الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفعول فيه وهو المسمّى ظرفًا
هذا هو النوع الثالث والرابع من المنصوبات التي ينصبها كل فعل كان متعدّيًا أو غير متعدّ، وهما ظرف الزمان والمكان؛ وإنما جمعهما في باب واحد لاتحاد أحكامها في الأكثر، وشرع أولًا في التعريف بالظرف على الجملة فقال:
الظرف وقت أو مكان ضُمِّنا
…
في باطِّراد كهُنا أمكث أزمُنًا
يعني أنّ الظرف المصطلح عليه عند النحويين: ما كان اسمًا لوقت -أي لزمان- أو اسمًا لمكان، فلا يكون من جنس غير جنسهما إلّا إذا ضُمِّن معناهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فيريد ما كان اسم زمان أو مكان بالوضع الأول أو بوضع ثانٍ؛ إذ ليس في لفظه ما يدل على اختصاصه بأحدهما. وهذا هو الجنس الأقرب. وقوله:"ضُمِّنا في"(في) هنا اسم للحرف مفعول ثانٍ لضُمِّنا، والألف في ضمنا يحتمل أن تكون ألف الضمير، وإن تقدّمت (أو)؛ إذ المراد الأمران، وإنّما جاءت للتفصيل كقول الله تعالى:{إن يكُن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما} ويحتمل أن يكون وصلًا، والضمير مستتر مفرد عائد على أحد الأمرين اعتبارًا بلفظ (أو)، ويريد أنّ من خاصيّة الظرف أن يكون مُضمَّنًا معنى "في"،
فيخرج عن ذلك قولك: أعجبني يومُ الجمعة، وأعجبني مكان زيدٍ؛ فإن اليوم والمكان ههنا ليسا بظرفين اصطلاحًا، وإن كان يومُ اسم زمان، ومكانُ اسمَ مكان؛ لأنهما يتضمنا معنى "في". فإذا تضمناه استحقّا اسم الظرفية، وكذلك كل ظرف استُعمِل استعمال الأسماء، وسُلِّط عليه من العوامل ما يتسلّطُ على سائر الأسماء، وسُلّط عليه من العوامل ما يتسلّط على سائر الأسماء من الرفع والنصب ولجر على غير معنى (في)؛ ذلك حيث لا يكون بينه وبين غيره من الأسماء فرق، فإذا قلت: جئت في شهر كذا إلى موضوع كذا، وأحببت عام كذا، وكرهت موضع كذا، وقعدت عن يمينك، وعن شمالك، وعرفت أن يوم الجمعة مبارك، وأن وسط الدار مُتَّسع، وما أشبه ذلك، فليس كل هذا بظرف؛ إذ لم يتضمّن معنى "في"، فإن قلتَ: جئت شهر كذا وقعدت موضع كذا، وقعدت يمينك أو شمالك يوم الجمعة، وأقعدتُكَ وسط الدار كانت هذه ظروفًا لتضَمُّنها معنى في. وقوله:"باطراد" فصل ثانٍ، وهو متعلّق بضُمِّنا يعني أنّ من شأن هذا التضمين المتعلّق بالظرف أنْ يكون مُطَّردًا في كل موضع لا يختصُّ به مكان دون آخر كيومٍ وليلةٍ وخلف وأمام، فإنك تقول: صحتبك يوم الجمعة، وأكرمتك يوم الجمعة، وجلست يوم الجمعة، وأضرب زيدًا يوم الجمعة، وقدوم زيدٍ يوم الجمعة، فيجري في الكلام كلّه، فكذلك: قعدت خلفك وقمت خلفك، وزيدٌ خلفك، ونحو ذلك، فلا يُقتصرُ به على موضع دون آخر. فإذًا كل ما كان من الأسماء يُضمَّن معنى "في" لكن على غير اطراد فليس بظرف، وذلك أنّ العرب تقول: مُطِرنا السهل والجبل، وضُرِبَ زيدٌ الظهرَ والبطنَ، فهذه على معنى في؛ لأنّ المعنى: في السهل والجبل، وضرب في الظهر والبطن، لكنها ليست
بظروف؛ لأنّ تضمينها معنى في ليس بمطرد فيها لو قلت: أخصبنا السهل والجبل أو: أجدبنا السهل والجبل، أو مُطرنا القيعان والتلول، أو ضُربَ زيدٌ اليد والرجل، أو الرٍأس والجسد لم يَجُز، فلما كانت على هذا السبيل لم تستحق بذلك أن تكون ظروفًا، قال سيبويه لما تكلم عن نصب هذه المُثُل، وأنها على تقدير في:"وليس المنتصب ههنا بمنزلة الظروف، لأنك لو قلت: هو ظهره وبطنه، وأنت تعني شيئًا على ظهره لم يجز"، قال:"ولم يجيزوه -يعني حذف حرف الجر- في غير السهل والجبل والظهر والبطن كما لم يجز: دخلت عبدالله"، قال:"فجاز هذا في ذا وحده كما لم يجز حذف حرف الجر إلا في الأماكن في مثل: دخلت البيت". ومن قبل هذا القبيل أيضًا الأماكن المختصّة مع دخلت هي على إسقاط الخافض؛ إذ لو كانت منصوبة على الظرفية لم ينفرد به دخل وحده، بل كنت تقول: قعدتُ البيت، ومكثتُ السوق، كما يقال: دخلت البيت، ودخلت
السوق، وكان يقال: زيدٌ البيت، وزيد السوق، وعمرو الدار، فينتصب بمقدّر كما يفعل بالمحقق الظرفية نحو: زيد مكانَ كذا، أو زيد خلفك وأمامك؛ لأنّ كلّ ما ينتصب على الظرفية يصحُّ وقوعه خبرًا فينتصبُ بعامل مقدّر، وإلى هذا أشار سيبويه في كلامه المذكور آنفًا، قال المؤلف:"وقد غفل عن الموضع الشلوبين وجعل نصب المكان المختص بدخل عند سيبويه على الظرفية، قال: "وهذا عجب من الشلوبين مع اعتنائه بجميع متفرقات الكتاب وتبيين بعضها ببعض". وقد حكي ابن خروف عن الفراء أنّك تنصب بدخَلْتُ وذهبت وانطلقتُ جميع البلدان، تقول: ذهبت الكوفة، وانطلقت الغور، فأنفذوها في جميع البلدان؛ لأنها نواحٍ، وحكى سيبويه: ذهبت الشام، وهذه كلها -وإن اطّردت- كما قال الفراء- فاطّرادُها لا يخرجها عن كونها سماعًا، لالتزامهم ذلك مع الأفعال الثلاثة، فقد خرجت بذلك عن الاطّراد. والحاصل أنّ عدم الاطراد يكون بأمرين:
أحدهما: ألا يُستعمَل نظائر المسموع مكان المسموع وإن اتّحد العامل، كما مرّ في: مُطرنا السهل والجبل. والثاني: ألّا يعمل في المسموع كل عامل، كما مرّ في (دخلت) مع الأماكن المختصّة. ويجمع ذلك ألا يُستعمَل المتضمِّن معني (في) خبر مبتدأ، وهو الذي اعتمد سيبويه، فإذا ثبت أنّ غير المطَّرِد لا يكون ظرفًا، وأنّ هذه الأمثلة كلّها من غير المطّرد تبيّن أنّها منصوبة على إسقاط الحرف لا على الظرف، وذلك ظاهر، فلذلك قال:"باطراد". وقوله: (كهنا امكث أزمنًا) مثالان: أحدهما لظرف المكان، وهو (هنا)، والآخر لظرف الزمان، وهو (أزمنًا) جمع زمن كجبل وأجبُل. وفي هذا الحدِّ نظرٌ من أربعة أوجه:
أحدها: أنه قال: "الظرف وقت أو مكان" فجعل الظرف هنا هو نفس الزمان والمكان، وهذا، وإن كان المعنى صحيحًا، فهو في الاصطلاح النحويّ غير صحيح؛ فإنّ الظرف عند النحويين إنّما يطلق على اسم الوقت واسم المكان، لا على معنى الاسم؛ إذ لا يتكلّم النحوي إلا في الألفاظ الدالة على المعاني، فكان من حقّه أن يقول: الظرف اسم وقت أو مكان، كما قال في التسهيل:"هو ما ضُمِّن من اسم وقت أو مكان معنى في بإطراده" إلى آخره، فقيّده بالاسم كما ترى. وكذلك قوله:"ضُمِّنا في" غيرُ صحيح في ظاهره؛ إذ ليس المُضَمّنُ حرف "في" المنطوق به، وإنّما المضمّن معناه كما صرّح به أيضًا في التسهيل، فعبارته في هذا الموضع غيرُ سديدة.
