المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة المائدة (5) : الآيات 115 الى 120] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٤

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 93]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 94 الى 100]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 113]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 126]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 142 الى 159]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 160 الى 172]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 173 الى 176]

- ‌سورة المائدة

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 26]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 38]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 48]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 49 الى 50]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 75]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 96]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 114]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 115 الى 120]

- ‌سورة الانعام

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 32]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 52]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 53 الى 58]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 73]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 94]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 110]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 126]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 140]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 152]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 153 الى 165]

الفصل: ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 115 الى 120]

هَمُّهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ عُرُوجِ الْأَرْوَاحِ الْمُشْرِقَةِ النُّورَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنُزُولِهَا اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ دَائِرٌ بَيْنَ لَفْظٍ فَلْسَفِيٍّ وَلَفْظٍ صُوفِيٍّ وَكِلَاهُمَا بَعِيدٌ عَنْ كلام العرب ومناحيها.

[سورة المائدة (5) : الآيات 115 الى 120]

قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ مُنَزِّلُهَا وَبِإِنْزَالِهَا قَالَ الْجُمْهُورُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ شَرْطَهُ الْمُتَعَارَفَ فِي الْأُمَمِ أَنَّهُ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ آيَةِ الِاقْتِرَاحِ عُذِّبَ أَشَدَّ عَذَابٍ. قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ لَمَّا سَمِعُوا الشَّرْطَ أَشْفَقُوا فَلَمْ تَنْزِلْ. قَالَ مُجَاهِدٌ فَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ لِئَلَّا يسألوا هذه الْآيَاتِ وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ هَلْ رُفِعَتْ بِإِحْدَاثٍ أَحْدَثُوهُ أَمْ لَمْ تُرْفَعْ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ أَكَلُوا مِنْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا بُكْرَةً وَعَشِيَّةً. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَأْكُلُونَ مِنْهَا متى شاؤوا، وَقِيلَ بَطِرُوا فَكَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. وَقَالَ الْمُؤَرِّخُونَ كَانَتْ تَنْزِلُ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى فَيَأْكُلُونَ مِنْهَا ثُمَّ تَرْتَفِعُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى ظِلِّهَا فِي الْأَرْضِ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ نُزُولِهَا وَفِيمَا كَانَ عَلَيْهَا وَفِي عَدَدِ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا وَفِيمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا مُتَعَارِضًا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ، ضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا إِذْ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِيهِ مَا

خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَبْوَابِ

ص: 414

التَّفْسِيرِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ وَلَا يَخُونُوا فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» .

قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ عَاصِمٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوعًا وَلَا نَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حديث الحسن بن قرعة حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُرْوَةَ نَحْوَهُ

وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الحسن بن قرعة وَلَا نَعْلَمُ الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا أَصْلًا.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ مُنَزِّلُها مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مُخَفَّفًا وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ إِنِّي سَأُنْزِلُهَا بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ بَعْدُ أَيْ بَعْدَ إِنْزَالِهَا وَالْعَذَابُ هُنَا بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ فَانْتِصَابُهُ انْتِصَابُ الْمَصْدَرِ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى السَّعَةِ وَهُوَ إِعْرَابٌ سَائِغٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَذَابِ مَا يُعَذِّبُ بِهِ إِذْ يَلْزَمُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِحَرْفِ الْجَرِّ فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ بِعَذَابٍ لَا يُقَالُ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَيْهِ فَنَصَبَهُ لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ فِي مِثْلِ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالضَّرُورَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَا أُعَذِّبُهُ يَعُودُ عَلَى الْعَذَابِ بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ وَالْمَعْنَى لَا أُعَذِّبُ مِثْلَ التَّعْذِيبِ أَحَدًا.

وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا أُعَذِّبُ بِهِ أَحَدًا وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى السَّعَةِ وَأَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ كَقَوْلِكَ: ظَنَنْتُهُ زَيْدًا مُنْطَلِقًا فَلَا يَعُودُ عَلَى الْعَذَابِ، وَرَابِطُ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِعَذَابٍ هُوَ الْعُمُومُ الَّذِي فِي الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ كَقَوْلِكَ هو جنس وعذابا نَكِرَةٌ فَانْتَظَمَهُ الْمَصْدَرُ كَمَا انْتَظَمَ اسْمُ الْجِنْسِ زَيْدًا فِي: زِيدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ مِنْ عَلَى حَذْفٍ أَيْ لَا أُعَذِّبُ مِثْلَ عَذَابِ الْكَافِرِ وَهَذِهِ تَقَادِيرُ مُتَكَلَّفَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهَا، وَالْعَذَابُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَسَخَهُمْ خَنَازِيرَ. وَقَالَ غَيْرُهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَالْكُفْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمُوجِبُ تَعْذِيبَهُمْ قِيلَ ارْتِدَادُهُمْ، وَقِيلَ شَكُّهُمْ فِي عِيسَى وَتَشْكِيكُهُمُ النَّاسَ، وَقِيلَ مُخَالَفَتُهُمُ الْأَمْرَ بِأَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يُخَبِّئُوا وَلَا يَدَّخِرُوا قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لَمْ يَتِمَّ يَوْمُهُمْ حَتَّى خَانُوا فَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا وَظَاهِرُ الْعَالَمِينَ الْعُمُومُ وَقِيلَ عَالَمِي زَمَانِهِمْ.

وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِذْ زَائِدَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ بِمَعْنَى إِذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْفِعْلِ الْمَاضِي قَدْ وَقَعَ ولا يؤول بيقول. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ رَفَعَ عِيسَى إِلَيْهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى مَا قَالَتْ وَادَّعَتْ أَنَّ عِيسَى أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ.

ص: 415

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْجُمْهُورُ: هَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ على رؤوس الْخَلَائِقِ فَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ بَاطِلٌ، فَيَقَعُ التَّجَوُّزُ فِي اسْتِعْمَالِ إِذْ بِمَعْنَى إِذَا وَالْمَاضِي بَعْدَهُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي إِيلَاءِ الِاسْتِفْهَامِ الِاسْمَ، وَمَجِيءِ الْفِعْلِ بَعْدَهُ دَلَالَةٌ عَلَى صُدُورِ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ لَكِنْ وَقَعَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ النِّسْبَةِ أَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ الْوَاقِعُ صَادِرًا عَنِ الْمُخَاطَبِ أَمْ لَيْسَ بِصَادِرٍ عَنْهُ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ: أَضْرَبْتَ زَيْدًا، فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ هَلْ صَدَرَ مِنْكَ ضَرْبٌ لِزَيْدٍ أَمْ لَا، وَلَا إِشْعَارَ فِيهِ بِأَنَّ ضَرْبَ زِيدٍ قَدْ وَقَعَ. فَإِذَا قُلْتَ أَنْتَ ضَرَبْتَ زَيْدًا كَانَ الضَّرْبُ قَدْ وَقَعَ بِزَيْدٍ، لَكِنَّكَ اسْتَفْهَمْتَ عَنْ إِسْنَادِهِ لِلْمُخَاطَبِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ بَيَانِيَّةٌ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ النَّصَارَى بِإِلَهِيَّةِ مَرْيَمَ، فَكَيْفَ قِيلَ إِلهَيْنِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَمْ تَلِدْ بَشَرًا وَإِنَّمَا وَلَدَتْ إِلَهًا، لَزِمَهُمْ أَنْ يقولوا من حيث البغضية بِإِلَهِيَّةِ مَنْ وَلَدَتْهُ، فَصَارُوا بِمَثَابَةِ مَنْ قَالَ: انْتَهَى.

وَالظَّاهِرُ صُدُورُ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْوُجُودِ لَا مِنْ عِيسَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صُدُورِ الْقَوْلِ وُجُودُ الِاتِّخَاذِ.

قالَ سُبْحانَكَ أَيْ تَنْزِيهًا لَكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَنْ أَنْ يُقَالَ هَذَا وَيُنْطَقَ بِهِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ شَرِيكٌ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ قَالَ أَبُو رَوْقٍ: لَمَّا سَمِعَ عِيسَى هَذَا الْمَقَالَ ارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُهُ وَانْفَجَرَتْ مِنْ أَصْلِ كُلِّ شَعْرَةٍ عَيْنٌ مِنْ دَمٍ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ مُجِيبًا لِلَّهِ تَعَالَى: سُبْحانَكَ تَنْزِيهًا وَتَعْظِيمًا لَكَ وَبَرَاءَةً لَكَ مِنَ السُّوءِ.

مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ هَذَا نَفْيٌ يُعَضِّدُهُ دَلِيلُ الْعَقْلِ فَيَمْتَنِعُ عَقْلًا ادِّعَاءُ بَشَرٍ محدث الإلهية وبِحَقٍّ خَبَرُ لَيْسَ أَيْ لَيْسَ مُسْتَحَقًّا وَأَجَازُوا فِي لِي أَنْ يَكُونَ تَبْيِينًا وَأَنْ يَكُونَ صِلَةً صِفَةً لِقَوْلِهِ بِحَقٍّ لِي تَقَدَّمَ فَصَارَ حَالًا أَيْ بِحَقٍّ لِي، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِحَقٍّ لِأَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ، وَحَقٍّ بِمَعْنَى مُسْتَحَقٍّ أَيْ مَا لَيْسَ مُسْتَحَقًّا، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ مَا لَيْسَ لِي وَجَعَلَ بِحَقٍّ متعلقا بعلمته الَّذِي هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَرُدَّ ذَلِكَ بِادِّعَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيمَا ظَاهِرُهُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَلَا يُصَارُ إِلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إِلَّا لِمَعْنًى يَقْتَضِي ذَلِكَ، أَوْ بِتَوْقِيفٍ، أَوْ فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ إِلَّا ذَلِكَ انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ وَرَدُّهُ، وَيَمْتَنِعُ أن يتعلق لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الشَّرْطِ شَيْءٌ مِنْ مَعْمُولَاتِ فِعْلِ الشَّرْطِ وَلَا مِنْ مَعْمُولَاتِ جَوَابِهِ،

وَوَقَفَ نَافِعٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى قَوْلِهِ بِحَقٍّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 416

إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذَا مَقَامُ خُضُوعٍ وَتَوَاضُعٍ، فَقُدِّمَ نَاسِخُ نَفْيِ الْقَوْلِ عَنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ مَا قُلْتُهُ بَلْ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِالْكُلِّ وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْأَدَبِ وَفِي إِظْهَارِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ فِي حَضْرَةِ الْجَلَالِ، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ.

تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ خَصَّ النَّفْسَ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْكَتْمِ وَالِانْطِوَاءِ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ. قِيلَ: الْمَعْنَى: تَعْلَمُ مَا أُخْفِي وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِي. وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا عِنْدِي وَلَا أَعْلَمُ مَا عندك. وقيل: تعلم ما كان في الدنيا ولا أعلم ما تقول وتفعل. وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد. وَقِيلَ: تَعْلَمُ سِرِّيَ وَلَا أَعْلَمُ سِرَّكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَعْلَمُ مَعْلُومِي وَلَا أَعْلَمُ مَعْلُومَكَ وَأَتَى بِقَوْلِهِ: مَا فِي نَفْسِكَ عَلَى جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّشَاكُلِ لِقَوْلِهِ مَا فِي نَفْسِي فَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «1» وقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «2» وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّفْسَ تُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ، كَانَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ تَعْلَمُ كُنْهَ ذَاتِي وَلَا أَعْلَمُ كُنْهَ ذَاتِكَ، وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ قَالُوا: النَّفْسُ هِيَ الشَّخْصُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ جِسْمًا. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ هَذَا تَقْرِيرٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ مَعًا لِأَنَّ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ جُمْلَةِ الْغُيُوبِ وَلِأَنَّ مَا يَعْلَمُهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَإِذَا كُنْتَ أَنْتَ الْمُخْتَصَّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ فَلَا عِلْمَ لِي بِالْغَيْبِ فَكَيْفَ تَكُونُ لِي الْأُلُوهِيَّةُ

وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَقَّاهُ اللَّهُ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ «3» الْآيَةَ كُلَّهَا.

قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ أَمْرَ اللَّهِ فِي أَنْ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَأَقَرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: رَبِّي وَرَبَّكُمْ بَرَاءَةٌ مِمَّا ادَّعَوْهُ فِيهِ، وَفِي الْإِنْجِيلِ قَالَ: يَا مَعَاشِرَ بَنِي الْمَعْمُودِيَّةِ قُومُوا بِنَا إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ وَمُخَلِّصِي وَمُخَلِّصِكُمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ مَا أَمَرْتُهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ الْقَوْلَ مَوْضِعَ الْأَمْرِ نُزُولًا عَلَى مُوجِبِ الْأَدَبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا عَدَلَ لِئَلَّا يَجْعَلَ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ آمِرِينَ مَعًا وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ مَا ذَكَرَ أَنْ الْمُفَسِّرَةُ انْتَهَى. قَالَ الحوفي وابن

(1) سورة آل عمران: 3/ 54. [.....]

(2)

سورة البقرة: 2/ 15.

(3)

سورة المائدة: 5/ 116.

