المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المفعول المطلق هنا شرع الناظم في الكلام على المنصوبات، وهي التي - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٣

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌المفعول المطلق هنا شرع الناظم في الكلام على المنصوبات، وهي التي

‌المفعول المطلق

هنا شرع الناظم في الكلام على المنصوبات، وهي التي ينصبها كلُّ فعل متعدِّيًا كان أو غير متعد، ولم يقدِّم قبل هذا من المنصوبات إلا المفعول به؛ إذ لا ينصبُه كلُّ فعل، ولأنه متعلِّق بأحكام المرفوعات من جهة رفعه إذا ناب عن الفاعل، ومن جهة حصول الفائدة به كحصولها بالفاعل على الجُملة، ومن أجل أنَّ الفعل يقتضيه بمعناه كما يقتضي الفاعل، فلذلك أفرد المفعول به عن غيره من المنصوبات.

وجملةُ المنصوبات التي ينصبها كل فعل ثمانية، وهي: المفعول المطلق، والمفعول فيه، وهو ظرف الزمان وظرف المكان، والمفعول من أجله، والمفعول معه، والمستثنى، والحال، والتمييز، فبدأ بالمفعول المطلق، وهو المصدر؛ لأنّه أقرب هذه المنصوبات إلى الفعل لأنَّه مُشتَقٌّ منه، والفعل دالٌّ عليه بحروفه؛ إذ الفعلُ له دلالتان: دلالة بحروفه، ودلالة بصيغته. ودلالة الحروف أقرب إلى المصدر من دلالة الصيغة، فابتدأ به فقال:

المصدر اسم ما سوى الزمان منْ

مَدلُولي الفعل كأمْنٍ مِنْ أمِنْ

يعني أنّ المصدر في اصطلاحهم: هو اسمُ ما دلَّ عليه الفعل بحروفه، وذلك أنّ الفعل يدلُّ على المعنى الواقع من الفاعل، أو المعنى المتَّصِف به الفاعل من حيث هو فاعل: فضرِبَ ويَضْرِبُ دالٌّ على الضرب الواقع من الضارب، وأمِنَ ويأْمَنٌ وائْمَنْ دالٌ على معنى اتَّصف به الآمن، فلذلك له اسم وضعته العرب له وهو

ص: 212

ضربٌ في المثال الأول، وأمنٌ في الثاني. وهو مثال الناظم. ويدُلُّ الفعل أيضًا على زمان وقوع ذلك الفعل من كونه في الماضي، والمستقبل، والحال، فإذا قلتَ: ضربتُ فهو دالٌّ على الزمان الماضي، وإذا قلت: اضربْ فهو دالٌّ على المستقبل، وإذا قلت: يضربُ فهو دالٌّ على الحال أو على المستقبل. وكذلك إذا قلت: أمِنَ ويأْمن وائْمنْ، فدلالته على الزمان بصيغته، ودلالته على المعنى الواقع من الفاعل أو القائم به بحروفه، فللفعل إذا مدلولان ولكل واجد منهما لفظ يَخْتَصُّ به، واسم يُدعى به، فنفى اسمَ الزمان بقوله:"اسم ما سوى الزمان" فبقيَ الواقع من الفاعل أو القائم به صادقًا عليه التعريف، فهو إذًا المصدر. وإنما قال:"اسم كذا، ولم يقل: المصدر ما سوى الزمان من كذا"؛ لأنَّ لفظ المصدر إنما يطلق على اسم المعنى الواقع أو القائم بالفاعل، لا على نفس ذلك المعنى؛ ولذلك قال سيبويه:"وأما الفعل فأمثلةٌ أُخذَت من لفظ أحداث الأسماء" ولم يقل أُخِذَت من أحداث الأسماء، فلو قال:"المصدر ما سوى الزمان من مدلولي الفعل" لكان قد عَرَّفه بالمعنى، فيكون نفسُ المعنى هو المصدر، وذلك في الاصطلاح غيرُ صحيح. هذا حاصل ما قَصَدَ، إلا أن فيه نظرا من أوجه ثلاثة: أحدُها: أنه لم يبيّن حقيقة المصدر من نفسه، وإنما بيّنه بنفي غيره عنه، ولا يلزم من نفي غير الشيء أن يتبيّن هو في نفسه.

والثاني: أنَّ أسماء المصادر داخلة عليه كانت مشتَقَّة كمقعدٍ ومقامٍ ومَضرَب ومَطلَع، وما أشبه ذلك، أو غير مشتقَّة كالكلام والسلام، وكذلك أسماء المصادر الإعلام نحو: حَمَاد، فَجَار وبَرَّة، وفَجْرَة، وسبحان في قول

ص: 213

الأعشى، أنشده سيبويه:

أقول لما جاءني فَخْرَهُ

سُبحان من علقمة الفاخرِ

وما كان نحو ذلك، فكلامه يصدُق عليه؛ لأنَّ كلَّ واحد من هذه الأنواع يصِحُّ أن يُعَرَّف بأنه اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل، وليست بمصادر اصطلاحًا.

والثالث: أنَّه جعل للفعل مدلولين: أحدهما: الزمان، والآخر: المعنى الواقع من الفاعل أو المُتَّصِف به الفاعل، وهذان المعنيان ليسا بمدلولين للفعل من حيثُ هو فعل، لا بدلالة المطابقة، ولا التَّضَمُّن، ولا الالتزام. وبيان ذلك أن قام موضوع للقيام الواقع في الزمان الماضي، وعلى مجموع ذلك دلَّ بالمطابقة، ولم يَدُّل قطُّ بالمطابقة على الزمان وحده؛ ولا على معنى القيا وحده؛ إذ لم يوضع مجموع الحروف والصيغة معًا لواحد من المعنيين بخصوصه، وأيضًا فدلالة اللفظ على جزء مسماه مشروطة بأن تكون نسبة ذلك اللفظ إلى جميع أجزاء المعنى نسبة واحدة، كلفظ العَشَرة مع كل واحدة من الخمستين، فإن نسبته إلى كل واحدة منهما على حدٍّ واحد لا يختلف بحسب الوضع، وليس كذلك قام، فإنّ دلالته على الزمان على غير الوجه الذي يدل به على القيام، إذ كانت دلالته على الزمان بالصيغة، ودلالته على القيام بالحروف، فقد تباينت جهتا الدلالة؛ ولذلك قال شيخنا الإمام أبو عبد الله الشريف التلمساني: إنَّ دلالة الفعل من جهة هيئته على الزمان مطابقة وعلى المعنى الواقع من الفاعل

ص: 214

بالالتزام، ودلالته من جهة حروفه على عكس القضية حسب ما تلقاه منه بعض أصحابنا. وبيانه الشافي في علم الاشتقاق، وهو التحقيق في المسألة. فإذًا دلالة التضمن منفيّة ههنا، لم يدُلَّ بها الفعلُ على المصدر، ولا على الزمان، وأيضًا فليس قام بدالٍّ على أحد المعنيين بالالتزام؛ لأنَّ دلالة الالتزام هي دلالة اللفظ على ما خرج عن مدلوله، والزمان والمعنى الواقع من الفاعل لم يخرجا عن مدلوله، وإذا لم يدُلَّ على واحد منهما بواحدة من الدلالات الثلاث لم يصحَّ كلام الناظم، وإنّما [الذي] يصحُّ في دلالة الفعل: أنَّه يدل على معنى مقترن بزمان معيَّن؛ لأن الفعل مجموع الحروف والصيغة، فالمجموع دالٌّ على المجموع فإذا أُخِذَ واحد من الامرين لم يتحقَّق أنَّ الفعل دالٌّ عليه بخصوصه، فثبت أنَّ هذا التعريف المذكور غير محرر.

والجواب عن الأول: أنّ التعريف وإن حصل بنفي الغير فإنه في قوة بيانه بحقيقته، كما مر في بسط مقصوده؛ لأن دلالة الفعل بحسب الوضع منحصرة في الأمرين، فإن نُفي أحدهما ثبت الآخر، وكلاهما مفهوم من الفعل غير مفتقر في فهمه إلى أمر آخر، وأيضًا فلم يقصد بهذا التعريف تعريف الحدِّ، وإنما قصد التعريف الرسميّ على عادة النحويين في اعتمادهم على ذلك؛ بناء على أنّ الحد الحقيقي في الأمور الوضعية كالمعتذر.

وعن الثاني: أن يقال: لعلّه قصد إدخالها ولم يرد إخراجها؛ لأن إطلاق لفظ المصدر على اسم المصدر جائز، وإن كان مجازًا في الاصطلاح، أو يقال: إنّ تقييده بالمثال في قوله: "كأمْنٍ من أمِن" يخرج أسماء المصادر، فلا يُعتَرَض بها.

وعن الثالث: أن تقول: ذانك المعنيان مدلولان للفعل على الجملة، فإذا

ص: 215

تحقَّق كيف تصحُّ دلالته عليها، فهو ما ذكر في السؤال، فعبارة الناظم يصحُّ تنزيلها على ما تقدّم من أن الفعل في أصل وضعه دالٌّ على معنى مقترن بزمان محصَّل، ولا يلزم الناظم أن يتنزّل لذلك التفصيل المقرر، بل يكفيه ما قال عن ذلك.

ويقال أمِنْتُ الشيءَ أمنًا، وهو ضد خِفتُه، وأمنتٌ الرجل أمانة: إذا وثقت به، من الأول قوله تعالى:{أأمنتم من في السماء} الآية، ومن الثاني:{قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل} . ومثال الناظم من الأول، لأنه أتى بالمصدر على أَمْن، ولو قال كأمانة من أمِن لكان من الثاني. ثم قال:

بمثله أو فعل أو وصف نُصِبْ

وكونه أصلًا لهذين انتُخِبْ

اعلم أن المصدر إنما يُنصَبُ بما يُنصَبُ به المفعول به، وذلك أحدُ ثلاثة أشياء ذكرها الناظم:

أحدها: المصدر، وهو الذي عني بقوله:"بمثله" يريد بمصدر مثله، ولا يعني المثلية من جميع الوجوه، وإنما يريد أنه مصدر لا غير؛ إذ لا يكون المصدر المنصوب به إلا نائبًا عن الفعل، نحو: ضرْبًا زيدًا ضربًا شديدًا، أو مقدّرًا بأن والفعل، نحو: عجبت من قيامك قيامًا حسنًا، ولو كانت المماثلة في كلامه معتبرة من كل وجه لكان المصدر المبيّنُ لا ينصبه المصدر إلا مبيِّنًا، ولكان المصدر المؤكِّد لا ينصبه المصدر إلا مؤكدًا، والمؤكد لا ينصِب أبدًا حتى يكون نائبًا، وهو إذ ذاك غير مؤكّد. ومن النصب بالمصدر قول الشاعر -أنشده سيبويه:

يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم

ويخرجن من دارين بُجْرَ الحقائب

ص: 216

على حين ألهى الناس جلُّ أمورهم

فندلًا زريق المال ندل الثعالب

والثاني: الفعل، نحو: قمت قيامًا، وقعدتُ قعودًا، واستكبرت استكبارًا، ومنه قوله تعالى:{وكلم الله موسى تكليمًا} و {أصروا واستكبروا استكبارًا} ، وقال تعالى:{وكبره تكبيرًا} وهو كثير.

والثالث: الوصف وذلك اسم الفاعل، أو اسم المفعول، فاسم الفاعل، نحو: أنا قائم قيامًا، وزيد ضارب عمرًا ضربًا، ومنه في التنزيل الكريم:{والنَّاشِطات نشْطًا، والسَّابِحات سبْحًا، فالسَّابِقات سبْقا} {فالعاصفات عصْفًا، والناشرات نشْرًا، فالفارقات فرْقًا} واسم المفعول كاسم الفاعل، فتقول: زيد مضروب ضربًا عنيفًا، والخبزُ مأكولٌ أكلًا. هذا معنى ما ذكره. ثم إنه يتعلق به نظران:

أحدهما: أنه لما قال: "بمثله أو فعل أو وصف نُصِب" دلّ أنّ نصب المصدر عنده بهذه الأشياء الثلاثة نفسها، أما الفعل والوصف فهو كما قال، وأما المصدر فإنْ كان مقدّرًا بأنْ والفعل فكما قال حسب ما يُذكر في موضعه، وإنْ كان نائبًا عن الفعل ففيه خلاف بين النحويين، فمنهم من يقول

ص: 217

بمثل ما قال: إن المصدر هو الناصب نفسه لا بالتشبيه بالفعل، واسم الفاعل، بل بحكم الأصل؛ لأنه يطب ما يطلب الفعل، وإن كان اسمًا؛ لأن معناه معنى الفعل إلا أنْ يكون لمجرد التأكيد فإنه كسائر الأسماء، وإذا كان كذلك فادعاء أن العمل لغيره لا دليل عليه. وإذا ثبت ذلك في نحو: ضَرْبًا زيدًا، أعني في نصب المفعول فهو كذلك في نصب المصدر إذا قلتَ: ضربًا زيدًا ضربًا شديدًا.

