الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة النساء (4) : الآيات 94 الى 100]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)
فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
الْمَغْنَمُ: مَفْعَلٌ مِنْ غَنِمَ، يَصْلُحُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَالْمَصْدَرِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْغَنِيمَةِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ أَيِ: الْمَغْنُومُ، وَهُوَ مَا يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ فِي الْغَزْوِ.
الْمُرَاغَمُ: مَكَانُ الْمُرَاغَمَةِ، وَهِيَ: أَنْ يُرْغِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ بِحُصُولِهِ فِي مَنَعَةٍ مِنْهُ أَنْفَ صَاحِبِهِ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى مُرَادِهِ يُقَالُ: رَاغَمْتُ فُلَانًا إِذَا فَارَقْتَهُ وَهُوَ يَكْرَهُ مُفَارَقَتَكَ لِمَذَلَّةٍ تَلْحَقُهُ بِذَلِكَ. وَالرَّغْمُ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَأَصْلُهُ: لُصُوقُ الْأَنْفِ بِالرِّغَامِ، وَهُوَ التُّرَابُ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ سُلَيْمٍ مَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَعَهُ غَنَمٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غَنَمَهُ وأتوا بِهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا الْمِقْدَادُ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ يَبْرَحْ، فَتَشَهَّدَ، فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ، فَأَخْبَرَ الرَّسُولَ عليه السلام بِذَلِكَ فَقَالَ:«أَقَتَلْتَ رَجُلًا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَيْفَ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَدًا؟»
وَقِيلَ: لَقِيَ الصَّحَابَةُ الْمُشْرِكِينَ فَهَزَمُوهُمْ، فَشَدَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى رَجُلٍ، فَلَمَّا غَشِيَهُ السِّنَانُ قَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مَتَاعَهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«قَتَلْتُهُ وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ؟» فَقَالَ: قَالَهَا مُتَعَوِّذًا قَالَ: «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟»
فِي قِصَّةٍ آخِرُهَا: إِنَّ الْقَاتِلَ مَاتَ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَطُرِحَ فِي بَعْضِ الشِّعَابِ. وَقِيلَ: هِيَ السَّرِيَّةُ الَّتِي قَتَلَ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ.
وَقِيلَ: بَعَثَ الرَّسُولُ عليه السلام أَبَا حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيَّ وَأَبَا قَتَادَةَ وَمُحَلَّمَ بْنَ جَثَّامَةَ فِي سِرِّيَّةٍ إِلَى أَسْلَمَ، فَلَمَّا بَلَغُوا إِلَى عَامِرِ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيِّ حَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَقَتَلَهُ محكم وَسَلَبَهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ:
«أقتلته بعد ما قَالَ آمَنْتُ؟» فَنَزَلَتْ
. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ جَزَاءَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا وَأَنَّ لَهُ جَهَنَّمَ، وَذَكَرَ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلَعْنَتَهُ وَإِعْدَادَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ لَهُ، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّثَبُّتِ وَالتَّبَيُّنِ، وَأَنْ لَا يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ عَلَى قَتْلِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ، وَأَنْ لَا يَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا بِتَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ آخِرَ الْآيَةِ تَأْكِيدًا أَنْ لَا يُقَدَّمَ عِنْدَ الشُّبَهِ وَالْإِشْكَالِ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ مَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ خَفَاءُ ذَلِكَ مَنُوطًا بِالْأَسْفَارِ وَالْغَمَزَاتِ قَالَ: إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَإِلَّا فَالتَّثَبُّتُ وَالتَّبَيُّنُ لَازِمٌ فِي قَتْلِ مَنْ تَظَاهَرَ بِالْإِسْلَامِ فِي السَّفَرِ وَفِي الْحَضَرِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الضَّرْبِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ «1» .
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَتَثَبَّتُوا بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالْبَاقُونَ: فَتَبَيَّنُوا. وَكِلَاهُمَا تَفَعَّلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ الَّتِي لِلطَّلَبِ، أَيِ: اطْلُبُوا إِثْبَاتَ الْأَمْرِ وَبَيَانَهُ، وَلَا تَقَدَّمُوا مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَإِيضَاحٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: تَبَيَّنُوا أَبْلَغُ وَأَشَدُّ مِنْ فَتَثَبَّتُوا، لِأَنَّ الْمُتَثَبِّتَ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَثَبُّتٍ، وقد يكون التثبت ولاتبين، وَقَدْ قُوبِلَ بِالْعَجَلَةِ فِي
قَوْلِهِ عليه السلام: «التَّبَيُّنُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ»
. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُمَا: مُتَقَارِبَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، لِأَنَّ تَبَيُّنَ الرَّجُلِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ الشَّيْءَ بَانَ، بَلْ يَقْتَضِي مُحَاوَلَةً لِلتَّبَيُّنِ، كَمَا أَنَّ تَثَبَّتَ يَقْتَضِي مُحَاوَلَةً لِلتَّبَيُّنِ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّثَبُّتُ هُوَ خِلَافُ الْإِقْدَامِ، وَالْمُرَادُ: التَّأَنِّي، وَالتَّثَبُّتُ أَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً «2» أَيْ أَشَدَّ وَقْفًا لَهُمْ عَنْ مَا وُعِظُوا بِأَنْ لَا يُقْدِمُوا عَلَيْهِ، وَكَلَامُ النَّاسِ:
(1) سورة البقرة: 2/ 273.
