الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المائدة
[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَاّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
الْبَهِيمَةُ: كُلُّ ذَاتِ أَرْبَعٍ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْبَهِيمَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا أُبْهِمَ مِنْ جِهَةِ نَقْصِ النُّطْقِ وَالْفَهْمِ انْتَهَى. وَمَا كَانَ على فعيل أو فعلية وَعَيْنُهُ حَرْفُ حَلْقٍ اسْمًا كَانَ أَوْ صِفَةً، فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَسْرُ أَوَّلِهِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ عَيْنِهِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي
تَمِيمٍ تَقُولُ: رِئِيٍّ وَبِهِيمَةٍ، وَسِعِيدٍ وَصِغِيرٍ، وَبِحِيرَةٍ وَبِخِيلٍ. الصَّيْدُ: مَصْدَرُ صَادَ يَصِيدُ وَيُصَادُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَصِيدِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ: الصَّيْدُ مَا كَانَ مُمْتَنِعًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالِكٌ وَكَانَ حَلَالًا أَكْلُهُ، وَكَأَنَّهُ فَسَّرَ الصَّيْدَ الشَّرْعِيَّ.
الْقِلَادَةُ فِي الْهَدْيِ: مَا قُلِّدَ بِهِ مِنْ نَعْلٍ، أَوْ عُرْوَةٍ مُزَادَةٍ، أَوْ لحا شَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَانَ الْحَرَمِيُّ رُبَّمَا قَلَّدَ رِكَابَهُ بلحا شَجَرِ الْحَرَمِ، فَيَعْتَصِمُ بِذَلِكَ مِنَ السُّوءِ.
الْآمُّ: الْقَاصِدُ أَمَمْتُ الشَّيْءَ قَصَدْتُهُ.
جَرَمَهُ عَلَى كَذَا حَمَلَهُ، قَالَهُ: الْكِسَائِيُّ وَثَعْلَبٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: جَرَمَهُ كَسَبَهُ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ أَيْ كَاسِبُهُمْ، وَالْجَارِمُ الْكَاسِبُ. وَأَجْرَمَ فُلَانٌ اكْتَسَبَ الْإِثْمَ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا: جَرَمَ وَأَجْرَمَ أَيْ كَسَبَ غَيْرَهُ، وَجَرَمَ يَجْرِمُ جَرْمًا إِذَا قَطَعَ. قَالَ الرُّمَّانِيُّ: وَهُوَ الْأَصْلُ، فَجَرَمَ حَمَلَ عَلَى الشَّيْءِ لِقَطْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَجَرَمَ كَسَبَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى الْكَسْبِ، وَجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ، لِأَنَّ الْحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ أَيْ لَقَدْ حَقَّ.
الشَّنَآنُ: الْبُغْضُ، وهو أحد مصادر شيء. يقال: شنيء يشنأ شنأ وَشَنَآنًا مُثَلَّثَيِ الشِّينِ فَهَذِهِ سِتَّةٌ: وَشَنَاءً، وَشَنَاءَةً، وَشِنَاءً، وَشَنْأَةً، وَمَشْنَأَةً، وَمَشْنِئَةً، وَمِشْنِئَةً، وَشَنَانًا، وَشِنَانًا.
فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مَصْدَرًا وَهِيَ أَكْثَرُ مَا حُفِظَ لِلْفِعْلِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: كُلُّ بِنَاءٍ كَانَ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى فَعَلَانٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَمْ يَتَعَدَّ فِعْلُهُ إِلَّا أَنْ يَشِذَّ شَيْءٌ كَالشَّنَآنِ.
الْمُعَاوَنَةُ: الْمُسَاعَدَةُ. الْمُنْخَنِقَةُ: هِيَ الَّتِي تَحْتَبِسُ نَفَسَهَا حَتَّى تَمُوتَ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَبْسُهَا بِحَبْلٍ أَمْ يَدٍ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ. الْوَقْذُ: ضَرْبُ الشَّيْءِ حَتَّى يَسْتَرْخِيَ وَيُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ.
وَقِيلَ: الْمَوْقُوذَةُ الْمَضْرُوبَةُ بِعَصَا أَوْ حَجَرٍ لَا حَدَّ لَهُ، فَتَمُوتُ بِلَا ذَكَاةٍ. وَيُقَالُ: وَقَذَهُ النُّعَاسُ غَلَبَهُ، وَوَقَذَهُ الْحُكْمُ سَكَّنَهُ. التَّرَدِّي: السُّقُوطُ فِي بِئْرٍ أَوِ التَّهَوُّرُ مِنْ جَبَلٍ. وَيُقَالُ: رَدَى وَتَرَدَّى أَيْ هَلَكَ، وَيُقَالُ: مَا أَدْرِي أَيْنَ رَدَى؟ أَيْ ذَهَبَ. النَّطِيحَةُ: هِيَ الَّتِي يَنْطَحُهَا غَيْرُهَا فَتَمُوتُ بِالنَّطْحِ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ صِفَةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ فَوَلِيَتِ الْعَوَامِلَ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِيهَا الْهَاءُ. السَّبُعُ: كُلُّ ذِي نَابٍ وَظُفُرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ: كَالْأَسَدِ، وَالنَّمِرِ، وَالدُّبِّ، وَالذِّئْبِ، وَالثَّعْلَبِ، وَالضَّبُعِ، وَنَحْوِهَا. وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ مِنَ الطَّيْرِ سِبَاعٌ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَسِبَاعُ الطَّيْرِ تَغْدُو بِطَانًا
…
تَتَخَطَّاهُمْ فَمَا تَسْتَقِلُّ
وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخُصُّ السَّبُعَ بِالْأَسَدِ، وَسُكُونُ الْبَاءِ لُغَةٌ نَجْدِيَّةٌ، وَسُمِعَ فَتْحُهَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لُغَةٌ. التَّذْكِيَةُ: الذَّبْحُ، وَتَذْكِيَةُ النَّارِ رَفْعُهَا، وَذَكَّى الرَّجُلُ وَغَيْرُهُ أَسَنَّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
عَلَى أَعْرَاقِهِ تَجْرِي الْمَذَاكِي
…
وَلَيْسَ عَلَى تَقَلُّبِهِ وَجَهْدِهِ
النُّصُبُ، قِيلَ جَمْعُ نِصَابٍ، وَهِيَ حِجَارَةٌ مَنْصُوبَةٌ حَوْلَ الْكَعْبَةِ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَهَا وَيَذْبَحُونَ عَلَيْهَا لِآلِهَتِهِمْ، وَلَهَا أَيْضًا وَتُلَطَّخُ بِالدِّمَاءِ، وَيُوضَعُ عَلَيْهَا اللَّحْمُ قِطَعًا قِطَعًا لِيَأْكُلَ مِنْهَا النَّاسُ. وَقِيلَ: النُّصُبُ مُفْرَدٌ. قَالَ الْأَعْشَى: وَذَا النُّصُبِ الْمَنْصُوبِ لَا تَقْرَبَنَّهُ.
الْأَزْلَامُ: الْقِدَاحُ وَاحِدُهَا زَلَمٌ وَزُلَمٌ بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِهَا وَهِيَ السِّهَامُ، كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ غَزْوًا أَوْ تِجَارَةً أَوْ نِكَاحًا أَوْ أَمْرًا مِنْ مَعَاظِمِ الْأُمُورِ ضَرَبَ بِالْقِدَاحِ، وَهِيَ مَكْتُوبٌ عَلَى بَعْضِهَا نَهَانِي رَبِّي، وَعَلَى بَعْضِهَا أَمَرَنِي رَبِّي، وَبَعْضُهَا غُفْلٌ، فَإِنْ خَرَجَ الْآمِرُ مَضَى لِطِلْبَتِهِ، وَإِنْ خَرَجَ النَّاهِي أَمْسَكَ، وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادَ الضَّرْبَ.
الْيَأْسُ: قَطْعُ الرجاء. يقال: يئس ييئس وَيَيْئِسُ، وَيُقَالُ: أَيِسَ وَهُوَ مَقْلُوبٌ مِنْ يَئِسَ، وَدَلِيلُ الْقَلْبِ تخلف الحكم عن ما ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُوجِبٌ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْلِبُوا يَاءَهُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فَلَمْ يَقُولُوا آسَ كَمَا قَالُوا هَابَ.
الْمَخْمَصَةُ: الْمَجَاعَةُ الَّتِي تخمص فِيهَا الْبُطُونُ أَيْ تَضْمُرُ، وَالْخَمْصُ ضُمُورُ الْبَطْنِ، وَالْخِلْقَةِ مِنْهُ حَسَنَةٌ فِي النِّسَاءِ وَمِنْهُ يُقَالُ: خَمْصَانَةٌ، وَبَطْنٌ خَمِيصٌ، وَمِنْهُ أَخْمَصُ الْقَدَمِ.
وَيُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْجُوعِ وَالْغَرَثِ. قَالَ الْأَعْشَى:
تَبِيتُونَ فِي الْمَشْتَى مِلَاءً بُطُونُكُمْ
…
وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا
وَقَالَ آخَرُ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا
…
فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خميص
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ مُنْصَرِفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمِنْهَا مَا نَزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمِنْهَا مَا نَزَلْ عَامَ الْفَتْحِ. وَكُلُّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ فِي سَفَرٍ، أَوْ بِمَكَّةَ، فَهُوَ مَدَنِيٌّ. وَذَكَرُوا فَضَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَنَّهَا تُسَمَّى: الْمَائِدَةَ، وَالْعُقُودَ، وَالْمُنْقِذَةَ، وَالْمُبَعْثِرَةَ. وَمُنَاسَبَةُ افْتِتَاحِهَا لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ اسْتِفْتَاءَهُمْ فِي الْكَلَالَةِ وَأَفْتَاهُمْ فِيهَا، ذَكَرَ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَرَاهَةَ الضَّلَالِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ
السُّورَةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً هِيَ تَفْصِيلٌ لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ. قَالُوا: وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَرِيضَةً لَمْ يُبَيِّنْهَا فِي غَيْرِهَا، وَسَنُبَيِّنُهَا أَوَّلًا فَأَوَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرُوا أَنَّ الْكِنْدِيَّ الْفَيْلَسُوفَ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ، فَقَالَ: نَعَمْ، أَعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ، فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ، وَلَا يُطِيقُ هَذَا أَحَدٌ، إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ، وَنَهَى عَنِ النَّكْثِ، وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًّا، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا فِي أَجْلَادٍ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ النِّدَاءَ لِأُمَّةِ الرَّسُولِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَأَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِيفَاءِ الْعُقُودِ وَهِيَ جَمْعُ عَقْدٍ، وَهُوَ الْعَهْدُ، قَالَهُ: الْجُمْهُورُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعُقُودُ أَوْكَدُ مِنَ الْعُهُودِ، وَأَصْلُهُ فِي الْأَجْرَامِ ثُمَّ تَوَسَّعَ فَأَطْلَقَ فِي الْمَعَانِي، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: هُوَ الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ شُبِّهَ بِعَقْدِ الْحَبْلِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ
…
شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمُخْلِصِ وَالْمُظْهِرِ، وَعُمُومُ الْعُقُودِ فِي كُلِّ رَبْطٍ يُوَافِقُ الشَّرْعَ سَوَاءٌ كَانَ إِسْلَامِيًّا أَمْ جَاهِلِيًّا
وَقَدْ سَأَلَ فُرَاتُ بْنُ حَنَانٍ الْعِجْلِيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ حِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: «لَعَلَّكَ تَسْأَلُ عَنْ حِلْفِ تَيْمِ اللَّهِ» قَالَ: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ:
«لَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً» .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حِلْفِ الْفُضُولِ وَكَانَ شَهِدَهُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمُرَ النَّعَمِ وَلَوِ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ»
وَكَانَ هَذَا الْحِلْفُ أَنَّ قُرَيْشًا تَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا مَظْلُومًا بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدَّ مَظْلَمَتُهُ، وسميت ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ.
وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَتَحَامَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي مَالٍ فَقَالَ: لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي وَإِلَّا أَخَذْتُ بِسَيْفِي، ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَئِنْ دَعَانِي لَآخُذَنَّ سَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ خَصْمِهِ، أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا. وَبَلَغَتِ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ فَأَنْصَفَهُ.
وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْعُمُومِ كُلُّ عَقْدٍ مَعَ إِنْسَانٍ كَأَمَانٍ، وَدِيَةٍ، وَنِكَاحٍ، وَبَيْعٍ، وَشَرِكَةٍ،
وَهِبَةٍ، وَرَهْنٍ، وَعِتْقٍ، وَتَدْبِيرٍ، وَتَخْيِيرٍ، وَتَمْلِيكٍ، وَمُصَالَحَةٍ، وَمُزَارَعَةٍ، وَطَلَاقٍ، وَشِرَاءٍ، وَإِجَارَةٍ، وَمَا عَقَدَهُ مَعَ نَفْسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ طَاعَةٍ: كَحَجٍ، وَصَوْمٍ، وَاعْتِكَافٍ، وَقِيَامٍ، وَنَذْرٍ وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْعُهُودُ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِيمَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: هِيَ الْعُهُودُ الَّتِي عَقَدَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَلْزَمَهَا إِيَّاهُمْ مِنْ وَاجِبِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّهُ كَلَامٌ قُدِّمَ مُجْمَلًا ثُمَّ عُقِّبَ بِالتَّفْصِيلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْحِلْفُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ:
وَرُوِيَ لَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَوْفُوا بِعَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا تُحْدِثُوا عَقْدًا فِي الْإِسْلَامِ» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ كُلُّ مَا رَبَطَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدَةَ: الْعُقُودُ خَمْسٌ: عُقْدَةُ الْإِيمَانِ، وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَعُقْدَةُ الْعَهْدِ، وَعُقْدَةُ الْبَيْعِ، وَعُقْدَةُ الْحِلْفِ. وَقِيلَ: هِيَ عُقُودُ الْأَمَانَاتِ وَالْبِيَاعَاتِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ.
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَرَأْتُ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَانَ وَفِي صَدْرِهِ: «هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»
وَقِيلَ:
الْعُقُودُ هُنَا الْفَرَائِضُ.
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ قِيلَ: هَذَا تَفْصِيلٌ بَعْدَ إِجْمَالٍ. وَقِيلَ: اسْتِئْنَافُ تَشْرِيعٍ بَيَّنَ فِيهِ فَسَادَ تَحْرِيمِ لُحُومِ السَّوَائِبِ، وَالْوَصَائِلِ، وَالْبَحَائِرِ، وَالْحَوَامِّ، وَأَنَّهَا حَلَالٌ لَهُمْ.
وَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ مِنْ بَابِ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى جِنْسِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى مِنْ، لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ أَعَمُّ، فَأُضِيفَتْ إِلَى أَخَصٍّ. فَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ كُلُّهَا قَالَهُ: قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَالْحَسَنُ. وَهِيَ الثَّمَانِيَةُ الْأَزْوَاجِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ قتيبة: هي الإبل، والبقرة، وَالْغَنَمُ، وَالْوُحُوشُ كُلُّهَا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَالْفَرَّاءُ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَحْشِيُّهَا كَالظِّبَاءِ، وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِهِ. وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا مَا يُمَاثِلُ الْأَنْعَامَ وَيُدَانِيهَا مِنْ جِنْسِ الْأَنْعَامِ الْبَهَائِمِ، وَالْأَضْرَارِ وَعَدَمِ الْأَنْيَابِ، فَأُضِيفَتْ إِلَى الْأَنْعَامِ لِمُلَابَسَةِ الشَّبَهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَدْلُولِ لَفْظِ الْأَنْعَامِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الْأَجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ عِنْدَ ذَبْحِ أُمَّهَاتِهَا فَتُؤْكَلُ دُونَ ذَكَاةٍ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الَّتِي تَرْعَى مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَكَانَ الْمُفْتَرِسُ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْأَسَدِ وَكُلُّ ذِي نَابٍ قَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِبْهَامِ فَصَارَ لَهُ نَظَرٌ مَا.
إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
تَحْرِيمُهُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «1» وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمَعْنَى يُتْلَى عَلَيْكُمْ يُقْرَأُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ،
وَمِنْهُ «كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ» .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: ظَاهِرُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مُجْمَلٌ، وَاسْتِثْنَاءُ الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُفَصَّلِ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مُجْمَلًا، إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ إِلَى قَوْلِهِ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ «2» وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، يَقْتَضِي إِحْلَالَهَا لَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ. فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَيْتَةً أَوْ مَذْبُوحَةً عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، أَوْ مُنْخَنِقَةً أَوْ مَوْقُوذَةً أَوْ مُتَرَدِّيَةً أَوْ نَطِيحَةً، أَوِ افْتَرَسَهَا السَّبُعُ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَوْضِعُ مَا نَصْبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَجُوزُ الرفع على الصفة لبهيمة. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجَازَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَعَلَى أَنْ تَكُونَ إِلَّا عَاطِفَةً، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا مِنْ نَكِرَةٍ أَوْ مَا قَارَبَهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ نَحْوَ قَوْلِكَ: جَاءَ الرَّجُلُ إِلَّا زَيْدٌ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: غَيْرَ زَيْدٍ انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ مِنْ أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ لَا يَصِحُّ الْبَتَّةَ، لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ مُوجَبٌ. فَكَمَا لَا يَجُوزُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ عَلَى الْبَدَلِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْبَدَلُ فِي: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. وَأَمَّا كَوْنُ إِلَّا عَاطِفَةً فَهُوَ شَيْءٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَوْلُهُ: وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، ظَاهِرُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى وَجْهَيِ الرَّفْعِ الْبَدَلِ وَالْعَطْفِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا مِنْ نَكِرَةٍ، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُبْهَمٌ لَا يُدْرَى مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ. وَكِلَا وَجْهَيِ الرَّفْعِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْهُ، لِأَنَّ الْبَدَلَ مِنَ الْمُوجَبِ لَا يُجِيزُهُ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ لَا بَصَرِيٌ وَلَا كُوفِيٌّ. وَأَمَّا الْعَطْفُ فَلَا يُجِيزُهُ بَصْرِيٌّ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَا قَبْلَهُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. وَشَرَطَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْمَنْعُوتِ نَكِرَةٌ، أَوْ مَا قَارَبَهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، فَلَعَلَّ ابْنَ عَطِيَّةَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ وَالنَّعْتُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ. وَلَوْ فَرَضْنَا تَبَعِيَّةَ مَا بَعْدَ إِلَّا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْإِعْرَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ حَتَّى يُسَوِّغَ ذَلِكَ، لَمْ يُشْتَرَطْ تَنْكِيرُ مَا قَبْلَ إِلَّا وَلَا كَوْنُهُ مُقَارِبًا لِلنَّكِرَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، لِأَنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ مِنْهُ يَجُوزُ اخْتِلَافُهُمَا بِالتَّنْكِيرِ وَالتَّعْرِيفِ.
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ غَيْرَ بِالنَّصْبِ. وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي صَاحِبِ الْحَالِ. فَقَالَ الْأَخْفَشِ: هُوَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي أوفوا. وقال
(1) سورة المائدة: 5/ 3.