ص: 417

عَطِيَّةَ: وَأَنْ فِي أَنِ اعْبُدُوا مُفَسِّرَةٌ، لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ وَيَصِحُّ أن يكون بدلا من مِنْ مَا وَصَحَّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ، زَادَ ابْنُ عطية أن يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ خفض على تقدير ب أَنِ اعْبُدُوا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ الْجَرَّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْهَاءِ وَالرَّفْعَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ وَالنَّصْبَ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ بَدَلًا مِنْ مَوْضِعِ بِهِ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَنْ الْمُفَسِّرَةِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ قَدْ صُرِّحَ بِهِ، وأن لَا تَكُونُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ فِي قَوْلِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ إِنْ جَعَلْتَهَا مُفَسِّرَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا بُدٌّ مِنْ مُفَسَّرٍ، وَالْمُفَسَّرُ إِمَّا فِعْلُ الْقَوْلِ وَإِمَّا فِعْلُ الْأَمْرِ وَكِلَاهُمَا لَا وَجْهَ لَهُ، أَمَّا فِعْلُ الْقَوْلِ فَيُحْكَى بَعْدَهُ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَسَّطَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ التَّفْسِيرِ لَا تَقُولُ ما قلت لهم إلا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَلَكِنْ مَا قَلْتُ لَهُمْ إِلَّا اعْبُدُوا اللَّهَ وَأَمَّا فِعْلُ الْأَمْرِ فَمُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ فَسَّرْتَهُ بِاعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ لَمْ يَسْتَقِمْ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَإِنْ جَعَلْتَهَا مَوْصُولَةً بِالْفِعْلِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَوْ مِنَ الْهَاءِ فِي بِهِ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، وَلَا يُقَالُ ما قلت لهم إلا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ بِمَعْنَى ما قلت لهم إلا عِبَادَتَهُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُقَالُ وَكَذَلِكَ إِذَا جَعَلْتَهُ بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ لِأَنَّكَ لَوْ أَقَمْتَ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ لَمْ يَصِحَّ لِبَقَاءِ الْمَوْصُولِ بِغَيْرِ رَاجِعٍ إِلَيْهِ مِنْ صِلَتِهِ.

(فَإِنْ قُلْتَ) : فَكَيْفَ تَصْنَعُ؟ (قُلْتُ) : يُحْمَلُ فِعْلُ الْقَوْلِ عَلَى مَعْنَاهُ لِأَنَّ مَعْنَى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ مَا أَمَرْتُهُمْ إِلَّا بِمَا أَمَرْتَنِي بِهِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ تَفْسِيرُهُ بِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً عَطْفًا عَلَى بَيَانِ الْهَاءِ لَا بَدَلًا انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَمَّا فِعْلُ الْأَمْرِ إِلَى آخِرِ الْمَنْعِ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَقِمْ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجُمْلَةَ وَمَا بَعْدَهَا مَضْمُومَةً إِلَى فِعْلِ الْأَمْرِ، وَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْأَمْرِ مُفَسَّرًا بِقَوْلِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَيَكُونُ رَبِّي وَرَبَّكُمْ مِنْ كَلَامِ عِيسَى عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي أَيْ أَعْنِي رَبِّي وَرَبَّكُمْ لَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فَهِمَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ ذَلِكَ عِنْدَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُقَالُ فَصَحِيحٌ لَكِنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا الْقَوْلَ الَّذِي أَمَرْتَنِي بِهِ قَوْلَ عِبَادَةِ اللَّهِ، أَيِ الْقَوْلَ الْمُتَضَمِّنَ عِبَادَةَ اللَّهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ لِبَقَاءِ الْمَوْصُولِ بِغَيْرِ رَاجِعٍ إِلَيْهِ مِنْ صِلَتِهِ فَلَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ بَدَلٍ أَنْ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى إِلَى تَجْوِيزِ النَّحْوِيِّينَ: زَيْدٌ مَرَرْتُ بِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَلَوْ قُلْتَ زَيْدٌ مَرَرْتُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَطْفًا عَلَى بَيَانِ الْهَاءِ، فَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ أَكْثَرُهُ بِالْجَوَامِدِ الْأَعْلَامِ، وَمَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَوَّزَهُ غَيْرُهُ مِنْ

