الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ بِمَا عَهِدَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْفُوا وَأَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ بِمَا عَهِدْتُمُ اللَّهَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَهْدُ بَيْنَ الْإِنْسَانَيْنِ وَتَكُونُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ أَمَرَ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ بِعَهْدِهِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَشْمَلُ مَا عَهِدَهُ إِلَى الْخَلْقِ وَأَوْصَاهُمْ بِهِ وَعَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَذْرٍ وَغَيْرِهِ.
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
وَلَمَّا كَانَتِ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ وَجَبَ تَعَلُّقُهَا وَتَفَهُّمُهَا فَخُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالذِّكْرِ الْكَثِيرِ حَتَّى يَقِفَ عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِدَالِ خُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَالْأَخَوَانِ تَذَكَّرُونَ
حَيْثُ وَقَعَ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ حُذِفَتِ التَّاءُ إِذْ أَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، وَفِي الْمَحْذُوفِ خِلَافٌ أَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ أَوْ تَاءُ تَفَعَّلَ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ تَذَكَّرُونَ
بِتَشْدِيدِهِ أُدْغِمَ تَاءُ تَفْعَلُ فِي الذال.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 153 الى 165]
وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَاّ مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162)
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ قَرَأَ الْأَخَوَانِ وَأَنَّ هَذَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، فَاتَّبِعُوهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَخَفَّفَ ابْنُ عَامِرٍ النُّونَ وَشَدَّدَهَا الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وإن كقراءة ابن عمر، فَأَمَّا تَخْفِيفُ النُّونِ فَعَلَى أَنَّهُ حُذِفَ اسْمُ إِنَّ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَخَرَجَتْ قِرَاءَةُ فَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا حُذِفَ مِنْهَا اللَّامُ تَقْدِيرُهُ وَلِأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ كَقَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً «1» وَقَدْ صَرَّحَ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ لْيَعْبُدُوا
«2» . قَالَ الْفَارِسِيَّ: قِيَاسُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ فِي فَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً بِمَنْزِلَتِهَا فِي زَيْدٌ فَقَامَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا أَيْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ نَفْيَ الْإِشْرَاكِ وَالتَّوْحِيدَ وَأَتْلُ عَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ في أَلَّا تُشْرِكُوا مَصْدَرِيَّةٌ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ هَكَذَا قَرَّرُوا هَذَا الْوَجْهَ فَجَعَلُوهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْبَدَلِ مِمَّا حَرَّمَ وَهُوَ أَنْ لَا تُشْرِكُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ أَيْ أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَ وَأَتْلُ أَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً وَهُوَ تَخْرِيجٌ سَائِغٌ فِي الْكَلَامِ، وَعَلَى هَذَا فَالصِّرَاطُ مُضَافٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَصِرَاطُهُ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي بِهِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَيْ وَصَّاكُمْ بِهِ وبأن
(1) سورة الجن: 72/ 18.
(2)
سورة قريش: 106/ 1- 3.
حُذِفَتِ الْبَاءُ لِطُولِ أَنَّ بِالصِّلَةِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَهِيَ مُرَادَّةٌ وَلَا يَكُونُ فِي هَذَا عَطْفُ مُظْهَرٍ عَلَى مُضْمَرٍ لِإِرَادَتِهَا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هَذَا فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: عَطَفَ الْمُظْهَرَ عَلَى الْمُضْمَرِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى وَصَّاكُمْ بِاسْتِقَامَةِ الصِّرَاطِ. وقرأ الأعمش:
وهذا صِراطِي وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمَّا فَصَلَ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلُ أَجْمَلَ فِي هَذِهِ إِجْمَالًا يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ وَجَمِيعُ شَرِيعَتِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا فِي التَّوْحِيدِ وَأَدِلَّةِ النُّبُوَّةِ وَإِثْبَاتِ الدِّينِ وَإِلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْقَبَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنَّهَا الْمُحْكَمَاتُ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ.
فَاتَّبِعُوهُ أَمْرٌ بِاتِّبَاعِهِ كُلِّهِ وَالْمَعْنَى: فَاعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ وَإِبَاحَةٍ.
وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الضَّلَالَاتُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ وَالشُّبَهَاتُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ. وَقِيلَ: سُبُلُ الْكُفْرِ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَمَا يَجْرِي مُجْرَاهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ
وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا خَطًّا ثُمَّ قَالَ:
«هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهَا» . ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَعَنْ جَابِرٍ نَحْوٌ مِنْهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ
وَانْتَصَبَ فَتَفَرَّقَ لِأَجْلِ النَّهْيِ جَوَابًا لَهُ أَيْ فَتَفَرَّقَ فَحَذَفَ التَّاءَ. وَقُرِئَ فَتَفَرَّقَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ.
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ كَرَّرَ التَّوْصِيَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَلَمَّا كَانَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْجَامِعَ لِلتَّكَالِيفِ وَأَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ وَنَهَى عَنْ بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ خَتَمَ ذَلِكَ بِالتَّقْوَى الَّتِي هي اتقاد النَّارِ، إِذْ مَنِ اتَّبَعَ صِرَاطَهُ نَجَّاهُ النَّجَاةَ الْأَبَدِيَّةَ وَحَصَلَ عَلَى السَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ.
قال ابن عطية: ومن حَيْثُ كَانَتِ الْمُحَرَّمَاتُ الْأُوَلُ لَا يَقَعُ فِيهَا عَاقِلٌ قَدْ نَظَرَ بِعَقْلِهِ جَاءَتِ الْعِبَادَةُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَالْمُحَرَّمَاتُ الْأُخَرُ شَهَوَاتٌ وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَرُكُوبُ الْجَادَّةِ الْكَامِلَةِ تَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْفَضَائِلِ وَتِلْكَ دَرَجَةُ التَّقْوَى.