(2)
سورة المائدة: 5/ 3.
الْجُمْهُورُ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي أُحِلَّ لَكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ من أجل الْقَائِمُ مَقَامَهُ الْمَفْعُولُ بِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ضَمِيرُ الْمَجْرُورِ فِي عَلَيْكُمْ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَأَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ، اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ مِنْهُ.
فَالِاسْتِثْنَاءَانِ مَعْنَاهُمَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إِلَّا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ «1» عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ وَهُوَ قَوْلٌ مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَحْظُورِ إِذَا كَانَ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مُسْتَثْنًى مِنَ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا وَجْهٌ سَاقِطٌ، فَإِذَا مَعْنَاهُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ غير مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ سِوَى الصَّيْدِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ خَلَطَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي نَصْبِ غَيْرَ، وَقَدَّرُوا تَقْدِيمَاتٍ وَتَأْخِيرَاتٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى اطِّرَادِهِ مُتَمَكِّنٌ اسْتِثْنَاءٌ بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ أَيْضًا مِمَّنْ خَلَطَ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ.
فَأَمَّا قَوْلُ الْأَخْفَشِ: فَفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ ذِي الْحَالِ وَالْحَالِ بِجُمْلَةٍ اعْتِرَاضِيَّةٍ، بَلْ هِيَ مُنْشِئَةٌ أَحْكَامًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَفِيهِ تَقْيِيدُ الْإِيفَاءِ بِالْعُقُودِ بِانْتِفَاءِ إِحْلَالِ الْمُوفِينَ الصَّيْدَ وَهُمْ حُرُمٌ، وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِيفَاءِ الْعُقُودِ بِغَيْرِ قَيْدٍ، وَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فِي حَالِ انْتِفَاءِ كَوْنِكُمْ مُحَلِّينَ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَهُمْ قَدْ أُحِلَّتْ لَهُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ أَنْفِسِهَا. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الظِّبَاءُ وَبَقَرُ الْوَحْشِ وَحُمُرُهُ فَيَكُونَ الْمَعْنَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ هَذِهِ فِي حَالِ انْتِفَاءِ كَوْنِكُمْ محلين الصيد وأنتم حرم، وَهَذَا تَرْكِيبٌ قَلِقٌ مُعَقَّدٌ، يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ مِثْلُ هَذَا. وَلَوْ أُرِيدَ بِالْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى لَجَاءَ عَلَى أَفْصَحِ تَرْكِيبٍ وَأَحْسَنِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ: مَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ.
وَقَدَّرَهُ: وَأَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلٍّ لَكُمُ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، قَالَ كَمَا تَقُولُ:
أَحْلَلْتُ لَكَ كَذَا غَيْرَ مُبِيحِهِ لَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَهُوَ فَاسِدٌ. لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ الْمَحْذُوفَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ يَصِيرُ نِسْيًا مَنْسِيًّا، وَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْحَالِ مِنْهُ. لَوْ قُلْتَ:
أُنْزِلَ الْمَطَرُ لِلنَّاسِ مُجِيبًا لِدُعَائِهِمْ، إِذِ الْأَصْلُ أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ مُجِيبًا لِدُعَائِهِمْ لَمْ يَجُزْ، وَخُصُوصًا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ صِيغَةٌ وُضِعَتْ أَصْلًا كَمَا وُضِعَتْ صِيغَتُهُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَلَيْسَتْ مُغَيَّرَةً مِنْ صِيغَةٍ
(1) سورة الحجر: 15/ 58.
بُنِيَتْ لِلْفَاعِلِ، وَلِأَنَّهُ يَتَقَيَّدُ إِحْلَالُهُ تَعَالَى بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا ثَمَانِيَةُ الْأَزْوَاجِ بِحَالِ انْتِفَاءِ إِحْلَالِهِ الصَّيْدَ وَهُمْ حُرُمٌ، وَهُوَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي غَيْرِهَا.
وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنْ كَانَ النَّقْلُ صَحِيحًا فَهُوَ يَتَخَرَّجُ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَقُولُ: إِنَّمَا عَرَضَ الْإِشْكَالُ فِي الْآيَةِ مِنْ جَعْلِهِمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حَالًا مِنَ الْمَأْمُورِينَ بِإِيفَاءِ الْعُقُودِ، أَوْ مِنَ الْمُحَلَّلِ لَهُمْ، أَوْ مِنَ الْمُحَلِّلِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ مِنَ الْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ. وَغَرَّهُمْ فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ كَتَبَ مُحِلِّي بِالْيَاءِ، وَقَدَّرُوهُ هُمْ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَحَلَّ، وَأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى الصَّيْدِ إِضَافَةَ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَفْعُولِ، وَأَنَّهُ جَمْعٌ حُذِفَ مِنْهُ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ. وَأَصْلُهُ: غَيْرَ مُحِلِّينَ الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، إِلَّا فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ، فَلَا يُقَدَّرُ فِيهِ حَذْفُ النُّونِ، بَلْ حَذْفُ التَّنْوِينِ. وَإِنَّمَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ وَيَتَّضِحُ الْمَعْنَى بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مُحِلِّي الصَّيْدِ، مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: حِسَانُ النِّسَاءِ.
وَالْمَعْنَى: النِّسَاءُ الْحِسَانُ، وَكَذَلِكَ هَذَا أَصْلُهُ غَيْرَ الصَّيْدِ الْمُحِلِّ. وَالْمُحِلُّ صِفَةٌ لِلصَّيْدِ لَا لِلنَّاسِ، وَلَا لِلْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ. وَوَصْفُ الصَّيْدِ بِأَنَّهُ مُحِلٌّ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ دَخَلَ فِي الْحِلِّ كَمَا تَقُولُ: أَحَلَّ الرَّجُلُ أَيْ: دَخَلَ فِي الْحِلِّ، وَأَحْرَمَ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ صَارَ ذَا حِلٍّ، أَيْ حَلَالًا بِتَحْلِيلِ اللَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الصَّيْدَ عَلَى قِسْمَيْنِ: حَلَالٌ، وَحَرَامٌ. وَلَا يَخْتَصُّ الصَّيْدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِالْحَلَالِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ لَيَصِيدُ الْأَرَانِبَ حَتَّى الثَّعَالِبَ لَكِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ شَرْعًا؟ وَقَدْ تَجَوَّزَتِ الْعَرَبُ فَأَطْلَقَتِ الصَّيْدَ عَلَى مَا لَا يُوصَفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ:
لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إِذَا
…
مَا كَذَّبَ اللَّيْثُ عَنْ أَقْرَانِهِ صَدَقَا
وَقَالَ آخَرُ:
وَقَدْ ذَهَبَتْ سَلْمَى بِعَقْلِكَ كُلِّهِ
…
فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أَحْرَزَتْهُ حَبَائِلُهْ
وَقَالَ آخَرُ:
وَمَيٌّ تَصِيدُ قُلُوبَ الرِّجَالِ
…
وَأَفْلَتَ مِنْهَا ابْنُ عُمَرٍ وَحَجَرٍ
وَمَجِيءُ أَفْعَلَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. فَمِنْ مَجِيءِ أَفْعَلَ لِبُلُوغِ الْمَكَانِ وَدُخُولِهِ قَوْلُهُمْ: أَحْرَمَ الرَّجُلُ، وَأَعْرَقَ، وَأَشْأَمَ، وَأَيْمَنَ، وَأَتْهَمَ، وَأَنْجَدَ إِذَا بَلَغَ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ وَحَلَّ بِهَا. وَمِنْ مَجِيءِ أَفْعَلَ بِمَعْنَى صَارَ ذَا كَذَا قَوْلُهُمْ: أَعْشَبَتِ الْأَرْضُ،
وَأَبْقَلَتْ، وَأَغَدَّ الْبَعِيرُ، وَأَلْبَنَتِ الشَّاةُ، وَغَيْرُهَا، وَأَجْرَتِ الْكَلْبَةُ، وَأَصْرَمَ النَّخْلُ، وَأَتْلَتِ النَّاقَةُ، وَأَحْصَدَ الزَّرْعُ، وَأَجْرَبَ الرَّجُلُ، وَأَنْجَبَتِ الْمَرْأَةُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّيْدَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُحِلًّا بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ كَوْنِهِ بَلَغَ الْحِلَّ، أَوْ صَارَ ذَا حِلٍّ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مِنِ اسْتِثْنَاءٍ، إِذْ لَا يمكن ذلك لتناقض الْحُكْمِ. لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُحَلَّلِ مُحَرَّمٌ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُحَرَّمِ مُحَلَّلٌ. بَلْ إِنَّ كَانَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، الْأَنْعَامُ أَنْفُسُهَا، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الظِّبَاءَ وَبَقَرَ الْوَحْشِ وَحُمُرَهُ وَنَحْوَهَا، فَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيِ الْمُحِلِّ، اسْتَثْنَى الصَّيْدَ الَّذِي بلغ الحل في حال كَوْنِهِمْ مُحْرِمِينَ.
