المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 38] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٤

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 93]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 94 الى 100]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 113]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 126]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 142 الى 159]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 160 الى 172]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 173 الى 176]

- ‌سورة المائدة

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 26]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 38]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 48]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 49 الى 50]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 75]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 96]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 114]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 115 الى 120]

- ‌سورة الانعام

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 32]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 52]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 53 الى 58]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 73]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 94]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 110]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 126]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 140]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 152]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 153 الى 165]

الفصل: ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 38]

وَغَيْرُهُ: كَانُوا يَسِيرُونَ النَّهَارَ أَحْيَانًا وَاللَّيْلَ أَحْيَانًا، فَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَيُصْبِحُونَ حَيْثُ يُمْسُونَ، وَذَلِكَ فِي مِقْدَارِ سِتَّةِ فَرَاسِخَ، وَكَانُوا فِي سَيَّارَةٍ لَا قَرَارَ لَهُمْ انْتَهَى. وَذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ مُقَاتِلِينَ، وَذَكَرُوا أَنَّ حِكْمَةَ التِّيهِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» عُوقِبُوا بِالْقُعُودِ، فَصَارُوا فِي صُورَةِ الْقَاعِدِينَ وَهُمْ سَائِرُونَ، كُلَّمَا سَارُوا يَوْمًا أَمْسَوْا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصْبَحُوا فِيهِ. وَذَكَرُوا أَنَّ حِكْمَةَ كَوْنِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَاهُوا فِيهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً هِيَ كَوْنُهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، جُعِلَ عِقَابُ كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً فِي التِّيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَيُحْتَمَلُ أن يكون تِيهُهُمْ بِافْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ، وَقِلَّةِ اجْتِمَاعِ الرَّأْيِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى رَمَاهُمْ بِالِاخْتِلَافِ، وَعَلِمُوا أَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَفَرَّقَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْفَحْصِ، وَأَقَامُوا يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ وَاجْتِمَاعٍ حَتَّى كَمُلَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِخُرُوجِهِمْ، وَهَذَا تِيهٌ مُمْكِنٌ مُحْتَمَلٌ عَلَى عُرْفِ الْبَشَرِ. وَالْآخَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ إِنَّمَا هُوَ خَرْقُ عَادَةٍ وَعَجَبٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ مِنَ الله تَعَالَى لِمُوسَى عليه السلام.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَدِمَ مُوسَى عَلَى دُعَائِهِ عَلَى قَوْمِهِ وَحَزِنَ عَلَيْهِمْ

انْتَهَى. فَهَذِهِ مَسْلَاةٌ لِمُوسَى عليه السلام عَنْ أَنْ يَحْزَنَ عَلَى مَا أَصَابَ قَوْمَهُ، وَعَلَّلَ كَوْنَهُ لَا يَحْزَنُ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ فَاسِقُونَ بُهُوتٌ أَحِقَّاءُ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ مُعَاصِرُوهُ أَيْ: هَذِهِ فِعَالُ أَسْلَافِهِمْ فَلَا تَحْزَنْ أَنْتَ بِسَبَبِ أَفْعَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ مَعَكَ وَرَدِّهِمْ عَلَيْكَ فَإِنَّهَا سَجِيَّةٌ خَبِيثَةٌ مَوْرُوثَةٌ عندهم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 38]

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36)

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)

(1) سورة المائدة: 5/ 24.

ص: 224

الْغُرَابُ: طَائِرٌ مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَغْرِبَةٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى غِرْبَانٍ.

وَغُرَابٌ اسْمُ جِنْسٍ وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً مِنْ شَيْءٍ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهَا مَا يُمْكِنُ اشْتِقَاقُهُ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ جِدًّا، بَلِ الْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُشْتَقَّةٍ نَحْوَ: تُرَابٌ، وَحَجَرٌ، وَمَاءٌ. وَيُمْكِنُ غُرَابٌ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ الِاغْتِرَابِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَتَشَاءَمُ بِهِ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْفِرَاقِ. وَقَالَ حَرَّانُ الْعُودِ:

وَأَمَّا الْغُرَابُ فَالْغَرِيبُ الْمُطَوَّحُ. وَقَالَ الشَّنْفَرَى:

ص: 225

غُرَابٌ لِاغْتِرَابٍ مِنَ النَّوَى

وبالباذين مِنْ حَبِيبٍ تُعَاشِرُهُ

الْبَحْثُ فِي الْأَرْضِ نَبْشُ التُّرَابِ وَإِثَارَتُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ بَرَاءَةُ بَحُوثٌ. وَفِي الْمَثَلِ: لَا تَكُنْ كَالْبَاحِثِ عَنِ الشَّفْرَةِ. السَّوْأَةُ: الْعَوْرَةُ. الْعَجْزُ: عَدَمُ الْإِطَاقَةِ، وَمَاضِيهِ عَلَى فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَاشِيَةُ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ فِيهِ: فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. النَّدَمُ: التَّحَسُّرُ يُقَالُ مِنْهُ: نَدِمَ يَنْدَمُ. الصَّلْبُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ إِصَابَةُ صُلْبِهِ بِجِذْعٍ، أَوْ حَائِطٍ كَمَا تَقُولُ: عَانَهُ أي أصاب عينه، وكيده أصاب كيده. الْخِلَافُ: الْمُخَالَفَةُ، وَيُقَالُ: فَرَسٌ بِهِ شِكَالٌ مِنْ خِلَافٍ إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ. نَفَاهُ: طَرَدَهُ فَانْتَفَى، وَقَدْ لَا يَتَعَدَّى نَفَى. قَالَ القطامي: فأصبح جاراكم قَتِيلًا وَنَافِيًا. أَيْ مَنْفِيًّا.

الْوَسِيلَةُ الْوَاسِلَةُ مَا يُتَقَرَّبُ مِنْهُ. يُقَالُ: وَسَلَهُ وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ، وَاسْتُعِيرَتِ الْوَسِيلَةُ لِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ. وَقَالَ لَبِيدٌ:

أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ

أَلَا كُلُّ ذِي لُبٍّ إِلَى اللَّهِ وَاسِلُ

وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ:

إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا

وَعَادَ التَّصَابِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ

السَّارِقُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَرَقَ يَسْرِقُ سَرَقًا وَالسَّرَقُ وَالسَّرِقَةُ الِاسْمُ كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَرُبَّمَا قَالُوا سَرِقَةَ مَالًا. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ السَّارِقُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْ جَاءَ مُسْتَتِرًا إِلَى حِرْزٍ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تَمَرُّدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعِصْيَانَهُمْ، أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي النُّهُوضِ لِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ، ذَكَرَ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ وَعِصْيَانَ قَابِيلَ أَمْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُمُ اقْتَفَوْا فِي الْعِصْيَانِ أَوَّلَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُمُ انْتَهَوْا فِي خَوَرِ الطَّبِيعَةِ وَهَلَعِ النُّفُوسِ وَالْجُبْنِ وَالْفَزَعِ إِلَى غَايَةٍ بِحَيْثُ قَالُوا لِنَبِيِّهِمُ الَّذِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ خَوَارِقُ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لَهُمُ الْأَرْضَ المقدسة: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» وَانْتَهَى قَابِيلُ إِلَى طَرَفِ نَقِيضٍ مِنْهُمْ مَنِ الْجَسَارَةِ وَالْعُتُوِّ وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِأَنْ أَقْدَمَ عَلَى أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَكْبَرِ الْمَعَاصِي بَعْدَ الشِّرْكِ وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا، بحيث كان

(1) سورة المائدة: 5/ 24.

ص: 226

أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، وَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَاشْتَبَهَتِ الْقِصَّتَانِ مِنْ حَيْثُ الْجُبْنُ عَنِ الْقَتْلِ وَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْصِيَةُ بِهِمَا. وَأَيْضًا فَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ أَوَائِلَ الْآيَاتِ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ «1» وَبَعْدَهُ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ «2» وَقَوْلُهُ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «3» ثُمَّ قِصَّةُ مُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ عَدَمَ اتِّبَاعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا سَبَبُهُ الْحَسَدُ هَذَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ.

وَقِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ انْطَوَتْ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ بَسْطِ الْيَدِ، وَمِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبِ، وَمِنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْبِ، وَدَعَوَاهُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ، وَمِنَ الْقَتْلِ، وَمِنَ الْحَسَدِ.

وَمَعْنَى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ: أَيِ اقْرَأْ وَاسْرُدْ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعُودُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ هُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ أَوَّلًا، وَالْمُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ بِسَبَبِ هَمِّهِمْ بِبَسْطِ أَيْدِيهِمْ إِلَى الرَّسُولِ. وَالْمُؤْمِنِينَ فَأُعْلِمُوا بِمَا هُوَ فِي غَامِضِ كُتُبِهِمُ الْأُوَّلِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لِلرَّسُولِ بِهَا إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، لِتَقُومَ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، إِذْ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. وَالنَّبَأُ: هُوَ الْخَبَرُ. وَابْنَا آدَمَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقتادة، وغيرهما: هُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ، وَهُمَا ابْنَاهُ لِصُلْبِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُونَا وَلَدَيْهِ لِصُلْبِهِ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قَالَ: لِأَنَّ الْقُرْبَانَ إِنَّمَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلُ، وَوَهِمَ الْحَسَنُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ عَلَيْهِ كَيْفَ يُجْهَلُ الدَّفْنُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يُقْتَدَى فِيهِ بِالْغُرَابِ؟ وَأَيْضًا

فَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ عَنْهُ: «إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»

وَقَدْ كَانَ الْقَتْلُ قَبْلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: بِالْحَقِّ، أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي: وَاتْلُ أَيْ: مَصْحُوبًا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الصِّدْقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: تِلَاوَةً مُلْتَبِسَةً بِالْحَقِّ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ نَبَأَ أَيْ حَدِيثَهُمَا وَقِصَّتَهُمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ النَّبَأِ أَيِ: اتْلُ عَلَيْهِمُ النَّبَأَ نَبَأَ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّ إِذْ لَا يُضَافُ إِلَيْهَا إلا الزمان، ونبأ لَيْسَ بِزَمَانٍ.

وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ تَقْرِيبِ هَذَا الْقُرْبَانِ وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ تَلِدُ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَكَانَ آدَمُ يُزَوِّجُ ذَكَرَ هَذَا الْبَطْنِ أُنْثَى ذَلِكَ الْبَطْنِ، وَأُنْثَى هَذَا ذَكَرَ

(1) سورة المائدة: 5/ 11. [.....]

(2)

سورة المائدة: 5/ 15.

(3)

سورة المائدة: 5/ 18.

ص: 227

ذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لِلذَّكَرِ نكاح توءمته، فَوُلِدَ مَعَ قَابِيلَ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ اسْمُهَا إِقْلِيمِيَا، وَوُلِدَ مَعَ هَابِيلَ أُخْتٌ دُونَ تِلْكَ اسْمُهَا لِبُوذَا، فَأَبَى قَابِيلُ إِلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ توءمته لا توءمة هَابِيلَ وَأَنْ يُخَالِفَ سُنَّةَ النِّكَاحِ إِيثَارًا لِجَمَالِهَا، وَنَازَعَ قَابِيلُ هَابِيلَ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ: أَمَرَهُمَا آدَمُ بِتَقْرِيبِ الْقُرْبَانِ. وَقِيلَ: تَقَرَّبَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمَا، إِذْ كَانَ آدَمُ غَائِبًا تَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ لِزِيَارَةِ الْبَيْتِ بِإِذْنِ رَبِّهِ. وَالْقُرْبَانُ الَّذِي قَرَّبَاهُ: هُوَ زَرْعٌ لِقَابِيلَ، وَكَانَ صاحب زرع، وكبش هابل وَكَانَ صَاحِبَ غَنَمٍ، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ هَابِيلُ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وَهُوَ قَابِيلُ. أَيْ: فَتُقُبِّلَ الْقُرْبَانُ، وَكَانَتْ عَلَامَةُ التَّقَبُّلِ أَكْلَ النَّارِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ الْقُرْبَانَ الْمُتَقَبَّلَ، وَتَرْكَ غَيْرِ الْمُتَقَبَّلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ النَّارُ تَأْكُلُ الْمَرْدُودَ، وَتَرْفَعُ الْمَقْبُولَ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ:

قَرَّبَ صَدَقَةً وَتَقَرَّبَ بِهَا، لِأَنَّ تَقَرَّبَ مُطَاوِعُ قَرَّبَ انْتَهَى. وَلَيْسَ تَقَرَّبَ بِصَدَقَةٍ مُطَاوِعُ قَرَّبَ صَدَقَةً، لِاتِّحَادِ فَاعِلِ الْفِعْلَيْنِ، وَالْمُطَاوَعَةُ يَخْتَلِفُ فِيهَا الْفَاعِلُ، فَيَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا فِعْلٌ، وَمِنَ الْآخَرِ انْفِعَالٌ نَحْوَ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَفَلَقْتُهُ فَانْفَلَقَ، وَلَيْسَ قَرَّبْتُ صَدَقَةً وَتَقَرَّبْتُ بِهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ فَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ.

قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ هَذَا وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَقَدْ أُبْرِزَ هَذَا الْخَبَرُ مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ أَيْ: لَأَقْتُلَنَّكَ حَسَدًا عَلَى تَقَبُّلِ قُرْبَانِكَ، وَعَلَى فَوْزِكَ بِاسْتِحْقَاقِ الْجَمِيلَةِ أُخْتِي.

وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَأَقْتُلَنْكَ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ.

قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَبْلَهُ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لِمَ تَقْتُلُنِي وَأَنَا لَمْ أَجْنِ شَيْئًا وَلَا ذَنْبَ لِي فِي قَبُولِ اللَّهِ قُرْبَانِي؟ أَمَا إِنِّي أَتَّقِيهِ؟

وكتب علي:

لأحب الخلق إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ

، وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فَقَالَ:(فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، جَوَابًا لِقَوْلِهِ: لَأَقْتُلَنَّكَ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ الْحَسَدُ لِأَخِيهِ عَلَى تَقَبُّلِ قُرْبَانِهِ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى تَوَعُّدِهِ بِالْقَتْلِ قَالَ لَهُ: إِنَّمَا أُتِيتَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ لِانْسِلَاخِهَا مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى، لَا مِنْ قِبَلِي، فَلِمَ تَقْتُلُنِي؟ وَمَا لَكَ لَا تُعَاقِبُ نَفْسَكَ وَلَا تَحْمِلُهَا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ فِي الْقَبُولِ، فَأَجَابَهُ بِكَلَامٍ حَكِيمٍ مُخْتَصَرٍ جَامِعٍ لِمَعَانٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ طَاعَةً إِلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ مُتَّقٍ، فَمَا أَنْعَاهُ عَلَى أَكْثَرِ الْعَامِلِينَ أَعْمَالَهُمْ. وَعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ بَكَى حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ فَقَدْ كُنْتَ وَكُنْتَ: قَالَ: إِنِّي أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1» انْتَهَى

(1) سورة المائدة: 5/ 27.

ص: 228

كَلَامُهُ. وَلَمْ يَخْلُ مِنْ دَسِيسَةِ الِاعْتِزَالِ عَلَى عَادَتِهِ، يَحْتَاجُ الْكَلَامُ فِي فَهْمِهِ إِلَى هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ، وَالَّذِي قَدَّرْنَاهُ أَوَّلًا كَافٍ وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْنَى لَأَقْتُلَنَّكَ حَسَدًا عَلَى تَقَبُّلِ قُرْبَانِكَ، فَعَرَّضَ لَهُ بِأَنَّ سَبَبَ قَبُولِ الْقُرْبَانِ هُوَ التَّقْوَى وَلَيْسَ مُتَّقِيًا، وَإِنَّمَا عَرَّضَ لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِسُنَّةِ النِّكَاحِ الَّتِي قَرَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَصَدَ خِلَافَهَا وَنَازَعَ، ثُمَّ كَانَتْ نَتِيجَةَ ذَلِكَ أَنْ بَرَزَتْ فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أنها اتقاه الشِّرْكِ، فَمَنِ اتَّقَاهُ وَهُوَ مُوَحِّدٌ فَأَعْمَالُهُ الَّتِي تَصْدُقُ فِيهَا نِيَّتُهُ مَقْبُولَةٌ. وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ: قُرْبَانُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّلَاةُ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْمَقْتُولِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِلرَّسُولِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ كَلَامِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ فِي قَالَ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ.

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

الْمَعْنَى مَا أَنَا بِمُنْتَصِرٍ لِنَفْسِي. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى مَا كُنْتُ لِأَبْتَدِئَكَ بِالْقَتْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: لَمْ يَكُنِ الدَّفْعُ عَنِ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَائِزًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: كَانَ هَابِيلُ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قَابِيلَ، وَلَكِنَّهُ تَحَرَّجَ مِنَ الْقَتْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَيْسَ بِكَافِرٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَاصٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمَا تَحَرَّجَ هَابِيلُ مِنْ قَتْلِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَسْلَمَ لَهُ كَمَا اسْتَسْلَمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَرَكَ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ لَهُ مَخِيلَةُ انْقِضَاءِ عُمْرِهِ فَبَنَى عَلَيْهَا، أَوْ بِإِخْبَارِ أَبِيهِ، وَكَمَا جَرَى لِعُثْمَانَ إِذْ بَشَّرَهُ الرَّسُولُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ، وَرَآهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قتل فِي النَّوْمِ وَهُوَ يَقُولُ:«إِنَّكَ تُفْطِرُ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا» فَتَرَكَ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى قُتِلَ،

وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلْقِ عَلَى وَجْهِكَ وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ» .

وَقِيلَ: إِنَّ هَابِيلَ لَاحَتْ لَهُ أَمَارَاتُ غَلَبَةِ الظَّنِّ مِنْ قَابِيلَ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ لَهُ هَذَا الْكَلَامَ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ لِيَزْدَجِرَ عَنْهُ وَتَقْبِيحًا لِهَذَا الْفِعْلِ، وَلِهَذَا يُرْوَى أَنَّ قَابِيلَ صَبَرَ حَتَّى نَامَ هَابِيلُ فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ فَقَتَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المقتول علم عزل الْقَاتِلِ عَلَى قَتْلِهِ، ثُمَّ تَرَكَ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ جَاءَ الشَّرْطُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَالْجَزَاءُ بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَئِنْ بَسَطْتَ مَا أَنَا بِبَاسِطٍ؟ (قُلْتُ) : لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا يَكْتَسِبُ بِهِ هَذَا الْوَصْفَ الشَّنِيعَ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِالْبَاءِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ انْتَهَى. وَأَوْرَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ وَلَمْ يَنْسُبْهُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ انْتِقَادٌ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ:

مَا أَنَا بِبَاسِطٍ، لَيْسَ جَزَاءً بَلْ هُوَ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ اللَّامِ فِي لَئِنْ الْمُؤْذِنَةِ بِالْقَسَمِ

ص: 229

وَالْمُوَطِّئَةِ لِلْجَوَابِ، لَا لِلشَّرْطِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَكَانَ بِالْفَاءِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ جواب الشرط منفيا بما فلابد مِنَ الْفَاءِ كَقَوْلِهِ:

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ «1» مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: وَلَوْ كَانَ أَيْضًا جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ خَرْمُ الْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَسَمُ عَلَى الشَّرْطِ فَالْجَوَابُ لِلْقَسَمِ لَا لِلشَّرْطِ. وَقَدْ خَالَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَلَامَهُ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ «2» . فَقَالَ: مَا تَبِعُوا جَوَابَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَتَكَلَّمْنَا مَعَهُ هُنَاكَ فَيُنْظَرُ.

إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ هَذَا ذِكْرٌ لِعِلَّةِ الِامْتِنَاعِ فِي بَسْطِ يَدِهِ إِلَيْهِ لِلْقَتْلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَخَافُ اللَّهَ.

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ هُنَا مَجَازٌ لَا مَحَبَّةُ إِيثَارِ شَهْوَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ تَخْيِيرٌ فِي شَرَّيْنِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي الشَّرِّ خِيَارٌ، وَالْمَعْنَى: إِنْ قَتَلْتَنِي وَسَبَقَ بِذَلِكَ قَدَرٌ، فَاخْتِيَارِي أَنْ أَكُونَ مَظْلُومًا يَنْتَصِرُ اللَّهُ لِي فِي الْآخِرَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ هُنَا حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، لَا يُقَالُ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُرِيدَ شَقَاوَةَ أَخِيهِ وَتَعْذِيبَهُ بِالنَّارِ، لِأَنَّ جَزَاءَ الظَّالِمِ حَسَنٌ أَنْ يُرَادَ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُرِيدَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَازَ أَنْ يُرِيدَهُ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا مَا هُوَ حَسَنٌ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّمَا وَقَعَتِ الْإِرَادَةُ بَعْدَ مَا بَسَطَ يَدَهُ لِلْقَتْلِ وَهُوَ مُسْتَقْبَحٌ، فَصَارَ بِذَلِكَ كَافِرًا لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَالْكَافِرُ يُرِيدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الشَّرُّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ:

لَأَقْتُلَنَّكَ اسْتَوْجَبَ النَّارَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُرِيدَ مَا أَرَادَ اللَّهُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُمَا آثِمَانِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عباس، والحسن وقتادة: تَحْمِلُ إِثْمَ قَتْلِي وَإِثْمَكَ الَّذِي كَانَ مِنْكَ قَبْلَ قَتْلِي، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْمِكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُكَ، وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَا قَبْلَهُ. وَقِيلَ:

الْمَعْنَى بِإِثْمِي أَنْ لَوْ قَاتَلْتُكَ وَقَتَلْتُكَ، وَإِثْمِ نَفْسِكَ فِي قِتَالِي وَقَتْلِي، وَهَذَا هُوَ الْإِثْمُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» . قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»

فَكَأَنَّ هَابِيلَ أَرَادَ أَنِّي لَسْتُ بِحَرِيصٍ عَلَى قَتْلِكَ، فَالْإِثْمُ الَّذِي كَانَ يَلْحَقُنِي لَوْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِكَ أُرِيدُ أَنْ تَحْمِلَهُ أَنْتَ مَعَ إِثْمِكَ فِي قَتْلِي.

(1) سورة يونس: 10/ 15.

(2)

سورة البقرة: 2/ 145.

ص: 230

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَحْتَمِلُ إِثْمَ قَتْلِهِ لَهُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» ؟ (قُلْتُ) : الْمُرَادُ بِمِثْلِ إِثْمِي عَلَى الِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ كَمَا تَقُولُ: قَرَأْتُ قِرَاءَةَ فُلَانٍ، وَكَتَبْتُ كِتَابَتَهُ، تُرِيدُ الْمِثْلَ وَهُوَ اتِّسَاعٌ فَاشٍ مُسْتَفِيضٌ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ غَيْرُهُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَحِينَ كَفَّ هَابِيلُ عَنْ قَتْلِ أَخِيهِ وَاسْتَسْلَمَ وَتَحَرَّجَ عَمَّا كَانَ مَحْظُورًا فِي شَرِيعَتِهِ مِنَ الدَّفْعِ، فَأَيْنَ الْإِثْمُ حَتَّى يَتَحَمَّلَ أَخُوهُ مِثْلَهُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْإِثْمَانِ؟ (قُلْتُ) : هُوَ مُقَدَّرٌ فَهُوَ يَتَحَمَّلُ مِثْلَ الْإِثْمِ الْمُقَدَّرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِمِثْلِ إِثْمِي لَوْ بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدِي انْتَهَى. وَقِيلَ: بِإِثْمِي، الَّذِي يَخْتَصُّ بِي فِيمَا فَرَطَ لِي، أَيْ: يُؤْخَذُ مِنْ سَيِّئَاتِي فَتُطْرَحُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ ظُلْمِكَ لِي، وَتَبُوءُ بِإِثْمِكَ فِي قَتْلِي. وَيُعَضِّدُ هَذَا

قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِالظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ فَيُزَادُ فِي حَسَنَاتِ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِفَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَتُطْرَحُ عَلَيْهِ»

وَتَلَخَّصَ مِنْ قَوْلِهِ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِإِثْمِي اللَّاحِقِ لِي، أَيْ: بِمِثْلِ إِثْمِي اللَّاحِقِ لِي عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ قَتْلِي لَكَ، وَإِثْمِكَ اللَّاحِقِ لَكَ بسبب قتلي. الثاني: بِإِثْمِي اللَّاحِقِ لَكَ بِسَبَبِ قَتْلِي، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ، وَإِثْمِكَ اللَّاحِقِ لَكَ قَبْلَ قَتْلِي. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِرَادَةِ الْمَجَازِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ، التَّقْدِيرُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ لَا تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ كَقَوْلِهِ: رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «2» أَيْ أَنْ لَا تَمِيدَ، وأن تَضِلُّوا أَيْ: لَا تَضِلُّوا، فَحَذَفَ لَا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِرَارٌ مِنْ إِثْبَاتِ إِرَادَةِ الشَّرِّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، وَضَعَّفَ القرطبي هذا الوجه

بقول صلى الله عليه وسلم: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»

فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ إِثْمَ الْقَاتِلِ حَاصِلٌ انْتَهَى. وَلَا يُضَعَّفُ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، لِأَنَّ قَائِلَ هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ إِرَادَتِهِ الْقَتْلَ أَنْ لَا يَقَعَ الْقَتْلُ، بَلْ قَدْ لَا يُرِيدُهُ وَيَقَعُ. وَنَصَرَ تَأْوِيلَ النَّفْيِ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَبِيحٌ، وَإِرَادَةُ الْقَبِيحِ قَبِيحَةٌ، وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَقْبَحُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ أَنَّى أُرِيدُ، أَيْ كَيْفَ أُرِيدُ؟ وَمَعْنَاهُ اسْتِبْعَادُ الْإِرَادَةِ وَلِهَذَا قَالَ، بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا استفهام عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ، أَيْ: أَنَّى، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِرَادَةَ الْقَتْلِ مَعْصِيَةٌ حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ الْإِرَادَةِ، وَجَوَازُ وُرُودِهَا هُنَا، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، عَلَى أَنَّ قَابِيلَ كَانَ كَافِرًا لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِنَّمَا وَرَدَ في

(1) سورة الأنعام: 6/ 164.

(2)

سورة النحل: 16/ 15.

ص: 231

الْقُرْآنِ فِي الْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَقْوَى هَذَا الِاسْتِدْلَالُ لِأَنَّهُ يُكَنَّى عَنِ الْمُقَامِ فِي النَّارِ مُدَّةً بِالصُّحْبَةِ.

وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أَيْ وَكَيْنُونَتُكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ جَزَاؤُكَ، لِأَنَّكَ ظَالِمٌ فِي قَتْلِي. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: الظَّالِمِينَ، عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقَتْلِ، وَأَنَّهُ قَتْلٌ بِظُلْمٍ لَا بِحَقٍّ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ هَابِيلَ نَبَّهَهُ عَلَى الْعِلَّةِ لِيَرْتَدِعَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا حِكَايَةُ كَلَامِ هَابِيلَ، بَلْ إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَمُجَاهِدٌ: شَجَّعَتْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: زَيَّنَتْ لَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشِ: رَخَّصَتْ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مِنَ الطَّوْعِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: طَاعَ لَهُ كَذَا أَيْ أَتَاهُ طَوْعًا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَابَعَتْهُ وَانْقَادَتْ لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسَّعَتْهُ لَهُ وَيَسَّرَتْهُ، مِنْ طَاعَ لَهُ الْمَرْتَعُ إِذَا اتَّسَعَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ فِعْلٌ مِنَ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ، كَأَنَّ الْقَتْلَ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مُتَعَاصِيًا. وَأَصْلُهُ:

طَاعَ لَهُ قَتْلُ أَخِيهِ أَيِ انْقَادَ لَهُ وَسَهُلَ، ثُمَّ عُدِّيَ بِالتَّضْعِيفِ فَصَارَ الْفَاعِلُ مَفْعُولًا وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَتْلَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَصْعَبٌ عَظِيمٌ عَلَى النُّفُوسِ، فَرَدَّتْهُ هَذِهِ النَّفْسُ اللَّحُوحُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ طَائِعًا مُنْقَادًا حَتَّى أَوْقَعَهُ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْجَرَّاحُ، وَالْحَسَنُ بْنُ عِمْرَانَ، وَأَبُو وَاقِدٍ: فَطَاوَعَتْهُ، فَيَكُونُ فَاعَلَ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ نَحْوَ: ضَارَبْتُ زَيْدًا، كَأَنَّ الْقَتْلَ يَدْعُوهُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ إِصَابَةَ قَابِيلَ، أَوْ كَأَنَّ النَّفْسَ تَأْبَى ذَلِكَ وَيَصْعُبُ عَلَيْهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ أَنْ يُطِيعَهُ الْآخَرُ، إِلَى أَنْ تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَطَاوَعَتِ النَّفْسُ الْقَتْلَ فَوَافَقَتْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا جَاءَ مِنْ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، وَأَنْ يُرَادَ أَنْ قَتَلَ أَخِيهِ، كَأَنَّهُ دَعَا نَفْسَهُ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ فطاوعته ولم تمتنع، وله لِزِيَادَةِ الرَّبْطِ كَقَوْلِكَ: حَفِظْتُ لِزَيْدٍ مَالَهُ انْتَهَى. فَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ: ضَاعَفْتُ وَضَعِفْتُ مِثْلَ: نَاعَمْتُ وَنَعِمْتُ.

وَقَالَ: فَجَاءُوا بِهِ عَلَى مِثَالِ عَاقَبْتُهُ، وَقَالَ: وَقَدْ يَجِيءُ فَاعَلْتُ لَا يُرِيدُ بِهَا عَمَلَ اثْنَيْنِ، وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَيْهِ الْفِعْلَ كَمَا بَنَوْهُ عَلَى أَفْعَلْتُ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً مِنْهَا عَافَاهُ اللَّهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، أَغْفَلَهُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي التَّصْرِيفِ: كَابْنِ عُصْفُورٍ، وَابْنِ مَالِكٍ، وَنَاهِيكَ بِهِمَا جَمْعًا وَاطِّلَاعًا، فَلَمْ يذكرا أَنَّ فَاعَلَ يَجِيءُ بِمَعْنَى فَعَلَ، وَلَا فَعَلَ بِمَعْنَى فاعل. وقوله: وله لِزِيَادَةِ الرَّبْطِ، يَعْنِي: فِي قَوْلِهِ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَوْ جَاءَ

ص: 232

فَطَوَّعَتْ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ لَكَانَ كَلَامًا تَامًّا جَارِيًا عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ زِيَادَةِ الرَّبْطِ لِلْكَلَامِ، إِذِ الرَّبْطُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ. كَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ: حَفِظْتُ مَالَ زَيْدٍ كَانَ كَلَامًا تَامًّا فَقَتَلَهُ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ قَتَلَهُ وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ كَيْفِيَّتِهِ، وَمَكَانِ قَتْلِهِ، وَعُمْرِهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ أَصْبَحَ: بِمَعْنَى صَارَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أُقِيمَ بَعْضُ الزَّمَانِ مَقَامَ كُلِّهِ، وَخُصَّ الصَّبَاحُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَدْءُ النَّهَارِ وَالِانْبِعَاثِ إِلَى الْأُمُورِ وَمَظِنَّةُ النَّشَاطِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّبِيعِ: أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا. وَقَوْلُ سَعْدٍ: ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو سَعْدٍ تُعَزِّزُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَعْلِيلِ كَوْنِ أَصْبَحَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ، وَأُقِيمَ بَعْضُ الزَّمَانِ مَقَامَ كُلِّهِ بِكَوْنِ الصَّبَاحِ خُصَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَدْءُ النَّهَارِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَضْحَى وَظَلَّ وَأَمْسَى وَبَاتَ بِمَعْنَى صَارَ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ بَدْءَ النَّهَارِ؟ فَكَمَا جَرَتْ هَذِهِ مَجْرَى صَارَ كَذَلِكَ أَصْبَحَ لَا لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَسِرَ فِي الدُّنْيَا بِإِسْخَاطِ وَالِدَيْهِ وَبَقَائِهِ بِغَيْرِ أَخٍ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِسْخَاطِ رَبِّهِ وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ الْخَاسِرِينَ لِلْحَسَنَاتِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: مِنَ الْخَاسِرِينَ أَنْفُسَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ إِيَّاهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خُسْرَانُهُ أَنْ عُلِّقَتْ إِحْدَى رِجْلَيِ الْقَاتِلِ لِسَاقِهَا إِلَى فَخْذِهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُهُ إِلَى الشَّمْسِ حَيْثُ مَا دَارَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّيْفِ حَظِيرَةٌ مِنْ نَارٍ وَعَلَيْهِ فِي الشِّتَاءِ حَظِيرَةٌ مِنْ ثَلْجٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:

وَلَعَلَّ هَذَا يَكُونُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَاصٍ لَا كَافِرٌ، فَيَكُونُ خُسْرَانَهُ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ:

مِنَ الْخَاسِرِينَ بِاسْوِدَادِ وَجْهِهِ، وَكُفْرِهِ بِاسْتِحْلَالِهِ مَا حُرِّمَ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ. وَثَبَتَ

فِي الْحَدِيثِ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» .

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا لَنَجِدُ ابْنَ آدَمَ الْقَاتِلَ يُقَاسِمُ أَهْلَ النَّارِ قِسْمَةً صَحِيحَةً فِي الْعَذَابِ عَلَيْهِ شِطْرُ عَذَابِهِمْ.

فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ

رُوِيَ أَنَّهُ أَوَّلُ قَتِيلٍ قُتِلَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَمَّا قَتَلَهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِهِ، فَخَافَ السِّبَاعَ فَحَمَلَهُ فِي جِرَابٍ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً حَتَّى أَرْوَحَ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ السِّبَاعُ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَحَفَرَ لَهُ بِمِنْقَارِهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْحُفْرَةِ فَقَالَ: يَا وَيْلَتَى أَعْجَزْتُ.

وَقِيلَ: حَمَلَهُ مِائَةَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: طَلَبَ فِي ثَانِي يَوْمٍ إِخْفَاءَ قَتْلِ أَخِيهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ. وَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا إِلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ، فَجَعَلَ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ وَيُلْقِي التُّرَابَ

ص: 233

عَلَى الْغُرَابِ الْمَيِّتِ. وَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا وَاحِدًا فَجَعَلَ يَبْحَثُ وَيُلْقِي التُّرَابَ عَلَى هَابِيلَ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَيِّتٍ مَاتَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ،

وَكَذَلِكَ جَهِلَ سُنَّةَ الْمُوَارَاةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غُرَابٌ بَعَثَهُ اللَّهُ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَ قَابِيلَ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ هَابِيلَ، فَاسْتَفَادَ قَابِيلُ بِبَحْثِهِ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَبْحَثَ هُوَ فِي الْأَرْضِ فَيَسْتُرَ فِيهِ أَخَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالسَّوْءَةِ هُنَا قِيلَ: الْعَوْرَةُ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مُوَارَاةُ جَمِيعِ الْجَسَدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، وَلِأَنَّ سَتْرَهَا أَوْكَدُ. وَقِيلَ: جَمِيعُ جِيفَتِهِ. قِيلَ: فَإِنَّ الْمَيِّتَ كُلَّهُ عَوْرَةٌ، وَلِذَلِكَ كُفِّنَ بِالْأَكْفَانِ. قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يراد بِالسَّوْءَةِ هَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي تَسُوءُ النَّاظِرَ بِمَجْمُوعِهَا، وَأُضِيفَتْ إِلَى الْمَقْتُولِ مِنْ حَيْثُ نَزَلَتْ بِهِ النَّازِلَةُ، لَا عَلَى جِهَةِ الْغَضِّ مِنْهُ، بل الغض لا حق لِلْقَاتِلِ وَهُوَ الَّذِي أَتَى بِالسَّوْءَةِ انْتَهَى.

وَالسَّوْءَةُ الْفَضِيحَةُ لِقُبْحِهَا قَالَ الشَّاعِرُ:

يَا لقومي للسوءة السواء أَيْ لِلْفَضِيحَةِ الْعَظِيمَةِ. قَالُوا: وَيَحْتَمِلُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ قَتَلَ غُرَابٌ غُرَابًا أَوْ كَانَ مَيِّتًا، أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَخِيهِ عَائِدًا عَلَى الْغُرَابِ، أَيْ: لِيُرِيَ قَابِيلَ كَيْفَ يُوَارِي الْغُرَابُ سَوْءَةَ أَخِيهِ وَهُوَ الْغُرَابُ الْمَيِّتُ، فَيَتَعَلَّمَ مِنْهُ بِالْأَدَاةِ كَيْفَ يُوَارِي قَابِيلُ سَوْءَةَ هَابِيلَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. لِأَنَّ الْغُرَابَ لَا تَظْهَرُ لَهُ سَوْءَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الإرادة هُنَا مِنْ جَعْلِهِ يَرَى أَيْ: يُبْصِرُ، وَعَلَّقَ لِيُرِيَهُ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِالْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا الِاسْتِفْهَامُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وكيف معمولة ليواري. وليريه متعلق بيبحث. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: فَبَعَثَ، وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي لِيُرِيَهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْإِرَاءَةَ حَقِيقَةٌ هِيَ مِنَ اللَّهِ، إِذْ لَيْسَ لِلْغُرَابِ قَصْدُ الْإِرَاءَةِ وَإِرَادَتُهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْغُرَابِ أَيْ: لِيُرِيَهُ الْغُرَابُ، أَيْ: لِيُعَلِّمَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبَ تَعْلِيمِهِ فَكَأَنَّهُ قَصَدَ تَعْلِيمَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنْ كَانَ هَذَا الْمَبْعُوثُ غُرَابًا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَمِنَ الطُّيُورِ كَوْنُهُ يُتَشَاءَمُ بِهِ فِي الْفِرَاقِ وَالِاغْتِرَابِ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقِيلَ: فَبَعَثَ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَجَهِلَ مُوَارَاتَهُ فَبَعَثَ.

قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي اسْتَقْصَرَ إِدْرَاكَهُ وَعَقْلَهُ فِي جَهْلِهِ مَا يَصْنَعُ بِأَخِيهِ حَتَّى يُعَلَّمَ، وَهُوَ ذُو الْعَقْلِ الْمُرَكَّبُ فِيهِ الْفِكْرُ وَالرُّؤْيَةُ وَالتَّدْبِيرُ مِنْ طَائِرٍ لَا يَعْقِلُ. وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ: الْإِنْكَارُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالنَّعْيُ أَيْ: لَا أَعْجَزُ عَنْ كَوْنِي مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ، وَفِي ذَلِكَ هَضْمٌ لِنَفْسِهِ وَاسْتِصْغَارٌ لَهَا بِقَوْلِهِ: مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ.

ص: 234

وَأَصْلُ النِّدَاءِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ يَعْقِلُ، ثُمَّ قَدْ يُنَادَى مَا لَا يَعْقِلُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَقَوْلِهِمْ:

يَا عَجَبًا وَيَا حَسْرَةً، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ التَّعَجُّبُ. كَأَنَّهُ قَالَ: انْظُرُوا لِهَذَا الْعَجَبِ وَلِهَذِهِ الْحَسْرَةِ، فَالْمَعْنَى: تَنَبَّهُوا لِهَذِهِ الْهَلَكَةِ. وَتَأْوِيلُهُ هَذَا أوانك فاحصري. وقرأ الجمهور: يا ويلتا بِأَلِفٍ بَعْدِ التَّاءِ، وَهِيَ بَدَلٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَصْلُهُ يَا وَيْلَتِي بِالْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ. وَأَمَالَ حمزة والكسائي وأبو عمر وألف وَيْلَتَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَعَجَزْتُ بِفَتْحِ الْجِيمِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَفَيَّاضٌ، وَطَلْحَةُ، وَسُلَيْمَانُ: بِكَسْرِهَا وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ، وَإِنَّمَا مَشْهُورٌ الْكَسْرُ فِي قَوْلِهِمْ: عَجِزَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَبُرَتْ عَجِيزَتُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأُوَارِيَ بِنَصْبِ الْيَاءِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ أَكُونَ. كَأَنَّهُ قَالَ: أَعَجَزْتُ أَنْ أُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

فَأُوَارِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ انْتَهَى. وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّ الْفَاءَ الْوَاقِعَةَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ تَنْعَقِدُ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَالْجَوَابُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَهُنَا تَقُولُ: أَتَزُورُنِي فَأُكْرِمَكَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَزُرْنِي أُكْرِمْكَ. وَقَالَ تَعَالَى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا «1» أَيْ إِنْ يَكُنْ لَنَا شُفَعَاءُ يَشْفَعُوا. وَلَوْ قُلْتَ هُنَا: إِنْ أَعْجَزْ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ أُوَارِ سَوْءَةَ أَخِي لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْمُوَارَاةَ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَى عَجْزِهِ عَنْ كَوْنِهِ مِثْلَ الْغُرَابِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزْوَانَ: فَأُوَارِيَ بِسُكُونِ الْيَاءِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ: فَأَنَا أُوَارِي سَوْءَةَ أَخِي، فَيَكُونُ أُوَارِي مَرْفُوعًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ بِالسُّكُونِ عَلَى فَأَنَا أُوَارِي، أَوْ عَلَى التَّسْكِينِ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ لِلتَّخْفِيفِ انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّهُ حَذَفَ الْحَرَكَةَ وَهِيَ الْفَتْحَةُ تَخْفِيفًا اسْتَثْقَلَهَا عَلَى حَرْفِ الْعِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لُغَةٌ لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ انْتَهَى. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى النَّصْبِ، لِأَنَّ نَصْبَ مِثْلَ هَذَا هُوَ بِظُهُورِ الْفَتْحَةِ، وَلَا تُسْتَثْقَلُ الْفَتْحَةُ فَتُحْذَفُ تَخْفِيفًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا ذَلِكَ لُغَةٌ كَمَا زَعَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلَا يَصْلُحُ التَّعْلِيلُ بِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَالَ فِيهِ الْحَرَكَاتُ. وَهَذَا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ- أَعْنِي النَّصْبَ- بِحَذْفِ الْفَتْحَةِ، لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، فَلَا تُحْمَلُ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا إِذَا وُجِدَ حَمْلُهَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الِاسْتِئْنَافُ أَيْ: فَأَنَا أُوَارِي. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: سَوَةَ أَخِي بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْوَاوِ. وَلَا يَجُوزُ قَلْبُ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ عَارِضَةٌ كَهِيَ فِي سَمَوَلٍ وجعل. وَقَرَأَ أَبُو حَفْصٍ: سَوَّةَ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، وَأَدْغَمَ الْوَاوَ فِيهِ، كَمَا قَالُوا فِي شَيْءٍ شَيٍّ، وَفِي سَيِّئَةٍ سَيَّةٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:

(1) سورة الأعراف: 7/ 53.