فإن قيل: إنّ ضربًا لا بدَّ له من ناصب، هو الفعل، فهو إذًا العامل في نفس ذلك النائب، فكذلك يكون عاملًا في غير النائب أيضًا، وإلا فكونه عاملًا في النائب وغير عامل في الآخر قولٌ بالتحكم.

فالجواب: أنه يلزم من هذا أن يكون الفعل عاملًا في مصدرين، والفعل لا يكون كذلك، فلا يقال: ضربتُ زيدًا ضربًا ضرْبَ الأمير اللّصِّ، ولا: قام زيدٌ قيامًا قومةً واحدةً، وما أشبه ذلك، ولذلك قالوا في نحو مثال سيبويه: اعلم الله زيدًا هذا قائمًا العلم اليقين إعلامًا: إن العلم اليقين إنما انتصب بإضمار فعل لا بأعلم، وبيّنوا أنّ الفعل لا يعمل في مصدرين؛ لأنّ الفعل إنما يعطي مما يطلبه شيئًا واحدًا، ولذلك لا يعمل في ظرفي زمان، ولا ظرفي مكان، ولا حالين، ولا تمييزين، فإن جاء ما يُوهم ذلك فهو محمول على البدل، أو على إضمار فعل. وقد أجاز ابنُ الطراوة عمل الفعل في مصدرين، يكون أحدهما

ص: 218

مؤكّدًا والآخر مبيّنًا، ورُدَّ عليه بأن الفعل إنما يطلُبُ المؤكِّدَ، وإذا عمِلَ في المبيّن فقد تضمّن العمل في المؤكّد؛ لأنَّ قولك: ضربتُ زيدًا ضربًا شديدًا، يعطي من التأكيد ما يعطيه المؤكد وزيادة، فلا يعمل في المبيّن إلا عند عدم المؤكّد، أو يُؤتى به بدلًا منه كضربتُه ضرْبًا ضرْبتين.

فإن قلت: فقد جاء في القرآن: {كلا إذا دُكَّت الأرضُ دكًّا دكًّا} .

قيل: هذا ليس من ذلك وإنّما هو على معنى: دكًّا بعد دكٍّ، وبذلك يرجع إلى معنى لفظ واحد، ومصدر واحد ومنه:{وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا} ، ومثل ذلك قولهم: عملت حسابه بابًا بابًا، فليس من باب العمل في مصدرين، فقد ظهر أنّ الفعل لا يصحّ أن يعمل في مصدرين وإذا كان كذلك فقولك: ضربًا زيدًا ضربًا شديدًا لا يصح أن يعمل في المصدر المبيّن الفعل المقدّر، وإنما العامل فيه المصدر النائب. ومن النحويين من زعم أن الفعل المقدر هو العامل؛ لأنك إذا قلت: ضربًا زيدًا، فتقديره: اضرب ضربًا زيدًا، فضربًا منصوب بالمضمر، فينبغي أن ينتصبَ زيدٌ به أيضًا، وجرت عادتهم أن يقولوا هو منصوب بالضرب على التوسّع لما ناب عن الفعل الذي هو عاملٌ فيه، فإذا كان كذلك كان (ندل) من قول الشاعر:"ندل الثعالب" منصوبًا أيضًا بالنائب. وهذا خلاف القول الأول، وليس بالوجه، والأصح هو الأول.

والثاني: أن قوله: "بمثله أو فعل أو وصف نُصِب" يقتضي حصر العامل

ص: 219

فيه، وأنه لا يكون غير ذلك، فلا يكون العامل فيه صفة مشبَّهة باسم الفاعل، ولا أفعل التفضيل، ولا معنى ظرفٍ ولا مجرور، ولا غير ذلك من الألفاظ التي تؤدي معاني الأفعال، ولا تُحْرِزُ ألفاظها؛ ولذلك لا تقول: زيدٌ حسنٌ حُسنًا، ولا زيدٌ أقومُ منك قيامًا، ولا زيدٌ في الدار استقرارًا، ولا زيدٌ عندك ثبوتًا، ولا هذا زيدٌ تنبيهًا، ولا ما أشبه ذلك؛ لأنّ أصل المصدر التوكيد لفعله الذي اشتُقَّ منه، أو ما جرى مجراه، وهو اسم الفاعل؛ إذ هو جارٍ على الفعل في لفظه، ومعناه، وعمله، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله، فإذا ذُكر اسمُ الفاعل أو المصدر النائب عن الفعل فكأنَّ الفعل موجود بلفظه، ومعناه، وكذلك مع اسم المفعول، وأمثلة المبالغة. وأيضًا فالفعل يقتضي العلاج ومصدره مؤكدٌ لذلك المعنى، فما كان معنى العلاج فيه متناسًى ومطرحًا كالصفة المشبهة وأفعل التفضيل لا يصحُّ أن يؤكَّد بالمصدر، فلا يصح أن ينصبه، ولا أن يعمل فيه، إذ لا يطلبه. وإذا ثبت هذا صحَّ أنَّ العامل في المصدر في جميع المسائل الآتية بعد في: ضربًا زيدًا، وقوله:{فأمَّا مَنًّا بعد} وزيدًا سيْرًا سيْرًا، وإنما أنت سيْرًا وله على ألفٌ عُرْفًا، وابني أنت حقًّا، وله صوتٌ صوتَ حمار [فعل مضمر]، وقد بيَّن هو ذلك حيث جعلها منصوبة على إضمار الفعل، وسيأتي بحول الله.

وبعد فعلى الناظم هنا درك من وجهين:

أحدهما: أنه أطلق القول في العامل في المصدر فلم يقيّده بكونه من لفظه حسب ما يأتي، وهو قيدٌ لا بُدَّ منه لأن نصب المصدر من حيث هو مصدر

ص: 220

لا يكون إلّا بما هو من لفظه، كما مرّ تقديره، أو من معناه لكن موافقًا للفعل الذي هو من لفظه حسب ما يأتي. وأمّا نصبه بالمصدر أو الفعل أو الصفة إذا لم يكن من لفظه ولا من معناه فلا يكون به مصدرًا، بل يكون على حسب ما يطلبه ذلك العامل كسائر الأسماء، فتقول: عجبتُ من كراهتك الخروج، وأحبُّ إكرامَ زيدٍ، وأنت محبٌّ الإكرام، كما تقول: عجبتُ من كراهتك زيدًا، وأحب زيدًا، وأنت محبٌّ زيدًا، وعلى هذا الوجه أيضًا يُرفَع ويخفض؛ إذ هو عند ذلك كسائر الأسماء يُرفَع فاعلًا ويُنصَب مفعولًا، ويُخفَض مضافًا إليه بالحرف وغيره، فلا بُدَّ من ذلك القيد، وهو أن يكون العامل من لفظه ومعناه، أو معناه كما تقدَّم، وقول الناظم:"بمثله أو فعلٍ أو وصفٍ نُصِبَ" لا يعيّن المراد، ولا يبيّنه.

والثاني: أنّه أطلق الوصف فلم يقيّده بكونه اسم فاعل أو مفعول بل أطلق فيه القول، فاقتضى أنّ الصفة المشبَّهَة باسم الفاعل، وأفعل التفضيل ينصبان المصدر، فتقول: زيد حسنٌ حُسنًا، وكريمٌ كرمًا، وأفضل منك فضلًا، وما أشبه ذلك؛ لأن كل واحد منهما يسمّى وصفًا في الاستعمال العرفي، ويمتنع أن ينصِبَ المصدر من حيث هو مصدر، فإطلاق الناظم غير صحيح. وأيضًا يلزمه نحو هذا في الفعل؛ إذ لم يقيّده بكونه متصرّفًا، وهو شرط لازم؛ إذ الفعلُ إذا كان غير متصرّف لا ينصب مصدرًا، ولا يُشتَقُّ منه، فلما لم يقيّد الفعل بكونه متصرفًا أوَهَم أنك تقول: نِعم الرجل زيدٌ نعمةً، وبئس الرجل زيدٌ بؤسًا وحبَّذا زيدٌ حبًا، وما أشبه ذلك، وذلك وغير صحيح. فهذا كله فيه ما ترى.

والجواب عن الأول: أنّ مما يدل على مراده، وأنه أراد الموافق في اللفظ ما قبل الكلام وما بعده، فأما ما قبله فتعريفه المصدر بأنه الذي دل عليه الفعل بحروفه، وتمثيله بأمنٍ من أمِنَ، وإذا كان مع الفعل على هذا السبيل أشعر بأنَّ

ص: 221

فعلَه أقرب إلى العمل فيه من غيره، ثم يجري المصدر والوصف مجراه، وأما ما بعده فقوله:"وكونه أصلًا لهذين انتُخِب"، لأن من المعلوم أن مصدر قعد لا يكون أصلًا لضرب، ولا يُدَّعى ذلك فيه، وكذلك العكس. وعلى هذا السبيل يجري سائر المصادر من الأفعال، بل لا بُدَّ أن يكون محصول الحكم بالعمل دائرًا بين الفعل ومصدره الذي من لفظه ومعناه، وكذلك المصدر والوصف فقد ظهر من مساق الكلام اشتراطُ ذلك الشرط.

وأما الثاني: فلا أجد الآن جوابًا عن وروده إلّا أن يُقال: إنه قد تبيّن في أبواب الصفة المُشبَّهة قصور عملها عن عمل الأفعال، وأنّ الصفة المشبَّهة وأفعل التفضيل عملها مقصور على السببيّ، وأن أفعل التفضيل إنما يعمل في الضمير الرفع، وفي الظاهر في موضع واحد. فقد يُقال، ولكنه ضعيف. أما الأفعال التي لا تتصرّف فبيّن خروجها؛ لأنها لا مصادر لها، فكيف يصحُّ أن يُتوهَّم نصبها للمصادر.

ثم قال: " وكونه أصلًا لهذين انتُخِب" الضمير في (كونه) عائد إلى المصدر المُبَوَّب عليه، وانتُخِب: معناه انتُقِيَ واختير، ورجل نُخبَةٌ من ذلك، يعني: أنَّ المختار كون المصدر أصلًا لهذين المشار إليهما بأداة القُربِ، وهما الفعل والوصف، فالفعل والوصف معًا فرعان للمصدر، يريد في الاشتقاق خاصّة؛ إذ ليس المصدر أصلًا لهما في كل شيء، ألا ترى أن الفعل أصلٌ للمصدر في العمل؛ إذ لا يعمل إلا بالنيابة عن الفعل، أو بما تضمّن من معناه، وكذلك اسم الفاعل فرع عن الفعل في العمل، فإنما يريد أصليَّة الاشتقاق، فالمصدر هو الذي اشتُقَّا منه وليس هو بمشتقّ من شيء؛ لأن لو اشتُقَّ من شيء لكان مشتقًّا من المصدر فيكون مشتقًا من نفسه، وهو محال، بل هو من المُرتَجَلات الأُوَل لكن قد يكون المصدر

ص: 222

مشتقًا من المصدر على وجه آخر، كالتعلّم والاستعلام، فإنهما مشتقان من العلم، ولبسط هذا موضع آخر من علم الاشتقاق. والناظم قد أشار هنا إلى خلاف في الاشتقاق، أعني في اشتقاق الفعل والصفة من المصدر، وارتضى أنهما مشتقان منه. والخلاف في الفعل غير الخلاف في الصفة، فأمّا الفعل فمذهب البصريين فيه ما ذهب إليه، وذهب الكوفيون أن المصدر هو المشتَق من الفعل، وبيان رجحان ما ارتضاه من وجوه ذكر منها في الشرح جملة: أحدها: أن المصدر كثُرَ كونه واحدًا، والأفعال ثلاثة ماض وأمر ومضارع، فلو اشتُق المصدر من الفعل لم يخْلُ أن يشتق من الثلاثة، أو من بعضها. واشتقاقه من الثلاثة محال، واشتقاقه من واحد منها يستلزم ترجيحًا من غير مرجح؛ فتعين اطِّراح ما أفضى إلى ذلك.

والثاني: أن المصدر معناه مفرد، ومعنى الفعل مركب من حدث وزمان، والمفرد سابق للمركّب، والدالّ عليه أولى بالإصالة من الدالّ على المركب.

الثالث: أنّ مفهوم المصدر عام، ومفهوم الفعل خاص، والدال على العام أولى بالأصالة من الدال على الخاص.

الرابع: أنّ كل ما سوى المصدر والفعل من شيئين أحدهما أصل والآخر فرع فإن في الفرع منهما معنى الأصل وزيادة، كالتثنية والجمع بالنسبة إلى الواحد، والفعل فيه معنى المصدر وزيادة تعيين الزمان، فكان فرعًا، والمصدر أصلًا.

