الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معرفةُ
التصحيف
فَنٌّ مهمٌّ، وقد صنَّفَ فيهِ أبو الحسنِ الدَّارقطنيُّ، وصنَّفَ فيهِ أبو أحمدَ العسكريُّ كتابَهُ المشهورَ في ذلكَ، وذِكْرُ العسكريِّ من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ بغيرِ تمييزٍ.
ثُمَّ التصحيفُ ينقسمُ إلى تصحيفٍ في متنِ الحديثِ، وإلى تصحيفٍ في الإسنادِ. وينقسمُ أيضاً إلى تصحيفِ البصرِ -وهو الأكثرُ- وإلى تصحيفِ السَّمْعِ -كما سيأتي-. وينقسمُ أيضاً إلى تصحيفِ اللَّفْظِ - وهو الأكثرُ - وإلى تصحيفِ المعنى - كما سيأتي -. فمثالُ التصحيفِ في المتنِ ما ذكرَهُ الدارقطنيُّ: أَنَّ أبا بكرٍ الصُّوليَّ أَمْلَى في الجامعِ حديثَ أبي أيوبَ مرفوعاً: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وأَتْبَعَهُ سِتّاً من شَوَّالٍ،
…
)) . فقالَ فيهِ: شيئاً - بالشينِ المعجمةِ، والياءِ آخرِ الحروفِ -. وكقولِ هِشامِ بنِ عُرْوةَ في حديثِ أبي ذَرٍّ:((تُعِينُ ضَايعاً)) - بالضادِ المعجمة والياءِ آخرِ الحروفِ -. والصوابُ-
بالمهملةِ والنونِ -. وكقولِ وكيعٍ في حديثِ معاويةَ: ((لعنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذينَ يُشَقِّقُوْنَ الحَطبَ)) بفتح الحاء المهملة - وإنَّمَا هو بضمِّ المعجمَةِ -. وحُكِيَ: أنَّ ابنَ شاهيَن صحَّفَهُ كذلكَ. وكقولِ أبي موسى محمدِ بنِ الْمُثَنَّى في حديثِ: ((أو شاةٍ تَنْعَرُ - بالنونِ - وإنَّمَا هو بالياءِ آخرِ الحروفِ. وكقولِ أبي بكرٍ الإسماعيليِّ في حديثِ عائشةَ: ((قَرَّ الزُّجَاجَةِ)) بالزاي، وإِنَّما هو بالدالِ المهملةِ المفتوحةِ.
ومثالُ التصحيفِ في الإسنادِ ما ذكرَهُ الدارقطنيُّ: أنَّ محمدَ بنَ جريرٍ الطبريَّ قالَ فيمَنْ روى عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بني سُليمٍ، ومنهم: عُتبةُ بنُ البُذَّرِ، قالَهُ: بالموحّدةِ والذالِ المعجمةِ، وإنَّمَا هو بالنونِ المضمومةِ، وفتحِ الدالِ المهملةِ المشدَّدَةِ. وكقولِ يحيى بنِ مَعينٍ: العَوَّامُ بنُ مُزَاحِمٍ - بالزاي والحاء المهملة - وإنَّمَا هو بالراءِ والجيمِ.
775.
... وَأَطْلَقُوْا التَّصْحِيْفَ فِيْمَا ظَهَرَا
…
كَقَوْلِهِ: ((احْتَجَمْ)) مَكَانَ ((احْتَجَرا))
أي وقد أطلقَ مَنْ صنَّفَ في التصحيفِ، التصحيفَ على ما لا تشتبِهُ حروفُهُ بغيرِهِ، وإنَّمَا أخطأَ فيه راويهِ، أو سقطَ بعضُ حروفِهِ من غيرِ اشتباهٍ مثالُهُ ما ذكرهَ مسلمٌ في التمييزِ أنَّ ابنَ لهيعةَ صَحَّفَ في حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَرَ في المسجدِ، فقالَ احْتَجَمَ بالميمِ وكما رَوَى يحيى بنُ سَلَاّمٍ الْمُفَسِّرُ عن سعيدِ بن أبي عَرُوبةَ عن قَتَادةَ في قولِهِ تعالى {سأُرِيْكُمْ دَارَ الْفَاسِقِيْنَ} ، قالَ مِصْرُ، وقدِ استعظمَ أبو زُرْعَةَ الرازيُّ هذا واستقبحَهُ، وذكرَ أنَّهُ في تفسيرِ سعيدٍ عن قتادةَ مَصِيْرُهُم، فأطلقوا على مثلِ هذا اسمَ التصحيفِ، وإنْ لم يشتبهْ. ولكنَّهُ سقطَ الضميرُ والياءُ، فوقعَ هكذا.
776.
... وَوَاصِلٌ بِعَاصِمٍ وَالأَحْدَبُ
…
بِأَحْوَلٍ تَصْحِيْفَ سَمْعٍ لَقَّبُوا
777.
... وَصَحَّفَ الْمَعْنَى إِمَامُ عَنَزَهْ
…
ظَنَّ الْقَبِيْلَ بحَدِيْثِ ((الْعَنَزَهْ))
778.