والثاني: أنه عبّر بلفظ التضمين في قوله: "ضُمِّنا في"، والمتقرر في التضمين لمعنى الحرف أنّه موجب للبناء، وهو الشبه المعنوي الذي قدّم ذكره، فلذلك يقولون: المبنى من الأسماء ما أشبه الحرف أو تضمَّن معناه، وليس هذا كذلك؛ إذ لو كان مثله لبُنِيَ كلُّ ظرف في الكلام، وليس كذلك. وهذا الاعتراض وارد عليه في التسهيل أيضًا، لأنّ تضمُّن معنى الحرف قد ثبت موجبًا للبناء، فكان من حقِّه أن يجتنب هذه العبارة إلى ما يقتضي عدم البناء، فيقول مثلًا: أفهما في، أو أفهما معني في، كما قال في الحال:"مُفْهِمُ: في حالٍ"، ولم يقل: ضُمِّن معنى "في حال".
والثالث: أنّ قوله: بإطرادٍ غيرُ محتاجٍ إليه؛ لأنَّ المتحرز منه -وهو قولهم: مطرنا السهل والجبل، وضُربَ زيدٌ الظهر والبطن -قد تقدَّم أنه منصوبٌ على إسقاط الخافض لا على تضمُّن معنى الخافض، فإذا كان غير مضمّن معناه فلم يدخل تحت قوله:"ضُمِّنا في" قطُّ، فلا يختاج إلى الاحتراز منه، وحين احترز منه دلَّ على أنّه عنده مضمَّنٌ معنى في، وإذا كان كذلك فهو ظرفٌ عنده؛ لأن كل مضمن معني "في" ظرف بإطلاق، كان مُطّردًا أو غير مطرد، فظهر أنّه تناقض في هذه العبارة من حيث قصد تحريرها.
والرابع: أنّه يخرُجُ به من الظروف المجمع على أنّها ظروف أشياء كثيرة، فمن ذلك قولهم: هو مني منزلة الولد، ومقعد القابلة، ومزجر الكلب، وهو مني دَرَجَ السيول، فهذه كلها أو ما كان من بابها ظروفٌ باتّفاق مع أنّها لا تتضمّن معنة في باطراد؛ إذ لا تقول: أجلسته منزلة الشغاف، ولا قعَد زيدٌ منزلة الشغاف، كما تقول: أجلسته قريبًا مني، وقعد قريبًا مني، ولا تقول أيضًا: قعد منزلة زيدٌ مزجر الكلب، كما تقول: قعد بعيدًا مني، ولا مكانك دَرَجَ السيول، ولا نحو ذلك مما الظرفية فيه سماعٌ، فصارت هذه الأشياء كلها بمنزلة: مُطرنا السهل والجبل، فاقتضى كلامه أنّها غيرُ ظروف، وليس كذلك بل هي ظروفٌ عندهم، فإذا يخرج عن حدّه هذه الأشياء، عن كونها ظروفًا، وذلك فاسدٌ.
هذا إلى ما له في أصل التعريف من الجمع بين مختلفي الحد في حدّه، لأنه جمع نوعي الظرف، وهما مختلفان، وليس من شأن أهل الحدود أنْ يجمعوا في حدٍ واحد بين محدودين مختلفين، كما لا يجمعون بين الانسان والفرس فيحدونهما بحدٍ واحد، ولا بين النبات والحيوان قاصدين لتعريف كل نوع بما يخصه. وهذا فعل الناظم في حدّه الظرف، فلم يستقم هذا التعريف لا من جهة ترتيب الحد في نفسه، ولا من جهة حصول المقصود به، وهو العلم بالمحدود.
والجواب عن الأول: أنّ مراده، حاصلٌ مفهوم من حيث انتصب لصناعة الألفاظ، وهو النحو، ولم يقصد بيان الظرف المعنوي، فذلك الذي يُعيِّن أنّه على حذف المضاف أي: اسم وقت أو اسم مكان، وكذلك قوله:"ضمنا في" معلوم أن المضمن ليس نفس الحرف الملفوظ به بل معناه. وهذا ظاهر.
وعن الثاني: أنّ تضمين معاني الحروف على ضربين:
أحدهما: تضمين في أصل الوضع، فيكون الاسم في أصله موضوعًا للدلالة على معنى الحرف. وهذا هو التضمين الموجب للبناء:
والثاني: تضمينٌ طاريءٌ على الاسم بعد وضعه غير مضمّن معنى حرف، فأسماء الزمان والمكان موضوعة للدلالة على ما وُضِعَت له من معاني الأسماء كسائر أسماء الأجناس، فيومٌ في الزمان كرجل في الأناسي، ويمين وشمال في المكان كذلك أيضًا، ولا تضمين في شيء منها ثم إنّهم أرادوا الدلالة على تعيين وقوع الفعل في الزمان أو في المكان فضمّنوا الظرف ذلك حالة التركيب، فالتضمين ههنا بعد استقرار الدلالة الإفرادية، وذلك ليس بموجبٍ للبناء، كما لم
يكن الافتقار إلى المفسر موجبًا للبناء في نحو: عشرين، وكل، وبعض، وكلا، ونحو ذلك لما كان الافتقار طارئًا بعد استقرار المعنى الإفرادي، وقد جعلوا ذا الإضافة مُضمَّنًا معنى اللام في نحو: غلام زيدٍ، ومعنى من في نحو: ثوبُ خَزٍّ، ومعنى في عند ابن مالك في نحو:{ألَدُّ الخِصامْ} ، ولم يكن ذلك موجبًا للبناء لما كان ذلك التضمين عارضًا. وفي كلام العرب من هذا أشياء. والتضمين في كلا الوجهين مخالف لتقدير الحرف في نحو: دخلت البيتَ، ومُطرنا السهل والجبل، فيقال: إنّه منصوب على إسقاط الخافض لا على تضمين الحرف. ويقال في: جئت يوم الجمعة: إنه منصوب على تضمين معنى الحرف لا على إسقاطه؛ لأن بين الأمرين عندهم فرقًا يعرفه نُظَّار الصناعة، كما أنّ عندهم فرقًا بين قولك: اخترتُ الرجال زيدًا، وبين قولك: شكرتُ زيدًا؛ حيث قالوا: إنّ الرجال منصوبٌ على إسقاط الخافض، وزيدًا في: شكرتُ زيدًا منصوبٌ لا على إسقاط الخافض، مع أنّك تقول فيهما: اخترتُ من الرجال زيدًا، وشكرتُ لزيدٍ؛ إذ ذلك كلّه مقصودٌ في الاصطلاح، ومبنيٌّ على معنى صحيح، فإطلاق الناظم لفظ التضمين هنا هو على أحد الوجهين فلا اعتراض عليه.
وعن الثالث أن يقال: لا يخلو أن يكون هذا التعريفُ عنده بالذاتيات حتى يكون حدًّا حقيقًا، أو بالخواصّ الخارجة عن الذات حتى يكون حدًّا رسيمًا؛ وذلك أنّ القاعدة عن أرباب الحدود أنّ الحدّ إنما يطلب به أن يكون معرِّفًا للماهية على كمالها، ومُبيّنًا لها بجميع أجزائها على التفصيل فيُؤتى فيه بالجنس الأقرب أولًا -وهو الجزء المشترك، ثم يؤتى بعده بالفصول الذاتية للمحدود، وإن كانت أبعد- وكانت ممّا يحصل بالواحد منها الكفاية في التمييز -فإن ترْكَ بعض الفصول، ولو كان مستغنى عنه في التمييز -تركٌ لتعريف جزء من الذات.