الخامس: أن من المصادر ما لا فعل له لفظًا ولا تقديرًا، وذلك ويح، وويل

ص: 223

وويس، وويب، فلو كان الفعل أصلًا لكانت هذه المصادر فروعًا لا أصول لها، وذلك محال، وإنما قلنا لا أفعال لها تقديرًا؛ لأنها لو صِيغ من بعضها فعل لاستحقَّ فاؤه من الحذف ما استحق فاء يَعِدُ، أعني في المضارع، ولاستحقَّ عينه من السكون ما استحق عين يبيع، فيتوالى اعتلال الفاء والعين، وذلك مرفوض في كلامهم، فوجب إهمال ما يؤدي إليه. وليس في الأفعال مالا مصدر له مستعملًا إلا وتقديره كتبارك، وفعل التعجب؛ إذ لا مانع له في اللفظ، وأيضًا فتقابل تلك الأفعال مصادر كثيرة لا أفعال لها كالنبوّة والأبوة والخؤولة والعمومة، والعبودية واللصوصية، وقَعْدَك الله، وبَلْهَ زيدٍ، فبطلت المعارضة بتبارك ونحوه، وخلص الاستدلال بِوَيْح وأخواته.

هذا ما استدل به، ولنقتصر عليه، فالكلام فيها طويل الذيل مع قلة الفائدة؛ إذ لا ينبني عليها حكم صناعي، وإنما فيها بيان وجه الصناعة خاصة، والباحث عنها بالحقيقة هو صاحب علم الاشتقاق.

وأما الصفة فحكي فيها الخلاف، وهل هي مشتقة من المصدر أو من الفعل؟ وارتضى أنها مشتقة من المصدر، والقول الآخر يؤثَر عن الفارسي أنه نبَّه عليه، وارتضاه عبد القاهر. والذي ذهب إليه الناظم أرجح؛ لأن في الفرع ما في الأصل وزيادة، وقد وجدنا في الصفة معنى المصدر وزيادة، وهي الدلالة على ذات الفاعل، ولم نجد في الدلالة على الزمان المعيّن، فلو كان مشتقًا

ص: 224

من الفعل لوُجدت فيه الدلالة على الزمان المعيّن، لكنه ليس كذلك، فدلّ على أنّه غير مشتق منه، وإنما هو مشتق من المصدر، وأيضًا فإن الصفة في الغالب متحدة والأفعال متعددة، فلو اشتُقَّت من الفعل لزم اشتقاقها من الجميع أو من واحد معيّن، وكلاهما فاسد، لما تقدّم ولغير هذا من الأدلّة، وهذا البحث أيضًا لا ينبني عليه حكم، وإنما حَدَا إلى الاستدلال إشارة الناظم إلى الترجيح والتوجيه. والله المستعان. ثم قال:

توكيدًا أو نوعًا يُبين أو عدد

كسِرْت سيْرتَين سيرَ ذي رَشدْ

نصب توكيدًا وما بعده على المفعول بِيُبين، والتقدير: يبين توكيدًا أو نوعًا أو عددًا، أي هذا شأنه، وقصده تبيين أنواع المصدر، وأنه على ثلاثة أنواع:

أحدها: المصدر الذي هو لمجرد التوكيد لا يفيد زيادة على ذلك، فهو مفيد مثل ما أفاده الفعل، نحو: قام قيامًا، وقعد قعودًا، و {كلّم الله موسى تكليمًا} و {كبره تكبيرًا} ، ولم يحتج إلى تمثيله لبيانه.

والثاني: المبيّن للنوع، وهو الذي يبين نوع الفعل المذكور، ففيه زيادة على معنى التوكيد، نحو ضربته ضربًا شديدًا، وعاقبته معاقبة الأمير اللص. وقعد قِعدة سوء وتكلم تُكلّم حليم.

والثالث: المبين للعدد وهو قوله: (أو عددًا) لأنه معطوف على نوعًا لكن وقف عليه بالسكون على لغة من قال: رأيت زيدْ. والمبين للعدد هو الذي يفيد زيادةً على توكيد الفعل عدد المرات، ومثّله بقوله: سِرْتُ سيرتَيْن، فسيرتين أفاد

ص: 225

عدد مرات السير، ومثله: سرت سيرات أو سيرة واحدة، وخرجت خرجات أربعًا، ونمت نوماتٍ كثير، وأما قوله:"سير ذي رشد"، فهو مثالٌ للنوع الثاني.

ثم قال:

وقد ينوب عنه ما عليه دَل

كجِدّ كل الجِدّ وافرح الجَذَل

هذا بيان لكون المصدر قد ينوب عنه غيره مما ليس مصدرًا لذلك الفعل المعين، وألقى لذلك ضابطًا، وهو أن النائب عن المصدر لا يكون إلا دالًّا عليه؛ لأنه إذا لم يدل عليه لم يُفِد فائدته، وإذا لم يُفِد فائدته لم يكن نائبًا عنه، فالضمير في (عنه) عائدٌ على المصدر المذكور، ومن (عليه) عائدٌ على المصدر أيضًا، وضمير (دَلّ) عائد على ما، وما واقعة على النائب عن المصدر، والنائب عن المصدر تارة يكون من لفظ الفعل، وإن كان غير جار عليه، وتارة يكون من غير لفظه. فأمّا الذي من لفظه فكقولهم: أنبت الله الزرع نباتًا، وفي التنزيل:{والله أنبتكم من الأرض نباتًا} وهو مصدر عن سيبويه جارٍ على غير الفعل، فكأنّه نائب عن قوله إنباتًا، ومنه قوله تعالى:{وتبَتَّل إليه تَبْتِلًا} فتبتيلًا ليس بمصدر لِتَبَتَّل، وإنما هو مصدر بتَّل، وفي قراءة ابن مسعود:{وأُنْزِل الملائكة تنزيلًا} ومصدر أنزل إنزالًا،

ص: 226

وتنزيلًا مصدر نزَّل كقراءة الجماعة، وأنشد سيبويه للقَطَامي:

وخير الأمر ما استقبلت منه

وليس بأنْ تتبَّعه اتِّباعًا

ويَحتملُ أنّ الناظم لم يقصد هذا؛ لأنه إنما مثل بالمخالف اللفظ. ويدخل في هذا القسم أيضًا اسم المصدر نحو: كلّمته كلامًا، وسلّمتُ عليه سلامًا وصليت صلاة، وقام مقامًا، وقعد مقعدًا، ونحو ذلك.

وأمّا الذي من غير لفظ الفعل فهو الذي مثَّل، إذ أتى بمثالين كلاهما مما يُقاس عليه.

أحدهما: قوله: (كجِدَّ كل الجد) وهو فعل أمر من جَدَّ في الأمر يَجُدُّ ويَجِدُّ جِدًّا: إذا عزم عليه، فالجيم تضبط بالضم والكسر، وهو أحد الأفعال التي جاءت في المضاعف على يفعُل، وليست بمتعدية. والقياس فيما يتعدَّى منه الضم، وفيما لا يتعدّى الكسر، وما عدا ذلك سماع. وقوله:"كل الجد" وضع فيه كلًّا عِوَض المصدر فنصبه نصْبَه، فهو اسم موضوع موضع المصدر، إلَّا أنَّه في قوّة المصدر، ولما قال ككذا، فشبّه به دخل مع كل ما هو في حكمها، والذي في حكمها هو ما كان من الأسماء في معنى ما أضيف إليه أو فُسِّر به من المصادر، نحو: بعض، وجملة، وجميع، والضمير، واسم الإشارة، وأسماء الأعداد، وصفة المصدر على رأيه في الشرح، وما أشبه ذلك، نحو: ضربتُه بعض الضرب، وأكرمته بعض الإكرام، وسرتُ نوعًا من السير، وجملة من السير، وسرت جميع السير، وقمته أي قمت القمات، ومن قوله تعالى: {فإني

ص: 227

أُعذِّبه عذابًا ولا أُعذِّبه أحدًا من العالمين}، وضربته هذا الضرب، وضربته كثيرًا، وضربته شديدًا، ومنه:{واذكر ربَّك كثيرًا} وضربته ثلاث ضربات، وأربعًا، وخمسًا، وقمت مائة قومة، وألفَ قومة، وخمسًا وعشرين قومة. وما أشبه ذلك.

والثاني قوله: "وافرح الجذل" الجَذَلَ هو الفرح يقال جَذِلَ -بالكسر- يجْذَل جَذَلًا كفَرِحَ يفْرَح فَرَحًا، وهذا المثال وضع فيه المرادف موضع مرادفه، ومنه قول;: جلستُ قعودًا، وقعدتُ جلوسًا، وذهبت انطلاقًا، ومنه قول امرئ القيس:

ويومًا على ظهر الكثير تعَذَّرتْ

عليَّ وآلتْ حلْفَةً لم تَحَلَّلِ

وأنشد سيبويه لرؤبة:

لوحها من بعد بُدنَ وسَنَق

تضميرك السابق يدعى للسبق

فمعنى آلَت حلفت، ومعنى لوّحها: ضمَّرها، فهذا أيضًا ممّا يُقاس عند الناظم كالمثال الأول. وقد حصل بالمثالين جميع ما فيه القياس جارٍ من ذلك

ص: 228

فخرج ما ليس بقياس نحو: قعد القرفصاء، واشتمل الصماء، ورجع القهقري، ومشي الخَطَرى ومشت الهيذبي، والخَوْزَلى، وما أشبه لك إذ ليس داخلًا تحت واحد من المثالين، وقد حصل من كلامه: أنَّ العامل في النوعين هو الفعل الظاهر، ولا يحتاج إلى تقدير فعل؛ فأمّا النوع الأول فلا أذكر فيه خلافًا، وأمّا الثاني فاختلف فيه النحويون على قولين:

أحدهما: أن العامل في المصدر هو الظاهر لا غيره، وإليه ذهب المبرد والسيرافيْ، وبعض المتقدمين والمتأخرين، وهو الذي ظهر من الناظم.

والثاني: أنَّه منصوب بإظمار فعل من لفظه، وهو ظاهر الكتاب، واستدلَّ السيرافي على صحة الأول بدليلين: أحدهما: ما لا يختلف فيه أهل اللغة من أنَّه قد يجيء المصدر من لفظ الفعل وليس بمبنى من بنيته كقوله: {وتبتل

ص: 229

إليه تبتيلًا} ومثله: تجاورَ القوم اجتوارًا واجتوروا تجاورًا، ويقال: افتقر فقرًا، ولا يستعمل لفقرٍ فِعلٌ، وقال الشاعر:

*وقد تطوَّيتٌ انطواءَ الحِضْبِ*

والثاني: أنّ قولك: قعد زيد جلوس عمر، وتقديره: قعودًا مثل جلوس عمرو، ثم حذف من الكلام [لدلالة] ما بقي على ما حُذِفَ، ولو نَطَقْت بالأصل لم يُحتج إلى تقدير فعل، فكذلك بعد الحذف، وهكذا القول في قولهم: تَبَسَّمَتْ ومِيض البرق، وقال ابن خروف: ودليل أنّ تضميرك -يعني في بيت رؤبة- ينتصب على هذا الفعل الظاهر قوله تعالى: {ولا تَضَرُّونَهُ شيئًا} {ولا يظلمون نقيرًا} ، و {فتيلًا} وهو كما قال؛ إذ لا ذاهب هنا إلى إضمار فعل؛ إذ ليس له فِعْلٌ، وهو نائب عن المصدر فلا فرق بين البنائين: ثم قال:

وما لتوكيد فَوَحِّد أبدًا

وثَنِّ واجْمَع غَيْرَهُ وأفرِدا

يعني أن المصدر إذا كان لمجرد التوكيد فهو موحِّدٌ أبدًا لا يُثَنَّى ولا يُجمَع؛ لأنه كتكرير الفعل؛ إذ لا يزيد في دلالته على دلالة الفعل شيئًا، أعني دلالته على

ص: 230

المعنى الواقع من الفاعل أو المتصف به؛ إذ هو مبهم ينطلق على القليل منه والكثير، فالمصدر في هذا المعنى كالفعل، والفعل لا يُثنَّى ولا يُجمَع اتفاقًا، فكذلك ما في معناه، فلذلك قال:"فوحّد أبدًا" و"ما" في قوله: "وما لتوكيد" موصولة، وهي في وضع نصب بوحِّدِ، أي: وحّد المصدر الذي للتوكيد، أو موصوفة، والتقدير: وحد مصدرًا كائنًا للتوكيد، وأما غير المؤكد من الأنواع الثلاثة فيجوز تثنيته وجمعه وإفراده، وذلك النوع المبيّن للعدد، والمبيّن للنوع، أما المبيّن للعدد فظاهر، وهو المحدود بالهاء نحو: قومة وضربة، وقتلة، فتقول: ضربت زيدًا ضربتين، وضربات، وقمت قومتين وقومات كثيرة، ولا خلاف في هذا.

