المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 93] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٤

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 93]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 94 الى 100]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 113]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 126]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 142 الى 159]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 160 الى 172]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 173 الى 176]

- ‌سورة المائدة

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 26]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 38]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 48]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 49 الى 50]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 75]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 96]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 114]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 115 الى 120]

- ‌سورة الانعام

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 32]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 52]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 53 الى 58]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 73]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 94]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 110]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 126]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 140]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 152]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 153 الى 165]

الفصل: ‌[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 93]

[الجزء الرابع]

[تتمة سورة النساء]

[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 93]

اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)

وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)

ص: 5

الْإِرْكَاسُ: الرَّدُّ وَالرَّجْعُ. قِيلَ: مِنْ آخِرِهِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَالرِّكْسُ: الرَّجِيعُ. وَمِنْهُ

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي «الرَّوْثَةِ هَذَا رِكْسٌ»

وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:

فَأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النَّارِ أَنَّهُمُ

كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الْإِفْكَ وَالزُّورَا

وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: رَكَسَ وَأَرْكَسَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَيْ: رَجَعَهُمْ. وَيُقَالُ:

رَكَّسَ مُشَدَّدًا بِمَعْنَى أَرْكَسَ، وَارْتَكَسَ هُوَ أَيِ ارْتَجَعَ. وَقِيلَ: أَرْكَسَهُ أَوْبَقَهُ قَالَ:

بِشُؤْمِكَ أَرْكَسْتَنِي فِي الْخَنَا

وَأَرْمَيْتَنِي بِضُرُوبِ الْعَنَا

وَقِيلَ: أَضَلَّهُمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَأَرْكَسْتَنِي عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى

وَصَيَّرْتَنِي مَثَلًا لَلْعِدَا

وَقِيلَ: نَكَّسَهُ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ قَالَ:

رَكَسُوا فِي فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ

كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوهَا فِتَنْ

الدِّيَةُ: مَا غُرِمَ فِي الْقَتْلِ مِنَ الْمَالِ، وَكَانَ لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَحْكَامٌ وَمَقَادِيرُ، وَلَهَا فِي الشَّرْعِ أَحْكَامٌ وَمَقَادِيرُ، سَيَأْتِي ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْهَا. وَأَصْلُهَا: مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الْمَالِ الْمَذْكُورِ، وَتَقُولُ: مِنْهُ وَدَى، يَدِي، وَدْيًا وَدِيَةً. كَمَا تَقُولُ: وَشَى يَشِي، وَشْيًا وَشِيَةً، وَمِثَالُهُ مِنْ صَحِيحِ اللَّامِ: زِنَةٌ وَعِدَةٌ.

التَّعَمُّدُ وَالْعَمْدُ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِيمَنْ شَكَّ فِي الْبَعْثِ، فَأَقْسَمَ اللَّهُ لَيَبْعَثَنَّهُ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ وَهِيَ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا، تَلَاهُ بِالْإِعْلَامِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَشْرِ وَالْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ لِلْحِسَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا، وَحُذِفَ هُنَا الْقَسَمُ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَإِلَى إِمَّا عَلَى بَابِهَا وَمَعْنَاهَا: مِنَ الْغَايَةِ، وَيَكُونُ الْجَمْعُ فِي الْقُبُورِ، أَوْ يُضَمَّنُ مَعْنَى:

لَيَجْمَعَنَّكُمْ مَعْنَى: لَيَحْشُرَنَّكُمْ، فَيُعَدَّى بِإِلَى. قِيلَ: أَوْ تَكُونُ إِلَى بِمَعْنَى فِي، كَمَا أَوَّلُوهُ فِي قَوْلُ النَّابِغَةِ:

فَلَا تَتْرُكَنِّي بِالْوَعِيدِ كَأَنَّنِي

إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ

أَيْ: فِي النَّاسِ. وَقِيلَ: إِلَى بِمَعْنَى مَعَ. وَالْقِيَامَةُ وَالْقِيَامُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالطِّلَابَةِ

ص: 6

وَالطِّلَابِ. قِيلَ: وَدَخَلَتِ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ لِشِدَّةِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ إِمَّا لِقِيَامِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ، أَوْ لِقِيَامِهِمْ لِلْحِسَابِ. قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» وَلَمَّا كَانَ الْحَشْرُ جَائِزًا بِالْعَقْلِ، وَاجِبًا بِالسَّمْعِ، أَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ قَبْلَهُ وَبِالْجُمْلَةِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ:

لَا رَيْبَ فِيهِ. وَاحْتَمَلَ الضَّمِيرُ فِي فِيهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْيَوْمِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ.

وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً. هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، التَّقْدِيرُ: لَا أَحَدَ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا. وَفَسَّرَ الْحَدِيثَ بِالْخَبَرِ أَوْ بِالْوَعْدِ قَوْلَانِ، وَالْأَظْهَرُ هُنَا الْخَبَرُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِ الْبَشَرِ إِنَّمَا عِلَّتُهُ الْخَوْفُ أَوِ الرَّجَاءُ أَوْ سُوءُ السَّجِيَّةِ، وَهَذِهِ مَنْفِيَّةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصِّدْقُ فِي حَقِيقَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْمُخْبِرِ مُوَافِقًا لِمَا فِي قَلْبِهِ، وَالْأَمْرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي وُجُودِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَيْ أَنَّكُمْ تَقْبَلُونَ حَدِيثَ بَعْضِكُمْ مِنْ بَعْضٍ مَعَ احْتِمَالِ صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ، فَإِنْ تَقْبَلُوا حَدِيثَ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. وَطَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا إِشْعَارًا بِمَذْهَبِهِ فَقَالَ:

لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الكذب مستقل بِصَارِفٍ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَهُوَ قُبْحُهُ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ كَذِبًا وَإِخْبَارًا عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَمَنْ كَذَبَ لَمْ يَكْذِبْ إِلَّا لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يَكْذِبَ، لِيَجُرَّ مَنْفَعَةً، أَوْ يَدْفَعَ مَضَرَّةً، أَوْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَجْهَلُ غِنَاهُ، أَوْ هُوَ جَاهِلٌ بِقُبْحِهِ، أَوْ هُوَ سَفِيهٌ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ، وَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا نَطَقَ، وَرُبَّمَا كَانَ الْكَذِبُ أَحْلَى عَلَى حَنَكِهِ مِنَ الصِّدْقِ. وَعَنْ بَعْضِ السُّفَهَاءِ: أَنَّهُ عُوتِبَ عَلَى الْكَذِبِ فَقَالَ: لَوْ غَرْغَرَتْ لهراتك بِهِ، مَا فَارَقْتَهُ. وَقِيلَ لِكَذَّابٍ: هَلْ صَدَقْتَ قَطُّ؟ فَقَالَ:

لَوْلَا أَنِّي صَادِقٌ فِي قَوْلِي لَا، لَقُلْتُهَا. فَكَانَ الْحَكِيمُ الْغَنِيُّ الَّذِي لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَاجَاتُ، الْعَالِمُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ، مُنَزَّهًا عَنْهُ كَمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ سَائِرِ الْقَبَائِحِ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ تَكْثِيرٌ لَا يَلِيقُ بِكِتَابِهِ، فَإِنَّهُ مُخْتَصَرٌ فِي التَّفْسِيرِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَصْدَقُ بِإِشْمَامِ الصَّادِ زَايًا، وَكَذَا فِيمَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ صَادٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا دَالٌ، نَحْوَ: يَصْدُقُونَ وَتَصْدِيَةً. وَأَمَّا إِبْدَالُهَا زَايًا مَحْضَةً فِي ذَلِكَ فَهِيَ لُغَةُ كَلْبٍ. وَأَنْشَدُوا:

يَزِيدُ اللَّهُ فِي خَيْرَاتِهِ

حَامِي الذِّمَارِ عند مَصْدُوقَاتُهُ

يُرِيدُ: عِنْدَ مَصْدُوقَاتِهِ.

(1) سورة المطففين: 83/ 6.

ص: 7

فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالًا طَوَّلُوا بِهَا وَمُلَخَّصُهَا:

أَنَّهُمْ قَوْمٌ أَسْلَمُوا فَاسْتَوْبَئُوا الْمَدِينَةَ فَخَرَجُوا، فَقِيلَ لِهُمْ: أَمَا لَكُمْ فِي الرَّسُولِ أُسْوَةٌ؟ أَوْ نَاسٌ رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ لَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ، وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. أَوْ نَاسٍ بِمَكَّةَ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ يُعِينُونَ الْكُفَّارَ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ. قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ:

خَرَجُوا لِحَاجَةٍ لَهُمْ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اخْرُجُوا إِلَيْهِمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَدُوَّكُمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَيْفَ نَقْتُلُهُمْ وَقَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ؟ رَوَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْ قَوْمٌ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ فَأَظْهَرُوا الشِّرْكَ، أَوْ قَوْمٌ أَعْلَنُوا الْإِيمَانَ بِمَكَّةَ وَامْتَنَعُوا مِنَ الْهِجْرَةِ قَالَهُ: الضَّحَّاكُ. أَوِ الْعُرَنِيُّونَ الَّذِينَ أَغَارُوا عَلَى السَّرْحِ وَقَتَلُوا يَسَارًا، أَوِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ.

وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، يَرُدُّهُ قَوْلُهُ: حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» إِلَّا إِنْ حَمَلْتَ الْمُهَاجَرَةَ عَلَى هِجْرَةِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ اخْتِلَافَهُمْ فِي نِفَاقِ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ النِّفَاقُ أَيْ: مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ النِّفَاقُ قُطِعَ بِنِفَاقِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا بَادِيًا نِفَاقُهُمْ، لَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسم النفاق. وفي الْمُنَافِقِينَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَكُمْ، وَهُوَ كَائِنٌ أَيْ: أَيْ شَيْءٌ كَائِنٌ لَكُمْ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ. أَوْ بِمَعْنَى فِئَتَيْنِ أَيْ: فِرْقَتَيْنِ فِي أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ. وَانْتَصَبَ فِئَتَيْنِ عَلَى الْحَالِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي لَكُمْ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْعَامِلُ فِي لَكُمْ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ أَيْ: كنتم فئتين.