والحدُّ وضْعُه أنّه عنوان الذات، وبيان لها فيجيب أنْ يقود المحدود في النفس صورة معقولة في الذهن، مساوية للصورة الموجودة في الخارج على الكمال، وحيئنذ يعرض للمحدود أن يتميز عن غيره، لا أنّ التمييز عن الغير هو المقصود من الحد الذاتي، وإنما ذلك مقصود في الحدِّ الرسمي. وإذا كان كذلك فقوله:"باطّراد" وصفٌ من الأوصاف المحتاج إليها في التعريف؛ لأنَّ الظرف هذا شأنه ووصفه من حيث هو ظرفٌ، فمطرنا السهل والجبل، خارج عن الظرفية على كل تقدير، والظرف مُعرَّفٌ به على كل تقدير. وإن كان الثاني فيمكن أن يقال: إنّ التضمين المذكور قد يُطلَق مجازًا على نحو: مُطرنا السهل والجبل من جهة اجتماعه في التقدير؛ فإنّ الجميع على تقدير "في" على الجملة، فكأنه أطلق التضمين بهذا المعنى، أو توهّم أن يُفهم منه؛ فأتى بقوله:"باطّراد" ليخرج ذلك التضمين الآخر. وهذا قد ينهض عذرًا في الموضع. ا
وأمّا الرابع فلم يحضرني فيه جواب محرَّر.
وأمّا كونه جمع بين مختلفي الحدّ فليس كذلك بل إنما قصد حدّ الظرف المطلق، إلا أنّه عرض له فيه تنويع الظرف فافتقر إليه كما افتقر النحاة في تعريف الفاعل إلى تنويعه، وتنويع عامله حيث قالوا: الفاعل اسم أو ما هو في تقديره أسند إليه فعل أو ما جرى مجراه
…
إلى آخره. وكما قيل في حدّ الخبر: إنّه الذي يدخله الصدق أو الكذب، أو ما أشبه ذلك ممّا يعرض فيه التنويع. أو يقال: إنّه حدٌّ واحدٌ أتى به في قوّة حدين لما اشتركا في الفصول المميزة فكأنه قال: ظرف الزمان هو: اسم الزمان المضمَّن معنى (في) باطّرادٍ كأزمنٍ، وظرف المكان هو: اسم المكان المضمّن معنى (في) باطّراد كهنا، وإذا أمكن هذا سَهُل الأمر فيه. والله أعلم.
ثم قال:
فانصبه بالواقع فيه مُظهرا
…
كان وإلّا فانوه مُقدَّرا
لما كان الظرف إعرابه النصبُ، ولا بُدَّ له من ناصب عرَّف بالناصب ما هو، فبين أن الناصب له لا يكون إلا الفعل الواقع في ذلك الظرف؛ وذلك أنّ الفعل أو ما في معناه مما يصلح للعمل في الظرف على ضربين بالنسبة إلى طلبه:
فضربٌ يطلبه على أنه واقع فيه -وهو الذي عيّن الناظم للعمل فيه من حيث هو ظرفٌ- فينصبه على الظرفية، كقولهم: خرجتُ يوم الجمعة، وقعدتُ أمامك، فإن نصب اليوم بخرج إنما هو على أنّ الخروج واقعٌ في اليوم، وكذلك نصبُ الأمامِ بقعد إنما كان على أن القعود حاصل فيه، فانتصب اليوم والأمام انتصاب الظرفية.
وضربٌ يطلبه لا على هذا الوجه، بل على وجهٍ آخر -وهو الذي احترز منه- فيكون نصبُه على المفعول به، أو على غير ذلك، كقوله: أحببت يومَ الجمع، فجرى ههنا الظرف مجرى زيد، كما لو قلتَ: أحببتُ زيدًا، ومثله: أحببتُ مكانَك، نصبه نصب زيد في قوله: أحببتُ زيدًا، وكذلك إذا قلتَ: هذه عشرون يومًا، فنَصْبُ يوم هنا كنصب رجل إذا قلت: هذه عشرون رجلًا، ومثله قولك: شاهدت عشرين مكانًا، أو ما أشبه ذلك، فلم ينتصب هنا على الظرفية؛ إذ ليس العامل واقعًا فيه؛ فلأجل ذلك قال:"فانصبه بالواقع فيه". قد ظهر من الناظم مذهبه في العامل في الظرف، وأنه الفعل الواقع فيه لكن هذا الفعل لا يلزم أن يكون ظاهرًا، بل قد يكون كذلك نحو: خرجتُ يومَ الجمعة،
وقعدتُ خلفك، وقد لا يكون ظاهرًا نحو: خروجك يوم الجمعة، وزيدٌ خلفك، فألزَمَ أن يقدَّر له ناصبٌ هو الفعل الواقع فيه؛ لقوله:"فانصبه بالواقع فيه مظهرًا كان وإلا فانوِهِ" يعني أنه لا بد أن يقدر له فعل واقع فيه إن لم يظهر، ويكون هو العامل فيه. والمقدّر لا بد أن يكون مفهومًا من الكلام، فقد يكون الكلام يدل على كون خاص وفعال خاص فيكون هو المنوي، وقد يكون دالًا على كون عام وفعل عام فهو المنوي، فإذا قلت: أين زيدٌ قاعد؟ فقلت: خلفك، فهذا كونٌ خاصٌ تقديره: زيد قاعد خلفك، وإذا قيل: متى أبوك قائم؟ فقلتَ: يومَ الجمعة، فالمعنى على: هو قائم يوم الجمعة، وإذا قلتَ زيدٌ خلفك، فالتقدير: كائن خلفك أو مستقر، وإذا قلت: قدومك يومَ الجمعة، فالتقدير: كائن أو مستقر يوم الجمعة، فلا بد من هذا التقدير عنده؛ وذلك المقدّر هو العامل، وهو الفعل الواقع في الظرف، فاستمر القانون، وانتظم التقدير مع معنى الكلام، فإذا لا يعمل في الظرف غير الفعل الواقع فيه، وهو رأي أهل البصرة وأهل الكوفة معًا إذا كان الفعل ظاهرًا، إذا لم أرَ من نقل في ذلك خلافًا بينهم، وكذلك يقتضي النقل إذا كان المقدَّر [كونًا خاصًا]؛ لأنه بمنزلة المُصرَّح به، ولو صرَّح به [لكان، وإنما] نقل الخلاف بينهم إذا كان المقدر عامًا -وهو الذي لا ينطق به عند الجمهور من الفريقين -كقولك: زيدٌ أمامك، وقدومك يوم الجمعة، فإنهم اختلفوا في العامل في الظرف هنا؛ فجمهور أهل البصرة- بل جمعيهم عند السيرافي وغيره- أنّ الناصب فعلٌ مقدّر هو الواقع فيه، فقولك زيدٌ خلفك على تقدير مستقر أو استقر، أحدهما حتمًا -أعني اسم الفاعل أو الفعل- أو على التخيير حسب
ما تقدّم ذكره في باب المبتدأ. ونقل صاحب الإنصاف عن ثعلب ما يقرب من هذا، وذهب جمهور أهل الكوفة إلى أنّه منصوب على الخلاف، ومعنى ذلك إنّك إذا قلت: زيدٌ أخوك، فالأول هو الثاني؛ فيترافعان. فإذا قلت زيد خلفك أو قدومُك غدًا، خالف الثاني الأول؛ إذ ليس به؛ فانتصب بذلك المعنى ليحصل الفرق بينهما. قال ابن خروف: إنّ العامل في الظرف المبتدأ نفسه، وزعم أنّه مذهب سيبويه، وقدماء البصريين. وقال المبرد:"انتصب الظرف هنا لأنه ظرف" هكذا قال. والأولى من ذلك كله ما رآه الناظم، إذ هو المطرد في الأبواب كلّها، أعني في الأبواب التي لا يظهر فيها عاملٌ كباب الصلة، والصفة والحال، وأيضًا قد ثبت عمل الفعل في الظرف فيما ظهر فهو العامل فيما لم يظهر، حملًا لما خفي على ما ظهر، ويشهد لذلك معنى الكلام؛ إذ لا ينفكُّ الظرف هنا عن معنى الكون
والاستقرار؛ وإنما لم يظهر للزوم الدلالة على ذلك المحذوف، ومما يشهد لذلك أيضًا على طريقة الناظم أن ما ادّعى أن مَنْوِيٌّ قد ظهر في بعض المواضع حسب ما تقدّم في باب المبتدأ. وما ذكره الكوفيون من النصب بالمخالفة، أو المبرد من النصب بكونه ظرفًا فلا يستقيم وجه الصناعة فيه. فثبت أنّ قولك: زيدٌ خلفك، وقدومك يوم الجمعة منصوبان على نيّة فعلٍ هو الواقع فيه إلّا أنّ تقديره فعلًا أو اسم فاعل قد مضى ذكره في باب المبتدأ، وتحقيق ذلك التقدير. وقوله:"فانصبه" الهاء فيه عائدة على الظرف، والواقع فيه هو الفعل، ومظهرًا خبر كان، وكان في موضع نصب على الحال من باب لأضربنّه ذهب أو مكث، كأنه قال: مظهرًا كان أو مضمرًا لكن جاء بقسيم المظهر على المعنى لما أفاد فيه من المعنى الزائد، وينظر هذا إلى مجيء (إلّا) عِوَض إمّا في قوله:
فإمّا أن تكون أخي بحق
…
فأعرف منك غثٍّي من سميني
وإلّا فاطرحني واتخذني
…
عدوًا أتّقيك وتتقيني
وقوله: "وإلّا فانوِه" أي إن لا يكن مظهرًا فانوِه. ومقدرًا حال مؤكدة على ما يظهر، لأن قوله فانوِه يعطي معنى قدِّره في نيّتك.