وأمّا المبيّن للنوع فظاهر الناظم جواز تثنيته وجمعه قياسًا، فتقول غسلته غسليْن غسلًا عنيفًا وغسلًا رفيقًا، وضربته ضربيْن ضربًا شديدًا وضربًا خفيفًا، وضربته ضروبًا مختلفة. وهذا فيه خلاف فمن النحويين من يجيزُ تثنيته وجمعه قياسًا، منهم الزجاجي حسب ما يظهر منه في الجمل، ومنهم من منع ذلك، وأنّه لا يُقال منه إلّا ما سُمع، وهو مذهب سيبويه، ورأىُ الناظم الأول أرجحُ لأمرين: أحدهما: أنَّ ذلك سُمع في الكلام، فحكي سيبويه: أمراض، وأشغال، وعقول، وقالوا: الحلوم بمعنى العقول، فقال:

ص: 231

هل من حُلومٍ لأقوام فتنذرهم

ما جرَّب الناس من عَضِّي وتضريسي

والثاني: أنَّ المانع من تثنية المصدر وجمعه إنّما هو كونُه يقع على القليل والكثير، فهو اسم جنس كسائر أسماء الأجناس، فإذا أُزيل عن ذلك فصار يدلُّ على شيء بعينه من نوع أو شخص صار كأسماء الأشخاص يُثنَّى ويُجمَع فكما تقول: ضربتان وضربات من جهة تعيين أشخاص الضرب، كذلك تقول ضربان وضروب من جهة تعيين أنواع الضرب، فظهر وجه ما اختاره الناظم، والله أعلم.

وقوله: "وأفرِدا" أراد: وأفرِدَن، فأبدل من النون الخفيفة الألف كما يجب في قياس الوقف. ويظهر أن قوله:"وأفرِدا" حشو لا يفيد؛ لأنّ كلامه إنما هو في جواز التثنية والجمع، لا في جواز الإفراد؛ إذ هو الأصل. فكيف يقول (وأفردا) لغير حاجة؟

والجواب: أنّه بحسب لفظة لابد منه؛ لأنّه لما قال: (وثن واجمع غيره) لم يُفهَم له منه إلا التزام التثنية والجمع؛ إذ لم يأت بلفظ التخيير كما فُهم له لزوم التوحيد في المصدر المؤكد بقوله: "فوحد" فإن الأمر محمول على الوجوب، فيعطي انحتام المأمور به فلما كان قوله:"وثن واجمع" يعطي ذلك أتى بقوله: "وأفردا" ليحصل جواز الأمور الثلاثة فلا حشو إذًا في كلامه.

ثم قال:

وحذف عامل المؤكد امتنع

وفي سواه لدليل مُتسَّع

هذا ابتداء فصل يذكر فيه ما لا يُحذ ف من عوامل المصدر وما يُحذف، وأنّ ما يُحذَف على قسمين: قسم لا يجوز إظهاره، وقسم يجوز إظهاره، فبيّن أولًا أنَّ

ص: 232

المصدر الذي جيء به لمجرّد التوكيد يمتنع حذفُ عامله على الإطلاق، فلا يجوز أن تقول: زيدًا ضربًا بمعنى اضرب زيدًا ضربًا، وإذا قيل لك: هل ضربت زيدًا فلا يجوز لك أن تقول: نعم ضربًا، حتى تقول: نعم ضربته ضربًا، ولا ما أشبه ذلك. ووجه ما زعم من ذلك أن القصد بالتأكيد الإسهاب والإكثار؛ ولذلك بذكر المؤكد مرتين وأكثر فتقول: زيدٌ زيدٌ قائم، وقام قام زيدٌ، وقال:

لا لا أبوح بحب بثينة إنها

أخذت على مواثقًا وعهودًا

والقصد بالحذف الإيجاز فتدافعا، فأنت لو حذفت عامل المصدر المؤكد -والعامل هو المؤكد، والمقصود أن يذكر أولًا، ثم يُؤتَى بمصدره القائم مقام تكراره لكنت قد ناقضت؛ ولذلك لم يُجِز الأخفش توكيد الهاء المحذوفة من صلة الذي نحو: الذي ضربت زيدٌ، فامتنع أن يقال: الذي ضربت نفسَه زيد، قال: لأنّ ذلك نقضٌ من حيث كان التوكيد اسهابًا، والحذف إيجازًا، وذلك أمر ظاهر التدافع. إلى هذا المعنى يرجع ما علّل به المؤلف منع الحذف؛ إذ قال: إنّ المصدر المؤكد يقصد به تقويه عامله، وتقرير معناه، وحذفه منافٍ لذلك فلم يجُز، نقل ذلك عنه ابنه في شرح هذا النظم. وهذه المسألة لم يُنبّه عليها في التسهيل، ولا في الفوائد المحويَّة، وهي من المسائل المشكلة عليه، والاعتراض عليه من وجهين:

أحدهما: أنّ منع الحذف لعامل المصدر المؤكد لا أعرفه منقولًا عن أحد من النحويين إلّا عنه في هذا النظم، وما ذكر عنه ابنه، وأمَّا غيره من النحويين

ص: 233

فيطلقون القول، ولا يقيدون العبارة في جواز حذف عامل المصدر إذا دلّ عليه الدليل فيما عدا مواضع التزام الحذف، فالظاهر جواز أن تقول: زيدًا ضربًا، في جواب من سألك فقال: من ضربت؟ وأن تقول: في جواب: ألم تضرب زيدًا؟ : بلى ضربًا، وقد تقدّم لسيبويه والخليل وغيرهما ما يُشعر بأن عامل المؤكد لا يلزم الإتيان به، بل يُحذَف، وارتضاه ابن خروف وغيره، ولقد استدرك عليه ابنه في هذا الموضع، وردّ عليه فقال بعد ما قرّر وجه المنع:"إن أراد أنّ المصدر المؤكد يُقصَد به تقوية عامله، وتقرير معناه دائمًا فلا شك أن حذفه منافٍ لذلك القصد، ولكنه ممنوع ولا دليل عليه. وإن أراد] أن [المصدر المؤكّد قد يُقصَد به التقوية والتقرير، وقد يقصد مجرّد التقرير فمُسلَّمٌ، ولكن لا نُسلِّم أن الحذف منافٍ لذلك القصد؛ لأنه إذا جاز أن يقرّر معنى العامل المذكور بتوكيده بالمصدر، فلأن يجوز أن يقرّر معنى العامل المحذوف لدلالة قرينةٍ عليه أحقُّ وأولى" وقال: " ولو لم يكن معنا ما يدفع هذا القياس لكان في دفعه بالسماع كفاية، فإنهم يحذفون عامل المؤكد حذفًا جائزًا إذا كان خبرًا عن اسم عين في غير تكرُّرٍ ولا حصر، نحو: أنت سيرًا، وحذفًا واجبًا في مواضع يأتي ذكرها نحو: سقيًا ورعيًا، وحمدًا، وشكرًا لا كفرًا، ثم ذكر أن المنع في

ص: 234

مثل هذا إما للسهو عن وروده، وإما للبناء على مجرد الدعوى. والوجه الثاني على تسليم صحة ما قاله ينتقض عليه بما ذكره بعد من وجوب حذف عامل المصدر المؤكد لنفسه، والمصدر المؤكد لغيره، فإن كل واحد منهما مؤكدٌ مع أن عامله لازمُ الحذف، نحو قوله: له عليّ ألف درهم اعترافًا، وزيد قائم يقينًا، فاعترافًا ويقينًا مصدران مؤكدان، فدخل له تخت إطلاق قوله:"وحذف عامل المؤكد امتنع" وذلك نقضٌ ظاهر.

والجواب عن الأول من وجهين:

أحدهما: أن تلك القاعدة عند النحاة مسلّمة فقد مرّ من ذلك عن الأخفش والفارسي وابن جني ما فيه غناء، وتبيّن وجه ذلك؛ إذ كان التأكيد راجعًا إلى تكثير اللفظ، والحذف راجعٌ إلى تقليله، وأيضًا فقد قال ابن الباذش: التوكيد تمكين المعنى في النفس عند من خاف من المتكلم أن يضعف في نفسه، فيظن به غير ما قصده، فيطيل بالتوكيد ليقوي من نفس السامع أنّ الأمر على ما ذكره المتكلم، لا على ما توهمه، وهو مستعار من قولك وكَّدت العقد والسرج إذا شددتهما تشديدًا متمكنًا، قال فالتوكيد إذًا نقيض الحذف، لأن المتكلم إنما يحذف ثقة بعلم السامع أن الكلام لا يصِحُّ إلا بتقرير محذوف، وهذا هو المجاز عند العرب، فلا يصحُّ توكيده لتنافي الغرضين، وقال- هو أو غيره- أيضًا: الحقيقة عند النحويين الكلام الذي لا حذف فيه، فإن كان فيه حذف فهو مجاز، والمجاز لا يؤكد؛ لأن التوكيد إطالة، والمجاز اختصار، فتوكيد المجاز نقض الغرض. فهذه نصوص تدلُّ

ص: 235

على ما رآه الناظم على الجملة، ثم إن السماع موافق لما قالوا، وإلا فلو كان مخالفًا لهم لم يسعهم القول بمخالفته، وهم أئمة هذا الشأن، وأيضًا فإن ابن جني قد نصَّ على ما رآه الناظم خصوصًا، فقال في قولهم: القرطاس، لمن أرسل سهمًا نحو الغرض:"ولا يجوز توكيد الفعل الناصب للقرطاس لو قلت: إصابة القرطاس، فجعلت إصابة مصدرًا موكّدًا للفعل الناصب للقرطاس لم يجز، من قبل أن الفعل هنا قد حذفته العرب، وجعلت الحال الشاهدة دالّة عليه، ونائبة عنه، فلو أكّدته لنقضت الغرض، قال: "وكذلك قولهم للمهوي بالسيف في يده: زيدًا، أي: اضرب زيدًا لم يجُز أن تؤكد الفعل الناصب لزيد، فلا تقول: ضربًا زيدًا، وضربًا توكيد لاضْربْ المقدَّر؛ لأنه قد حُذف اختصارًا، وأنيبت عنه الحال الدالة، فتوكيده نقضٌ للقضية التي كنت حكمت بها، لكن لك أن تقول: ضربًا زيدًا، على أن يكون المصدر بدلًا من الفعل لا على التوكيد". فهذا نص في خصوض المسألة مبني على تلك القاعدة العامة، وأما مسألة سيبويه فظاهره أن ذلك مسموع احتيج إلى توجيهه كما يحتاج إلى] توجيه [غيره من المسموعات المخالفة للقياس، والذي سهّله بعد السماع تقدُّم ذكر المؤكد في لفظ المتكلم، فكأن المؤكد مذكور قد جرى عليه التوكيد، وليس في كلام سيبويه ما يدل على أنه قياس أصلا، فليس في حُجّة على بطلان قاعدة ابن مالك، وكذلك

ص: 236

في: {إن هذان الساحران} على قول الزجاج؛ إذ لا يتعيّن في الآية ما تأوّله فيها. وأيضًا لم يأت:

*أم الحليس لعجوز شَهْرَبَة*

إلا شاذًا، والشاذ لا يُبنَى عليه، ولا يكسر قاعدة مستمر، وعند ذلك يشكل كلام ابن خروف.

والوجه الثاني: أنّ السماع في حذف عامل المصدر المؤكد معدوم؛ إذ لا تجدُّ من كلامهم منقولًا مثل: نعم ضربًا، في جواب من قال: هل ضربت زيدًا، وما أشبه ذلك مما يحذف فيه الفعل جوازًا لدلالة القرينة عليه، وإنما ثبت الحذف في عامل المصدر المبيّن، والحذف فيه ظاهر؛ إذ لم يجيء لتأكيد الفعل وإنّما جيء به لبيان نوع الفعل المعروف باللفظ أو بالقرينة بعد ما عُرف الفعل، فصار مثل ذكر المفعول بعد حذف فعله، ونحن وإن قلنا: إن المبيّن أصله المؤكّد لا نعني أن قصد التأكيد باقٍ، بل قد تُنُوْسِيَ حتى صار في حكم المعدوم، بالإضافة إلى قصدِ بيان النوع، وإذا كان السماعُ معدومًا فهو الدليل على عدم الجواز، ويكون وجهه ما تقدّم، وعند ذلك يظهر أنّ ما قال ابن الناظم غير لازم إذا أُريد تقرير معنى العامل، فقد قُصِدَ الإتيان بلفظ آخر يُقرِّرُ معنى اللفظ الآخر ويؤكّده، فحذفه مع هذا القصد نقض الغرض كما مرّ.