ويجيزون مالك الشَّاتِمَ أَيْ: كُنْتَ الشَّاتِمَ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ حَالٌ، وَالْحَالُ لَا يَجُوزُ تَعْرِيفُهَا.

وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَيْ: رَجَّعَهُمْ وَرَدَّهُمْ فِي كُفْرِهِمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: أَوْبَقَهُمْ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ أَضَلَّهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. أَوْ أَهْلَكَهُمْ قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ نَكَّسَهُمْ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ. وَمَنْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِهْلَاكِ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِلَازِمِ الْإِرْكَاسِ. وَمَعْنَى بِمَا كَسَبُوا أَيْ: بِمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَذَلِكَ الْإِرْكَاسُ هُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَاخْتِرَاعِهِ، وَيُنْسَبُ لِلْعَبْدِ كَسْبًا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أَيْ: رَدَّهُمْ فِي حُكْمِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانُوا بِمَا كَسَبُوا مِنِ ارْتِدَادِهِمْ، وَلُحُوقِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ، وَاحْتِيَالِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. أَوْ أركسهم في الكفر

(1) سورة النساء: 4/ 89.

ص: 8

بأن خذلهم حتى ارتكسوا فِيهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ مَرَضِ قُلُوبِهِمْ انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى عَقِيدَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ، فَلَا يَنْسُبُ الْإِرْكَاسَ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةً، بَلْ يُؤَوِّلُهُ عَلَى مَعْنَى الْخِذْلَانِ وَتَرْكِ اللُّطْفِ، أَوْ عَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِذْ هُمْ فَاعِلُو الْكُفْرِ وَمُخْتَرِعُوهُ، لَا اللَّهُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: رَكَسَهُمْ ثُلَاثِيًّا. وَقُرِئَ: رَكَّسَهُمْ رَكَسُوا فِيهَا بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ الرَّاغِبُ:

الرِّكْسُ وَالنِّكْسُ الرَّذْلُ، وَالرِّكْسُ أَبْلَغُ مِنَ النِّكْسِ، لِأَنَّ النِّكْسَ مَا جُعِلَ أَسْفَلُهُ أَعْلَاهُ، وَالرِّكْسُ أَصْلُهُ مَا رَجَعَ رَجِيعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ طَعَامًا فَهُوَ كَالرِّجْسِ وَصَفَ أَعْمَالَهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ:

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «1» وَأَرْكَسَهُ أَبْلَغُ مَنْ رَكَسَهُ، كَمَا أَنَّ أَسْقَاهُ أَبْلَغُ مِنْ سَقَاهُ انْتَهَى.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمُ اخْتِلَافَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ رَدَّهُمْ فِي الْكُفْرِ، وَمَنْ يَرُدُّهُ اللَّهُ إِلَى الْكُفْرِ لَا يُخْتَلَفُ فِي كُفْرِهِ.

أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ: مَنْ أَرَادَ اللَّهُ ضَلَالَهُ، لَا يُرِيدُ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ لِئَلَّا تَقَعَ إِرَادَتُهُ مخالفة لإرادة اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ لَا يُمْكِنُ إِرْشَادُهُ، وَمَنْ أَضَلَّ اللَّهُ انْدَرَجَ فِيهِ الْمُرْكِسُونَ وَغَيْرُهُمْ. مِمَّنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ:

أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ؟ وَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِهِمْ وَانْدِرَاجُهُمْ فِي عُمُومِ مَنْ بَعْدِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ ذُكِرُوا أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ، وَثَانِيًا عَلَى سَبِيلِ انْدِرَاجِهِمْ فِي الْعُمُومِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُهْتَدِينَ؟ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ مَنْ جَعَلَهُ مِنَ الضُّلَّالِ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، أَوْ خَذَلَهُ حَتَّى ضَلَّ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْسُبُ الْإِضْلَالَ إِلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ.

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أَيْ: فَلَنْ تَجِدَ لِهِدَايَتِهِ سَبِيلًا. وَالْمَعْنَى: لِخَلْقِ الْهِدَايَةِ فِي قَلْبِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْفِيُّ. وَالْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ وَالتَّبْيِينِ، هِيَ لِلرُّسُلِ. وَخَرَجَ مِنْ خِطَابِهِمْ إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ فِي حَقِّ الْمُخْتَلِفِينَ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَالْأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ. وَقِيلَ: مَنْ يَحْرِمُهُ الثَّوَابَ وَالْجَنَّةَ لَا يَجِدُ لَهُ أَحَدٌ طَرِيقًا إِلَيْهِمَا.

وَقِيلَ: مَنْ يُهْلِكُهُ اللَّهُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ طَرِيقٌ إِلَى نَجَاتِهِ مِنَ الْهَلَاكِ. وَقِيلَ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ مَخْرَجًا وَحُجَّةً.

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ لَوْ تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً قدره:

(1) سورة التوبة: 9/ 28.

ص: 9

وَدُّوا كُفْرَكُمْ كَمَا كَفَرُوا. وَمَنْ جَعَلَ لَوْ حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لوقوع غَيْرِهِ، جَعَلَ مَفْعُولَ وَدُّوا مَحْذُوفًا، وَجَوَابَ لَوْ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَدُّوا كُفْرَكُمْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً، لَسُرُّوا بِذَلِكَ. وَسَبَبُ وُدِّهِمْ ذَلِكَ إِمَّا حَسَدًا لِمَا ظَهَرَ مِنْ عُلُوِّ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ فِي نَظِيرَتِهَا:

حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ «1» وَإِمَّا إِيثَارًا لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا عُبَّادَ أَصْنَامٍ لِكَوْنِهِمْ يَرَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، وَهَذَا كَشْفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِخَبِيثِ مُعْتَقَدِهِمْ، وَتَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ.

وَفَتَكُونُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَكْفُرُونَ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ نُصِبَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي لَجَازَ، وَالْمَعْنَى: وَدُّوا كُفْرَكُمْ وَكَوْنَكُمْ مَعَهُمْ شَرْعًا وَاحِدًا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ وَاتِّبَاعِ دِينِ الْآبَاءِ انْتَهَى. وَكَوْنُ التَّمَنِّي بِلَفْظِ الْفِعْلِ، وَيَكُونُ لَهُ جَوَابٌ فِيهِ نَظَرٌ. وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ أَنَّ الْفِعْلَ يَنْتَصِبُ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي إِذَا كَانَ بِالْحَرْفِ نَحْوَ: لَيْتَ، وَلَوْ، وَإِلَّا، إِذَا أُشْرِبَتَا مَعْنَى التَّمَنِّي، أَمَّا إِذَا كَانَ بِالْفِعْلِ فَيَحْتَاجُ إِلَى سَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ. بَلْ لَوْ جَاءَ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الْجَوَابِيَّةُ، لِأَنَّ وَدَّ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى التَّمَنِّي إِنَّمَا مُتَعَلِّقُهَا الْمَصَادِرُ لَا الذَّوَاتُ، فَإِذَا نُصِبَ الْفِعْلُ بَعْدَ الْفَاءِ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ تَكُونَ فَاءَ جَوَابٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَلْفُوظِ بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي.

فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمَّا نَصَّ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ بَانَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، فَنَهَى تَعَالَى أَنْ يُوَالَى مِنْهُمْ أَحَدٌ وَإِنْ آمَنُوا، حَتَّى يُظَاهِرُوا بِالْهِجْرَةِ الصَّحِيحَةِ لأجل الإيمان، لا لأجل حظ الدّنيا، وإنما غيابا بِالْهِجْرَةِ فَقَطْ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَزَلْ حُكْمُهَا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ، فَنُسِخَ

بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»

. وَخَالَفَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ بِوُجُوبِهَا، وَأَنَّ حُكْمَهَا لَمْ يُنْسَخْ، وَهُوَ بَاقٍ فَتَحْرُمُ الْإِقَامَةُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الشِّرْكِ. وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ: مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فَهِيَ تَجِبُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «2» وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ

(1) سورة البقرة: 2/ 109.

(2)

سورة النساء: 4/ 97.

ص: 10

اسْتُحِبَّتْ لَهُ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ وَلَا عَلَى الْحَرَكَةِ كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ، لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أَيْ. فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنِ الْإِيمَانِ الْمُظَاهَرِ بِالْهِجْرَةِ الصَّحِيحَةِ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْكُفَّارِ يُقْتَلُونَ حَيْثُ وُجِدُوا فِي حِلٍّ وَحَرَمٍ، وَجَانِبُوهُمْ مُجَانَبَةً كُلِّيَّةً، وَلَوْ بَذَلُوا لَكُمُ الْوِلَايَةَ وَالنُّصْرَةَ فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ.

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ، وَالْوُصُولُ هُنَا:

الْبُلُوغُ إِلَى قَوْمٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْتَسِبُونَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَأَنْشَدَ الْأَعْشَى:

إِذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ لِبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ

وَبَكْرٌ سَبَتْهَا وَالْأُنُوفُ رَوَاغِمُ

وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى حَظَرَ أَنْ يُقَاتَلَ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ نَسَبٌ وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ السَّابِقِينَ أَنْسَابٌ. يَعْنِي:

وَقَدْ قَاتَلَ الرَّسُولُ وَمَنْ مَعَهُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ الْحَقِيقِيِّ، فَضْلًا عَنْ الِانْتِسَابِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا الْجَهْلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ ثُمَّ نُسِخَ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ لَهُ بَرَاءَةٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَبَعْدَ أَنِ انْقَطَعَتِ الْحُرُوبُ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَمَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْنَى يَنْتَسِبُونَ عَلَى الْأَمَانِ، أَوْ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى أَهْلِ الْأَمَانِ، لَا عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ الَّذِي هُوَ الْقَرَابَةُ انْتَهَى. قَالَ عِكْرِمَةُ: إِلَى قَوْمٍ هُمْ قَوْمُ هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَادَعَ الرَّسُولَ عَلَى أَنْ لَا يُعِينَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِمْ فَلَهُ مِثْلُ مَا لِهِلَالٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ بَنُو بَكْرِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمْ خُزَاعَةُ وَذُو خُزَاعَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خُزَاعَةُ وَبَنُو مُدْلِجٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْكِمَ أَمْرُ الطَّاعَةِ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ هَادَنَ مِنَ الْعَرَبِ قَبَائِلَ كَرَهْطِ هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَسُرَاقَةَ بْنِ مالك بني جُعْشُمٍ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّهُ مَنْ وَصَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا عَهْدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هَؤُلَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَدَخَلَ فِي عِدَادِهِمْ، وَفَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنَ الْمُوَادَعَةِ، وَفَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنَ الْمُوَادَعَةِ، فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ

. قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: ثُمَّ لَمَّا تَقَوَّى الْإِسْلَامُ

ص: 11

وَكَثُرَ نَاصِرُهُ نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا بِمَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ انْتَهَى. وَقِيلَ: هُمْ خُزَاعَةُ وَخُزَيْمَةُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ. وَالَّذِينَ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ هُمْ، بَنُو مُدْلِجٍ، اتَّصَلُوا بِقُرَيْشٍ. وَبِهِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ اعْتَزَلُوا الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ الْكَافِرِينَ، وَلَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْقِتَالِ.

وَأَصْلُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا الْكُفَّارَ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ مُعَانِدِينَ، أَوْ يَصِلُونَ إلى قوم جاؤوكم غَيْرَ مُقَاتِلِينَ وَلَا مُقَاتِلِي قومهم. إن كان جاؤوكم عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ صِفَةِ قَوْمٍ، وَكِلَا الْعَطْفَيْنِ جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، إِلَّا أَنَّهُمَا اخْتَارَا الْعَطْفَ عَلَى الصِّلَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْعَطْفَ عَلَى الصِّلَةِ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَالْمَعْنَى فِي الْعَطْفَيْنِ مُخْتَلِفٌ انْتَهَى. وَاخْتِلَافُهُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَا صِنْفَيْنِ وَاصِلًا إِلَى مُعَاهَدٍ، وَجَائِيًا كَافًّا عَنِ الْقِتَالِ. أَوْ صِنْفًا وَاحِدًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ مُعَاهَدٍ أَوْ كَافٍّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَيْضًا حُكْمٌ، كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْكِمَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُ إِذَا جَاءَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسَالِمًا كَارِهًا لِقِتَالِ قَوْمِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَلِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قَوْمِهِ، لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ نُسِخَتْ أَيْضًا بِمَا فِي بَرَاءَةَ انْتَهَى.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَجْهُ العطف على الصلة لِقَوْلِهِ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ «1» الْآيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ، فَقَرَّرَ أَنَّ كَفَّهُمْ عَنِ الْقِتَالِ أَحَدُ سَبَبَيِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِنَفْيِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَتَرْكِ الْإِيقَاعِ بِهِمْ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاتِّصَالَيْنِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَاسْتِحْقَاقُ تَرْكِ التَّعَرُّضِ الِاتِّصَالُ بِالْمُعَاهَدِينَ وَالِاتِّصَالُ بِالْكَافِّينَ، فَهَلَّا جَوَّزْتَ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى صِفَةِ قَوْمٍ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ تَقْرِيرًا لِحُكْمِ اتِّصَالِهِمْ بِالْكَافِّينِ، وَاخْتِلَاطِهِمْ فِيهِمْ، وَجَرْيِهِمْ عَلَى سَنَنِهِمْ؟ (قُلْتُ) : هُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أظهر وأجرى على أسلوب الْكَلَامِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَ أظهروا وَأَجْرَى عَلَى أُسْلُوبِ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُحَدَّثٌ عَنْهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَإِذَا عُطِفَتْ عَلَى الصِّلَةِ كَانَ مُحَدَّثًا عَنْهُ، وَإِذَا عُطِفَتْ عَلَى الصِّفَةِ لَمْ يَكُنْ مُحَدَّثًا عَنْهُ، إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ تَقْيِيدًا فِي قَوْمِ الَّذِينَ هُمْ قَيْدٌ فِي الصِّلَةِ الْمُحَدَّثِ عَنْ صَاحِبِهَا، وَمَتَى دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النِّسْبَةُ إِسْنَادِيَّةً فِي الْمَعْنَى، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَقْيِيدِيَّةً، كَانَ حَمْلُهَا عَلَى الْإِسْنَادِيَّةِ أَوْلَى لِلِاسْتِثْقَالِ الْحَاصِلِ

(1) سورة النساء: 4/ 90.

ص: 12

بِهَا، دُونَ التَّقْيِيدِيَّةِ هَذَا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ مَا يترتب عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَطْفَيْنِ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَرْكُهُمُ الْقِتَالَ سَبَبًا لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَهُوَ سَبَبٌ قَرِيبٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الصِّلَةِ، وَوُصُولُهُمْ إِلَى مَنْ يَتْرُكُ الْقِتَالَ سَبَبٌ لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ، وَهُوَ سَبَبٌ بَعِيدٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الصِّفَةِ. وَمُرَاعَاةُ السَّبَبِ الْقَرِيبِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْبَعِيدِ. وَعَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ مِنْ مَفْعُولِ: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ قَتْلَ الْكَافِرِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُعَاهَدًا أَوْ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْمُعَاهَدِ، أَوْ تَارِكًا لِلْقِتَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْمُسْتَثْنَيْنَ كُفَّارٌ.

وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْهِجْرَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ، اسْتَثْنَى مَنْ لَهُ عُذْرٌ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ «1» وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَصَدُوا الرَّسُولَ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانَ فِي طَرِيقِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَا لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا إِلَيْهِ خَوْفًا مِنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، فَصَارُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ إِلَى أَنْ يُمْكِنَهُمُ الْخَلَاصُ، وَاسْتَثْنَى بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ صَارَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ يَخَافُ اللَّهَ فِيهِ، وَلَا يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ أَقَارِبُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ بَقِيَ أَزْوَاجُهُ وَأَوْلَادُهُ بَيْنَهُمْ فَيَخَافُ لَوْ قَاتَلَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُ وَأَصْحَابَهُ.

فَهَذَانِ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُمُ الْهِجْرَةُ، وَلَا مُقَاتَلَةُ الْكُفَّارِ انْتَهَى. وَاخْتَارَهُ الرَّاغِبُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ: يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَدْخُلُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ «2» .

وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ أَيْ: إِنْ لَحِقَ الْمُنَافِقُونَ بِمَنْ لَا مِيثَاقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا وَيُهَاجِرُوا، وَإِنْ لَحِقُوا بِأَهْلِ الْمِيثَاقِ فَلَا تقاتلوهم، أو جاؤوكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ هَذَا صِفَةٌ لِمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَنِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ، إِذَا كَانَ وَصْفُهُمْ أَنْ تَضِيقَ صُدُورُهُمْ عَنْ مُقَاتَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ جَمِيعًا، إِمَّا لِنِفَارِ طِبَاعِهِمْ، وَإِمَّا لِوَفَاءِ الْعَهْدِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِمْ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ لِيَتَبَيَّنُوا الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَعَلَى هَذَا وَصَفَ اللَّهُ جَمِيعَ الْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَبِلُوا الْعَهْدَ وَالذِّمَّةَ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ قِتَالُ الْمُسْلِمِينَ وَأَبَتْ نُفُوسُهُمْ مُعَاوَنَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَلَمْ يُسْلِمُوا حَقِيقَةً، وَلَكِنْ سَالَمُوا لِقَبُولِ الْعَهْدِ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ بَعْدَ ذِكْرِ مَنْ دَخَلَ فِي عَهْدِ مَنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عَهْدِكُمْ، فَهُوَ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي الْعَهْدِ، قَالَ: وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ أَنْ يقصد قوم

(1) سورة النساء: 4/ 90.

(2)

سورة النساء: 4/ 88.

ص: 13

حضرت الرَّسُولِ عليه السلام، فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، فَيَلِجُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَهْدٌ، إِلَى أَنْ يَجِدُوا السَّبِيلَ إِلَيْهِ انْتَهَى.

وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَقِرَاءَتِهِ: ميثاق جاؤوكم بِغَيْرِ وَاوٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ جاؤوكم بَيَانًا لِيَصِلُونَ، أَوْ بَدَلًا، أَوِ اسْتِئْنَافًا، أَوْ صِفَةً بَعْدَ صِفَةٍ لِقَوْمٍ انْتَهَى. وَهِيَ وُجُوهٌ مُحْتَمَلَةٌ، وَفِي بَعْضِهَا ضَعْفٌ. وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْبَدَلُ، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَتَأَتَّى لِكَوْنِهِ لَيْسَ إِيَّاهُ، وَلَا بَعْضًا، وَلَا مُشْتَمِلًا. وَمَعْنَى حَصِرَتْ: ضَاقَتْ، وَأَصْلُ الْحَصْرِ فِي الْمَكَانِ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ فِي الْقَوْلِ. قَالَ:

وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا

حَصِرًا بِسِرِّكَ يَا أُمَيْمُ ضَنِينَا

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَرِهَتْ. وَالْمَعْنَى: كَرِهُوا قِتَالَكُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ مَعَكُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ، فَيَكُونُونَ لَا عَلَيْكُمْ وَلَا لَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

حَصِرَتْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَيَعْقُوبُ: حَصْرَةٌ عَلَى وَزْنِ نَبْقَةٍ، وَكَذَا قَالَ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ: حَصِرَاتٍ. وَقُرِئَ: حَاصِرَاتٍ.

وَقُرِئَ: حَصْرَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، أَيْ: صُدُورُهُمْ حَصْرَةٌ، وَهِيَ جُمْلَةٌ اسمية في موضع الحال. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَجُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.

