من كلام العرب إلا ترى أنك تقول: عندي درهم ونصفه، وفي التنزيل:{وما يعمر من معمرٍ ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} وأنشدوا على ذلك:
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم
…
ونحن خلعنا قيده فهو سارب
وقال النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
…
إلى حمامتنا ونصفه فقد
فجميع هذا لا يعود فيه الضمير على الأول حقيقة، وإنما يعود عليه من حيث
هو نظير لما عاد عليه ومفسر له؛ فلذلك كان الإظهار الأصل، وعند ذلك لم يكن المهمل عاملًا في ضمير المتنازع فيه، وكذلك إذا قلت: ظننت وظنني إياه زيدًا قائمًا، فالإضمار هنا على خلاف الأصل، والأصل أن يقال: ظننت وظنني قائمًا زيدًا قائمًا؛ لأن قائمًا الأول خلاف الثاني إلا أن اللفظ واحد فجاز الإضمار اعتبارًا بالصورة، فالحاصل أن قوله:"واعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه" ليس على إطلاقه في كل موضع، وكذلك ما بني عليه من مسائل الضمير، ومثل ذلك لو قلت: ظنني وظننت قائمًا زيد قائمًا، وإضماره على خلاف الأصل، وكذلك تقول: أعطاني وأعطيته درهمًا زيدٌ درهمًا. هذا هو الأصل، ويجوز الإضمار فتقول: أعطاني وأعطيته إياه زيدٌ درهمًا. هذا إن كان الدرهم الأول غير الثاني، فإن كان إياه فالإضمار خاصة. وإذا تقرر هذا أشكل أيضًا تأخيره للضمير إذا كان خبرًا، فإنه في باب ظن مغاير لمفسره فالأصل إذًا أن يكون في موضعه ظاهرًا، فتقول: ظنني قائمًا وظننت زيدًا قائمًا، فالتزامه الإتيان بالضمير وتأخيره من غير حاجة في غاية الإشكال.
والوجه الثاني: أن هذا البيت الذي فرغ من شرحه يوهم أن ضمير المتنازع فيه إذا كان مفعولًا في باب ظن يجب حذفه إذا كان المفعول الأول، ويجب تأخيره إذا كان المفعول الثاني، وفيما قال نظر. قال ابنه في الشرح:"ليس كذلك بل لا فرق بين المفعولين في امتناع الحذف، ولزوم التأخير" قال: "ولو قال بدله:
واحذفه إن لم يك مفعول حسب
…
وإن يكن ذاك فأخره تصب
لخلص من ذلك التوهم. وما اعترض به يظهر لزومه، لأنه قال:"بل حذفه الزم إن يكن غير خبر" فدخل له المبتدأ في وجوب الحذف، وهو المفعول الأول في ظن، ولا محالة أن الأول كالثاني، فإن وجب التأخير في الثاني ظهر وجوبه في الأول فتقول، ظننت منطلقة وظننتني منطلقًا هندٌ إياها، وهو تمثيل ابن الناظم، فإياها مفعول ظننت الأول. وهذه المسألة لا أعلم من نبه عليها، وإنما يذكرها الناس في الغالب مع الخبر وحده.
والجواب عن الأول: أنك إذا قلت: أعطيته وأعطانيه زيدًا درهمًا، فإن كان الدرهم الأول هو الثاني فالضمير كما قال، لأن العاملين تنازعا معمولًا واحدًا، وهو الدرهم. وإن لم يكن إياه فللمسألة نظران، أحدهما: أن نعتقد المباينة تحقيقًا، فلا بد في هذا الموضع من الإظهار، إذ لم يتنازع العاملان معًا الدرهم المتأخر، فتقول إذًا: أعطيت درهمًا وأعطاني زيدٌ درهمًا، ومثله إذا قلت: أعطاني وأعطيته درهمًا وزيدٌ درهمًا؛ إذ لا فرق بين ذلك وبين أن تعوّض من الدرهم الأول ثوبًا، فتقول: أعطيت ثوبًا وأعطاني زيدٌ درهمًا، وأعطاني وأعطيته ثوبًا زيدٌ درهمًا، فيصير التنازع في زيد وحده لا في الدرهم، وهو إنما قال:"واعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه".