وأمَّا ما استدلّ به فلا دليل فيه؛ لأن تلك المصادر لم تأت للتوكيد أصلاً،

ص: 237

وإنما هي مصادر جعلت بدلًا من اللفظ بأفعالها، وعُوّضِت منها، ففائدتها النيابة عن أفعالها وإعطاءُ معانيها، لا تأكيدُها، كيف وهي القائمة مقامها بحيث تُنُوسِيَت الأفعالُ؟ ، فلو كانت مؤكدة لها لكانت مؤكدة لنفسها والشيء لا يؤكد نفسه والدليل على ذلك أن: سقيًا، ورعيًا، وحمدًا، وشكرًا، ونحوها لا قائل بأنها مؤكدّة للجملة المحذوفة من الفعل والفاعل والمفعول، وقد قام الدليل عند المحققين على أنها عِوَضٌ من الجملة لا من الفعل وحده، وسيأتي من ذلك طرفٌ إن شاء الله، فلو كانت مؤكِّدةً لَزِمَ أنْ تكون مؤكِّدَةً للجملة برأسها إن شاء الله، فلو كانت مؤكدةً لزم أن تكون مؤكدة للجملة برأسها، وذلك غير صحيح، أيضًا لو كانت مؤكدة لجاز إظهار الفعل، كما جاز في قولك: ضربتُ زيدًا ضربًا، لكنهم لا يظهرونه في: سقيًا ورعيًا، وشكرًا، ونحوها، فدلَّ ذلك على أنّها ليست بمؤكدة.

فإن قال: فأنت تظهر الفعل في قولك: أنت سَيْرًا، وزيدٌ سَيْرًا ونحوهما كما سيأتي.

فالجواب ما سيأتي ذكره هنالك إن شاء الله. والجواب عن السؤال الثاني: أنّ للمصدر المؤكد في هذا الباب إطلاقين:

أحدهما: أن يُراد به المؤكد لفعله، وهو الذي أراد ههنا.

والثاني: أن يُراد به المؤكد للجملة المذكورة قبله، وليس بمؤكد لعامله الذي هو الفعل المقدّر، ومنه "اعترافًا" في: له عليّ ألف درهم اعترافًا، وحقًا في قولهم: أنا قائم حقًّا، فالإطلاقان مختلفان في الاصطلاح؛ ولذلك قال بعد هذا:"ومنه ما يدعونه مؤكدًا لنفسه وغيره" فبيّن أنّهم سمَّوْهُ بذلك تسميةً

ص: 238

مقيَّدة بالنفسِ والغير تخالف ما تقدّم، وإذا تبايَن الإطلاقان لم يدخل أحدهما على الآخر. ثم قال:"وفي سواه لدليل متسع" استعمل (سوى) استعمال المتصرّف، وإن كان مخالفًا لمنع التصرف فيها، لأمرين: أحدهما: ضرورة الشعر، كما قال الأعشى -أنشده سيبويه-:

*وما قصدت من أهلها لِسوائِكا*

وسوى وسواء واحد، والثاني: أن رأيه فيها جواز التصرف حسب ما نبّه عليه في باب الاستثناء، وضمير "سواه" عائدٌ على عامل المؤكد، وهو على حذف المضاف تقديره: وفي حذف سواه لدليل متسع، ويريد أنَّ ما عدا عامل المصدر المؤكد فليس حذفه بممتنع، بل لك أن تحذفه بشرط أن يكون ثم ما يدلّ عليه، كقولك: سيرًا خفيفًا لمن قالت لك: أيُّ سير سرت؟ وبلى قيامًا طويلًا، لمن قال لك: أما قمت؟ وتقول لمن رأيته قادمًا من الحج: حجًا مبرورًا، أو مقدم من سفر: قدومًا مباركًا، أو تأهب للسفر: سفرًا مباركًا، على تقدير: سرت سيرًا خفيفًا، وقمت قيامًا طويلًا، وحججت حجًا مبرورًا، وقدمت قدومًا مباركًا، وتسافر سفرًا مباركًا. فإن لم يكن ثمَّ ما يدل على المحذوف لم يسُغ الحذف على القاعدة المعلومة. هذا معنى ما أراد على الجملة، ثم يبقى النظر في حكم الحذف، ولم يقع التصريح به في كلامه، فيحتمل قوله:"وفي سواه لدليل متّسع" تفسيرين: أحدهما: أن يكون شاملًا لجميع ما يُحذف كان جائز الحذف أو لازِمَه، واللازم سيأتي ذكره وتمثيله، وكأنه يقول: ما عليه دليلٌ من عوامل المصدر غير المؤكِّد فلا يمتنع حذفه كما امتنع الأول، فنفَى المنعَ بقوله إنَّ في الحذف متَّسعًا، أي ليس كحذف عامل المؤكد، ولا

ص: 239

يعني أنّ الحذف جائز على الإطلاق؛ لأنه قد يكون لازمًا، والقسمة تعطي منعًا وسواه، وسوى المنع يشمل الجواز واللزوم، فاللفظ لفظ التوسعة، والمساق يقضي بغير ذلك، ونظير ذلك مما جاء على لفظ التوسعة والإباحة مع أن المساق لا يُحَتم مقتضى اللفظ قول الله سبحانه:{فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يَطَّوَف بهما} فإن هذه الآية لفظها يقتضي الإباحة، وليس الطواف بهما مباحًا؛ لأنه إنما ذكر رفع الجُناح في مقابلة توهُّمية حين خافوا المنع بسبب ما تقدّم فيهما من أعلام الكفر، فرفع ذلك التوهُّم بقوله:{فلا جُناح عليه أن يطوف بهما} فكذلك هنا أتى بالمتسع لأنه مقابل لما لا متسع فيه.

والثاني: أن يريد ظاهر اللفظ من جواز الحذف فقط، كأنه قال: وما سوى ذلك فجائز الحذف ويكون قسمًا برأسه، ويبقى] الكلام في [الحذف] اللازم [يذكره إثر ذلك بقوله: ] والحذف [حَتْمٌ في كذا، والتقدير: وما سوى] ذلك [جائز الحذف، ومنه لازم الحذف ككذا، ثم عدَّد مواضع اللزوم. والتفسير الأول أجرى على تحرير التقسيم. والله أعلم. ثم قال:

والحذفُ حَتْمٌ مع آتٍ بَدَلًا

من فعله كنَدْلًا اللَّذْكانْدُلا

هذا هو القسم الثالث ممَّا تحرَّر من كلام الناظم من الأقسام، وهو اللازم الحذف

ص: 240

ويعني أن حذف عامل المصدر حتم، أي: لازم مع مصدر قد أتى في الكلام بدلا من ذلك العامل، دلّ علىذلك قصد العرب، والبدل والمبدل منه لا يجتمعان، وهذا القصد يشتمل على جميع الأنواع التي ذكر فيما بعد، فإن المصادر فيها جعلت بدلًا من اللفظ بالفعل حسب ما نص عليه سيبويه وغيره، إلا أن ما جاء من ذلك في كلام العرب على قسمين: أحدهما: ما لم يكثر حتى يصير قياسًا، بل هو موقوف على السماع كالمصادر المثناه، نحو: حنانيك، ولبيك وسعديك، ودواليك، وهذاذيك، ومثله سبحان الله. ويدخل في هذا المعنى المصادر التي لا أفعال لها.

والثاني: ما كثر حتى صار قياسًا، وهو الذي تكلم عليه، وأتى منه بسبعة أنواع: أحدها ما كان معناه الأمر نحو: ندلا الذي معناه أندل، وإشارته به إلى ما أنشده من قول الشاعر:

على حين ألهى الناس جل أمورهم

فندلًا زريق المال ندل الثعالب

كأنه قال: اندل المال ندلًا، والندل: تناول الشيء باليدين جميعًا، وهو أيضا السرعة في السير، ويقال: ندل يندُل بالضم، ويندِل بالكسر، ومثله: ضربًا زيدًا، وقتلًا عمرًا، وإكرامًا أخاك، وصبرًا عليه، على معنى: اضرب، واقتل، وأكرمواصبر. فهذه نظير مثاله المذكور، وهو ما لا يظهر فيه الفعل كما قال.

ص: 241

ويدخل تحته ما كان في معنى الأمر، وذلك الدعاء، نحو: سُقيًا، ورعيًا، وجدعًا، وعقرًا، وخيبة، وبؤسًا، وجوعًا، وتبًا، وبعدًا، وسحقًا، وتعسًا، تقول: سقيًا لزيد، أي سقاه الله سقيًا، ورعيًا: بمعنى رعاه الله. وكأن هذا النوع مختص بما كان متعديا من الأفعال. فإذا قلت: سيرًا بمعنى: سر سيرًا، أو معنى: سرت سيرًا إذا أريد به الدعاء فلا يلزم إضمار الفعل بل يجوز أن تظهره بخلاف: ضربا زيدًا، وسقيا لزيد، وأشباههما، فإنك لا تقول: اضرب ضربًا زيدًا، ولا سقى الله زيدًا سقيًا له، ولا ما أشبه ذلك؛ ولهذا مثل ابن مالك ب"ندلًا" المتعدي، اللهم إلا أن يكون ثم تكرير فإن الإضمار يلتزم حسب ما يذكره، وقد زعم في الشرح أن مثل هذا عند سيبويه غير مقيس على كثرته، وأنه عند الأخفش والفراء مقيس بشرط أن يكون المصدر مفردا منكرا، نحو: سقيا له، ورعيا، وما أشبه ذلك. ووجه القياس ظاهر لكثرة ما جاء من ذلك في الأمر والدعاء، فلا مانع من أن تقول: أكلا الخبز، وشربا الماء، ولبسًا الثوب، وأن تقول: إطعاما له، وكفاية له، وإجلالا له، وإكبارا وما أشبه ذلك.

وأعلم أن في قوله: "بدلا من فعله" ما يدل على أن ما ذكره مما له فعل معهود مستعمل، إذ لو لم يكن كذلك لم يصدق عليه أنه بدل من فعله؛ إذ لا فعل له، وأيضا فإنه مثل بما له فعل مستعمل، فكان الأظهر أنه أرداه، فثبت أن إجراء القياس فيما قال منوط بما كان له فعل مستعمل، فخرج عن ذلك ما كان منها لا فعل له مثل: ويحه وويله وويبه وويسه، وبله فيمن قال:

ص: 242

* بله الأكف

*

بالخفض، ورويد فيمن قال: رويد زيد بالخفض أيضًا، فإنهما هنا مصدران لا فعل لهما، وقد نبه على ذلك في باب أسماء الأفعال، فما كان من هذا القبيل فليس بقياس فلم يعبأ بذكره، وقوله:"اللذ كاندلا" جاء بالذي على لغة من حذف الياء وسكَّن الذال، وقد قدم التنبيه عليها في باب الموصول.

والنوع الثاني: ما وقع من المصادر لتفصيل عاقبة طلب أو خبر وذلك قوله:

وما لتفصيل كإما منا

عامله يحذف حيث عنا

فالتفصيل معطوف على ما بعد الكاف في قوله: "كندلا اللذ كاندلا"، أي: كهذا. وكالذي لتفصيل، ويجوز أن يكون (ما) مبتدأ خبره قوله:"عامله يحذف" ويعني أن المصدر يحذف عامله أيضا لزوما إذا جاء لتفصيل عاقبة أمر من الأمور التي لعاقبتها تفصيل، ودل على هذا التفصيل الخاص قوله:"كإما منا" فهو تفصيل عاقبة الطلب المتقدم في الآية المشار إليها وهي قوله تعالى: {حتى إذا أثخنتوهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} تقديره: فإما تمنون منا وإما تفادون فداء، إلا أنهم حذفوا الفعل وعوضوا المصدر عنه؛ فلا يجتمعان معا. وقد يكون ذلك في الخبر فتقول: لأجتهدن فإما بلوغًا وإما موتًا، وأنا أطلب، فإما قبولا وإما ردًا، وفلان يسعى فنيل مراد أو خيبة، وما أشبه ذلك. وهذا

ص: 243

التفسير بناء على رأيه في التسهيل أنه تفصيل لعاقبة الأمر، وإلا فكلامه هنا محتمل لذلك ولغيره، فإذا جعلت المثال قيدًا جاء منه ما قال في التسهيل، وإذا لم تجعله قيدًا دخل فيه ذلك وغيره، كمثال سيبويه: ألم تعلم يا فلان مَسيري فإتعابًا وطردًا؛ لأنه أجمل ذلك المسير أولا وفصله ثانيا، وأنشد سيبويهِ لجرير:

ألم تعلم مسرحي القوافي

فلا عيا بهن ولا اجتلابا

ويقال: عن الشيء عنونا وعننا إذا ظهر أمامك وعرض لك، ومنه قول امرئ القيس:

*فعن لنا سرب كأن نعاجه*

أي: عامله يحذف حيث وجد أو حيث كان، أو حيث ظهر. وفاعل عن عائد على المصدر المذكور، لا على العامل.