فَمَنْ شَرَطَ دُخُولَ قَدْ عَلَى الْمَاضِي إِذَا وَقَعَ حَالًا زَعَمَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهَا، فَقَدْ جَاءَ مِنْهُ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً بِغَيْرِ قَدْ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ اسْمًا مَنْصُوبًا، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا هُوَ الْحَالُ، وَهَذَا الْفِعْلُ صِفَتُهُ أَيْ: أو جاؤوكم قَوْمًا حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، فَلَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَرَدَّ الْفَارِسِيُّ عَلَى الْمُبَرِّدِ فِي أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ: اللَّهُمَّ أَوْقِعْ بَيْنَ الْكُفَّارِ الْعَدَاوَةَ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: أو يقاتلوا قومهم، نفي مَا اقْتَضَاهُ دُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَخْرُجُ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ تَعْجِيزٌ لَهُمْ، وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ تَحْقِيرٌ لَهُمْ، أَيْ: هُمْ أَقَلُّ وَأَحْقَرُ، وَيُسْتَغْنَى عَنْهُمْ كَمَا تَقُولُ إِذَا أَرَدْتَ هَذَا الْمَعْنَى: لَا جَعَلَ اللَّهُ فُلَانًا عَلَيَّ وَلَا مَعِي، بِمَعْنَى: أَسْتَغْنِي عَنْهُ، وَأَسْتَقِلُّ دُونَهُ. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ: أَوْ تَكُونُ سُؤَالًا لِمَوْتِهِمْ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قَوْمَهُمْ، قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مَنْ لَيْسُوا مِنْهُمْ، بَلْ عَنْ مُعَادِيهِمْ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَصِرَتْ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لقوم، وأو جاؤوكم مُعْتَرِضٌ. قَالَ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ أَسْقَطَ أَوْ، وَهُوَ أُبَيٌّ.

وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حَصِرَتْ بَدَلًا من جاؤوكم، قَالَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ الْمَجِيءَ مُشْتَمِلٌ

ص: 14

عَلَى الْحَصْرِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُفَرِّقُ بَيْنَ تَقْدِيرِ الْحَالِ، وَبَيْنَ خَبَرٍ مُسْتَأْنَفٍ فِي قَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ رَكِبَ الْفَرَسَ، أَنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ الْحَالَ بِقَوْلِكَ: رَكِبَ الْفَرَسَ، قَدَّرْتَ قَدْ. وَإِنْ أدرت خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهَا.

وَقَالَ الجرجاني: تقديره إن جاؤوكم حَصِرَتْ، فَحَذْفُ إِنْ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِضْمَارِ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ، أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ تَقْدِيرُهُ: عَنْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ.

وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ هَذَا تَقْرِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِقْدَارِ نِعْمَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ. أَيْ: لَوْ شَاءَ لَقَوَّاهُمْ وَجَرَّأَهُمْ عَلَيْكُمْ، فإذ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِالْهُدْنَةِ فَاقْبَلُوهَا.

وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَوْنَ كُفَّارًا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَهْدِهِمْ لَكَانُوا فِي جُمْلَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَيْكُمْ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ الْكَفَرَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ مُكَافَّتُهُمْ إِلَّا لِقَذْفِ اللَّهِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ؟ وَلَوْ شَاءَ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا مِنِ ابْتِلَاءٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَقْذِفْهُ، فَكَانُوا مُسَلَّطِينَ مُقَاتِلِينَ غَيْرَ كَافِّينَ، فَذَلِكَ مَعْنَى التَّسْلِيطِ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ قَبْلَهُ. قَالَ: أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ أَنْ يَفْعَلَ، وَتَسْلِيطُ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ بِأَمْرٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِإِزَالَةِ خَوْفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَتَقْوِيَةِ أَسْبَابِ الْجُرْأَةِ عَلَيْهِمْ. وَالْغَرَضُ بِتَسْلِيطِهِمْ عليهم لأمور ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: تَأْدِيبًا لَهُمْ وَعُقُوبَةً لِمَا اجْتَرَحُوا مِنَ الذُّنُوبِ. الثَّانِي: ابْتِلَاءً لِصَبْرِهِمْ وَاخْتِبَارًا لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ كَمَا قَالَ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ «1» الْآيَةَ. الثَّالِثُ: لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَتَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِمْ. أَوِ الْمَجْمُوعِ وَهُوَ أَقْرَبُ لِلصَّوَابِ انْتَهَى.

وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ اسْتُثْنُوا مُؤْمِنُونَ لَا كَافِرُونَ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بِتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ لِيَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ إن أقدمتهم عَلَى مُقَاتَلَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ فَعَلَ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ، إِلَّا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ شَاءَ ذَلِكَ وَأَرَادَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبُحُ مِنْهُ تَسْلِيطُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وتقويته عليه.

(1) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: 2/ 155.

ص: 15

وقرأ الجمهور: فيقاتلوكم بِأَلِفِ الْمُفَاعَلَةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَطَائِفَةٌ: فَلَقَتَلُوكُمْ عَلَى وَزْنِ ضَرَبُوكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْجَحْدَرِيُّ: فَلَقَتَّلُوكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، وَاللَّامُ فِي لَقَاتَلُوكُمْ لَامُ جَوَابِ لَوْ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَقَامَ عَمْرٌو وَلَقَامَ بَكْرٌ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّامُ فِي لَسَلَّطَهُمْ جَوَابُ لَوْ، وَفِي فَلَقَاتَلُوكُمْ لَامُ الْمُحَاذَاةِ وَالِازْدِوَاجِ، لِأَنَّهَا بِمَثَابَةِ الْأُولَى لَوْ لَمْ تَكُنِ الْأُولَى كُنْتَ تَقُولُ: لَقَاتَلُوكُمْ انْتَهَى. وَتَسْمِيَتُهُ هَذِهِ اللَّامَ لَامَ الْمُحَاذَاةِ وَالِازْدِوَاجِ تَسْمِيَةٌ غَرِيبَةٌ، لَمْ أَرَ ذَلِكَ إِلَّا فِي عِبَارَةِ هَذَا الرَّجُلِ، وَعِبَارَةِ مَكِّيٍّ قَبْلَهُ.

فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَوْنَ كُفَّارًا فَالِاعْتِزَالُ حَقِيقَةً لَا يَتَهَيَّأُ إِلَّا فِي حَالَةِ الْمُوَاجَهَةِ فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا اعْتَزَلُوكُمْ بِانْفِرَادِهِمْ عَنْ قَوْمِهِمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالِاعْتِزَالِ هُنَا الْمُهَادَنَةَ، وَسُمِّيَتِ اعْتِزَالًا لِأَنَّهَا سَبَبُ الِاعْتِزَالِ عَنِ الْقِتَالِ. وَالسَّلَمُ هُنَا الِانْقِيَادُ قَالَهُ: الْحَسَنُ، أَوِ الصُّلْحُ قَالَهُ: الرَّبِيعُ وَمُقَاتِلٌ، أَوِ الْإِسْلَامُ قَالَهُ: الْحَسَنُ أَيْضًا. وَأَمَّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْتَثْنَيْنَ مُؤْمِنُونَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذْ قَدِ اعْتَزَلُوكُمْ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فَاتْرُكُوهُمْ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ فِي «الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَسْتَحْكِمْ إِيمَانُهُمْ» وَالْمَعْنَى: سَبِيلًا إِلَى قَتْلِهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: السَّلْمُ بِسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِكَسْرِ السِّينِ، وَسُكُونِ اللَّامِ.

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْمُحِقِّينَ فِي الْمُتَارَكَةِ، الْمُجِدِّينَ فِي إِلْقَاءِ السَّلَمِ، نَبَّهَ عَلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مُخَادِعَةٍ يُرِيدُونَ الْإِقَامَةَ فِي مَوَاضِعِهِمْ مَعَ أَهْلِيهِمْ يَقُولُونَ لَهُمْ: نَحْنُ مَعَكُمْ وَعَلَى دِينِكُمْ، وَيَقُولُونَ لِلْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ إِذَا وَجَدُوا. قِيلَ: كَانَتْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ، قَالَهُ: مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ كَانَ يَنْقُلُ بَيْنَ النبي صلى الله عليه وسلم الْأَخْبَارَ قَالَهُ: السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ يَجِيئُونَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رِيَاءً وَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ يَكْفُرُونَ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَعْلَمَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى صِفَةِ مَنْ تَقَدَّمَ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ قَالَهُ: قَتَادَةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَهُ:

الْحَسَنُ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ، أَنَّهُمْ قَوْمٌ غَيْرُ الْمُسْتَثْنَيْنَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ «1» . وَذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ الْأُولَى، وَالْقَوْمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هُمُ الَّذِينَ

(1) سورة النساء: 4/ 90.

ص: 16

نَزَلَتْ فِيهِمُ الْأُولَى، وَجَاءَتْ مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الْأُولَى مُقَرِّرَةً لَهَا. وَالسِّينُ فِي سَتَجِدُونَ لَيْسَتْ لِلِاسْتِقْبَالِ قَالُوا: إِنَّمَا هِيَ دَالَّةٌ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ:

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ «1» وَمَا نَزَلَتْ إِلَّا بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ «2» فَدَخَلَتِ السِّينُ إِشْعَارًا بِالِاسْتِمْرَارِ انْتَهَى. وَلَا تَحْرِيرَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ السِّينَ لَيْسَتْ لِلِاسْتِقْبَالِ وَإِنَّمَا تُشْعِرُ بِالِاسْتِمْرَارِ، بَلِ السِّينُ لِلِاسْتِقْبَالِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ، لَكِنْ فِي اسْتِمْرَارِهِ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ أَيْ: يَأْمَنُوا أَذَاكُمْ وَيَأْمَنُوا أَذَى قَوْمِهِمْ. وَالْفِتْنَةُ هُنَا: الْمِحْنَةُ فِي إِظْهَارِ الْكُفْرِ. وَمَعْنَى أُرْكِسُوا فِيهَا رَجَعُوا أَقْبَحَ رُجُوعٍ وَأَشْنَعَهُ، وَكَانُوا شَرًّا فِيهَا مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ. وَحُكِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمِهِمْ فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ: قُلْ رَبِّي الْخُنْفُسَاءُ، وَرَبِّي الْقِرَدَةُ، وَرَبِّي الْعَقْرَبُ، وَنَحْوَهُ فَيَقُولُهَا. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ: رِدُّوا بِكَسْرِ الرَّاءِ، لَمَّا أَدْغَمَ نَقَلَ الْكَسْرَةَ إِلَى الرَّاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: رُكِسُوا بِضَمِّ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ مُخَفَّفًا. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ عَنْهُ: بِشَدِّ الْكَافِ.

فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أَمَرَ تَعَالَى بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ فِي أَيِّ مَكَانٍ ظَفِرَ بِهِمْ، عَلَى تَقْدِيرِ انْتِفَاءِ الِاعْتِزَالِ وَإِلْقَاءِ السَّلَمِ، وَكَفِّ الْأَيْدِي. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَّهُوا الِاعْتِزَالَ وَإِلْقَاءَ السَّلَمِ وَكَفَّ الْأَيْدِي، لَمْ يُؤْخَذُوا وَلَمْ يُقْتَلُوا.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ حَضٌّ عَلَى قَتْلِ هَؤُلَاءِ الْمُخَادِعِينَ إِذَا لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ حَالِهِمْ إِلَى حَالِ الْآخَرِينَ الْمُعْتَزِلِينَ الْمُلْقِينَ لِلسَّلَمِ. وَتَأَمَّلْ فَصَاحَةَ الْكَلَامِ فِي أَنْ سَاقَهُ فِي الصِّيغَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَ هَذِهِ سِيَاقَ إِيجَابِ الِاعْتِزَالِ، وَإِيجَابِ إِلْقَاءِ السَّلَمِ، وَنَفْيِ الْمُقَاتَلَةِ، إِذْ كَانُوا مُحِقِّينَ فِي ذَلِكَ مُعْتَقِدِينَ لَهُ. وَسِيَاقُهُ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ سِيَاقُ نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السَّلَمِ، إِذْ كَانُوا مُبْطِلِينَ فِيهِ مُخَادِعِينَ، وَالْحُكْمُ سَوَاءٌ عَلَى السِّيَاقَيْنِ. لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا لَوْ لَمْ يَعْتَزِلُوا، لَكَانَ حُكْمُهُمْ، حُكْمَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جُعِلَ عَلَيْهِمُ السُّلْطَانُ الْمُبِينُ. وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَلَيْهِمُ السُّلْطَانُ إِذَا لَمْ يَعْتَزِلُوا، لو اعتزلوا لكان حُكْمُهُمْ حُكْمَ الَّذِينَ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بِهَذِهِ العبارة نحت الْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْفِرْقَةِ الْأُولَى أَخَفَّ، رَتَّبَ تَعَالَى انْتِفَاءَ جَعْلِ السَّبِيلِ عَلَيْهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ سَبَبَيْنِ: وُجُودُ الِاعْتِزَالِ، وَإِلْقَاءُ السَّلَمِ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ هَذِهِ الْفِرْقَةِ المخادعة أشدّ، رتب

(1) سورة البقرة: 2/ 142.

(2)

سورة البقرة: 2/ 142.

ص: 17

أَخْذَهُمْ وَقَتْلَهُمْ عَلَى وُجُودِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: نَفْيُ الِاعْتِزَالِ، وَنَفْيُ إِلْقَاءِ السَّلَمِ، وَنَفْيُ كَفِّ الْأَذَى. كُلُّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ فِي حَقِّهِمْ وَالتَّشْدِيدِ.

وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ عَلَى أَخْذِهِمْ وَقَتْلِهِمْ حُجَّةً وَاضِحَةً، وَذَلِكَ لِظُهُورِ عَدَاوَتِهِمْ، وَانْكِشَافِ حَالِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْغَدْرِ، وَإِضْرَارِهِمْ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ حُجَّةً ظَاهِرَةً حَيْثُ أَذِنَّا لَكُمْ فِي قَتْلِهِمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: حَيْثُمَا وَقَعَ السُّلْطَانُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْحُجَّةُ.

وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً

رُوِيَ أَنَّ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَكَانَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ، أَسْلَمَ وَهَاجَرَ خَوْفًا مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْسَمَتْ أُمُّهُ لَا تَأْكُلُ وَلَا تشرب ولا يأويها سَقْفٌ حَتَّى يَرْجِعَ، فَخَرَجَ أبو جهل ومعه الحرث بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ فَأَتَيَاهُ وَهُوَ فِي أُطُمٍ، فَفَتَكَ مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ فِي الزَّرُودِ وَالْغَارِبِ وَقَالَ: أَلَيْسَ مُحَمَّدٌ يَحُثُّكَ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ؟ انْصَرِفْ وَبِرَّ أُمَّكَ وَأَنْتَ عَلَى دِينِكَ، حَتَّى نَزَلَ وَذَهَبَ مَعَهُمَا، فَلَمَّا أَبْعَدَا عَنِ الْمَدِينَةِ كَتَّفَاهُ وَجَلَدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَقَالَ للحرث: هَذَا أَخِي، فَمَنْ أَنْتَ يا حرث الله؟ عَلَيَّ إِنْ وَجَدْتُكَ خَالِيًا أَنْ أَقْتُلَكَ. وَقَدِمَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ فَحَلَفَتْ لَا تُحَلُّ كِتَافُهُ أَوْ يَرْتَدَّ، فَفَعَلَ. ثُمَّ هَاجَرَ بَعْدَ ذلك، وأسلم الحرث، وَهَاجَرَ فَلَقِيَهُ عَيَّاشٌ بِظَهْرِ قبا وَلَمْ يَشْعُرْ بِإِسْلَامِهِ، فَأَنْحَى عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أُخْبِرَ بِإِسْلَامِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:

قَتَلْتُهُ وَلَمْ أَشْعُرْ بِإِسْلَامِهِ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ كَانَ يَرْعَى غَنَمًا فَقَتَلَهُ فِي بَعْضِ السَّرَايَا أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَسَاقَ غَنَمَهُ، فَعَنَّفَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ

. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ حِينَ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأً. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ انْتَهَى.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ فِي مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُحَارَبَةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَظُنَّ رَجُلًا حَرْبِيًّا وَهُوَ مُسْلِمٌ فَيَقْتُلَهُ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ «1» وَفِي قَوْلِهِ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «2» وَكَانَ يُغْنِي الْكَلَامُ هُنَاكَ عَنِ الْكَلَامِ هُنَا، وَلَكِنْ رَأَيْنَا جَمْعَ مَا قَالَهُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا كَانَ لمؤمن: ما صح لَهُ، وَلَا اسْتَقَامَ، وَلَا لاق بحاله، كقوله:

(1) سورة البقرة: 2/ 114.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 161. [.....]

ص: 18

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ، أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا ابْتِدَاءً غَيْرَ قِصَاصٍ إِلَّا خَطَأً عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَا انْتَصَبَ خَطَأٌ؟ (قُلْتُ) : بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ: مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ إِلَّا لِلْخَطَأِ وَحْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا بِمَعْنَى: لَا يَقْتُلُهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْخَطَأِ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ أَيْ: إِلَّا قَتْلًا خَطَأً. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ تَنْتَفِيَ عَنْهُ وُجُوهُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ ابْتِدَاءً الْبَتَّةَ، إِلَّا إِذَا وُجِدَ مِنْهُ خَطَأٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ يَرْمِيَ كَافِرًا فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، أَوْ يَرْمِيَ شَخْصًا عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: مَا كَانَ فِي إِذَنْ اللَّهِ وَلَا فِي أَمْرِهِ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا بِوَجْهٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ إِلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ الْخَطَأَ قَدْ يَقَعُ، وَيَتَّجِهُ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ تُقَدَّرَ كَانَ بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ وَوُجِدَ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا وُجِدَ وَلَا تَقَرَّرَ وَلَا سَاغَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً إِذْ هُوَ مَغْلُوبٌ فِيهِ أَحْيَانًا، فَيَجِيءُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، وَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا إِعْظَامَ الْعَهْدِ وَبَشَاعَةَ شَأْنِهِ كَمَا تَقُولُ: مَا كَانَ لَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهَذَا إِلَّا نَاسِيًا إِعْظَامًا لِلْعَمْدِ وَالْقَصْدِ، مَعَ حَظْرِ الْكَلَامِ بِهِ الْبَتَّةَ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنْ قِيلَ: أَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْمُؤْمِنُ خَطَأً حَتَّى يُقَالَ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً قِيلَ قَوْلُكَ يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ، فَأَمَّا الْخَطَأُ فَلَا يُقَالُ فِيهِ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، وَمَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ كَذَا مُتَقَارِبَانِ، وَهُمَا لَا يُقَالَانِ بِمَعْنًى. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ الْإِحْجَامُ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أَيْ: مَا كَانَ الْمُؤْمِنُ لِيَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ: مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، لَكِنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ خَطَأً. وَكَذَا مَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَنْ يقتل المؤمن الْمُؤْمِنُ إِلَّا خَطَأً. وَقَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ لَيْسَ الْقَتْلُ لِمُؤْمِنٍ بِمَتْرُوكٍ أَنْ يَقْتَضِيَ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ خَطَأً. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَمَا كَانَ أَيْ: فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ، أَوْ عَهِدَ إِلَيْهِ، أَوْ مَا كَانَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ ذَلِكَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ حُرْمَةَ الْقَتْلِ كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ التَّكْلِيفِ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا وَيَبْقَى مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً، فَيَبْقَى حِينَئِذٍ مُؤْمِنًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ قَالَهُ السُّدِّيُّ. قَالَ السُّدِّيُّ:

قَتْلُ الْمُؤْمِنِ الْمُؤْمِنَ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً، وَلَيْسَ هَذَا مُعْتَقَدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَقِيلَ: هُوَ نَفْيُ جَوَازِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ، وَمَعْنَاهُ: النَّهْيُ، وَأَفَادَ دُخُولُ كَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ حُكْمَ اللَّهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْإِشْكَالُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنَ عَنِ الْقَتْلِ مُطْلَقًا،

ص: 19

وَاسْتَثْنَى الْخَطَأَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَمِنَ التَّحْرِيمِ إِبَاحَةٌ، وَقَتْلُ الْخَطَأِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي كَوْنِهِ حَرَامًا كَلَامٌ انْتَهَى.