ثم قال:
وكلُّ وقت قابلٌ ذاك وما
…
يقبله المكان إلّا مُبْهِما
نحو الجهات، والمقادير، وما
…
صيغ من الفعل كمرْمَى من رَمَى
لما كانت أسماء الزمان والمكان على قسمين:
أحدهما: ما يقبل أنْ يكون ظرفًا اصطلاحًا؛ بأن ينتصب بفعله الواقع فيه على معنى في.
والثاني: ما لا يقبل ذلك -أخذ يعرّف بالقابل من غير القابل، فأخبر أنَّ كل اسم زمان قابل للنصب على ذلك التقدير كان مبهمًا أو مختصًّا، فالمبهم نحو: صمتُ يومًا، وقمت ليلةً، وسرت شهرًا، واعتكفت عشرًا، وقمت ليلةَ الخميس، وصمت شهرَ رمضان، واعتكفت العشرَ الأواخر منه، وجئتك اليومَ الأولَ، وما أشبه ذلك. وأمَّا المختص فنحو: سرتُ الجمعةَ، وصمت الخميسَ، وصمت رمضانَ، وسرت شوالاً، ونحو ذلك. أو تقول: إنّ قولك: صمت رمضانَ وسرت شوالاً، ليس من المختص بل هو من المبهم، أو قسمٌ آخرُ برأسه يسمّى معدودًا، وهو تقسيم الجزولي. والأمر قريب. وأمّا اسم المكان فليس كاسم الزمان في قبول ذلك الحكم، بل هو ضربان: أحدهما: ما يقبل ذلك، وهو المبهم، وهو قوله:"وما يقبله المكان إلّا مبهمًا". والمبهم ما ليس له جهات تحصره، ولا أقطار تحيط به. وقسّم المبهم إلى ثلاثة أقسام: أحدهما الجهات الست، وما جرى مجراها، وذلك قوله:"نحو الجهات" يعني فوق، تحت، واليمين، والشمال، وخلف وأمام، ووراء، وقُدَّام، وما لحق بها نحو: ذات اليمن، وذات الشمال، وأمثلتها ظاهرة ومنه قولهم: "داره شرقيَّ المسجد،
وغربيَّ المسجد. وأنشد سيبويه لجرير:
هبَّتْ جنوبًا فذكرى ما ذكرتُكُم
…
عند الصَّفاة التي شرقيَّ حوْرانا
وقال عمرو بن كلثوم، أنشده سيبويه:
صددتِ الكأس عنّا أمَّ عمروٍ
…
وكان الكأسُ مجراها اليمينا
قالوا: هو قصدَكَ، وناحيتَك، ويقال: هما خطَّان جَنابَتَيْ أنفها، يعني الخطين اللذين اكتنفا جانبي أنف الظبية، فجنابتي ظرْفٌ، وكذلك جَنْبَيْ في قول الأعشى، أنشده سيبويه:
نحن الفوارسُ يومَ الحنو ضاحية
…
جَنْبَيْ فُطيْمَةَ لا ميلٌ ولا عُزُلُ
وكذلك: هو قُربَك، وهو قريبًا منك، وبعيدًا منك، وما أشبه ذلك مما يجري مجرى الجهات إلا أنّ أعرفها في القياس الجهات الست، وجميعها
ينتصب على الظرفية، ويصح فيه ذلك.
والثاني: المقادير، وذلك قوله:"والمقادير"، وهي ما يقدَّر به المكان كالمِيل والفرسخ والبريد، فهذه أيضًا تنتصبُ على الظرف، فتقول: سرتُ بريدًا، وفرسخًا، ومِيلًا، وداري خلف دارك فرسخين، وما أشبه ذلك.
والثالث: المشتق من الفعل الواقع فيه، نحو: قعدت مَقعدًا حسنًا، وجلست مَجلسًا، وصلاتي مُصلّي زيد، وقيام زيد مقامك، وما أشبه ذلك ومثّل ذلك بقوله:"كمرمى من رمى" يعني إذا قلتَ: رميتُ مرمى حسنًا، ورمى زيد مرماك. هذه الأنواع الثلاثة التي عيّن لقبول الظرفية من أسماء الأمكنة، فإذا تبيّن أنها هي المتعيّنة للقبول، وهي التي اشتمل عليه لفظُ المبهم كان ما بقي بعد ذلك غير قابل للنصب على الظرفية، وهو المختص، وهو الضرب الثاني إلّا أنه لم يبيّن إعرابه، والذي يقتضيه عدم تضمين "في" -أن تكون ظاهرة، فيكون المختص مجرورًا بها، وهو المُطَّردُ فيه، نحو: قعدت في البيت، وصليتُ في المسجد، وقمت في السوق، وأقمتُ في غرناطة، وذهبت في البلد، وما أشبه ذلك. وقد نَصَّ سيبويه على أنّك "لا تقول: هو جوف المسجد"، ولا هو داخل الدار، ولا خارج الدار (حتى) تقول: "في جوفها، وفي داخل الدار، ومن خارجها. وفرَّق بين هذه الأشياء، وبين خلف وأمام، ونحوهما بأنّ هذه الأشياء صارت مختصَّة بمنزلة الظهر، والبطن، واليد، وغير ذلك من المختصَّات المعيّنات بخلاف خلف، وأمام، ونحوهما فإنّهما مبهماتٌ تدخل على كل اسم، وتلي الاسم من نواحيه وأقطاره"، فلذلك صارت تلك الأشياء لا ينصبها الفعل الواقع فيها. وربما سقط الحرفُ الجارُّ فانتصب المختصُّ، كقولهم: ذهبت الشامَ، ودخلت
البيت، وكان الأصل: ذهبتُ في الشام، ودخلت في البيت، وأنشد سيبويه لساعدة بين جويَّة:
لَدْنٌ بهزِّ الكف يعسِلُ مَتنَه
…
فيه كما عسل الطريق الثعلبُ
فالأصل: في الطريق، ثم حُذِف الجار، وكذلك قنا وعوارض في قول عامر بن الطفيل، أنشده سيبويه:
فلأبغينَّكم قنا وعوارضًا
…
ولأقبلَنَّ الخيل لابة ضرغد
لكن الظاهر من نصبه عند الناظم ليس على الظرفية، بل على إسقاط الجارِّ؛ إذ لو كان على الظرفية لم يقل:"وما يقبله المكانُ إلا مُبهمًا" لقبوله ذلك سماعًا، وأيضًا فقد قال في حدّ الظرف:"ضمنا في بإطراد" فأخرج غير المطرد. وهذا ليس بمطرد كما تقدم، فلا يكون ظرفًا. فالقابلية في قوله:"وما يقبله المكان" مطلقةٌ في القياس والسماع معًا. وهنا يظهر أنّ نصب هذه الأشياء عنده ليس على الظرفية كما قاله الشلوبين تأويلًا على سيبويه، وليس مذهب سيبويه. ومع ذلك فهو مذهب مرجوح؛ فإنها كسائر الأسماء التي يتعدَّى إليها الفعل بحرج الجر من غير أن يطَّرد إسقاطه كمررت زيدًا، فإنّ نصبه على إسقاط الجارّ لا على الظرفية فكذلك هذا. وبَعْدُ فعلى هذا الكلام سؤالان:
أحدهما: أنّ قوله: "وكلّ وقتٍ قابلٌ ذاك إلى آخره" ليس على إطلاقه، بل
اسم الزمان أو المكان إنْ كان ظاهرًا فكما قال، وإن كان ضميرًا فلا ينصبه على الظرفية فعله الواقع فيه، بل يلزم جرُّه بالحرف، فتقول: يوم الجمعة سرت فيه، ومكانك قعدتُ فيه، ولا تقول سرتُه ولا قعدتُه، وهو على ظرفيته، وإنما يقال ذلك على تصييره مفعولًا به على الاتساع كقوله:
ويومٍ شهدناه سليمًا وعامرًا
وقو الأخر أنشده سيبويه:
طبَّاخِ ساعاتِ الكري زاد الكسل
هو على هذا التقدير كما تقول: سير يوم الجمعة، وولد له ستون عامًا، وجُلِس مكانك، وإطلاقه يوهم أنّك تقول: سرتُه وقعدتُه على حقيقة الظرفية، وذلك غير صحيح.