... وَبَعْضُهُمْ ظَنَّ سُكُوْنَ نَوْنِهْ
…
فَقالَ: شَاَةٌ خَابَ فِي ظُنُوْنِهْ
هذا مثالٌ لتصحيفِ السمعِ، وتصحيفِ المعنى. فأمّا تصحيفُ السَّمْعِ فهو: أنْ يكونَ الاسمُ واللقبُ، أو الاسمُ واسمُ الأبِ على وزن اسمٍ آخرَ ولقبِهِ، أو اسمٍ آخرَ واسمِ أبيهِ؛ والحروفُ مختلفةٌ شكلاً ونطقاً، فيشتبِهُ ذلكَ على السَّمْعِ، كأنْ يكونَ الحديثُ لعاصمٍ الأحولِ فيجعلُهُ بعضُهم عن واصلٍ الأحدبِ. فذكرَ الدارقطنيُّ: أنَّهُ من تصحيفِ السمعِ. وكذا عكسُهُ، مثالُهُ ما ذكرَهُ النسائيُّ عن يزيدَ بنِ هارونَ، عن شعبةَ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن أبي وائلٍ، عن ابنِ مسعودٍ بحديث: ((أيُّ الذنبِ أعظمُ؟
…
الحديث)) . وكذلكَ ذكرَهُ الخطيبُ في " المُدْرَجَاتِ " من طريقِ مهديِّ بنِ ميمونٍ، عن عاصمٍ الأحولِ، والصوابُ: واصلٌ الأحدبُ مكانَ عاصمٍ الأحولِ من طريقِ شعبةَ، ومهديٍّ، وغيرِهما. قالَ النسائيُّ: حديثُ يزيدَ خطأٌ، إنَّما هو عن واصلٍ. وقالَ الخطيبُ: إنَّ قولَ بعضِهِم: عن مهديِّ بنِ ميمونٍ، عن عاصمٍ الأحولِ؛ وَهْمٌ. قالَ: وقد رواهُ شعبةُ والثوريُّ ومالكُ بنُ مِغْولٍ، وسعيدُ بنُ مسروقٍ، عن واصلٍ
الأحدبِ. عن أبي وائلٍ. قالَ: وهذا أيضاً هو المشهورُ من روايةِ مهديٍّ. ومن ذلك ما رواهُ أبو داودَ والنسائيُّ من روايةِ شعبةَ عن مالكِ ِعُرْفُطَةَ، عن عبدِ خيرٍ، عن عليٍّ في صفةِ الوضوءِ والصوابُ: خالدُ بنُ عَلْقَمَةَ، مكانَ: مالكِ بنِ عُرْفُطةَ. قالَهُ النسائيُّ. وقد نسبَ شعبةَ فيهِ إلى الخطأ أبو داودَ والنسائيُّ وغيرُهما. وقد سمَّى أحمدُ بنُ حنبلٍ هذا تصحيفاً، فقالَ في حديثٍ رواهُ شُعبةُ عن مالك بنِ عُرْفُطةَ، عن عبدِ خَيرٍ، عن عائشةَ في النهي عنِ الدُّبَّاءِ، والْمُزَفَّتِ، صَحَّفَ فيه شُعبةُ، وإنَّمَا هو خالدُ بنُ عَلْقَمةَ.
وأما تصحيفُ المعنى، فمثالُهُ ما ذكرَهُ الدارقطنيُّ: أنَّ أبا موسى محمدَ بنَ الْمُثَنَّى العَنَزِيَّ الملقَّبَ بالزَّمِنِ، أحدَ شيوخِ الأئِمَّةِ السِّتَّةِ، وَهُوَ المرادُ في قولي:(إِمَامُ عَنَزَهْ)، قالَ يوماً: نحنُ قومٌ لنا شَرَفٌ، نحنُ من عَنَزَةَ قَدْ صَلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلينا. يريدُ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إلى عَنَزَةَ فَتَوَهَّمَ أنَّهُ صَلَّى إلى قبيلتِهِم. وإنَّمَا العَنَزَةُ هنا الحربةُ
تُنْصَبُ بينَ يديهِ. وأعجبُ مِن ذلكَ ما ذكرهُ الحاكمُ عن أعرابيٍّ: أنَّهُ زعمَ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا صَلَّى نُصِبَتْ بينَ يديهِ شاةٌ فصحَّفَها عَنْزَة - بإسكان النون - ثُمَّ رواهُ بالمعنى على وهْمِهِ فاخطأَ في ذلكَ من وجهينِ، واللهُ أعلمُ. ومن أمثلةِ تصحيفِ المعنى، ما ذكرَهُ الخطَّابيُّ عن بعضِ شيوخِهِ في الحديثِ: أنّهُ لما روى حديثَ النهيِ عن التحليقِ يومَ الْجُمعةِ قبلَ الصلاةِ، قالَ: ما حَلَقْتُ رأسي قبلَ الصلاةِ منذُ أربعينَ سنةً. فهِمَ منهُ تحليقَ الرؤوسِ، وإنَّمَا المرادُ تحليقُ الناسِ حِلَقاً، واللهُ أعلمُ.