ص: 418

كَوْنِ أَنْ مُفَسِّرَةً لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ إِلَّا، وَكُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ إِلَّا الْمُسْتَثْنَى بِهَا فلابدّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَأَنْ التَّفْسِيرِيَّةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَانْظُرْ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْ مُحَاوَرَةُ عِيسَى وَجَوَابُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا قَرَعَ سَمْعَهُ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَزَّهَ اللَّهَ تَعَالَى وَبَرَّأَهُ مِنَ السُّوءِ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَرِيكٌ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، فَأَتَى بِنَفْيِ لَفْظٍ عَامٍّ، وَهُوَ لَفْظُ مَا الْمُنْدَرِجُ تَحْتَهُ كُلُّ قَوْلٍ لَيْسَ بِحَقٍّ حَتَّى هَذَا الْقَوْلِ الْمُعَيَّنِ، ثم تبرأ تبرؤا ثَالِثًا وَهُوَ إِحَالَةُ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى وَتَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَعِيسَى يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا قَالَهُ، ثُمَّ لَمَّا أَحَالَ عَلَى الْعِلْمِ أَثْبَتَ عِلْمَ اللَّهِ بِهِ وَنَفَى عِلْمَهُ بِمَا هُوَ لِلَّهِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْجِسَ ذَلِكَ فِي خَاطِرِي فَضْلًا عَنْ أَنْ أَفُوهَ بِهِ وَأَقُولَهُ، فَصَارَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ نَفْيَ هَذَا الْقَوْلِ، وَنَفْيَ أَنْ يَهْجِسَ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُسْتَأْثِرٌ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، ثُمَّ لَمَّا نَزَّهَ اللَّهَ تَعَالَى وَانْتَفَى عَنْهُ قَوْلُ ذَلِكَ وَأَنْ يَخْطُرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ انْتَقَلَ إِلَى مَا قَالَهُ لَهُمْ فأتى به محصورا بإلا مَعْذُوقًا بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ عَنْهُ.

وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ أَيْ رَقِيبًا كَالشَّاهِدِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، أَمْنَعُهُمْ مِنْ قَوْلِ ذَلِكَ وَأَنْ يَتَدَيَّنُوا بِهِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ كَثِيرُ الْحِفْظِ عَلَيْهِمْ وَالْمُلَازَمَةِ لَهُمْ وَمَا ظَرْفِيَّةٌ وَدَامَ تَامَّةٌ أَيْ مَا بَقِيتُ فِيهِمْ، أَيْ شَهِيدًا فِي الدُّنْيَا.

فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَوَفَّاهُ وَفَاةَ الْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تَظَافَرَتْ بِرَفْعِهِ حَيًّا، وَأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ حَيٌّ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَمَعْنَى تَوَفَّيْتَنِي قَبَضْتَنِي إِلَيْكَ بِالرَّفْعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَفَاةُ وَفَاةُ الْمَوْتِ وَوَفَاةُ النَّوْمِ وَوَفَاةُ الرَّفْعِ.

وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ بِمَا نَصَبْتَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَنْزَلْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَأَرْسَلْتَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ انْتَهَى وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَالَّذِينَ عَذَّبْتَهُمْ جَاحِدِينَ لِآيَاتِكَ، مُكَذِّبِينَ لِأَنْبِيَائِكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يُثِيبُ وَلَا يُعَاقِبُ إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ وَصَوَابٍ.

(فَإِنْ قُلْتَ) : الْمَغْفِرَةُ لَا تَكُونُ لِلْكُفَّارِ، فَكَيْفَ قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ؟ (قُلْتُ) : مَا قَالَ: إِنَّكَ تَغْفِرُ لَهُمْ وَلَكِنَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَذَّبْتَهُمْ عَدَلْتَ لِأَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ

ص: 419

بِالْعَذَابِ، وَإِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ، لَمْ تَعْدَمْ فِي الْمَغْفِرَةِ وَجْهَ حِكْمَةٍ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ حَسَنَةٌ لِكُلِّ مُجْرِمٍ فِي الْمَعْقُولِ، بَلْ مَتَى كَانَ الْمُجْرِمُ أَعْظَمَ جُرْمًا كَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ أَحْسَنَ. وَهَذَا مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ مَيْلٌ إِلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّ غُفْرَانَ الْكُفْرِ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ عَقْلًا، قَالُوا: لِأَنَّ الْعِقَابَ حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى الذَّنْبِ وَفِي إسقاطه مَنْفَعَةٍ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّهِ مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا وَدَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَلَعَلَّ هَذَا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي شَرْعِ عِيسَى عليه السلام، انْتَهَى كَلَامُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: مَقْصُودُ عِيسَى تَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ: قَادِرٌ عَلَى مَا تُرِيدُ فِي كُلِّ مَا تَفْعَلُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْكَ. وَقِيلَ لَمَّا قَالَ لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ.

عُلِمَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ النَّصَارَى حَكَوْا هَذَا الْكَلَامَ عَنْهُ وَالْحَاكِي هَذَا الْكُفْرَ لَا يَكُونُ كَافِرًا بَلْ مُذْنِبًا حَيْثُ كَذَبَ وَغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ فَلِهَذَا قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ عِنْدَ عِيسَى أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا الْمَعَاصِيَ وَعَمِلُوا بَعْدَهُ بِمَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى عَمُودِ دِينِهِ، فَقَالَ:

وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَا أَحْدَثُوا بَعْدِي مِنَ الْمَعَاصِي وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ لَهُ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ كَانَ وَقْتَ الرَّفْعِ، لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَا يَدْرِي مَا يَمُوتُونَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي تُعَذِّبُهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرًا وَفِي وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْطَافِ لَهُمْ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ لِأَنَّهُمْ عَصَوْكَ؟ انْتَهَى وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الِاسْتِعْطَافَ لَا يَحْسُنُ إِلَّا لِمَنْ يُرْجَى لَهُ الْعَفْوُ وَالتَّخْفِيفُ، وَالْكُفَّارُ لَا يُرْجَى لَهُمْ ذَلِكَ وَالَّذِي أَخْتَارُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ قَوْلٌ قَدْ صَدَرَ، وَمَعْنًى يَعْطِفُهُ عَلَى مَا صَدَرَ وَمَضَى، وَمَجِيئُهُ بإذ الَّتِي هِيَ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى وَيُقَالُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَاضِي فَجَمِيعُ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ إِذْ قَالَ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ عِيسَى وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَعَبَّرَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْغُفْرَانَ مُرَتَّبٌ عَلَى التَّوْبَةِ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْآخِرَةِ، كَانُوا فِي مَعْرِضِ أَنْ يَرِدَ فِيهِمُ التَّعْذِيبُ أَوِ الْمَغْفِرَةُ النَّاشِئَةُ عَنِ التَّوْبَةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْكَ مَا

ص: 420

تُرِيدُهُ، الْحَكِيمُ فِيمَا تَفْعَلُهُ تُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ، وَقَرَأَتْ جَمَاعَةٌ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ قَالَ عياض بن موسى: وليست مِنَ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَقَدْ طَعَنَ عَلَى الْقُرْآنِ. مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ إِلَّا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَتَى نُقِلَ إِلَى مَا قَالَ هَذَا الطَّاعِنُ ضَعُفَ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بِالشَّرْطِ الثَّانِي وَلَا يَكُونُ لَهُ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ تَعَلُّقٌ وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَجْمَعَ عَلَى قِرَاءَتِهِ الْمُسْلِمُونَ مَعْذُوقٌ بِالشَّرْطَيْنِ كلاهما أَوَّلِهِمَا وَآخِرِهِمَا، إِذْ تَلْخِيصُهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَأَنْتَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَأَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِي الْأَمْرَيْنِ كِلَاهُمَا مِنَ التَّعْذِيبِ وَالْغُفْرَانِ، فَكَانَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَلْيَقَ بِهَذَا الْمَكَانِ لِعُمُومِهِ، وَأَنَّهُ يَجْمَعُ الشَّرْطَيْنِ وَلَمْ يَصْلُحِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أَنْ يَحْتَمِلَ مَا احْتَمَلَهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ انْتَهَى. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَصْبَحَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ هَذَا يَوْمُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ هَذَا مبتدأ ويوم خبره والجملة محكية بقال وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ، لقال: أَيْ هَذَا الْوَقْتُ وَقْتُ نَفْعِ الصَّادِقِينَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى صِدْقِ عِيسَى عليه السلام. وَقَرَأَ نَافِعٌ هَذَا يَوْمُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَخَرَّجَهُ الْكُوفِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ خَبَرٌ لِهَذَا وَبُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ كَوْنَ الْفِعْلِ مَبْنِيًّا فِي بِنَاءِ الظَّرْفِ الْمُضَافِ إِلَى الْجُمْلَةِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ تَتَّحِدُ الْقِرَاءَتَانِ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: شَرْطُ هَذَا الْبِنَاءِ إِذَا أُضِيفَ الظَّرْفُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُصَدَّرًا بِفِعْلٍ مَبْنِيٍّ، لِأَنَّهُ لَا يَسْرِي إِلَيْهِ الْبِنَاءُ إِلَّا مِنَ الْمَبْنِيِّ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ فَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ: هُوَ مُعْرَبٌ لَا مَبْنِيٌّ وَخُرِّجَ نَصْبُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَحَدُهُمَا: أن يكون ظرفا لقال وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: قَالَ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَبَرِ أَوِ الْقَصَصِ، كَقَوْلِكَ: قَالَ زَيْدٌ شِعْرًا أَوْ قَالَ زَيْدٌ: خُطْبَةً فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي نَصْبِهِ أَهْوَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَوْ يَنْتَصِبُ مَفْعُولًا بِهِ؟ فَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ يَنْتَصِبُ إِذَا كَانَ إشارة إلى الخبر أو الْقَصَصِ نَصْبَ الْمَصْدَرِ أَوْ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