(فَإِنْ قُلْتَ) : مَا فَائِدَةٌ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَيْدِ بُلُوغِ الْحِلِّ وَالصَّيْدِ الَّذِي فِي الْحَرَمِ لَا يَحِلُّ أَيْضًا؟
(قُلْتُ) : الصَّيْدُ الَّذِي فِي الْحَرَمِ لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ وَلَا لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدُ الَّذِي فِي الْحِلِّ، فَنَبَّهَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ الَّذِي فِي الْحِلِّ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا لِغَيْرِهِ، فَأَحْرَى أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ الَّذِي هُوَ بِالْحَرَمِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ قوله: حرمت عليكم الميتة الْآيَةَ، اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، إِذْ لَا يَخْتَصُّ الْمَيْتَةَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا بِالظِّبَاءِ وَحُمُرِ الْوَحْشِ وَبَقَرِهِ وَنَحْوِهَا، فَيَصِيرُ لَكِنْ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أَيْ: تَحْرِيمُهُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الْأَنْعَامَ وَالْوُحُوشَ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءَانِ رَاجِعَيْنِ إِلَى الْمَجْمُوعِ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَيَرْجِعُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إِلَى ثَمَانِيَةِ الْأَزْوَاجِ، وَيَرْجِعُ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ إِلَى الْوُحُوشِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي اسْتِثْنَاءً مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، وَأَمْكَنَ رُجُوعُهُ إِلَى الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ مَا جَازَ. وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ بَعْضٍ كَانَتْ كُلُّهَا مُسْتَثْنَيَاتٍ مِنَ الِاسْمِ الْأَوَّلِ نَحْوَ قَوْلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، إِلَّا عَمْرًا، إِلَّا بَكْرًا (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ هَذَا التَّخْرِيجِ الْغَرِيبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُحِلُّ مِنْ صِفَةِ الصَّيْدِ، لَا مِنْ صِفَةِ النَّاسِ، وَلَا مِنْ صِفَةِ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ، يُعَكِّرُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ كُتِبَ فِي رَقْمِ الْمُصْحَفِ بِالْيَاءِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ النَّاسِ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ صِفَةِ الصَّيْدِ لَمْ يُكْتَبْ بِالْيَاءِ، وَبِكَوْنِ الْفَرَّاءِ وَأَصْحَابِهِ وَقَفُوا عَلَيْهِ بِالْيَاءِ يَأْبَى ذَلِكَ. (قُلْتُ) : لَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ لِأَنَّهُمْ كَتَبُوا كَثِيرًا رَسْمَ الْمُصْحَفِ عَلَى مَا يُخَالِفُ النُّطْقَ نَحْوَ: بِأَيْيدٍ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَكَتْبُهُمْ أُولَئِكَ بِوَاوٍ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَبِنَقْصِهِمْ مِنْهُ أَلِفًا. وَكِتَابَتُهُمُ الصَّلِحَتِ وَنَحْوِهِ بِإِسْقَاطِ الْأَلِفَيْنِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الرَّسْمِ. وَأَمَّا وَقْفُهُمْ عَلَيْهِ بِالْيَاءِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى الْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا بِذَلِكَ الِاخْتِبَارَ أَوْ يَنْقَطِعُ النَّفَسُ، فَوَقَفُوا عَلَى
الرَّسْمِ كَمَا وَقَفُوا عَلَى سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «1» مِنْ غَيْرِ وَاوٍ إِتْبَاعًا لِلرَّسْمِ. عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ كِتَابَتِهِ بِالْيَاءِ وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ بِيَاءٍ بِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى لُغَةِ الْأَزْدِ، إِذْ يَقِفُونَ عَلَى بِزَيْدٍ بِزَيْدِي بِإِبْدَالِ التَّنْوِينِ يَاءً، فَكُتِبَ مُحِلِّي بِالْيَاءِ عَلَى الْوَقْفِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ رَسْمِيٍّ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ مِمَّا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: غَيْرُ بِالرَّفْعِ، وَأَحْسَنُ مَا يُخَرَّجُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، وَلَا يلزم من الوصف بغير أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُمَاثِلًا لِلْمَوْصُوفِ فِي الْجِنْسِيَّةِ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَخُرِّجَ أَيْضًا عَلَى الصِّفَةِ لِلضَّمِيرِ فِي يُتْلَى.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ هُوَ فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ غَيْرُ مُسْتَحَلٍّ إِذَا كَانَ صَيْدًا انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هذا التكلف عَلَى تَخْرِيجِنَا مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ جُمْلَةً حَالِيَّةً.
وَحُرُمٌ جَمْعُ حَرَامٍ.
وَيُقَالُ: أَحْرَمَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، أَوْ بِهِمَا، فَهُوَ مُحْرِمٌ وَحَرَامٌ، وَأَحْرَمَ الرَّجُلُ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ الشاعر:
فقلت لها فيئ إِلَيْكِ فَإِنَّنِي
…
حَرَامٌ وَإِنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ
أَيْ: مُلَبٍّ. وَيَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، إِذِ الصَّيْدُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ، وَعَلَى مَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، حَالٌ عَنْ مَحَلِّ الصَّيْدِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَحْلَلْنَا لَكُمْ بَعْضَ الْأَنْعَامِ فِي حَالِ امْتِنَاعِكُمْ مِنَ الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ لِئَلَّا يَتَحَرَّجَ عَلَيْكُمْ انْتَهَى. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ، بِأَنَّ الْأَنْعَامَ مُبَاحَةٌ مَطْلَقًا لَا بِالتَّقْيِيدِ بِهَذِهِ الْحَالِ.
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُحِلُّ وَيُحَرِّمُ. وَقِيلَ: يَحْكُمُ فِيمَا خَلَقَ بِمَا يُرِيدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتْ مُقَوِّيَةً لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَعْهُودِ أَحْكَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيفَاءِ الْعُقُودِ وَتَحْلِيلِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهَا مَا يُتْلَى تَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ إِلَّا فِي اضْطِرَارٍ، وَاسْتِثْنَاءِ الصَّيْدِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ، وَتَضَمُّنِ ذَلِكَ حِلَّهُ لِغَيْرِ الْمُحَرَّمِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. فَمُوجِبُ الْحُكْمِ وَالتَّكْلِيفِ هُوَ إِرَادَتُهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، لَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ مِنَ الأحكام، ويعلم أنه
(1) سورة العلق: 96/ 18.
حِكْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا نَصُّهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يَلُوحُ فَصَاحَتُهَا وَكَثْرَةُ مَعَانِيهَا عَلَى قِلَّةِ أَلْفَاظِهَا لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ بِالْكَلَامِ، وَلِمَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْحِكَايَةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عَنِ الْكِنْدِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا أَقُولُ مِنْ قَصِيدَةٍ مَدَحْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَارِضًا لِقَصِيدَةِ كَعْبٍ مِنْهُ فِي وَصْفِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:
جَارٍ عَلَى مَنْهَجِ الْأَعْرَابِ أَعْجَزَهُمْ
…
بَاقٍ مَدَى الدَّهْرِ لَا يَأْتِيهِ تَبْدِيلُ
بَلَاغَةٌ عِنْدَهَا كَعَّ الْبَلِيغُ فَلَمْ
…
يَنْبِسْ وَفِي هَدْيِهِ طَاحَتْ أَضَالِيلُ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ
خَرَجَ سُرَيْحٌ أَحَدُ بَنِي ضُبَيْعَةَ إِلَى مَكَّةَ حَاجًّا وَسَاقَ الْهَدْيَ.
وَفِي رِوَايَةٍ وَمَعَهُ تِجَارَةٌ، وَكَانَ قَبْلُ قَدْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَتَكَلَّمَ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَتَرَوَّى فِي إِسْلَامِهِ، وَقَالَ الرَّسُولُ عليه السلام:«لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ بِعَقِبَيْ غَادِرٍ» فَمَرَّ بِسَرْحٍ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَاقَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرَادَ أَهْلُ السَّرْحِ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِ، وَاسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: اسْمُهُ الْحَطِيمُ بْنُ هِنْدٍ الْبَلَدِيُّ أَحَدُ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَأَرَادَ الرَّسُولُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَحَجَّ الْمُشْرِكُونَ وَاعْتَمَرُوا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ هَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ فَلَنْ نَدَعَهُمْ إِلَّا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ.
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ «1» وَالشَّعَائِرُ جَمَعَ شَعِيرَةٍ أَوْ شَعَارَةٍ، أَيْ: قَدْ أَشْعَرَ اللَّهُ أَنَّهَا حَدُّهُ وَطَاعَتُهُ، فَهِيَ بِمَعْنَى مَعَالِمِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «2» . قَالَ الْحَسَنُ: دِينُ اللَّهِ كُلُّهُ يَعْنِي شَرَائِعَهُ الَّتِي حَدَّهَا لِعِبَادِهِ، فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ تَكَالِيفِهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَمُجَاهِدٌ:
مَنَاسِكُ الْحَجِّ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: شَعَائِرُ الْحَجِّ وَهِيَ سِتٌّ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَالْبُدْنُ، وَالْجِمَارُ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَعَرَفَةُ، وَالرُّكْنُ. وَقَالَ أَيْضًا: الْمُحَرَّمَاتُ خَمْسٌ: الْكَعْبَةُ الْحَرَامُ، وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، حَتَّى يُحَلَّ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ:
كَانَ عَامَّةُ الْعَرَبِ لَا يَعُدُّونَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنَ الشَّعَائِرِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقِفُ بِعَرَفَاتٍ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْأَعْلَامُ الْمَنْصُوبَةُ الْمُتَفَرِّقَةُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ نُهُوا أَنْ يَتَجَاوَزُوهَا إِلَى
(1) سورة المائدة: 5/ 2.
(2)
سورة البقرة: 2/ 158.
مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الْهَدَايَا تُطْعَنُ فِي سَنَامِهَا وَتُقَلَّدُ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «1» وَضُعِّفَ قَوْلُهُ، بِأَنَّهُ قَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ. وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ. وَقِيلَ: هِيَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
هِيَ مَا أُشْعِرَ أَيْ جُعِلَ إِشْعَارًا وَعَلَمًا لِلنُّسُكِ مِنْ مَوَاقِفِ الْحَجِّ وَمَرَامِي الْجِمَارِ وَالطَّوَافِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ عَلَامَاتُ الْحَاجِّ يَعْرِفُ بِهَا مِنَ الْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ وَالنَّحْرِ انْتَهَى.
