المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 159] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٤

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 93]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 94 الى 100]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 113]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 126]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 142 الى 159]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 160 الى 172]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 173 الى 176]

- ‌سورة المائدة

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 26]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 38]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 48]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 49 الى 50]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 75]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 96]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 114]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 115 الى 120]

- ‌سورة الانعام

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 32]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 52]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 53 الى 58]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 73]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 94]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 110]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 126]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 140]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 152]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 153 الى 165]

الفصل: ‌[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 159]

عَدُوَّهُمْ فَيَسْتَبِيحُهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْهُمْ هَلَاكُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَسَبْيُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ بِالْفِتَنِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَغَلُظَتْ شَوْكَةُ الْكُفَّارِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَقَلُّهُ.

وَقِيلَ: سَبِيلًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وُجِدَ فَبِخِلَافِ الشَّرْعِ. وَقِيلَ: سَبِيلًا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا عَقْلِيَّةٌ يَسْتَظْهِرُونَ بِهَا إِلَّا أَبْطَلَهَا وَدُحِضَتْ. وَقِيلَ: سَبِيلًا أَيْ ظُهُورًا قَالَهُ: الْكَلْبِيُّ.

وَيُحْمَلُ عَلَى الظُّهُورِ الدَّائِمِ الْكُلِّيِّ، فَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَبِيحُونَ بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَقَدَ ظَهَرُوا فِي مَوَاطِنَ كَأُحُدٍ قَبْلُ.

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْفَصَاحَةِ والبديع فنونا التَّجْنِيسِ الْمُغَايِرِ فِي: أَنْ يصالحا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، وَفِي: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، وَفِي: فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا، وَفِي: كفروا وكفروا.

وَالتَّجْنِيسِ الْمُمَاثِلِ فِي: وَيَسْتَفْتُونَكَ ويفتيكم، وفي: صلحا والصلح، وفي: جامع وجميعا. وَالتَّكْرَارَ فِي: لَفْظِ النِّسَاءِ، وَفِي لَفْظِ يَتَامَى، وَالْيَتَامَى، وَرَسُولُهُ، وَلَفْظِ الْكِتَابِ، وَفِي آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، وَفِي الْمُنَافِقِينَ. وَالتَّشْبِيهِ فِي: كَالْمُعَلَّقَةِ. وَاللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لِلضِّدَّيْنِ فِي: ترغبون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ. وَالِاسْتِعَارَةُ فِي: نُشُوزًا، وَفِي: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ، وَفِي: فَلَا تَمِيلُوا، وَفِي: قَوَّامِينَ، وَفِي: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا، وَفِي: ازدادوا كفرا وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا، وَفِي: يَتَرَبَّصُونَ، وَفِي: فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ، وَفِي: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ، وَفِي: سَبِيلًا.

وَهَذِهِ كُلُّهَا لِلْأَجْسَامِ اسْتُعِيرَتْ لِلْمَعَانِي. وَالطِّبَاقُ فِي: غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَفِي: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَاتِّبَاعُ الْهَوَى جَوْرٌ وَفِي الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَالِاخْتِصَاصُ فِي: بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا خَصَّ الْعَمَلَ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ إِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُنَافِقِينَ. وَالْحَذْفَ فِي مَوَاضِعَ.

[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 142 الى 159]

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَاّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَاّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَاّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)

ص: 106

الْكَسَلُ: التَّثَاقُلُ، وَالتَّثَبُّطُ، وَالْفُتُورُ عَنِ الشَّيْءِ. وَيُقَالُ: أَكْسَلَ الرَّجُلُ إِذَا جَامَعَ فَأَدْرَكَهُ الْفُتُورُ وَلَمْ يُنْزِلْ. الذَّبْذَبَةُ: الِاضْطِرَابُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى عَلَى حَالٍ، قَالَهُ: ابْنُ عَرَفَةَ وَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً

تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ

وَقَالَ آخَرُ:

خَيَالٌ لِأُمِّ السَّلْسَبِيلِ وَدُونَهَا

مَسِيرَةَ شَهْرٍ لِلْبَرِيدِ الْمُذَبْذَبِ

بِكَسْرِ الثَّانِيَةِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: أَيِ الْقَلَقُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ. قِيلَ: وَأَصْلُهُ الذَّبُّ، وَهُوَ ثُلَاثِيُّ الْأَصْلِ ضُعِّفَ فَقِيلَ: ذَبَبَ، ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْ أَحَدِ الْمُضَعَّفَيْنِ وَهِيَ الْبَاءُ الثَّانِيَةُ ذَالًا فَقِيلَ ذَبْذَبَ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَهُوَ عِنْدَهُمْ رُبَاعِيٌّ كَدَحْرَجَ.

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ

تَقَدَّمَ تَفْسِيرٌ يُخَادِعُونَ اللَّهَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى وَهُوَ خَادِعُهُمْ: أَيْ مُنْزِلٌ الْخِدَاعَ بِهِمْ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ عُقُوبَةٍ سَمَّاهَا بِاسْمِ الذَّنْبَ. فَعُقُوبَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا ذُلُّهُمْ وَخَوْفُهُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابُ جَهَنَّمَ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا الْخِدَاعُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِي هَذِهِ الْأُمَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُؤْمِنٍ أَوْ مُنَافِقٍ، فَيَفْرَحُ الْمُنَافِقُونَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فإذا جاؤوا إِلَى الصِّرَاطِ طُفِئَ نُورُ كُلِّ مُنَافِقٍ، وَنَهَضَ الْمُؤْمِنُونَ. وَذَلِكَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ وَذَلِكَ هُوَ الْخِدَاعُ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِينَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ خَادِعُهُمْ، وَهُوَ فَاعِلٌ بِهِمْ مَا يَفْعَلُ الْغَالِبُ فِي الْخِدَاعِ، حَيْثُ تَرَكَهُمْ مَعْصُومِينَ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعَدَّ لَهُمُ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُخْلِهِمْ فِي الْعَاجِلِ مِنْ فَضِيحَةٍ وَإِحْلَالِ بَأْسٍ وَنِقْمَةٍ وَرُعْبٍ دَائِمٍ. وَالْخَادِعُ مِنْ خَدَعْتُهُ إِذَا غَلَبْتَهُ، وَكُنْتَ أَخْدَعَ مِنْهُ انْتَهَى. وَبَعْضُهُ مُسْتَرَقٌ مِنْ كَلَامِ الزَّجَّاجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا أَمَرَ بِقَبُولِ مَا أَظْهَرُوا كَانَ خَادِعًا لَهُمْ بِذَلِكَ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحْوِيُّ: خَادِعْهُمْ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ عَلَى التَّخْفِيفِ. استثقال الْخُرُوجِ مِنْ كَسْرٍ إِلَى ضَمٍّ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَبَرِ إِنَّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.

وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى

أَيْ مُتَوَانِينَ لَا نَشَاطَ لَهُمْ فِيهَا، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُصَلُّونَ تَسَتُّرًا وَتَكَلُّفًا، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الَّتِي ذَمَّ الْمُنَافِقُونَ، وَأَنْ

ص: 108

يُقْبِلَ إِلَى صَلَاتِهِ بِنَشَاطٍ وفراغ قَلْبٍ وَتَمَهُّلٍ فِي فِعْلِهَا، وَلَا يَتَقَاعَسُ عَنْهَا فِعْلَ الْمُنَافِقِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى كُرْهٍ لَا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ وَرَغْبَةٍ. وَمَا زَالَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مُنَافِقُونَ يَتَسَتَّرُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَيَحْضُرُونَ الصَّلَوَاتِ كَالْمُتَفَلْسِفِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِنَا هَذَا، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِلَيْهِمْ فِي شِعْرٍ قَالَهُ وَضَمَّنَ فِيهِ بَعْضَ الْآيَةِ، فَقَالَ فِي أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ مُتَفَلْسِفَةِ الْإِسْلَامِ:

لِأَشْيَاعِ الْفَلَاسِفَةِ اعْتِقَادُ

يَرَوْنَ به عن الشرع انْحِلَالًا

أَبَاحُوا كُلَّ مَحْظُورٍ حَرَامٍ

وَرَدُّوهُ لِأَنْفُسِهِمْ حَلَالًا

وَمَا انْتَسَبُوا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا

لِصَوْنِ دِمَائِهِمْ أَنْ لَا تُسَالَا

فَيَأْتُونَ الْمَنَاكِرَ فِي نَشَاطٍ

وَيَأْتُونَ الصَّلَاةَ وَهُمْ كُسَالَى

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُسَالَى بِضَمِّ الْكَافِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: كَسَالَى بِفَتْحِ الْكَافِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: كَسْلَى عَلَى وَزْنِ فَعْلَى، وُصِفَ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ الْمُفْرَدُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْجَمَاعَةِ كقراءة: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى

«1» .

يُراؤُنَ النَّاسَ

أَيْ يَقْصِدُونَ بِصَلَاتِهِمُ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ. وَهِيَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، يُرِي الْمُرَائِي النَّاسَ تَجَمُّلَهُ بِأَفْعَالِ الطَّاعَةِ، وَهُمْ يُرُونَهُ اسْتِحْسَانَ ذَلِكَ الْعَمَلِ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، نَحْوَ نِعْمَةٍ وَنَاعِمَةٍ. وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ: رَأَتِ الْمَرْأَةُ الْمِرْآةَ إِذَا أَمْسَكَتْهَا لِتَرَى وَجْهَهَا. وَقُرِئَ: يرؤن بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ مُشَدَّدَةٍ بَيْنَ الرَّاءِ وَالْوَاوِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ أَقْوَى فِي المعنى من يراؤون، لِأَنَّ مَعْنَاهَا يَحْمِلُونَ النَّاسَ عَلَى أَنْ يَرَوْهُمْ وَيَتَظَاهَرُونَ لَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ يُبْطِنُونَ النِّفَاقَ. وَنَسَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ قَرَأَ: يرؤنهم هَمْزَةٌ مُشَدَّدَةٌ مِثْلَ: يُرَعُّونَهُمْ أي يبصرونهم أعمالهم، ويراؤونهم كَذَلِكَ.

وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا

قَالَ الْحَسَنُ: قُلْ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا مَعْنَاهُ إِنَّمَا قَلَّ لِكَوْنِهِ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَمَا رَدَّهُ اللَّهُ فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ، وَمَا قَبِلَهُ فَقَلِيلُهُ كَثِيرٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قُلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَوْضِهِمْ فِي الْبَاطِلِ وَقَوْلِهِمُ الزُّورَ وَالْكُفْرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ قَطُّ غَائِبِينَ عَنْ عُيُونِ النَّاسِ إِلَّا مَا يُجَاهِرُونَ بِهِ، وَمَا يُجَاهِرُونَ بِهِ قَلِيلٌ، لِأَنَّهُمْ مَا وَجَدُوا مَنْدُوحَةً مِنْ تَكَلُّفِ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ لم يتكلفوه، أولا يذكرون الله بالتسبيح

(1) سورة الحج: 22/ 2.

ص: 109

وَالتَّهْلِيلِ إِلَّا ذِكْرًا قَلِيلًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقِلَّةِ الْعَدَمُ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَدَمُ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَأْبَاهُ، وَقَدْ رَدَدْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ وَعَلَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: قَلَّ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتَهَا، وَذَلِكَ فَإِنَّ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَقِيلَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ:

وَلَا يَذْكُرُونَ عِقَابَ اللَّهِ وَثَوَابَهُ إِلَّا قَلِيلًا لِاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَغَلَبَةِ الْغَفْلَةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذِّكْرَ هُنَا هُوَ بِاللِّسَانِ، وَأَنَّهُمْ قَلَّ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى أَحْوَالِهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى.

مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مقلقلين. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَبْذَبَهُمُ الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَهُمَا مُتَحَيِّرِينَ، كَأَنَّهُ يُذَبُّ عَنْ كِلَا الْجَانِبَيْنِ أَيْ يُذَادُ فَلَا يَقِرُّ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْمِي بِهِ الرَّحَوَانِ، إِلَّا أَنَّ الذَّبْذَبَةَ فِيهَا تَكْرِيرٌ لَيْسَ فِي الذَّبِّ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: كُلَّمَا مَالَ إِلَى جَانِبٍ ذُبَّ عَنْهُ انْتَهَى. وَنَسَبَ الذَّبْذَبَةَ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ وَالذَّبْذَبَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِإِيجَادِ اللَّهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ مَثَلُ الشَّاةِ العابر بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ»

وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى حَالَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1» أَيْ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْفَارِضِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَشَارَ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الظُّهُورِ لِضِمْنِ الْكَلَامِ لَهُ، كَمَا جَاءَ:

حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «2» وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «3» انْتَهَى وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ تَقَدَّمَ مَا تَصِحُّ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِنَ الْمَصْدَرَيْنِ اللَّذَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِمَا ذِكْرُ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ:

إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إِلَيْهِ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: مُذَبْذِبِينَ بِكَسْرِ الذَّالِ الثَّانِيَةِ، جَعَلَاهُ اسْمَ فَاعِلٍ أَيْ مُذَبْذِبِينَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ دِينَهُمْ، أَوْ بِمَعْنَى مُتَذَبْذِبِينَ كَمَا جَاءَ صَلْصَلَ وَتَصَلْصَلَ بِمَعْنَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: مُتَذَبْذِبِينَ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ تَذَبْذَبَ أَيِ اضْطَرَبَ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مَذَبْذَبِينَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالذَّالَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَرْدُودَةٌ انْتَهَى.

وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ يُحْتَجُّ بِكَلَامِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ قِرَاءَتُهُ، وَلَهَا وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الْمِيمِ بِحَرَكَةِ الذَّالِ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ أَتْبَعُوا حَرَكَةَ الْمِيمِ بِحَرَكَةِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِي مِثْلِ مِنْتِنٍ وَبَيْنَهُمَا حَاجِزٌ فَلَأَنْ يُتْبِعُوا بِغَيْرِ حَاجِزٍ أَوْلَى، وكذلك اتبعوا حركة

(1) سورة البقرة: 2/ 68.

(2)

سورة ص: 38/ 32.

(3)

سورة الرحمن: 55/ 26.

ص: 110

عَيْنِ مُنْفَعِلٍ بِحَرَكَةِ اللَّامِ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ فَقَالُوا: مُنْحَدِرٌ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ لَيْسَتْ ثَابِتَةً خِلَافَ حَرَكَةِ الذَّالِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ النَّقْلِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: مُدَبْدِبِينَ بِالدَّالِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ، كَأَنَّ الْمَعْنَى:

أَخَذَتْهُمْ تَارَةً بِدَبَّةٍ، وَتَارَةً فِي دَبَّةٍ، فَلَيْسُوا بِمَاضِينَ عَلَى دَبَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَالدَّبَّةُ الطَّرِيقَةُ، وَهِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:«اتَّبِعُوا دَبَّةَ قُرَيْشٍ، وَلَا تُفَارِقُوا الْجَمَاعَةَ» وَيُقَالُ: دَعْنِي وَدُبَّتِي، أَيْ طَرِيقَتِي وَسَجِيَّتِي. قَالَ الشَّاعِرُ:

طَهَا هِذْرِيَانُ قَلَّ تَغْمِيضُ عَيْنِهِ

عَلَى دَبَّةٍ مِثْلِ الْخَنِيقِ الْمُرَعْبَلِ

وَانْتِصَابُ مُذَبْذَبِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يراؤون، أَوْ فَاعِلٍ وَلَا يَذْكُرُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُذَبْذَبِينَ: إِمَّا حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يذكرون عن واو يراؤونهم، أي يراؤونهم غَيْرَ ذَاكِرِينَ مُذَبْذَبِينَ. أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ.

لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَالْمُرَادُ بِأَحَدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَبِالْآخَرِ الْكَافِرُونَ. وَالْمَعْنَى: لَا يَعْتَقِدُونَ الْإِيمَانَ فَيُعَدُّوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ فَيُعَدُّوا مَعَ الْكَافِرِينَ. وَيَتَعَلَّقُ إِلَى بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَا مَنْسُوبِينَ إِلَى هَؤُلَاءِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَالِ.

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أَيْ فَلَنْ تَجِدَ لِهِدَايَتِهِ سَبِيلًا، أَوْ فَلَنْ تَجِدَ سَبِيلًا إِلَى هِدَايَتِهِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ مِنِ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَقَدَّمَ ذَمُّهُمْ بِذَلِكَ، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ.

وَكَانَ لِلْأَنْصَارِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ رَضَاعٌ وَحِلْفٌ وَمَوَدَّةٌ، فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: من نَتَوَلَّى؟ فَقَالَ: «الْمُهَاجِرُونَ»

. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ: قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ أَخْلَاقَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا هَلِ الْكَافِرُونَ هُنَا الْيَهُودُ أَوِ الْمُنَافِقُونَ قَوْلَانِ؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خِطَابُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ فِيهِ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ الْمُنَافِقُونَ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِيمَانِ، وَفِي اللَّفْظِ رِفْقٌ بِهِمْ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَتُرِيدُونَ أَنْ هَذَا التَّوْفِيقُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَلَمَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَقْلِ الْمُؤَدِّي إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَالْمُؤْمِنُونَ الْمُخْلِصُونَ مَا أَلَمُّوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيُقَوِّي هَذَا الْمَنْزَعَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: وَالْمُؤْمِنُونَ الْعَارِفُونَ الْمُخْلِصُونَ غُيَّبٌ عَنْ هَذِهِ الْمُوَالَاةِ، وَهَذَا لَا يُقَالُ لِلْمُؤْمِنِينَ

ص: 111

الْمُخْلِصِينَ بَلِ الْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَالْتَزَمُوا لَوَازِمَهُ انْتَهَى. قِيلَ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أنّ الكافر لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِ وِلَايَةً بِوَجْهٍ وَلَدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَأَنْ لَا يُسْتَعَانَ بِذِمِّيٍّ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ نُصْرَةٌ وَوِلَايَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ «1» وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَوْكِيلَهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَفِي دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ مُضَارَبَةً.

أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ حُجَّةً ظَاهِرَةً وَاضِحَةً بِمُوَالَاتِكُمُ الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى قَوْلِ الْقَفَّالِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْخُذُكُمْ إِنْ وَالَيْتُمُ الْكُفَّارَ بِانْتِقَامٍ مِنْهُ، وَلَهُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ، إِذْ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ أَحْوَالَهُمْ وَنَهَاكُمْ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ. وَقِيلَ:

السُّلْطَانُ هُنَا الْقَهْرُ وَالْقُدْرَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ اتِّخَاذِكُمِ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَالسُّلْطَانَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أُنِّثَ وَذُكِّرَ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: قَضَتْ بِهِ عَلَيْكَ السُّلْطَانُ، وَقَدْ أَخَذَتْ فُلَانًا السُّلْطَانُ، وَالتَّأْنِيثُ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ أَكْثَرُ انْتَهَى. فَمَنْ ذَكَّرَ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْبُرْهَانِ وَالِاحْتِجَاجِ، وَمَنْ أَنَّثَ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْحُجَّةِ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ التَّذْكِيرُ هُنَا فِي الصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ التَّأْنِيثُ أَكْثَرَ، لِأَنَّهُ وَقَعَ الْوَصْفُ فَاصِلَةً، فَهَذَا هُوَ الْمُرَجِّحُ لِلتَّذْكِيرِ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّذْكِيرُ أَشْهَرُ وَهِيَ لُغَةُ الْقُرْآنِ حَيْثُ وَقَعَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَإِذَا سُمِّيَ بِهِ صَاحِبُ الْأَمْرِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ وَالتَّقْدِيرُ: ذُو السُّلْطَانِ، أَيْ: ذُو الْحُجَّةِ عَلَى النَّاسِ إِذْ هُوَ مُدَبِّرُهُمْ وَالنَّاظِرُ فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا تَتَشَبَّهُوا بِالْمُنَافِقِينَ فِي اتِّخَاذِهِمُ الْيَهُودَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ أَوْلِيَاءَ سُلْطَانٌ حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ يَعْنِي: أَنَّ مُوَالَاةَ الْكَافِرِينَ بَيِّنَةٌ عَلَى المنافقين. وعن صعصعة بْنِ صَرْحَانِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ أَخٍ لَهُ خَالِصِ الْمُؤْمِنَ وَخَالِقِ الْكَافِرِ وَالْفَاجِرَ: فَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرْضَى مِنْكَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَيْكَ أَنْ تُخَالِصَ الْمُؤْمِنَ.

إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدَّرْكُ لِأَهْلِ النَّارِ كَالدَّرَجِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَّا أَنَّ الدَّرَجَاتِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَالدِّرْكَاتُ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الدَّرَكَاتُ الطَّبَقَاتُ: وَأَصْلُهَا مِنَ الْإِدْرَاكِ أَيْ: هِيَ مُتَدَارِكَةٌ مُتَلَاحِقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: هِيَ مِنْ تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مُتَعَلِّقَةٍ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَالنَّارُ سَبْعُ دَرَكَاتٍ، قِيلَ: أَوَّلُهَا جَهَنَّمُ، ثُمَّ لَظًى، ثُمَّ الْحُطَمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ. وَقَدْ تُسَمَّى جَمِيعُهَا بِاسْمِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى، وَبَعْضُ الطَّبَقَاتِ باسم

(1) سورة آل عمران: 3/ 118.

ص: 112

بَعْضٍ، لِأَنَّ لَفْظَ النَّارِ يَجْمَعُهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ وَآلِ فِرْعَوْنَ. وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةُ في المنافقين: وفَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «1» وأَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «2» وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنَافِقُ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْكُفْرِ، وَضَمَّ إِلَى الْكُفْرِ الِاسْتِهْزَاءَ بِالْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَالْمُدَاجَاةَ وَإِطْلَاعَ الْكُفَّارِ عَلَى أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَشَدُّ غَوَائِلَ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَشَدُّ تَمْكِينًا مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ.

وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَالْعَرَبِيَّانِ: فِي الدَّرْكِ بِفَتْحِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: بِسُكُونِهَا، وَاخْتُلِفَ عَنْ عَاصِمٍ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ وَالْبَرْجَمِيُّ: الْفَتْحَ، وَغَيْرُهُمَا الْإِسْكَانَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهُمَا لُغَتَانِ كَالشَّمْعِ وَالشَّمَعِ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمُ الْفَتْحَ لِقَوْلِهِمْ: فِي الْجَمْعِ أَدْرَاكٌ كَجَمَلٍ وَأَجْمَالٍ يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْقَاسُ فِي فَعَلٍ أفعال، وَلَا يَنْقَاسُ فِي فَعْلٍ. وَقَالَ عَاصِمٌ: لَوْ كَانَ بِالْفَتْحِ لَقِيلَ: السُّفْلَى. قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَهَبَ عَاصِمٌ إِلَى أَنَّ الْفَتْحَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ دَرَكَةٍ كَبَقَرَةٍ وَبَقَرٍ انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مَا ذكره من التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ الْجِنْسَ الْمُمَيَّزَ مُفْرَدُهُ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ، يُؤَنَّثُ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَيُذَكَّرُ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ وَنَجْدٍ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا، إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ لِأَنَّهُ يَتَحَتَّمُ فِيهِ التَّأْنِيثُ أَوِ التَّذْكِيرُ، وَلَيْسَ دَرَكَةٌ وَدَرَكٌ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ تَذْكِيرُ الدَّرَكِ وَتَأْنِيثُهُ.

وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً أَيْ مَانِعًا مِنَ الْعَذَابِ وَلَا شَافِعًا يَشْفَعُ.

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ تَابُوا مِنَ النِّفَاقِ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ وَلَا مَلَاذٌ إِلَّا اللَّهَ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أَيْ: لَا يَبْتَغُونَ بِعَمَلِ الطَّاعَاتِ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ مُتَّصِفًا بِنَقَائِصِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْكُفْرِ وَفَسَادِ الْأَعْمَالِ وَالْمُوَالَاةِ لِلْكَافِرِينَ وَالِاعْتِزَازِ بِهِمْ وَالْمُرَاءَاةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، شَرَطَ فِي تَوْبَتِهِمْ مَا يُنَاقِضُ تِلْكَ الْأَوْصَافَ وَهِيَ التَّوْبَةُ مِنَ النِّفَاقِ، وَهِيَ الْوَصْفُ الْمُحْتَوِي عَلَى بَقِيَّةِ الْأَوْصَافِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. ثُمَّ فَصَّلَ مَا أَجْمَلَ فِيهَا، وَهُوَ الْإِصْلَاحُ لِلْعَمَلِ الْمُسْتَأْنَفِ الْمُقَابِلِ لِفَسَادِ أَعْمَالِهِمُ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْمُقَابِلُ لِمُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَاضِي، ثُمَّ الْإِخْلَاصِ لِدِينِ اللَّهِ وَهُوَ الْمُقَابِلُ لِلرِّيَاءِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ فِي الْمَاضِي، ثُمَّ بَعْدَ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ جميعها

(1) سورة المائدة: 5/ 115.

(2)

سورة غافر: 40/ 46.

ص: 113

أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَا مِنَ المؤمنين، وإن كانوا قَدْ صَارُوا مُؤْمِنِينَ تَنْفِيرًا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِظَمِ كُفْرِ النِّفَاقِ وَتَعْظِيمًا لِحَالِ مَنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ. وَمَعْنَى: مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، رُفَقَاؤُهُمْ وَمُصَاحِبُوهُمْ فِي الدَّارَيْنِ. وَالَّذِينَ تَابُوا مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: فِي الدَّرْكِ. وَقِيلَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فَأُولَئِكَ. وقال الخوفي: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ الْمُتَعَلِّقِ بِالَّذِينَ.

وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً أتى بسوف، لِأَنَّ إِيتَاءَ الْأَجْرِ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ زَمَانٌ مُسْتَقْبَلٌ لَيْسَ قَرِيبًا مِنَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ. وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ سَوْفَ أَبْلَغُ فِي التَّنْفِيسِ مِنَ السِّينِ، وَلَمْ يَعُدِ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ: وَسَوْفَ يُؤْتِيهِمْ، بَلْ أَخْلَصَ ذَلِكَ الْأَجْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ رُفَقَاؤُهُمْ، فَيُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ وَيُسَاهِمُونَهُمْ. وَكَتَبَ يُؤْتِ فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ يَاءٍ، لَمَّا حُذِفَتْ فِي اللَّفْظِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ حُذِفَتْ فِي الْخَطِّ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ. وَوَقَفَ يَعْقُوبُ عَلَيْهَا بِالْيَاءِ، وَوَقَفَ السَّبْعَةُ بِغَيْرِ يَاءٍ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ. وَقَدْ رُوِيَ الْوَقْفُ بِالْيَاءِ عَنْ:

حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَنَافِعٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوقَفَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ إِنْ وُقِفَ بِغَيْرِ يَاءٍ خَالَفَ النَّحْوِيِّينَ، وَإِنْ وَقَفَ بِيَاءٍ خَالَفَ لَفْظَ الْمُصْحَفِ. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ هُوَ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ.

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ الْخِطَابُ قِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ:

لِلْكَافِرِينَ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ: مَا يُعَذِّبُكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ، لِأَنَّ الْعَذَابَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ يَعُودُ نَفْعُهُ أَوْ يَنْدَفِعُ ضُرُّهُ عَنِ الْمُعَذَّبِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عِقَابُهُ الْمُسِيءَ لِأَمْرٍ قَضَتْ بِهِ حِكْمَتُهُ تَعَالَى، فَمَنْ شَكَرَهُ وَآمَنَ بِهِ لَا يُعَذِّبُهُ.

وما اسْتِفْهَامٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ، التَّقْدِيرُ: أَيَّ شَيْءٍ يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ، اسْتِشْفَاءً أم إدراك ثأر، أَمْ جَلْبَ مَنْفَعَةٍ، أَمْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، فَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، قَالَ: وَالْمَعْنَى: مَا يُعَذِّبُكُمْ. وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ أَيْ: إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ فَمَا يَفْعَلُ بِعَذَابِكُمْ.

ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّكْرِ هُنَا تَوْحِيدُ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) :

ص: 114

لِمَ قَدَّمَ الشُّكْرَ عَلَى الْإِيمَانِ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَنْظُرُ إِلَى مَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فِي خَلْقِهِ وَتَعْرِيضِهِ لِلْمَنَافِعِ فَيَشْكُرُ شُكْرًا مُبْهَمًا، فَإِذَا انْتَهَى بِهِ النَّظَرُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُؤْمِنِ بِهِ الْمُنَعَّمِ آمَنَ بِهِ، ثُمَّ شَكَرَ شُكْرًا مُفَصَّلًا، فَكَانَ الشُّكْرُ مُتَقَّدِمًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَكَانَ أَصْلَ التَّكْلِيفِ وَمَدَارَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الشُّكْرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ الْإِيمَانَ تَأْكِيدًا وَتَنْبِيهًا عَلَى جَلَالَةِ مَوْقِعِهِ انْتَهَى. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَيْ: إِنْ آمَنْتُمْ وَشَكَرْتُمْ.

وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً شَاكِرًا أَيْ: مُثِيبًا مُوفِيًا أُجُورَكُمْ. وَأَتَى بِصِفَةِ الشُّكْرِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ بِلَا مُبَالَغَةٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ يَتَقَبَّلُ وَلَوْ أَقَلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَمَلِ، وَيُنَمِّيهِ عَلِيمًا بِشُكْرِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ فَيُجَازِيكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: عَلِيمًا، تَحْذِيرٌ وَنَدْبٌ إِلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ:

الشُّكْرُ مِنَ اللَّهِ إِدَامَةُ النِّعَمِ عَلَى الشَّاكِرِ.

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قَالَ مُجَاهِدٌ: تَضَّيَفُ رَجُلٌ قَوْمًا فأساؤوا قِرَاهُ، فَاشْتَكَاهُمْ، فَعُوتِبَ، فَنَزَلَتْ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَالَ رَجُلٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَالرَّسُولُ عليه السلام، حَاضِرٌ، فَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ مِرَارًا ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ، فَقَامَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَتَمَنِي فَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا رَدَدْتُ عَلَيْهِ قُمْتَ، فَقَالَ:«إِنْ مَلَكًا كَانَ يُجِيبُ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَّدْتَ عَلَيْهِ ذَهَبَ وَجَاءَ الشَّيْطَانُ» فَنَزَلَتْ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَذَمِّهِمْ وَإِظْهَارِ فَضَائِحِهِمْ مَا ذَكَرَ، وَبَيَّنَ ظُلْمَهُمْ وَاهْتِضَامَهُمْ جَانِبَ الْمُؤْمِنِينَ، سَوَّغَ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذَكِّرُوهُمْ بِمَا فِيهِمْ مِنَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ.

وَقَالَ عليه السلام: «اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ» .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَإِنْ صَبَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ:

لَا يَدْعُو عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ حَقِّي، اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنْ ظُلْمِي. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُجَازِيهِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالشَّتْمِ فَيَرُدَّ عَلَى مَنْ شَتَمَهُ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا فِي الضَّيْفِ يَشْكُو سُوءَ صَنِيعِ الْمُضِيفِ مَعَهُ، وَنُسِبَ إِلَى الظُّلْمِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْمُرُوءَةِ. وَقَالَ الْمُنِيرُ: مَعْنَاهُ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَجْهَرَ بِالسُّوءِ كُفْرًا وَنَحْوَهُ فَذَلِكَ مُبَاحٌ، وَالْآيَةُ فِي الْإِكْرَاهِ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ أي: الأجهر مَنْ ظُلِمَ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ الْمَظْلُومَ لَهُ أَنْ يَنْتَصِفَ مِنْ ظَالِمِهِ بِمَا يُوَازِي ظُلَامَتَهُ قَالَهُ: السُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُهُمَا. وبالسوء

ص: 115

مُتَعَلِّقٌ بِالْجَهْرِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَالْفَاعِلُ محذوف، وبالجهر فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَمِنْ أَجَازَ أَنْ يُنْوَى فِي الْمَصْدَرِ بِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ قَدَّرَ أَنَّ بِالسُّوءِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: أَنْ يُجْهَرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَنْ ظُلِمَ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ التَّقْدِيرُ: إِنْ أَحَدٌ إِلَّا الْمَظْلُومَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ. أَجَازَ الْفَرَّاءُ فِيمَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ أَنْ يَكُونُ زَيْدٌ بَدَلًا مِنْ أَحَدٍ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى الَّذِي فَرَغَ لَهُ الْعَامِلُ، فَيَكُونُ مَرْفُوعًا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَصْدَرِ.

وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُ الْجَهْرِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَجْهَرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا الْمَظْلُومُ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَالضَّحَّاكُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ: إلا من ظلم مبنيا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الظَّالِمَ رَاكِبٌ مَا لَمْ يُحِبَّهُ اللَّهُ فَيَجْهَرُ بِالسُّوءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى إِلَّا مَنْ ظَلَمَ فِي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فَاجْهُرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ، وَالتَّوْبِيخِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ. قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا بِسُوءٍ مِنَ الْقَوْلِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ «1» الْآيَةَ عَلَى مَعْنَى التَّأْسِيسِ وَالِاسْتِدْعَاءِ إِلَى الشُّكْرِ وَالْإِيمَانِ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فِي إِقَامَتِهِ عَلَى النِّفَاقِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ: أَلَسْتَ الْمُنَافِقَ الْكَافِرَ الَّذِي لَكَ فِي الْآخِرَةِ الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ؟ وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ قَوْمٌ: تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ فَهُوَ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ وَهُوَ ظَالِمٌ فِي ذَلِكَ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ تَقَادِيرَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ: أَحَدُهَا: رَاجِعٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ لَا يُحِبُّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَكِنَّ الظَّالِمَ يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ فَهُوَ يَفْعَلُهُ، وَالثَّانِي: رَاجِعٌ إِلَى فَاعِلِ الْجَهْرِ أَيْ:

لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدٌ بِالسُّوءِ، لَكِنَّ الظَّالِمَ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ. وَالثَّالِثُ: رَاجِعٌ إِلَى مُتَعَلِّقِ الْجَهْرِ الْفَضْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ أَيْ: إِنْ يَجْهَرْ أَحَدُكُمْ لِأَحَدٍ بِالسُّوءِ، لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ فَاجْهُرُوا لَهُ بِالسُّوءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِعْرَابُ مَنْ يَحْتَمِلُ فِي بَعْضِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ النَّصْبَ، وَيَحْتَمِلُ الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ أَحَدٌ الْمُقَدَّرِ انْتَهَى. وَيَعْنِي بِأَحَدٍ الْمُقَدَّرِ فِي الْمَصْدَرِ إِذِ التَّقْدِيرُ إِنْ يَجْهَرْ أَحَدٌ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ الرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ لَا يَصِحُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُسَوَّغُ فِيهِ الْبَدَلُ وَهُوَ مَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ عَلَيْهِ نَحْوَ: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارٌ، فَهَذَا فِيهِ الْبَدَلُ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ، وَالنُّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ في لغة الحجاز.

(1) سورة النساء: 4/ 147.

ص: 116

وَإِنَّمَا جَازَ فِيهِ الْبَدَلُ، لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: مَا فِي الدَّارِ إِلَّا حِمَارٌ صَحَّ الْمَعْنَى. وَقِسْمٌ يَتَحَتَّمُ فِيهِ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يُسَوَّغُ فِيهِ الْبَدَلُ، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الْعَامِلِ عَلَيْهِ نَحْوَ: الْمَالُ مَا زَادَ إِلَّا النَّقْصَ. التَّقْدِيرُ: لَكِنَّ النَّقْصَ حَصَلَ لَهُ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَجَّهَ زَادَ عَلَى النَّقْصِ، لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: مَا زَادَ إِلَّا النَّقْصُ لَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى، وَالْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ:

لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ بالسوء إلا الظالم، فيفرع أَنْ يَجْهَرَ لِأَنْ يَعْمَلَ فِي الظَّالِمِ لَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ مَرْفُوعًا كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ إِلَّا الظَّالِمُ، عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، بِمَعْنَى: مَا جَاءَنِي إِلَّا عَمْرٌو. وَمِنْهُ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ «1» انْتَهَى.

وَهَذَا الَّذِي جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ يُذْكَرُ لَغْوًا زَائِدًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ بَدَلًا مِنَ اللَّهِ، وَلَا عَمْرٌو بَدَلًا مِنْ زَيْدٍ، لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي هَذَا الْبَابِ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى كَوْنِهِ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ نَحْوِ: مَا قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ نَحْوَ: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارٌ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْبَدَلُ الْمَذْكُورُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَلَمٌ وَكَذَا زَيْدٌ هُوَ عَلَمٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَخَيَّلَ فِيهِ عُمُومٌ، فَيَكُونُ الظَّالِمُ بَدَلًا مِنَ اللَّهِ، وَعَمْرٌو بَدَلًا مِنْ زَيْدٍ.

وَأَمَّا مَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَدَلُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فَإِنَّهُ يُتَخَيَّلُ فِيمَا قَبْلَهُ عُمُومٌ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الْبَدَلُ منه على طريق المحاز، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْضًا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ حَقِيقَةً. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ:

عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، فَلَا نَعْلَمُ هَذِهِ اللُّغَةَ، إِلَّا أَنَّ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَنْشَدَ أَبْيَاتًا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ آخِرُهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:

عَشِيَّةَ لَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا

وَلَا النَّبْلُ إِلَّا الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمَّمُ

مَا نَصُّهُ وَهَذَا يُقَوِّي: مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، وَمَا أَعَانَهُ إِخْوَانُكُمْ إِلَّا إِخِوَانُهُ، لِأَنَّهَا مَعَارِفُ لَيْسَتِ الْأَسْمَاءُ الْآخِرَةُ بِهَا وَلَا مِنْهَا، انْتَهَى كَلَامُ سِيبَوَيْهِ. وَلَمْ يُصَرِّحْ وَلَا لَوَّحَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: مِنْ شَرْحِ سِيبَوَيْهِ، فَهَذَا يُقَوِّي: مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ، لِأَنَّ النَّبْلَ مَعْرِفَةٌ لَيْسَ بِالْمَشْرَفِيِّ، كَمَا أَنَّ زَيْدًا لَيْسَ بِعَمْرٍو، وَكَمَا أَنَّ أُخْوَةَ زَيْدٍ لَيْسُوا إِخْوَانَكُمْ انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو نَظِيرًا لِلْبَيْتِ، لِأَنَّهُ يُتَخَيَّلُ عُمُومٌ فِي الْبَيْتِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَأَنَّهُ قيل: لا يغني

(1) سورة النمل: 27/ 65.

ص: 117

السِّلَاحُ مَكَانَهَا إِلَّا الْمَشْرَفِيُّ، بِخِلَافِ مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، فَإِنَّهُ لَا يُتَخَيَّلُ فِي مَا أَتَانِي زَيْدٌ عُمُومٌ الْبَتَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سُمِعَ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ حَتَّى يَصِحَّ الْبَدَلُ، فَكَانَ يَصِحُّ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ وَلَا غَيْرُهُ إِلَّا عَمْرٌو. كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَذْفِ الْمَعْطُوفِ وُجُودُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى إِلْغَاءِ هَذَا الْفَاعِلِ وَزِيَادَتِهِ، أَوْ عَلَى كَوْنِ عمرو بدلا من زيد، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَمِنْهُ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مفعولة، والغيب بَدَلًا مِنْ بَدَلِ اشْتِمَالٍ أَيْ: لَا يَعْلَمُ غَيْبَ من في السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ مَا يُسِرُّونَهُ وَيُخْفُونَهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ مَنْ مَرْفُوعَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بَدَلًا مِنْ مَنْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فِي مَنْ، لأن من في السموات يُتَخَيَّلُ فِيهِ عُمُومٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ لَا يَعْلَمُ الْمَوْجُودَ دُونَ الْغَيْبِ إِلَّا اللَّهُ. أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فِي الظَّرْفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَا جَاءَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ «1» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ «2» وَفِي الْحَدِيثِ أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: لَا ودي. وفي السَّمَاءِ بَيْتُهُ يَعْنُونَ اللَّهَ تَعَالَى. وَإِذَا احْتَمَلَتِ الْآيَةُ هَذِهِ الْوُجُوهَ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَمْلُهَا عَلَى مَا ذُكِرَ، وَخَصَّ الْجَهْرَ بِالذِّكْرِ إِمَّا إِخْرَاجًا لَهُ مُخْرَجَ الْغَائِبِ، وَإِمَّا اكْتِفَاءً بِالْجَهْرِ عَنْ مُقَابِلِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَفْحَشَ.

وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً أَيْ سَمِيعًا لِمَا يُجْهَرُ بِهِ مِنَ السُّوءِ، عَلِيمًا بِمَا يُسَرُّ بِهِ مِنْهُ.

وَقِيلَ: سَمِيعًا لِكَلَامِ الْمَظْلُومِ، عَلِيمًا بِالظَّالِمِ. وَقِيلَ: سَمِيعًا بِشَكْوَى الْمَظْلُومِ، عَلِيمًا بِعُقْبَى الظَّالِمِ، أَوْ عَلِيمًا بِمَا فِي قَلْبِ الْمَظْلُومِ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلَا يَقُلْ إِلَّا الْحَقَّ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالتَّحْذِيرُ.

إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً الظَّاهِرُ أَنَّ الْهَاءَ فِي تُخْفُوهُ تَعُودُ عَلَى الْخَيْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ من أعمال البر كَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي تُخْفُوهُ عَائِدٌ عَلَى السُّوءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ لِمَنْ كَانَ مَظْلُومًا قَالَ لَهُ وَلِجِنْسِهِ: إِنْ تُبْدُو خيرا، بدل مِنَ السُّوءِ، أَوْ تُخْفُوا السُّوءَ، أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ. فَالْعَفْوُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ غَيْرُ الْمَعْفُوِّ مُبَاحًا انْتَهَى. وَذَكَرَ إِبْدَاءَ الْخَيْرِ وإخفاءه

(1) سورة الأنعام: 6/ 3.

(2)

سورة الزخرف: 43/ 84. [.....]

ص: 118

تَسَبُّبًا لِذَلِكَ الْعَفْوِ، ثُمَّ عَطَفَهُ عَلَيْهِمَا تَنْبِيهًا عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَاعْتِدَادًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْدَرِجًا فِي إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ، فَجَعَلَهُ قَسَمًا بِالْعَطْفِ لَا قَسِيمًا اعْتِنَاءً بِهِ. وَلِذَلِكَ أَتَى سبحانه وتعالى بِصِفَةِ الْعَفْوِ وَالْقُدْرَةِ مَنْسُوبَةً لَهُ تَعَالَى لِيُقْتَدَى بِسُنَّتِهِ، وَيُتَخَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى.

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْفُو عَنِ الْجَانِينَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَكَانَ بِالصِّفَتَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْثُرَ مِنْهُ الْعَفْوُ مَعَ كَثْرَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» .

وَقَالَ تَعَالَى:

وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ «1» . وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنِ الْجَانِينَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ فَعَلَيْكُمْ بِالْعَفْوِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنِّي أَقْدَرُ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ ذُنُوبِكَ مِنْكَ عَلَى عَفْوِكَ عَنْ صَاحِبِكَ. وَقِيلَ: عَفُوًّا لِمَنْ عَفَى قَدِيرًا عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ:

نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، آمَنَتِ الْيَهُودُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَكَفَرَتْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام، وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِعِيسَى والإنجيل وكفرت بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، آمَنُوا بِمُوسَى وعزيرا وَالتَّوْرَاةِ وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ وَمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ سُوءِ الْخَلِيقَةِ وَمَذْمُومِ الطَّرِيقَةِ، أَخَذَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، جَعَلَ كُفْرَهُمْ بِبَعْضِ الرُّسُلِ كُفْرًا بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَكُفْرَهُمْ بِالرُّسُلِ كُفْرًا بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَلَا نُؤْمِنُ، بِفُلَانٍ، وَفُلَانٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.

وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ يَعْنِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ تَصْدِيقُ اليهود بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَكِنْ لَيْسَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَنَحْوُ هَذَا مِنْ تَفَرُّقَاتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَعَنُّتًا وَرَوَغَانًا.

وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا وَسَطًا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا.

أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: هُمْ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذلك الإيمان ينفعهم.

(1) سورة آل عمران: 3/ 134.

ص: 119

وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ: حَقًّا، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ حَقًّا أَيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. أَوْ هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: كُفْرًا حَقًّا أَيْ: ثَابِتًا يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ. أَوْ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِذَلِكَ نَظَائِرُ، وَقَدْ طَعَنَ الْوَاحِدِيُّ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ وَقَالَ: الْكُفْرُ لَا يَكُونُ حَقًّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ إِنَّهُ لَا يُرَادُ بِحَقًّا الْحَقُّ الَّذِي هُوَ مُقَابِلٌ لِلْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ كُفْرٌ ثَابِتٌ مُتَيَقَّنٌ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّوْكِيدُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ دَاعِيَ الْإِيمَانِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، فَكَوْنُهُمْ فَرَّقُوا فِي الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْجَمِيعِ، إِذْ لَيْسَ إِيمَانُهُمْ بِبَعْضٍ نَاشِئًا عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا هُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّشَهِّي وَالتَّلَاعُبِ.

وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِالْإِهَانَةِ فِي الْعَذَابِ.

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَتْبَاعُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى دُخُولِ بَيْنَ عَلَى أَحَدٍ فِي الْبَقَرَةِ. فِي قَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ صَرَّحَ تَعَالَى بِوَعْدِ هَؤُلَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِوَعِيدِ أُولَئِكَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: يُؤْتِيهِمْ بِالْيَاءِ لِيَعُودَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ قَبْلَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالنُّونِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَمُقَابِلُهُ وَأَعْتَدْنَا. وَقَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ: قِرَاءَةُ النُّونِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَنْهَمُ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مَشَاكِلٌ لِقَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنَا، لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَلَا أَوْلَوِيَّةَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا مُتَوَاتِرَةٌ، هَكَذَا نَزَلَتْ، وَهَكَذَا أُنْزِلَتْ.

وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لَمَّا وَعَدَهُمْ تَعَالَى بالثواب زادهم تبشيرا بالتجاوز عَنِ السَّيِّئَاتِ وَبِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ.

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ:

إن كنت صادقا فجيء بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً كَمَا جَاءَ مُوسَى بِالْكِتَابِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: قَالُوا: ائْتِ بِأَلْوَاحٍ فِيهَا كِتَابُكَ كَمَا أَتَى مُوسَى بِأَلْوَاحٍ فِيهَا التَّوْرَاةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: سَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكِتَابٍ خَاصٍّ لِلْيَهُودِ يَأْمُرُهُمْ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالُوا: لَنْ نُتَابِعَكَ عَلَى مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى فُلَانٍ وَإِلَى فُلَانٍ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ يَقْتَضِي أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَلَى نَحْوِ سُؤَالِ عَبْدِ اللَّهِ بن

(1) سورة البقرة: 2/ 285.

ص: 120

أُمَيَّةَ الزُّهْرِيِّ، وَقِيلَ: كِتَابًا نُعَايِنُهُ حَتَّى يَنْزِلَ، وَسَمَّى مِنْ سَائِلِي الْيَهُودِ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وفنحاص بْنَ عَازُورَاءَ. وَقِيلَ: السَّائِلُونَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَسُؤَالُهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَوْ سَأَلُوهُ لِكَيْ يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ لَأَعْطَاهُمْ، فَإِنَّ فِيمَا أَعْطَاكُمْ كِفَايَةً.

فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً قَدَّرُوا قَبْلَ هَذَا كَلَامًا مَحْذُوفًا، فَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ شَرْطًا هَذَا جَوَابُهُ وَتَقْدِيرُهُ: إِنِ اسْتَكْبَرْتَ مَا سَأَلُوهُ مِنْكَ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَلَا تُبَالِ يَا مُحَمَّدُ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَتَشْطِيطِهِمْ، فَإِنَّهَا عَادَتُهُمْ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى. وَأَسْنَدَ السُّؤَالَ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ آبَائِهِمْ مِنْ نُقَبَائِهِمُ السَبْعِينَ، لِأَنَّهُمْ رَاضُونَ بِفِعْلِ آبَائِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَمُشَابِهُونَ لَهُمْ فِي التَّعَنُّتِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَكْثَرَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ الْبَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَمَعْنَى جَهْرَةً: عِيَانًا رُؤْيَةً مُنْكَشِفَةً بَيِّنَةً. وَالْجَهْرَةُ مِنْ وَصْفِ الرّوية. وَاخْتُلِفَ فِي النَّقْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرُوِيَ عَنْهُ: «أَنَّ جَهْرَةً مِنْ صِفَةِ السُّؤَالِ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى. أَوْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ سَأَلُوا أَيْ: سَأَلُوهُ مُجَاهِرِينَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَقَالُوا جَهْرَةً مِنْهُ وَتَصْرِيحًا أَرِنَا اللَّهَ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَةِ الْقَوْلِ.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ أَيْ: تَعَنُّتِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِظُلْمِهِمْ بِسَبَبِ سُؤَالِهِمُ الرُّؤْيَةَ، وَلَوْ طَلَبُوا أَمْرًا جَائِزًا لَمَا سُمُّوا ظَالِمِينَ، وَلَمَا أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ. كَمَا سَأَلَ إِبْرَاهِيم عليه السلام أَنْ يُرِيَهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى فَلَمْ يُسَمِّهِ ظَالِمًا، وَلَا رَمَاهُ بِالصَّاعِقَةِ لِلْمُشَبِّهَةِ وَرَمْيًا بِالصَّوَاعِقِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي اسْتِحَالَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا مُحَالًا عَقْلًا، لَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، إِذْ قَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُ لَا يُرَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالرُّؤْيَةُ فِي الْآخِرَةِ ثَابِتَةٌ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّوَاتُرِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَقْلًا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَقَرَةِ عَلَى الصَّاعِقَةِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ، وَالْجُمْهُورُ الصَّاعِقَةُ.

ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ثُمَّ: لِلتَّرْتِيبِ فِي الْأَخْبَارِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ثُمَّ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ: أَيْ آبَاؤُهُمْ، وَالَّذِينَ صُعِقُوا غَيْرُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ. وَالْبَيِّنَاتُ: إِجَازَةُ الْبَحْرِ، وَالْعَصَا، وَغَرَقُ فِرْعَوْنَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَعْلَمَ نَبِيَّهُ بِعِنَادِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ عَلَيْهِمُ الَّذِي سَأَلُوا لَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ كَمَا خَالَفُوهُ مِنْ بَعْدِ إِحْيَاءِ اللَّهِ لَهُمْ مِنْ صَعْقَتِهِمْ، وَعَبَدُوا الْعِجْلَ وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا.

فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أَيْ: عَنِ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ إِلَهًا عَنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ.

ص: 121

وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي قِصَّةِ الْعِجْلِ بِالتَّوْبَةِ. وَيَعْنِي: بِمَا امْتَحَنَهُمْ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ وَقَعَ الْعَفْوُ عَنِ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ.

وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أَيْ: حُجَّةً وَتَسَلُّطًا وَاسْتِيلَاءً ظَاهِرًا عَلَيْهِمْ حِينَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى يُتَابَ عَلَيْهِمْ فَأَطَاعُوهُ، وَاحْتَبَوْا بِأَفْنِيَتِهِمْ، وَالسُّيُوفُ تتساقط عليهم، فياله مِنْ سُلْطَانٍ مُبِينٍ.

وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ تَقَدَّمَ مَا الْمَعْنِيُّ بِالطُّورِ. وَفِي الشَّامِ جَبَلٌ عُرِفَ بِالطُّورِ وَلَزِمَهُ هَذَا الِاسْمُ، وَهُوَ طور سيناء. وَلَيْسَ هُوَ الْمَرْفُوعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ رَفْعَ الْجَبَلِ كَانَ فِيمَا يَلِي التِّيهَ مِنْ جِهَةِ دِيَارِ مِصْرَ وَهُمْ نَاهِضُونَ مَعَ مُوسَى عليه السلام، وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ رَفْعِ الطُّورِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِمِيثَاقِهِمْ لِلسَّبَبِ، وَهُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ مُوسَى عَلَيْهِمْ بَعْدَ تَصْدِيقِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا، فَنَقَضُوا مِيثَاقَهُمْ وعدبوا الْعِجْلَ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطُّورَ. وَفِي كَلَامٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: بِنَقْضِ مِيثَاقِهِمْ.

وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ.

وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ اعْتِدَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ «1» . وَقَرَأَ وَرْشٌ لَا تَعَدُّوا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ لا تَعْتَدُوا، فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ التَّاءِ عَلَى الْعَيْنِ، وَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ. وَقَرَأَ قَالُونُ:

بِإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَالنَّصُّ بِالْإِسْكَانِ. وَأَصْلُهُ أَيْضًا لَا تَعْتَدُوا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ: لَا تَعْدُوا بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الدال من عدى يَعْدُو. وَقَالَ تَعَالَى: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ «2» وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْأَخْفَشُ: لَا تَعْتَدُوا مِنَ اعْتَدَى.

وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قِيلَ: هُوَ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: بِمِيثاقِهِمْ «3» وَوُصِفَ بِالْغِلَظِ لِلتَّأْكِيدِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَهَارُونَ أَنْ يَأْخُذُوا التَّوْرَاةَ بِقُوَّةٍ، وَيَعْمَلُوا بِجَمِيعِ مَا فِيهَا، وَيُوصِلُوهُ إِلَى أَبْنَائِهِمْ. وَقِيلَ: هَذَا الْمِيثَاقُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمِيثَاقُ الثَّانِي الَّذِي أُخِذَ عَلَى أنبيائهم بالتصديق بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ:

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ «4» الْآيَةَ.

(1) سورة البقرة: 2/ 65.

(2)

سورة الأعراف: 7/ 163.

(3)

سورة النساء: 4/ 154.

(4)

سورة آل عمران: 3/ 81.

ص: 122

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِيمَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ، هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ أَشْيَاءَ وَاقَعُوهَا فِي الضِّدِّ مِمَّا أُخِذُوا بِهِ، نَقَضُوا الْمِيثَاقَ الَّذِي رُفِعَ عَلَيْهِمُ الطُّورُ بِسَبَبِهِ، وَجَعَلُوا بَدَلَ الْإِيمَانِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ بِدُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا الْمُتَضَمِّنُ التَّوَاضُعَ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ، كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَبَذْلِ الطَّاعَةِ، وَامْتِثَالِ مُوَافَقَتِهِ، فِي أَنْ لَا يَعْدُوا فِي السَّبْتِ انْتِهَاكَ أَعْظَمِ الْحُرُمِ، وَهُوَ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَابَلُوا أَخْذَ الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ بِتَجَاهُلِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ: أَيْ: فِي حُجُبٍ، وَغُلُفٍ: فَهِيَ لَا تَفْهَمُ. وَأَضْرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ قَدْ طَبَعَ عَلَيْهَا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ انْتَهَى. وَالْمِيثَاقُ الْمَنْقُوضُ: أَهُوَ كِتْمَانُهُمْ صِفَةَ الرَّسُولِ وَتَكْذِيبُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ؟ أَوْ تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ؟ مَعَ أَنَّهُمْ قَبِلُوا وَالْتَزَمُوا الْعَمَلَ بِهَا قَوْلَانِ. وَآيَاتُ اللَّهِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا أَهِيَ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ؟ أَوْ جَمِيعُ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ؟ قَوْلَانِ.

وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قُلُوبُنَا غُلْفٌ فِي الْبَقَرَةِ.

بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ أَدْغَمَ لَامَ بَلْ فِي طَاءِ طَبَعَ الْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ، وَأَظْهَرَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الذَّمُّ، عَلَى أَنَّ قُلُوبَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَطْبُوعِ عَلَيْهَا الَّتِي لَا تَفْهَمُ أَبَدًا وَلَا تُطِيعُ مُرْسَلًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ:

قُلُوبُنَا غُلْفٌ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَنَا غُلْفًا، أَيْ: فِي أَكِنَّةٍ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنَ الذِّكْرِ وَالْمَوْعِظَةِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ «1» وَتَكْذِيبُ الْمُجْبِرَةِ أَخْزَاهُمُ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُمْ: خَذَلَهَا اللَّهَ وَمَنَعَهَا الْأَلْطَافَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَصَارَتْ كَالْمَطْبُوعِ عَلَيْهَا، لَا إِنْ تخلق غلفا غير قَابِلَةَ الذِّكْرِ، وَلَا مُتَمَكِّنَةً مِنْ قَبُولِهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ طَبَعَ عَلَيْهَا حَقِيقَةً كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى إِذْ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ. وَالْبَاءُ فِي فَبِمَا نَقْضِهِمْ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَاهُ.

وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَعَنَّاهُمْ وَأَذْلَلْنَاهُمْ، وَحَتَّمْنَا عَلَى الْوَافِينَ مِنْهُمُ الْخُلُودَ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَذْفُ جَوَابِ هَذَا الْكَلَامِ بَلِيغٌ مَتْرُوكٌ مَعَ ذِهْنِ السَّامِعِ انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ بِأَنَّهُ جَوَابُ اصْطِلَاحٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَلَا تُسَاعِدُهُ اللُّغَةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ «2» عَلَى أَنَّ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا «3» بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ، وأبو بكر، والزمخشري،

(1) سورة الزخرف: 43/ 20.

(2)

سورة النساء: 4/ 16.

(3)

سورة النساء: 4/ 160.

ص: 123

وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاصِلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى السَّبَبِ سَبَبٌ، فَيَلْزَمُ تَأَخُّرُ بَعْضِ أَجْزَاءِ السَّبَبِ الَّذِي لِلتَّحْرِيمِ فِي الْوَقْتِ عَنْ وَقْتِ التَّحْرِيمِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ سَبَبٍ أَوْ مُسَبِّبًا إِلَّا بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَقَوْلَهُمْ: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ، مُتَأَخِّرٌ فِي الزَّمَانِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَعَنَّاهُمْ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً «1» .

فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَبِكُفْرِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ وَمَا بَعْدَهُ. عَلَى أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:

وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ، مَعْطُوفًا عَلَى بِكُفْرِهِمْ. وَتَكْرَارُ نِسْبَةِ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ، إِذْ كَفَرُوا بِمُوسَى، ثُمَّ بِعِيسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ عليه السلام، فَعَطَفَ بَعْضَ كُفْرِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَطَفَ مَجْمُوعَ الْمَعْطُوفِ عَلَى مَجْمُوعِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قيل:

فبجمعهم بَيْنَ نَقْضِ الْمِيثَاقِ وَالْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا غُلْفٌ «2» ، وَجَمْعِهِمْ بَيْنَ كُفْرِهِمْ وَبُهْتِهِمْ مَرْيَمَ، وَافْتِخَارِهِمْ بِقَتْلِ عِيسَى عليه السلام، عَاقَبْنَاهُمْ. أَوْ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَجَمَعَهُمْ بَيْنَ كَفْرِهِمْ، وَكَذَا وَكَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا:

(فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْبَاءُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ؟ (قُلْتُ) : لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّقْدِيرُ، لِأَنَّ قوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ، رَدٌّ وَإِنْكَارٌ لِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ الْعَطْفَ بِبَلْ يَكُونُ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَإِثْبَاتِهِ لِلثَّانِي عَلَى جِهَةِ إِبْطَالِ الْأَوَّلِ، أَوْ الِانْتِقَالِ عَامًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْإِخْبَارِ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا لِلِانْتِقَالِ. وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مَا لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى. وَالَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يُسَوَّغُ فِيهِ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ، فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى وَهُوَ لَا يَجُوزُ. لَوْ قُلْتَ: مَرَّ زَيْدٌ بِعَمْرٍو، بَلْ مَرَّ زَيْدٌ بِعَمْرٍو، لَمْ يَجُزْ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو الْبَقَاءِ وَهُوَ أَنْ يكون

(1) سورة المائدة: 5/ 13.

(2)

سورة النساء: 4/ 155.

ص: 124

التَّقْدِيرُ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَكَذَا طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا، وَالْفَاءُ مُقْحَمَةٌ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ «1» وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا. وَالْبُهْتَانُ الْعَظِيمُ رَمْيُهُمْ مَرْيَمَ عليها السلام بِالزِّنَا مَعَ رُؤْيَتِهِمُ الْآيَةَ فِي كَلَامِ عِيسَى عليه السلام فِي الْمَهْدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِلَّا فَلَوْلَا الْآيَةُ لَكَانُوا فِي قَوْلِهِمْ جَارِينَ عَلَى حُكْمِ الْبَشَرِ فِي إِنْكَارِ حَمْلٍ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ انْتَهَى. وَوُصِفَ بِالْعِظَمِ لِأَنَّهُمْ تَمَادَوْا عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ وَقِيَامِ الْمُعْجِزَةِ بِالْبَرَاءَةِ، وَقَدْ جَاءَتْ تَسْمِيَةُ الرَّمْيِ بِذَلِكَ بُهْتَانًا عَظِيمًا فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ «2» .

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ الظَّاهِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ وَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ «3» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَضَعَ الذِّكْرَ الْحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهِمُ الْقَبِيحِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُ رَفْعًا لِعِيسَى عليه السلام، كَمَا كَانُوا يُذَكِّرُونَهُ بِهِ. ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ سِوَى الثَّانِي قَالَ: هُوَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَةِ عِيسَى عليه السلام، وَهِيَ الرِّسَالَةُ عَلَى جِهَةِ إِظْهَارِ ذَنْبِ هَؤُلَاءِ الْمُقِرِّينَ بِالْقَتْلِ وَلَزِمَهُمُ الذَّنْبُ، وَهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا عِيسَى، لِأَنَّهُمْ صَلَبُوا ذَلِكَ الشَّخْصَ عَلَى أَنَّهُ عِيسَى، وَعَلَى أَنَّ عِيسَى كَذَّابٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ. وَلَكِنْ لَزِمَهُمُ الذَّنْبُ مِنْ حَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّ قَتْلَهُمْ وَقَعَ فِي عِيسَى، فَكَأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَلَيْسَ يَدْفَعُ الذَّنْبَ عَنْهُمُ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ رَسُولٍ.

وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ هَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ مَا قَتَلُوا عِيسَى وَمَا صَلَبُوهُ.

وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ شَيْءٌ غَيْرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.

وَمُنْتَهَى مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرِ عِيسَى عليه السلام أَنَّهُ طَلَبَتْهُ الْيَهُودُ فَاخْتَفَى هُوَ وَالْحَوَارِيُّونَ فِي بَيْتٍ، فَدُلُّوا عَلَيْهِ وَحَضَرُوا لَيْلًا وَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَفَرَّقَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَوَجَّهَهُمْ إِلَى الْآفَاقِ، وَبَقِيَ هُوَ وَرَجُلٌ مَعَهُ، فَرُفِعَ عِيسَى، وَأُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى الرَّجُلِ فَصُلِبَ. وَقِيلَ:

هُوَ الْيَهُودِيُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ.

وَقِيلَ: قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شبهي فيقتل ويخلص

(1) سورة آل عمران: 3/ 159.

(2)

سورة النور: 24/ 16.

(3)

سورة هود: 11/ 87. [.....]

ص: 125

هَؤُلَاءِ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَرْجِسُ: أَنَا، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى.

وَقِيلَ: أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، فَلَمَّا أُخْرِجُوا نَقَصَ وَاحِدٌ مِنَ الْعِدَّةِ، فَأَخَذُوا وَاحِدًا مِمَّنْ عَلَيْهِ الشَّبَهُ فَصُلِبَ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ وَالْمُتَنَاوِلِينَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ عِيسَى لِمَا رَأَوْهُ مِنْ نُقْصَانِ الْعِدَّةِ وَاخْتِلَاطِ الْأَمْرِ، فَصُلِبَ ذَلِكَ الشَّخْصُ، وَأُبْعِدَ النَّاسُ عَنْ خَشَبَتِهِ أَيَّامًا حَتَّى تَغَيَّرَ، وَلَمْ تَثْبُتْ لَهُ صِفَةٌ، وَحِينَئِذٍ دَنَا النَّاسُ مِنْهُ، وَمَضَى الْحَوَارِيُّونَ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْآفَاقِ إِنَّ عِيسَى صُلِبَ.

وَقِيلَ: لَمْ يُلْقَ شَبَهُهُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَى: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، أَيْ شَبَّهَ عَلَيْهِمُ الْمَلِكُ الْمُمَخْرِقُ لِيَسْتَدِيمَ بِمَا نَقَصَ وَاحِدٌ مِنَ الْعِدَّةِ، وَكَانَ بَادَرَ بِصَلْبِ وَاحِدٍ وَأَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ، وَقَالَ: هَذَا عِيسَى، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. أَمَّا أَنْ يُلْقَى شَبَهُهُ عَلَى شَخْصٍ، فَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُعْتَمَدَ عَلَيْهِ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. فَقِيلَ: الْيَهُودِيُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ.

وَقِيلَ: خَلِيفَةُ قَيْصَرَ الَّذِي كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ. وَقِيلَ: وَاحِدٌ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: دَخَلَ لِيَقْتُلَهُ.

وَقِيلَ: رَقِيبٌ وَكَلَتْهُ بِهِ الْيَهُودُ. وَقِيلَ: أُلْقِيَ الشَّبَهُ عَلَى كُلِّ الْحَوَارِيِّينَ. وَقِيلَ: أُلْقِيَ الشَّبَهُ عَلَى الْوَجْهِ دُونَ الْبَدَنِ، وَهَذَا الْوُثُوقُ مِمَّا يَدْفَعُ الْوُثُوقَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ:

إِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْقِي شَبَهَ إِنْسَانٍ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ، فَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ السَّفْسَطَةِ.

وَقِيلَ: سَبَبُ اجْتِمَاعِ الْيَهُودِ عَلَى قَتْلِهِ هُوَ أَنَّ رَهْطًا مِنْهُمْ سَبُّوهُ وَسَبُّوا أُمَّهُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، وَبِكَلِمَتِكَ خَلَقْتَنِي، اللَّهُمَّ الْعَنْ مَنْ سَبَّنِي وَسَبَّ وَالِدَتِي» فَمَسَخَ اللَّهُ مَنْ سَبَّهُمَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، فَاجْتَمَعَتِ الْيَهُودُ على قتله.

وشبه مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ: خُيِّلَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُمُ التَّشْبِيهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى ضَمِيرِ الْمَقْتُولِ الدَّالِّ عَلَيْهِ:

إِنَّا قَتَلْنَا أَيْ: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ مَنْ قَتَلُوهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْمَسِيحِ، لِأَنَّ الْمَسِيحَ مُشَبَّهٌ بِهِ لَا مُشَبَّهٌ.

وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ اخْتَلَفَ فِيهِ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُصْلَبْ، الْوَجْهُ وَجْهُ عِيسَى، وَالْجَسَدُ جَسَدُ غَيْرِهِ. وَقِيلَ:

أَدْخَلُوا عَلَيْهِ وَاحِدًا لِيَقْتُلَهُ، فَأُلْقِيَ الشَّبَهُ عَلَيْهِ فَصُلِبَ، وَنَقَصَ مِنَ الْعَدَدِ وَاحِدٌ. وَكَانُوا عَلِمُوا عَدَدَ الْحَوَارِيِّينَ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمَصْلُوبُ صَاحِبَنَا فَأَيْنَ عِيسَى؟ وَإِنْ كَانَ عِيسَى فَأَيْنَ صَاحِبُنَا؟ وَقِيلَ: قَالَ الْعَوَامُّ: قَتَلْنَا عِيسَى، وَقَالَ مَنْ عَايَنَ: رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ مَا قُتِلَ وَلَا صُلِبَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْيَقِينُ الَّذِي صَحَّ فِيهِ نَقْلُ الْكَافَّةِ عَنْ حَوَاسِّهَا هو أنّ شخصا ب، وَهَلْ هُوَ عِيسَى أَمْ لَا؟ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ عِلْمِ الْحَوَّاسِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ

ص: 126

كَافَّةً. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْقَتْلِ مَعْنَاهُ: فِي قَتْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي اخْتَلَفُوا عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ أَيْضًا، وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ إِلَهٌ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ أَنَّ النَّسْطُورِيَّةَ قَالُوا: وَقَعَ الصَّلْبُ عَلَى نَاسُوتِهِ دُونَ لَاهُوتِهِ. وَقِيلَ: وَقَعَ الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ عَلَيْهِمَا. وَقِيلَ:

عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: هُوَ ابْنُ زِنًا. وَقَالَتِ النَّصَارَى: هُوَ ابْنُ اللَّهِ.

وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّصَارَى قَالُوا: إِنَّ الْيَهُودَ قَتَلَتْهُ وَصَلَبَتْهُ، وَالْيَهُودُ الَّذِينَ عَايَنُوا رَفْعَهُ قَالُوا: رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ. أَيْ: وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَهُمْ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي وَلَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ، وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تفسير إعراب.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، إِذِ الظَّنُّ وَالْعِلْمُ يَضُمُّهُمَا أَنَّهُمَا مِنْ مُعْتَقَدَاتِ الْيَقِينِ.

وَقَدْ يَقُولُ الظَّانُّ عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ: عِلْمِي فِي هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ كَذَا، وَهُوَ يَعْنِي ظَنَّهُ انْتَهَى.

وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الظَّنَّ لَيْسَ مِنْ مُعْتَقَدَاتِ الْيَقِينِ، لِأَنَّهُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، وَمَا كَانَ تَرْجِيحًا فَهُوَ يُنَافِي الْيَقِينَ، كَمَا أَنَّ الْيَقِينَ يُنَافِي تَرْجِيحَ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الظَّنَّ وَالْعِلْمَ يَضُمُّهُمَا مَا ذُكِرَ، فَلَا يَكُونُ أَيْضًا اسْتِثْنَاءً متصلا، لأنه لم يستثني الظَّنَّ مِنَ الْعِلْمِ.

فَلَيْسَتِ التِّلَاوَةُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّمَا التِّلَاوَةُ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ، وَالِاتِّبَاعُ لِلظَّنِّ لَا يَضُمُّهُ وَالْعِلْمُ جِنْسُ مَا ذُكِرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ وُصِفُوا بِالشَّكِّ وَالشَّكُّ أَنْ لَا يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ؟ ثُمَّ وُصِفُوا بِالظَّنِّ وَالظَّنُّ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا، فَكَيْفَ يَكُونُونَ شَاكِّينَ ظَانِّينَ؟ (قُلْتُ) : أُرِيدَ أَنَّهُمْ شَاكُّونَ مَا لَهُمْ مِنْ عِلْمٍ قَطُّ، وَلَكِنْ لَاحَتْ لَهُمْ أَمَارَةٌ فَظَنُّوا انْتَهَى. وَهُوَ جَوَابُ سُؤَالِهِ، وَلَكِنْ يُقَالُ: لَا يَرِدُ هَذَا السُّؤَالُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الشَّكَّ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ الْقَطْعُ، وَالْيَقِينُ فيدخل فيه كلما يَتَرَدَّدُ فِيهِ، إِمَّا عَلَى السَّوَاءِ بِلَا تَرْجِيحٍ، أَوْ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْدَفَعَ السُّؤَالُ.

وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: الضَّمِيرُ فِي قَتَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى الظَّنِّ. تَقُولُ: قَتَلْتُ هَذَا الْأَمْرَ عِلْمًا إِذَا قَطَعْتَ بِهِ وَجَزَمْتَ الْجَزْمَ الَّذِي لَا يُخَالِجُهُ شَيْءٌ.

فَالْمَعْنَى: وَمَا صَحَّ ظَنُّهُمْ عِنْدَهُمْ وَمَا تَحَقَّقُوهُ يَقِينًا، وَلَا قَطَعُوا الظَّنَّ بِالْيَقِينِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ أَيْ: مَا قَتَلُوا الْعِلْمَ يَقِينًا. يُقَالُ: قَتَلْتُ الْعِلْمَ وَالرَّأْيَ يَقِينًا، وَقَتَلْتُهُ عِلْمًا، لِأَنَّ الْقَتْلَ لِلشَّيْءِ يَكُونُ عَنْ قَهْرٍ وَاسْتِعْلَاءٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ عِلْمُهُمْ بِقَتْلِ الْمَسِيحِ عِلْمًا أُحِيطَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ ظَنًّا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ تَهَكُّمٌ، لأنه إِذَا نُفِيَ

ص: 127

عَنْهُمُ الْعِلْمُ نَفْيًا كُلِّيًا بِحَرْفِ الِاسْتِغْرَاقِ ثُمَّ قِيلَ: وَمَا عَلِمُوهُ عِلْمَ يَقِينٍ، وَإِحَاطَةٍ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَهَكُّمًا انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى عِيسَى بِجَعْلِ الضَّمَائِرِ كُلِّهَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلَا تَخْتَلِفُ. وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ بَلِيغٌ، وَانْتِصَابُ يَقِينًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ قَتَلُوهُ أَيْ: مُتَيَقِّنِينَ أَنَّهُ عِيسَى كَمَا ادَّعَوْا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ قَالَهُ: السُّدِّيُّ. أَوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: قَتْلًا يَقِينًا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا قَتَلُوهُ حَقًّا انْتَهَى. فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ كَقَوْلِكَ:

وَمَا قَتَلُوهُ حَقًّا أَيْ: حَقَّ انْتِفَاءِ قَتْلِهِ حَقًّا. وَمَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ الأنباري أنه فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وإن يقينا منصوب برفعه اللَّهُ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَقِينًا، فَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ. وَقَدْ نَصَّ الْخَلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَ بَلْ فِي مَا قَبْلَهَا.

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ هَذَا إِبْطَالٌ لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ،

وَهُوَ حَيٌّ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ.

وَهُوَ هُنَالِكَ مُقِيمٌ حَتَّى يُنْزِلَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، وَلِيَمْلَأَهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، وَيَحْيَا فِيهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ كَمَا تَمُوتُ الْبَشَرُ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى إِلَيْهِ فَكَسَاهُ الرِّيشَ وَأَلْبَسَهُ النور، وقطع عنه المطعم والمشرب، فَصَارَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ مَعَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ، فَصَارَ إِنْسِيًّا مَلَكِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا.

وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَذْفِ التَّقْدِيرِ إِلَى سَمَائِهِ، وَقَدْ جَاءَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «1» . وَقِيلَ: إِلَى حَيْثُ لَا حُكْمَ فِيهِ إِلَّا لَهُ. وَلَا يُوَجَّهُ الدُّعَاءُ إِلَّا نَحْوَهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَ ذِكْرِهِ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى عِيسَى أَنْوَاعٌ مِنَ الْبَلَايَا، أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ رَفْعَهُ إِلَيْهِ أَعْظَمُ فِي إِيصَالِ الثَّوَابِ مِنَ الْجَنَّةِ وَمِنْ كُلِّ مَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَفْتَحُ عَلَيْكَ بَابَ مَعْرِفَةِ السِّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ انْتَهَى. وَفِيهِ نَحْوٌ مِنْ كَلَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ.

وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَعَزَّةِ كَمَالُ الْقُدْرَةِ، وَمِنَ الْحِكْمَةِ كَمَالُ الْعِلْمِ، فَنَبَّهَ بِهَذَا عَلَى أَنَّ رَفْعَ عِيسَى عليه السلام مِنَ الدُّنْيَا إلى السموات وَإِنْ كَانَ كَالْمُتَعَذَّرِ عَلَى الْبَشَرِ، لَكِنْ لَا تُعْذَرُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِي وحكمتي

(1) سورة آل عمران: 3/ 55.

ص: 128

انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَزِيزًا أَيْ قَوِيًّا بِالنِّقْمَةِ مِنَ الْيَهُودِ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُطْرُسَ الرُّومِيّ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً. حَكِيمًا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ. وَقِيلَ: عَزِيزًا أَيْ: لَا يُغَالَبُ، لِأَنَّ الْيَهُودَ حَاوَلَتْ بِعِيسَى عليه السلام أَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ خِلَافَهُ. حَكِيمًا أَيْ: وَاضِعَ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا. فَمِنْ حَكَمَتِهِ تَخْلِيصُهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَرَفْعُهُ إِلَى السَّمَاءِ لِمَا يُرِيدُ وَتَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ تَعَالَى.

وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى عَلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ رَفَعَهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَكَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَلَاثَ سِنِينٍ. وَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ عليه السلام فَأَدْخَلَهُ خَوْخَةً فِيهَا رَوْزَنَةٌ فِي سَقْفِهَا، فَرَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ مِنْ تِلْكَ الرَّوْزَنَةِ.

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إِنْ هُنَا نَافِيَةٌ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ قَامَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ، التَّقْدِيرُ: وَمَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» وَالْمَعْنَى: وَمَا مِنَ الْيَهُودِ. وَقَوْلُهُ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «2» أَيْ: وَمَا أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ، وَمَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَحُذِفَ أَحَدٌ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ نَفْيٍ يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ نَحْوَ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، مَعْنَاهُ مَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ وَاقِعَةٌ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَنَحْوُهُ: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا. وَالْمَعْنَى: وَمَا مِنَ الْيَهُودِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ انْتَهَى.

وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ إِذْ زَعَمَ أَنَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ وَاقِعَةٌ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ إِلَى آخِرِهِ، وَصِفَةُ أَحَدٌ الْمَحْذُوفِ إِنَّمَا هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّقْدِيرُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، فَلَيْسَتْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ، وَلَا هِيَ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ كَمَا زَعَمَ، إِنَّمَا هِيَ جُمْلَةُ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَالْقَسَمُ مَحْذُوفٌ، وَالْقَسَمُ وَجَوَابُهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرٍ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ أَحَدٌ الْمَحْذُوفُ، إِذْ لَا يَنْتَظِمُ مِنْ أَحَدٍ. وَالْمَجْرُورِ إِسْنَادٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِمُ الْإِسْنَادُ بِالْجُمْلَةِ الْقَسَمِيَّةِ وَجَوَابِهَا، فَذَلِكَ هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ.

وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْخَبَرُ هُوَ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ، وَكَذَلِكَ إِلَّا وَارِدُهَا، إِذْ لَا يَنْتَظِمُ مِمَّا قَبْلَ إِلَّا تَرْكِيبٌ إِسْنَادِيٌّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ فِي: بِهِ، وموته، عائدان أنّ عَلَى عِيسَى وَهُوَ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي زمان نزوله.

(1) سورة مريم: 19/ 71.

(2)

سورة الصافات: 37/ 164.

ص: 129

رُوِيَ أَنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا يُؤْمِنُ بِهِ، حَتَّى تَكُونَ الْمِلَّةُ وَاحِدَةً وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو مَالِكٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمْ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ لِعِيسَى، وَفِي مَوْتِهِ لِكِتَابِيٍّ وَقَالُوا: وَلَيْسَ يَمُوتُ يَهُودِيٌّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى وَيَعْلَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ لِلْمَوْتِ فَهُوَ إِيمَانٌ لَا يَنْفَعُهُ كَمَا لَمْ يَنْفَعْ فِرْعَوْنَ إِيمَانُهُ وَقْتَ الْمُعَايَنَةِ. وَبَدَأَ بِمَا يُشْبِهُ هَذَا لِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ: وَالْمَعْنَى مَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعِيسَى، وَبِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ؟ يَعْنِي: إِذَا عَايَنَ قَبْلَ أَنْ تَزْهَقَ رُوحُهُ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ لِانْقِطَاعِ وَقْتِ التَّكْلِيفِ. ثُمَّ حُكِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَالْحَجَّاجِ حِكَايَةٌ فِيهَا طُولٌ يَمَسُّ بِالتَّفْسِيرِ مِنْهَا: أَنَّ الْيَهُودِيَّ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ دُبُرَهُ وَوَجْهَهُ وَقَالُوا: يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَتَاكَ عِيسَى نَبِيًّا فَكَذَّبْتَ بِهِ، فَيَقُولُ: آمَنْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ. وَتَقُولُ لِلنَّصْرَانِيِّ:

أَتَاكَ عِيسَى نَبِيًّا فَزَعَمْتَ أَنَّهُ اللَّهُ أَوِ ابْنُ اللَّهِ، فَيَقُولُ: آمَنْتُ أنه عبد الله ورسوله حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ: فَإِنْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ؟ قَالَ:

لَا تَخْرُجُ نَفْسُهُ حَتَّى يُحَرِّكَ بِهَا شَفَتَيْهِ. قَالَ: وَإِنْ خرجت فَوْقَ بَيْتٍ، أَوِ احْتَرَقَ، أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِهَا فِي الْهَوَى، وَلَا تَخْرُجُ رُوحُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ:

إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ، بِضَمِّ النُّونِ عَلَى مَعْنَى: وَإِنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُؤْمِنُونَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ، لِأَنَّ أَحَدًا يَصْلُحُ لِلْجَمْعِ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِإِيمَانِهِمْ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِمْ؟ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ الْوَعِيدُ، وَلْيَكُنْ عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ عَنْ قَرِيبٍ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ بَعْثًا لَهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى مُعَالَجَةِ الْإِيمَانِ بِهِ فِي أَوَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلِيَكُونَ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ.

وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يَشْهَدُ عَلَى الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ، وَعَلَى النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ دَعَوْهُ ابْنُ اللَّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحْيِيهِمْ فِي قُبُورِهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيُعْلِمُهُمْ نُزُولَهُ وَمَا نَزَلَ لَهُ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ انْتَهَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ لِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وَفِي مَوْتِهِ لِلْكِتَابِيِّ. قَالَ: وَلَيْسَ يَخْرُجُ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ، وَلَوْ غَرِقَ أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ جِدَارٌ فَإِنَّهُ يُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَقِيلَ: يَعُودُ فِي بِهِ عَلَى اللَّهِ، وَفِي مَوْتِهِ عَلَى أَحَدٍ الْمُقَدَّرِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِذَا نَزَلَ عِيسَى عليه السلام لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، لَمْ يَبْقَ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ إِلَّا آمَنَ بِاللَّهِ حِينَ يَرَوْنَ قَتْلَ الدَّجَّالِ، وَتَصِيرُ الْأُمَمُ كُلُّهَا

ص: 130