والثاني: أن لا تعتقد المباينة بل يعد الثاني كأنه الأول لما كان مشاركًا له في اللفظ والمعنى الاشتقاقي، فهو بهذا اللحظ متنازع فيه، فلا بد عند هذا التقدير من الإتيان بالضمير، فتقول: أعطيت وأعطانيه زيدًا درهمًا، وإن تباينا في نفس الأمر؛ لأنهما في حكم الواحد اعتقادًا مجازيًا، فكلامه منزل، بحسب الاعتقاد
على حالين كل واحد منهما يطلب حكمًا لفظيًا لازمًا، وإذا كان كذلك لم يبق عليه إشكالٌ ولزم ما قال من تأخير ذلك الضمير؛ لأنه ضمير اسم متنازعٍ فيه. وذلك الإشكال هو الذي قام مع ابن الطراوة، فرد على المتكلمين في المسألة فتأمله في كتابه الموضوع على الكتاب. وأما اعتراض ابن الناظم فقد يجاب عنه بأمرين:
أحدهما: أن يكون اقتصر على ذكر الخبر ليلحق به المبتدأ؛ إذ هما سواء في كونهما عمدتين كالفاعل فكان سكوته عنه ليس لأنه داخل تحت قوله: "بل حذفه الزم" بل لأنه مفهوم حكمه من الخبر. والثاني: أن يكون قد فرق بينهما لمعنى مفرق، وذلك أن الخبر لتأخيره مسوغٌ، وهو جواز انفصاله لغير موجب، فكان في عدم حذفه إعمالٌ لمعنى كونه عمدةً، وفي تأخيره احترازٌ من محذور الإضمار قبل الذكر فأوجب تأخيره مثبتًا لذلك، وأما المبتدأ فأنت إما أن تحذفه فتهمل معنى كونه عمدةً، وذلك مكروه، وإما أن تثبته في موضعه فتدخل في مكروه الإضمار قبل الذكر، وإما أن تثبته مؤخرًا فتفصله من عامله لغير موجب لفظي، وذلك أيضًا مكروه، لكن هذا الأخير قد منع مثله، وهو مذهب الفراء في إجازته: ضربني وضربت قومك هم، فلو أجاز هنا تأخير المبتدأ
لناقض أصله؛ إذ كلاهما عمدة يجب وصلها بعاملها، فكما لم يؤخر الفاعل لا يؤخر ما هو في معناه وفي حكمه. وأما إثباته في موضعه فاجتمع فيه مكروهان: الإضمار قبل الذكر، وبقاؤه مع أنه بلفظ الفضلة، فصار: ظننته مثل ضربته. وإذا حذف لم يلف فيه إلا مكروه واحد، وهو حذف العمدة، إلا أن هذا المكروه مغتفر؛ لأن الحذف اختصاري للدلالة عليه، ومن شأنه أن يحذف اختصارًا، بخلاف الفاعل ففارق الفاعل من هذا الوجه، فكان حذفه أولى الوجوه الثلاثة وأشبهها، فيمكن أن يكون الناظم ارتكب هذا مذهبًا، اعتمادًا على وجوب الحمل على أحسن الأقبحين، وهي قاعدة يشهد لها كلام العرب مع أن المسألة مغفلة الذكر، مجهولة الحكم، لم أر من تكلم في طرف منها، إلا ما يعطيه ظاهر هذا الكلام، وهي بعد في محل النظر، فعلى الناظر فيها الاجتهاد. وهذا مبلغ ما ظهر لي والله أعلم.
وقوله: "بل حذفه الزم إن يكن غير خبر" وقوله: "واخزنه إن يكن هو الخبر". جاء بالمضارع فيه بعد إن حذف جوابها، وهو مختص بالشعر، والقياس: إن كان غير خبر، وإن كان هو الخبر، ولكنه نحو ما أنشد أبو عبيدة وغيره لزهير بن مسعود:
فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت
…
فطعنة لا غس ولا بمغمر
وكذلك قوله بعد: "وأظهر إن يكن ضميرٌ خبرًا" جاء على الشذوذ أيضًا، وهو في هذا غير مضطر على طريقته؛ إذ كان يمكن أن يقول:"وأظهر إن كان ضميرٌ خبرًا".