والثاني أنّه ذكر (في) في ظرف المكان المشتق، ولم يذكره هو ولا غيره في ظرف الزمان، وكان من الحقّ ذكرُه، فإنك كما تقول: قعدت مَقعَدًا، تريد المكان، فكذلك تقول: قعدتُ مَقعَدًا تريد الزمان، ولا فرق بينهما في صِحّة
تقدير في، ونصبه على الظرفيّة، فكان إهماله لذلك هو وغيره إهمالًا لأمر قياسيًّ ضروريّ؛ إذ لا فرق بينهما في القياس، ولا في الحكم، ولا في الاستعمال فكان ذِكرُ الزمن المشتق لازمًا كما لزم في المكان.
والجواب عن الأول: أنّ اسم المكان أو الزمان في الحقيقة إنّما هو الظاهر، وأمّا الضمير فكناية عن ذلك الظاهر، وليس به فكأنه أراد الظاهر لا الضمير، وعلى ذلك يصحّ كلامه، أو يقال: إنّ الإضمار من عوارض الكلام اللاحقة للأسماء فالناظم إنّما تكلمّم عن الأصل، ولم يتعرّض للتحرُّز مما يعرض فيه، فلذلك أطلق القول في قبول الظرفية حسب ما فصَّل. والله أعلم.
وعن الثاني: أن السؤال ظاهر الورود على المتأخرين من النحويين الذين يذكرون في أقسام ظرف المكان المشتقّ ولا يذكرونه في أقسام ظرف الزمان، وأما الناظم فلا يرِد عليه؛ إذ لم يُقسِّم ظرف الزمان بل أجمل القول فيه، فيمكن أن يريد إدخاله فلا يتحتم السؤال عليه. والله أعلم. وفي كلامه إشارة إلى مسألة من الاشتقاق، وذلك قوله:"وما صيغ من الفعل كمرمى من رمى" فظاهره أن اسم المكان هنا مشتق من الفعل لا من المصدر، وهي مسألة تحتمل الخلاف من مسألة اشتقاق الصفة، فالجاري على قول الناظم هنالك باشتقاق الصفّة من الفعل يقول بظاهر هذا، فإن حملنا مذهب الناظم هنا على ظاهرة كان كالمتناقض؛ إذ قد تقرَّر هناك أن من حقيقة المشتق أن يفيدَ المشتق منه وزيادة: هي فائدة الاشتقاق. واسم المكان هنا لا يفيد معنى الفعل
على تمامه لسقوط دلالته على الزمان المعيّن، كالصفة من كل وجه، وهو دليله على اشتقاق الصفة من المصدر لا من الفعل، فإذا كان هنا يختار اشتقاق اسم المكان من الفعل فقد ارتكب أنّ المشتق لا يلزم أن يفيد معنى المشتق منه. وذلك تناقض ظاهرٌ، ولو كان قائلًا في الصفة بما يظهر منه هنا لكان له وجهٌ من القياس؛ لأنَّ القائل باشتقاق الصفة من الفعل يحتجُّ بأنها قد جرت في أحكامها على الفعل فعملت عمله وبُنيت على وزانه، وانحطت عن درجته في قوة العمل؛ إذ الفعل يعمل بلا شرطٍ، والصفة لا تعمل إلا بشرط، وأيضًا فسقوط الدلالة على الزمان المعيّن غير ضارٍّ، لأن الدال عليه الصيغة في الفعل وهي قد عُدِمت في الصفة، فلا يلزم أن يدلّ الفرع المشتق إلا على ما يبقى الدال عليه في الفرع، وهكذا يقول هنا من من يدّعي أن اسم المكان مشتقٌّ من الفعل؛ لأنه جارٍ على الفعل المضارع، ألا ترى أن المضارع في الثلاثي إذا كان على يَفْعِل بكسر العين كان اسم المكان على مَفْعِل كيضرِب ومضرِب، وإن كان على يفعَل -بفتح العين- كان اسم المكان على مفعَل كيذبَح، ومذبَح، وما خرج عن ذلك فلعلل اقتضت ذلك، فصار اسم المكان مع الفعل كالصفة معه، فالذي يقال هنالك يقال مثله هنا، فقد كان هذا مما يمكن الاحتجاج به لظاهر كلامه هنا لولا ما يلزمه بين المذهبين من ظاهر التناقض. والأولى أن يعتذر له عن أحد الموضعين، ويُردُّ إلى الموضع الآخر. وقد وجدنا الموضع الأول في باب المفعول المطلق مقصود الذكر منبهًا عليه، منصوصًا على مخالفته لغيره فيه، ووجدنا هذا الموضع محتملًا لمثل ذلك، ولأن يريد الاجتماع مع الفعل في الاشتقاق، لا أنّه فرع عنه لحاجته إلى ذكره ذلك في عمل الفعل فيه، لكنّه أطلق عليه أنَّه صيغ منه مجازًا، واتساعًا في العبارة. ومثل هذا يُغتَفَر لمثله إذا كان قد قرّر الحق عنده في المسألة، وبيَّن
مذهبه فيها، وإنما الذي لا يغتفر له أن يطلق مثل هذه العبارة من غير أن يكون قد بين وجه المسألة في الكتاب أصلًا، فلا تناقض في كلامه إذا حملنا عبارته هنا على التسامح. والجمع بين الكلامين ولو بوجه ما أولى. والله أعلم.