ص: 421

وَانْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِ وَتَقْدِيرُهُ قالَ اللَّهُ هَذَا الْقَصَصَ أَوِ الْخَبَرَ يَوْمُ يَنْفَعُ مَعْنًى يُزِيلُ وَصْفَ الْآيَةِ وَبَهَاءَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا خَبَرَ هَذَا وَهَذَا مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالتَّقْدِيرُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ عِيسَى وَاقِعٌ يَوْمَ يَنْفَعُ وَيَكُونُ هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ جملة محكية يقال. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ يَوْمًا يَنْفَعُ بِالتَّنْوِينِ كَقَوْلِهِ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ عَيَّاشٍ الشَّامِيُّ هَذَا يَوْمُ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صِدْقُهُمْ بِالرَّفْعِ فَاعِلُ يَنْفَعُ وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ لِصِدْقِهِمْ أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ بِصِدْقِهِمْ أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، أَيِ الَّذِينَ يَصْدُقُونَ صِدْقَهَمْ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ يَصْدُقُونَ الصِّدْقَ كَمَا تَقُولُ: صَدَقْتُهُ الْقِتَالَ وَالْمَعْنَى يُحَقِّقُونَ الصِّدْقَ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِنْ أُرِيدَ صِدْقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَلَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ، وَإِنْ أُرِيدَ فِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَا وَرَدَ فِيهِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِعِيسَى عليه السلام بِالصِّدْقِ فِيمَا يُجِيبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

(قُلْتُ) : مَعْنَاهُ الصِّدْقُ الْمُسْتَمِرُّ بِالصَّادِقِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمُ انْتَهَى، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أن هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى في الآخرة وَقَدِ اتَّبَعَ الزَّمَخْشَرِيَّ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا حَقِيقَتُهُ الْحِكَايَةُ وَمَعْنَى يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ وَلَا يَنْفَعُ أَحَدًا فِيهَا مَا قَالَ وَإِنْ حَسُنَ، وَلَوْ صَدَقَ الْكَافِرُ وَأَقَرَّ بِمَا عَمِلَ فَقَالَ: كَفَرْتُ وَأَسَأْتُ مَا نَفَعَهُ، وَإِنَّمَا الصَّادِقُ الَّذِي يَنْفَعُهُ صِدْقُهُ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا فَصْلٌ مِنْ كَلَامِ عِيسَى عليه السلام أَيْ: يَقُولُ عِيسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَقِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي فِيهِ تجنى ثَمَرَاتُ الصِّدْقِ الدَّائِمَةِ الْكَامِلَةِ، وَإِلَّا فَالصِّدْقُ يَنْفَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَكُلِّ وَقْتٍ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْعَمَلَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَالصَّادِقُونَ هُنَا النَّبِيُّونَ وَصِدْقُهُمْ تَبْلِيغُهُمْ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ وَصِدْقُهُمْ إِخْلَاصُهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ أَوْ صِدْقُ عُهُودِهِمْ أَوْ صِدْقُهُمْ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ صِدْقُهُمْ تَرْكُهُمُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رُسُلِهِ أَوْ صِدْقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِالْبَلَاغِ أَوْ شَهِدُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَيَكُونُ وَجْهُ

(1) سورة البقرة: 2/ 42.

ص: 422

النَّفْعِ فِيهِ أَنْ يُكْفَوُا الْمُؤَاخَذَةَ بِتَرْكِهِمْ كَتْمَ الشَّهَادَةِ فَيُغْفَرَ لَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فَكُلُّ صَادِقٍ يَنْفَعُهُ صِدْقُهُ.

لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ هَذَا كَأَنَّهُ جَوَابُ سَائِلٍ مَا لَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى الصِّدْقِ؟ فَقِيلَ: لَهُمْ جَنَّاتٌ.

خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِشَارَةٌ إلى تأييد الدَّيْمُومِيَّةِ فِي الْجَنَّةِ.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ قِيلَ: بِقَبُولِ حَسَنَاتِهِمْ وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ. وَقِيلَ: بِطَاعَتِهِمْ وَرَضُوا عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ بِثَوَابِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: بِصِدْقِهِمْ وَرَضُوا عَنْهُ بِوَفَاءِ حَقِّهِمْ. وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا وَرَضُوا عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرازي: في قَوْلِهِ رضي الله عنهم هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ هَذَا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِ الْأَرْوَاحِ الْمُشْرِقَةِ بِأَنْوَارِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَحْتَ قَوْلِهِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أَسْرَارٌ عَجِيبَةٌ لَا تَسْمَحُ الْأَقْلَامُ بِمِثْلِهَا جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْ أَهْلِهَا انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ عَجِيبٌ شَبِيهٌ بِكَلَامِ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ.

ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَيْنُونَةِ الْجَنَّةِ لَهُمْ على التأييد وَإِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ بِمَا فِيهَا كَالْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ وَثَبَتَ

فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَطَّلِعُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ:

يَا رَبَّنَا وَكَيْفَ لَا نَرْضَى وَقَدْ بَعَّدْتَنَا عَنْ نَارِكَ وَأَدْخَلْتَنَا جَنَّتَكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: وَمَا أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا» .

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَمَّا ادَّعَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى وَأُمِّهِ الْأُلُوهِيَّةَ اقْتَضَتِ الدَّعْوَى أَنْ يَكُونَا مَالِكَيْنِ قَادِرَيْنِ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويحتمل أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا مِنْ ذَلِكَ مُخَاطَبًا بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتَهُ انْتَهَى. وَقِيلَ: هَذَا جَوَابُ سَائِلٍ مَنْ يُعْطِيهِمْ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَقِيلَ الَّذِي لَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : ما في السموات وَالْأَرْضِ الْعُقَلَاءُ وَغَيْرُهُمْ، فَهَلْ غَلَّبَ الْعُقَلَاءَ فَقِيلَ وَمَنْ فِيهِنَّ، (قُلْتُ) : مَا تَتَنَاوَلُ الْأَجْنَاسَ كُلَّهَا تَنَاوُلًا عَامًّا أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: إِذَا رَأَيْتَ شَبَحًا مِنْ بَعِيدٍ مَا هُوَ قَبْلَ أَنْ تَعْرِفَ أَعَاقِلٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ عَاقِلٍ؟ فَكَانَ أَوْلَى بِإِرَادَةِ الْعُمُومِ

ص: 423

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: غُلِّبَ غَيْرُ الْعُقَلَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ كُلَّ الْمَخْلُوقَاتِ مُسَخَّرِينَ فِي قَبْضَةِ قَهْرِهِ وَقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّسْخِيرِ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهَا وَكَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا عَقْلَ لَهَا، فعل الْكُلِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ كَلَا عِلْمٍ وَقُدْرَةُ الْكُلِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ كَلَا قُدْرَةٍ وَقَالَ أَيْضًا: مُفْتَتَحُ السُّورَةِ، كَانَ بِذِكْرِ الْعَهْدِ الْمُنْعَقِدِ بَيْنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَيُشْرَعُ الْعَبْدُ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَيَنْتَهِي إِلَى الْفَنَاءِ الْمَحْضِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الشَّرِيعَةُ وَهُوَ الْبِدَايَةُ، وَالْآخَرُ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ النِّهَايَةُ فَمُفْتَتَحُ السُّورَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَمُخْتَتَمُهَا بِذِكْرِ اللَّهِ عز وجل وَكِبْرِيَائِهِ تَعَالَى وَعِزَّتِهِ وَقَهْرِهِ وَعُلُّوِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى مَقَامِ الْحَقِيقَةِ فَمَا أَحْسَنَ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُفْتَتَحِ وَهَذَا الْمُخْتَتَمِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَلَيْسَتِ الْحَقِيقَةُ وَالشَّرِيعَةُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا لَا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَا مِنْ كَلَامِ التَّابِعِينَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الصُّوفِيَّةِ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

ص: 424