المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٤

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 93]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 94 الى 100]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 113]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 126]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 142 الى 159]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 160 الى 172]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 173 الى 176]

- ‌سورة المائدة

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 26]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 38]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 48]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 49 الى 50]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 75]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 96]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 114]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 115 الى 120]

- ‌سورة الانعام

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 32]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 52]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 53 الى 58]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 73]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 94]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 110]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 126]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 140]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 152]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 153 الى 165]

الفصل: ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11]

بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ السُّورَةِ مِنْ إِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَنَاكِحِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، أَيِ النِّعْمَةَ الْمَذْكُورَةَ ثَانِيًا وَهِيَ نِعْمَةُ الدِّينِ. وَقِيلَ: تَبْيِينُ الشَّرَائِعِ وَأَحْكَامِهَا، فَيَكُونُ مُؤَكِّدًا لِقَوْلِهِ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي «1» وَقِيلَ: بِغُفْرَانِ ذُنُوبِهِمْ.

وَفِي الْخَبَرِ: «تَمَامُ النِّعْمَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ» .

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ تَشْكُرُونَهُ عَلَى تَيْسِيرِ دِينِهِ وَتَطْهِيرِكُمْ وإتمام النعمة عليكم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11]

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالنِّعْمَةُ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَالْعِزَّةِ. وَالْمِيثَاقُ: هُوَ مَا أَخَذَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَكُلِّ مَوْطِنٍ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَا أُخِذَ عَلَى النَّسَمِ حِينَ اسْتُخْرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ.

وَقِيلَ: هُوَ الْمِيثَاقُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ حِينَ بَايَعَهُمْ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي حَالِ الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَقِيلَ: الْمِيثَاقُ هُوَ الدَّلَائِلُ الَّتِي نَصَبَهَا لِأَعْيُنِهِمْ وَرَكَّبَهَا فِي عُقُولِهِمْ، وَالْمُعْجِزَاتُ الَّتِي أَظْهَرَهَا فِي أَيَّامِهِمْ حَتَّى سَمِعُوا وَأَطَاعُوا. وَقِيلَ: الْمِيثَاقُ إِقْرَارُ كُلِّ مُؤْمِنٍ بِمَا ائْتُمِرَ بِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِالتَّوْرَاةِ وَبِكُلِّ مَا فِيهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهِ الْبِشَارَةُ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَلَزِمَهُمُ الإقرار به. ولا

(1) سورة المائدة: 5/ 3.

ص: 195

يَتَأَتَّى هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا أَنَّ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالْقَوْلَانِ بَعْدَهُ يَكُونُ الْمِيثَاقُ فِيهِمَا مَجَازٌ، وَالْأَجْوَدُ حَمْلُهُ عَلَى مِيثَاقِ الْبَيْعَةِ، إِذْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.

وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَتَنَاسَوْا نِعْمَتَهُ، وَلَا تَنْقُضُوا مِيثَاقَهُ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ شِبْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي النِّسَاءِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي النِّسَاءِ، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ بُدِئَ بِالْقِسْطِ، وَهُنَا أُخِّرَ. وَهَذَا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الْكَلَامِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ. وَيَلْزَمُ مَنْ كَانَ قَائِمًا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا بِالْقِسْطِ، وَمَنْ كَانَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا لِلَّهِ، إِلَّا أَنَّ الَّتِي فِي النِّسَاءِ جَاءَتْ فِي مَعْرِضِ الِاعْتِرَافِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَبُدِئَ فِيهَا بِالْقِسْطِ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ وَالسَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةِ نَفْسٍ وَلَا وَالِدٍ وَلَا قَرَابَةٍ، وَهُنَا جَاءَتْ فِي مَعْرِضِ تَرْكِ الْعَدَاوَاتِ وَالْإِحَنِ، فَبُدِئَ فِيهَا بِالْقِيَامِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَرْدَعُ لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِالشَّهَادَةِ بِالْعَدْلِ فَالَّتِي فِي مَعْرِضِ الْمَحَبَّةِ وَالْمُحَابَاةِ بُدِئَ فِيهِ بِمَا هُوَ آكَدُ وَهُوَ الْقِسْطُ، وَفِي مَعْرِضِ الْعَدَاوَةِ وَالشَّنَآنِ بُدِئَ فِيهَا بِالْقِيَامِ لِلَّهِ، فَنَاسَبَ كُلَّ مَعْرِضٍ بِمَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ. وَأَيْضًا فَتَقَدَّمَ هُنَاكَ حَدِيثُ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ وَقَوْلُهُ: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا «1» وَقَوْلُهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا «2» فَنَاسَبَ ذِكْرَ تَقْدِيمِ الْقِسْطِ، وَهُنَا تَأَخَّرَ ذِكْرُ الْعَدَاوَةِ فَنَاسَبَ أَنْ يُجَاوِرَهَا ذِكْرُ الْقِسْطِ، وَتَعْدِيَةُ يجرمنكم بعلى إِلَّا أَنْ يُضَمَّنَ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِهَا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.

اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أَيْ: الْعَدْلُ نَهَاهُمْ أَوَّلًا أَنْ تَحْمِلَهُمُ الضَّغَائِنُ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا تَأْكِيدًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَذَكَرَ لَهُمْ وَجْهَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، أَيْ: أَدْخَلُ فِي مُنَاسَبَتِهَا، أَوْ أَقْرَبُ لِكَوْنِهِ لُطْفًا فِيهَا. وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى مُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْعَدْلِ، إِذْ كَانَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْعَدْلِ مَعَ الْكَافِرِينَ.

وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ لَمَّا كَانَ الشَّنَآنُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ وَهُوَ الْحَامِلُ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَأَتَى بِصِفَةِ خَبِيرٌ وَمَعْنَاهَا عَلِيمٌ، وَلَكِنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَا لَطُفَ إِدْرَاكُهُ، فَنَاسَبَ هَذِهِ الصِّفَةَ أَنْ يُنَبَّهَ بِهَا عَلَى الصِّفَةِ الْقَلْبِيَّةِ.

(1) سورة النساء: 4/ 129.

(2)

سورة النساء: 4/ 1280.

ص: 196

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ ذَكَرَ وعده مَنِ اتَّبَعَ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنَبَ نواهيه، ووعد تتعدى لأنين، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْجَنَّةَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ تَفْسِيرَ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْغُفْرَانِ وَحُصُولِ الْأَجْرِ. وَإِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةً فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَالْكَلَامُ قَبْلَهَا تَامٌّ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، بَيَانًا لِلْوَعْدِ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ: قَدَّمَ لَهُمْ وَعْدًا فَقِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ وَعْدُهُ؟ فَقَالَ لَهُمْ: مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. أَوْ يَكُونُ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ وَعَدَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: مَغْفِرَةٌ، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ وَعَدَ مَجْرَى قَالَ: لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَوْلِ، أَوْ يَجْعَلُ وَعَدَ وَاقِعًا عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ مغفرة، كما رفع تَرَكْنَا عَلَى قَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ «1» كَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَدَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَإِذَا وَعَدَهُمْ مَنْ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَقَدْ وَعَدَهُمْ مَضْمُونَهُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَلَقَّوْنَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُسَرُّونَ وَيَسْتَرِيحُونَ إِلَيْهِ، وَتُهَوَّنُ عَلَيْهِمُ السَّكَرَاتُ وَالْأَهْوَالُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى التُّرَابِ انْتَهَى. وَهِيَ تَقَادِيرُ مُحْتَمَلَةٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُهَا. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لَمَّا ذَكَرَ مَا لِمَنْ آمَنَ، ذَكَرَ مَا لِمَنْ كَفَرَ. وَفِي الْمُؤْمِنِينَ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ فِعْلِيَّةً مُتَضَمِّنَةً الْوَعْدَ بِالْمَاضِي الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْوُقُوعِ، فَأَنْفُسُهُمْ مُتَشَوِّقَةٌ لِمَا وُعِدُوا بِهِ، متشوفة إِلَيْهِ مُبْتَهِجَةٌ طُولَ الْحَيَاةِ بِهَذَا الْوَعْدِ الصَّادِقِ. وَفِي الْكَافِرِينَ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً دَالَّةً عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فَهُمْ دَائِمُونَ فِي عَذَابٍ، إِذْ حَتَّمَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وَلَمْ يَأْتِ بِصُورَةِ الْوَعِيدِ، فَكَانَ يَكُونُ الرَّجَاءُ لَهُمْ فِي ذلك.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ «2» وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ،

وَقَالَ الْحَسَنُ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ رَجُلًا لِيَقْتُلَ الرسول صلى الله عليه وسلم، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: إِنَّهُ عليه السلام ذَهَبَ إِلَى يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةٍ فَهَمُّوا بِقَتْلِهِ.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهم يَسْتَقْرِضُهُمْ دِيَةَ مُسْلِمَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ خطأ حسبهما

(1) سورة الصافات: 37/ 79. [.....]

(2)

سورة المائدة: 5/ 2.

ص: 197

مُشْرِكَيْنِ، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ اجْلِسْ حَتَّى نُطْعِمَكَ وَنُقْرِضَكَ، فَأَجْلَسُوهُ فِي صُفَّةٍ وَهَمُّوا بِالْقَتْلِ بِهِ، وَعَمَدَ عَمْرُو بْنُ جَحَّاشٍ إِلَى رَحًى عَظِيمَةٍ يَطْرَحُهَا عَلَيْهِ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ يَدَهُ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَهُ فَخَرَجَ.

وَقِيلَ: نَزَلَ مَنْزِلًا فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ حفصة بْنِ قَيْسِ بْنِ غَيْلَانَ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِهَا، فَعَلَّقَ الرَّسُولُ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَسَلَّ سَيْفَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَاسْمُهُ غَوْرَثٌ، وَقِيلَ: دَعْثُورُ بْنُ الحرث، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللَّهُ قَالَهَا ثَلَاثًا» وَقَالَ:

أَتَخَافُنِي؟ قَالَ: لَا، فَشَامَ السَّيْفَ وَحُبِسَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا النَّاسَ فَاجْتَمَعُوا وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعَاقِبْهُ. قِيلَ: أَسْلَمَ. وَقِيلَ: ضَرَبَ بِرَأْسِهِ سَاقَ الشَّجَرَةِ حَتَّى مَاتَ.

وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ قَامُوا إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ يُصَلُّونَ مَعًا بِعُسْفَانَ فِي غَزْوَةِ ذِي أَنْمَارٍ، فَلَمَّا صَلَّوْا نَدِمُوا أَنْ لَا كَانُوا أَكَبُّوا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: إِنَّ لَهُمْ صَلَاةً بَعْدَهَا هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهَمُّوا أَنْ يُوقِعُوا بِهِمْ إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِصَلَاةِ الْخَوْفِ.

وَقَدْ طَوَّلُوا بِذِكْرِ أَسْبَابٍ أُخَرَ. وَمُلَخَّصُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ قُرَيْشًا، أَوْ بَنِي النَّضِيرِ، أَوْ قُرَيْظَةَ، أَوْ غَوْرَثًا، هَمُّوا بِالْقَتْلِ بِالرَّسُولِ، أَوِ الْمُشْرِكِينَ هَمُّوا بِالْقَتْلِ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَزَلَتْ فِي مَعْنَى الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ «1» قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَقِيبَ الْخَنْدَقِ حِينَ هَزَمَ اللَّهُ الْأَحْزَابَ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ «2» وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِنِعَمِهِ إِذْ أَرَادَ قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ لَمْ يُعَيِّنْهُمُ اللَّهُ بَلْ أَبْهَمَهُمْ أَنْ يَنَالُوا الْمُسْلِمِينَ بِشَرٍّ، فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ:

بَسَطَ إِلَيْهِ لِسَانَهُ أَيْ شَتَمَهُ، وَبَسَطَ إِلَيْهِ يَدَهُ مَدَّهَا لِيَبْطِشَ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ «3» وَيُقَالُ: فُلَانٌ بَسِيطُ الْبَاعِ، وَمَدَّ يَدَ الْبَاعِ، بِمَعْنًى. وَكَفُّ الْأَيْدِيَ مَنْعُهَا وَحَبْسُهَا. وَجَاءَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى أَمْرَ مُوَاجَهَةٍ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ اذْكُرُوا. وَجَاءَ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ أَمْرَ غَائِبٍ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ، وَإِشْعَارًا بِالْغَلَبَةِ، وَإِفَادَةً لِعُمُومِ وَصْفِ الْإِيمَانِ، أَيْ:

لِأَجْلِ تَصْدِيقِهِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يُؤْمَرُ بِالتَّوَكُّلِ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَلِابْتِدَاءِ الْآيَةِ بِمُؤْمِنِينَ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِصَاصِ وَخَتْمِهَا بِمُؤْمِنِينَ عَلَى جِهَةِ التقريب.

(1) سورة المائدة: 5/ 3.

(2)

سورة الأحزاب: 33/ 25.

(3)

سورة الممتحنة: 60/ 2.

ص: 198