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ تَقْتَضِي الْمُهْلَةَ فِي الزَّمَانِ هَذَا أَصْلُ وَضْعِهَا ثُمَّ تَأْتِي لِلْمُهْلَةِ فِي الْإِخْبَارِ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَتْلُ تَقْدِيرُهُ أَتْلُ مَا حَرَّمَ ثُمَّ أَتْلُ آتَيْنا. وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْ عَلَى إِضْمَارِ قل أي ثم قال آتَيْنا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ
ثُمَّ إِنِّي أُخْبِرُكُمْ أَنَّا آتَيْنَا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: رَتَّبَتْ ثُمَّ التِّلَاوَةَ أَيْ تَلَوْنَا عَلَيْكُمْ قِصَّةَ مُحَمَّدٍ ثُمَّ نَتْلُو عَلَيْكُمْ قِصَّةَ مُوسَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَهَّلَتْهَا فِي تَرْتِيبِ الْقَوْلُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ مِمَّا وَصَّيْنَا أَنَّا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَيَدْعُو إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمَانِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ثُمَّ كُنَّا قَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قَبْلَ إِنْزَالِنَا الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَطْفٌ عَلَى وَصَّاكُمْ بِهِ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ صَحَّ عَطْفُهُ عَلَيْهِ بِثُمَّ وَالْإِيتَاءُ قَبْلَ التَّوْصِيَةِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ؟ (قُلْتُ) : هَذِهِ التَّوْصِيَةُ قَدِيمَةٌ لَمْ تَزَلْ تَوَاصَاهَا كُلُّ أُمَّةٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُحْكَمَاتٌ لَمْ يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ مِنْ جَمِيعِ الْكُتُبِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ يَا بَنِي آدَمَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ثُمَّ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَأَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ الْمُبَارَكَ؟ وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ شَطْرِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ «1» انْتَهَى. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُذْهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ لِلْعَطْفِ كَالْوَاوِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُهْلَةٍ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بعض النحاة والْكِتابَ هُنَا التَّوْرَاةُ بِلَا خِلَافٍ وَانْتَصَبَ تَمَامًا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ أَتْمَمْنَاهُ تَماماً مَصْدَرٌ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ أَوْ عَلَى الْحَالِ إِمَّا مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَكُلٌّ قَدْ قِيلَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى تَماماً أَيْ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ نُفَرِّقْ إِنْزَالَهُ كَمَا فَرَّقْنَا إِنْزَالَ الْقُرْآنِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. والَّذِي أَحْسَنَ جِنْسٌ أَيْ عَلَى مَنْ كَانَ مُحْسِنًا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْ إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِي أَحْسَنَ مَخْصُوصٌ. فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِبْرَاهِيمُ كَانَتْ نُبُوَّةُ مُوسَى نِعْمَةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِهِ وَالْإِحْسَانُ لِلْأَبْنَاءِ إِحْسَانٌ لِلْآبَاءِ. وَقِيلَ: مُوسَى عليه السلام تَتِمَّةً لِلْكَرَامَةِ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَحْسَنَ الطَّاعَةَ فِي التَّبْلِيغِ وَفِي كُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالَّذِي فِي هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَاقِعَةٌ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ وَكُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ تَماماً عَلَى مَا كَانَ أَحْسَنَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُحْسِنُ كَذَا أَيْ يَعْلَمُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ أَحْسَنَ الشَّيْءَ إِذَا أَجَادَ مَعْرِفَتَهُ أَيْ زِيَادَةً عَلَى عِلْمِهِ عَلَى وَجْهِ التَّتْمِيمِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى مَا أَحْسَنَ هُوَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَالِاضْطِلَاعِ بِأُمُورِ نُبُوَّتِهِ يُرِيدُ مُوسَى عليه السلام هَذَا تَأْوِيلُ الرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ انْتَهَى.
وَالَّذِي فِي هَذَا التَّأْوِيلِ وَاقِعَةُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ. وَقِيلَ: الَّذِي مَصْدَرِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلٌ كُوفِيٌّ وَفِي
(1) سورة الأنبياء: 21/ 72.
أَحْسَنَ ضَمِيرُ مُوسَى أَيْ تَمَامًا عَلَى إِحْسَانِ مُوسَى بِطَاعَتِنَا وَقِيَامِهِ بِأَمْرِنَا وَنَهْيِنَا، وَيَكُونُ فِي عَلَى إِشْعَارٌ بِالْعِلْيَةِ كَمَا تَقُولُ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ عَلَى إِحْسَانِكَ إِلَيَّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَحْسَنَ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَمُتَعَلَّقُ الْإِحْسَانِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ أَوْ إِلَى مُوسَى قَوْلَانِ:
وَأَحْسَنُ مَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا فِعْلٌ. وَقَالَ بَعْضُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ اسْمًا وَهُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَهُوَ مَجْرُورٌ صِفَةٌ لِلَّذِي وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً مِنْ حَيْثُ قَارَبَ الْمَعْرِفَةَ إِذْ لَا يَدْخُلُهُ أَلْ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرَرْتُ بِالَّذِي خَيْرٌ مِنْكَ، وَلَا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِالَّذِي عَالِمٌ انْتَهَى. وَهَذَا سَائِغٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ خَطَأٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ مَعْمَرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَحْسَنَ بِرَفْعِ النُّونِ وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ أحسن وأَحْسَنَ خبر صلة كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً «1» أَيْ تَمَامًا عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ دِينٍ وَأَرْضَاهُ أَوْ تَامًّا كَامِلًا عَلَى أَحْسَنِ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْكُتُبُ، أَيْ عَلَى الْوَجْهِ وَالطَّرِيقِ الَّذِي هو أحسن وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ: أَتَمَّ لَهُ الْكِتَابَ عَلَى أَحْسَنِهِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: الَّذِي هُنَا بِمَعْنَى الْجَمْعِ وَأَحْسَنَ صِلَةُ فِعْلٍ مَاضٍ حُذِفَ مِنْهُ الضَّمِيرُ وَهُوَ الْوَاوُ فَبَقِيَ أَحْسَنَ أَيْ عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا، وَحَذْفُ هَذَا الضَّمِيرِ وَالِاجْتِزَاءُ بِالضَّمَّةِ تَفْعَلُهُ الْعَرَبُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ أَنَّ الْأَطِبَّاءَ كَانَ حَوْلِي وقال آخر:
إذا شاؤوا أَضَرُّوا مَنْ أَرَادُوا
…
وَلَا يَأْلُوهُمُ أَحَدٌ ضِرَارًا
وَقَالَ آخَرُ:
شَبُّوا عَلَى الْمَجْدِ شابوا وَاكْتَهَلَ يُرِيدُ وَاكْتَهَلُوا فَحَذَفَ الْوَاوَ ثُمَّ حَذَفَ الضَّمِيرَ لِلْوَقْفِ انْتَهَى. وَهَذَا خَصَّهُ أَصْحَابُنَا بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُحْمَلُ كِتَابُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أَيْ لَعَلَّهُمْ بِالْبَعْثِ يُؤْمِنُونَ، فَالْإِيمَانُ بِهِ هُوَ نِهَايَةُ التَّصْدِيقِ إِذْ لَا يَجِبُ بِالْعَقْلِ لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وَأَوْجَبَهُ السَّمْعُ وَانْتِصَابُ تَفْصِيلًا وَمَا بَعْدَهُ كَانْتِصَابِ تَماماً.