ص: 235

وَإِنْ رَأَوْا سَيَّةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا

مِنِّي وَمَا عَلِمُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا

فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ قيل: هذه جملة محذوفة تقديره: فَوَارَى سَوْءَةَ أَخِيهِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَدَمَهُ كَانَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ عِصْيَانِ وَإِسْخَاطِ أَبَوَيْهِ، وَتَبْشِيرِهِ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا لَا كَافِرًا. قِيلَ: وَلَمْ يَنْفَعْهُ نَدَمُهُ، لِأَنَّ كَوْنَ النَّدَمِ تَوْبَةً خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى حَمْلِهِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّادِمِينَ خَوْفَ الْفَضِيحَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى قَتْلِهِ لما تعب فيه مِنْ حَمْلِهِ، وَتَحَيُّرِهِ فِي أمر، وَتَبَيَّنَ لَهُ مِنْ عَجْزِهِ وَتَلْمَذَتِهِ لِلْغُرَابِ، وَاسْوِدَادِ لَوْنِهِ، وَسَخَطِ أَبِيهِ، وَلَمْ يَنْدَمْ نَدَمَ التَّائِبِينَ انْتَهَى.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَابِيلَ، أَكَانَ كَافِرًا أَمْ عَاصِيًا؟

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِ اللَّهَ ضَرَبَ لَكُمُ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا فَخُذُوا مِنْ خَيْرِهَا وَدَعُوا شَرَّهَا»

وَحَكَى الْمُفَسِّرُونَ عَجَائِبَ مِمَّا جَرَى بِقَتْلِ هَابِيلَ مِنْ رَجَفَانِ الْأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَشُرْبِ الْأَرْضِ دَمَهُ، وَإِيسَالِ الشَّجَرِ، وَتَغَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ، وَحُمُوضَةِ الْفَوَاكِهِ، وَمَرَارَةِ الْمَاءِ، وَاغْبِرَارِ الْأَرْضِ، وَهَرَبِ قَابِيلَ بِأُخْتِهِ إِقْلِيمِيَا إِلَى عَدَنَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، وَعِبَادَتِهِ النَّارَ، وَانْهِمَاكِ أَوْلَادِهِ فِي اتِّخَاذِ آلَاتِ اللَّهْوِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالْفَوَاحِشِ حَتَّى أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ بِالطُّوفَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ.

وَرُوِيَ أَنَّ آدَمَ مَكَثَ بَعْدَ قَتْلِهِ مِائَةَ سَنَةٍ لَا يَضْحَكُ، وَأَنَّهُ رَثَاهُ بِشِعْرٍ.

وَهُوَ كَذِبٌ بَحْتٌ، وَمَا الشِّعْرُ إِلَّا مَنْحُولٌ مَلْحُونٌ.

وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّعْرِ.

وَرَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ إِنَّ آدَمَ قَالَ شِعْرًا فَهُوَ كَذِبٌ، وَرَمَى ردم بِمَا لَا يَلِيقُ بِالنُّبُوَّةِ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَالْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام، كُلَّهُمْ فِي النَّفْيِ عَنِ الشِّعْرِ سَوَاءٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ «1» وَلَكِنَّهُ كَانَ يَنُوحُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَوَّلُ شَهِيدٍ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَيَصِفُ حُزْنَهُ عَلَيْهِ نَثْرًا مِنَ الْكَلَامِ شِبْهَ الْمُرْثِيَّةِ، فَتَنَاسَخَتْهُ الْقُرُونُ وَحَفِظُوا كَلَامَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْعَرَبِيَّةِ فَنَظَمَهُ فَقَالَ:

تَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا

فَوَجْهُ الْأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ

وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ سِتَّةَ أَبْيَاتٍ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أَجَابَهُ فِي الْوَزْنِ وَالْقَافِيَةِ بِخَمْسَةِ أَبْيَاتٍ.

وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الشِّعْرِ: إِنَّهُ مَلْحُونٌ، يشير فيه إلى البيت وهو الثاني:

(1) سورة يس: 36/ 69.

ص: 236

تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي لَوْنٍ وَطَعْمٍ

وَقَلَّ بَشَاشَةَ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ

يَرْوِيهِ بَشَاشَةَ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ عَلَى الْإِقْوَاءِ، وَيُرْوَى بِنَصْبِ بَشَاشَةٍ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَرَفْعِ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ. وَلَيْسَ بِلَحْنٍ، قَدْ خَرَّجُوهُ عَلَى حَذْفِ التَّنْوِينِ مِنْ بَشَاشَةٍ، وَنَصْبِهِ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَحَذْفُ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. قَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ قُرِئَ: أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ «1» وَرُوِيَ وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ بِحَذْفِ التَّنْوِينِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: كَتَبْنَا. وَقَالَ قَوْمٌ بِقَوْلِهِ:

مِنَ النَّادِمِينَ، أَيْ نَدِمَ مِنْ أَجْلِ مَا وَقَعَ. وَيُقَالُ: أَجَلَ الْأَمْرَ أَجَلًا وَآجِلًا إِذَا اجْتَنَاهُ وَحْدَهُ. قَالَ زُهَيْرٌ:

وَأَهْلُ خِبَاءٍ صَالِحٌ ذَاتُ بَيْنِهِمْ

قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهْ

أَيْ جانبه، وَنَسَبَ هَذَا الْبَيْتَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى جَوَابٍ، وَهُوَ فِي دِيوَانِ زُهَيْرٍ. وَالْمَعْنَى: بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَإِذَا قُلْتَ: فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكَ، أَرَدْتُ أَنَّكَ جَنَيْتَ ذَلِكَ وَأَوْجَبْتَهُ. وَمَعْنَاهُ وَمَعْنَى مِنْ جَرَّاكَ وَاحِدٌ أَيْ: مِنْ جَرِيرَتِكَ. وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَتْلِ أَيْ: مِنْ جَنْيِ ذَلِكَ الْقَتْلِ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيِ: ابْتِدَاءِ الْكَتْبِ، وَنَشَأَ مِنْ أَجْلِ الْقَتْلِ، وَيَدْخُلُ عَلَى أَجْلِ اللَّامِ لِدُخُولِ مِنْ، وَيَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ وَاتِّصَالِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ بِشَرْطِهِ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ. وَيُقَالُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكَ وَلِأَجْلِكَ، وَتُفْتَحُ الْهَمْزَةُ أَوْ تُكْسَرُ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ: بِكَسْرِهَا وَحَذْفِهَا وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا، كَمَا قَرَأَ وَرْشٌ بِحَذْفِهَا وَفَتْحِهَا وَنَقْلِ الْحَرَكَةِ إِلَى النُّونِ. وَمَعْنَى كَتَبْنَا أَيْ: كُتِبَ بِأَمْرِنَا فِي كُتُبٍ مُنَزَّلَةٍ عَلَيْهِمْ تَضَمَّنَتْ فَرْضَ ذَلِكَ، وَخُصَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُمْ أُمَمٌ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ قَتْلُ النَّفْسِ وَكَانَ الْقِصَاصُ فِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَلَى مَا رُوِيَ أَوَّلُ أُمَّةٍ نَزَلَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِمْ فِي قَتْلِ النَّفْسِ، وَغِلَظُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ طُغْيَانِهِمْ وَسَفْكِهِمُ الدِّمَاءَ، وَلِتَظْهَرَ مَذَمَّتُهُمْ فِي أَنْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ هَذَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَرْعَوُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ، بَلْ هَمُّوا بِقَتْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ظُلْمًا. وَمَعْنَى بِغَيْرِ نَفْسٍ: أَيْ بِغَيْرِ قَتْلِ نَفْسٍ فَيَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ إِلَّا بِإِحْدَى مُوجِبَاتِ قَتْلِهِ. وَقَوْلُهُ: أَوْ فَسَادٍ، هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى نَفْسٍ أَيْ: وَبِغَيْرِ فَسَادٍ، وَالْفَسَادُ قِيلَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَقَطْعُ الْأَشْجَارِ، وَقَتْلُ الدَّوَابِّ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَحَرْقُ الزَّرْعِ وَمَا يَجْرِي مجراه، وهو

(1) سورة الإخلاص: 112/ 1- 2.

ص: 237

الْفَسَادُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ يَتَخَلَّصِ التَّشْبِيهُ إِلَى طَرَفَيْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَالَّذِي أَقُولُ: إِنَّ التَّشْبِيهَ بَيْنَ قَاتِلِ النَّفْسِ وَقَاتِلِ الْكُلِّ لَا يطرد مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، لَكِنَّ الشَّبَهَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ. إِحْدَاهَا: الْقَوَدُ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ. وَالثَّانِيَةُ:

الْوَعِيدُ، فَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ قَاتِلَ النَّفْسِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَتِلْكَ غَايَةُ الْعَذَابِ. فَإِنْ تَرَقَّبْنَاهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِ التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ قَاتِلُ الْجَمِيعِ أَنْ لَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ. وَالثَّالِثَةُ: انْتِهَاكُ الْحُرْمَةِ فَإِنَّ نَفْسًا وَاحِدَةً فِي ذَلِكَ وَجَمِيعَ الْأَنْفُسِ سَوَاءٌ، وَالْمُنْتَهِكُ فِي وَاحِدَةٍ مَلْحُوظٌ بِعَيْنِ مُنْتَهِكِ الْجَمِيعِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ رَجُلَانِ حَلَفَا عَلَى شَجَرَتَيْنِ أَنْ لَا يَطْعَمَا مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا شَيْئًا، فَطَعِمَ أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً مِنْ ثَمَرَةِ شَجَرَتِهِ، وَطَعِمَ الْآخَرُ ثَمَرَ شَجَرَتَيْهِ كُلَّهُ، فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي الْحِنْثِ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: قِيلَ الْمُشَابَهَةُ فِي الْإِثْمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمَ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا قَالَهُ: الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ فِي الْعَذَابِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَصْلَى النَّارَ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ، كما لو قال قَتَلَ النَّاسَ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّ الْعَذَابَ يُخَفَّفُ وَيُثَقَّلُ بِحَسَبِ الْجَرَائِمِ. وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ مِنْ حَيْثُ الْقِصَاصُ قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ. وَتَقَدَّمَ. وَقِيلَ:

التَّشْبِيهُ مِنْ جِهَةِ الْإِنْكَارِ عَلَى قُبْحِ الْفِعْلِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِجَمِيعِ النَّاسِ أَنْ يُعِينُوا وَلِيَّ الْمَقْتُولِ حَتَّى يُقِيدُوهُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَتَلَ أَوْلِيَاءَهُمْ جَمِيعًا ذَكَرَهُ: الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى. وَهَذَا الْأَمْرُ كَانَ مُخْتَصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، غُلِّظَ عَلَيْهِمْ كَمَا غُلِّظَ عَلَيْهِمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ. قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ. قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ: قُلْتُ: لِلْحَسَنِ يَا أَبَا سَعِيدٍ هِيَ لَنَا كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: أَيْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا كَانَ دِمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ دِمَائِنَا. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْيَاهَا أَيِ: اسْتَنْقَذَهَا مِنَ الْهَلَكَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ أَيْ مَنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ هَلَاكٍ. وَقِيلَ مَنْ عَضَّدَ نَبِيًّا أَوْ إِمَامًا عَادِلًا، لِأَنَّ نَفْعَهُ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا. وَقِيلَ: مَنْ تَرَكَ قَتْلَ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ بِكَفِّهِ أَذَاهُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: مَنْ زَجَرَ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ وَنَهَى عَنْهُ. وَقِيلَ: مَنْ أَعَانَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «1» . قَالَ الْحَسَنُ: وَأَعْظَمُ إِحْيَائِهَا أَنْ يُحْيِيَهَا مِنْ كُفْرِهَا، وَدَلِيلُهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً «2» انْتَهَى وَالْإِحْيَاءُ هُنَا مَجَازٌ، لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ حَقِيقَةً هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: وَمَنِ اسْتَسْقَاهَا وَلَمْ يُتْلِفْهَا، وَمِثْلُ هَذَا الْمَجَازِ قَوْلُ مُحَاجِّ إِبْرَاهِيمَ: أَنَا أُحْيِي سَمَّى التَّرْكَ إِحْيَاءً.

وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.

(1) سورة البقرة: 2/ 179.

(2)

سورة الأنعام: 6/ 122.