ولما كان القسم الأخير من أقسام المبهم وهو المشتق لا ينتصب ظرفًا مع كل فعل، وإن فرض وقوعه فيه، بل له اختصاص ببعض الأفعال دون بعض أخذ يبين ذلك فقال:
وشرط كون ذا مقيسًا أن يقع
…
ظرفًا لما في أصله معه اجتمع
ذا: إشارة إلى أقرب مذكور، وهو ما صيغ من الفعل كمرمى من رمى، ويريد أن من شرط كون هذا القسم مقيسًا أن يقع ظرفًا للفعل الذي اجتمع معه في أصله، وأصله الحروف الأول التي بني منها، ومعنى ذلك أن يكون العامل فيه إما الفعل المشتق من مصدره نحو: قعدت مقعد زيد، وقمت مقامك، أو اسم فاعله أو اسم مفعوله نحو: أنا قاعد مقعدك، وزيد مقام مقام عمرو، ونحو ذلك، فلو لم يجتمع اسم المكان مع عامله في أصله لم يصح عمله فيه قياسًا، فلو قلت: قعدت مقام زيدٍ، واعتكافك مقعد عمروٍ لم يجز؛ لأن العامل لم يجتمع مع اسم المكان في الحروف الأول التي هي أصله. وفي هذا الكلام إشارة إلى ثلاث مسائل:
إحداها: أنه قد يأتي مثل: اعتكافك مقعد زيد سماعًا لقوله: "وشرط كون ذا مقيسًا"، ولم يقل:"وشرط وجود ذا" فدل على أنه قد يجيء ويكون غير مقيس، وذلك نحو قولهم: هو مني منزلة الشغاف، وهو مني منزلة الولد، وأنت مني مقعد القابلة، وهو مني مقعد الإزار، وهو مني مزجر الكلب، ومناط الثريا، وأنشد سيبويه للأحوص:
وإن بني حرب كما قد علمتم
…
مناط الثريا قد تعلت نجومها
وأنشد لأبي ذؤيب الهذلي:
فوردن والعيوق مقعد رابيء الـ
…
ـضرباء خلف النجم لا يتتلع
فهذه كلها ظروف مشتقة لم يعمل فيها ما شركها في أصلها، فلم تكثر كثرةً يقاس على مثلها، فوقفت على السماع. قال سيبويه لما ذكر هذه الأمثلة:"وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت: هو مني مجلسك، ومتكأ زيد، ومربط الفرس لم يجز، فاستعمل من هذا ما استعملته العرب، وأجز منه ما أجازوا". وإنما كان مثل هذا سماعًا، وإن كان مشتقًا، والمشتق مبهم على ما تقدم؛ لأنها إذا لم يعمل فيها ما اجتمعت معه في الاشتقاق كانت مختصة لا مبهمة، ولذلك ترجم عليها سيبويه بقوله:"هذا باب ما شبه من الأماكن المختصة بالمكان غير المختص" وذلك من حيث كانت لا تقع إلا على ما وقع فيه فعلها؛ إذ كان التقدير: هو مني بمنزلة الشغاف من القلب، وبمنزلة الولد، وكذا سائرها، هي مما يتعدى بالحرف، ويتكلم به لكنها لما كان معناها المكان، فكأنه يقول: هو
مني مكانًا قريبًا، ومكانًا بعيدًا، والمكان مبهم شبهوها به، وعاملوها معاملته فنصبوا.
والثانية: أن كلامه صريح في أنه لا يقاس الظرف هنا، وإن كان الفعل مرادفًا لما اشتق منه الظرف، فلا تقول قعدت مجلسًا، ولا جلست مقعدًا، ولا ذهبت منطلقًا، ولا ما أشبه ذلك. وقد نص ابن خروف على امتناع: نزل مني مقعدًا، أو قعد مني منزلة؛ لأن المصدر ليس من لفظ الفعل، واستدل بقول سيبويه:"ويتعدى إلى ما اشتق من لفظه اسمًا للمكان وإلى المكان" فقيد تعدي الفعل إلى الظرف المشتق بكونه مشتقًا من لفظ الفعل، ومثل ذلك بقولك:"ذهبت المذهب البعيد وجلست مجلسًا، وقعدت المكان الذي رأيت" وهذا بين في اشتراط ما قال الناظم، ومنع ما عداه.
والثالثة: أن تخلف ذلك الشرط غير مقيس، خلافًا لمن خالف فقد أجاز الأخفش في كتابه: مررت مقعد القابلة منك بزيد، فيظهر من هذا أنه لا يقتصر على المواضع المسموعة حيث سمعت، بل يعديها إلى غيرها، وذلك معنى القياس، وإذا كان كذلك فالناظم لم يرد ذلك؛ لأنه لم يكثر كثرةً يقاس عليها. وعلى ذلك الأئمة، فما رآه هو الأولى. وما في قول الناظم:"لما في أصله" واقعةٌ على العامل في الظرف، وهو الواقع فيه، والعائد عليها فاعلُ اجتمع، والضمير في:(معه وأصله) عائدان على الظرف الذي أشير إليه بذا، كأنه قال: للمظروف الذي اجتمع مع الظرف في أصل الظرف. وأن يقع وما بعده خبر قوله: (وشرط).
ثم قال:
وما يرى ظرفًا وغير ظرف
…
فذاك ذو تصرفٍ في العُرْف
/ وغير ذي التصرف الذي لزم
…
ظرفية أو شبهها من الكلم
هذا الفصل يبين فيه معنى التصرف المستعمل في الظروف في قولهم: ظرف متصرف، وظرف غير متصرف، فأخبر أن تصرف الظرف أن يصح استعماله ظرفًا وغير ظرف، أي يصح أن يعمل فيه فعله الواقع فيه، فينتصب على تضمين معنى في، ويصح أن يعمل فيه غير ذلك الفعل فيجري بوجوه الإعراب أو ببعضها، لا على معنى في، وذلك كيومٍ وليلةٍ في ظروف الزمان، فإنك تقول: سرت يومًا، وقمت ليلةً، فينتصب نصب الظرف، وتقول: أعجبني يومٌ لقيتك فيه، وأحببت ليلةً ألقاك فيها، وسررت بيومٍ ألقاك فيه، وبليلةٍ أراك فيها، وكذلك: أعجبني يومُ الجمعة، وعجبت من يومِ الجمعة، ورغبت في ليلةِ كذا، فاستعمال هذا فاعلًا ومفعولًا به ومجرورًا بين أنه متصرف، أي يتصرف بوجوه الإعراب. ومثال ذلك في ظرف المكان: يمين وشمال، فإنك تقول: قعدت يمينك وقمت شمالك. فهذا ظرف، فإذا قلت: يمينُك أحسن مقعدًا، وشمالُك أليق مكانًا، ورأيت يمينَك أحسن، وشمالَك أوطأ، وملت إلى يمينِك عن شمالِك، وكذلك مكان، وذات اليمين، وذات الشمال وما أشبهه مما شأنه أن يستعمل هكذا بوجوه الإعراب كسائر الأسماء فهو المتصرف، وذو التصرف. فقوله:"وما يرى ظرفًا وغير ظرف" يعني في الاستعمال العربي وقوله: "ذو تصرف في العرف" يريد في عرف النحاة فإن هذه العبارة، وهي عبارة التصرف- اصطلاحية. وهذا التعريف إحالة على السماع؛ إذ لا يقاس التصرف أو عدمه، ولا فيه علة توجب القياس، فإن أسماء الأماكن محصورة، والأسماء المحمولة عليها قليلة، وقد جعلها سيبويه غرائب. والمصادر وإن كثرت بعض كثرةٍ في الظروف فإنها نائبةٌ عنها، وقليلة لا يقاس عليها فمن هنا أحال في تصرفها على السماع. والله أعلم.
ثم قال: (وغير ذي التصرف الذي لزم) إلى آخره يعني أن ما كان لازمًا لطريقةٍ واحدة فلم يستعمل إلا على وجه واحدٍ، ظرفًا مثلًا، ولم يؤت به غير ظرف فهو غير المتصرف، يعني في العرف الاصطلاحي، ومثال ذلك في ظروف الزمان: سحر، وعشاء، وعشية، وضحى، وضحوة، وعتمة لأوقات بأعيانها، لا تقول: عشية أفضل من ضحوة؛ ولا: أحببت عشيةً، ولا ما أشبه ذلك، وأنت تريد أوقاتًا بأعيانها، فلو كانت نكراتٍ لتصرفت، وكذلك بعيدات بينٍ، وصباح مساء، ويوم يوم، ونحوها، ومثاله في ظروف المكان: مع، وبين بين، ووسط ساكن السين، وما أشبه ذلك. ومستند عدم التصرف السماع كما مر، فما رأينا العرب استعملته على وجوه سميناه متصرفًا، وما رأيناها قصرته على طريقة واحدة ظننا بأنه عندها كذلك فسميناه غير متصرف.
ويتعلق بكلام الناظم ثلاث مسائل:
إحداها: أن ظرف الزمان بحسب التصرف، وعدمه، والانصراف وعدمه أربعة أقسام: متصرف منصرف، ومقابله، ومتصرف غير منصرف وعكسه.