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وأَنْزَلْناهُ ومُبارَكٌ صفتان لكتاب أَوْ خَبَرَانِ عَنْ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ وَكَانَ الْوَصْفُ بِالْإِنْزَالِ آكَدَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْبَرَكَةِ
(1) سورة البقرة: 2/ 26.
فَقُدِّمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ مَنْ يُنْكِرُ رِسَالَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَيُنْكِرُ إِنْزَالَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَكَوْنَهُ مُبَارَكًا عَلَيْهِمْ هُوَ وَصْفٌ حَاصِلٌ لَهُمْ مِنْهُ مُتَرَاخٍ عَنِ الْإِنْزَالِ فَلِذَلِكَ تَأَخَّرَ الْوَصْفُ بِالْبَرَكَةِ، وَتَقَدَّمَ الْوَصْفُ بِالْإِنْزَالِ وَكَانَ الْوَصْفُ بِالْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ أَوْلَى مِنَ الْوَصْفِ بِالِاسْمِ لِمَا يَدُلُّ الْإِسْنَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنِ التَّعْظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الِاسْمِ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ مُنَزَّلٌ أَوْ مُنَزَّلٌ مِنَّا وَبِرْكَةُ الْقُرْآنِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفْعِ وَالنَّمَاءِ بِجَمْعِ كَلِمَةِ الْعَرَبِ بِهِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ وَالْإِعْلَامِ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْأُجُورِ التَّالِيَةِ وَالشِّفَاءِ مِنَ الْأَدْوَاءِ.
وَالشَّفَاعَةِ لِقَارِئِهِ وَعَدِّهِ مِنْ أَهْلِ اللَّهِ وَكَوْنِهِ مَعَ الْمُكْرَمِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَرَكَاتِ الَّتِي لَا تُحْصَى، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَالِانْتِهَاءُ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُشْكِلَاتِ، وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّقْوَى الْعَامَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَقِيلَ وَاتَّقُوا مخالفته لرجاء الله الرَّحْمَةِ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: اتَّقُوا غَيْرَهُ فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ فِي الْكَلَامِ إِشَارَةٌ وَهُوَ وَصْفُ اللَّهِ التَّوْرَاةَ بِالتَّمَامِ وَالتَّمَامُ يُؤْذِنُ بِالِانْصِرَامِ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا تَمَّ أَمَرٌ بَدَا نَقْصُهُ
…
تَوَقَّعْ زَوَالًا إِذَا قِيلَ تَمَّ
فَنَسَخَهَا اللَّهُ بِالْقُرْآنِ وَدَيَّنَهَا بِالْإِسْلَامِ وَوَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَالْمُبَارَكُ هُوَ الثَّابِتُ الدَّائِمُ فِي ازْدِيَادٍ وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِبَقَائِهِ وَدَوَامِهِ.
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَنْ تَقُولُوا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ فَقَدَّرَهُ الْكُوفِيُّونَ لِئَلَّا تَقُولُوا وَلِأَجْلِ أَنْ لَا تَقُولُوا وَقَدَّرَهُ الْبَصْرِيُّونَ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا وَالْعَامِلُ فِي كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ أَنْزَلْناهُ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ قَبْلُ أَنْزَلْناهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ أَنْزَلْناهُ هَذِهِ الملفوظة بِهَا لِلْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مُبارَكٌ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ لكتاب أَوْ خَبَرٌ عَنْ هَذَا فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ أَنْزَلْناهُ الْمَلْفُوظُ بِهَا. وَقِيلَ: أَنْ تَقُولُوا مَفْعُولٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ وَاتَّقُوا أَيْ وَاتَّقُوا أَنْ تَقُولُوا لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِيهِ وَالْكِتَابُ هُنَا جِنْسٌ وَالطَّائِفَتَانِ هُمَا أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِلَا خِلَافٌ، وَالْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِإِثْبَاتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ لِئَلَّا يَحْتَجُّوا هُمْ وَكُفَّارُ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَذَا الْقُرْآنُ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ أُنْزِلَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا: إِنَّمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِغَيْرِ لِسَانِنَا عَلَى غَيْرِنَا وَنَحْنُ لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ فَهَذَا كِتَابٌ بِلِسَانِكُمْ مَعَ رَجُلٍ مِنْكُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَنْ يَقُولُوا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَيَعْنِيَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْمَعْنَى إِنَّمَا ظَهَرَ نُزُولُ الْكِتَابِ عِنْدَ الْخَلْقِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَلَمْ يَكُونُوا وَقْتَ نُزُلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَهُودًا وَلَا نَصَارَى، وَإِنَّمَا حَدَثَ لَهُمَا هَذَانِ الِاسْمَانِ لِمَا حَدَثَ مِنْهُمَا ودِراسَتِهِمْ قِرَاءَتُهُمْ وَدَرْسُهُمْ وَالْمَعْنَى عَنْ مِثْلِ دِراسَتِهِمْ وَأَعَادَ الضَّمِيرَ جَمْعًا لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ جَمْعٌ كَمَا أَعَادَهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «1» وَإِنْ هُنَا هِيَ الْمُخَفِّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِنْ نَافِيَةً وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا وَالتَّقْدِيرُ وَمَا كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ إِلَّا غَافِلِينَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنْ بِمَعْنَى قَدْ وَاللَّامُ زَائِدَةٌ وَلَيْسَ هَذَا الْخِلَافُ مَقْصُورًا عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ هُوَ جَارٍ فِي شَخْصِيَّاتِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَتَقْرِيرُهُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ كُنَّا هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ وَالْأَصْلُ وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ غَافِلِينَ عَلَى أَنَّ الْهَاءَ ضَمِيرٌ انْتَهَى.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ وَإِنْ كُنَّا وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ إِنِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ عَامِلَةٌ فِي مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ حَالَةَ التَّخْفِيفِ كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَنَّ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ عَامِلَةٌ فِي مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ حَالَةَ التَّخْفِيفِ كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَنَّ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَالَّذِي نَصَّ النَّاسُ عَلَيْهِ أَنَّ إِنِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ إِذَا لَزِمَتِ اللام في أحد الجزأين بَعْدَهَا أَوْ فِي أَحَدِ مَعْمُولَيِ الْفِعْلِ النَّاسِخِ الَّذِي يَلِيهَا، أَنَّهَا مُهْمِلَةٌ لَا تَعْمَلُ فِي ظَاهِرٍ وَلَا مُضْمَرَ لَا مُثْبَتَ وَلَا مَحْذُوفَ فَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ وَلَيْسَتْ إِذَا وَلِيَهَا النَّاسِخُ دَاخِلَةٌ فِي الْأَصْلِ عَلَى ضَمِيرِ شأن البتة.