والنوع الثالث والرابع: المصدر المكرر، والمصدر المحصور، وذلك ما قال:

كذا مكرر وذو حصر ورد

نائب فعل لاسم عين استند

أما المصدر المكرر فهو الذي ذكر مرتين فلم يقتصر على الإتيان به مَرَّة واحدة،

ص: 244

ثم يحتمل أن يكون أراد تقييده بقوله: "لاسم عين استند"، فيريد أن المكرر يلزم إضمار ناصبه حيث وقع مستندا لاسم عين. وهذا هو الذي نصَّ عليه في التسهيل بقوله:"أو نائبا عن خبر اسم عين بتكرير أو حُصر" فيكون قوله: "لاسم عين استند" في موضع الصفة لفعل، وقوله:"نائب فعل" حالًا من المكرر وذي الحصر معًا، وأفرده وكان حقه أن يقول نائبي فعل لكن اعتبر جنس المصدر، ولم يعتبر ما ذكر من نوعية أو على اعتبار معنى ما ذكر كما قال:

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

فكأنه قال ويلزم إضمار عامل المصدر إذا وقع ذلك العامل خبرا عن اسم عين وكان المصدر مكررا في الذكر، ومثال ذلك: زيد سيرا سيرا، وأنت سيرا سيرا، وإن زيدًا سيرا سيرا، وليت زيدا سيرا سيرا. وكذلك تقول في كأن، ولكن، ولعل، وكان، وما أشبه ذلك. ومن أمثلة سيبويه: كان عبد الله الدهر سيرا سيرا، وأنت منذ اليوم سيرا سيرا، وكأنه إنما قيده بالتكرار تحرزا من قولك: سيرا، فإنه لا يلزم إضمار عامله؛ لأن العرب جعلت تكراره عوضا من إظهار العامل، فكان الإتيان به جمعا بين العوض والمعوض عنه. وقيده بكون عامله خبرا عن اسم عين، لأن النصب هنالك أبين؛ إذ الرفع إنما يصلح على التأويل، لأنه لا يخبر عن العين بالمعنى في محصول الكلام إلا على مجاز كقول الخنساء -أنشده سيبويه-:

ص: 245

ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت

فإنما هي إقبال وإدبار

وأيضا إن المعنى على الإخبار بالعمل المتصل في الحال، ولم ترد أن تجعل الآخر هو الأول، وإن كان مجازا بل قصدت حين قلت: أنا سيرا سيرا أنك في حال سير كثير، وعمل متصل، بخلاف قولك: سيرك سير حسن، فإن الآخر فيه هو الأول كـ"زيد أخوك"، فلا داعية إلى النصب. على هذا المعنى تقول: زيد سير، قال سيبويه:"واعلم أن السير إذا كنت تخبر عنه في هذا الباب فإنما تخبر بسير متصل بعضه ببعض في أي الأحوال كان". قال: "وأما قولك: أنت سير فإنما جعلته خبرا لأنت، ولم تضمر فعلا" ويريد أن ذلك مجاز، وهذا التفسير هو الأظهر إلا أنه معترض من وجهين:

أحدهما: أنه كان حقه إذا أن نقول: نائبي فعل حين كان يرجع إلى المكرر والمحصور، وقد تقدم الجواب عنه.

والثاني: أن عامل المكرر إذا كان خبرا لاسم معنى فلا يقع المصدر نائبا عنه، أو لا يلزم حذفه. وهذا على فرض جريان القياس في هذا الباب مشكل؛ فإنه يقتضي منع قولك: أملك نقصا نقصا، بمعنى أنه في حال نقص متصل، وحرصك ذهابا ذهابا، وشغلك زيادة زيادة، وما أشبه ذلك، وهو غير ممتنع؛ لأنه موازن لقولك: أنت سيرا سيرا، والتقدير: أنت تسير سيرا، فكذلك التقدير هنا: أملك ينقص نقصا، وحرصك يذهب ذهابا، وشغلك يزيد زيادة ومعنى الجميع اتصال العمل وكثرته في الحال، فلا يستقيم

ص: 246

مع القول بالقياس منع مثل هذا.

والجواب عن ذلك: أن يقال لعل الناظم اقتصر على القياس في محل السماع، ولم يأت هذا النوع إلا في الإخبار عن العين، وكثير من هذه المصادر جاءت سماعا، فكأنما تحرى القياس [حيث] كثر في كلام العرب مثله وامتنع منه حيث عدم السماع أو ندر، ويحتمل كلامه في المكرر تفسيرا آخر، وهو أن يكون قوله:"كذا مكرر" جملة تامة لم يتقيد مصدرها إلا بالتكرار، وأما كون ذلك المصدر مستندا لاسم عين فغير لازم، فكأنه يقول: يلزم أيضا حذف عامل المصدر إذا كان مكررا، ويدل على هذا الوجه إفراده (نائب فعل) ولم يقل نائبي فعل؛ لأنه راجع إلى أقرب مذكور، وهو المحصور فيشمل إذا ما تقدم ذكره في التفسير الأول، ويشمل أيضا المصادر التي تجيء مثناة في الأمر، كقولهم: الحذر الحذر، والنجاء النجاء، وضربا ضربا، والقتال القتال، وسيرا سيرا، وكذلك تقول: اللهم غفرانا غفرانا وما أشبه ذلك، وفي كلام سيبويه ما يدل على صحة هذا، وأن التكرار كالعوض من إظهار الفعل حيث قال:"ولو قلت رأسك أو نفسك أو الجدار كان إظهار الفعل جائزا". ونص السيرافي على صحة ذلك، وأنك إذا أثنيت هذه الأشياء لم تذكر الفعل معها، وإذا وحدتها حسن ذكر الفعل، لو قلت: الليل الليل، لم يحسن أن تقول: بادر الليل الليل، وإذا قلت: الليل، حسن أن تقول: بادر الليل، قال: وكذلك الاسمان المعطوف أحدهما على الآخر لا يذكر الفعل قبلهما، ولو أفردت أحدهما لحسن ذكره، لو قلت: اتق رأسك، واتق الجدار جاز، وقد قبح التكرار فكأنهم شبهوا الأول

ص: 247

من اللفظين بالفعل فأغني عنه، وصار بمنزلة: إياك، النائب عن الفعل كما كانت المصادر كذلك كـ: الحذر، ونحوه، وقد زعم ابن خروف أن المُراعى في لزوم الإضمار كثرة الاستعمال سواء أكرر أم لم يكرر، قال ابن الضائع: والسيرافي أضبط في مثل هذا، فإذا ثبت هذا اقتضى قيد التكرار أن المصدر إن لم يتكرر لم يلزم إضمار فعله، فتقول: الحذر يا زيد، وإن شئت أظهرت فقلت: احذر الحذر، وتقول: سير البريد على تقدير: سر سير البريد، وإن شئت أظهرته. واقتضى عدم اشتراط إسناد العامل إلى اسم عين أن يجوز نحو: أملك نقصا نقصا، وحرصك زيادة زيادة، على لزوم إضمار العامل، ووجهه أن جريان القياس هنا لا مانع منه بعد تسليم القياس في نحو: أنت سيرا سيرا؛ إذ العلة في الجواز ليست إسناده إلى اسم عين، بل قصد الإخبار بالعمل المتصل الحالي كما قال سيبويه وغيره، وهو موجود في الأمثلة المذكورة، فكأن الناظم على هذا التفسير يقول: إذا تكرر المصدر المنصوب فذلك التكرار مانع من إظهار ناصب. وهي طريقة تفسير كلامه جارية، إلا أن في ذلك نظرا من وجهين:

الأول: أنه يقتضي أنه إذا لم يتكرر لم يلزم إضمار عامله وإن استند إلى اسم عين نحو: أنت سير البريد، وزيد شُرْب الإبل، وزيد سيرا، وما أشبه ذلك، فتقول: إن شئت: زيد يسير سير البريد، وزيد يسير سيرا، وهذا هو الذي نص عليه في الشرح إذ قال:"ولو عُدِم الحصر والتكرار، لم يلزم الإضمار، بل يكون جائزا هو والإظهار" وهذا قد يسلم مع المصدر المبين وأما مع المؤكد فقد قال قبل:

*وحذف عامل المؤكد امتنع*

ص: 248

وإذا قلت: أنت سيرا، فأجهزت إظهار الفعل وعدم إظهاره فهو إقرار بجواز حذف عامل المؤكد فكان كلامه متناقضا، أعني مفهوم هذا الموضع مع منطوق ما تقدَّم.

والثاني: أن اشتراط التكرار في نحو: أنت سير البريد، وزيد سيرا، لم أره منصوصا لسيبويه، ولا لغيره، بل يطلقون القول بلزوم الإضمار من غير إعلام بلزوم التكرار، وإنما غاية ما عندهم في ذلك أن تمثيلهم يغلب عليه ذلك، ولكن ليس عدم التكرار بمهجور بل قد مثلوا بعدم التكرار مع الاستفهام نحو قولهم: أنت سيرًا؟ ولا فرق في هذا بين الاستفهام والخبر، فالحاصل أن هذا الشرط بالنسبة إلى ما يكون خبرا عن اسم عين غير محرر ولا مسلم.

والجواب عن الأول: أنه لا تناقض في كلامه بل إن ثبت اشتراط التكرار فعدمه مجوز لإظهار العامل لكن في المصدر المبين، وهو الذي يجوز حذف عامله عنده، وأما المؤكد فلا يدخل لأنه مستثنى بنصه قبل، فعلى هذا تقول: أنت سير الأحمق، وأنت السير، وأنت سيرتين، وأنت سيرا شديدا، وإن شئت أظهرت فقلت: أنت تسير سير الأحمق، وأنت تسير السير، وأنت تسير سيرتين، وأنت تسير سيرا شديدا، وتقول في المؤكد: أنت تسير سيرا فتظهر لا غير، وغاية ما في كلامه هنا أن غير المكرر لا يلزم إضماره، فيبقى المفهوم بالنسبة إلى المبين جاريا على معنى عدم اللزوم، وهو الجواز بالنسبة إلى المؤكد معطلا بما تقدم فيه.

وأما الثاني فيظهر وروده؛ لأن علة لزوم الإضمار في هذا النوع إنما هي قصد الإخبار بالعمل المتصل [في] الحال، وذلك يكون مقصودا مع التكرار

ص: 249

وعدمه بدليل وجود ذلك مع الاستفهام حسب ما نصوا عليه. ويمكن أن يعتذر عنه بأن التكرار يلزم معه قصد الإخبار بالعمل المتصل الذي هو علة لزوم الإضمار بخلاف ما إذا لم يكن تكرار، فإنه قد يُقصد وقد لا يُقصد، فإذا قُصد لزم الإضمار، وإذا لم يقصد لم يلزم، فإذا قد حصل مع عدم التكرار جواز الإظهار على الجملة، أعني من غير نظر إلى تفصيل القصدين، ولا نكر في ذلك فقد يطلقون القول بجواز أمرين في المسألة، وذلك بحسب قصدين لا يدخل أحدهما على الآخر، وعلى هذا يتعين في كلامه التفسير الثاني من التفسيرين المتقدمين من أن قوله:"كذا مكرر"، غير مقيد بما بعده من قوله:"نائب فعل" إلى آخره؛ إذ لا يجوز فيه الإظهار إذا كان نائبا عن الفعل كان مكررا أو غير مكرر، وأيضا فقيد النيابة بالنسبة إلى المكرر لا يحتاج إليه؛ إذ ليس فيه غير النيابة، وهو محتاج إليه بالنسبة إلى المحصور حسب ما يذكر بحول الله. وقد تم الكلام على المكرر.

وأما المحصور فقال فيه: "وذو حصر" أي كذا ذو حصر، يعني أنه يلزم إضمار عامله إذا قُرِن بأداة حصر، نحو: إنما أنت سيرا، وما أنت إلا سيرا لكن بشرطين: أحدهما: أن يكون نائبا عن فعله، وإنما يظهر ذلك بقصد القاصد، والقصد في ذلك أن يؤتى به على معنى الإخبار بالعمل المتصل في الحال لا أن يخبر بعمل قد كان أو سيكون، فلو لم يقصد النيابة، وذلك بأن يراد الإخبار عن عمل قد مضى أو سيأتي بعد فلا يلزم الإضمار فتقول: إنما أنت شرب الإبل، وما أنت إلا سير البريد، وإن شئت أظهرت فقلت: إنما أنت تسير سير البريد، وإنما أنت تشرب شرب الإبل، ويبقى قولك: إنما أنت سيرا بمقتضى كلامه أولا غير جائز، لأنه مصدر مؤكد، ولا يحذف عامل المؤكد بل يلزم إظهاره، فنقول: إنما أنت تسير سيراً.

ص: 250

والشرط الثاني: أن يكون ذلك العامل مستندا لاسم عين نحو: إنما زيد سيرا، فلو استند لاسم معنى نحو: إنما سيرك سير حسن، وما سيرك إلا سير حسن لارتفع كما تقدم في: سيرك سير حسن، وكذلك يقتضي ألا يقال: إنما حرصك زيادة، وإنما أملك نقصا، وما أملك إلا نقصا، وقد تقدم الكلام فيه.

فإن قيل: إن قوله: "نائب فاعل" لا فائدة له هنا لأنه قد ذكر ذلك في أول هذا الفصل حيث قال: "والحذف حتم مع آت بدلا من فعله" ثم أتى بالأنواع، فقد تقرر أنه بدل من فعله، فتكرار ذلك هنا غير محتاج إليه، وأيضا فقوله قبل هذا:"عامله يحذف حيث عنا" لا يحتاج إليه، إذ قد فرضه نوعا من أنواع المصدر النائب عن فعله، فعلى فرض النيابة تكلم.