فالأول: كل ما كان من أسماء الزمان غير معين أو بالألف واللام، أو بالإضافة، مثل: سرت يومًا، وسرت يوم الجمعة، واليوم الذي تعلم.
والثاني: سحر إذا كان ليوم بعينه، نحو: سرت يوم الجمعة سحر.
والثالث: غدوة. وبكرة من يوم بعينه، نحو: لقيته يوم الجمعة، غدوة أو بكرة، فهذا يتصرف، فتقول: موعدك غدوة، وإن بكرة موعدهم كما تقول في القسم الأول: عجبت من يوم الجمعة، واليوم مبارك.
والرابع: نحو ضحى وصباحًا ومساءً وعشاء لأوقات بأعيانها، تقول: لقيته
يوم الجمعة ضحى، وصباحًا ومساءً، ولا تقول: موعدك صباحٌ ولا ما لقيته مذ مساء، ولا نحو ذلك ما لا تقول في القسم الثاني: موعدك سحرُ ولا ما لقيته مذ سحرَ، ولا ما أشبه ذلك.
وظرف المكان أيضًا ينقسم بحسب التصرف وعدمه- على ما قسمه المؤلف في التسهيل- أربعة أقسام: كثير التصرف، ومتوسطه، ونادره، وعديمه.
فالأول: كمكان ويمين وشمال وذات اليمين وذات الشمال، وقد تقدم تمثيله.
والثاني: كوراء وقدام وخلف وأمام وأسفل، وذلك قولك: أمامك أوسع لك، ووراءك أوسع لك، وجلس قدامك وأمامك، ومن ذلك ما أنشد سيبويه من قول لبيد:
فعدت كلا الفرجين تحسب أنه
…
مولي لمخافة خلفها وأمامها
وقرأ بعض القراء: {والركب أسفل منكم} . ومن هذا القسم (بين) عنده كقول الله تعالى: {قال هذا فرق بيني وبينك} وقال عبد الله بن عمر في سالم
ابنه رضي الله عنهم أجمعين:
يلومونني في سالم وألومهم
…
وجلدة بين العين والأنف سالم
والثالث: كدون وحيث، فالأكثر هنا النصب على الظرفية، ومن التصرف في حيث قول زهير بن أبي سلمى:
فشد ولم يفزع بيوت كثيرة
…
لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
ومنه في دون قول الشاعر:
ألم تريا أني حميت حقيقتي
…
وباشرت حد الموت والموت دونها
وأنشد لذي الرمة:
وغيراء يحمي دونها ما وراءها
…
ولا يختطيها الدهر إلا مخاطر
والرابع: كمع، وبين بين لا يجوز في هذا إلا النصب على الظرفية.
والثانية: أنه يظهر من كلامه أن العديم التصرف هو: ما لم يستعمل في
[غير] النصب على الظرفية فإذا ما جر بحرف ليس بعديم التصرف، بل هو متصرف، ولو كان الجار من كغيرها من حروف الجر نحو إلى وفي وعن، ونحوها. وهذا الرأي مخالف لما ذهب إليه في التسهيل من التفرقة بين من وغيرها من الحروف الجارة، فإن الجر بمن عنده ليس بدليل على التصرف، بخلاف الجر بفي، وإلى، ونحوهما، فقال هناك:"فإن جاز أن يخبر عنه أو يجر بغير من فمتصرف وإن لا فغير متصرف". وبين ذلك في الشرح فقال: "وبدخول إلى على متى يعلم أنها ظرف متصرف؛ فلذلك أجاز سيبويه أن يقال: يوم كذا بالرفع لمن قال: متى سير عليه؟ على تقدير: أي الأحيان سير عليه، برفع أي، وقال سيبويه: "والرفع في جميع هذا عربي كثير جيد، في لغة جميع العرب على ما ذكرت لك من سعة الكلام والإيجاز، يكون على كم غير ظرف، وعلى متى غير ظرف". هذا نصه. قال ابن مالك:"ولا يحكم بتصرف ما يجر بمن وحدها كعند وقبل وبعد لأن من كثرت زيادتها، فلم يعتد بدخولها على الظرف الذي لا يتصرف، بخلاف غيرها كمذ، وحتى، وفي، وإلى، وعن، وعلى" انتهى، وما عول عليه في التسهيل- وقد يشير إليها [كلامه هنا]- طريقه ابن خروف، وأما غيره فدخول حرف الجر عندهم دليل على التصرف، بل هو
التصرف. وهو ظاهر كلام سيبويه، فإنه قال:"وتقول سير عليه أيمن وأشمل، وسير عليه اليمين والشمال؛ لأنه يتمكن. تقول: على اليمين وعلى الشمال، ودارك اليمين، ودارك الشمال" ثم أنشد بيت أبي النجم:
يأتي لها من أيمنٍ وأشملِ
قال السيرافي: "واستدل بالجر على جواز الرفع؛ لأن كل ما جاز أن تدخل حروف الجر عليه من الظروف كان متمكنًا، وجاز أن يرفع". قال ابن خروف: "ليس بشاهد قوي، لأن من تدخل على جميع الظروف المتمكنة وغير المتمكنة، كجئت من عنده" فهما طريقتان للنحويين في تعريف المتصرف من غيره. وسيبويه موافق لظاهر هذا النظم، ولذلك لم يكن تأويل ابن مالك عليه في الشرح ظاهرًا إذ جعل رأي سيبويه في تصرف متى مبنيًا على جواز جرها بإلى دون جرها بمن، فاستدلاله على التصرف ببيت أبي النجم يرفع ذلك، وأيضًا فإن سيبويه جعل سوى وسواء من قبيل الظروف العديمة التصرف وجعل جرها بمن تصرفًا خاصًا بالشعر، فقال في باب ما يحتمل الشعر: "وجعلوا ما لا يجري من الكلام إلا ظرفًا بمنزلة غيره م الأسماء، وذلك قول المرار بن سلامة العجلي:
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم
…
إذا جلسوا منا ولا من سوائنا"
فجعل الجر بمن تصرفًا ثم قال: "فعلوا ذلك لأن معنى سواء معنى غير" فقد تبين أن من عنده كإلى وغيرها من حروف الجر، ولم يقل ذلك سيبويه إلا بعد تحقق أن لا فرق بين حروف الجر في ذلك، وكون بعض الحروف يكثر في الدخول على الظروف أو يقل أمرٌ آخر لا يقدح في دعاء التصرف بدخوله إلا أن من الظروف ما يقل التصرف فيه فلا يتعدى به محل السماع، ومنها ما يكثر ذلك فيه، فيحكم له بحكم التصرف على الإطلاق، وقد قسم هو الظرف المكاني إلى الأقسام الأربعة، فإذا وجدنا ظرفًا دخلت عليه من حكمنا بتصرفه في ذلك الموضع، فإن توارد عليه تصرف آخر وكثر ذلك فيه أطلقنا القياس فيه، وإلا وقفنا القياس وتلقينا السماع بالقبول في موضعه، وعلى هذا نقول: إن ما كثر دخول من عليه دون غيرها كثرةً يتعدى بها محلها جعلنا التصرف فيه بمن دون غيرها قياسًا، كحيث فإن دخول من عليها كثيرٌ جدًا بحيث لا يتوقف استعمال من معها على السماع، بخلاف دخول لدى عليها فإنه نادر فلا نقيسه بل نقفه على مثل:
* لدى حيث ألقضت رحلها أم قشعم *
وكذلك دون في استعمالها فاعلًا وخبرًا بنفسها، وهذا ظاهر جدًا. وإذا تبين هذا صار الخلاف لفظيًا في تسمية ما جر بمن دون غيرها متصرفًا، فالناظم ومن رأى رأيه هنا يسمي ما جر بمن أو غيرها متصرفًا من حيث أخرج عن النصب على الظرفية، ولكن لا يسميه متصرفًا بإطلاق، بل تصرفت العرب فيه على الجملة. وهذا التصرف قد يكون قياسًا في محله إذا كثر، وقد لا يكون كذلك. ولا يكون متصرفًا بإطلاق في الحكم بالجر بمن وحدها، ولا بإلى أو غيرها وحدها، بل لا بد من ضمائم أخر، كتنكيره، وتعريفه، واستعماله فاعلًا أو مفعولًا وما أشبه ذلك، فهي قرائن منضمة بمجموعها يحكم على الظرف بالتصرف المطلق، وهو ظاهر كلام سيبويه إذا جمع أوله
وآخره؛ ولهذا لما استشهد سيبويه بقوله:
* يأتي لها من أيمنٍ وأشملِ *
ضعف ذلك ابن خروف ظنا أنه أتى به دليلًا مستقلًا على التصرف بإطلاق، وليس كذلك ثم قال:"والشاهد الثوي تصرفه، وتعريفه، وتنكيره" وما قال لا ينكره سيبويه بل هو قوله، لكنه ادعى أن الجر تصرف في نفسه كيف كان، فإذا انضم إلى غيره من وجوه التصرف حكم على الكلمة بذلك قياسًا، وقد لا ينكر هذا ابن خروف، فيرجع الخلاف إلى الوفاق، ويصير كلام الناظم هنا موافقًا لكلامهم؛ ولذلك قال:"فذاك ذو تصرفٍ" ولم يقل: فذاك متصرف؛ لأن ما حصل له التصرف سماعًا في بعض المواضع يطلق عليه أنه ذو تصرف، ولا يطلق عليه أنه متصرف، لأن لفظ المتصرف يختص بما حصل له كماله، وليس كذلك ذو التصرف لإطلاقه على من حصل له كماله وبعضه، فقد تبين ما في هذا النظم، فإن قصد في التسهيل هذا المعنى، وأن المجرور بمن لا يلزم أن يكون متصرفًا بإطلاق فصحيح، وإن أراد أنه حالة الجر غير متصرف فغير صحيح، والله أعلم.
والمسألة الثالثة: أن قوله: "وغير ذي التصرف الذي لزم
…
" إلى آخره تعريف إجمالي للظرف وغيره، فليس "غير" في كلامه واقعًا على الظرف بخصوصه، بل عليه وعلى غيره بدليل قوله: "أو شبهها من الكلم" فكأنه يقول: غير المتصرف من الكلم العربية ما لزم حالة واحدة، وطريقة واحدة من ظرفية أو شبهها، ويكون قوله: "من الكلم" راجعًا إلى غير ذي التصرف حالًا منه، وحصل في مضمن ذلك التعريف بالظرف غير المتصرف، وقد مر شرحه والتعريف بغيره أيضًا كان اسمًا غير ظرف أو فعلًا.
أما الحرف فلا مدخل له هنا في ذلك المعنى جملةً، وعند ذلك يتعين التنبيه
على غير المتصرف مما سوى الظرف، فأما الأسماء فمنها ما لزم النصب على المصدرية كسبحان الله، وقعدك الله، وعمرك الله، ولبيك وسعديك، وحنانيك وما أشبه ذلك مما هو مذكور في الكتاب، وفي المطولات، ومنها ما لزم النداء فلا يستعمل في غيره كملأمان ومخبثان، وفل وفلة، وما أشبه ذلك، فجملة هذه وما كان نحوها تسمى غير متصرفة؛ للزومها طريقةً واحدةً. وأما الأفعال فمنها عسى، ونعم، وبئس وفعل التعجب نحو: ما أحسنه وأحسن به فهي أيضًا غير متصرفة للزومها طريقة واحدة، وقد تقدمها وجها الاصطلاح في تصرف الأفعال، وعدم تصرفها عند النحويين، والذي أراده هنا هذا المشار إليه لا الذي يشاكل قولهم: سقط في يده، وعلى ذلك كلامه في هذا النظم، والله أعلم.
وقد ينوب عن مكانٍ مصدر
…
وذاك في ظرف الزمان يكثر
هذا فصل يذكر فيه نيابة المصدر عن الظرفين: ظرف الزمان وظرف المكان، فإن العرب فعلت ذلك في كلامها اتساعًا واتكالًا على فهم المعنى، واختصارًا حتى كأن الموضع من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
فأما ظرف المكان فبين أن ذلك فيه قليلٌ بقوله: "وقد ينوب عن مكان مصدر" لأن قد تفيد التقليل فمن ذلك: هو قربك، وهو وزن الجبل، وزنة الجبل أي هو: في مكان قربك، وفي مكان وزن الجبل أي مسامته، وفي مكان زنته، ومنه: هو صددك أي: قصدك، وهو قرابتك، وسقبك أي قربك. وهو قليل كما ذكر.
وأما ظرف الزمان فيكثر فيه نيابة المصدر عنه، وهو قوله: "وذاك في ظرف
الزمان يكثر" والإشارة إلى معنى النيابة المفهوم من قوله: "ينوب" فإن اسم الإشارة كإعادة الضمير في ذلك، وقد بوب سيبويه على هذا المعنى فقال: "هذا باب ما يكون فيه المصدر حينًا لسعة الكلام والاختصار" وأتى لذلك بأمثلةٍ كقوله: متى سير عليه؟ فتقول: مقدم الحاج، وخفوق النجم، وخلافة فلان، وصلاة العصر، والتقدير: زمن مقدم الحاج، وحين خفوق النجم، وزمن خلافة فلان، لكنهم حذفوا الظرف وأقاموا المصدر مقامه توسعًا واختصارًا، وقال أيضًا: "تقول سير عليه مبعث الجيوش، ومضرب الشول، وأنشد لحميد الأرقط:
وما هي إلا في إزار وعلقةٍ
…
مغار ابن همام على حي خثعما"
وأنشد غيره لذي الرمة:
تقول عجوز مدرجي متروحًا
…
على بابها من عند رحلي وغاديا
وإنما كان ذلك كثيرًا في ظروف الزمان، وقليلًا في ظروف المكان، لقرب ظرف الزمان من المصدر، وبعد ظرف المكان منه ألا ترى أن الزمان شارك المصدر في دلالة الفعل عليهما، فهو يدل على المصدر بحروفه، وعلى الزمان بصيغته، وأن الزمان: مضي الليل والنهار كما قال سيبويه، وإذا نظرت إلى المضي وجدته
مصدرًا، وهو مراد الزجاجي بقوله:"الزمان حركة الفلك، والفعل حركة الفاعلين" بخلاف ظرف المكان فإنه لم يبن له فعل، ولم يكن للفعل دلالة عليه، وأيضًا فهو أشبه بالأناسي كما قال سيبويه قال:"ألا تراهم يختصونها بأسماء كزيد وعمرو في قولهم: مكة وعمان ونحوهما، وتكون منها خلقٌ لا تكون لكل مكان ولا فيه، كالجبل، والوادي، والبحر. والدهر ليس كذلك. والأماكن لها جثة، وإنما الدهر مضي الليل والنهار" فلما كان لظرف الزمان هذا القرب من المصدر كثر قيامه مقامه، ولما كان لظرف المكان هذا البعد من المصدر حصل بينهما من التباين ما بعد به أحدهما من أن يقوم مقام الآخر إلا أن المكان لما كان لازمًا للمصدر لزومًا خارجيًا، لأن كل فعل لا بد له من مكان يقع فيه راعوا هذا المقدار من القرب، فعاملوا المكان معاملة الزمان بحيث لا يقوى في ذلك قوته، ولا يبلغ رتبته، فكان إقامة المصدر مقام المكان قليلًا. والله أعلم. وفي قوله:"وقد ينوب عن مكانٍ مصدر" ما يدل على عدم القياس، وإن كان من عادته أنه يأتي بقد مشعرة بقياس ضعيف، ولكن هنا قرينة تشعر بخلافه؛ إذ هو يحكي ذلك عن العرب لقوله:
"وذاك في ظرف الزمان يكثر"
لأنه لا يريد أنه يكثر في استعمال القياس، وإنما يريد يكثر في السماع، ولم يشعر أيضًا في نيابة المصدر عن الزمان بقياس فيحتمل أن يكون عنده موقوفًا على السماع، وإن كثر، ويحتمل أن يكون عنده قياسًا، فتقول: سير عليه طلوع الشمس، وغروب الشمس، وقدوم الأمير، وأذان الظهر، وارتفاع النهار، وانتهاء القتل، واندفاع السيل، ودفع الحاج، وما أشبه ذلك.