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ مَعْهُودٌ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ شَهْرُ الْحَجِّ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: هُوَ ذُو الْقَعْدَةِ مِنْ حَيْثُ كَانَ أَوَّلَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ:
رَجَبٌ. وَيُضَافُ إِلَى مُضَرَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُحَرِّمُ فِيهِ الْقِتَالَ وَتُعَظِّمُهُ، وَتُزِيلُ فِيهِ السِّلَاحَ وَالْأَسِنَّةَ مِنَ الرِّمَاحِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ مُجْمِعَةً عَلَى تَعْظِيمِ ذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجَّةِ، وَمُخْتَلِفَةً فِي رَجَبٍ، فَشَدَّدَ تَعَالَى أَمْرَهُ. فَهَذَا وَجْهُ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِهِ. وَقِيلَ: الشَّهْرُ مُفْرَدٌ مُحَلَّى بِأَلِ الْجِنْسِيَّةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ عُمُومُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ. وَالْمَعْنَى: لَا تُحِلُّوا بِقِتَالٍ وَلَا غَارَةٍ وَلَا نَهْبٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَكَانَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ يَقُومُ فِي سُوقِ عُكَاظٍ كُلَّ يَوْمٍ فَيَقُولُ: أَلَا إِنِّي قَدْ حَلَّلْتُ كَذَا وَحَرَّمْتُ كَذَا.
وَلَا الْهَدْيَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْهَدْيَ مَا هُدِيَ مِنَ النَّعَمِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَقُصِدَ بِهِ الْقُرْبَةُ، فَأَمَرَ تَعَالَى أَنْ لَا يُسْتَحَلَّ، وَلَا يَغَارَ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَالْخِلَافُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ مَوْجُودٌ. قِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، وَغَيْرِهَا مِنَ الذَّبَائِحِ وَالصَّدَقَاتِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَمِنْهُ
فِي الْحَدِيثِ: ثُمَّ «كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً»
فَسَمَّى هَذِهِ هَدْيًا. وَقِيلَ: الشَّعَائِرُ الْبُدْنُ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَالْهَدْيُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالثِّيَابُ وَكُلُّ مَا أُهْدِيَ. وَقِيلَ: الشَّعَائِرُ مَا كَانَ مُشْعَرًا بِإِسَالَةِ الدَّمِ مِنْ سَنَامِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعَلَائِمِ، وَالْهَدْيُ مَا لَمْ يُشْعَرِ اكْتُفِيَ فِيهِ بِالتَّقْلِيدِ. وَقَالَ مَنْ فَسَّرَ الشَّعَائِرَ بِالْمَنَاسِكِ، ذَكَرَ الْهَدْيَ تَنْبِيهًا عَلَى تَفْصِيلِهَا.
وَلَا الْقَلائِدَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَمُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: الْقَلَائِدُ هِيَ مَا كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ بِهِ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ لِيَأْمَنُوا بِهِ، فَنُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَنْ أَخْذِ الْقَلَائِدِ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعَضَدُ شَجَرُهَا» .
وَقَالَ الجمهور:
(1) سورة الحج: 22/ 36.
الْقَلَائِدُ مَا كَانُوا يَتَقَلَّدُونَهُ مِنَ السَّمَرِ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْحَجِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَامَةَ حَجَّةٍ. وَقِيلَ:
أَوْ مَا يُقَلَّدُهُ الْحَرَمِيُّ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَرَمِيٌّ، فَنَهَى تَعَالَى عَنِ اسْتِحْلَالِ مَنْ يُحْرِمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْقَلَائِدَ هِيَ الْهَدْيُ الْمُقَلَّدُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ هَدْيًا مَا لَمْ يُقَلَّدْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا الْهَدْيَ الَّذِي لَمْ يُقَلَّدْ وَلَا الْمُقَلَّدُ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَحَامُلٌ عَلَى أَلْفَاظِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْهَدْيَ، إِنَّمَا يُقَالُ: لِمَا لَمْ يُقَلَّدْ. وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنِ الْهَدْيِ جُمْلَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقَلَّدَ مِنْهُ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي الْمُقَلَّدِ. وَقِيلَ: أَرَادَ الْقَلَائِدَ نَفْسَهَا فَنَهَى عَنِ التَّعَرُّضِ لِقَلَائِدِ الْهَدْيِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْيِ، أَيْ: لَا تُحِلُّوا قَلَائِدَهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَحِلُّوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ «1» نَهَى عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ مَوَاقِعَهَا.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ اسْتِحْلَالِ حُرْمَةِ الْمُقَلَّدِ هَدْيًا كَانَ أَوْ إِنْسَانًا، وَاجْتَزَأَ بِذِكْرِ الْقَلَائِدِ عَنْ ذِكْرِ الْمُقَلَّدِ إِذْ كَانَ مَفْهُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ.
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ: وَلَا آمِّي بِحَذْفِ النُّونِ لِلْإِضَافَةِ إِلَى الْبَيْتِ، أَيْ: وَلَا تُحِلُّوا قَوْمًا قَاصِدِينَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَهُمُ الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِحْلَالُ هَذِهِ أَيْ: يُتَهَاوَنُ بِحُرْمَةِ الشَّعَائِرِ، وَأَنْ يُحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَنَسِّكِينَ وَأَنْ يُحْدِثُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَا يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنِ الْحَجِّ، وَأَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْهَدْيِ بِالْغَصْبِ أَوْ بِالْمَنْعِ مِنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ.
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَبْتَغُونَ بِالْيَاءِ، فيكون صفة لآمين. وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْفَضْلَ بِالثَّوَابِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: الْفَضْلُ التِّجَارَةُ وَالْأَرْبَاحُ فِيهَا. وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ يَبْتَغُونَ رَجَاءَ الزِّيَادَةِ فِي هَذَا. وَأَمَّا الرِّضْوَانُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَنَالُونَهُ، وَابْتِغَاءُ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ تَوْزِيعٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَبْتَغِي التِّجَارَةَ إِذْ لَا يَعْتَقِدُ مَعَادًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَغِي الرِّضْوَانَ بِالْحَجِّ إِذْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ الْجَزَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ يُبْعَثُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ لَهُ رِضْوَانُ الله، فأخبر بذلك على بناء ظَنِّهِ. وَقِيلَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ، فَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ مِنْهُمَا، وَابْتِغَاءُ الرِّضْوَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَنْ يُصْلِحَ مَعَايِشَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِيهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: الْفَضْلُ وَالرِّضْوَانُ فِي الْآيَةِ في
(1) سورة النور: 24/ 31.
مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلُهُ بِالرَّحْمَةِ. نَهَى تَعَالَى أَنْ يُتَعَرَّضَ لِقَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُمْ تَعْظِيمًا لَهُمْ وَاسْتِنْكَارًا أَنْ يُتَعَرَّضَ لِمِثْلِهِمْ. وَفِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمُ اسْتِئْلَافٌ لِلْعَرَبِ وَلُطْفٌ بِهِمْ وَتَنْشِيطٌ لِوُرُودِ الْمَوْسِمِ، وَفِي الْمَوْسِمِ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ، وَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَيُرْجَى دُخُولُهُمْ فِي الْإِيمَانِ كَالَّذِي كَانَ.
وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَامَ الْفَتْحِ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِيهَا فِي حَقِّ مُسْلِمٍ حَاجٍّ فَهُوَ مُحْكَمٌ، أَوْ فِي حَقِّ كَافِرٍ فَهُوَ مَنْسُوخٌ، نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدَ عَامِ سَنَةِ تِسْعٍ، إِذْ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَنُودِيَ فِي النَّاسِ بِسُورَةِ بَرَاءَةَ. وَقَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي مَيْسَرَةَ: لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، قَوْلٌ مَرْجُوحٌ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَالْأَعْرَجُ: تَبْتَغُونَ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْخِطَابِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَقْصِدُونَ قِتَالَهُمْ وَالْغَارَةَ عَلَيْهِمْ، وَصَدَّهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، إِذْ أَمَرَ تَعَالَى بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَرُضْوَانًا بِضَمِّ الرَّاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي ثَانِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَعَنْهُ فِيهِ خِلَافٌ.
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا تَضَمَّنَ آخِرُ قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ حَالَةَ الْإِحْرَامِ، وَآخِرُ قَوْلِهِ: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ، النَّهْيَ عَنْ إِحْلَالِ آمِّي الْبَيْتِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ رَاجِعًا حُكْمُهَا إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَجَاءَ مَا بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ «1» رَاجِعًا إِلَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا مِنْ بَلِيغِ الْفَصَاحَةِ. فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ قَوْلِهِ:
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ، بَلْ هِيَ مُؤَسِّسَةٌ حُكْمًا لَا مُؤَكِّدَةٌ مسددة فَيَكُونُ أَصْلُ التَّرْكِيبِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، فَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا. وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ أَصْلُ التَّرْكِيبِ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ ربهم ورضوانا ولا يجر منكم، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قِصَّةَ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ: وَجْهُ النَّظَرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً «2» الْآيَةَ ثُمَّ يُقَالُ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ «3» وَكَثِيرًا مَا ذَكَرَ هَذَا الرَّجُلُ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ الضَّرَائِرِ، فَيَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ.
(1) سورة المائدة: 5/ 2.
(2)
سورة البقرة: 2/ 72.
(3)
سورة البقرة: 2/ 54.