فالجواب: أن قوله: "نائب فعل" احترز به من ألا يكون نائبا، فإنه إن لم يكن نائبا جاز ظهور الفعل، نحو: ما أنت إلا تسير سير البريد، كما مر.

فإن قيل: هذا المعنى بعينه قد استفيد من قوله أولا: "والحذف حتم مع آت بدلا من فعله" فإن مفهومه أنه إن لم يأت بدلا من فعله لم يلزم الحذف، فتكرار ذلك هنا تكرار.

قيل: ليس كذلك بل إنما كرره لحاجة اقتضت ذلك، هي أنه قال قبل:

وما لتفصيل كإمامنا

عامله يحذف حيث عنا

فنص على أن العامل هنا يحذف مطلقا، وليس ذا وجهين بل المصدر هنا نائب أبدا فكان قوله:"يحذف حيث عنا" بيانا لذلك، إذ لو سكت فلم يبين أنه

ص: 251

يحذف في كل موضع لتوهم أن له وجهين في الكلام: وجها يلزم فيه الحذف، وذلك إذا أتى المصدر بدلا من فعله، ووجها لا يلزم فيه ذلك، وهو إذ لم يأت بدلا من فعله حسب ما فهم من قوله:"والحذف حتم" إلى آخره. وهذا الفهم غير صحيح في نحو: "فإمامنا" فخلص الحكم فيه بقوله: "عامله يحذف حيث عنا" فليس بحشو، ثم لما قدم هذا وأردفه بقوله:"كذا مكرر وذو حصر" خاف أن يفهم في المحصور أن الحذف يلزم عامله أيضا كما لزم في المكرر في جميع الاستعمالات فقيَّده بالنيابة بقوله:

*كذا مكرر وذو حصر ورد نائب فعل

*

أي إنما يلزم حذف عامله إذا ناب عنه لا إذا لم ينب عنه كما تقدم فلا حشو في كلامه.

وقوله: "نائب فعل" حال من فاعل ورد المستتر، وهو عائد على ذي الحصر وحده، لا على المكرر والمحصور معا؛ لأن المكرر ليس له استعمالان من النيابة وعدمها، بل هو نائب مطلقا، فالحذف لازم معه مطلقا كالمصدر الذي في قوله:"فإما منا" بعد قوله: "كذا مكرر" يريد أن عامله أيضا يحذف حيث عنَّ، بخلاف الحصر فإنه ذو وجهين، فتقول على قصد النيابة: إنما أنت سيرا خاصة، ويجوز على القصد الآخر أن تقول: زيد يسير سيرا سيرا، وكذل في الحصر إذا كررت فقلت: إنما أنت سير البريد سير البريد، لاتقول: إنما أنت تسير سير البريد سير البريد، وبهذا يتضح صحة التفسير الثاني في كلام الناظم/ المتقدم الذكر.

ص: 252

وقوله: "لاسم عين" متعلق باستند واستند مطاوع لأسندته على غير قياس، والإسناد هنا بمعنى الإخبار، كأنه قال: نائب فعل صار خبرا الاسم عين، واسم العين عند النحاة: الاسم الواقع على معاين البصر، وهي الجثة؛ ولذلك يقسمون الأسماء لاسم عين، واسم معنى، وأسماء المعاني: هي الأفعال والأعراض والصفات القائمة بالذوات والجثث.

والنوع الخامس: المصدر المؤكد لنفسه، والمصدر المؤكد لغيره، وهو الذي قال فيه الناظم:

ومنه ما يدعونه مؤكدا

لنفسه أو غيره فالمبتدأ

نحو: له على ألف عرفا

والثان كابني أنت حقا صرفا

الضمير في (منه) عائد إلى المصدر اللازم حذف عامله، يريد: ومن المصدر المذكور المصدر المسمى مؤكدا، فيدعونه بمعنى يسمونه، تقول: دعوت ولدي زيدا، أي سميته زيدا، وهذا المصدر المؤكد ليس المؤكد لعامله؛ لأن ذلك لا يجوز معه حذف العامل كما مر، وإنما هو مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة عليه، لكنه على ضربين: أحدهما يسمى مؤكدا لنفسه، والآخر يسمى مؤكدا لغيره، والضمير المرفوع [في] يسمونه عائد على النحويين، وأصل ذلك لسيبويه قال: في الأول: "هذا باب ما يكون المصدر فيه توكيدا لنفسه نصبا"، وقال في الثاني حين بوب عليه:"هذا باب ما ينتصب من المصادر توكيدا لما قبله"، وهو معنى مؤكد لغيره، وجرى على هذا الاصطلاح كثير، قال المؤلف في الشرح حين بين الفرق بينهما: "إن مضمون الجملة قبله

ص: 253

إن كان لا يتطرق إليه احتمال يزول بالمصدر سمي مؤكدا لنفسه؛ لأنه بمنزلة تكرير الجملة، فكأنه نفس الجملة، وكأن الجملة نفسه، نحو قولك: له على ألف درهم عرفا أو اعترافا -فإن قولك: "له عليَّ ألف درهم" اعتراف ثابت لا يتطرق إليه احتمال يرتفع بقولك عرفا أو اعترافا- وإن كان مضمون الجملة يتطرق إليه احتمال يزول بالمصدر فتصير الجملة به نصا سمي مؤكدا لغيره؛ لأنه ليس بمنزلة تكرير الجملة، فهو غيرها لفظا ومعنى" وهو قولك: هو ابني حقا. وهذه التفرقة للسيرافي مع زيادة بسط، وقد يسمى أيضا الأول التوكيد الخاص، والثاني التوكيد العام، ومعنى الخصوصية في الأول أن قوله "اعترافا" مقصور على قوله: له عليَّ كذا، وخاص به. وأما حقا فليس بخاص بتلك الجملة بعينها، بل يكون توكيدا لها، فتقول: هو ابني حقا، ولغيرها نحو: أبوك منطلق حقا، وزيد قائم، ومات زيد، وأبوك سائر، وغير ذلك من الأخبار، فيحق أن يسمى التوكيد العام، والأول خاصا، ثم أتى بتمثيل لكل واحد منهما، فقال:"فالمبتدأ نحو له عليَّ ألف عرفا" يعني بالمبتدأ المبدوءَ به أولا، وهو المصدر المؤكد لنفسه، ومثَّل بمثال من أمثلة الكتاب، فعرفا بمعنى اعترافا، ولكونه مسموعا أتى به، وإلا فقد قال الجوهري إنه اسم مصدر للاعتراف، فصار كالسلام من سلَّم، والكلام من كلَّم، والجاري على اعترف الاعتراف، وقد يقال: إنه جار على عرف بمعنى اعترف، فالعرب تقول: ما أعرف لأحد يصرعني، أي ما أعترف له، فكأنه لما قال: له عليّ ألفٌ قال

ص: 254

أعرف له عرفا، ومن أمثلة هذا النوع قول الله تعالى:{وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله} فصنع الله توكيد لنفسه لأنه لما قال: {وترى الجبال تحسبها جامدة} علم منه أن ذلك صنع الله، فأكد قوله:"صنع الله" وكذلك عند سيبويه: {الذي أحسن كل شيء خلقه} فخلقه توكيد لمعنى "أحسن كل شيء"، إذ كان يعطي معنى الخلق، قال سيبويه:"ولكنه سبحانه وكَّد وثبت للعباد". وكذلك قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} إلى آخرها ثم قال: {كتاب الله عليكم} لأن المخاطبين يعلمون منها أن ذلك مكتوب مثبت عليهم، وقوله:{ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} إلى قوله: {وعد الله لا يخلف الله وعده} ؛ لأن قوله: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون

ويومئذ يفرح المؤمنون} وعد من الله كريم، وكذلك قوله:{صبغة الله} بعد قوله: {قولوا آمنا بالله} وقالت العرب: الله أكبر دعوة الحق، وأنشد في الكتاب للأحوص:

ص: 255

إني لأمنحك الصدود وإنني

قسما إليك مع الصدود لأميل

وأنشد أيضا لرؤبة بن العجاج:

إن نزارًا أصبحت نزارًا

دعوة أبرارٍ دعوا أبرارًا

وهو كثير.

ثم قال: "والثان كابني أنت حقا صرفا" حذف الياء من الثاني للشعر. وهذا مثال المصدر المؤكد لغيره، وهو الذي قال فيه:"لنفسه وغيره" وحقا صرفا صالحان لتوكيد ما قبلهما على الإفراد فكأنهما مثالان في مثال واحد، فتقول: أنت ابني حقا، وأنت ابني صرفا، والصرف: الخالص من كل شيء، الذي لم يمتزج ولا اختلط بغيره. ومن أمثلة ذلك: هذا زيد علما، وأنت عبد الله حقا، وهذا زيد غير ما تقول، وهذا القول لا قولك، وما أشبه ذلك. وجميع هذا يلزم إضمار عامله؛ لأن الجملة قبله تعطي معناه، فامتنع إظهاره، ولكنه مع ذلك منصوب بالفعل المقدر كما تقدم قبل.

والنوع السابع: المصدر المشبه به الواقع على إثر جملة، وذلك قوله:

كذاك ذو التشبيه بعد جملة

كلي بكا بكاء ذات عضله

يعني أن مثل ما تقدم من المصادر في لزوم حذف العامل المصدر ذو التشبيه،

ص: 256

وذلك المصدر المشبه به إذا كان على الصفة التي ذكر، وذلك أن المصدر المشبه على وجهين: أحدهما: أن يكون قبله فعله الذي من لفظه نحو: ضربته ضرب الأمير اللص، ودققته دقك بالمنحاز حب الفلفل، وصوَّت زيد صوت الحمار وبكى بكاء الحزين، وما أشبه ذلك. فهذا لا إشكال في أن ناصبه فعله. وقد مضى ذلك.

والثاني: ألا يذكر الفعل قبله ولا مرادفه، وإنما يذكر قبله جملة تؤدي معنى الفعل، وهو الذي أخذ في ذكره، وأن عامله ملتزم الإضمار، فلا يجوز إظهاره، واشترط هذا الحكم شرطين:

أحدهما: أن يكون المصدر واقعا بعد جملة تامة، تحرزا من أن يقع بعد مفرد؛ فإنه إن وقع بعد المفرد لم ينتصب فضلا عن أن يظهر فعله أو يضمر، فتقول: صوت زيد صوت حمار، وقيامه قيام السارية، ونومه نوم الفهد، وما أشبه ذلك؛ لأن المفرد قبله مبتدأ لابد له من خبر، فلابد أن يكون المصدر المشار إليه هو الخبر، فيرتفع، قال سيبويه بعد ما مثَّل: "لأن هذا ابتداء فالذي بنى على الابتداء بمنزلة الابتداء ألا ترى أنك تقول: زيد أخوك، فارتفاعه

ص: 257

كارتفاع زيد أبدا" قال: "فلما ابتدأه وكان محتاجا إلى ما بعده لم يجعل بدلا من اللفظ بيصوِّت -يعني صوت الحمار- وصار كالأسماء" ثم أنشد لمزاحم العقيلي:

وجدي به وجد المضل بعيره

بنخلة لم تعطف عليه العواطف

ومثل ذلك: مررت به فصوَّت صوت حمار، فإن قلت: مررت به فإذا صوته صوت حمار، فلك فيه وجهان: فإن شئت جعلت ما بعد إذا مفردا على ظاهره، فلا بد من رفع (صوت الحمار) كما تقدَّم، وإن شئت عاملته معاملة الجملة فقدرت له خبرا كأنه قال: فإذا صوته حاضر أو موجود فيكون (صوت حمار) واقعا بعد حملة، فينتصب على إضمار الفعل اللازم الإضمار، فتقول: مررت به فإذا صوته صوت حمار أو صوت الحمار.

والثاني من الشرطين: أن تكون الجملة مثل هذه الجملة الممثل بها في كون الفعل الموافق للمصدر غير مذكور فيها فإن قوله: "لي بُكًا بكاء ذات عُضْلة" لا فعل فيه جاريا عليه المصدر ولا غير جار، فلو كان ثم فعل لكان هو العامل، فلم يكن من هذا النوع، وقد تقدَّم، وكذلك لو لم يوجد فيها فعله الذي من لفظه لكن وجد مرادفه نحو: ذهبت انطلاق زيد، ومنه قول رؤبة أنشده سيبويه:

لوحها من بعد بدن وسنق

تضميرك لسابق يطوي للسبق

وما أشبه ذلك، وعند هذا يظهر أن قولك: هو يصوت صوت الحمار، ولوَّحها

ص: 258

تضميرك السابق ليس على إضمار الفعل، وقد تقدم ذكر ذلك في قوله:"وقد ينوب عنه ما عليه دل"

وإذا تبين أن الأرجح في قولك: ذهبت انطلاق زيد أن يكون العامل هو الفعل الظاهر، فأن يكون هو العامل في يصوت صوت حمار أحق وأولى، وقد أجاز سيبويه أن يكون صوت حمار على إضمار فعل آخر، وهو كما ترى خلاف قاعدته في كتابة: أن الواجب الحمل على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، ألا ترى أنه حمل سيدا على أن عينه ياء وإن أمكن أن يكون من ساد يسود، فقال في تحقيره: سُيَيْد، كديك ودُييك، وبهذا استدل ابن جني على قوة أمر الظاهر عندهم فعقده أصلا يرجع إليه، فكذلك ينبغي في هذا. أما المرادف فالعذر فيه لمن قدَّر عاملا آخر أوضح، ولكن قد مر وجه ما رآه الناظم.