وَمُلَخَّصُ مَا بُنِيَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ نَفْيًا وَأُرِيدَ بِهِ مَعْنَى النَّهْيِ كَانَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: إِلَّا خَطَأً فَلَهُ قَتْلُهُ. وَإِنْ كَانَ نَفْيًا أُرِيدَ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: إِلَّا خَطَأً بِأَنْ عَرَفَهُ كَافِرًا فَقَتَلَهُ، وَكَشَفَ الْغَيْبُ أَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا، فَيَكُونُ قَدْ أُبِيحَ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ الْكَفَرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْحَظْرِ إِبَاحَةً. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمَعْنَى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا عَمْدًا وَلَا خَطَأً فَيَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى: وَلَا، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالَ: مِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ، إِلَّا إِذَا تَقَدَّمَ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ، وَيَكُونُ الثَّانِي عَطْفَ اسْتِثْنَاءٍ عَلَى اسْتِثْنَاءٍ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ

دَارُ الْخَلِيفَةِ إِلَّا دَارَ مَرْوَانَا

وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ سَأَلَ رُؤْبَةَ بْنَ الْعَجَّاجِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ عَمْدًا وَلَا خَطَأً، وَلَكِنَّهُ أَقَامَ إِلَّا مَقَامَ الْوَاوِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ

لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا خَطَأً، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ: أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ. وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ خَطَأً، وَالْقَتْلُ عِنْدَ مَالِكٍ عَمْدٌ وَخَطَأٌ، فَيُقَادُ بِاللَّطْمَةِ، وَالْعَضَّةِ، وَضَرْبِ السَّوْطِ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: عَمْدٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ.

وَلَا قِصَاصَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَلَا الْخَطَأِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَشِبْهُ، عَمْدٍ، وَمَا لَيْسَ بِخَطَأٍ وَلَا عَمْدٍ وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ. وَالْخَطَأُ ضَرْبَانِ: أَنْ يَقْصِدَ رَمْيَ مُشْرِكٍ أَوْ طَائِرٍ فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، أَوْ يَظُنَّهُ مُشْرِكًا لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ سِيمَا أَهْلِ الشِّرْكِ، أَوْ فِي حَيِّزِهِمْ. وَشِبْهُ الْعَمْدِ مَا يُعْمَدُ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا مِنْ حَجَرٍ أَوْ عَصًا، وَمَا لَيْسَ بِخَطَأٍ وَلَا عَمْدٍ وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ قَتْلُ السَّاهِي وَالنَّائِمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خَطَّاءً عَلَى وَزْنِ بَنَّاءٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ: عَلَى وَزْنِ سَمَاءٍ مَمْدُودًا. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: عَلَى وَزْنِ عَصًا مَقْصُورًا لِكَوْنِهِ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا، أَوْ إِلْحَاقًا بِدَمٍ، أَوْ حَذَفَ الْهَمْزَةَ حَذْفًا كَمَا حَذَفَ لَامَ دَمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وُجُوهُ الْخَطَأِ كَثِيرَةٌ، وَمَرْبِطُهَا عَدَمُ الْقَصْدِ.

وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا

ص: 20

التَّحْرِيرُ: الْإِعْتَاقُ، وَالْعَتِيقُ: الْكَرِيمُ، لِأَنَّ الْكَرَمَ فِي الْأَحْرَارِ كَمَا أَنَّ اللُّؤْمَ فِي الْعَبِيدِ. وَمِنْهُ عِتَاقُ الطَّيْرِ، وَعِتَاقُ الْخَيْلِ لِكِرَامِهَا. وَحُرُّ الْوَجْهِ أَكْرَمُ مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَالرَّقَبَةُ عُبِّرَ بِهَا عَنِ النَّسَمَةِ، كَمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالرَّأْسِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا رَأْسًا مِنَ الرَّقِيقِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ رَقَبَةٍ اتَّصَفَتْ بِأَنْ يُحْكَمَ لَهَا بِالْإِيمَانِ مُنْتَظِمٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، انْتِظَامَ عُمُومِ الْبَدَلِ.

فَيَنْدَرِجُ فِيهَا مَنْ وُلِدَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، وَمَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَمَنْ سَبَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْبُلُوغِ.

وقال ابراهيم: لا يجزي إِلَّا الْبَالِغُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ: لَا يُجْزِئُ إِلَّا الَّتِي صَامَتْ وَعَقَلَتِ الْأَيْمَانَ، لَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ الصَّغِيرَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زياد، وزفر: يجزى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الصَّبِيُّ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُجْزِئُ الصَّغِيرُ الْمَوْلُودُ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ صَلَّى وَصَامَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا، يَنْتَظِمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ النَّاقِصَ النُّقْصَانَ الْكَبِيرَ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْأَعْمَى، لَا يُجْزِئُ فِيمَا حَفِظْتُ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا يُمْكِنُ مَعَهُ الْمَعِيشَةُ وَالتَّحَرُّفُ كَالْعَرَجِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدٌ، وَلَا مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا أَشَلُّهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَعْرَجِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُجْزِئُ مَقْطُوعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ: لَا يُجْزِئُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمُ الْمَجْنُونُ الْمُطْبَقُ، وَلَا عِنْدَ مَالِكٍ الذي يجن ويفين، وَلَا الْمُعْتَقُ إِلَى سِنِينَ، وَيُجْزِئَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَلَا يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَيُجْزِئُ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ مَنْ أُعْتِقَ بَعْضُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ.

فَقِيلَ: تمحيصا وطهر الذنب الْقَاتِلِ، حَيْثُ تَرَكَ الِاحْتِيَاطَ وَالتَّحَفُّظَ حَتَّى هَلَكَ عَلَى يَدَيْهِ امْرُؤٌ مَحْقُونُ الدَّمِ. وَقِيلَ: لَمَّا أَخْرَجَ نَفْسًا مُؤْمِنَةً عَنْ جُمْلَةِ الْأَحْيَاءِ، لَزِمَهُ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسًا مِثْلَهَا فِي جُمْلَةِ الْأَحْرَارِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَهَا مِنْ قَيْدِ الرِّقِّ حَيَاتُهَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الرَّقِيقَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَحْرَارِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ وُجُوبَ التَّحْرِيرِ وَالدِّيَةِ عَلَى القاتل، لأنه مستقرا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا يَلْزَمُ فِيهِ أَمْرٌ مِنَ الْغَرَامَاتِ مِثْلَ الْكَفَّارَاتِ، إِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى فَاعِلِهِ. فَأَمَّا

ص: 21

التَّحْرِيرُ فَفِي مَالِ الْقَاتِلِ. وَأَمَّا الدِّيَةُ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ كُلِّهَا فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. وَمَا جَاوَزَ الثُّلُثَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا الثُّلُثُ فَفِي مَالِ الْجَانِي، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ. وَهِيَ خِلَافُ قِيَاسِ الْأُصُولِ فِي الْغَرَامَاتِ وَالْمُتْلَفَاتِ. وَالدِّيَةُ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

نَأْسُوا بِأَمْوَالِنَا آثَارَ أَيْدِينَا وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمِقْدَارِ مَا يُعْطَى فِي الدِّيَةِ، وَلَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَكُونُ. فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْإِبِلِ مِائَةٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهَا، وَالدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ أَلْفُ دِينَارٍ، أَوْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَالْحُلَلِ، وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَدَنِيِّينَ. فَمِنَ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَمِنَ الشَّاةِ أَلْفُ شَاةٍ، وَمِنَ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ، وَذَلِكَ فِعْلُ عُمَرَ وَجَعَلَهُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَهْلُ الْإِبِلِ أَهْلُ الْبَوَادِي، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ إِلَّا الْإِبِلُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ إِلَّا الذَّهَبُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ إِلَّا الْوَرَقُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ منهم طاووس وَالشَّافِعِيُّ: هِيَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ لَا غَيْرُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ بَدَلٌ عَنْهَا إِذَا عُدِمَتْ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ يَجِبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ أَبُو حَنِيفَةَ والشافعي ومالك أن آية الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَسْنَانِ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: عِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَهُوَ: مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: عِشْرُونَ حِقَاقًا، وَعِشْرُونَ جِذَاعًا، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الدِّيَةُ قِسْمَانِ، مُغَلَّظَةٌ أَثْلَاثًا، ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذْعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، وَمُخَفَّفَةٌ أَخْمَاسًا كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَرُوِيَ عَنِ عَطَاءٍ أَنَّ دية الخطأ أرباع: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذْعَةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، مِثْلَ أَسْنَانِ الذُّكُورِ. وَقَالَ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: فِي الْخَطَأِ ثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَرُوِيَ عَنْهُمَا مَكَانَ الْجِذَاعِ الْحِقَّاتُ.

ص: 22

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَتْلِ خَطَأً فِي الْحَرَمِ وَفِي شَهْرٍ حَرَامٍ، وَبَيْنَهُ فِي الْحِلِّ، وَفِي شَهْرٍ غَيْرِ حَرَامٍ. وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ، هَلْ تُغَلَّظُ فِيهِ الدِّيَةُ؟ فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْحَرَمِ زِيدَ عَلَى الْقَاتِلِ الثُّلُثُ، وَيُزَادُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ.

وَأَمَّا مَنِ الْعَاقِلَةِ فَقِيلَ هُمُ الْعَصَبَاتُ الْأَرْبَعَةُ: الْأَبُ، وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا، وَالِابْنُ، وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفُلَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: هُمْ أَهْلُ دِيوَانِهِ دُونَ أَقْرِبَائِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فُرِضَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَيُضَمُّ إليهم أقرب الْقَبَائِلُ فِي النَّسَبِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَى عَنْهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: الْعَقْلُ عَلَى ذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَالْحُلَفَاءِ، عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ بَنِي أَبِيهِ ثُمَّ جَدِّهِ، ثُمَّ بَنِي جَدِّ أَبِيهِ.

وَأَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي تُؤَدَّى فِيهَا الدِّيَةُ فَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَوَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ:

أَنَّهَا تَتَأَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَفِي الدِّيَةِ وَالْعَاقِلَةِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ تَعَرَّضَ لَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَمَعْنَى مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ: أَيْ مُؤَدَّاةٌ مَدْفُوعَةٌ إِلَى أَهْلِ الْمَقْتُولِ، أَيْ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ يَقْتَسِمُونَهَا كَالْمِيرَاثِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ التَّرِكَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُقْضَى مِنْهَا الدَّيْنُ، وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ فَهِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ شَرِيكٌ: لَا يُقْضَى مِنَ الدِّيَةِ دَيْنٌ، وَلَا تُنَفَّذُ مِنْهَا وَصِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَرِثُ كُلُّ وَارِثٍ مِنْهَا غَيْرَ الْقَاتِلِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أَيَ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ وُرَّاثُهُ عَنِ الدِّيَةِ فَلَا دِيَةَ. وَجَاءَ بِلَفْظِ التَّصَدُّقِ تَنْبِيهًا عَلَى فَضِيلَةِ الْعَفْوِ وَحَضًّا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الصَّدَقَةِ، وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ الْآجِلِ بِهِ دُونَ طَلَبِ الْعَرَضِ الْعَاجِلِ، وَهَذَا حُكْمُ مَنْ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خَطَأً. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الدَّيْنِ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي الْإِبْرَاءِ خِلَافًا لِزُفَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَبْرَأُ الْغَرِيمُ مِنَ الدَّيْنِ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَ الْبَرَاءَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَ، وَتَرْتِيبُ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَدِيَةٍ عَلَى ذَلِكَ. وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ هَكَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ذَلِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَارِثُ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْكَفَّارَةُ.

ص: 23

وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ قِيلَ: مُنْقَطِعٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَّصِلٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ تَعَلَّقَ أَنْ يَصَّدَّقُوا؟ وَمَا مَحَلُّهُ؟ (قُلْتُ) : تَعَلَّقَ بِعَلَيْهِ، أو بمسلمة. كَأَنْ قِيلَ: وَتَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ أَوْ يُسَلِّمُهَا، إِلَّا حِينَ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الزَّمَانِ كَقَوْلِهِمُ: اجْلِسْ مَا دَامَ زَيْدٌ جَالِسًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ أَهْلِهِ بِمَعْنَى: إِلَّا مُتَصَدِّقِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكِلَا التَّخْرِيجَيْنِ خَطَأٌ. أَمَّا جَعْلُ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا ظَرْفًا فَلَا يَجُوزُ، نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِمَّا انْفَرَدَتْ بِهِ مَا الْمَصْدَرِيَّةُ وَمَنَعُوا أَنْ تَقُولَ: أَجِيئُكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، يُرِيدُ وَقْتَ صِيَاحِ الدِّيكِ. وَأَمَّا أَنْ يَنْسِبَكَ مِنْهَا مَصْدَرٌ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَنَصُّوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: أَنْتَ الرَّجُلُ أَنْ تُنَازِلَ أَوْ أَنْ تُخَاصِمَ، فِي مَعْنَى أَنْتَ الرَّجُلُ نِزَالًا وَخُصُومَةً، إِنَّ انْتِصَابَ هَذَا انْتِصَابَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ لَا يَكُونُ حَالًا، فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَكُونُ كَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا هُوَ الصَّوَابُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَصَّدَّقُوا، وَأَصْلُهُ يَتَصَدَّقُوا، فَأُدْغِمَتِ التَّاءِ فِي الصَّادِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: تَصَّدَّقُوا بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطِبَةِ لِلْحَاضِرَةِ.

وَقُرِئَ: تَصَدَّقُوا بِالتَّاءُ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ، وَأَصْلُهُ تَتَصَدَّقُوا، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَيِّهِمَا هِيَ الْمَحْذُوفَةُ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ: يَتَصَدَّقُوا بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ.

فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمْ: الْمَعْنَى إِنْ كَانَ هَذَا الْمَقْتُولُ خَطَأً رَجُلًا مُؤْمِنًا قَدْ آمَنَ وَبَقِيَ فِي قَوْمِهِ وَهُمْ كَفَرَةٌ عَدُوٌّ لَكُمْ فَلَا دِيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَفَّارَتُهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. وَالسَّبَبُ عِنْدَهُمْ فِي نُزُولِهَا: أَنَّ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ تَمُرُّ بِقَبَائِلِ الْكَفَرَةِ، فَرُبَّمَا قُتِلَ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ، أَوْ مَنْ هَاجَرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَيُقْتَلُ فِي حَمَلَاتِ الْحَرْبِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَسَقَطَتِ الدِّيَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ كَفَرَةٌ، فَلَا يُعْطَوْنَ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ. وَلِأَنَّ حُرْمَتَهُ إِذَا آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ قَلِيلَةٌ فَلَا دِيَةَ. وَإِذَا قُتِلَ مؤمنا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْمُهُ حَرْبٌ، فَفِيهِ الدِّيَةُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَالْكَفَّارَةُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْوَجْهُ فِي سُقُوطِ الدِّيَةِ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ كُفَّارٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَتْلُ خَطَأً بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ قَوْمِهِ ولم يهاجر، ولو هَاجَرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، وَكَفَّارَتُهُ لَيْسَ إِلَّا التَّحْرِيرَ، لِأَنَّهُ إِنْ قُتِلَ بَيْنَ أَظْهُرِ قَوْمِهِ فَهُوَ مُسَلِّطٌ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ فَأَهْلُهُ لَا يَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ، وَلَا الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَهُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْحَالَيْنِ، هَذَا قَوْلُ: مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:

ص: 24

الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ خَطَأً إِنْ كَانَ قَوْمُهُ الْمُشْرِكُونَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَعَلَى قَاتِلِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، أَوْ كَانَ فَتُؤَدَّى دِيَتُهُ لِقَرَابَتِهِ الْمُعَاهَدِينَ.

قَالَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ: اخْتَلَفَتْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: إِنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ مُسْتَأْمَنٌ فَكَفَّارَةُ الْخَطَأِ، أَوْ كَانَا مُسْتَأْمَنَيْنِ فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ وَكَفَّارَةُ الْخَطَأِ، أَوْ أَسِيرَيْنِ فَعَلَى الْقَاتِلِ كَفَّارَةُ الْخَطَأِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ: الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَقَالَ مَالِكٌ:

عَلَى قَاتِلِ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَخْرُجِ، الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ خَطَأً. وَالْآيَةُ إِنَّمَا كَانَتْ فِي صُلْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّةَ، لِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يُوَرَّثْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إِذَا أَقَامَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فِي نفسه وماله وأدّ الحق بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ بِتَرْكِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي الْغَارَةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلَا عَقْلَ فِيهِ وَلَا قَوْدَ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا، أَوْ مُسْتَأْمَنًا، أَوْ رَجُلًا أَسْلَمَ هُنَاكَ، وَإِنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوْدُ انْتَهَى مَا نَقَلَهُ هَذَا الْمُصَنِّفُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَدْلُولِ هَذِهِ الْجُمَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَحْكَامَ الْمُؤْمِنِ الْمَقْتُولِ خَطَأً فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهَا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ خَطَأً إِنْ كَانَ أَهْلُهُ مُؤْمِنِينَ أَوْ مُعَاهَدِينَ، فَالتَّحْرِيرُ وَالدِّيَةُ. وَنَزَلَ الْمُعَاهَدُونَ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ مَنْزِلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الْمُؤْمِنِينَ جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ حَرْبِيِّينَ فَالتَّحْرِيرُ فَقَطْ.

وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قَالَ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَغَيْرُهُمْ: وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ خَطَأً مُؤْمِنًا مِنْ قَوْمٍ مُعَاهَدِينَ لَكُمْ، فَعَهْدُهُمْ يُوجِبُ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِدِيَةِ صَاحِبِهِمْ، وَكَفَّارَتُهُ التَّحْرِيرُ، وَأَدَاءُ الدِّيَةِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَرَأَهَا الْحَسَنُ: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ أَيْضًا، وَالزُّهْرِيُّ: الْمَقْتُولُ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ خَطَأً كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا عَلَى عَهْدِ قَوْمِهِ، فِيهِ الدِّيَةُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالتَّحْرِيرُ.

وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَا فِي دِيَةِ الْمُعَاهَدِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ: دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ أَنَّهَا قَيْدٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى

ص: 25

بِكَوْنِهِ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ، وَقَيْدٌ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بِكَوْنِهِ مِنْ قَوْمٍ مُعَاهَدِينَ، وَالْمَعْنَى فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَهُمْ كُفَّارٌ. فَإِذَا تَقَيَّدَتْ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَقْيِيدِ الْأُولَى بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّسَبِ، وَهِيَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَهْلُهُ مُؤْمِنُونَ لَا حَرْبِيُّونَ وَلَا مُعَاهَدُونَ. وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلتَّعَارُضِ وَالتَّعَانُدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَتَيْنِ بَعْدُ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمُ، اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَعْطِ هَذَا رَجُلًا وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَأَعْطِهِ، فَهَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ حَكِيمٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْأَوَّلِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْخِطَابِ. ثُمَّ قَالَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَعْنِي: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ ذَا عَهْدٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إِضْمَارُ الْإِيمَانِ لَهُ إِلَّا بِدَلَالَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ذَكَرَ الْإِيمَانَ فَقَالَ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ، لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ لَاقْتَضَى الْإِطْلَاقُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَمَّا قَوْلُهُ: اسْتِئْنَافٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ اسْتِئْنَافًا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّقْسِيمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. بَدَأَ أَوَّلًا بِالْأَشْرَفِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ، وَأَهْلُهُ مُؤْمِنُونَ لَيْسُوا بِحَرْبِيِّينَ وَلَا مُعَاهَدِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَعْطِ هَذَا رَجُلًا وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَأَعْطِهِ، فَهَذَا لَيْسَ نَظِيرَ الْآيَةِ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا الضَّمِيرُ فِي كَانَ عَائِدًا عَلَى الْمَقْتُولِ خَطَأً، الْمُؤْمِنُ إِذَا كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ، وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لَا سَبِيلِ التَّقْيِيدِ، إِذِ الْقَيْدُ مَفْهُومٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِهِ، لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَالَ مُؤَكِّدَةٌ، وَفَائِدَةُ تَأْكِيدِهَا أَنْ لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى مُطْلَقِ الْمَقْتُولِ لَا بِقَيْدِ الْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لو أطلق لاقتضى الإطلاق أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَوْ لَمْ يَأْتِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ، لَكَانَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي كَانَ عَائِدًا عَلَى الْمَقْتُولِ خَطَأً، لأنّه لم يجر ذِكْرَ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى غَيْرِ مَنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، وَيُتْرَكُ عَوْدُهُ عَلَى مَا يَجْرِي عَلَيْهِ ذِكْرٌ.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ يَعْنِي: رَقَبَةً لَمْ يَمْلِكْهَا، وَلَا وَجَدَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مِلْكِهَا، فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُ ذَلِكَ، إِذْ

ص: 26

لَوْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ لِعَطَفَهَا عَلَى الصِّيَامِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: الشَّعْبِيُّ، وَمَسْرُوقٌ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَهْمٌ، لِأَنَّ الدِّيَةَ إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَيْسَتْ عَلَى الْقَاتِلِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِوَهْمٍ، بَلْ هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَمَعْنَى التَّتَابُعِ: لَا يَتَخَلَّلُهَا فِطْرٌ. فَإِنْ عَرَضَ حَيْضٌ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يُعَدَّ قَاطِعًا بِإِجْمَاعٍ.

وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَيُفْطِرَ، وَالْمَرَضُ كَالْحَيْضِ عِنْدَ: ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ، ومجاهد، وقتادة، وطاووس، ومالك. وقال ابن جبير، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ:

يَسْتَأْنِفُ إِذَا أَفْطَرَ لِمَرَضٍ. وَلِلشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ وَحْدَهُ إِنْ كَانَ عُذْرٌ غَالِبٌ كَصَوْمِ رَمَضَانَ.

تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: رُجُوعًا مِنْهُ إِلَى التَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، حَيْثُ نَقَلَكُمْ مِنَ الرَّقَبَةِ إِلَى الصَّوْمِ. أَوْ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أَيْ قَبُولًا مِنْهُ وَرَحْمَةَ مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذَا قَبِلَ تَوْبَتَهُ. وَدَعَا تَعَالَى قَاتِلَ الْخَطَأِ إِلَى التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّزْ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ.

وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا بِمَنْ قَتَلَ خَطَأً، حَكِيمًا حَيْثُ رَتَّبَ مَا رَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعَالَى.

وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً نَزَلَتْ فِي مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ حِينَ قَتَلَ أَخَاهُ هِشَامَ بْنَ صُبَابَةَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَخَذَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدِّيَةَ، ثُمَّ بَعَثَهُ مَعَ رَجُلٍ مِنْ فِهْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ مَا، فَقَتَلَهُ مِقْيَسٌ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا وَجَعَلَ يُنْشِدُ:

قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ

سَرَّاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ

حَلَلْتُ بِهِ وَتْرِي وَأَدْرَكْتُ ثَوْرَتِي

وَكُنْتُ إِلَى الْأَوْثَانِ أوّل راجع

فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا أُؤَمِّنُهُ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَمٍ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَعْبَةِ»

وَهَذَا السَّبَبُ يَخُصُّ عُمُومَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلُ، فَيَكُونُ خَاصًّا بِالْكَافِرِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَعْنَى مُتَعَمِّدًا أَيْ: مُسْتَحِلًّا، فهذا. يؤول أَيْضًا إِلَى الْكُفْرِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَامَّةً فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ شَرْطٍ كَسَائِرِ التَّوَعُّدَاتِ عَلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي، وَالْمَعْنَى: فَجَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ، أَيْ: هُوَ ذَلِكَ ومستحقه لعطم ذَنْبِهِ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَيَكُونُ الْخُلُودُ عِبَارَةً

ص: 27

فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي عَنِ الْمُكْثِ الطَّوِيلِ، لَا الْمُقْتَرِنِ بِالتَّأْبِيدِ، إِذْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ.

وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ بِعُمُومِهَا لِقَوْلِهِ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» وَاعْتَمَدُوا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتِ الشَّدِيدَةُ بَعْدَ الْهَيِّنَةِ، يُرِيدُ نَزَلَتْ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا بِعَدُوٍّ يَغْفِرْ مَا دُونَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ قَتَلَ عَمْدًا. وَقَدْ نَازَعُوا فِي دَلَالَةِ مَنِ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى الْعُمُومِ. وَقِيلَ: هُوَ لَفْظٌ يَقَعُ كَثِيرًا لِلْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «2» وَلَيْسَ مَنْ حَكَمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِكَافِرٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَنْ لَا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلَاحِهِ

يُهَدَّمْ وَمَنْ لَا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ

وَإِذَا سُلِّمَ الْعُمُومُ فَقَدْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ عَمْدًا أَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَتَلَ عَمْدًا، وَأَتَى السُّلْطَانَ أَوِ الْأَوْلِيَاءَ فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَقُتِلَ، فَهَذَا غَيْرُ مُتَّبَعٍ فِي الْآخِرَةِ. وَالْوَعِيدُ غَيْرُ صَائِرٍ إِلَيْهِ إِجْمَاعًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ

حَدِيثِ عُبَادَةَ: «أَنَّهُ مَنْ عُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ»

وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ. وَإِذَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْكَافِرِ، وَيَشْهَدُ لَهُ سَبَبُ النزول كما قدمناه.

وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِتَوْبَةِ الْقَاتِلِ، وَتَكَلَّمَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ هُنَا. فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: الشِّرْكُ وَالْقَتْلُ سَهْمَانِ مَنْ مَاتَ عَلَيْهِمَا خُلِّدَ، وَكَانَ يَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ نَسَخَتِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ إِذَا سَأَلَهُ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ قَالَ لَهُ: تَوْبَتُكَ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ قَالَ: لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ نَحْوٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ شِهَابٍ. وَعَنْ سُفْيَانَ كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلُوا قَالُوا: لَا تَوْبَةَ لَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، وَإِلَّا فَكَلُّ ذَنْبٍ مَمْحُوٌّ بِالتَّوْبَةِ، وَنَاهِيكَ بِمَحْوِ الشِّرْكِ دَلِيلًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ»

والعجب من قوم يقرأون هَذِهِ الْآيَةَ وَيَرَوْنَ مَا فِيهَا، وَيَسْمَعُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْقَطْعِيَّةَ، وَقَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ التَّوْبَةِ، ثُمَّ لَا تَدَعُهُمْ أَشْعِبِيَّتُهُمْ وَطَمَاعِيَّتُهُمُ الْفَارِغَةُ، وَاتِّبَاعُهُمْ هَوَاهُمْ، وَمَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِمْ مُنَاهُمْ أَنْ يَطْمَعُوا في العفو

(1) سورة النساء: 4/ 48.

(2)

سورة المائدة: 5/ 44.

ص: 28

عَنْ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1» ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْبَةَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ لِمَا عَسَى أَنْ يَقَعَ مِنْ نَوْعِ تَفْرِيطٍ فِيمَا يَجِبُ مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَفُّظِ فيه حسم لِلْأَطْمَاعِ وَأَيُّ حَسْمٍ، وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي. (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى طَرْدِ مَنْ لَمْ يَتُبْ مَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ؟ (قُلْتُ) : مَا أَبْيَنَ الدَّلِيلَ فِيهَا، وَهُوَ تُنَاوَلُ قَوْلِهِ:

وَمَنْ يَقْتُلْ، أَيُّ قَاتِلٍ كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ كَافِرٍ تَائِبٍ، أَوْ غير نائب، إِلَّا أَنَّ التَّائِبَ أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ. فَمَنِ ادَّعَى إِخْرَاجَ الْمُسْلِمِ غَيْرِ التَّائِبِ فَلْيَأْتِ بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ وَالتَّعَرُّضُ لِمُخَالِفِيهِ بِالسَّبِّ وَالتَّشْنِيعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا أَبْيَنَ الدليل فيها، فليس ببين، لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هَلْ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى خُلُودِ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكَبَائِرِ. وَالْآيَةُ فِي كَبِيرَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ: الْقَتْلُ لِمُؤْمِنٍ عَمْدًا، وَهِيَ كَوْنُهَا أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَبِيرَةُ الْمَخْصُوصَةُ حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ سَائِرِ الْكَبَائِرِ، مَخْصُوصَةٌ كَوْنُهَا أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ، فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَبْيَنَ الدَّلِيلَ مِنْهَا، غَيْرُ صَحِيحٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَا بِهِ يَكُونُ قَتْلُ الْعَمْدِ، وَفِي الْحُرِّ يَقْتُلُ عَبْدًا عَمْدًا مُؤْمِنًا، هَلْ يُقْتَصُّ مِنْهُ؟ وَذَلِكَ مُوَضَّحٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَانْتَصَبَ مُتَعَمِّدًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن فِي يَقْتُلْ، وَالْمَعْنَى: مُتَعَمِّدًا قَتْلَهُ. وَرَوَى عَبْدَانُ عَنِ الْكِسَائِيِّ: تَسْكِينَ تَاءِ مُتْعَمِّدًا، كَأَنَّهُ يَرَى تَوَالِيَ الْحَرَكَاتِ. وتضمنت هذه الآيات من الْبَلَاغَةِ وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ أَنْوَاعًا. التَّتْمِيمُ فِي: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا. وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ فِي: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَفِي: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا. وَالطِّبَاقُ فِي: أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهَ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ فِي: لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا، وَفِي: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَفِي: أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا، وَفِي: أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ويأمنوا، وفي: خطأ وخطأ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَفِي: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، وَفِي: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السلم، وفي: سبيلا وكلما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ الْآيَةَ. وَالِاعْتِرَاضُ فِي: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ. وَالتَّكْرَارُ فِي مَوَاضِعَ. وَالتَّقْسِيمُ فِي: وَمَنْ قَتَلَ إِلَى آخِرِهِ. وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ.

(1) سُورَةُ محمد: 47/ 24.

ص: 29