قَالَ: وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا جَمَعُوا الْقُرْآنَ لَمْ يُرَتِّبُوهُ عَلَى حُكْمِ نُزُولِهِ، وَإِنَّمَا رَتَّبُوهُ عَلَى تَقَارُبِ الْمَعَانِي وَتَنَاسُقِ الْأَلْفَاظِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الَّذِي نَعْتَقِدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي رَتَّبَهُ لَا الصَّحَابَةُ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي سُوَرِهِ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ. وَالْأَمْرُ بِالِاصْطِيَادِ هُنَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصْطَادُوا انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ الِاصْطِيَادُ مُبَاحًا، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، وَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ عَادَ إِلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ. وَتَكَلَّمُوا هُنَا عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَعَلَيْهَا إِذَا جَاءَتْ مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرَائِنِ، وَعَلَى مَا تحمل عليه، وعلى مواقع اسْتِعْمَالِهَا، وَذَلِكَ مِنْ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ فَيُبْحَثُ عَنْ ذَلِكَ فِيهِ.
وَقُرِئَ: فَإِذَا حَلَلْتُمْ وَهِيَ لُغَةٌ يُقَالُ: حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَأَحَلَّ. وَقَرَأَ أَبُو وَاقِدٍ، وَالْجَرَّاحُ، ونبيح، والحسن بن عمران: فِاصْطَادُوا بِكَسْرِ الْفَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قِيلَ هُوَ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ، وَمِنْ تَوْجِيهِهَا أَنْ يَكُونَ رَاعَى كَسْرَ أَلِفِ الْوَصْلِ إِذَا بَدَأْتَ فَقُلْتَ: اصْطَادُوا بِكَسْرِ الْفَاءِ مُرَاعَاةً وَتَذْكِرَةً لِأَصْلِ أَلِفِ الْوَصْلِ انْتَهَى. وَلَيْسَ عِنْدِي كَسْرًا مَحْضًا بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِمَالَةِ الْمَحْضَةِ لِتَوَهُّمِ وُجُودِ كَسْرَةِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، كَمَا أَمَالُوا الْفَاءَ فِي، فَإِذَا لِوُجُودِ كَسْرَةِ إِذَا.
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ أَيْ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ، يُقَالُ: جَرَمَنِي كَذَا عَلَى بُغْضِكَ. فَيَكُونُ أَنْ تَعْتَدُوا أَصْلُهُ عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا، وَحُذِفَ مِنْهُ الْجَارُّ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهَا كَسَبَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَيَكُونُ أَنْ تَعْتَدُوا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي أَيْ: اعْتِدَاؤُكُمْ عَلَيْكُمْ. وَتَتَعَدَّى أَيْضًا إِلَى وَاحِدٍ تَقُولُ: أَجْرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ الْمُتَعَدِّيَةِ لِاثْنَيْنِ، يُقَالُ فِي مَعْنَاهَا: جَرَمَ وَأَجْرَمَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أَجْرَمَ أَعْرَفُهُ الْكَسْبَ فِي الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ. وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْوَلِيدُ عَنْ يَعْقُوبَ: يَجْرِمَنْكُمْ بِسُكُونِ النُّونِ، جَعَلُوا نُونَ التَّوْكِيدِ خَفِيفَةً.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ، لِأَنْ صَدُّوكُمُ الِاعْتِدَاءَ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ حَمَلَ وَكَسَبَ فِي اسْتِعْمَالٍ وَاحِدٍ لِاخْتِلَافِ مُقْتَضَاهُمَا، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ: أَنْ تَعْتَدُوا فِي مَحَلِّ مَفْعُولٍ بِهِ، وَمَحَلِّ مَفْعُولٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ.
وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ، وَنَافِعٌ: شَنَآنَ بِفَتْحِ النُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
وَأَبُو بَكْرٍ بِسُكُونِهَا، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ. وَالْأَظْهَرُ فِي الْفَتْحِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَقَدْ كَثُرَ مَجِيءُ الْمَصْدَرِ عَلَى فَعَلَانَ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا وَفَعَلَانُ فِي الْأَوْصَافِ مَوْجُودٌ نَحْوَ قَوْلِهِمْ:
حِمَارٌ قَطَوَانُ أَيْ: عَسِيرُ السَّيْرِ، وَتَيْسٌ عَدَوَانُ كَثِيرُ الْعَدْوِ، وَلَيْسَ فِي الْكَثْرَةِ كَالْمَصْدَرِ.
قَالُوا: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى لَا يَجْرِمَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ. وَيَعْنُونَ بِبَغِيضٍ مُبْغِضٍ اسْمُ فَاعِلٍ، لِأَنَّهُ من شنيء بِمَعْنَى الْبُغْضِ. وَهُوَ مُتَعَدٍّ وَلَيْسَ مُضَافًا لِلْمَفْعُولِ وَلَا لِفَاعِلٍ بِخِلَافِهِ إِذَا كَانَ مَصْدَرًا، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا لِلْمَفْعُولِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: بُغْضُ قَوْمٍ إِيَّاكُمْ، وَالْأَظْهَرُ فِي السُّكُونِ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا، فَقَدْ حُكِيَ رَجُلٌ شَنْآنٌ وَامْرَأَةٌ شَنْآنَةٌ، وَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ مِنْ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ. وَحُكِيَ أَيْضًا شَنْآنُ وَشَنْأَى مِثْلُ عَطْشَانَ وَعَطْشَى، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ مَنْ فِعْلٍ لَازِمٍ. وَقَدْ يُشْتَقُّ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِمُ نحو: فغر فاه، وغرّفوه بِمَعْنَى فَتَحَ وَانْفَتَحَ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَقَدْ حكى في مصادر شنيء، وَمَجِيءِ الْمَصْدَرِ عَلَى فَعْلَانَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ، قَالُوا: لَوَيْتُهُ دَيْنَهُ لَيَّانًا. وَقَالَ الْأَحْوَصُ:
وَمَا الْحُبُّ إِلَّا مَا تُحِبُّ وَتَشْتَهِي
…
وَإِنْ لَامَ فِيهِ ذُو الشَّنَانِ وَفَنَّدَا
أَصْلُهُ الشَّنْآنُ، فَحَذَفَ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الساكن قبلها. وَالْوَصْفُ فِي فَعْلَانَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَصْدَرِ نَحْوَ رَحْمَانَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ: إِنْ صَدُّوكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَيُؤَيِّدُ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنْ صَدُّوكُمْ وَأَنْكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالنَّحَّاسُ وَغَيْرُهُمَا قِرَاءَةَ كسران، وَقَالُوا: إِنَّمَا صَدَّ الْمُشْرِكُونَ الرسول والمؤمنون عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَالْحُدَيْبِيَةُ سَنَةَ سِتٍّ، فَالصَّدُّ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْكَسْرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدُ، وَلِأَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ عَامَ الْفَتْحِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُصَدُّونَ عَنْهَا وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمْ؟ وَهَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُمْ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ صَعْبٌ جِدًّا، فَإِنَّهَا قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، إِذْ هِيَ فِي السَّبْعَةِ، وَالْمَعْنَى مَعَهَا صَحِيحٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ وَقَعَ صَدٌّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلُ ذَلِكَ الصَّدِّ الَّذِي كَانَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا النَّهْيُ تَشْرِيعٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَيْسَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ عَامَ الْفَتْحِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، بَلْ ذَكَرَ الْيَزِيدِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يَصُدُّوهُمْ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الشَّرْطُ وَاضِحًا. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: إِنْ بفتح الْهَمْزَةِ جَعَلُوهُ تَعْلِيلًا لِلشَّنَآنِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ وَاضِحَةٌ أَيْ:
شَنَآنُ قَوْمٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ صَدُّوكُمْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالِاعْتِدَاءُ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ بِإِلْحَاقِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ.
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى لَمَّا نَهَى عَنِ الِاعْتِدَاءِ بأمر بِالْمُسَاعَدَةِ وَالتَّظَافُرِ عَلَى الْخَيْرِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاعْتِدَاءِ التَّعَاوُنُ عَلَى الْخَيْرِ، لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً وَهُوَ الْخُلُوُّ عَنِ الِاعْتِدَاءِ وَالتَّعَاوُنِ. وَشَرَحَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى بِالْعَفْوِ وَالْإِغْضَاءِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْعُمُومُ لِكُلِّ بِرٍّ وَتَقْوَى، فَيَتَنَاوَلُ الْعَفْوَ انْتَهَى. وَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَرَّرَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ تَأْكِيدًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَسَامُحٌ، وَالْعُرْفُ فِي دَلَالَةِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ، وَالتَّقْوَى رِعَايَةُ الْوَاجِبِ. فَإِنْ جُعِلَ أَحَدُهُمَا بَدَلَ الْآخَرِ فَتَجُوزُ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبِرُّ مَا ائْتُمِرْتَ بِهِ، وَالتَّقْوَى مَا نُهِيتَ عَنْهُ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْبِرُّ الْإِيمَانُ، وَالتَّقْوَى السُّنَّةُ. يَعْنِي: اتِّبَاعَ السُّنَّةِ.
وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ الْإِثْمُ: الْمَعَاصِي، وَالْعُدْوَانُ: التَّعَدِّي فِي حُدُودِ اللَّهِ قَالَهُ عَطَاءٌ. وَقِيلَ: الْإِثْمُ الْكُفْرُ، وَالْعِصْيَانُ وَالْعُدْوَانُ الْبِدْعَةُ. وَقِيلَ: الْإِثْمُ الْحُكْمُ اللَّاحِقُ لِلْجَرَائِمِ، وَالْعَدُوَانُ ظُلْمُ النَّاسِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ الِانْتِقَامُ وَالتَّشَفِّي قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْعُمُومُ لِكُلِّ إِثْمٍ وَعُدْوَانٍ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أَمَرَ بِالتَّقْوَى مُطْلَقَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَمَرَ بِهَا فِي التَّعَاوُنِ تَأْكِيدًا لِأَمْرِهَا، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. فَيَجِبُ أَنْ يُتَّقَى وَشِدَّةُ عِقَابِهِ بِكَوْنِهِ لَا يُطِيقُهُ أَحَدٌ وَلِاسْتِمْرَارِهِ، فَإِنَّ غالب الدنيا منقض. قال مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ نَهْيًا عَنِ الطَّلَبِ بِدُخُولِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ أَرَادَ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، وَلَقَدْ قِيلَ: ذَلِكَ حَلِيفٌ لِأَبِي سُفْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ هُنَا ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مُقْتَضٍ لِشَحْمِهِ بِإِجْمَاعٍ انْتَهَى. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ دَاوُدُ وَغَيْرُهُ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ، وَتَأَخَّرَ هُنَا بِهِ وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ تَفَنَّنًا فِي الْكَلَامِ وَاتِّسَاعًا، وَلِكَوْنِ الْجَلَالَةِ وَقَعَتْ هناك فصلا أولا كَالْفَصْلِ، وَهُنَا جَاءَتْ مَعْطُوفَاتٌ بَعْدَهَا، فَلَيْسَتْ فَصْلًا وَلَا كَالْفَصْلِ، وَمَا جَاءَ كَذَلِكَ يَقْتَضِي فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ الْمَدَّ.
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ وَغَيْرَهَا، فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ الْمَوْقُوذَةُ إِلَّا فِي مِلْكٍ، وَلَيْسَ فِي صَيْدٍ وَقِيذٌ. وَقَالَ مَالِكٌ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي: الصَّيْدِ مَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَقِيذِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي
قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمِعْرَاضِ: «وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ» .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ: النَّطِيحَةُ الشَّاةُ تَنْطَحُهَا أُخْرَى فَيَمُوتَانِ، أَوِ الشَّاةُ تَنْطَحُهَا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. وَقَالَ قَوْمٌ: النَّطِيحَةُ الْمُنَاطَحَةُ، لِأَنَّ الشَّاتَيْنِ قَدْ يَتَنَاطَحَانِ فَيَمُوتَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كُلُّ مَا مَاتَ ضَغْطًا فَهُوَ نَطِيحٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو مَيْسَرَةَ: وَالْمَنْطُوحَةُ وَالْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِهِ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ: مَا افْتَرَسَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ. وَلَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ مَا فُرِضَ أَنَّهُ أَكَلَهُ السَّبُعُ لَا وُجُودَ لَهُ فَيَحْرُمُ أَكْلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ بَعْضَهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْفَيَّاضُ، وَطَلْحَةُ بْنُ سَلْمَانَ، وَأَبُو حَيْوَةَ: السَّبْعُ بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:
وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَكِيلُ السَّبُعِ وَهُمَا بِمَعْنَى مَأْكُولِ السَّبُعِ، وَذِكْرُ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ هُوَ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي عُمُومِ قوله: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ «1» وَبِهَذَا صَارَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى مَعْلُومَيْنِ.
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ
قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وقتادة، وابراهيم، وطاووس، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْجُمْهُورُ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ
أَيْ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْمُنْخَنِقَةُ إِلَى وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ. فَمَا أَدْرَكَ مِنْهَا بِطَرْفٍ بَعْضٌ، أو بضرب بِرِجْلٍ، أَوْ يُحَرِّكُ ذَنَبًا. وَبِالْجُمْلَةِ مَا تُيُقِّنَتْ فِيهِ حَيَاةٌ ذُكِّيَ وَأُكِلَ. وَقَالَ بِهَذَا مَالِكٌ فِي قَوْلٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الْمَدَنِيِّينَ: أَنَّ الذَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ هِيَ مَا لَمْ يُنْفَذْ مَقَاتِلُهَا وَيُتَحَقَّقْ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ، وَمَتَى صَارَتْ إِلَى ذَلِكَ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، لَكِنَّهُ خِلَافٌ فِي الْحَالِ الَّتِي يُؤْثَرُ فِيهَا الذَّكَاةُ فِي الْمَذْكُورَاتِ. وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَالَ إِلَى مَشْهُورِ قَوْلِ مالك فإنه قال: إلا مَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ وَهُوَ يَضْطَرِبُ اضْطِرَابَ الْمَذْبُوحِ وَتَشْخُبُ وِدَاجُهُ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ عَائِدٌ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ مَا أَكَلَ السَّبُعُ وَمُخْتَصٌّ بِهِ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَا أَدْرَكْتُمْ فِيهِ حَيَاةً مِمَّا أَكَلَ السَّبُعُ فَذَكَّيْتُمُوهُ، فَإِنَّهُ حَلَالٌ. وَقِيلَ:
هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ فَكُلُوهُ. وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ رَأَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ وُجِدَتْ فِيمَا مَاتَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، إِمَّا بِالْخَنْقِ، وَإِمَّا بِالْوَقْذِ، أَوِ التَّرَدِّي، أَوِ النَّطْحِ، أَوِ افْتِرَاسِ السَّبُعِ، وَوَصَلَتْ إِلَى حَدٍّ لا تعيش فيه بسب بِوَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى مذهب
(1) سورة المائدة: 5/ 1.
مَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ عَلَى الْمَأْكُولِ كَالذَّكَاةِ، وَأَنَّ الْمَيْتَةَ مَا مَاتَتْ بِوَجَعٍ دُونَ سَبَبٍ يُعْرَفُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ، يَقْتَضِي أَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ كَالْجَنِينِ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ الْمَذْبُوحَةِ مَيْتًا، إِذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَيَنْدَرِجُ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ أَكْلِهِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَنْبَطُوا مِنْهُ الْجَوَازَ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ لَا لَهُمْ. وَهُوَ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» الْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ أَيْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ مِثْلُ ذَكَاةِ أُمِّهِ فَكَمَا أَنَّ ذَكَاتَهَا الذَّبْحُ فَكَذَلِكَ ذَكَاتُهُ الذَّبْحُ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَكَانَ التَّرْكِيبُ ذَكَاةُ أُمِّ الْجَنِينِ ذَكَاتُهُ.
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ حِجَارَةٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُحِلُّونَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَلَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ، الصَّنَمُ مُصَوَّرٌ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُ بِمَكَّةَ وَيَنْضَحُونَ بِالدَّمِ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ، وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فنزلت. وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَنَزَلَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا انْتَهَى. وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ فِي بِلَادِهَا أَنْصَابٌ حِجَارَةٌ يَعْبُدُونَهَا، وَيُحِلُّونَ عَلَيْهَا أَنْصَابَ مَكَّةَ، وَمِنْهَا الْحَجَرُ الْمُسَمَّى بِسَعْدٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جُزْءٌ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَكِنْ خُصَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ جِنْسِهِ لِشُهْرَةِ الْأَمْرِ وَشَرَفِ الْمَوْضِعِ وَتَعْظِيمِ النُّفُوسِ لَهُ. وَقَدْ يُقَالُ لِلصَّنَمِ أَيْضًا: نُصُبٌ، لِأَنَّهُ يُنْصَبُ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: النُّصُبُ بِضَمَّتَيْنِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: بِضَمِّ النُّونِ، وَإِسْكَانِ الصَّادِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِفَتْحَتَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ كَالْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِفَتْحِ النُّونِ، وَإِسْكَانِ الصَّادِ.
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَيْ: وَحَرَّمَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ، وَهُوَ طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْقِسْمِ، وَهُوَ النَّصِيبُ أَوِ الْقَسْمُ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
مَعْنَاهُ أَنْ تَطْلُبُوا عَلَى مَا قُسِّمَ لَكُمْ بِالْأَزْلَامِ، أَوْ مَا لَمْ يُقَسَّمْ لَكُمْ انْتَهَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ كِعَابُ فَارِسَ وَالرُّومِ الَّتِي كَانُوا يَتَقَامَرُونَ بِهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهَا سِهَامُ الْعَرَبِ، وَكِعَابُ فَارِسَ، وَقَالَ سُفْيَانُ وَوَكِيعٌ: هِيَ الشِّطْرَنْجُ. وَقِيلَ: الْأَزْلَامُ حَصًى كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ:
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى
…
وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ
وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ قَالُوا: وَأَزْلَامُ الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَتَّخِذُهَا كُلُّ إِنْسَانٍ لِنَفْسِهِ فِي أَحَدِهَا افْعَلْ وَفِي الْآخَرِ لَا تَفْعَلْ وَالثَّالِثُ غُفْلٌ فَيَجْعَلُهَا فِي خَرِيطَةٍ، فَإِذَا أَرَادَ فِعْلَ شَيْءٍ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْخَرِيطَةِ مُنْسَابَةً، وَائْتَمَرَ بِمَا خَرَجَ لَهُ مِنَ الْآمِرِ أَوِ النَّاهِي. وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادَ الضَّرْبَ. وَالثَّانِي: سَبْعَةُ قداح كانت عندها فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، فِي أَحَدِهَا الْعَقْلُ فِي أَمْرِ الدِّيَاتِ مَنْ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ فَيَضْرِبُ بِالسَّبْعَةِ، فَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ قَدَحُ الْعَقْلِ لَزِمَهُ الْعَقْلُ، وَفِي آخَرَ تَصِحُّ، وَفِي آخَرَ لَا، فَإِذَا أَرَادُوا أَمْرًا ضَرَبَ فَيَتَّبِعُ مَا يَخْرُجُ، وَفِي آخَرَ مِنْكُمْ، وَفِي آخَرَ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَفِي آخَرَ مُلْصَقٌ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي إِنْسَانٍ أَهْوَ مِنْهُمْ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ضَرَبُوا فَاتَّبَعُوا مَا خَرَجَ، وَفِي سَائِرِهَا لِأَحْكَامِ الْمِيَاهِ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْفُرُوا لِطَلَبِ الْمِيَاهِ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ، وَفِيهَا ذَلِكَ الْقِدَاحُ، فَحَيْثُ مَا خَرَجَ عَمِلُوا بِهِ. وَهَذِهِ السَّبْعَةُ أَيْضًا مُتَّخَذَةٌ عِنْدَ كُلِّ كَاهِنٍ مِنْ كُهَّانِ الْعَرَبِ وَحُكَّامِهِمْ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الْكَعْبَةِ عِنْدَ هُبَلَ. وَالثَّالِثُ: قِدَاحُ الْمَيْسِرِ وَهِيَ عَشَرَةٌ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْمَيْسِرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
ذلِكُمْ فِسْقٌ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الاستقسام خاصة، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ، وَإِلَى تَنَاوُلِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى:
حُرِّمَ عَلَيْهِمْ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ وَكَذَا وَكَذَا. (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ كَانَ اسْتِقْسَامُ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِ بِالْأَزْلَامِ لِيَعْرِفَ الْحَالَ فِسْقًا؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّهُ دُخُولٌ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَقَالَ: لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «1» وَاعْتِقَادُ أَنَّ إِلَيْهِ طَرِيقًا وَإِلَى اسْتِنْبَاطِهِ.