واظهر أن يكن ضميرٌ خبرا
…
لغير ما يطابق المفسرا
نحو: أظن ويظناني أخا
…
زيدًا وعمرًا أخوين في الرخا
تكلم قبل هذا على ما إذا كان الضمير مطابقًا للمفسر إفرادًا وتثنيةً وجمعًا، وأوجب فيه إذا كان خبرًا التأخير فقط، وذلك مع إعمال الثاني، ثم بين هنا الحكم فيما إذا لم يكن الضمير مطابقًا للمفسر، فيريد أن الضمير إذا كان خبرًا، المبتدأ لا يطابق مفسره في إفراد ولا تثنية ولا جمع وجب أن يؤتي بالظاهر عوض ذلك الضمير، ولا يؤتى بالضمير، ومثاله: ظننت وظناني أخًا الزيدين أخوين، فها هنا لو أتيت بالضمير عوض الظاهر الذي هو الأخ، فقلت: ظننت وظناني إياه الزيدين أخوين، أو: ظننت وظنانيه الزيدين أخوين لكان الضمير عائدًا على الأخوين، ولا يعود ضمير المفرد على المثنى، فإن رمت إصلاح هذا بأن تأتي بالضمير على مطابقة المفسر وهو مثنى، فقلت: ظننت وظناني إياهما، أو ظنانيهما الزيدين أخوين، لزم الإخبار بالمثنى الذي هو هما أو إياهما عن المفرد الذي هو ضمير المتكلم في (ظناني)، وذلك فاسد، فكان الواجب الإظهار. هذا في إعمال الأول، ومنه مثال الناظم. وتقول في إعمال الثاني في العكس: ظناني شاخصًا وظننت الزيدين شاخصين، لأنك لو أضمرت شاخصًا فأخرته لكان يلقى فيه ما تقدم من عدم المطابقة للمفسر أو للمبتدأ إذا قلت: ظناني وظننت الزيدين شاخصين إياه أو إياهما، وكذلك ينبغي أن يكون الحكم فيما إذا اختلف الضمير والمفسر بالإفراد والجمع، أو بالتثنية والجمع، فتقول: ظننت وظنوني شاخصًا الزيدين شاخصين، وظنوني شاخصًا وظننت الزيدين شاخصين، وتقول: ظننا وظنونا شاخصين الزيدين شاخصين، وظنونا شاخصين وظننا الزيدين شاخصين، ولا يجوز الإتيان بالضمير؛ لما تقدم، وكذلك ظننت وظنتني شاخصًا هندًا شاخصًا، فتظهر شاخصًا، ولا تضمره. فتقول: ظننت
وظَنَّتْني إيّاها ولا إيّاه هندًا شاخصًا؛ للزوم عدم المطابقة للمبتدأ أو للمفسِّر. وهذه الأشياء إذا حققتها ليست من باب الإعمال، وإنَّما هي شبيهةٌ بمسائل الإعمال؛ إذ لم يتنازع العاملان معمولًا واحدًا.
فإن قيل: هذه المسألة غير مُخْلَّصة من أجل أنّه ذكر حكم عدمِ المطابقة في باب ظن، ولم يذكرها في باب أعطى، بل قال:"وأظهر إنْ يكن ضميرٌ خبرًا" لكذا، فاقتضى أنّ ما ليس بخبر يُضمَر. وليس كذلك بل الحكم واحد من عدم المطابقة، فتقول: أعطيت وأعطياني درهمًا الزيدين درهمين، وأعطيتُ وأعطوني درهمًا الزيدين دراهم، وما أشبه ذلك من المسائل المفروضة في التثنية والجمع والتأنيث، فكان تركه لذلك نقصًا مُوهِمًا.
فالجواب أن يقال: لعله ترك ذلك لفهم حكمه من حكم ظننت المذكورة، إذ المعنى الموجب للإظهار واحدٌ في الموضعين. والله أعلم.