وعَنْ دِراسَتِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَغافِلِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَّا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَ إِلَّا فِيمَا قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ اللَّامُ الَّتِي بِمَعْنَاهَا وَلَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا عَنْهَا مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ ابْتِدَاءٍ لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ، فَجَازَ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعْمُولُهَا عَلَيْهَا لَمَّا وَقَعَتْ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهَا أَصْلٌ كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي إِنْ زَيْدًا طَعَامَكَ لَآكِلٌ حَيْثُ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهَا أَصْلٌ وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِيهَا إِذَا وَقَعَتْ فِيمَا هُوَ لَهَا أَصْلٌ وَهُوَ دُخُولُهَا عَلَى الْمُبْتَدَأِ.
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ انْتِقَالٌ مِنَ الْإِخْبَارِ لِحَصْرِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ إِلَى الْإِخْبَارِ بِحُكْمٍ عَلَى تَقْدِيرٍ وَالْكِتَابُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكِتَابُ السَّابِقُ ذِكْرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْكِتَابُ الَّذِي تَمَنَّوْا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَمَعْنَى أَهْدى مِنْهُمْ أَرْشَدَ وَأَسْرَعَ اهْتِدَاءً لِكَوْنِهِ نَزَلَ عَلَيْنَا بِلِسَانِنَا فَنَحْنُ نَتَفَهَّمُهُ وَنَتَدَبَّرُهُ وندرك ما
(1) سورة الحجرات: 49/ 9.
تَضَمَّنَهُ مِنْ غَيْرِ إِكْدَادِ فِكْرٍ وَلَا تَعَلُّمِ لِسَانٍ بِخِلَافِ الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَإِنَّهُ بِغَيْرِ لِسَانِنَا فَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ وَلَا نَغْفُلُ عَنْ دِرَاسَتِهِ أَوْ أَهْدى مِنْهُمْ لِكَوْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدِ افْتَرَقَتْ فِرَقًا مُتَبَايِنَةً فَلَا نَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ.
فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ هَذَا قَطْعٌ لِاعْتِذَارِهِمْ بِانْحِصَارِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ وَبِكَوْنِهِمْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ، وَلَوْ نَزَلَ لَكَانُوا أَهْدَى مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ النَّيِّرَةُ حَيْثُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِهِمْ وَأَلْزَمَ الْعَالَمَ أَحْكَامَهُ وَشَرِيعَتَهُ وَإِنَّ الْهُدَى وَالنُّورَ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَةُ الرَّسُولُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ حُجَّةٌ وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ. وَقِيلَ: آيَاتُ اللَّهِ الَّتِي أَظْهَرَهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَقِيلَ: دِينُ اللَّهِ وَالْهُدَى وَالنُّورُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ صِفَاتِ مَا فُسِّرَتِ الْبَيِّنَةُ بِهِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَكُمْ عَلَى مَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ. قَالَ الزمخشري: والمعنى أن صَدَقْتُمْ فِيمَا كُنْتُمْ تَعُدُّونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَحُذِفَ الشَّرْطُ وَهُوَ مِنْ أَحَاسِنِ الْحُذُوفِ انْتَهَى. وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابٌ تَكُونُونَ أَهْدَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَقَدْ جاءَكُمْ وَأَطْبَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَطْعُ احْتِجَاجِهِمْ.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها أَيْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَشَدَّ ظُلْمًا مِنَ الْمُكَذِّبِ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ النَّيِّرِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ والمعرض عنه بعد ما لَاحَتْ لَهُ صِحَّتُهُ وَصِدْقُهُ وَعَرَفَهُ أَوْ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَتَأَخَّرَ الْإِعْرَاضُ لِأَنَّهُ نَاشِئٌ عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَظُهُورِهِ. وَقِيلَ: قَبْلَ الْفَاءِ شَرْطٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَإِنْ كَذَّبْتُمْ فَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْكُمْ وَآيَاتُ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْقُرْآنُ وَالرَّسُولُ وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ، وَصَدَفَ لَازِمٌ بِمَعْنَى أَعْرَضَ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَمُتَعَدٍّ أَيْ صَدَفَ عَنْهَا غَيْرَهُ بِمَعْنَى صَدَّهُ وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ حَيْثُ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَجَعَلَ غَيْرَهُ يُعْرِضُ عَنْهَا وَيُكَذِّبُ بِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ مِمَّنْ كَذَّبَ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ.
سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ عَلَّقَ الْجَزَاءَ عَلَى الصُّدُوفِ لِأَنَّهُ هُوَ نَاشِئٌ عن التكذيب، وسُوءَ الْعَذابِ شَدِيدَهُ كَقَوْلِهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ
«1» وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ يَصْدِفُونَ بِضَمِّ الدَّالِ.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الضَّمِيرُ فِي يَنْظُرُونَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ وَهُمُ الْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمْ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ مَضَى أَكْثَرُ السُّورَةِ فِي جِدَالِهِمْ أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ إِلَى قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَعْذِيبِهَا وَهُوَ وَقْتٌ لَا تَنْفَعُ فِيهِ تَوْبَتُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ يَنْصَرِفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «2» أَيْ رُسُلًا مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ كَمَا تَمَنَّوْا، أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ فِيهِمْ بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ بِلَا أَيْنَ وَلَا كَيْفَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَوْ يَأْتِيَ إِهْلَاكُ رَبِّكَ إِيَّاهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى كُلِّ تَأْوِيلٍ فَإِنَّمَا هُوَ بِحَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ أَمْرُ رَبِّكَ وَبَطْشُ وَحِسَابُ رَبِّكَ، وَإِلَّا فَالْإِتْيَانُ الْمَفْهُومُ مِنَ اللُّغَةِ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا «3» فَهَذَا إِتْيَانٌ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ عَلَى الْمَجَازِ وَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَأْتِيَ كُلُّ آيَاتِ رَبِّكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يُرِيدُ آيَاتِ الْقِيَامَةِ وَالْهَلَاكَ الْكُلِّيَّ وبَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَغَيْرِهَا انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عليه السلام «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا» .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ مَسْرُوقٌ:
طُلُوعُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنْ مَغْرِبِهِمَا. وَقِيلَ: إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ طلوع الشمس من مغربها وَالدَّابَّةُ وَفَتْحُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ رَوَاهُ الْقَاسِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: طُلُوعُهَا وَالدَّجَّالُ وَالدَّابَّةُ وَفَتْحُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَقِيلَ: الْعَشْرُ الْآيَاتِ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدَّجَّالُ وَالدَّابَّةُ وَخَسْفٌ بِالْمُشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنُزُولُ عِيسَى وَفَتْحُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تسوق الناس إلى
(1) سورة النحل: 16/ 88.
(2)
سورة الإسراء: 17/ 92.
(3)
سورة الحشر: 59/ 2.
الْمَحْشَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ تَوَعَّدُوا بِالشَّيْءِ الْعَظِيمِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لِيَذْهَبَ الْفِكْرُ فِي ذَلِكَ كُلَّ مَذْهَبٍ لَكِنْ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ عَنْ هَذَا الْبَعْضِ بِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِيهِ إِذَا أَتَى، وَتَصْرِيحُ الرَّسُولِ بِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقْتٌ لَا تَنْفَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ هَذَا الْبَعْضُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَعْضُ غَرْغَرَةَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي وَقْتٍ لَا تَنْفَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ. قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «1»
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ تَوْبَةَ الْعَبْدِ تُقْبَلُ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ غَيْرَ قَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فَيَكُونُ هَذَا عِبَارَةً عَنْ مَا يُقْطَعُ بِوُقُوعِهِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فِيهِ وَصْفٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الَّتِي يَرْتَفِعُ مَعَهَا التَّوْبَةُ. وَثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقْتٌ لَا تُقْبَلُ فِيهِ التَّوْبَةُ وَيَدُلُّ عَلَى التَّغَايُرِ إِعَادَةُ آيَاتُ رَبِّكَ إِذْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ تِلْكَ لَكَانَ التَّرْكِيبُ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُهَا أَيْ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ.
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً مَنْطُوقُ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا أَتَى هَذَا الْبَعْضُ لَا يَنْفَعُ نَفْساً كَافِرَةً إِيمَانُهَا الَّذِي أَوْقَعَتْهُ إِذْ ذاك ولا يَنْفَعُ نَفْساً سَبَقَ إِيمَانُهَا وَمَا كَسَبَتْ فِيهِ خَيْرًا فَعَلَّقَ نَفْيَ الْإِيمَانِ بِأَحَدِ وَصْفَيْنِ: إِمَّا نَفْيُ سَبْقِ الْإِيمَانِ فَقَطْ وَإِمَّا سَبْقُهُ مَعَ نَفْيِ كَسْبِ الْخَيْرِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَنْفَعُ الْإِيمَانُ السَّابِقُ وَحْدَهُ أَوِ السَّابِقُ وَمَعَهُ الْخَيْرُ وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ قَوِيٌّ فَيُسْتَدَلُّ بِالْآيَةِ لِمَذْهَبِ أهل السنة من أن الْإِيمَانَ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ الْعَمَلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: نَفْساً وَقَوْلُهُ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عَطْفٌ عَلَى آمَنَتْ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ إِذَا جَاءَتْ وَهِيَ آيَاتٌ مُلْجِئَةٌ مُضْطَرَّةٌ ذَهَبَ أَوَانُ التَّكْلِيفِ عِنْدَهَا فَلَمْ يَنْفَعِ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ نَفْسًا غَيْرَ مُقَدِّمَةٍ إِيمَانَهَا مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ الْآيَاتِ أَوْ مُقَدِّمَةً إِيمَانَهَا غَيْرَ كَاسِبَةٍ خَيْرًا فِي إِيمَانِهَا، فَلَمْ يُفَرَّقْ كَمَا تَرَى بَيْنَ النَّفْسِ الْكَافِرَةِ إِذَا آمَنَتْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْإِيمَانِ وَبَيْنَ النَّفْسِ الَّتِي آمَنَتْ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا لِيُعْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2» جَمَعَ بَيْنَ قَرِينَتَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْفَكَّ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى حَتَّى يَفُوزَ صَاحِبُهَا وَيَسْعَدَ وَإِلَّا فَالشَّقَاوَةُ وَالْهَلَاكُ انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الاعتزالي.
(1) سورة النساء: 4/ 18.
(2)
سورة مريم: 19/ 96، وسورة الحج: 22/ 14. [.....]
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَمْرٍو وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو الْعَالِيَةِ يَوْمَ تَأْتِي بَعْضُ بِالتَّاءِ مِثْلَ تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ وَابْنُ سِيرِينَ لَا تَنْفَعُ نَفْسًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ذَكَرُوا أَنَّهَا غَلَطٌ مِنْهُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: فِي هَذَا شَيْءٌ دَقِيقٌ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالنَّفْسَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْآخَرِ فَأَنَّثَ الْإِيمَانَ إِذْ هُوَ مَنَّ النَّفْسِ وَبِهَا وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رحمه الله:
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ
…
أَعَالِيَّهَا مَرَّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ لَا تَنْفَعُ بِالتَّاءِ لِكَوْنِ الْإِيمَانِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ الَّذِي هُوَ بَعْضُهُ لِقَوْلِهِ: ذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ انْتَهَى. وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بَعْضًا لِلنَّفْسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُنِّثَ عَلَى مَعْنَى الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ أَوِ الْعَقِيدَةُ، فَكَانَ مِثْلَ جَاءَتْهُ كِتَابِي فَاحْتَقَرَهَا عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ وَنُصِبَ يوم تأتي بِقَوْلِهِ: لَا يَنْفَعُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ مَعْمُولِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِلَا عَلَى لَا خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ. وَقَرَأَ زُهَيْرٌ الْقَرَوِيُّ يَوْمَ يَأْتِي بِالرَّفْعِ وَالْخَبَرُ لَا يَنْفَعُ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَا يَنْفَعُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ صِفَةً وَجَازَ الْفَصْلُ بِالْفَاعِلِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصْفَتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ إِذْ قَدِ اشْتَرَكَ الْمَوْصُوفُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْفَاعِلُ فِي الْعَامِلِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ ضَرَبَ هِنْدًا غُلَامُهَا التَّمِيمِيَّةَ وَمَنْ جَعَلَ الْجُمْلَةَ حَالًا أَبْعَدَ وَمَنْ جَعَلَهَا مُسْتَأْنَفَةً فَهُوَ أَبْعَدُ.
قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أَيِ انْتَظَرُوا مَا تَنْتَظِرُونَ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ مَا يَحُلُّ بِكُمْ وَهُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَمْرٌ بِالْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ عِنْدَهُ بِآيَةِ السَّيْفِ.
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ صِرَاطَهُ مُسْتَقِيمٌ وَنَهَى عَنِ اتِّبَاعِ السُّبُلِ وَذَكَرَ مُوسَى عليه السلام وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْقُرْآنَ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ وَذَكَرَ مَا يَنْتَظِرُ الْكُفَّارُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بِهِمُ، انْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ مَنِ اتَّبَعَ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَتْ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِيُنَبِّهَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِائْتِلَافِ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَلِئَلَّا يَخْتَلِفُوا كَمَا اخْتَلَفَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي بُعِثَ أَنْبِيَاؤُهُمْ بِهَا وَالَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ أَوْ أَهْلُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ أَوِ الْأَهْوَاءِ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَحْوَصِ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَوِ الْيَهُودُ أَوْ هُمْ وَالنَّصَارَى وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ والضحاك وقتادة، أَيْ فَرَّقُوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفَ أَوْ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ أَوِ الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. وَافْتِرَاقُ النَّصَارَى إِلَى مِلْكِيَّةٍ وَيَعْقُوبِيَّةٍ وَنَسْطُورِيَّةٍ
وَتَشَعَّبُوا إِلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتِرَاقُ الْيَهُودِ إِلَى مُوسَوِيَّةٍ وَهَارُونِيَّةٍ وَدَاوُدِيَّةٍ وَسَامِرِيَّةٍ وَتَشَعَّبُوا إِلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتِرَاقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَرَّقُوا دِينَهُمْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وَأَضَافَ الدِّينَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمُوهُ إِذْ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَلْزَمَهُ الْعِبَادَ فَهُوَ دِينُ جَمِيعِ النَّاسِ بِهَذَا الْوَجْهِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْأَخَوَانِ فَارَقُوا هُنَا وَفِي الرُّومِ بِأَلِفٍ
وَمَعْنَاهَا قَرِيبٌ مِنْ قِرَاءَةِ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّشْدِيدِ تَقُولُ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ. وَقِيلَ: تَرَكُوهُ وَبَايِنُوهُ، وَمَنْ فَرَّقَ دِينَهُ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ فَقَدْ فَارَقَ دِينَهُ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو صَالِحٍ فَرَّقُوا بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَكانُوا شِيَعاً أَيْ أَحْزَابًا كُلٌّ مِنْهُمْ تَابِعٌ لِشَخْصٍ لَا يَتَعَدَّاهُ لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أَيْ لَسْتَ مِنْ تَفْرِيقِ دَيْنِهِمْ أَوْ مِنْ عِقَابِهِمْ أَوْ مِنْ قِتَالِهِمْ، أَوْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُبَايَنَةِ التَّامَّةِ وَالْمُبَاعَدَةِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
إِذَا حَاوَلَتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا
…
فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ لَا تَشْفَعُ لَهُمْ وَلَا لَهُمْ بِكَ تَعَلُّقٌ وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْكُفَّارِ وَعَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعُصَاةِ وَالْمُتَنَطِّعِينَ فِي الشَّرْعِ إِذْ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ تَفْرِيقِ الدِّينِ، وَلَمَّا نَفَى كَوْنَهُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ حَصَرَ مَرْجِعَ أَمْرِهِمْ مِنْ هَلَاكٍ أَوِ اسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ وَذَلِكَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لَهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ آيَةٌ لَمْ يُؤْمَرْ فِيهَا بِقِتَالٍ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُتْقَنٍ فَإِنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ وَلَكِنَّهَا تَضَمَّنَتْ بِالْمَعْنَى أَمْرًا بِمُوَادَعَةٍ فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّسْخُ وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي قَدْ تَقَرَّرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ رَوَى الْخُدْرِيُّ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ ضُوعِفَتْ لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرٍ وَضُوعِفَ لِلْمُهَاجِرِينَ تِسْعَمِائَةٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ: يُحْتَاجُ إِلَى إِسْنَادٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ الْمُجَازَاةِ وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا مُشْعِرًا بِقِسْمَيْهِ مِمَّنْ ثَبَتَ عَلَى دِينِهِ قَسَّمَ الْمُجَازِينَ إِلَى جَاءَ بِحَسَنَةٍ وَجَاءَ بِسَيِّئَةٍ، وَفُسِّرَتِ الْحَسَنَةُ بِالْإِيمَانِ وَعَشْرُ أَمْثَالِهَا تَضْعِيفُ أُجُورِهِ أَيْ ثَوَابُ عَشْرِ أَمْثَالِهَا فِي الْجَنَّةِ، وَفُسِّرَتِ السَّيِّئَةُ بِالْكُفْرِ وَمِثْلُهَا النَّارُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ وَغَيْرُهُمْ: الْحَسَنَةُ هُنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالسَّيِّئَةُ الْكُفْرُ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدَدَ مُرَادٌ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: لَيْسَ عَلَى التَّحْدِيدِ حَتَّى لَا يُزَادَ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصَ مِنْهُ بَلْ عَلَى التَّعْظِيمِ لِذَلِكَ إِذْ هَذَا الْعَدَدُ لَهُ خَطَرٌ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ عَلَى التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ:
كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» . وَقَالَ: مَنْ جاءَ وَلَمْ يَقُلْ مَنْ عَمِلَ لِيُعْلَمَ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى مَا خُتِمَ بِهِ وَقُبِضَ عَلَيْهِ دُونَ مَا وُجِدَ مِنْهُ مِنَ الْعَمَلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ خُتِمَ لَهُ بِالْحَسَنَةِ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ انْتَهَى. وَأَنَّثَ عَشْرًا وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَى جَمْعٍ مُفْرَدٍ مِثْلٌ وَهُوَ مُذَكَّرٌ رَعْيًا لِلْمَوْصُوفِ الْمَحْذُوفِ، إِذْ مُفْرَدُهُ مُؤَنَّثٌ وَالتَّقْدِيرُ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالِهَا وَنَظِيرُهُ فِي التَّذْكِيرِ مَرَرْتُ بِثَلَاثَةِ نَسَّابَاتٍ رَاعَى الْمَوْصُوفَ الْمَحْذُوفَ أَيْ بِثَلَاثَةِ رِجَالٍ نَسَّابَاتٍ. وَقِيلَ: أَنَّثَ عَشْرًا وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَى مَا مُفْرَدُهُ مُذَكَّرٌ لِإِضَافَةِ أَمْثَالٍ إِلَى مُؤَنَّثٍ وَهُوَ ضَمِيرُ الْحَسَنَةِ كَقَوْلِهِ: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ «2» قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ عَامَّانِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَلَيْسَا مَخْصُوصَيْنِ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَيَكُونُ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ مَخْصُوصًا بِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَضَى بِمُجَازَاتِهِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَقَضِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَكَوْنُهُ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُزَادُ إِنْ كَانَ مَفْهُومُ الْعَدَدِ قَوِيًّا فِي الدَّلَالَةِ إِذْ تَكُونُ الْعَشْرَ هِيَ الْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَةِ وَمَا زَادَ فَهُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَعْمَشُ وَيَعْقُوبُ وَالْقَزَّازُ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَشْرٌ بِالتَّنْوِينِ أَمْثَالُهَا بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِعَشْرٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْمِثْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي النَّوْعِ بَلْ يُكْتَفَى أَنْ يَكُونَ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، إِذِ النَّعِيمُ السَّرْمَدِيُّ وَالْعَذَابُ الْمُؤَبَّدُ لَيْسَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي نَوْعِ مَا كَانَ مَثَلًا لَهُمَا لَكِنَّ النَّعِيمَ مُشْتَرِكٌ مَعَ الْحَسَنَةِ فِي كَوْنِهِمَا حَسَنَتَيْنِ وَالْعَذَابَ مُشْتَرِكٌ مَعَ السَّيِّئَةِ فِي كَوْنِهِمَا يَسُوءَانِ، وَظَاهِرُ مَنْ جَاءَ الْعُمُومُ. وَقِيلَ:
يَخْتَصُّ بِالْأَعْرَابِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَقِيلَ: بِمَنْ آمَنَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ. وَقِيلَ: بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ أَدْنَى الْمُضَاعَفَةِ. وَقِيلَ: الْعَشْرُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَالسَّبْعُونَ عَلَى بَعْضِهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِهِمْ وَلَا يُزَادُ فِي عِقَابِهِمْ.
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْإِعْلَانِ بِالشَّرِيعَةِ وَنَبْذِ مَا سِوَاهَا وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ لَا عِوَجَ فِيهَا وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفِرَقِ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ بَلْ هُوَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَسْنَدَ الْهِدَايَةَ إِلَى رَبِّهِ لِيَدُلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِعِبَادَتِهِ إِيَّاهُ كأنه قيل: هداني
(1) سورة الحديد: 57/ 21.
(2)
سورة يوسف: 12/ 10.
مَعْبُودِي لَا مَعْبُودُكُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَمَعْنَى هَدانِي خَلَقَ فِيَّ الْهِدَايَةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ:
دَلَّنِي. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَهَذَا بَاطِلٌ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ كَذَلِكَ.
دِيناً قِيَماً بِالْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ.
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَذْكَرَهُمْ أَنَّ هَذَا الدِّينَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ النَّبِيُّ الَّذِي يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الشَّرَائِعِ وَالدِّيَانَاتِ وَتَزْعُمُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ، فَرَدَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَانْتَصَبَ دِيناً عَلَى إِضْمَارِ عَرَّفَنِي لِدَلَالَةِ هَدَانِي عَلَيْهِ أَوْ بِإِضْمَارِ هَدَانِي أَوْ بِإِضْمَارِ اتَّبِعُوا وَالْزَمُوا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِهَدَانِي عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ: اهْتِدَاءً أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ إِلَى صِرَاطٍ عَلَى الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ يُقَالُ:
هَدَيْتُ الْقَوْمَ الطَّرِيقَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «1» . وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ قِيَمًا وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ قَيِّمًا كسيد وملة بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: دِيناً وحَنِيفاً تَقَدَّمَ إِعْرَابُهُ فِي قَوْلِهِ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «2» فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وحَنِيفاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ إِبْرَاهِيمَ.
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الَّتِي فُرِضَتْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: صَلَاةُ اللَّيْلِ. وَقِيلَ: صَلَاةُ الْعِيدِ لِمُنَاسَبَةِ النُّسُكِ. وَقِيلَ: الدُّعَاءُ وَالتَّذَلُّلُ وَالنُّسُكُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ أَيْضًا وَعَلَى الْعِبَادَةِ وَعَلَى الذَّبِيحَةِ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ الذَّبَائِحُ الَّتِي تُذْبَحُ لِلَّهِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «3» وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهَا نَازِلَةٌ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَالْجِدَالُ فِيهَا فِي السُّورَةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الدِّينُ وَالْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ وَمَعْنَى وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُمَا إِلَّا اللَّهُ أَوْ حَيَاتِي لِطَاعَتِهِ وَمَمَاتِي رُجُوعِي إِلَى جَزَائِهِ أَوْ مَا آتِيهِ فِي حَيَاتِي مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمَا أَمُوتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ لِلَّهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَعْنَى كَوْنِهِمَا لِلَّهِ لِخَلْقِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُعْلِنَ أَنَّ مَقْصِدَهُ فِي صَلَاتِهِ وَطَاعَاتِهِ مِنْ ذَبِيحَةٍ وَغَيْرِهَا وَتَصَرُّفِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ وَحَالِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ عِنْدَ مَمَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ عز وجل وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ وَطَلَبِهِ رِضَاهُ، وَفِي إِعْلَانِ النبي صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا يُلْزِمُ الْمُؤْمِنِينَ التَّأَسِّي بِهِ حَتَّى يَلْزَمُوا فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ قَصْدَ وَجْهِهِ عز وجل وَلَهُ تَصَرُّفُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَيْفَ شَاءَ. وقرأ الحسن
(1) سورة الفتح: 48/ 2.