وَقَوْلُهُ: أَمَرَنِي رَبِّي وَنَهَانِي رَبِّي افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يُبْدِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَوْ نَهَاهُ الْكَهَنَةُ وَالْمُنَجِّمُونَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالرَّبِّ الصَّنَمَ.
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِلُّونَ بِهَا عِنْدَ أَصْنَامِهِمْ، وَأَمْرُهُ ظَاهِرٌ انْتَهَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَنَهَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا الْكُهَّانُ وَالْمُنَجِّمُونَ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْكَلَامِ فِي الْمُغَيَّبَاتِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ كَوْنُهَا يُؤْكَلُ بِهَا الْمَالُ بِالْبَاطِلِ، وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِنُوا غُلَامًا أَوْ يَنْكِحُوا أَوْ يَدْفِنُوا مَيِّتًا أَوْ شَكُّوا فِي نَسَبٍ، ذَهَبُوا إِلَى هُبَلَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَزُورٍ، فَالْمِائَةُ لِلضَّارِبِ بِالْقِدَاحِ، وَالْجَزُورُ يُنْحَرُ وَيُؤْكَلُ، وَيُسَمُّونَ صَاحِبَهُمْ وَيَقُولُونَ لِهُبَلَ: يَا إلهنا هذا
(1) سورة النمل: 27/ 65.
فُلَانٌ أَرَدْنَا بِهِ كَذَا وَكَذَا فَأَخْرِجِ الْحَقَّ فِيهِ، وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْقِدَاحِ فَمَا خَرَجَ عُمِلَ بِهِ، فَإِنْ خَرَجَ لَا أَخَّرُوهُ عَامَهُمْ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ مَرَّةً أُخْرَى، يَنْتَهُونَ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ إِلَى مَا خَرَجَتْ بِهِ الْقِدَاحُ.
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ قَالَهُ:
مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَهُوَ يَوْمُ نُزُولِهَا بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَوْقِفِ عَلَى نَاقَتِهِ، وَلَيْسَ فِي الْمَوْقِفِ مُشْرِكٌ. وَقِيلَ: اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ، وَنَادَى مُنَادِيهِ بِالْأَمَانِ لِمَنْ لَفَظَ بِشَهَادَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِمَنْ وَضَعَ السِّلَاحَ، وَلِمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يُرِدْ يَوْمًا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: الْآنَ يَئِسُوا، كَمَا تَقُولُ: أَنَا الْيَوْمَ قَدْ كَبِرْتُ انْتَهَى. وَاتَّبَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ الزَّجَّاجَ فَقَالَ: الْيَوْمَ لَمْ يُرِدْ بِهِ يَوْمًا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الزَّمَانَ الْحَاضِرَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَيُدَانِيهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، كَقَوْلِكَ: كُنْتَ بِالْأَمْسِ شائبا وَأَنْتَ الْيَوْمَ أَشْيَبُ، فَلَا يُرِيدُ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ، وَلَا بِالْيَوْمِ يَوْمَكَ. وَنَحْوُهُ الْآنَ فِي قَوْلِهِ:
الْآنَ لَمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبَتِي
…
وَعَضَضْتُ مِنْ نَابَى عَلَى جَدَمِ
انْتَهَى.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا: مشركوا الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَطَاءٌ: أَيِسُوا مِنْ أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ظُهُورُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَظُهُورُ دينه، يقتضي أن يئس الْكُفَّارِ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى دِينِهِمْ قَدْ كَانَ وَقَعَ مُنْذُ زَمَانٍ، وَإِنَّمَا هَذَا الْيَأْسُ عِنْدِي مِنِ اضْمِحْلَالِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَفَسَادِ جَمْعِهِ، لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ كَانَ يَتَرَجَّاهُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَخِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي يَوْمِ هَوَازِنَ حِينَ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ فَظَنَّهَا هَزِيمَةً. أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَئِسُوا مِنْهُ أَنْ يُبْطِلُوهُ وَأَنْ يَرْجِعُوا مُحَلِّلِينَ لِهَذِهِ الْخَبَائِثِ بعد ما حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: يَئِسُوا مِنْ دِينِكُمْ أَنْ يَغْلِبُوهُ لِأَنَّ اللَّهَ وَفَّى بِوَعْدِهِ مِنْ إِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ انْتَهَى. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَيِسَ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو.
فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: فَلَا تَخْشَوْهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: فَلَا تَخْشَوْهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى دِينِكُمْ. وَقِيلَ: فَلَا تَخْشَوْا عَاقِبَتَهُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَشْيَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى.
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَحْتَمِلُ الْيَوْمَ الْمَعَانِيَ الَّتِي قِيلَتْ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ.
قَالَ الْجُمْهُورُ: وَإِكْمَالُهُ هُوَ إِظْهَارُهُ، وَاسْتِيعَابُ عِظَمِ فَرَائِضِهِ، وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ. قَالُوا: وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ كَآيَاتِ الرِّبَا، وَآيَةِ الْكَلَالَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَمُلَ مُعْظَمُ الدِّينِ، وَأَمْرُ الْحَجِّ، إِنْ حَجُّوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ مُشْرِكٌ. وَخَطَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ:
كَفَيْتُكُمْ أَمْرَ عَدُوِّكُمْ، وَجَعَلْتُ الْيَدَ الْعُلْيَا لَكُمْ، كَمَا تَقُولُ الْمُلُوكُ: الْيَوْمَ كَمُلَ لَنَا الْمُلْكُ وَكَمُلَ لَنَا مَا نُرِيدُ إِذَا كُفُوا مَنْ يُنَازِعُهُمُ الْمُلْكَ، وَوَصَلُوا إِلَى أَغْرَاضِهِمْ وَمَبَاغِيهِمْ. أَوْ أَكْمَلْتُ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ تَعْلِيمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالتَّوْقِيفِ عَلَى الشَّرَائِعِ، وَقَوَانِينِ الْقِيَاسِ، وَأُصُولِ الِاجْتِهَادِ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ: قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ قالا: إكمال فَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى:
أَكْمَلْتُ لَكُمْ شَرَائِعَ دِينِكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: كما له أَنْ يَنْفِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمْ يَحُجَّ مُشْرِكٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَمَالُ الدِّينِ هُوَ عِزُّهُ وَظُهُورُهُ، وَذُلُّ الشِّرْكِ وَدُرُوسُهُ، لَا تَكَامُلُ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ تَنْزِلُ إِلَى أَنْ قبض. وقيل: إكماله إلا من مِنْ نَسْخِهِ بَعْدَهُ كَمَا نُسِخَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: الدِّينُ مَا كَانَ نَاقِصًا الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَتِ الشَّرَائِعُ تَنْزِلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا فِي أَوَّلِ الْمَبْعَثِ بِأَنَّ مَا هُوَ كَامِلٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَيْسَ بِكَامِلٍ فِي الْغَدِ، وَكَانَ يَنْسَخُ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَيَزِيدُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَأَمَّا فِي آخِرِ زَمَانِ الْمَبْعَثِ فَأَنْزَلَ شَرِيعَةً كَامِلَةً، وَأَحْكَمَ ثَبَاتَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا يُبْكِيكَ؟» فَقَالَ: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةِ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«صَدَقْتَ» .
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أَيْ فِي ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَكَمَالِ الدِّينِ، وَسِعَةِ الْأَحْوَالِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا انْتَظَمَتْهُ هَذِهِ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ، إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالْخُلُودِ، وَحَسَّنَ الْعِبَارَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: بِفَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُولِهَا آمِنِينَ ظَاهِرِينَ، وَهَدْمِ مَنَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنَاسِكِهِمْ، وَأَنْ لَمْ يَحُجَّ مُشْرِكٌ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ انْتَهَى. فَكَلَامُهُ مَجْمُوعُ أَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جبير، وَقَتَادَةُ: إِتْمَامُ النِّعْمَةِ مَنْعُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْإِظْهَارُ عَلَى الْعَدُوِّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِإِكْمَالِ أَمْرِ الدِّينِ وَالشَّرَائِعِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ أَتَمَّ مِنْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ.
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يَعْنِي: اخْتَرْتُهُ لَكُمْ مِنْ بَيْنِ الْأَدْيَانِ، وَأَذِنْتُكُمْ بِأَنَّهُ هُوَ