ص: 238

أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْإِسْرَافَ وَالْفَسَادَ فِيهِمْ هَذَا مَعَ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ مُقْتَضَى مَجِيءِ رُسُلِ اللَّهِ بِالْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُمْ إِسْرَافٌ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ فِي الْحَدِّ، فَخَالَفُوا هَذَا الْمُقْتَضَى. وَالْعَامِلُ فِي بَعْدَ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَبَرُ إِنَّ، وَلَمْ تَمْنَعْ لَامُ الِابْتِدَاءِ مِنَ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَتْقَدِّمًا، لِأَنَّ دُخُولَهَا عَلَى الْخَبَرِ لَيْسَ بِحَقِّ التَّأَصُّلِ، وَالْإِشَارَةُ بذلك إِلَى مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، والمراد بالأرض أي: حيث ما حَلُّوا أَسْرَفُوا.

وَظَاهِرُ الْإِسْرَافِ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ. وَقِيلَ لَمُسْرِفُونَ أَيْ: قَاتِلُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ كَقَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «1» . وَقِيلَ: هُوَ طَلَبُهُمُ الْكَفَاءَةَ فِي الْحَسَبِ حَتَّى يُقْتَلَ بِوَاحِدٍ عِدَّةٌ مِنْ قَتَلَتِهِمْ.

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعُرْوَةُ: نَزَلَتْ فِي عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ وَحَدِيثُهُ مَشْهُورٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْهُ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَبِهِ قَالَ: الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَهْدٌ فَنَقَضُوهُ، وَأَفْسَدُوا فِي الدِّينِ.

وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَبِي بُرْدَةَ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ قَتَلُوا قَوْمًا مَرُّوا بِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ بَيْنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَبِي بُرْدَةَ مُوَادَعَةٌ أَنْ لَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَلَا يُهَيِّجَ مَنْ أَتَاهُ مُسْلِمًا فَفَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُهُ وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا

، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَاسِخَةً وَلَا مَنْسُوخَةً. وَقِيلَ: نَسَخَتْ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَالْعُرَنِيِّينَ مِنَ الْمُثْلَةِ، وَوَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى هَذِهِ الْحُدُودِ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا تَغْلِيظَ الْإِثْمِ فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَلَا فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يُوجِبُ الْقَتْلَ مَا هُوَ، فَإِنَّ بَعْضَ مَا يَكُونُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَرَتِّبٌ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّ الْمُحَارِبَ هُوَ مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى النَّاسِ فِي مِصْرٍ أَوْ بَرِيَّةٍ، فَكَادَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ ثَائِرَةٍ، وَلَا دَخَلٍ وَلَا عَدَاوَةٍ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّ الْمُحَارِبِينَ هُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَيَلْزَمُهُ حَدُّ مَا اجْتَرَحَ مِنْ قَتْلٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَدْنَى الْحِرَابَةِ إِخَافَةُ الطَّرِيقِ ثُمَّ أَخْذُ الْمَالِ مَعَ الْإِخَافَةِ، ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِخَافَةِ وَأَخْذِ المال والقتل

(1) سورة الإسراء: 17/ 33.

ص: 239

وَمُحَارَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. فَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ حَمْلًا عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ انْدَفَعَ ذَلِكَ، وَقَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُحَارَبَةُ هَنَا الشِّرْكُ، وَقَوْلُ عُرْوَةَ: الِارْتِدَادُ، غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ أَوْرَدَ مَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمَا.

وَفِي قَوْلِهِ: يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، تَغْلِيظٌ شَدِيدٌ لِأَمْرِ الْحِرَابَةِ، وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِمُحَارَبَتِهِمْ، أَوْ يُضِيفُونَ فَسَادًا إِلَى الْمُحَارَبَةِ. وَانْتَصَبَ فَسَادًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ مَعْنَاهُ: يُفْسِدُونَ، لَمَّا كَانَ السَّعْيُ لِلْفَسَادِ جُعِلَ فَسَادًا. أَيْ: إِفْسَادًا. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: الْعُقُوبَاتُ الْأَرْبَعُ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِيقَاعِ مَا شَاءَ مِنْهَا بِالْمُحَارِبِ فِي أَيِّ رُتْبَةٍ كَانَ الْمُحَارِبُ مِنَ الرُّتَبِ على قَدَّمْنَاهَا، وَبِهِ قَالَ: النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَهُوَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ بِأَيْسَرِ الْعِقَابِ، وَلَا سِيَّمَا: إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا شُرُورٍ مَعْرُوفَةٍ، وَأَمَّا إِنْ قتل فلابد مِنْ قَتْلِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَجَمَاعَةٌ: لِكُلِّ رُتْبَةٍ مِنَ الْحِرَابَةِ رُتْبَةٌ مِنَ الْعِقَابِ، فَمَنْ قَتَلَ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ فَالْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ أَخَافَ فَقَطْ فَالنَّفْيُ، وَمَنْ جَمَعَهَا قُتِلَ وَصُلِبَ. وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: يُصْلَبُ حَيًّا وَيُطْعَنُ حَتَّى يَمُوتَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ نَكَالًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَتْلُ إِمَّا ضَرْبًا بِالسَّيْفِ لِلْعُنُقِ، وَقِيلَ: ضَرْبًا بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنًا بِالرُّمْحِ أَوِ الْخِنْجَرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي قَتْلِهِ مُكَافَأَةٌ لِمَنْ قَتَلَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ فِي الْقِصَاصِ. وَمُدَّةُ الصَّلْبِ يَوْمٌ أَوْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، أَوْ حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ، أَوْ مِقْدَارُ مَا يَسْتَبِينُ صَلْبُهُ. وَأَمَّا الْقَطْعُ فَالْيَدُ الْيُمْنَى مِنَ الرُّسْغِ، وَالرِّجْلُ الشِّمَالُ مِنَ الْمِفْصَلِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ مِنَ الْأَصَابِعِ وَيَبْقَى الْكَفُّ، وَمِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ وَيَبْقَى الْعَقِبُ.

وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْأَصَابِعَ لَا تُسَمَّى يَدًا، وَنِصْفُ الرِّجْلِ لَا يُسَمَّى رِجْلًا.

وَقَالَ مَالِكٌ: قَلِيلُ الْمَالِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ، فَيُقْطَعُ الْمُحَارِبُ إِذَا أَخَذَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُقْطَعُ إِلَّا مَنْ أَخَذَ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ. وَأَمَّا النَّفْيُ فَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يُطَالِبَ أَبَدًا بِالْخَيْلِ وَالرَّجِلِ حَتَّى يُؤْخَذَ فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ وَيُخْرَجَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ: نَفْيُهُ أَنْ يُطْلَبَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ اللَّيْثِ وَمَالِكٍ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا يُضْطَرُّ

ص: 240

مُسْلِمٌ إِلَى دُخُولِ دَارِ الشِّرْكِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ: النَّفْيُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الشِّرْكِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَمَاعَةٌ: يُنْفَى مِنْ بَلَدٍ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ قَاصٍ بَعِيدٌ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كَانَ النَّفْيُ قَدِيمًا إِلَى دَهْلَكٍ وَنَاصِعٍ، وَهُمَا مِنْ أَقْصَى الْيَمَنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَهْلَكٌ فِي أَقْصَى تِهَامَةَ، وَنَاصِعٌ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: النَّفْيُ السَّجْنُ، وَذَلِكَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ الشَّاعِرُ: قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ مَسْجُونٌ:

خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا

فَلَسْنَا مِنَ الْأَمْوَاتِ فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا

إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ

عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدنيا

وتعجبنا الرؤيا بحل حَدِيثَنَا

إِذَا نَحْنُ أَصْبَحَنَا الْحَدِيثُ عَنِ الرُّؤْيَا

وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَهُ مِنَ الْأَرْضِ هُوَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي حَارَبَ فِيهَا إِنْ كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ فَيُنْفَى مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ فَلَا يَزَالُ يُطْلَبُ وَيُزْعَجُ وَهُوَ هَارِبٌ، فَزِعٌ إِلَى أَنْ يَلْحَقَ بِغَيْرِ عَمَلِ الْإِسْلَامِ. وَصَرِيحُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَخُوفَ الْجَانِبِ غُرِّبَ وَسُجِنَ حَيْثُ غُرِّبَ، وَالتَّشْدِيدُ فِي أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ لِلتَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ يُوقِعُ بِهِمُ الْفِعْلَ، وَالتَّخْفِيفُ فِي ثَلَاثَتِهَا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ.

ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أَيْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ مِنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالنَّفْيِ.

وَالْخِزْيُ هُنَا الْهَوَانُ وَالذُّلُّ وَالِافْتِضَاحُ. وَالْخِزْيُ الْحَيَاءُ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الِافْتِضَاحِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ افْتَضَحَ فَاسْتَحْيَا.

وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَعْصِيَةَ الْحِرَابَةِ مُخَالِفَةٌ لِلْمَعَاصِي غَيْرَهَا، إِذْ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ تَغْلِيظًا لِذَنْبِ الْحِرَابَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ «فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ»

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ التَّوْزِيعِ، فَيَكُونَ الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا إِنْ عُوقِبَ، وَالْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ إِنْ سَلِمَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعِقَابِ، فَتَجْرِيَ مَعْصِيَةُ الْحِرَابَةِ مَجْرَى سَائِرِ الْمَعَاصِي. وَهَذَا الْوَعِيدُ كَغَيْرِهِ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ هَذَا الذَّنْبَ، وَلَكِنْ فِي الْوَعِيدِ خَوْفٌ عَلَى الْمُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ نَفَاذَ الْوَعِيدِ.

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُعَاقَبِينَ عِقَابَ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِهِمْ سَقَطَ عَنْهُمْ مَا

ص: 241

تَرَتَّبَ عَلَى الْحِرَابَةِ، وَهَذَا فِعْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِحَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الْعُرَانِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ لَهُ سُقُوطَ الْأَمْوَالِ وَالدَّمِ عَنْهُ كِتَابًا مَنْشُورًا. وَقَالُوا: لَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ فِيهِ إِلَّا كَمَا يَنْظُرُ فِي سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ طُولِبَ بِدَمٍ نُظِرَ فيه أو قيد مِنْهُ بِطَلَبِ الْوَلِيِّ، وَإِنْ طُولِبَ بِمَالٍ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ: يُؤْخَذُ مَا وُجِدَ عِنْدَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَيُطَالَبُ بِقِيمَةِ مَا اسْتَهْلَكَ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: لَا يُطَالَبُ بِمَا اسْتَهْلَكَ، وَيُؤْخَذُ مَا وُجِدَ عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ، وَلَكِنْ لَوْ فَرَّ إِلَى الْعَدُوِّ ثُمَّ جَاءَنَا تَائِبًا لَمْ أَرَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَا أَدْرِي هَلْ أَرَادَ ارْتَدَّ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَنَا تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ جَزَاءَ مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالْعَذَابِ الْعَظِيمِ الْمُعَدِّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَابْتِغَاءِ الْقُرُبَاتِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُنَجِّي مِنَ الْمُحَارَبَةِ وَالْعِقَابِ الْمُعَدِّ لِلْمُحَارِبِينَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ وَالْكَلْبِيِّينَ، أَوْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ، أَوْ فِي الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْخِلَافِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، نَصَّ عَلَى الْجِهَادِ، وَإِنْ كَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ ابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ لِأَنَّ بِهِ صَلَاحَ الْأَرْضِ، وَبِهِ قِوَامَ الدِّينِ، وَحِفْظَ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ مُغَايِرٌ لِأَمْرِ الْمُحَارَبَةِ، إِذِ الْجِهَادُ مُحَارَبَةٌ مَأْذُونٌ فِيهَا، وَبِالْجِهَادِ يُدْفَعُ الْمُحَارِبُونَ. وَأَيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْقُوَّةُ وَالْبَأْسُ الَّذِي لِلْمُحَارِبِ مَقْصُورًا عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يَضَعَ تِلْكَ النَّجْدَةَ الَّتِي وَهَبَهَا اللَّهُ لَهُ لِلْمُحَارَبَةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَلِ الْوَسِيلَةُ الْقُرْبَةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ بِهَا، أَوِ الْحَاجَةُ، أَوِ الطَّاعَةُ، أَوِ الْجَنَّةُ، أَوْ أَفْضَلُ دَرَجَاتِهَا، أَقْوَالٌ لِلْمُفَسِّرِينَ. وَذَكَرَ رَجَاءٌ الْفَلَاحَ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِ مَا أَمَرَ بِهِ قَبْلُ مِنَ التَّقْوَى وَابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ. وَالْفَلَاحُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَلَاصِ عَنِ الْمَكْرُوهِ، وَالْفَوْزِ بِالْمَرْجُوِّ.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ لَمَّا أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَعَاقِدِ الْخَيْرِ وَمَفَاتِحِ السَّعَادَةِ، وَذَكَرَ فَوْزَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَمَا آلوا إليه مِنَ الْفَلَاحِ، شَرَحَ حَالَ الْكُفَّارِ وَعَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.

والجملة من لو وجوابها فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، وَمَعْنَى مَا فِي الْأَرْضِ: مِنَ صُنُوفِ الْأَمْوَالِ الَّتِي

ص: 242

يُفْتَدَى بِهَا، وَمِثْلَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَلَامُ كَيْ تَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ خَبَرُ إِنَّ وَهُوَ لَهُمْ.

وَالْمَعْنَى: لَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ مُسْتَقِرٌّ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمِلْكِ لِيَجْعَلُوهُ فَدِيَةً لَهُمْ مَا تُقُبِّلَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَلُزُومِ الْعَذَابِ لَهُمْ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى نَجَاتِهِمْ مِنْهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ «يُقَالُ لِلْكَافِرِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ.

فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ»

وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ شَيْئَانِ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَمَعْطُوفٌ، وَهُوَ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، إِمَّا لِفَرْضِ تَلَازُمِهِمَا فَأُجْرِيَا مُجْرَى الْوَاحِدِ كَمَا قَالُوا: رُبَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَرَّ بِي، وَإِمَّا لِإِجْرَاءِ الضَّمِيرُ مُجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: لِيَفْتَدُوا بِذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تكون الواو في: ومثله، بِمَعْنَى مَعَ، فَيُوَحَّدُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَبِمَ يَنْتَصِبُ الْمَفْعُولُ مَعَهُ؟ (قُلْتُ) : بِمَا تَسْتَدْعِيهِ لَوْ مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا يُوَحَّدُ الضَّمِيرُ لِأَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الْمَفْعُولِ مَعَهُ فِي الْخَبَرِ، وَالْحَالِ، وَعَوْدِ الضَّمِيرِ مُتَأَخِّرًا حُكْمُهُ مُتَقَدِّمًا، تَقُولُ: الْمَاءُ وَالْخَشَبَةُ اسْتَوَى، كَمَا تَقُولُ: الْمَاءُ اسْتَوَى وَالْخَشَبَةُ وَقَدْ أَجَازَ الْأَخْفَشِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعْطَى حُكْمَ الْمَعْطُوفِ فَتَقُولَ:

الْمَاءُ مَعَ الْخَشَبَةِ اسْتَوَيَا، وَمَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: تكون الواو في:

ومثله، بِمَعْنَى مَعَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ مَعَ مِثْلِهِ مَعَهُ، أَيْ: مَعَ مِثْلِ مَا فِي الْأَرْضِ مَعَ مَا فِي الْأَرْضِ، إِنْ جَعَلْتَ الضَّمِيرَ فِي مَعَهُ عَائِدًا عَلَى مِثْلَهُ أَيْ: مَعَ مِثْلِهِ مَعَ ذَلِكَ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَعَ مِثْلَيْنِ. فَالتَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ عَيٌّ، إِذِ الْكَلَامُ الْمُنْتَظِمُ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ إِذَا أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعَ مِثْلَيْهِ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ إِلَى آخَرِ السُّؤَالِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لَا يُرَدُّ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ مَعَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُرُودِهِ فَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ لَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: لَوْ ثَبَتَ كَيْنُونَةُ مَا فِي الْأَرْضِ مَعَ مِثْلِهِ لَهُمْ لِيَفْتَدُوا بِهِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى مَا فَقَطْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ تَفْرِيعٌ مِنْهُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ فِي أَنَّ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ. وَمَذْهَبُ سيبويه إِنَّ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي تَصَانِيفِهِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَمِثْلَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ ثَبَتَ بِوَسَاطَةِ الْوَاوِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُودِ لَفْظِ مَعَهُ. وَعَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِهَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ ثَبَتَ لَيْسَتْ رَافِعَةً لِمَا الْعَائِدِ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ، وَإِنَّمَا هِيَ رَافِعَةٌ مَصْدَرًا مُنْسَبِكًا مِنْ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا وَهُوَ كَوْنُ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَوْ

ص: 243

كَوْنُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا لَهُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَا دُونُ الْكَوْنِ.

فَالرَّافِعُ لِلْفَاعِلِ غَيْرُ النَّاصِبِ لِلْمَفْعُولِ مَعَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ إِيَّاهُ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ الثُّبُوتِ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى كَيْنُونَةِ مَا فِي الْأَرْضِ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، لَا عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، وَهَذَا فِيهِ غُمُوضٌ، وَبَيَانُهُ، أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ وعمر، أَوْ جَعَلْتَ عَمْرًا مَفْعُولًا مَعَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُعْجِبُنِي، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ عَمْرًا لَمْ يَقُمْ، وَأَنَّهُ أَعْجَبَكَ الْقِيَامُ وَعَمْرٌو، وَإِنْ جَعَلْتَ الْعَامِلَ فِيهِ الْقِيَامَ كَانَ عَمْرٌو قَائِمًا، وَكَانَ الْإِعْجَابُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْقِيَامِ مُصَاحِبًا لِقِيَامِ عَمْرٍو. (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا، كَانَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ، إِذِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. (قُلْتُ) : لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُودِ مَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِهَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ قَوْلَكَ: هَذَا لَكَ وَأَبَاكَ مَمْنُوعٌ فِي الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا هَذَا لَكَ وَأَبَاكَ، فَقَبِيحٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِعْلًا وَلَا حَرْفًا فِيهِ مَعْنَى فِعْلٍ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْفِعْلِ، فَأَفْصَحَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَحَرْفَ الْجَرِّ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ لَا يَعْمَلَانِ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ الْمَفْعُولُ مَعَهُ لَخُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَنْسُبَ الْعَمَلَ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ لِحَرْفِ الْجَرِّ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ الظَّرْفُ وَحَرْفُ الْجَرِّ، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَجُوزُ لَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ خَالِيَةً مِنْ قَوْلِهِ: مَعَهُ، أَنْ يَكُونَ وَمِثْلَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا تُقُبِّلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ: مَا تَقَبَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ: مَا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَفِي الْكَلَامِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ: وَبَذَلُوهُ وَافْتَدَوْا بِهِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ، إِذْ لَا يَتَرَتَّبُ انْتِفَاءُ التَّقَبُّلِ عَلَى كَيْنُونَةِ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى بَذْلِ ذَلِكَ أَوِ الِافْتِدَاءِ بِهِ.

وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هَذَا الْوَعِيدُ هُوَ لِمَنْ وَافَى عَلَى الْكُفْرِ، وَتُبَيِّنُهُ آيَةُ آلِ عِمْرَانَ وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ «1» الْآيَةَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى خَبَرِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا «2» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ.

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ أَيْ يَرْجُونَ، أَوْ يَتَمَنَّوْنَ، أَوْ يَكَادُونَ، أَوْ يَسْأَلُونَ، أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالْإِرَادَةُ مُمْكِنَةٌ فِي حَقِّهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُخَرَّجَ عن

(1) سورة آل عمران: 3/ 91. [.....]

(2)

سورة المائدة: 5/ 36.

ص: 244

ظَاهِرِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا فَارَتْ بِهِمُ النَّارُ فَرُّوا مِنْ بَأْسِهَا، فَحِينَئِذٍ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ وَيَطْمَعُونَ فِيهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ. وَقِيلَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّكُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ تَقُولُونَ: إن قوما يخرجون من النَّارِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها «1» فَقَالَ جَابِرٌ إِنَّمَا هَذَا فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ نَافِعِ بْنِ الأزراق الْخَارِجِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَعْمَى الْبَصَرِ، يَا أَعْمَى الْقَلْبِ، أَتَزْعُمُ إن قوما يخرجون من النَّارِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْرَأْ مَا فَوْقُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْكُفَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا يُرْوَى عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ الْحِكَايَةَ، ثُمَّ قَالَ: فَمِمَّا لَفَّقَتْهُ الْمُجَبِّرَةُ وَلَيْسَ بِأَوَّلِ تَكَاذِيبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، وَكَفَاكَ بِمَا فِيهِ مِنْ مُوَاجَهَةِ ابْنِ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِ أَعْضَادِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنْضَادِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَحْرُهَا، وَمُفَسِّرُهَا بِالْخِطَابِ الَّذِي لَا يَجْسَرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَبِرَفْعِهِ إِلَى عِكْرِمَةَ دَلِيلَيْنِ نَاصَّيْنِ أَنَّ الْحَدِيثَ فِرْيَةٌ مَا فِيهَا مِرْيَةٌ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى عَادَتِهِ وَسَفَاهَتِهِ فِي سَبِّ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمَذْهَبُهُ: أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يَخْرُجُوا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَيُنَاسِبُهُ: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَأَبُو وَاقِدٍ: أَنْ يُخْرَجُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.

وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أَيْ مُتَأَبِّدٌ لَا يُحَوَّلُ.

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما قَالَ السَّائِبُ: نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، وَمَضَتْ قِصَّتُهُ فِي النِّسَاءِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُحَارِبِينَ بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي فِيهَا قَطْعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خلاف، ثم أمر بالتقوى لِئَلَّا يَقَعَ الْإِنْسَانُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحِرَابَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَ حُكْمَ السَّرِقَةِ لِأَنَّ فِيهَا قَطْعَ الْأَيْدِي بِالْقُرْآنِ، وَالْأَرْجُلِ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَيْضًا حِرَابَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ فِيهِ سَعْيًا بِالْفَسَادِ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الشَّوْكَةِ وَالظُّهُورِ.

وَالسَّرِقَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِفَاءِ وَالتَّسَتُّرِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْقَطْعِ بِمُسَمَّى السَّرِقَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ. يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْجَمَلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ اليمنى، شرق شَيْئًا مَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا قُطِعَتْ يَدُهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ:

الْحَسَنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ وَدَاوُدَ. وَقَالَ دَاوُدُ وَمَنْ وَافَقَهُ: لَا يُقْطَعُ فِي سرقة حبة واحدة

(1) سورة المائدة: 5/ 37.

ص: 245

وَلَا تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ أَقَلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مَالًا، وَفِي أَقَلِّ شَيْءٍ يُخْرِجُ الشُّحَّ وَالضِّنَةَ. وَقِيلَ:

النِّصَابُ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ غَيْرِهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ:

ابْنِ عَبَّاسٍ، وابن عمر، وأيمن الْحَبَشِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ قَوْلُ:

الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ، وَمُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: رُبُعُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَائِشَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُ: الْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقِيلَ: خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ قَوْلُ: أَنَسٍ، وَعُرْوَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ:

ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَهَبًا فَلَا تُقْطَعُ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ. وَقِيلَ: دِرْهَمٌ فَمَا فَوْقَهُ، وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَقَطَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي دِرْهَمٍ. وَلِلسَّرِقَةِ الَّتِي تُقْطَعُ فِيهَا الْيَدُ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي الْفِقْهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ، وَقَالَ الْخَفَّافُ: وَجَدْتُ فِي مُصْحَفِ أُبِيٍّ وَالسُّرُقُ وَالسُّرُقَةُ بِضَمِّ السِّينِ الْمُشَدَّدَةِ فِيهِمَا كَذَا ضَبَطَهُ أَبُو عَمْرٍو. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَصْحِيفًا مِنَ الضَّابِطِ، لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ إِذَا كُتِبَتِ السَّارِقُ بِغَيْرِ أَلْفٍ وَافَقَتْ فِي الْخَطِّ هَذِهِ. وَالرَّفْعُ فِي وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَوْ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ، السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ أَيْ: حُكْمُهُمَا. وَلَا يُجَوِّزُ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلُهُ:

فَاقْطَعُوا، لِأَنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ إِلَّا فِي خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَوْصُولٍ بِظَرْفٍ أَوْ مَجْرُورٍ، أَيْ جُمْلَةٍ صَالِحَةٍ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ. وَالْمَوْصُولُ هُنَا أَلْ، وَصِلَتُهَا اسْمِ فَاعِلٍ أَوِ اسْمِ مَفْعُولٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا لَا تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ جُمْلَةُ الْأَمْرِ، أَجْرَوْا أَلْ وَصِلَتَهَا مُجْرَى الْمَوْصُولِ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ إِذْ مَعْنَاهُ: الَّذِي سَرَقَ وَالَّتِي سَرَقَتْ. وَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، تَأَوَّلَهُ عَلَى إِضْمَارِ الْخَبَرِ فَيَصِيرُ تَأَوُّلُهُ: فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ حُكْمُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ. جُمْلَةً ظَاهِرُهَا أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ فِي قَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا، فَجِيءَ بِالْفَاءِ رَابِطَةً لِلْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، فَالْأُولَى مُوَضِّحَةٌ لِلْحُكْمِ الْمُبْهَمِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ:

الْوَجْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ النَّصْبُ كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، وَلَكِنْ أَبَتِ الْعَامَّةُ إِلَّا الرَّفْعَ، يَعْنِي عَامَّةَ الْقُرَّاءِ وَجُلَّهُمْ. وَلَمَّا كَانَ مُعْظَمُ الْقُرَّاءِ عَلَى الرَّفْعِ، تَأَوَّلَهُ سِيبَوَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَهُوَ

ص: 246

أَنَّهُ جَعَلَهُ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ فَاقْطَعُوا لَكَانَ تَخْرِيجًا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَكَانَ قَدْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي خَبَرِ أَلْ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ. وَقَدْ تَجَاسَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْمَدْعُوُّ بِالْفَخْرِ الرازي ابن خَطِيبِ الرِّيِّ عَلَى سِيبَوَيْهِ وَقَالَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ فَقَالَ: الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ طَعَنَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَنْقُولَةِ بِالْمُتَوَاتِرِ عَنِ الرَّسُولِ، وَعَنْ أَعْلَامِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا.

(قُلْتُ) : هَذَا تَقَوُّلٌ عَلَى سِيبَوَيْهِ، وَقِلَّةُ فَهْمٍ عَنْهُ، وَلَمْ يَطْعَنْ سِيبَوَيْهِ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، بَلْ وَجَّهَهَا التَّوْجِيهَ الْمَذْكُورَ، وَأَفْهَمَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ الْمَبْنِيِّ عَلَى جَوَازِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ، وَكَوْنِ جُمْلَةِ الْأَمْرِ خَبَرَهُ، أَوْ لَمْ يَنْصِبِ الِاسْمَ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مِنْهُ لَكَانَ النَّصْبُ أَوْجَهَ كَمَا كَانَ فِي زَيْدًا اضْرِبْهُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَوْنُ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ عَدَلُوا إِلَى الرَّفْعِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا الرَّفْعَ فِيهِ عَلَى الِابْتِدَاءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْفَاءِ. فَقَوْلُهُ: أَبَتِ الْعَامَّةُ إِلَّا الرَّفْعَ تَقْوِيَةٌ لِتَخْرِيجِهِ، وَتَوْهِينٌ لِلنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ مَعَ وُجُودِ الْفَاءِ، لِأَنَّ النَّصْبَ عَلَى الِاشْتِغَالِ الْمُرَجَّحِ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لَا يَجُوزُ، إِلَّا إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مُخْبَرًا عَنْهُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يُفَسِّرُ الْعَامِلَ فِي الِاشْتِغَالِ، وَهُنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْفَاءِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْخَبَرِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ النَّصْبُ. فَمَعْنَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ يُقَوِّي الرَّفْعَ عَلَى مَا ذُكِرَ، فَكَيْفَ يَكُونُ طَاعِنًا فِي الرَّفْعِ؟ وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ يَحْسُنُ وَيَسْتَقِيمُ: عَبْدُ اللَّهِ فَاضْرِبْهُ، إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ أَوْ مُظْهَرٍ، فَأَمَّا فِي الْمُظْهَرِ فَقَوْلُكَ:

هَذَا زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ، وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُظْهِرْ هَذَا وَيَعْمَلُ عَمَلَهُ إِذَا كَانَ مُظْهَرًا وَذَلِكَ كقولك: الْهِلَالُ وَاللَّهِ فَانْظُرْ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: هَذَا الْهِلَالُ ثُمَّ جِئْتَ بِالْأَمْرِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ

وَأُكْرُومَةُ الْحَيَّيْنِ خَلْوٌ كَمَا هِيَا

هَكَذَا سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ تُنْشِدُهُ انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُولُ: وَقَدْ يَحْسُنُ وَيَسْتَقِيمُ. عَبْدُ اللَّهِ فَاضْرِبْهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ طَاعِنًا فِي الرَّفْعِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَّهُ يَحْسُنُ وَيَسْتَقِيمُ؟ لَكِنَّهُ جَوَّزَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَرْفُوعُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ، كَمَا تَأَوَّلَهُ فِي السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ: الْهِلَالُ وَاللَّهِ فَانْظُرْ إِلَيْهِ.

وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : - يَعْنِي سِيبَوَيْهِ- لَا أَقُولُ إِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ أَوْلَى، فَنَقُولُ لَهُ: هَذَا أَيْضًا رَدِيءٌ، لِأَنَّ تَرْجِيحَ الْقِرَاءَةِ التي لَمْ يَقْرَآ بِهَا إِلَّا عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّسُولِ وَجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ

ص: 247

وَالتَّابِعِينَ أَمْرٌ مُنْكَرٌ مَرْدُودٌ. (قُلْتُ) : هَذَا السُّؤَالُ لَمْ يَقُلْهُ سِيبَوَيْهِ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ يَقُولُهُ، وَكَيْفَ يَقُولُهُ وَهُوَ قَدْ رَجَّحَ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ؟ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ تَرْجِيحَ القراءة التي لَمْ يَقْرَآ بِهَا إِلَّا عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّسُولِ وَجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَشْنِيعٌ، وَإِيهَامٌ أَنَّ عِيسَى بْنَ عُمَرَ قَرَأَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قِرَاءَتُهُ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الصَّحَابَةِ وَإِلَى الرَّسُولِ، فَقِرَاءَتُهُ قِرَاءَةُ الرَّسُولِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ، لَا يَصِحُّ هَذَا الْإِطْلَاقُ لِأَنَّ عِيسَى بْنَ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي عَبْلَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمَا وَأَشْيَاخَهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُمْ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ هُمْ مِنَ الْأُمَّةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ قَرَأَ نَاسٌ وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ وَالزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ، فَأَخْبَرَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ نَاسٍ. وَقَوْلُهُ: وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ لَا يَصِحُّ هَذَا الْعُمُومُ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ لَوْ كَانَتْ أَوْلَى لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما «1» بِالنَّصْبِ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي الْقِرَاءَةِ أَحَدٌ قَرَأَ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا سُقُوطَ هَذَا الْقَوْلِ. (قُلْتُ) : لَمْ يَدَّعِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ أَوْلَى فَيَلْزَمُهُ مَا ذَكَرَ، وَإِنَّمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ قَرَأَ نَاسٌ وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ وَالزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ، وَهُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنَ الْقُوَّةِ، وَلَكِنْ أَبَتِ الْعَامَّةُ إِلَّا الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ. وَيَعْنِي سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْقُوَّةِ، لَوْ عُرِّيَ مِنَ الْفَاءِ الْمُقَدَّرِ دُخُولُهَا عَلَى خَبَرِ الِاسْمِ الْمَرْفُوعِ عَلَى الابتداء، وجملة الأمر خبره، وَلَكِنْ أَبَتِ الْعَامَّةُ أَيْ- جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ- إِلَّا الرَّفْعَ لِعِلَّةِ دُخُولِ الْفَاءِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الْأَمْرِ خَبَرًا لِهَذَا الْمُبْتَدَأِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْفَاءُ رَجَّحَ الْجُمْهُورُ الرَّفْعَ. وَلِذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ اخْتِيَارَ النَّصْبِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لَمْ يُمَثِّلْهُ بِالْفَاءِ بَلْ عَارِيًا مِنْهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَذَلِكَ قَوْلُكَ: زَيْدًا اضْرِبْهُ وعمرا أمر ربه، وَخَالِدًا اضْرِبْ أَبَاهُ، وَزَيْدًا اشْتَرِ لَهُ ثَوْبًا ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنْ يُبْنَى الْفِعْلُ عَلَى الِاسْمِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: عَبْدُ اللَّهِ فَاضْرِبْهُ، ابْتَدَأْتَ عَبْدَ اللَّهِ فَرَفَعْتَ بِالِابْتِدَاءِ، وَنَبَّهْتَ الْمُخَاطَبَ لَهُ لِيَعْرِفَهُ بِاسْمِهِ، ثُمَّ بَنَيْتَ الْفِعْلَ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ. فَإِذَا قُلْتَ:

زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، لَمْ يَسْتَقِمْ، لَمْ تَحْمِلْهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، لَمْ يَسْتَقِمْ؟ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً يَعْنِي مُخْبَرًا عَنْهُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ الْمَقْرُونِ بِالْفَاءِ الْجَائِزِ دُخُولُهَا عَلَى الْخَبَرِ. ثُمَّ قَالَ سِيبَوَيْهِ: فَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ عَلَى شَيْءٍ هَذَا يُفَسِّرُهُ.

لَمَّا مَنَعَ سِيبَوَيْهِ الرَّفْعَ فِيهِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ خَبَرُهُ لِأَجْلِ الْفَاءِ، أَجَازَ نَصْبَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، لَا عَلَى أَنَّ الْفَاءَ هِيَ الدَّاخِلَةَ فِي خَبَرِ المبتدإ.

(1) سورة النساء: 4/ 16.

ص: 248

وَتَلْخِيصُ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ أَمْرًا بِغَيْرِ فَاءٍ بَعْدَ اسْمٍ يُخْتَارُ فِيهِ النَّصْبُ وَيَجُوزُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ خَبَرُهُ، فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ فَإِمَّا أَنْ تُقَدِّرَهَا الْفَاءَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الْخَبَرِ، أَوْ عَاطِفَةً. فَإِنْ قَدَّرْتَهَا الدَّاخِلَةَ عَلَى الْخَبَرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْمُ مُبْتَدَأً وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ خَبَرَهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ أُجْرِيَ مُجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ لِشَبَهِهِ بِهِ، وَلَهُ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَإِنْ كَانَتْ عَاطِفَةً كَانَ ذَلِكَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا، إِمَّا مُبْتَدَأٌ كَمَا تَأَوَّلَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، وَإِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَمَا قِيلَ: الْقَمَرُ وَاللَّهِ فَانْظُرْ إِلَيْهِ. وَالنَّصْبُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى دُونَ الرَّفْعِ، لِأَنَّكَ إِذَا نَصَبْتَ احْتَجْتَ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ تُعْطَفُ عَلَيْهَا بِالْفَاءِ، وَإِلَى حَذْفِ الْفِعْلِ النَّاصِبِ، وَإِلَى تَحْرِيفِ الْفَاءِ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا. فَإِذَا قُلْتَ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، فَالتَّقْدِيرُ: تَنَبَّهْ فَاضْرِبْ زَيْدًا اضْرِبْهُ. حُذِفَتْ تَنَبَّهْ، وَحُذِفَتِ اضْرِبْ، وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ إِلَى دُخُولِهَا عَلَى الْمُفَسَّرِ. وَكَانَ الرَّفْعُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَذْفُ مُبْتَدَأٍ، أَوْ حَذْفُ خَبَرٍ. فَالْمَحْذُوفُ أَحَدُ جُزْئَيِ الْإِسْنَادِ فَقَطْ، وَالْفَاءُ وَاقِعَةٌ فِي مَوْقِعِهَا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما «1» وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «2» فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُبْنَ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ «3» ثُمَّ قَالَ بَعْدُ فِيهَا: أَنْهارٌ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّمَا وُضِعَ مَثَلٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَذُكِرَ بَعْدَ أَخْبَارٍ وَأَحَادِيثَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ الْقَصَصِ مَثَلُ الْجَنَّةِ أَوْ مِمَّا نَقُصُّ عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْ نَحْوِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي لَمَّا قَالَ تَعَالَى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها «4» قَالَ فِي الْفَرَائِضِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أَوِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي «5» فِي الْفَرَائِضِ ثُمَّ قَالَ: فَاجْلِدُوا، فَجَاءَ بِالْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ مَضَى فِيهَا الرَّفْعُ كَمَا قَالَ: وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ، فَجَاءَ بِالْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ فِيهِ الضَّمِيرُ، وَكَذَلِكَ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ. كَأَنَّهُ قَالَ:

مِمَّا فُرِضَ عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، أَوِ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ. وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بَعْدَ قَصَصٍ وَأَحَادِيثَ انْتَهَى.

فَسِيبَوَيْهِ إِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا التَّخْرِيجَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ كُلْفَةً مِنَ النَّصْبِ مَعَ وُجُودِ الْفَاءِ، وَلَيْسَتِ الْفَاءُ الدَّاخِلَةَ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ فِي أَلِ الْمَوْصُولَةِ. فَالْآيَتَانِ عِنْدَهُ من

(1) سورة النور: 24/ 2.

(2)

سورة المائدة: 5/ 38.

(3)

سورة الرعد: 13/ 35.

(4)

سورة النور: 24/ 1.

(5)

سورة النور: 24/ 2.

ص: 249

بَابِ زَيْدٍ فَاضْرِبْهُ، فَكَمَا أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي هَذَا الرَّفْعِ فَكَذَلِكَ فِي الْآيَتَيْنِ. وَقَوْلُ الرَّازِيِّ:

لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرَّاءِ مَنْ قرأ: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما «1» بِالنَّصْبِ إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ، لَمْ يَقُلْ سِيبَوَيْهِ إِنَّ النَّصْبَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَوْلَى، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرَّاءِ مَنْ يَنْصِبُ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا، بَلْ حَلَّ سيبويه هذا الْآيَةَ مَحَلَّ قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ «2» فَخَرَّجَ سِيبَوَيْهِ الْآيَةَ عَلَى الْإِضْمَارِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ يَجْرِي هَذَا فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو عَلَى هَذَا الْحَدِّ إِذَا كُنْتَ تُخْبِرُ بِأَشْيَاءَ، أَوْ تُوصِي، ثُمَّ تَقُولُ: زَيْدٌ أَيْ زَيْدٌ فِيمَنْ أُوصِي فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ وَأَكْرِمْهُ، وَيَجُوزُ فِي: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ، أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا الْفَاءُ خَبَرٌ لِأَنَّهُ مَوْصُولٌ مُسْتَوْفٍ شُرُوطَ الْمَوْصُولِ الَّذِي يَجُوزُ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهِ لِشَبَهِهِ بِاسْمِ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ دُخُولَ الْفَاءِ فِي خَبَرِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي مَجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَا يُشَبَّهُ بِهِ فِي دُخُولِ الْفَاءِ.

قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الثَّالِثُ يَعْنِي: مِنْ وُجُوهِ فَسَادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ إِنَّا إِنَّمَا قُلْنَا السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ هُوَ الَّذِي يُضْمِرُهُ، وَهُوَ قَوْلُنَا: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، وَفِي شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. (قُلْتُ) : تَقَدَّمَ لَنَا حِكْمَةُ الْمَجِيءِ بِالْفَاءِ وَمَا رَبَطَتْ، وَقَدْ قَدَّرَهُ سِيبَوَيْهِ: وَمِمَّا فُرِضَ عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، وَالْمَعْنَى: حُكْمُ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، لِأَنَّهَا آيَةٌ جَاءَتْ بَعْدَ ذِكْرِ جَزَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَأَحْكَامِهِمْ، فَنَاسَبَ تَقْدِيرَ سِيبَوَيْهِ. وَجِيءَ بِالْفَاءِ رَابِطَةً الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ بِالْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ جَاءَتْ مُوَضِّحَةً لِلْحُكْمِ الْمُبْهَمِ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: فَإِنْ قَالَ- يَعْنِي سِيبَوَيْهِ- الْفَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، يَعْنِي: أَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالسَّرِقَةِ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَنَقُولُ: إِذَا احْتَجْتَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ أَنْ تَقُولَ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ تَقْدِيرُهُ مَنْ سَرَقَ، فَاذْكُرْ هَذَا أَوَّلًا حَتَّى لَا يُحْتَاجَ إِلَى الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ. (قُلْتُ) : هَذَا لَا يَقُولُهُ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْفَاءِ وَفَائِدَتَهَا.

قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الرَّابِعُ: يَعْنِي مِنْ وُجُوهِ فَسَادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ إِذَا اخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ، لَمْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ. وَإِذَا اخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ أَفَادَتِ الْآيَةُ هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ: جَزَاءً بِمَا كَسَبَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ أَوْلَى. (قُلْتُ) : هَذَا عَجِيبٌ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، يَزْعُمُ أَنَّ النَّصْبَ لَا يُشْعِرُ بِالْعِلَّةِ الموجبة للقطع

(1) سورة النساء: 4/ 16.

(2)

سورة النساء: 4/ 15.

ص: 250

وَيُفِيدُهَا الرَّفْعُ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْحُكْمُ؟ فَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ لَوْ قُلْتَ: السَّارِقُ لِيُقْطَعَ، أَوِ اقْطَعِ السَّارِقَ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيلُ. وَكَذَلِكَ الزَّانِي لِيُجْلَدْ، أَوِ اجْلِدِ الزَّانِيَ. ثُمَّ قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ: جَزَاءً بِمَا كَسَبَا، وَالنَّصْبُ أَيْضًا يَحْسُنُ أَنَّ يُؤَكَّدَ بِمِثْلِ هَذَا، لَوْ قُلْتَ: اقْطَعِ اللِّصَّ جَزَاءً بِمَا كَسَبَ صَحَّ.

وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الْخَامِسُ: يَعْنِي مِنْ وُجُوهِ فَسَادِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ:

وَهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ. وَالَّذِي هُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى: فَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ تَقْتَضِي ذِكْرَ كَوْنِهِ سَارِقًا عَلَى ذِكْرِ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْعِنَايَةِ مَصْرُوفًا إِلَى شَرْحِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ السَّارِقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَارِقٌ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعِنَايَةُ بِبَيَانِ الْقَطْعِ أَتَمَّ مِنَ الْعِنَايَةِ بِكَوْنِهِ سَارِقًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ تَقْبِيحِ السَّرِقَةِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ هِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ قَطْعًا. (قُلْتُ) :

الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ الَّذِي بَيَانُهُ أَهَمُّ لَهُمْ، وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى هُوَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ نِسْبَةُ الْإِسْنَادِ كَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: فَإِنْ قَدَّمْتَ الْمَفْعُولَ وَأَخَّرْتَ الْفَاعِلَ جَرَى اللَّفْظُ كَمَا جَرَى فِي الْأَوَّلِ يَعْنِي: فِي ضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ زَيْدًا قَالَ: وَذَلِكَ ضَرَبَ زَيْدًا عَبْدُ اللَّهِ، لِأَنَّكَ إِنَّمَا أَرَدْتَ بِهِ مُؤَخَّرًا مَا أَرَدْتَ بِهِ مُقَدَّمًا، وَلَمْ تُرِدْ أَنْ تُشْغِلَ الْفِعْلَ بِأَوَّلَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي اللَّفْظِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ حَدُّ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُقَدَّمًا، وَهُوَ عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ كَثِيرٌ كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الَّذِي بَيَانُهُ لَهُمْ أَهَمُّ، وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى: وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا يُهِمَّانِهِمْ وَيَعْنِيَانِهِمْ انْتَهَى.

وَالرَّازِيُّ حَرَّفَ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ وَأَخَذَهُ حَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَافُ نِسْبَةٍ وَهُوَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، لِأَنَّ الْمُخَاطِبَ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي ذِكْرِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الضَّرْبُ فَيُقَدِّمُ الْفَاعِلَ، أَوْ فِي ذِكْرِ مَنْ حَلَّ بِهِ الضَّرْبُ فَيُقَدِّمُ الْمَفْعُولَ، لِأَنَّ نِسْبَةَ الضَّرْبِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِمَا. وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ مِنْ بَابِ مَا النِّسْبَةُ فِيهِ لَا تَخْتَلِفُ، إِنَّمَا هِيَ الْحُكْمُ عَلَى السَّارِقِ بِقَطْعِ يَدِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ لَا يَتَفَرَّعُ عَلَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ بِوَجْهٍ، وَالْعَجَبُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَتَجَاسُرِهِ عَلَى الْعُلُومِ حَتَّى صَنَّفَ فِي النَّحْوِ كِتَابًا سَمَّاهُ الْمُحَرَّرَ، وَسَلَكَ فِيهِ طَرِيقَةً غَرِيبَةً بَعِيدَةً مِنْ مُصْطَلَحِ أَهْلِ النَّحْوِ وَمِنْ مَقَاصِدِهِمْ، وَهُوَ كِتَابٌ لَطِيفٌ مُحْتَوٍ عَلَى بَعْضِ أَبْوَابِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا أَبَا جَعْفَرِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَذْكُرُ هَذَا التَّصْنِيفَ

ص: 251

وَيَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى مُصْطَلَحِ الْقَوْمِ، وَإِنَّ مَا سَلَكَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّخْلِيطِ فِي الْعُلُومِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ فَنٌّ ظَهَرَ فِيمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْفَنِّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ بِدِيَارِ مِصْرَ رَأَيْتُ مَا كَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرٍ يَذُمُّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَيَسْتَزِلُّ عَقْلَ فَخْرِ الدِّينِ فِي كَوْنِهِ صَنَّفَ فِي عِلْمٍ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ يَقُولُ: لِكُلِّ عِلْمٍ حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتَ مُتَكَلِّمًا فِي فَنٍّ مَا وَمَزَجَهُ بِغَيْرِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْلِيطِهِ وَتَخْبِيطِ ذِهْنِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِلَّةِ مَحْصُولِهِ وَقُصُورِهِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ، فَتَجِدُهُ يَسْتَرِيحُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا يَعْرِفُهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ فِي إِعْرَابِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مَا نَصُّهُ:

وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَرْتَفِعَا بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وَدُخُولُ الْفَاءِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَالَّذِي سَرَقَ وَالَّتِي سَرَقَتْ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وَالِاسْمُ الْمَوْصُولُ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالنَّصْبِ، وَفَضَّلَهَا سِيبَوَيْهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ لِأَجْلِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ أَحْسَنُ مِنْ زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي أَجَازَهُ وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ لَمْ يُوصَلْ بِجُمْلَةٍ تَصْلُحُ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، وَلَا بِمَا قَامَ مَقَامَهَا مِنْ ظَرْفٍ أَوْ مَجْرُورٍ، بَلِ الْمَوْصُولُ هُنَا أَلْ وَصِلَةُ، أَلْ لَا تَصْلُحُ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، وَقَدِ امْتَزَجَ الْمَوْصُولُ بِصِلَتِهِ حَتَّى صَارَ الْإِعْرَابُ فِي الصِّلَةِ بِخِلَافِ الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ، فَإِنَّ الْعَامِلَ فِيهِمَا جُمْلَةٌ لَا تَصْلُحُ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي قِرَاءَةِ عِيسَى، إِنْ سِيبَوَيْهِ فَضَّلَهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الَّذِي ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمَا تَرْكِيبَانِ: أَحَدُهُمَا زَيْدًا اضْرِبْهُ، وَالثَّانِي زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ. فَالتَّرْكِيبُ الْأَوَّلُ اخْتَارَ فِيهِ النَّصْبَ، ثُمَّ جَوَّزُوا الرَّفْعَ بِالِابْتِدَاءِ. وَالتَّرْكِيبُ الثَّانِي مَنَعَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْأَمْرِيَّةُ خَبَرًا لَهُ لِأَجْلِ الْفَاءِ. وَأَجَازَ نَصْبَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَوْ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ رَفْعُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ جُمْلَتَانِ، وَيَكُونَ زَيْدٌ خبر مبتدأ محذوف أي: هَذَا زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْآيَةَ فَخَرَّجَهَا عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ، وَدَلَّ كَلَامُهُ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ هُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى جُمْلَتَيْنِ: الْأُولَى ابْتِدَائِيَّةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ قِرَاءَةَ نَاسٍ بِالنَّصْبِ وَلَمْ يُرَجِّحْهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، إِنَّمَا قَالَ: وَهِيَ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنَ الْقُوَّةِ أَيْ: نَصَبَهَا عَلَى الِاشْتِغَالِ أَوِ الْإِغْرَاءِ، وَهُوَ قَوِيٌّ لَا ضَعِيفٌ، وَقَدْ مَنَعَ سِيبَوَيْهِ رَفْعَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ الْأَمْرِيَّةُ خَبَرٌ لِأَجْلِ الْفَاءِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا التَّرْجِيحَ بَيْنَ رَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ، أَوْ خَبَرٌ حُذِفَ مُبْتَدَؤُهُ، وَبَيَّنَ نَصْبَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَنَّ الرَّفْعَ يَلْزَمُ فِيهِ حَذْفُ خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَالنَّصْبُ يَلْزَمُ فِيهِ حَذْفُ جُمْلَةٍ وَإِضْمَارُ أُخْرَى، وَزَحْلَقَةُ الْفَاءِ عَنْ

ص: 252

مَوْضِعِهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حِرْزٌ لِلْمَسْرُوقِ، وَبِهِ قَالَ: دَاوُدُ، وَالْخَوَارِجُ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الْقَطْعِ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْحِرْزِ، وَلَوْ جَمَعَ الثِّيَابَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يُخْرِجْهَا لَمْ يُقْطَعْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُقْطَعُ. وَالظَّاهِرُ انْدِرَاجُ كُلِّ مَنْ يُسَمَّى سَارِقًا فِي عُمُومِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ لَا يُقْطَعُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ الِابْنُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ كَانَا يَنْهَيَانِهِ عَنِ الدُّخُولِ قُطِعَ، وَلَا يُقْطَعُ ذَوُو الْمَحَارِمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا الْأَجْدَادُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَالْأُمِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ أَشْهَبَ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ كُلُّ سَارِقٍ سَرَقَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، إِلَّا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ فَيُسَلَّمُ لِلْإِجْمَاعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْطَعُ الْمَرْأَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا، وَلَا هُوَ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ زَوْجَتِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعَانِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ مَرَّةً بِسَرِقَةٍ قُطِعَ، وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يُقْطَعُ حَتَّى يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْطَعُ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا. وَالظَّاهِرُ قَطْعُ الطَّيَّارِ نِصَابًا وَبِهِ قَالَ: مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ: وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةً فِي كُمِّهِ لَمْ يُقْطَعْ، أَوْ فِي دَاخِلِهِ قُطِعَ. وَاخْتُلِفَ فِي النَّبَّاشِ إِذَا أَخَذَ الْكَفَنَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يُقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَكْحُولٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَجْمَعَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي زَمَنٍ كَانَ مَرْوَانُ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ أَنَّ النَّبَّاشَ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْطَعُ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ مُتَوَافِرِينَ يَوْمَئِذٍ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَسْرُوقٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ السَّرِقَةَ فِي الْعَيْنِ بَعْدَ الْقَطْعِ فِيهَا لَمْ يُقْطَعْ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ، وَأَنَّهُ إِذَا سَرَقَ نِصَابًا مِنْ سَارِقٍ لَا يُقْطَعُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وقال مالك: يقطع وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا «1» الرَّسُولُ أَوْ وُلَاةُ الْأَمْرِ كَالسُّلْطَانِ، وَمَنْ أُذِنَ لَهُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ، أَوِ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، لِيَكُونُوا

(1) سورة المائدة: 5/ 38.

ص: 253

مُتَظَافِرِينَ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وَفَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ إِمَامٌ أَوْ نَائِبٌ لَهُ فَالْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفِيهَا حَاكِمٌ فَالْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِلَى عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إِذْ ذَاكَ، إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا أَنَّهُ يُقْطَعُ مِنَ السَّارِقِ الثِّنْتَانِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا يُقْطَعُ مِنَ السَّارِقِ يُمْنَاهُ، وَمِنَ السَّارِقَةِ يُمْنَاهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْدِيَهُمَا يَدَيْهِمَا وَنَحْوُهُ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» اكْتَفَى بِتَثْنِيَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَنْ تَثْنِيَةِ الْمُضَافِ، وَأُرِيدَ بِالْيَدَيْنِ الْيَمِينَانِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: والسارقون والسارقات فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ انْتَهَى. وَسَوَّى بَيْنَ أَيْدِيَهُمَا وَقُلُوبُكُمَا وَلَيْسَا بِشَيْئَيْنِ، لِأَنَّ بَابَ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا يَطَّرِدُ فِيهِ وَضْعُ الْجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، وَهُوَ مَا كَانَ اثْنَيْنِ مِنْ شَيْئَيْنِ كَالْقَلْبِ وَالْأَنْفِ وَالْوَجْهِ وَالظَّهْرِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهُمَا اثْنَانِ كَالْيَدَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْفَخِذَيْنِ فَإِنَّ وَضْعَ الْجَمْعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ لَا يَطَّرِدُ، وَإِنَّمَا يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الذِّهْنَ إِنَّمَا يَتَبَادَرُ إِذَا أُطْلِقَ الْجَمْعُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ، فَلَوْ قِيلَ: قُطِعَتْ آذَانُ الزَّيْدَيْنِ، فَظَاهِرُهُ قَطْعُ أَرْبَعَةِ الْآذَانِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَدْلُولِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَمَعَ الْأَيْدِي مِنْ حَيْثُ كَانَ لِكُلِّ سَارِقٍ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْمُعَرَّضَةُ لِلْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَلِلسُّرَّاقِ أَيْدٍ، وَلِلسَّارِقَاتِ أَيْدٍ، كَأَنَّهُ قَالَ:

اقْطَعُوا أَيْمَانَ النَّوْعَيْنِ، فَالتَّثْنِيَةُ لِلضَّمِيرِ إِنَّمَا هِيَ لِلنَّوْعَيْنِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَيْدِيَهُمَا، أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ الرِّجْلُ، فَإِذَا سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنْ سق عُزِّرَ وَحُبِسَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ، وَبِهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَحْمَدُ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ عُزِّرَ وَحُبِسَ. وَرَوَى عَطَاءٌ: لَا تُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ إِلَّا الْيَدُ الْيُمْنَى فَقَطْ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ عُزِّرَ وَحُبِسَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا سَرَقَ أَوَّلًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ فِي الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ فِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ فِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ. قِيلَ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ. وَظَاهِرُ قَطْعِ الْيَدِ أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْمَنْكِبِ مِنَ الْمِفْصَلِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ فِي الْيَدِ مِنَ الْأَصَابِعِ، وَفِي الرِّجْلِ مِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ وَهُوَ معقد الشرك.

وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ: رَأَيْتُ الَّذِي قَطَعَهُ عَلِيٌّ مَقْطُوعًا مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ قَطَعَكَ؟ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى السَّرِقَةِ هُوَ قَطْعُ الْيَدِ فَقَطْ. فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ، وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ

(1) سورة التحريم: 66/ 4.

ص: 254