(2)
سورة البقرة: 2/ 135.
(3)
سورة الكوثر: 108/ 2.
وَأَبُو حَيْوَةَ وَنُسُكِي بِإِسْكَانِ السِّينِ وَمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مِنْ سُكُونِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مَحْيايَ هُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ أُجْرِيَ الْوَصْلُ فِيهِ مَجْرَى الْوَقْفِ وَالْأَحْسَنُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْفَتْحُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
هِيَ شَاذَّةٌ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَشَاذَّةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَوَجْهُهَا أَنَّهُ قَدْ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ الْتَقَتْ حَلَقَتَا الْبِطَانِ وَلِفُلَانٍ بَيْتَا الْمَالِ، وَرَوَى أَبُو خَالِدٍ عَنْ نَافِعٍ وَمَحْيايَ بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى وَالْجَحْدَرِيُّ وَمَحْيَيَّ عَلَى لُغَةِ هُذَيْلٍ كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
سَبَقُوا هَوَيَّ.
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ سُكُونِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرُ نَفْيُ كُلِّ شَرِيكٍ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ شَرِيكٍ فَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْعَالَمِ أَوْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيمَا أَتَقَرَّبُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ أَوْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ أَوْ لَا شَرِيكَ فِيمَا شَاءَ مِنْ أَفْعَالِهِ الْأَوْلَى بِهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى التَّخْصِيصِ حَقِيقَةً، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَمْرَيْنِ قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَمَا بَعْدَهَا أَوْ إِلَى قَوْلِهِ: لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَطْ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُسْلِمِينَ لِلْعَهْدِ وَيَعْنِي بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ لِأَنَّ إِسْلَامَ كُلِّ نَبِيٍّ سَابِقٌ عَلَى إِسْلَامِ أُمَّتِهِ لِأَنَّهُمْ مِنْهُ يَأْخُذُونَ شَرِيعَتَهُ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: مِنَ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَقِيلَ: أَوَّلُهُمْ فِي الْمَزِيَّةِ وَالرُّتْبَةِ وَالتَّقَدُّمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مُذْ كُنْتُ نَبِيًّا كُنْتُ مُسْلِمًا كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَعْنَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ انْتَهَى. وَفِيهِ إِلْغَاءُ لَفْظِ أَوَّلٍ وَلَا تُلْغَى الْأَسْمَاءُ وَالْأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ
حَكَى النَّقَّاشُ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ارْجِعْ يَا مُحَمَّدُ إِلَى دِينِنَا وَاعْبُدْ آلِهَتَنَا وَاتْرُكْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَتَكَفَّلُ لَكَ بِكُلِّ مَا تُرِيدُ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَمَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَوْهُ إِلَى آلِهَتِهِمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَيْفَ يَجْتَمِعُ لِي دَعْوَةُ غَيْرِ اللَّهِ رَبًّا وَغَيْرُهُ مَرْبُوبٌ لَهُ. وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها أَيْ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ شَيْئًا يَكُونُ عَاقِبَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَيْهَا. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ لَا تُذْنِبُ نَفْسٌ مُذْنِبَةٌ ذَنْبَ نَفْسٍ أُخْرَى وَالْمَعْنَى لا تؤاخذ بِغَيْرِ وِزْرِهَا فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهُ وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمُ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلِنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ.
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَيْ مَرْجِعُكُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالتَّنْبِئَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ وَالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ هُوَ مِنَ الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ يُجَازِيكُمْ بِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَسِيَاقُ هَذِهِ الْجُمَلِ سِيَاقُ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَقِيلَ: بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فِي أَمْرِي مِنْ قَوْلِ بَعْضِكُمْ هُوَ شَاعِرٌ سَاحِرٌ وَقَوْلِ بَعْضِكُمُ افْتَرَاهُ وَبَعْضِكُمُ اكْتَتَبَهُ وَنَحْوِ هَذَا.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أَذْكَرَهُمْ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُبْعَثَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأُمَّتُهُ خَلَفَتْ سَائِرَ الْأُمَمِ وَلَا يَجِيءُ بَعْدَهَا أُمَّةٌ تَخْلُفُهَا إِذْ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ،
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»
،
وَرُوِيَ «أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»
وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ هُوَ بِالشَّرَفِ فِي الْمَرَاتِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْعِلْمِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ ولِيَبْلُوَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَرَفَعَ فِيمَا آتَاكُمْ مِنْ ذَلِكَ جَاهًا وَمَالًا وَعِلْمًا وَكَيْفَ تَكُونُونَ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ خُلِّفُوا فِي الْأَرْضِ عَنِ الْجِنِّ أَوْ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقِيلَ: خُلَفَاءُ الْأَرْضِ تَمْلِكُونَهَا وَتَتَصَرَّفُونَ فِيهَا.
إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لَمَّا كَانَ الِابْتِلَاءُ يَظْهَرُ بِهِ الْمُسِيءُ وَالْمُحْسِنُ وَالطَّائِعُ وَالْعَاصِي ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَخَتَمَ بِهِمَا وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى فَوَاصِلِ الْآيِ قَبْلَهَا هُوَ التَّهْدِيدُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ سَرِيعُ الْعِقَابِ يَعْنِي لِمَنْ كَفَرَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَسُرْعَةُ عِقَابِهِ إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَالسُّرْعَةُ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ فَوُصِفَ بِالسُّرْعَةِ لِتَحَقُّقِهِ إِذْ كُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ وَلَمَّا كَانَتْ جِهَةُ الرَّحْمَةِ أَرْجَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِدُخُولِ اللَّامِ فِي الْخَبَرِ وَيَكُونُ الْوَصْفَيْنِ بُنِيَا بِنَاءَ مُبَالَغَةٍ وَلَمْ يَأْتِ فِي جِهَةِ الْعِقَابِ بِوَصْفِهِ بِذَلِكَ فَلَمْ يَأْتِ إِنَّ رَبَّكَ مُعَاقِبٌ وَسَرِيعُ الْعِقَابِ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ.