المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٤

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 93]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 94 الى 100]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 113]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 126]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 142 الى 159]

- ‌[سُورَةُ النساء (4) : الآيات 160 الى 172]

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 173 الى 176]

- ‌سورة المائدة

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 6]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 11]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 26]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 38]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 48]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 49 الى 50]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 75]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 96]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 114]

- ‌[سورة المائدة (5) : الآيات 115 الى 120]

- ‌سورة الانعام

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 11]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 32]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 52]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 53 الى 58]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 73]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 94]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 110]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 126]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 140]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 152]

- ‌[سورة الأنعام (6) : الآيات 153 الى 165]

الفصل: ‌[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141]

[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141]

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَاّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131)

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)

ص: 79

الشُّحُّ: قَالَ ابْنُ فَارِسٍ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ. وَتَشَاحَّ الرَّجُلَانِ فِي الْأَمْرِ لَا يُرِيدَانِ أَنْ يَفُوتَهُمَا، وَهُوَ بِضَمِّ الشِّينِ وَكَسْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الشُّحُّ الضَّبْطُ عَلَى الْمُعْتَقَدَاتِ وَالْإِرَادَةِ، فَفِي الْهِمَمِ وَالْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَفْرَطَ فِيهِ، وَفِيهِ بَعْضُ الْمَذَمَّةِ. وَمَا صَارَ إِلَى حَيِّزِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْمُرُوءَةُ فَهُوَ الْبُخْلُ، وَهُوَ رَذِيلَةٌ. لَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي الْمُؤْمِنِ وَمِنْهُ

الْحَدِيثُ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: نَعَمْ»

وَأَمَّا الشُّحُّ فَفِي كُلِّ أَحَدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ:«وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ» «1» و «مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» «2» أثبت لكل نفس شحا

وَقَوْلُ النَّبِيِّ عليه السلام: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ»

وَلَمْ يُرِدْ بِهِ واحدا بعينه، وليس بحمد أَنْ يُقَالَ هُنَا أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ بَخِيلٌ.

الْمُعَلَّقَةُ: هِيَ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَلَّقَةً وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ. قَالَ الرَّجُلُ: هَلْ هِيَ إِلَّا خُطَّةٌ، أَوْ تَعْلِيقٌ، أَوْ صَلَفٌ، أَوْ بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقٌ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ إِنْ أُنْطِقَ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ» شَبَّهَتِ الْمَرْأَةَ بِالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ مِنْ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا عَلَى الْأَرْضِ اسْتَقَرَّ، وَلَا عَلَى مَا عُلِّقَ مِنْهُ. وَفِي الْمَثَلِ: أَرْضٌ مِنَ الْمَرْكَبِ بِالتَّعْلِيقِ.

الْخَوْضُ: الِاقْتِحَامُ فِي الشَّيْءِ تَقُولُ: خُضْتُ الْمَاءَ خَوْضًا وَخِيَاضًا، وَخُضْتُ الْغَمَرَاتِ اقْتَحَمْتُهَا، وَخَاضَهُ بِالسَّيْفِ حَرَّكَ سَيْفَهُ فِي الْمَضْرُوبِ، وَتَخَاوَضُوا فِي الْحَدِيثِ تَفَاوَضُوا فِيهِ، وَالْمَخَاضَةُ مَوْضِعُ الْخَوْضِ. قَالَ الشَّاعِرُ وهو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ:

إِذَا شَالَتِ الْجَوْزَاءُ وَالنَّجْمُ طَالِعٌ

فَكُلُّ مَخَاضَاتِ الْفُرَاتِ معابر

(1) سورة النساء: 4/ 128.

(2)

سورة الحشر: 59/ 9.

ص: 80

وَالْخَوْضَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ اللُّؤْلُؤَةُ، وَاخْتَاضَ بِمَعْنَى خَاضَ وَتَخَوَّضَ، تَكَلَّفَ الْخَوْضَ.

الِاسْتِحْوَاذُ: الِاسْتِيلَاءُ وَالتَّغَلُّبُ قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ. وَيُقَالُ: حَاذَ يَحُوذُ حَوْذًا وَأَحَاذَ، بِمَعْنًى مِثْلَ حاذ وأحاذ. وشدت هَذِهِ الْكَلِمَةُ فَصَحَّتْ عَيْنُهَا فِي النَّقَّالِ، قَاسَ عَلَيْهَا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ.

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ سَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم سَأَلُوا عَنْ أَمْرِ النِّسَاءِ وَأَحْكَامِهِنَّ فِي الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مُنَاسَبَتُهَا فَكَذَلِكَ عَلَى تَرْبِيعِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَمْرٍ ثُمَّ، تَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مَا كَانَتْ فِيهِ أَوَّلًا. وَهَكَذَا كِتَابُ اللَّهِ يُبَيَّنُ فِيهِ أَحْكَامُ تَكْلِيفِهِ، ثُمَّ يُعْقَبُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، ثُمَّ يُعْقَبُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمُخَالِفِينَ الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ، ثُمَّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالِهِ، ثُمَّ يُعَادُ لِتَبْيِينِ مَا تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ. وَقَدْ عَرَضَ هُنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنْ بَدَأَ بِأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْمَوَارِيثِ، وَذِكْرِ الْيَتَامَى، ثُمَّ ثَانِيًا بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ أَخِيرًا بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنَ الْمَوَارِيثِ أَيْضًا. وَلَمَّا كَانَتِ النِّسَاءُ مُطَّرِحًا أَمْرُهُنَّ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْيَتَامَى أَكَدَّ الْحَدِيثَ فِيهِنَّ مِرَارًا لِيَرْجِعُوا عَنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَالِاسْتِفْتَاءُ طَلَبَ الْإِفْتَاءِ، وَأَفْتَاهُ إِفْتَاءً وَفُتْيَا وَفَتْوَى، وَأَفْتَيْتُ فُلَانًا فِي رُؤْيَاهُ عَبَرْتُهَا لَهُ. وَمَعْنَى الْإِفْتَاءِ إِظْهَارُ الْمُشْكِلِ عَلَى السَّائِلِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ الَّذِي قَوِيَ وَكَمُلَ، فَالْمَعْنَى: كَأَنَّهُ بَيَانُ مَا أَشْكَلَ فَيَثْبُتُ وَيَقْوَى.

وَالِاسْتِفْتَاءُ لَيْسَ فِي ذَوَاتِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِنَّ، وَلَمْ يُبَيَّنْ فَهُوَ مُجْمَلٌ.

وَمَعْنَى يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ: يُبَيِّنُ لَكُمْ حَالَ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ وَحُكْمَهُ.

وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ ذَكَرُوا فِي مَوْضِعِ مَا مِنَ الْإِعْرَابِ:

الرَّفْعَ، وَالنَّصْبَ، وَالْجَرَّ، فَالرَّفْعُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى اسم الله أي:

اللَّهُ يُفْتِيكُمْ، وَالْمَتْلُوُّ فِي الْكِتَابِ فِي مَعْنَى الْيَتَامَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي قَوْلَهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى «1» وَهُوَ قَوْلُهُ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ انْتَهَى. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضمير المستكن في يُفْتِيكُمْ، وَحَسُنَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالْمَفْعُولِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَا يُتْلَى مُبْتَدَأً، وَفِي الْكِتَابِ خَبَرُهُ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ.

(1) سورة النساء: 4/ 3.

ص: 81

وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ تَعْظِيمًا لِلْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْعَدْلَ وَالنُّصْفَةَ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ الْمَرْفُوعَةِ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللَّهِ الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، وَالْمُخِلُّ ظَالِمٌ مُتَهَاوِنٌ بِمَا عَظَّمَهُ اللَّهُ. وَنَحْوُهُ فِي تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «1» . وَقِيلَ فِي هَذَا الْوَجْهِ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ لَكُمْ أَوْ يُفْتِيكُمْ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يتعلق فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: يُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَوْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يتلى، وفي يَتَامَى بَدَلٌ مِنْ فِي الْكِتَابِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي الثَّانِيَةِ: تَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأُولَى، لِأَنَّ مَعْنَاهَا يَخْتَلِفُ، فَالْأُولَى ظَرْفٌ، وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِسَبَبِ الْيَتَامَى، كَمَا تَقُولُ: جِئْتُكَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ فِي أَمْرِ زَيْدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الثَّانِيَةُ بِالْكِتَابِ أَيْ: فِيمَا كَتَبَ بِحُكْمِ الْيَتَامَى.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ حَالًا، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى التَّقْدِيرِ: وَيُبَيِّنُ لَكُمْ مَا يُتْلَى، لِأَنَّ يُفْتِيكُمْ مَعْنَاهَا يُبَيِّنُ فَدَلَّتْ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْجَرُّ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْقَسَمِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأُقْسِمُ بِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، وَالْقَسَمُ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي فِيهِنَّ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى. وَقَالَ: أَفْتَاهُمُ اللَّهُ فِيمَا سَأَلُوا عَنْهُ، وَفِي مَا لَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ. قَالَ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَيُضَعِّفُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا فِيهِ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ بِغَيْرِ إِعَادَةِ حَرْفِ الْخَفْضِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَيْسَ بِسَدِيدٍ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْمَجْرُورِ فِي فِيهِنَّ، لِاخْتِلَالِهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى انْتَهَى.

وَالَّذِي أَخْتَارُهُ هَذَا الْوَجْهُ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورَ مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، لَكِنْ قَدْ ذَكَرْتُ دَلَائِلَ جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ. وَأَمْعَنْتُ فِي ذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ «2» والْمَسْجِدِ الْحَرامِ «3» وَلَيْسَ مُخْتَلًّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، لِأَنَّا قَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَلِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَيَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ أَيْ: يُفْتِيكُمْ فِي مَتْلُوِّهِنَّ وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، مِنْ إِضَافَةِ مَتْلُوٍّ إِلَى ضَمِيرِهِنَّ سَائِغَةٌ، إِذِ الْإِضَافَةَ تَكُونُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ لِمَا كَانَ مَتْلُوًّا فِيهِنَّ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِمَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

(1) سورة الزخرف: 43/ 4.

(2)

سورة البقرة: 2/ 217.

(3)

سورة البقرة: 2/ 144، 149، 150، 217. [.....]

ص: 82

إِذَا كَوْكَبُ الْخَرْقَاءِ لَاحَ بِسَحَرَةٍ وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: لِاخْتِلَالِهِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ بِعَيْنِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّفْظِ وإلى المعنى، أما اللفظ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي عَطَفَ الْمُظْهَرَ عَلَى الْمُضْمَرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. كَمَا لَمْ يَجُزْ قوله: تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ «1» وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ تَعَالَى أَفْتَى فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَتَقْدِيرُ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَفْتَى فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُفْتِي فِيمَا سَأَلُوهُ مِنَ الْمَسَائِلِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى اللَّهِ، أَوْ عَلَى ضَمِيرٍ يُخْرِجُهُ عَنِ التَّأْسِيسِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ تَخْرُجُ الْجُمْلَةَ بِأَسْرِهَا عَنِ التَّأْسِيسِ، وَكَذَلِكَ الْجَرُّ عَلَى الْقَسَمِ. فَالنَّصْبُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ يَجْعَلُهُ تَأْسِيسًا. وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ: التَّأْسِيسَ وَالتَّأْكِيدَ، كَانَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ هُوَ الْأَوْلَى، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى التَّأْكِيدِ إِلَّا عِنْدَ اتِّضَاحِ عَدَمِ التَّأْسِيسِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَعَلُّقِ قوله:

«في يتامى النساء» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: فِي يَتَامَى النِّسَاءِ؟

(قُلْتُ) : فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ صِلَةُ يُتْلَى أَيْ: يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي مَعْنَاهُنَّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ بَدَلًا مِنْ فِيهِنَّ. وَأَمَّا فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فَبَدَلٌ لَا غَيْرُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنْ يَكُونَ وَمَا يُتْلَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، فَأَمَّا مَا أَجَازَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ صِلَةَ يُتْلَى فَلَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا إِنْ كَانَ فِي يَتَامَى بَدَلًا مِنْ فِي الْكِتَابِ، أَوْ تَكُونُ فِي لِلسَّبَبِ، لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ حَرْفَا جَرٍّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ كَانَ على طريقة البدل أو بِالْعَطْفِ. وَأَمَّا مَا أَجَازَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا مِنْ أَنَّ فِي يَتَامَى بَدَلٌ مِنْ فِيهِنَّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ بِالْعَطْفِ. وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ: زَيْدٌ يُقِيمُ فِي الدَّارِ وَعَمْرٌو فِي كِسْرٍ مِنْهَا، فَفَصَلَتْ بَيْنَ فِي الدَّارِ وَبَيْنَ فِي كِسْرٍ مِنْهَا بِالْعَطْفِ، وَالتَّرْكِيبِ الْمَعْهُودِ: زَيْدٌ يُقِيمُ فِي الدَّارِ فِي كِسْرٍ مِنْهَا. وَعَمْرٌو وَاتَّفَقَ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَضَى فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً «2» وَقَوْلُهُ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ «3» وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «4»

قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَعْنِي: وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى أَوَّلًا، ثُمَّ سَأَلَ نَاسٌ بعدها

(1) سورة النساء: 4/ 1.

(2)

سورة النساء: 4/ 4.

(3)

سورة النساء: 4/ 2.

(4)

سورة النساء: 4/ 3.

ص: 83

رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرِ النِّسَاءِ فَنَزَلَتْ

: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ «1» وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَعَلَى مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَمَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ يَكُونُ يُفْتِيكُمْ وَيُتْلَى فِيهِ وُضِعَ الْمُضَارِعُ مَوْضِعَ الْمَاضِي، لِأَنَّ الْإِفْتَاءَ وَالتِّلَاوَةَ قَدْ سَبَقَتْ. وَالْإِضَافَةُ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْخَاصِّ إِلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ النِّسَاءَ يَنْقَسِمْنَ إِلَى يَتَامَى وَغَيْرِ يَتَامَى. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ:

هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْإِضَافَةُ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ مَا هِيَ؟ (قُلْتُ) : إِضَافَةٌ بِمَعْنَى مِنْ هِيَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى جِنْسِهِ، كَقَوْلِكَ: خَاتَمُ حَدِيدٍ، وَثَوْبُ خَزٍّ، وَخَاتَمُ فِضَّةٍ.

وَيَجُوزُ الْفَصْلُ وَإِتْبَاعُ الْجِنْسِ لِمَا قَبْلَهُ ونصبه وجره بمن، وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ وَفِي سَحْقِ عِمَامَةٍ أَنَّهَا إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، وَمَعْنَى اللَّامِ الِاخْتِصَاصُ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ: فِي يَتَامَى النِّسَاءِ بِيَاءَيْنِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَيَامَى، فَأُبْدِلَ مِنَ الْهَمْزَةِ يَاءً، كَمَا قَالُوا: بَاهِلَةُ بْنُ يَعْصُرَ، وَإِنَّمَا هُوَ أَعْصُرُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ:

أَثْنَاكَ أَنَّ أَبَاكَ غَيَّرَ لَوْنَهُ

كَرُّ اللَّيَالِي وَاخْتِلَافُ الْأَعْصُرِ

وَقَالُوا فِي عَكْسِ ذَلِكَ: قَطَعَ اللَّهُ أَيْدَهُ يُرِيدُونَ يَدَهُ، فَأُبْدِلَ مِنَ الْيَاءِ هَمْزَةً. وَأَيَامَى جَمْعُ أَيِّمٍ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، وَهُوَ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الْمُعْتَلُّ، وَأَصْلُهُ: أَيَايِمُ كَسَيَايِدَ جَمْعُ سَيِّدٍ، قُلِبَتِ اللَّامُ مَوْضِعَ الْعَيْنِ فَجَاءَ أَيَامَى، فَأُبْدِلَ مِنَ الْكَسْرَةِ فَتْحَةً انْقَلَبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ كُسِّرَ أَيِّمٍ عَلَى أَيْمَى عَلَى وَزْنِ سَكْرَى، ثُمَّ كُسِّرَ أَيْمَى عَلَى أَيَامَى لَكَانَ وَجَهًا حَسَنًا.

وَمَعْنَى مَا كُتِبَ لَهُنَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ: هُوَ الْمِيرَاثُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الصَّدَاقُ، وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: لَا تُؤْتُونَهُنَّ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ كَانُوا يَأْخُذُونَ صَدَقَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يُعْطُونَهُنَّ شَيْئًا. وَقِيلَ: أَوْلِيَاءُ الْيَتَامَى كَانُوا يُزَوِّجُونَ الْيَتَامَى اللَّوَاتِي فِي حُجُورِهِنَّ وَلَا يَعْدِلُونَ فِي صَدَقَاتِهِنَّ. وَقُرِئَ: مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُنَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ الرَّغْبَةَ وَالنَّفْرَةَ فَالْمَعْنَى فِي الرَّغْبَةِ فِي أن تنكحوهن لمالهن أَوْ لِجَمَالِهِنَّ، وَالنَّفْرَةِ وَتَرْغَبُونَ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِقُبْحِهِنَّ فَتُمْسِكُوهُنَّ رَغْبَةً فِي أَمْوَالِهِنَّ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَجَمَاعَةٍ انْتَهَى. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَأْخُذُ

(1) سورة النساء: 4/ 127.

ص: 84

النَّاسَ بِالدَّرَجَةِ الْفُضْلَى فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَ إِذَا سَأَلَ الْوَلِيَّ عَنْ وَلِيَّتِهِ فَقِيلَ: هِيَ غَنِيَّةٌ جَمِيلَةٌ قَالَ لَهُ: اطْلُبْ لَهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَأَعْوَدُ عَلَيْهَا بِالنَّفْعِ. وَإِذَا قِيلَ: هِيَ دَمِيمَةٌ فَقِيرَةٌ قَالَ لَهُ: أَنْتَ أَوْلَى بِهَا وَبِالسَّتْرِ عَلَيْهَا مِنْ غيرك. والمستضعفين مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَامَى النِّسَاءِ، وَالَّذِي تُلِيَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ «1» الْآيَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تُوَرِّثُ الصَّبِيَّةَ وَلَا الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ، وَكَانَ الْكَبِيرُ يَنْفَرِدُ بِالْمَالِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَرِثُ مَنْ يَحْمِي الْحَوْزَةَ وَيَرُدُّ الْغَنِيمَةَ، وَيُقَاتِلُ عَنِ الْحَرِيمِ، فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ وَاحِدٍ حَقَّهُ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْأَوْصِيَاءِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ «2» وَقِيلَ:

الْمُسْتَضْعَفِينَ هُنَا الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ.

وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ أَيْ: وَفِي أَنْ تَقُومُوا. وَالَّذِي تُلِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «3» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ. وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون مَنْصُوبًا بِمَعْنَى وَيَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقُومُوا. وَهُوَ خِطَابٌ لِلْأَئِمَّةِ فِي أَنْ يَنْظُرُوا لَهُمْ، وَيَسْتَوْفُوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَلَا يُخَلُّوا أَحَدًا يَهْتَضِمُهُمْ انْتَهَى. وَفِي رَيِّ الظَّمْآنِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرْفَعَ، وَأَنْ تَقُومُوا بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: خَيْرٌ لَكُمْ انْتَهَى. وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ حَذْفٍ بِكَوْنِهِ قَدْ عُطِفَ عَلَى مَجْرُورٍ كَانَ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ نَاصِبٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَمِنْ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً قَدْ حُذِفَ خَبَرُهُ.

وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ النِّسَاءِ، وَيَتَامَى النِّسَاءِ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِ مَنْ ذَكَرَ، فَيُجَازِي عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ فِعْلِ الْخَيْرِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَغَّبَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ شَرٍّ، وَيُجَازِي عَلَى ذَلِكَ بِثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ.

وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً نَزَلَتْ بِسَبَبِ ابْنِ بِعَكَكَ وَامْرَأَتِهِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. وَبِسَبَبِ رَافِعِ بْنِ خُدَيْجٍ وَامْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَكَانَتْ قَدْ أَسَنَّتْ فَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا شَابَّةً فَآثَرَهَا، فَلَمْ تَصْبِرْ خَوْلَةُ فطلقها

(1) سورة النساء: 4/ 11.

(2)

سورة النساء: 4/ 2.

(3)

سورة النساء: 4/ 2.

ص: 85

ثُمَّ رَاجَعَهَا، وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ، فَإِمَّا أَنْ تَقْوَيْ عَلَى الْأَثَرَةِ وَإِلَّا طَلَّقْتُكِ فَفَرَّتْ. قَالَهُ:

عُبَيْدَةُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ. أَوْ بِسَبَبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ خَشِيَتْ طَلَاقَهَا فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي وَاحْبِسْنِي مَعَ نِسَائِكَ، وَلَا تَقْسِمْ لِي، فَفَعَلَ، فَنَزَلَتْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ.

وَالْخَوْفُ هُنَا عَلَى بَابِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِظُهُورِ أَمَارَاتٍ مَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْخَوْفِ.

وَقِيلَ: مَعْنَى خَافَتْ عَلِمَتْ. وَقِيلَ: ظَنَّتْ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الظَّاهِرِ، إِذِ الْمَعْنَى مَعَهُ يَصِحُّ. وَالنُّشُوزُ: أَنْ يُجَافِيَ عَنْهَا بِأَنْ يَمْنَعَهَا نَفْسَهُ وَنَفَقَتَهُ، وَالْمَوَدَّةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ يُؤْذِيَهَا بِسَبَبٍ أَوْ ضَرْبٍ. وَالْإِعْرَاضُ: أن يقل محادثتها ومؤانستها لِطَعْنٍ فِي سِنٍّ أَوْ دَمَامَةٍ، أَوْ شَيْنٍ فِي خُلُقٍ أَوْ خَلْقٍ أَوْ مَلَالٍ، أَوْ طُمُوحِ عَيْنٍ إِلَى أُخْرَى، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَخَفُّ النُّشُوزِ.

فَرَفَعَ الْجُنَاحَ بَيْنَهُمَا فِي الصُّلْحِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعٍ مِنْ بَذْلٍ مِنَ الزَّوْجِ لَهَا عَلَى أَنْ تَصْبِرَ، أَوْ بَذْلٍ مِنْهَا لَهُ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَهَا وَعَنْ أَنْ يُؤْثِرَ وَتَتَمَسَّكُ بِالْعِصْمَةِ، أَوْ عَلَى صَبْرٍ عَلَى الْأَثَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ. وَرَتَّبَ رَفْعَ الْجُنَاحِ عَلَى تَوَقُّعِ الْخَوْفِ، وَظُهُورِ أَمَارَاتِ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ، وَهُوَ مَعَ وُقُوعِ تِلْكَ وَتَحَقُّقِهَا أَوْلَى. لِأَنَّهُ إِذَا أُبِيحَ الصُّلْحُ مَعَ خَوْفِ ذَلِكَ فَهُوَ مَعَ الْوُقُوعِ أَوْكَدُ، إِذْ فِي الصُّلْحِ بَقَاءُ الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ. وَمِنْ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ أَنْ تَهَبَ يَوْمَهَا لِغَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ كَمَا فَعَلَتْ سَوْدَةُ، وَأَنْ تَرْضَى بِالْقَسْمِ لَهَا فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مَرَّةً، أَوْ تَهَبَ لَهُ الْمَهْرَ أَوْ بَعْضَهُ، أَوِ النَّفَقَةَ، وَالْحَقُّ الَّذِي لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ هُوَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ، وَالْقَسَمُ هُوَ عَلَى إِسْقَاطِ ذَلِكَ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ.

وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: يُصْلِحَا مِنْ أَصْلَحَ عَلَى وَزْنِ أَكْرَمَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: يَصَّالَحَا، وَأَصْلُهُ يَتَصَالَحَا، وَأُدْغِمَتِ التَّاءِ فِي الصَّادِ. وَقَرَأَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: يُصَالِحَا مِنَ الْمُفَاعَلَةِ.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: إِنِ اصَّالَحَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، جُعِلَ مَاضِيًا. وَأَصْلُهُ تَصَالَحَ عَلَى وَزْنِ تَفَاعَلَ، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي الصَّادِ، وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، وَالصُّلْحُ لَيْسَ مَصْدَرَ الشَّيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي قُرِئَتْ، فَإِنْ كَانَ اسْمًا لِمَا يُصْلَحُ بِهِ كَالْعَطَاءِ وَالْكَرَامَةِ مَعَ أَعْطَيْتُ وَأَكْرَمْتُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ: يُصْلَحُ أَيْ بِشَيْءٍ يَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ.

وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ظَاهِرُهُ أَنَّ خَيْرًا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَأَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ هُوَ مِنَ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مِنَ الْفُرْقَةُ. وَقِيلَ: مِنَ الْخُصُومَةِ، وَتَكُونُ

ص: 86

الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الصُّلْحِ لِلْعَهْدِ، وَيَعْنِي بِهِ صُلْحًا السَّابِقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «1» . وَقِيلَ: الصُّلْحُ عَامٌّ. وَقِيلَ: الصُّلْحُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَيَزُولُ بِهِ الْخِلَافُ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُلْحُ الزَّوْجَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ. وَقِيلَ: خَيْرٌ هُنَا لَيْسَ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، كَمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرٌّ مِنَ الشُّرُورِ.

وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ جُعِلَ الشُّحُّ كَأَنَّهُ شَيْءٌ مُعَدٌّ فِي مَكَانٍ. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ وَسِيقَتْ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِ، وَأُحْضِرَ الشُّحُّ الْأَنْفُسَ فَيَكُونُ مَسُوقًا إِلَى الْأَنْفُسِ، بَلِ الْأَنْفُسُ سِيقَتْ إِلَيْهِ لِكَوْنِ الشُّحِّ مَجْبُولًا عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَمَرْكُوزًا فِي طَبِيعَتِهِ، وَخَصَّ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ هُنَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ شُحُّ الْمَرْأَةِ بِنَصِيبِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَمَالِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ شُحُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَقِّهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ:

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشُّحِّ الْحِرْصُ، وَهُوَ أَنْ يَحْرِصَ كُلٌّ عَلَى حَقِّهِ يُقَالُ: هُوَ شَحِيحٌ بِمَوَدَّتِكَ، أَيْ حَرِيصٌ عَلَى بَقَائِهَا، وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا بَخِيلٌ، فَكَأَنَّ الشُّحَّ وَالْحِرْصَ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ الشُّحُّ لِلْمَنْعِ والحرص للطلب، فَأُطْلِقَ عَلَى الْحِرْصِ الشُّحُّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِكَوْنِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْبُخْلَ يُحْمَلُ عَلَى الْحِرْصِ، وَالْحِرْصُ يُحْمَلُ عَلَى الْبُخْلِ انْتَهَى.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:

وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. وَمَعْنَى إِحْضَارِ الْأَنْفُسِ الشُّحَّ: أَنَّ الشُّحَّ جُعِلَ حَاضِرًا لَهَا لَا يَغِيبُ عَنْهَا أَبَدًا وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، يَعْنِي: أَنَّهَا مَطْبُوعَةٌ عَلَيْهِ. وَالْغَرَضُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكَادُ تَسْمَحُ بِأَنْ يُقْسَمَ لَهَا، أَوْ يُمْسِكَهَا إِذَا رَغِبَ عَنْهَا وَأَحَبَّ غَيْرَهَا انْتَهَى. قوله. والصلح خبر جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ يَتَفَرَّقا «2» مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا «3» وَقَوْلُهُ: وَمَعْنَى إِحْضَارِ الْأَنْفُسِ الشُّحَّ أَنَّ الشُّحَّ جُعِلَ حَاضِرًا لَا يَغِيبُ عَنْهَا أَبَدًا، جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلِ التَّرْكِيبُ الْقُرْآنِيُّ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَنْفُسَ جُعِلَتْ حَاضِرَةً لِلشُّحِّ لَا تَغِيبُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْأَنْفَسَ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ فَاعِلَةً قَبْلَ دُخُولِ هَمْزَةِ النَّقْلِ، إِذِ الْأَصْلُ: حَضَرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي هَذَا الْبَابِ إِقَامَةُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مَقَامَ

(1) سورة المزمل: 73/ 15- 16.

(2)

سورة النساء: 4/ 130.

(3)

سورة النساء: 4/ 128.

ص: 87

الْفَاعِلِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَجْوَدُ عِنْدَهُمْ إِقَامَةَ الْأَوَّلِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَنْفَسُ هِيَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، وَالشُّحُّ هُوَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ، وَقَامَ الثَّانِي مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَفْصَحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ الْعَدَوِيُّ: الشِّحُّ بِكَسْرِ الشِّينِ وَهِيَ لُغَةٌ.

وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً نَدَبَ تَعَالَى إِلَى الْإِحْسَانِ فِي الْعِشْرَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَإِنْ كَرِهْنَ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الصُّحْبَةِ، وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى فِي حَالِهِنَّ، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ تَحْمِلُهُ الْكَرَاهَةُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى أَذِيَّتِهَا وَخُصُومَتِهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ ظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الْكَرَاهَةِ مِنَ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ.

وَقَدْ وَصَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِنَّ «فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَ الْأَزْوَاجِ»

. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: وَإِنْ تُحْسِنُوا فِي أَنْ تُعْطُوهُنَّ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِنَّ، وَتَتَّقُوا فِي أَنْ لَا تَنْقُصُوا مِنْ حَقِّهِنَّ شَيْئًا،. أَوْ أَنْ تُحْسِنُوا فِي إِيفَاءِ حَقِّهِنَّ، وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ، وَتَتَّقُوا الْجَوْرَ وَالْمَيْلَ وَتَفْضِيلَ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ. أَوْ أَنْ تُحْسِنُوا فِي اتِّبَاعِ مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِنَّ، وَتَتَّقُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ انْتَهَى. وَخَتَمَ آخَرَ هَذِهِ بِصِفَةِ الْخَبِيرِ وَهُوَ عِلْمُ مَا يَلْطُفُ إِدْرَاكُهُ وَيَدِقُّ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ خَفَايَا الْأُمُورِ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا الله تعالى، ولا يظهران ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ.

وَكَانَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الْخَارِجِيُّ مِنْ آدَمِ النَّاسِ، وَامْرَأَتُهُ مِنْ أَجْمَلِهِنَّ، فَأَجَالَتْ فِي وَجْهِهِ نَظَرَهَا ثُمَّ تَابَعَتِ الْحَمْدَ لِلَّهِ، فَقَالَ: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَى أَنِّي وَإِيَّاكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّكَ رُزِقْتَ مِثْلِي فَشَكَرْتَ، وَرُزِقْتُ مِثْلَكَ فَصَبَرْتُ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ الشَّاكِرِينَ وَالصَّابِرِينَ.

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَيْلِهِ بِقَلْبِهِ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها

انْتَهَى. وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى انْتِفَاءِ اسْتِطَاعَةِ الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالتَّسْوِيَةِ حَتَّى لَا يَقَعَ مَيْلٌ الْبَتَّةَ، ولا زيادة ولا نقصان فِيمَا يَجِبُ لَهُنَّ، وَفِي ذَلِكَ عُذْرٌ لِلرِّجَالِ فِيمَا يَقَعُ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْمَيْلِ الْقَلْبِيِّ، وَالتَّعَهُّدِ، وَالنَّظَرِ، وَالتَّأْنِيسِ، وَالْمُفَاكَهَةِ. فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ في ذلك محال خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الِاسْتِطَاعَةِ، وَعَلَّقَ انْتِفَاءَ الِاسْتِطَاعَةِ فِي التَّسْوِيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْحِرْصِ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَنْ تَعْدِلُوا فِي الْمَحَبَّةِ قَالَهُ: عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ. وَقِيلَ: فِي التَّسْوِيَةِ وَالْقَسَمِ. وَقِيلَ: فِي الْجِمَاعِ.

وَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمَلِكُ»

يَعْنِي الْمَحَبَّةَ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قَلْبِي فَلَا أَمْلِكُهُ، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَأَرْجُو أَنْ أَعْدِلَ فِيهِ.

فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ نَهَى تَعَالَى عَنِ الجور على المرغوب

ص: 88

عنها بمنع قسمتها من غير رضا منها، واجتناب كل الميل داخل في الوسع، ولذلك وقع النهي عنه أَيْ: إِنْ وَقَعَ مِنْكُمُ التَّفْرِيطُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فَلَا تَجُورُوا كُلَّ الْجَوْرِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَتَذَرُوهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَمِيلِ عَنْهَا الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ.

وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَتَذْرُوهَا كَالْمَسْجُونَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: فَتَذْرُوهَا كَأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمُعَلَّقَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالْمَحْبُوسَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقِيلَ: مَعْنَى كَالْمُعَلَّقَةِ كَالْبَعِيدَةِ عَنْ زَوْجِهَا. قِيلَ: أَوْ عَنْ حَقِّهَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مَأْخُوذٌ مِنْ تَعْلِيقِ الشَّيْءِ لِبُعْدِهِ عَنْ قَرَارِهِ. وَتَذْرُوهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى تَمِيلُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ فِي جَوَابِ النَّهْيِ. وَكَالْمُعَلِّقَةِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، فَتَتَعَلَّقَ الْكَافُ بِمَحْذُوفٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ»

وَالْمَعْنَى: يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهُمَا كُلَّ الْمَيْلِ، لَا مُطْلَقَ الْمَيْلِ.

وَقَدْ فَاضَلَ عُمَرُ فِي عَطَاءٍ بَيْنَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَبَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْدِلُ بيننا في القسمة بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ

، فَسَاوَى عُمَرُ بَيْنَهُنَّ، وَكَانَ لِمُعَاذٍ امْرَأَتَانِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي بَيْتِ الْأُخْرَى، فَمَاتَتَا فِي الطَّاعُونِ فَدَفَنَهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.

وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ تُصْلِحُوا مَا مَضَى مِنْ قِبَلِكُمْ وَتَتَدَارَكُوهُ بِالتَّوْبَةِ، وَتَتَّقُوا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ انْتَهَى. وَفِي ذَلِكَ نَزْغَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنْ تُصْلِحُوا مَا أَفْسَدْتُمْ بِسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَتَلْزَمُوا مَا يَلْزَمُكُمْ مِنَ الْعَدْلِ فِيمَا تَمْلِكُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا لِمَا تَمْلِكُونَهُ مُتَجَاوِزًا عَنْهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: غَفُورًا لِمَا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنَ الْمَيْلِ كُلَّ الْمَيْلِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا هِيَ مَغْفِرَةٌ مُخَصَّصَةٌ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ وَاقَعُوا الْمَحْظُورَ فِي مُدَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَخَتَمَتْ تِلْكَ بِالْإِحْسَانِ، وَهَذِهِ بِالْإِصْلَاحِ. لِأَنَّ الْأُولَى فِي مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ إِذْ لَهُ أَنْ لَا يُحْسِنَ وَأَنْ يَشِحَّ وَيُصَالِحَ بِمَا يُرْضِيهِ، وَهَذِهِ فِي لَازِمٍ، إِذْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُصْلِحَ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْعَدْلُ فِيمَا يَمْلِكُ.

وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ الضَّمِيرُ فِي يَتَفَرَّقَا عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها «1» وَالْمَعْنَى: وَإِنْ شَحَّ كُلٌّ مِنْهُمَا وَلَمْ يَصْطَلِحَا وَتَفَرَّقَا بِطَلَاقٍ، فَاللَّهُ يغني كلا منهما عَنْ صَاحِبِهِ بِفَضْلِهِ وَلُطْفِهِ فِي الْمَالِ وَالْعِشْرَةِ وَالسِّعَةِ. وَوُجُودِ الْمُرَادِ وَالسِّعَةُ الْغِنَى وَالْمَقْدِرَةُ وَهَذَا وَعْدٌ بِالْغِنَى لِكُلِّ وَاحِدٍ إِذَا تَفَرَّقَا، وهو

(1) سورة النساء: 4/ 128.

ص: 89

مَعْرُوفٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَنِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَيْهِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَدْخَلًا فِي التَّفَرُّقِ، وَهُوَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ وَتَرَاخِي الْمُدَّةِ بِزَوَالِ الْعِصْمَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَفَرُّقٌ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجِ، وَلَا نَصِيبَ لِلْمَرْأَةِ فِي التَّفَرُّقِ الْقَوْلِيِّ، فَيُسْنَدُ إِلَيْهَا خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ هَاهُنَا هُوَ بِالْقَوْلِ وَهُوَ الطَّلَاقُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أَفْلَحَ: وَإِنْ يَتَفَارَقَا بِأَلِفِ الْمُفَاعَلَةِ أَيْ: وَإِنْ يُفَارِقْ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «1» وَقَوْلُ الْعَرَبِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ وِفَاقٌ فَطَلَاقٌ. فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَتَفَارَقَا، كَمَا أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَصْطَلِحَا. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ قَالُوا: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْغِنَى بِالْمَالِ.

وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما فِيمَا رَوَوْا طُلَقَةً ذُوَقَةً فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْغِنَى بِأَمْرَيْنِ فَقَالَ:

وَأَنْكِحُوا الْأَيامى «2» الْآيَةَ، وَقَالَ: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.

وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً نَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرَ السَّعَةِ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْ سِعَتِهِ. وَالْوَاسِعُ عَامٌّ فِي الْغِنَى وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَسَائِرِ الْكِمَالَاتِ. وَنَاسَبَ ذِكْرَ وَصْفِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ مَا يُنَاسِبُ، لِأَنَّ السَّعَةَ مَا لَمْ تَكُنْ مَعَهَا الْحِكْمَةُ كَانَتْ إِلَى فَسَادٍ أَقْرَبَ مِنْهَا لِلصَّلَاحِ قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فِيمَا حَكَمَ وَوَعَظَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِيمَا حَكَمَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ إِمْسَاكِهَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَوْ حَيْثُ نُدِبَ إِلَى الْفُرْقَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا، وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى سَعَةَ رِزْقِهِ وَحِكْمَتَهُ، ذَكَرَ أَنَّ لَهُ مُلْكَ ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَعْتَاضُّ عَلَيْهِ غِنَى أَحَدٍ، وَلَا التَّوْسِعَةُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ ذَلِكَ هُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ.

وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَصَّيْنَا: أَمَرْنَا أَوْ عَهِدْنَا إِلَيْهِمْ وَإِلَيْكُمْ، وَمِنْ قَبْلِكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بأوتوا وهو الأقرب، أو بوصينا.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالتَّقْوَى هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَلَسْتُمْ مَخْصُوصِينَ بهذه الوصية. وإياكم عَطْفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَتَقَدَّمَ الْمَوْصُولُ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ السَّابِقَةُ عَلَى وَصَّيْنَا فَهُوَ تَقَدُّمٌ بِالزَّمَانِ. وَمِثْلُ هَذَا الْعَطْفِ أَعْنِي: عَطْفَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُنْفَصِلِ عَلَى الظَّاهِرِ فَصِيحٌ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ، وَقَدْ وَهَمَ فِي ذَلِكَ بعض

(1) سورة البقرة: 2/ 229.

(2)

سورة النور: 24/ 32. [.....]

ص: 90

أَصْحَابِنَا وَشُيُوخِنَا فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، لِأَنَّكَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَأْتِيَ بِهِ مُتَّصِلًا فَتَقُولُ: آتِيكَ وَزَيْدًا. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَإِيَّاكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَهَذَا وَهْمٌ فَاحِشٌ، بَلْ مِنْ مُوجَبِ انْفِصَالِ الضَّمِيرِ كَوْنُهُ يَكُونُ مَعْطُوفًا فَيَجُوزُ قَامَ زَيْدٌ وَأَنْتَ، وَخَرَجَ بَكْرٌ وَأَنَا، لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ. فَكَذَلِكَ ضَرَبْتُ زَيْدًا وَإِيَّاكَ.

وَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ هُوَ عَامٌّ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا ضرورة تدعوا إِلَى تَخْصِيصِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى لَمْ تَزَلْ مُذْ أَوْجَدَ الْعَالَمَ، فَلَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَنِ اتَّقُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ: بِأَنِ اتَّقُوا اللَّهَ، وَأَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً التَّقْدِيرُ أَيِ: اتَّقُوا اللَّهَ لِأَنَّ وَصَّيْنَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ.

وَإِنْ تَكْفُرُوا ظَاهِرُهُ الْخِطَابُ لِمَنْ وَقَعَ لَهُ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكُمْ، وَهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِلَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ وَلِلْمُخَاطَبِينَ، وَغَلَبَ الْخِطَابُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ كَمَا تَقُولُ: قُلْتُ لِزَيْدٍ ذَلِكَ لَا تَضْرِبْ عَمْرًا، وَكَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ وَأَنْتَ تَخْرُجَانِ.

فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ أَنْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَمْلِكُهُ تَعَالَى وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيكُمْ، إِذْ هُوَ خَالِقُكُمْ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ وَأَنْتُمْ مَمْلُوكُونَ لَهُ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ تَكْفُرُوا مَنْ هُوَ مَالِكُكُمْ وتخالفون مره، بَلْ حَقُّهُ أَنْ يُطَاعَ وَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُتَّقَى عِقَابُهُ وَيُرْجَى ثَوَابُهُ، وَلِلَّهِ مَا فِي سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ مَنْ يُوَحِّدُهُ وَيَعْبُدُهُ وَلَا يَعْصِيهِ.

وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا أَيْ عَنْ خَلْقِهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَتُهُمْ، وَلَا يَضُرُّهُ كُفْرُهُمْ.

حَمِيداً أَيْ مُسْتَحِقًّا لِأَنْ يُحْمَدَ لِكَثْرَةِ نِعَمِهِ وَإِنْ كَفَرْتُمُوهُ أَنْتُمْ.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا الْوَكِيلُ الْقَائِمُ بِالْأُمُورِ الْمُنْفِذُ فِيهَا مَا يَرَاهُ، فَمَنْ لَهُ ملك ما في السموات وَالْأَرْضِ فَهُوَ كَافٍ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَعَادَ قَوْلَهُ: ولله ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسَبِ السِّيَاقِ. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَوَّلُ: تَنْبِيهٌ عَلَى مَوْضِعِ الرَّجَاءِ يَهْدِي الْمُتَفَرِّقِينَ. وَالثَّانِي: تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْعِبَادِ. وَالثَّالِثُ: مُقَدِّمَةٌ لِلْوَعِيدِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَكْرِيرُ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَقْرِيرٌ لِمَا هُوَ مُوجِبٌ تَقْوَاهُ لِيَتَّقُوهُ، فَيُطِيعُوهُ وَلَا يَعْصُوهُ، لِأَنَّ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى أَصْلُ الْخَيْرِ كُلِّهِ. وَقَالَ

ص: 91

الرَّاغِبُ: الْأَوَّلُ: لِلتَّسْلِيَةِ عَمَّا فَاتَ. وَالثَّانِي: أَنَّ وَصِيَّتَهُ لِرَحْمَتِهِ لَا لِحَاجَةٍ، وَأَنَّهُمْ إِنْ كَفَرُوهُ لَا يَضُرُّوهُ شَيْئًا. وَالثَّالِثُ: دَلَالَتُهُ عَلَى كَوْنِهِ غَنِيًّا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَوَّلُ: تَقْرِيرُ كَوْنِهِ وَاسِعَ الْجُودِ. وَالثَّانِي: لِلتَّنْزِيهِ عَنْ طَاعَةِ الْمُطِيعِينَ. وَالثَّالِثُ: لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِفْنَاءِ وَالْإِيجَادِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْرِيرُ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى مَدْلُولَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيَحْسُنُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الدَّلِيلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ مَدْلُولَاتِهِ، وَهَذِهِ الْإِعَادَةُ أَحْسَنُ وَأَوْلَى مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ عِنْدَهُ إِعَادَةُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ يُحْضِرُ فِي الذِّهْنِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَدْلُولِ، وَكَانَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ الْمَدْلُولِ أَقْوَى وَأَجَلَّ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّكْرَارَ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ:

نَبَّهْنَا أَوَّلًا عَلَى مُلْكِهِ وَسَعَتِهِ. وَثَانِيًا عَلَى حَاجَتِنَا إِلَيْهِ وَغِنَاهُ، وَثَالِثًا عَلَى حِفْظِهِ لَنَا وَعِلْمِهِ بِتَدْبِيرِنَا.

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ تَقَدَّمَ لَهُ الْخِطَابُ أَوَّلًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى: وَيَأْتِ بِآخَرِينَ مِنْكُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ يُعَادِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَرَبِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قال: إن يشاء يُهْلِكْكُمْ كَمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ إِذْ كَفَرُوا بِرُسُلِهِ. وَقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ شَاءَ يُهْلِكْكُمْ كَمَا أَنْشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ قَوْمًا آخَرِينَ يَعْبُدُونَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلَّذِينِ شَفَعُوا فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، وَخَاصَمَ وَخَاصَمُوا عَنْهُ فِي أَمْرِ خِيَانَتِهِ فِي الدِّرْعِ وَالدَّقِيقِ.

وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ، وَقَدْ يَظْهَرُ الْعُمُومُ فَيَكُونُ خِطَابًا لِلْعَالِمِ الْحَاضِرِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ وَالنِّدَاءُ. وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أَيْ: بِنَاسٍ غَيْرِكُمْ، فَالْمَأْتِيُّ بِهِ مِنْ نَوْعِ الْمُذْهَبِ، فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُخَاطَبِ الْمُنَادَى وَهُمُ النَّاسُ.

وَرُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ عَلَى ظَهْرِ سَلْمَانَ وَقَالَ: «إِنَّهُمْ قَوْمُ هَذَا يُرِيدُ ابْنَ فَارِسَ»

، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِآخَرِينَ مِنْ نَوْعِ الْمُخَاطَبِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَأْتِ بِآخَرِينَ مَكَانَكُمْ أَوْ خَلْقًا آخَرِينَ غَيْرَ الْإِنْسِ. قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يكون وَعِيدًا لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ، وَيَكُونَ الْآخَرُونَ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِمْ. كَمَا أَنَّهُ

قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَعْبُدُونَ اللَّهَ قَبْلَ بَنِي آدَمَ

انْتَهَى. وَمَا جَوَّزَهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَدْلُولَ آخَرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَدْلُولٌ غَيْرُ خَاصٍّ بِجِنْسِ مَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ قُلْتَ: جَاءَ زَيْدٌ وَآخَرُ مَعَهُ، أَوْ مَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ وَأُخْرَى مَعَهَا، أَوِ اشْتَرَيْتُ فَرَسًا وَآخَرَ، وَسَابَقْتُ بَيْنَ حِمَارٍ وَآخَرَ، لَمْ يَكُنْ آخَرُ وَلَا أُخْرَى مُؤَنَّثُهُ، وَلَا تَثْنِيَتُهُ وَلَا جَمْعُهُ إِلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ قَبْلَهُ. وَلَوْ قُلْتَ:

ص: 92

اشْتَرَيْتُ ثَوْبًا وَآخَرَ، وَيَعْنِي بِهِ: غَيْرَ ثَوْبٍ لَمْ يَجُزْ، فَعَلَى هَذَا تَجْوِيزُهُمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:

بِآخَرِينَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا تَقَدَّمَ وَهُمُ النَّاسُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ غَيْرٍ وَبَيْنَ آخَرَ، لِأَنَّ غَيْرًا تَقَعُ عَلَى الْمُغَايِرِ فِي جِنْسٍ أَوْ فِي صِفَةٍ، فَتَقُولُ: اشْتَرَيْتُ ثَوْبًا وَغَيْرَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ثَوْبٍ وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُ هَذَا الْفَرْقَ.

وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً أَيْ عَلَى إِذْهَابِكُمْ وَالْإِتْيَانِ بِآخَرِينَ. وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقُدْرَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَهَذَا غَضَبٌ عَلَيْهِمْ وَتَخْوِيفٌ، وَبَيَانٌ لِاقْتِدَارِهِ.

مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَيْ مَنْ كَانَ لَا رَغْبَةَ لَهُ إِلَّا فِي ثَوَابِ الدُّنْيَا وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ ثَمَّ سِوَاهُ فَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، بَلْ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدَّارَيْنِ. فَمَنْ قَصَدَ الْآخِرَةَ أَعْطَاهُ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَأَعْطَاهُ قَصْدَهُ، وَمَنْ قَصَدَ الدُّنْيَا فَقَطْ أَعْطَاهُ مِنَ الدُّنْيَا مَا قُدِّرَ لَهُ، وَكَانَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ الْعَذَابُ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ طَلَبًا لِلْعِزِّ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ عِزُّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ لِلتَّقْرِيبِ وَالشَّفَاعَةِ أَيْ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَعِنْدَهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَا عِنْدَ مَنْ تَطْلُبُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي أَهْلِ النفاق الذين يراؤون بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا لِثَوَابِ الدُّنْيَا لَا غَيْرَ.

وَمَنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا شَرْطٌ وَجَوَابُهُ الْجُمْلَةُ الْمَقْرُونةُ بِفَاءِ الْجَوَابِ: وَلَا بُدَّ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا لِاسْمِ الشَّرْطِ غَيْرِ الظَّرْفِ مِنْ ضَمِيرٍ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَهُ إِنْ أَرَادَهُ، هَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَلْيَطْلُبِ الثَّوَابَيْنِ، فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَبْكِيتٌ لِلْإِنْسَانِ حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ السُّؤَالَيْنِ مَعَ كَوْنِ الْمَسْئُولِ مَالِكًا لِلثَّوَابَيْنِ، وَحَثَّ عَلَى أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ تَعَالَى مَا هُوَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِنْ مَطْلُوبِهِ، فَمَنْ طَلَبَ خَسِيسًا مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطْلُبَ نَفِيسًا فَهُوَ دَنِيءُ الْهِمَّةِ.

قِيلَ: وَالْآيَةُ وَعِيدٌ لِلْمُنَافِقِينَ لَا يُرِيدُونَ بِالْجِهَادِ غَيْرَ الْغَنِيمَةِ. وَقِيلَ: هِيَ حَضٌّ عَلَى الْجِهَادِ.

وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً أَيْ سَمِيعًا لِأَقْوَالِهِمْ، بَصِيرًا بِأَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ

ص: 93

وَالْأَقْرَبِينَ

قَالَ الطَّبَرِيُّ: هِيَ سَبَبُ نَازِلَةِ ابْنِ أُبَيْرِقٍ وَقِيَامِ مَنْ قَامَ فِي أَمْرِهِ بِغَيْرِ الْقِسْطِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي اخْتِصَامِ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ النِّسَاءَ وَالنُّشُوزَ وَالْمُصَالَحَةَ، أَعْقَبَهُ بِالْقِيَامِ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الشَّهَادَةِ حُقُوقُ اللَّهِ. أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَالِبَ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ عِنْدَهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَيَّنَ أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ وَفِعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى «1» وَالْإِشْهَادُ عِنْدَ دَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَكَرَ قِصَّةَ ابْنِ أُبَيْرِقٍ وَاجْتِمَاعَ قَوْمِهِ عَلَى الْكَذِبِ وَالشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ، وَنَدَبَ لِلْمُصَالَحَةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ لِوَجْهِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي قَوَّامِينَ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْهُمُ جَوْرٌ مَا، وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ. وَمَعْنَى شُهَدَاءَ لِلَّهِ أَيْ: لِوَجْهِ اللَّهِ، لَا يُرَاعِي فِي الشَّهَادَةِ إِلَّا جِهَةَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: شُهَدَاءَ لِلَّهِ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: ولو على أنفسكم، وَهَكَذَا فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. قَالَ ابن عطية:

ويحتمل أن يَكُونَ قَوْلُهُ: شُهَدَاءَ لِلَّهِ مَعْنَاهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، بِقَوْلِهِ: قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَبْيَنُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيُضَعِّفُهُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ شُهَدَاءُ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، إِلَّا إِنْ أُرِيدَ اسْتِمْرَارُ الشَّهَادَةِ.

وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ عَلَى شُهَدَاءَ لِلَّهِ. لِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ أَعَمُّ، وَالشَّهَادَةَ أَخَصُّ. وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ فِعْلٌ وَقَوْلٌ، وَالشَّهَادَةَ قَوْلٌ فَقَطْ. وَمَعْنَى: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَيْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَيْ تُقِرُّونَ بِالْحَقِّ وَتُقِيمُونَ الْقِسْطَ عَلَيْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْفُسَ الشُّهَدَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَبْعَدَ مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي أَنْفُسِكُمْ:

الْأَهْلُ وَالْأَقَارِبُ، وَأَنْ يَكُونَ «أَوِ الْوَالِدَيْنِ» تَفْسِيرًا لِأَنْفُسِكُمْ، وَيُضَعِّفُهُ الْعَطْفُ بأو. وَانْتَصَبَ شُهَدَاءَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى جَعْلِهِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوَّامِينَ كَأَبِي الْبَقَاءِ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ. لأن فيها تقييدا لقيام بِالْقِسْطِ، سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَ هَذَا أَمْ لَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ الضَّعِيفِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْعَدْلِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ كَانَ وَمَجِيءُ لَوْ هُنَا لِاسْتِقْصَاءِ جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الشَّهَادَةُ، لَمَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِصَدَدِ أَنْ لَا يُقِيمَهَا لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ

(1) سورة النساء: 4/ 3.

ص: 94

مِنْ مُحَابَاةِ نَفْسِهِ وَمُرَاعَاتِهَا، نَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي الِاسْتِقْصَاءِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْفَصَاحَةِ. فَبَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَعَزُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَالِدَيْنِ وَهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَسَبَبُ نَشْأَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِبِرِّهِمَا وَتَعْظِيمِهِمَا، وَالْحَوْطَةِ لَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَقْرَبِينَ وَهُمْ مَظِنَّةُ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعَصُّبِ. وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ أُمِرَ فِي حَقِّهِمْ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، فَالْأَجْنَبِيُّ أَحْرَى بِذَلِكَ. وَالْآيَةُ تَعَرَّضَتْ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الشَّهَادَةِ لَهُمْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَوْ شَرْطِيَّةٌ بِمَعْنَى: إِنْ وَقَوْلُهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَإِنْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَكُونُوا شُهَدَاءَ لِلَّهِ، هَذَا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ. وَحَذْفُ كَانَ بَعْدَ لَوْ كَثِيرٌ تَقُولُ: ائْتِنِي بِتَمْرٍ وَلَوْ حَشَفًا، أَيْ:

وَإِنْ كَانَ التَّمْرُ حَشَفًا فَائْتِنِي بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِشُهَدَاءَ. فَإِنْ عَنَى شُهَدَاءَ هَذَا الْمَلْفُوظَ بِهِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، وَإِنْ عَنَى الَّذِي قَدَّرْنَاهُ نَحْنُ فَيَصِحُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ آبَائِكُمْ أَوْ أَقَارِبِكُمْ.

(فَإِنْ قُلْتَ) : الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى وَالِدِي كَذَا وَعَلَى أَقَارِبِي، فَمَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ؟ (قُلْتُ) : هِيَ الْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِإِلْزَامِ الْحَقِّ لَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَبَالًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَوْ عَلَى آبَائِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ، وَذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ تَوَقَّعَ ضَرَرَهُ مِنْ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ أَوْ غَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقْدِيرُهُ: وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَلْفُوظِ بِهِ قَبْلُ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ. فَإِذَا قُلْتَ: كُنْ مُحْسِنًا لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَتُحْذَفُ كَانَ وَاسْمُهَا وَالْخَبَرُ، وَيَبْقَى مُتَعَلِّقُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَلَا تُقَدِّرُهُ: وَلَوْ كَانَ إِحْسَانُكَ لِمَنْ أَسَاءَ. فَلَوْ قُلْتَ: لِيَكُنْ مِنْكَ إِحْسَانٌ وَلَوْ لِمَنْ أَسَاءَ، فَتُقَدِّرُ: وَلَوْ كَانَ الْإِحْسَانُ لِمَنْ أَسَاءَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَدَّرْتَهُ. وَلَوْ كُنْتَ مُحْسِنًا لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا، لِأَنَّكَ تَحْذِفُ مَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ مُطَابِقٍ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَبَالًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ هَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ كَوْنٌ مُقَيَّدٌ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْكَوْنِ الْمُقَيَّدِ، لَوْ قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ فِيكَ وَأَنْتَ تُرِيدُ مُحِبًّا فِيكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ مُحِبًّا مُقَيَّدٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْكَوْنِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ: تَقْدِيرٌ كَائِنٌ أَوْ مُسْتَقِرٌّ.

إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أَيْ إِنْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَنِيًّا فَلَا تَمْتَنِعُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ لِغِنَاهُ، أَوْ فَقِيرًا فَلَا تَمْنَعْهَا تَرَحُّمًا عَلَيْهِ وَإِشْفَاقًا. فَعَلَى هَذَا الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّ العطف هو بأو، وَلَا يُثَنَّى الضَّمِيرُ إِذَا عُطِفَ بِهَا، بَلْ يُفْرَدُ. وَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: فَلْيَشْهَدْ

ص: 95

عَلَيْهِ وَلَا يُرَاعِي الْغَنِيَّ لِغِنَاهُ، وَلَا لِخَوْفٍ مِنْهُ، وَلَا الْفَقِيرَ لِمَسْكَنَتِهِ وَفَقْرِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا لَيْسَ هُوَ الْجَوَابَ، بَلْ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ. عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِجِنْسَيِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ أَيْ: بِالْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ:

فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمْ مَا يَشْهَدُ بِإِرَادَةِ الْجِنْسِ. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَقَوْمٌ، إِلَى أَنَّ أَوْ فِي مَعْنَى الْوَاوِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ الْجَوَابُ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا، أَيْ: حَيْثُ شَرَعَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ أَنْظَرُ لَهُمَا مِنْكُمْ. وَلَوْلَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمَا مَصْلَحَةٌ لَهُمَا لَمَا شَرَعَهَا. وَقَالَ الأستاذ أبو الحن بْنُ عُصْفُورٍ: وَقَدْ ذَكَرَ العطف بالواو والفاء وَثُمَّ وَحَتَّى مَا نَصُّهُ تَقُولُ: زَيْدٌ أَوْ عُمَرُ، وقام زيد لا عمرو قام، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا بَقِيَ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ يَعْنِي غَيْرَ الْوَاوِ وَحَتَّى وَالْفَاءِ وَثُمَّ، وَالَّذِي بَقِيَ بَلْ وَلَكِنْ وَأَمْ. قَالَ: لَا تَقُولُ قَامَا لِأَنَّ الْقَائِمَ إِنَّمَا هُوَ أَحَدُهُمَا لَا غَيْرُ، وَلَا يَجُوزُ قَامَا إِلَّا فِي أَوْ خَاصَّةً، وَذَلِكَ شُذُوذٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ لِتَفَرُّقِهِمَا فِي الذِّكْرِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ. وَلَا شُذُوذَ فِي الْآيَةِ، وَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى جَوَازِ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو قَامَا عَلَى جِهَةِ الشُّذُوذِ، وَلَا غَيْرُهُ.

وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا لَيْسَ بِجَوَابٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَالضَّمِيرُ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ الْمَلْفُوظِ بِهِمَا فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا يَعُودَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ جِنْسَيِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ يَكُنْ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ.

فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ وَبِالشَّهَادَةِ لِمَرْضَاةِ اللَّهِ نَهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مِمَّا لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ تَعْدِلُوا مِنَ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ مِنَ الْعَدْلِ وَهُوَ الْقِسْطُ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِرَادَةَ أَنْ تَجُورُوا، أَوْ مَحَبَّةَ أَنْ تَجُورُوا. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ التَّقْدِيرُ: كَرَاهَةَ أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النَّاسِ وَتُقْسِطُوا.

وَعَكَسَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا التَّقْدِيرَ فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَخَافَةَ أَنْ تَعْدِلُوا، وَيَكُونُ الْعَدْلُ بِمَعْنَى الْقِسْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: انْتَهُوا خَوْفَ أَنْ تَجُورُوا، أَوْ مَحَبَّةَ أَنْ تُقْسِطُوا. فَإِنْ جَعَلْتَ الْعَامِلَ تَتَّبِعُوا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَحَبَّةَ أَنْ تَجُورُوا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ مِنَ التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي أَنْ تَعْدِلُوا فِعْلًا مَحْذُوفًا مِنْ مَعْنَى النَّهْيِ، وَكَانَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى، ثُمَّ أَضْمَرَ فِعْلًا وَقَدَّرَهُ: انْتَهُوا خوف أن تجورا، أَوْ مَحَبَّةَ أَنْ تُقْسِطُوا، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ جَعَلْتَ الْعَامِلَ تَتَبَّعُوا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْعَامِلَ هُوَ تَتَّبِعُوا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارِ جُمْلَةٍ أُخْرَى، فَيَكُونُ فِعْلُهَا عَامِلًا فِي أَنْ تَعْدِلُوا. وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ تَتَّبِعُوا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُتَّجِهُ، وَعَلَى هذا التقادير فإنّ تَعْدِلُوا مَفْعُولٌ مِنْ

ص: 96

أَجْلِهِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنْ لَا تَعْدِلُوا، فَحَذَفَ لَا، أَيْ: لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى فِي تَرْكِ الْعَدْلِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِتَعْدِلُوا أَيْ: لِتَكُونُوا فِي اتِّبَاعِكُمُوهُ عُدُولًا، تَنْبِيهًا أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَتَحَرِّيَ الْعَدَالَةِ مُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمَعْنَى اتْرُكُوا مُتَابَعَةَ الْهَوَى حَتَّى تَصِيرُوا مَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ الْعَدْلِ، وَالْعَدْلُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَمَنْ تَرَكَ أَحَدَ النَّقِيضَيْنِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْآخَرُ، فَالتَّقْدِيرُ: لِأَجْلِ أَنْ تَعْدِلُوا.

وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمَأْمُورِينَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ، وَالْمَنْهِيِّينَ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ فِي لَيِّ الْحَاكِمِ عُنُقَهُ عَنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ نَحْوَهُ قَالَ: لَيُّ الْحَاكِمِ شِدْقَهُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَيْلًا إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ: هِيَ فِي الشُّهُودِ يَلْوِي الشَّهَادَةَ بِلِسَانِهِ فَيُحَرِّفُهَا وَلَا يَقُولُ الْحَقَّ فِيهَا، أَوْ يُعْرِضُ عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ فِيهَا، وَيَقُولُ مَعْنَاهُ: يُدَافِعُوا الشَّهَادَةَ مِنْ لَيِّ الْغَرِيمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْ شَهَادَةِ الْحَقِّ، أَوْ حُكُومَةِ الْعَدْلِ، أَوْ تُعْرِضُوا عَنِ الشَّهَادَةِ بِمَا عِنْدَكُمْ وَتَمْنَعُوهَا.

وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ فِي الشَّاذِّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ: وَإِنْ تَلُوا بِضَمِّ اللَّامِ بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ، وَلَحَّنَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ قَارِئَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. قَالَ: لَا مَعْنَى لِلِّوَايَةِ هُنَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي السَّبْعِ، وَلَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَتَخْرِيجٌ حَسَنٌ. فَنَقُولُ: اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَلْوُوا.

فَقِيلَ: هِيَ مِنَ الْوِلَايَةِ أَيْ: وَإِنْ وَلِيتُمْ إِقَامَةَ الشَّهَادَةِ أَوْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ إِقَامَتِهَا، وَالْوِلَايَةُ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ اللَّيِّ وَأَصْلُهُ: تَلْوُوا، وَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ الْمَضْمُومَةُ هَمْزَةً، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى اللَّامِ وَحُذِفَتْ. قَالَ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ، وَأَبُو عَلِيٍّ، وَالنَّحَّاسُ، وَنُقِلَ عَنِ النَّحَّاسِ أَيْضًا أَنَّهُ اسْتُثْقِلَتِ الْحَرَكَةُ عَلَى الْوَاوِ فَأُلْقِيَتْ عَلَى اللَّامِ، وَحُذِفَتْ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.

فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً هَذَا فِيهِ وَعِيدٌ لِمَنْ لَوَى عَنِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَعْرَضَ عَنْهَا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَالشَّهَادَةِ

ص: 97

لِلَّهِ، بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ رَاسِخَ الْقَدَمِ فِي الْإِيمَانِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأَمَرَ بِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. ومعنى: آمنوا دوموا عَلَى الْإِيمَانِ قَالَهُ:

الْحَسَنُ، وَهُوَ أَرْجَحُ. لِأَنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِ مَتَى أُطْلِقَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمُسْلِمَ. وَقِيلَ: لِلْمُنَافِقِينَ أَيْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ آمِنُوا بِقُلُوبِكُمْ. وَقِيلَ: لِمَنْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام أَيْ: يَا مَنْ آمَنَ بِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الْخَلْقِ أَيْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يَوْمَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» . وَقِيلَ:

الْيَهُودُ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ آمَنُوا بِاللَّاتَ وَالْعُزَّى وَالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ. وَقِيلَ: آمَنُوا عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ، آمِنُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ. وَقِيلَ: آمَنُوا فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، آمِنُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَنَظِيرُهُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «2» مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ.

وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، وَسَلَّامًا ابْنَ أُخْتِهِ، وَسَلَمَةَ ابْنَ أخيه، وأسد وَأُسَيْدًا ابْنَيْ كَعْبٍ، وَثَعْلَبَةَ بْنَ قَيْسٍ وَيَامِينَ، أَتَوُا الرسول صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ، وَمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَعُزَيْرٍ، وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ فَقَالَ عليه السلام:«بَلْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ» فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَنَزَلَتْ فَآمَنُوا كُلُّهُمْ.

وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ هُوَ الْقُرْآنُ بِلَا خِلَافٍ، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: آخَرًا. وَكَتَبَهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ قِيلَ لَهُمْ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟ وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِمَا فَحَسْبُ، وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ، فَأُمِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ الْكُتُبِ. أَوْ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ بِبَعْضٍ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ طَرِيقَ الْإِيمَانِ بِالْجَمِيعِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ. وَقَرَأَ الْعَرَبِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ:

نُزِّلَ وأنزل بِالْبَنَّاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْبَاقُونَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ قَالَ نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَأَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً بِخِلَافِ الْكُتُبِ قَبْلَهُ انْتَهَى. وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بين نزل وأنزل لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِي نَزَّلَ لَيْسَ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّفْرِيقِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّعْدِيَةِ، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلْهَمْزَةِ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الرَّدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي دَعْوَاهُ ذَلِكَ أَوَّلَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً جَوَابُ الشَّرْطِ لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى الْكُفْرِ بِالْمَجْمُوعِ، بَلِ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقُرِئَ:

وَكِتَابِهِ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكُتُبِ. وَلَمَّا كَانَ خَيْرَ الْإِيمَانِ علق بثلاثة: بالله،

(1) سورة الأعراف: 7/ 172.

(2)

سورة محمد: 47/ 19.

ص: 98

وَالرَّسُولِ، وَالْكُتُبِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ تَضَمَّنَ الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبُولِغَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ مُغَيَّبٌ عَنَّا، وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ الْآخِرُ لَمْ يَقَعْ وَهُوَ مُنْتَظَرٌ، فَنَصَّ عَلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَلِئَلَّا يَتَأَوَّلَهُمَا مُتَأَوِّلٌ عَلَى خِلَافِ مَا هُمَا عَلَيْهِ. فَمَنْ أَنْكَرَ الْمَلَائِكَةَ أَوِ الْقِيَامَةَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَدَّمَ الْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ عَلَى التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ، لِأَنَّ الْمَلَكَ يَنْزِلُ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلُ تَتَلَقَّى الْكُتُبَ مِنَ الْمَلَكِ. وَقَدَّمَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ الْمَوْصُولِ عَلَى الْكِتَابِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ أَوَّلُ مَا يُبَاشِرُهُ الْمُؤْمِنَ ثُمَّ يَتَلَقَّى الْكِتَابَ مِنْهُ. فَحَيْثُ نَفَى الْإِيمَانَ كَانَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ، وَحَيْثُ أَثْبَتَ كَانَ عَلَى التَّرْتِيبِ اللِّقَائِيِّ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِلْوُجُودِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا لَمَّا أَمَرَ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ ضَالٌّ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِفَسَادٍ، وَطَرِيقَةِ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ إِذْ هُمُ الْمُتَلَاعِبُونَ بِالدِّينِ، فَحَيْثُ لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ «قالُوا آمَنَّا» وَإِذَا لَقُوا أَصْحَابَهُمْ «قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «1» وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ، فَهُمْ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِاعْتِبَارِ مَنْ يَلْقَوْنَهُ. وَمَعْنَى ازْدَادَ كُفْرًا بِأَنْ تَمَّ عَلَى نِفَاقِهِ حَتَّى مَاتَ.

وَقِيلَ: ازْدِيَادُ كُفْرِهِمْ هُوَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِ أَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ فِي حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي قَالَتْ: «آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ» «2» قَصَدُوا تَشْكِيكَ الْمُسْلِمِينَ وَازْدِيَادَ كُفْرِهِمْ هُوَ أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي ذَلِكَ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْإِسْلَامِ. قَالَ قَتَادَةَ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَطَائِفَةٌ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ: هِيَ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، آمَنَتِ الْيَهُودُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَفَرُوا، وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازدادوا كفرا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: يَدْفَعُهُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا فِي طَائِفَةٍ يَتَّصِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْمُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ ثُمَّ يَزْدَادُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي الْيَهُودِ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى ثُمَّ كَفَرَا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ آمَنُوا بِدَاوُدَ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا عِنْدَ مَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ الْآيَةَ فِي الْمُتَرَدِّدِينَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا ارْتَدَّ ثُمَّ آمَنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إِلَى الثَّلَاثِ، ثُمَّ لَا تُقْبَلُ توبته وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ. وَقَالَ القفال: ليس لمراد بيان

(1) سورة البقرة: 2/ 14.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 72.

ص: 99

هَذَا الْعَدَدِ، بَلِ الْمُرَادُ تَرَدُّدُهُمْ كَمَا قَالَ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ «1» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ «2» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِينَ تَكَرَّرَ مِنْهُمُ الِارْتِدَادُ وَعُهِدَ مِنْهُمُ ازْدِيَادُ الْكُفْرِ وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهِ يُسْتَبْعَدُ مِنْهُمْ أَنْ يُحْدِثُوا مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْمَغْفِرَةَ وَيَسْتَوْجِبُونَ اللُّطْفَ مِنْ إِيمَانٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ يَرْضَاهُ اللَّهُ، لِأَنَّ قُلُوبَ أُولَئِكَ الذين هذا دينهم قُلُوبٌ قَدْ ضُرِبَتْ بِالْكُفْرِ، وَمَرِئَتْ عَلَى الرِّدَّةِ، وَكَانَ الْإِيمَانُ أَهْوَنَ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ وَأَدْوَنَهُ حَيْثُ يَدُلُّونَهُمْ فِيهِ كَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَوْ أَخْلَصُوا الْإِيمَانَ بَعْدَ تَكْرَارِ الرِّدَّةِ وَنَصَحَتْ تَوْبَتُهُمْ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُمْ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ حَيْثُ هُوَ بَذْلُ الطَّاقَةِ وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ، وَلَكِنَّهُ اسْتِبْعَادٌ لَهُ وَاسْتِغْرَابٌ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يكاد يكون. وهكذا ترى الْفَاسِقَ الَّذِي يَتُوبُ ثُمَّ يَرْجِعُ لَا يَكَادُ يُرْجَى مِنْهُ الثَّبَاتُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى شَرِّ حَالٍ وَأَقْبَحِ صُورَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي بَعْضِهِ أَلْفَاظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الِاعْتِزَالِ.

لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ الْجُمْهُورُ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا وَمَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَوْ آمَنَ وَكَفَرَ مِرَارًا ثُمَّ تَابَ عَنِ الْكُفْرِ وَآمَنَ وَوَافَى تَائِبًا، أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ مَا جَنَاهُ فِي كُفْرِهِ السَّابِقِ وَإِنْ تَرَدَّدَ فِيهِ مِرَارًا. وَقِيلَ: يَحْمِلُ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يَتُوبُونَ عَنْهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إِخْبَارًا عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ كَثِيرَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَقْعٌ وَلَا عِظَمُ قَدْرٍ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ.

وَفِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَخْتُومٌ عَلَيْهِمْ بِانْتِفَاءِ الْغُفْرَانِ وَهِدَايَةِ السَّبِيلِ، وَأَنَّهُمْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ أَحْيَاءُ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الْمَجِيءِ بِلَامِ الْجُحُودِ، فَفَرْقٌ بَيْنَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ يَقُومُ وَبَيْنَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ لِيَقُومَ. فَالْأَوَّلُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا انْتِفَاءُ الْقِيَامِ، وَالثَّانِي فِيهِ انْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ وَالْإِيتَاءِ لِلْقِيَامِ، وَيَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ إِرَادَةِ الْقِيَامِ نَفْيُ الْقِيَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مُشْبِعًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفْيٌ لِلْغُفْرَانِ وَالْهِدَايَةِ، وَهِيَ اللُّطْفُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي تُوَطِّئُهَا اللَّامُ، وَالْمُرَادُ: بِنَفْيِهِمَا نَفْيُ مَا يَقْتَضِيهِمَا وَهُوَ الْإِيمَانُ الْخَالِصُ الثَّابِتُ انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ:

إِذَا قُلْتَ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ لِيَقُومَ، إِنَّ خَبَرَ لَمْ يَكُنْ هُوَ قَوْلُكَ لِيَقُومَ، وَاللَّامُ للتأكيد زيدت في

(1) سورة النساء: 4/ 143.

(2)

سورة النساء: 4/ 138.

ص: 100

النَّفْيِ، وَالْمَنْفِيُّ هُوَ الْقِيَامُ، وَلَيْسَتْ أَنْ مُضْمَرَةً بَلِ اللَّامُ هِيَ النَّاصِبَةُ. وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ:

النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَيَنْسَبِكُ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةِ وَالْفِعْلِ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ، وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، لِأَنَّهُ مَعْنًى وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ جُثَّةٌ. وَلَكِنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ، وَاللَّامُ تَقْوِيَةٌ لِتَعْدِيَةِ ذَلِكَ الْخَبَرِ إِلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ جُثَّةٌ. وَأُضْمِرَتْ أَنْ بَعْدَهَا وَصَارَتِ اللَّامُ كَالْعِوَضِ مِنْ أَنِ الْمَحْذُوفَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِهِ اللَّامِ، وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْ ظَاهِرَةً. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْمُرَادُ بِنَفْيِهِمَا نَفْيُ مَا يَقْتَضِيهِمَا أَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا فَيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَيَهْدِيَهُمْ.

بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَمَعْنَى: بَشِّرْ أَخْبِرْ، وَجَاءَ بِلَفْظِ بَشِّرْ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» أَيِ الْقَائِمُ لَهُمْ مَقَامَ الْبِشَارَةِ، هُوَ الْإِخْبَارُ بِالْعَذَابِ كَمَا

قَالَ: «تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعٌ» .

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: جَاءَتِ الْبِشَارَةِ هُنَا مِصُرَّحًا بقيدها، فَلِذَلِكَ حَسُنَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَكْرُوهِ. وَمَتَى جَاءَتْ مُطْلَقَةً فَإِنَّمَا عَرَفَهَا فِي الْمَحْبُوبِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «2» فِي أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْمُرَاءَاةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرٌ لِلْمُنَافِقِينَ سِوَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ.

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْلِيَاءَ أَنْصَارًا وَمُعِينِينَ يُوَالُونَهُمْ عَلَى الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَنَصَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى أَشَدِّهَا ضَرَرًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ: مُوَالَاتُهُمُ الْكُفَّارَ، وَاطِّرَاحُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ لِيَدَعَهُ مَنْ عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي نَوْعٍ مِنْهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَفْلَةً أَوْ جَهَالَةً أَوْ مُسَامَحَةً.

وَالَّذِينَ: نَعْتٌ لِلْمُنَافِقِينَ، أَوْ نَصْبٌ عَلَى الذَّمِّ، أَوْ رَفْعٌ عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ. أَيْ: هُمُ الَّذِينَ.

أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أَيِ: الْغَلَبَةَ وَالشِّدَّةَ وَالْمَنَعَةَ بِمُوَالَاتِهِمْ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: لا يتم أمر محمد. وَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا عِزَّةَ لَهُمْ فَكَيْفَ تَبْتَغِي مِنْهُمْ؟ وَعَلَى خُبْثِ مَقْصِدِهِمْ. وَهُوَ طَلَبُ الْعِزَّةِ بِالْكَفَّارِ وَالِاسْتِكْثَارُ بِهِمْ.

فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أَيْ لِأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ كَتَبَ لَهُمُ الْعِزَّ وَالْغَلَبَةَ على اليهود وغيرهم.

(1) سورة آل عمران: 3/ 21.

(2)

سورة النساء: 4/ 144.

ص: 101

قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «1» . وَقَالَ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ «2» . وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً «3» وَالْفَاءُ فِي فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ دَخَلَتْ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى:

أَنْ تَبْتَغُوا الْعِزَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ الْعِزَّةَ، وَانْتَصَبَ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ.