وإذا تقرر هذا بقى النظر في تمثيله هل أشار به إلى شرط آخر سوى ما ذُكر آنفا أم لا؟ وذلك أن قوله: "لي بكا بكاء ذات عضلة" يؤخذ على وجهين: أحدهما: كونها جملة اسمية، واشتملت على فعل وفاعل مذكورين، أو على فعل مذكور وفاعل مدلول عليه بالجملة.

والثاني: كونها جملة تدل عليهما من جهة المعنى خاصة، وسواء أكان فيهما لفظ لهما أو لأحدهما أم لا، ولك فيها مأخذ ثالث، وهو كونها جملة اسمية قد ذُكر فيها الفعل والفاعل باللفظ، فالفاعل في المثال ضمير المتكلم، والفعل البكاء، فيكون قد اقتصر على صورة المثال خاصة؛ فإن أراد الأول شمل مثاله مع الشرط المتقدم شرطين أحدهما: أن تكون الجملة اسمية، فإن كانت فعليةً لم

ص: 259

تدخل هنا كقولهم: تبسمت وميض البرق؛ إما لأن العامل هو الفعل الظاهر؛ إذ قوله تبسمت يؤدي معنى ومضت، فيجري مجرى قوله:

*

وآلت حفلة لم تحلل*

وإما لأن مثل هذا ليس في جريان القياس كمسألتنا، بل هو قليل الاستعمال؛ لأنه من بابا الحمل على المعنى، والحمل على المعنى دون اللفظ موقوف في الأصل لعلى السماع، فإن كثر كثرة توجب القياس قيل به في محله، وإنما كثر حيث تكون الجملة اسمية لا فعلية. وهذا الوجه أولى من الأول ليتفق كلامه هنا مع ما تقدم في قوله:"وقد ينوب عنه ما عليه دل". ومن مثل الجملة الفعلية ما أنشده سيبويه من قول الشاعر:

إذا رأتني سقطت أبصارها

دأب بكار شايحت بكارها

فقوله: "سقطت أبصارها" يؤدي معنى تدأب في السير، وكذلك ما أنشده قول أبي كبير الهذلي:

ما إن يمس الأرض إلا منكب

منه وحرف الساق طَيَّ المحمل

فمعنى ما إن يمس الأرض إلا كذا أنه قد طوى فكان هذا كله على إضمار فعل لا يظهر ولكنه سماع.

والشرط الثاني: أن يكون الفعل مذكور في اللفظ، فإن لم يكن مذكورًا

ص: 260

لم يدخل، والفعل المراد هنا هو العلاج والعمل لا اسم الفعل الذي معناه الجنس، فإن قوله:"لي بكا" المراد فيه بالبكاء ما يراد قوله: أنا أبكي لا اسم جنس البكاء، فإذا أريد به اسم جنس البكاء الذي لا يعطي العلاج لم يدخل هنا، كقولهم: له علمٌ علمُ الفقهاء، وله رأيٌ رأيُ الأصلاء، وله حسنٌ حسنُ الشمس، وله ذكاءٌ ذكاءٌ الفطناء، وما أشبه ذلك، فإن مثل هذا لا يعطي معنى الفعل؛ إذ كان قولك:"له علم" يعطي أنه اتصف بمعنى العلم لا أنه يعالج التعلم كما كان "لي بكا" يعطي علاج البكاء واستعماله، فإذا اجتمع الشرطان انتصب المصدر بفعل لا يظهر، فدخل له نوعان من المصدر المشبه به.

أحدهما: الموازن للمثال، ومنه: ممرت به فإذا له صوتٌ صوتُ الحمار، ومررت به فإذا به له صراخٌ صراخُ ثكلى، ومررت به وله دفعٌ دفعك الضعيف، ومررت به فإذ له دقٌ دقك بالمنخار حب الفلفل، وأنشد سيبويه للنابغة الذيباني:

مقذوفة بدخيس النحض بازلها

له صريفٌ صريفُ القعو بالمسد

وأنشد أيضا للنابغة الجعدي يصف طعنة:

لها بعد إسناد الكليم وهدئه

ورنة من يبكي إذا كان باكياً

ص: 261

هديرٌ هديرُ الثور ينفض رأسه

يذب بروقيه الكلاب الضواريا

قال سيبويه: "فإنما انتصب هذا لأنك مررت في حال تصويب، ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأول، ولا بدلا منه، ولكنك لما قلت: له صوت علم أنه كان قد تم عمل، فصار قولك له صوت بمنزلة قولك: فإذا هو يصوت، فحملت الثاني يعني -صوت حمار- على المعنى".

والثاني: ما شارك المثال في احتواء الجملة على ذكر الفعل، وإن لم يذكر الفاعل، فكأن ذكر الفاعل في المثال غير مقصود في الاشتراط، فيدخل نحو: فيها صوتٌ صوتَ الحمار، وفيها نوحٌ نوحَ حمام، وفيها صراخٌ صراخَ الثكلى، وأنشد سيبويه عن يونس لروبة بن العجاج:

*فيها ازدهافٌ أيما ازدهاف*

ينصب أيما، وهذا وإن لم يكن مصدر تشبيه فهو مثله في الحكم، ولا يضرنا كون النصب في هذا الموضع قليلا بخلاف الأول؛ إذ المقصود ذكر النصب على المصدر كيف يكون، وكونه قليلا أو كثيرا شيء آخر لم يتعرض إليه الناظم، لأن هذا المصدر المشبه به في هذه المسائل له في النصب والرفع حكم مختلف، فتارة يقوي النصب، وتارة يضعف بحسب ما يقتضيه الكلام، وليس النظر في ذلك من مسائل هذا النظم، وإنما النظر فيما ينتصب على أي وجه ينتصب، وما حكم عامله من الحذف أو الإظهار. والله أعلم.

ص: 262

وإن أراد الوجه الثاني دخل له بمقتضى المثال النوعان المذكوران المختصان بالجملة الاسمية، ودخل له أيضا ما كان من نحو: تبسمت وميض البرق، ونحو:

*إذا رأتني سقطت أبصراها دأب

*

وما أشبه ذلك. وعلى هذه الطريقة يكون هذا النوع عنده من قبيل ما يقاس وإن قلَّ؛ لأنه راجعٌ إلى ما يفهم من الجملة من معنى فعل آخر، فينتصب المصدر من ذلك المعنى كما قيل في وصف النفوس الآبية عن الانقياد إلى أحكام الله سبحانه:"هذا وإن شمس آبقها، أو لبس بغير تلك اللبسة منافقها، فلم تزل عاكفة على باب منته حقائقها، بملازمة التسبيح والخضوع والسجود، رجوعا يقتضيه فقر العبيد إلى غنى المعبود، ويجليه نقض العزائم وحل العقود" فقوله: رجوعا مصدر يلزم إضمار عامله؛ لأن قوله: فلم تزل عاكفة إلى آخره يؤدي معنى أنها راجعة إليه، يعني إلى الله تعالى مصرفة تحت حكمه؛ ولذلك يجوز لك أن تقول: بوأت زيدا أرفع المجالس إكرام من يعرف قدره، ومررت به فلم يلتفت إلى إعراض العدو عن العدو، وما أشبه ذلك، فقد يقال بالقياس في مثل هذا، وإن قل في الكلام استعماله كما دخل له: فيها صوتٌ صوتَ حمار، وإن كان قليل الاستعمال. وإن أراد الوجه الثالث كان قد اقتصر من ذلك كله على ما يماثل المثال، وهو النوع الأول نحو: له صوتٌ صوتَ حمار، ويبقى ما عداه مقصود الخروج؛ إذ كان المثال يتضمن شرطين: أحدهما: كون الجملة اسمية. والثاني: كونها اشتملت على الفعل والفاعل معا في الذكر، ويكون إخراجه لما سوى ذلك إما لكونه لم يبلغ عنده مبلغ القياس، وإما لأنه مقصوده بيان أنواع يكثر استعمالها لزم فيها حذف الفاعل؛ إذ لم يقصد حصر جميع

ص: 263

الأنواع المدَّعى فيها القياس كما سيذكر، وإنما أتى بأمثلة وأنواع من ذلك ليلحق بها ما سواها. والله أعلم. والبكا والبكاء [لغتان] ليست إحداهما من الأخرى، لأنه بينهما اختلافا ما؛ إذ زعم الخليل أن البكاء بالمد ما كان معه صوت، والبكا بالقصر ما لم يكن معه صوت، وإنما هو بمنزلة الحزن حكلا ذلك عنه النحاس في كافيه، فكان من حق الناظم أن يأتي بأحدهما مكررا كأن يقول: لي بكاءٌ بكاءُ ذات عضلة؛ لاختلاف معنى اللفظين فإن ما أتى به يماثل قولك: لي بكا صراخ ذات عضلة، وليس هذا مما يوضع في هذه الأمثلة. وقال الجوهري: البكا يمد ويقصر، فإذا مددت أردت الصوت الذي يكون من البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

بكت عيني وحق لها بكاها

ولا يغني البكاء ولا العويل

فهذا كله عضد الاعتراض على مثال الناظم.

والجواب من ثلاثة أوجه:

الأول: أن يقال: لعله أتى بهما بناء على أنهما بمعنى واحد لنقل وجده عن

ص: 264

أحد من أهل اللغة، أو لأن المعنيين متقاربان كالمعنى الواحد.

والثاني: أن يكون البكا قصر البكاء ضرورة، لأنه أتى بالمقصور في الأصل، فإن الناظم يضطر إلى مثل هذا كثيرا.

والثالث: أن يكون قصد الإتيان باللغتين على اعتقاد اختلاف المعنيين بناء على أنه أراد بالمثال إدخال الأنواع الثلاثة المذكورة في الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة فأتى بالمثال من النوع الذي لم يذكر فيه الفعل في الجملة إلا من جهة معنى الجملة كقوله: "سقطت أبصارها دأب بكار" فدخل النوعان الآخران من باب الأولى. وإذا أمكن هذا كله لم يكن في كلامه اعتراض.

وهنا مسألة، وهي أنه قال:"والحذف حتم مع آت بدلا من فعله" ككذا أتى بسبعة الأنواع كالتمثيل لكل ما أتى من المصادر بدلا من فعله، وعلى هذا المساق فلم يقتصر على ما ذكر حصرا للمقيس منها فاحتمل أن يكون منبها على أنواع أخر يمكن فيها ادعاء القياس، واحتمل أن يكون ما ذكر منها؛ لأنها التي اشتهرت عنده، واتضح فيها جريان القياس، فإن أراد الأولى فقد ترك أنواعا: منها المصدر الوارد في خبر غير إنشائي نحو: حمدًا وشكرًا، أو عجبا وقسما لأفعلن كذا، ومنها الوارد في خبر غير إنشائي نحو: نَعْم ونِعمة عين ونَعَام ونُعام عين، ونُعم عين، ونَعَامة عين، ونُعمى عين، وأفعل ذلك وكرامة ومسرة، ولا أفعله ولا كيدا ولا هما، ولأفعلن ما يسؤك ورغما وهوانا، ومنها المقترن بالاستفهام توبيخا نحو: أقياما وقد قعد الناس؟ وأقعودا وقد سار الركب؛ وأنشد سيبويه للعجاج:

ص: 265

* أطربا وأنت قنسرى *

وأنشد أيضا لجرير بن الخطفي:

أعبدا حل في شعبي غريبا

ألؤما لا أبالك واغترابا

وقال عامر بن الطفيل: "أغدة كغدة البعير، وموتا في بيت سلولية".

فهذه أشياء يمكن أن يقصدها الناظم فتدخل له تحت كاف التشبيه، ويمكن أن يدخل له ما كان مستفهما عنه تحت إشارة الطلب لظاهر الطلب أو تحت معنى التكرير؛ لأنه المراد الاستمرار الحالي؛ لأن سيبويه جعل هذا النوع مع قولك: إنما أنت سيرا سيرا بابا واحدا، وما عدا ذلك يوقف على السماع كسبحان الله، وقعدك الله وويل زيد وويحه، ولبيك وسعديك، وحنانيك، ودواليك، وما أشبه ذلك فلا يكون منبها بأداة التشبيه على غير ما ذكر، وقد مرَّ وجه ذلك في باب المعرب والمبني في قوله:"كالشبه الوضعي في اسمي جئتنا" إلى آخره. والله أعلم.

ص: 266