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ الْخِطَابُ لِمَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ مِنْ مُخْلِصٍ وَمُنَافِقٍ. وَقِيلَ: لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَيَكُونُ الْتِفَاتًا. وَكَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَهُمْ يَخُوضُونَ فِي الْقُرْآنِ يَسْمَعُونَ مِنْهُمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَذُكِّرُوا بما نزل عليهم بمكة مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَقَدْ نُزِّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ: نَزَّلَ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَحُمَيْدٌ: نَزَلَ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: أُنْزِلَ بِالْهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَمَحَلُّ أَنْ رَفْعٌ أَوْ نَصْبٌ عَلَى حَسَبِ الْعَامِلِ، فَنُصِبَ عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ، وَرُفِعَ عَلَى الْفَاعِلِ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي حَيْوَةَ وَحُمَيْدٍ، وَعَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ. وَإِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا سَمِعْتُمْ. وَمَا قَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّكُمْ إِذَا سَمِعْتُمْ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهَا إِذَا خُفِّفَتْ إِنْ لَمْ تَعْمَلْ فِي ضَمِيرِ إِلَّا إِذَا كَانَ ضَمِيرَ أَمْرٍ، وَشَأْنٍ مَحْذُوفٍ، وَإِعْمَالُهَا فِي غَيْرِهِ ضَرُورَةٌ نَحْوُ قَوْلِهِ:

فَلَوْ أَنْكِ فِي يَوْمِ الرَّخَاءِ سَأَلْتِنِي

طَلَاقَكِ لَمْ أَبْخَلْ وَأَنْتِ صَدِيقُ

وَخَبَرُ أَنَّ هِيَ الْجُمْلَةُ مِنْ إِذَا وَجَوَابِهَا. وَمِثَالُ وُقُوعِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ خَبَرًا لأن الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَعَلِمْتُ أَنْ مَنْ تَتَّقُوهُ فَإِنَّهُ

جُزْرٌ لِخَامِعَةٍ وفرخ عقاب

ويكفر بِهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالضَّمِيرُ فِي مَعَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ

(1) سورة المجادلة: 58/ 21.

(2)

سورة المنافقون: 63/ 8.

(3)

سورة فاطر: 35/ 10.

ص: 102

الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ أَيْ: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَ الْكَافِرِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَحَتَّى غَايَةٌ لِتَرْكِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ. وَمَفْهُومُ الْغَايَةِ أَنَّهُمْ إِذَا خَاضُوا فِي غَيْرِ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ ارْتَفَعَ النَّهْيُ، فَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا مَعَهُمْ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَيْ: فِي حَدِيثٍ غَيْرِ حَدِيثِهِمُ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ وَاسْتِهْزَاءٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفْرَدَ الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الِاسْتِهْزَاءِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا، لِأَنَّهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهُ أُجْرِىَ الضَّمِيرُ مُجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي كَوْنِهِ لِمُفْرَدٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ اثْنَيْنِ.

إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ حَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ إِذَا قَعَدُوا مَعَهُمْ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِنْكَارِ مِثْلُهُمْ فِي الْكُفْرِ، لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ رَاضِينَ بِالْكُفْرِ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ. وَالْخِطَابُ فِي أَنَّكُمْ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ أَهْوَ لِلْمُنَافِقِينَ؟ أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ؟

وَلَمْ يَحْكُمْ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُجَالِسُونَ الْخَائِضِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِأَنَّهُمْ مِثْلُ الْمُشْرِكِينَ، لِعَجْزِ الْمُسْلِمِينَ إِذْ ذَاكَ عَنِ الْإِنْكَارِ بِخِلَافِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ الْغَالِبَ فِيهَا وَالْأَعْلَى، فَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالسَّامِعُ لِلذَّمِّ شَرِيكٌ لِلْقَائِلِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَسَمْعَكَ صُنْ عَنْ سَمَاعِ الْقَبِيحِ

كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهِ

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ لَيْسَتْ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنَّهُ إِلْزَامٌ شُبِّهَ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ من المقارنة كقوله الشَّاعِرِ:

عَنِ الْمَرْءِ لَا تسئل وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ

فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَخَذَ قَوْمًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَقِيلَ لَهُ عَنْ أَحَدِ الْحَاضِرِينَ: إِنَّهُ صَائِمٌ فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْأَدَبَ، وَقَرَأَ: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، إِنْ خُضْتُمْ كَخَوْضِهِمْ وَوَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْتُمْ كُفَّارٌ مِثْلُهُمْ، قَوْلُهُ تَنْبُو عَنْهُ دَلَالَةُ الْكَلَامِ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّكُمْ إِذَا قَعَدْتُمْ مَعَهُمْ مِثْلُهُمْ.

وَإِذَا هُنَا تَوَسَّطَتْ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، وَأَفْرَدَ مِثْلَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى إِنَّ عِصْيَانَكُمْ مِثْلُ عِصْيَانِهِمْ، فَالْمَعْنَى عَلَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا «1» وَقَدْ جَمَعَ فِي قَوْلِهِ:

ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «2» وَفِي قَوْلِهِ: حُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ «3» والإفراد

(1) سورة المؤمنون: 3/ 47.

(2)

سورة محمد: 47/ 38. [.....]

(3)

سورة الواقعة: 56/ 22- 23.

ص: 103

وَالْمُطَابَقَةُ فِي التَّثْنِيَةِ أَوِ الْجَمْعِ جَائِزَانِ. وَقُرِئَ شَاذًّا مِثْلَهُمْ بِفَتْحِ اللَّامِ، فَخَرَّجَهُ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِإِضَافَتِهِ إِلَى مَبْنِيٍّ كَقَوْلِهِ: لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ اللَّامَ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ فِي مِثْلَ أَنْ يَنْتَصِبَ مَحَلًّا وَهُوَ الظَّرْفُ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ زَيْدٌ مِثْلَكَ بِالنَّصْبِ أَيْ: فِي مِثْلِ حَالِكَ. فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَكُونُ انْتِصَابُ مِثْلَهُمْ عَلَى الْمَحَلِّ، وَهُوَ الظَّرْفُ.

إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً لِمَا اتَّخَذُوهُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْلِيَاءَ جَمَعَ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي النَّارِ، وَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَهَذَا تَوَعُّدٌ مِنْهُ تَعَالَى تَأَكَّدَ بِهِ التَّحْذِيرُ مِنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ.

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَعْنَى الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ بِكُمْ مَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الْأَحْوَالِ مَنْ ظَفَرٍ لَكُمْ أَوْ بِكُمْ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مُظَاهِرِينَ. وَالْمَعْنَى: فَأَسْهِمُوا لَنَا بِحُكْمِ أَنَّنَا مُؤْمِنُونَ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ أَيِ الْيَهُودِ نَصِيبٌ، أَيْ: نَيْلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ، أَيْ: أَلَمْ نَغْلِبْكُمْ وَنَتَمَكَّنْ مِنْ قَتْلِكُمْ وَأَسْرِكُمْ، وَأَبْقَيْنَا عَلَيْكُمْ، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ ثَبَّطْنَاهُمْ عَنْكُمْ، فَأَسْهِمُوا لَنَا بِحُكْمِ أَنَّنَا نُوَالِيكُمْ فَلَا نُؤْذِيكُمْ، وَلَا نَتْرُكُ أَحَدًا يُؤْذِيكُمْ. قِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْيَهُودَ هَمُّوا بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَحَذَّرَهُمُ الْمُنَافِقُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَبَالَغُوا فِي تَنْفِيرِهِمْ سَيَضْعُفُ أَمْرُ الرَّسُولِ، فَمَنُّوا عَلَيْهِمْ عِنْدَ حُصُولِ نَصِيبٍ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَرْشَدُوهُمْ لِهَذِهِ الْمَصَالِحِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ اتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالدُّخُولِ فِي دِينِهِمْ فَأَسْهِمُوا لَنَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَلَمْ نُخْبِرْكُمْ بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَنُطْلِعْكُمْ عَلَى سِرِّهِمْ؟ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَمْ نَحُطَّ مِنْ وَرَائِكُمْ؟ وَالَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ، أَوْ صِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ، أَوْ نَصْبٌ عَلَى الذَّمِّ، أَوْ رَفْعٌ عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ مَحْذُوفٌ. وَسَمَّى تَعَالَى ظَفَرَ الْمُؤْمِنِينَ فَتْحًا عَظِيمًا لَهُمْ، وَجَعَلَ مَنَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ، وَظَفَرَ الْكَافِرِينَ نَصِيبًا، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ تَعَالَى تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَخْسِيسًا لِمَا نَالُوهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ ظَفَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْرٌ عَظِيمٌ تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ فِي فَتْحِ الْمُعْتَصِمِ عَمُّورِيَّةَ بِلَادَ الرُّومِ:

فَتْحٌ تُفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَهُ

وَتَبْرُزُ الْأَرْضُ فِي أَثْوَابِهَا الْقُشُبِ

وَأَمَّا ظَفَرُ الْكَافِرِينَ فَهُوَ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ يُصِيبُونَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَنَمْنَعَكُمْ بِنَصْبِ

ص: 104

الْعَيْنِ بِإِضْمَارٍ بَعْدَ وَاوِ الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ نَجْمَعْ بَيْنَ الِاسْتِحْوَاذِ عَلَيْكُمْ، وَمَنْعِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ:

أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِي

وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ وَالْإِخَاءُ

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَمْنَعَكُمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّرْفِ انْتَهَى. يَعْنِي الصَّرْفَ عَنِ التَّشْرِيكِ لِمَا بَعْدَهَا فِي إِعْرَابِ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ النَّصْبُ عَلَى الصَّرْفِ مِنَ اصْطِلَاحِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَمَنَعْنَاكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْنَى التَّقْدِيرِ: لِأَنَّ الْمَعْنَى أَمَا اسْتَحْوَذْنَا عَلَيْكُمْ وَمَنَعْنَاكُمْ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا «1» . إِذِ الْمَعْنَى: أَمَا شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا.

فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ وَبَيْنَهُمْ وَيُنْصِفُكُمْ مِنْ جَمِيعِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا عَطْفَ، وَمَعْنَى بَيْنَكُمْ أَيْ: بَيْنَ الجميع مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، وَغَلَبَ الْخِطَابُ. وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأُنْسٌ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ.

وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا

يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَهُ: عَلِيٌّ

وَابْنُ عَبَّاسٍ.

وَرُوِيَ عَنْ سُبَيْعٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيَّ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا كَيْفَ ذَلِكَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَنَا وَيَظْهَرُونَ عَلَيْنَا أَحْيَانًا؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَعْنَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ الْحُكْمِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِهَذَا قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِيهِ، وَإِنْ أَوْهَمَ صَدْرُ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ لِقَوْلِهِ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَمْحُو بِالْكُفْرِ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ كَمَا جَاءَ

فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ: «فَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا» .

وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنْ لَا يَتَوَاصَوْا بِالْبَاطِلِ، وَلَا يَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَتَقَاعَدُوا عَنِ التَّوْبَةِ، فَيَكُونَ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «2» . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا. وَذَلِكَ أَنَّ حَتَّى غَايَةٌ، فَيَقْتَضِي ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ

(1) سورة الشرح: 94/ 1- 2.

(2)

سورة الشورى: 42/ 3.

ص: 105