(2)
سورة النساء: 4/ 66.
تَثَبَّتْ فِي أَمْرِكَ. وَقَدْ جَاءَ إِنَّ التَّبَيُّنَ مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشيطان، وَمُقَابَلَةُ الْعَجَلَةِ بِالتَّبَيُّنِ دَلَالَةٌ عَلَى تَقَارُبِ اللَّفْظَيْنِ.
وَالْأَكْثَرُونَ على أنّ القاتل هو مُحَلَّمٌ، وَالْمَقْتُولَ عَامِرٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا هُوَ فِي سِيَرِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَمُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي الِاسْتِيعَابِ. وَقِيلَ: الْمَقْتُولُ مِرْدَاسٌ، وَقَاتِلُهُ أُسَامَةُ.
وَقِيلَ: قَاتِلُهُ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةَ اللِّيثِيُّ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُ أَبُو الدَّرْدَاءِ. وَقِيلَ: أَبُو قَتَادَةَ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، السَّلَامَ بِأَلِفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ كَثِيرٍ. مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ، وَجَبَلَةُ عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ: بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ. وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ: بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّلَامِ الِانْحِيَازُ وَالتَّرْكُ، قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ فُلَانٌ سَلَامٌ إِذَا كَانَ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَيْ لَا تَقُولُوا لِمَنِ اعْتَزَلَكُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّلَامَةِ، لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَ عَنِ النَّاسِ طَالِبٌ لِلسَّلَامَةِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: مَأْمَنًا بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: لَا نُؤَمِّنُكَ فِي نَفْسِكَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ: عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ. وَمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لَيْسَ لِإِيمَانِكَ حَقِيقَةٌ أَنَّكَ أَسْلَمْتَ خَوْفًا مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: حَكَمَ تَعَالَى بِصِحَّةِ إِسْلَامِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَأَمَرَ بِإِجْرَائِهِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْغَيْبِ عَلَى خِلَافِهِ. وَهَذَا مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ إِذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، فَهُوَ مُسْلِمٌ انْتَهَى. وَالْغَرَضُ هُنَا هُوَ مَا كَانَ مَعَ الْمَقْتُولِ مِنْ غَنِيمَةٍ، أَوْ مِنْ حَمْلٍ، وَمَتَاعٍ، عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالْمَعْنَى: تَطْلُبُونَ الْغَنِيمَةَ الَّتِي هِيَ حُطَامٌ سَرِيعُ الزَّوَالِ. وَتَبْتَغُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ: وَلَا تَقُولُوا، وَفِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى تَرْكِ التَّثَبُّتِ أَوِ التَّبَيُّنِ هُوَ طَلَبُكُمْ عَرَضَ الدُّنْيَا، فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ هَذِهِ عِدَّةٌ بِمَا يُسْنِي اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ حِلٍّ دُونَ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ بِشُبْهَةٍ وَغَيْرِ تَثَبُّتٍ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادَ مَا أَعَدَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ جَزِيلِ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ الدَّائِمِ الَّذِي هُوَ أَجَلُّ الْمَغَانِمِ.
كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَاهُ كُنْتُمْ مُسْتَخْفِينَ مِنْ قَوْمِكُمْ بِإِسْلَامِكُمْ، خَائِفِينَ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِإِعْزَازِ دِينِكُمْ، فَهُمُ
الْآنَ كَذَلِكَ كُلٌّ مِنْهُمْ خَائِفٌ فِي قَوْمِهِ، مُتَرَبِّصٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكُمْ، فَلَمْ يَصْلُحْ إِذَا وَصَلَ أَنْ تَقْتُلُوهُ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا أَمْرَهُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْإِيمَانِ مَا كَانَ عَامًّا فِيهِمْ انْتَهَى. وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَوَّلَ الْإِسْلَامِ يُحِبُّونَ دِينَهُمْ، فَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ بِتِلْكَ الْحَالِ الْأُولَى، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ إِخْفَاءَ الْإِيمَانِ مَا كَانَ عَامًّا فِيهِمْ، لَا إِشْكَالَ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى الْجُمْلَةِ مَا وُجِدَ مِنْ بَعْضِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَذَلِكَ كُنْتُمْ كَفَرَةً فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِأَنْ أَسْلَمْتُمْ، فَلَا تُنْكِرُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ كَافِرًا ثُمَّ يُسْلِمُ لِحِينِهِ حِينَ لَقِيَكُمْ، فَيَجِبُ أَنْ يُتَثَبَّتَ فِي أَمْرِهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْمَعْنَى أَنَّكُمْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ كُنْتُمْ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ تُؤْمِنُونَ بِكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَا كَانَ إِيمَانُنَا مِثْلَ إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّا آمَنَّا اخْتِيَارًا، وَهَؤُلَاءِ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ انْتَهَى. وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ إِذْ كَانَ يَكُونُ الْمُشَبَّهُ هُوَ الْمُشَبَّهَ بِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلَا مِنْ مُعْظَمِ الْوُجُوهِ. وَالتَّشْبِيهُ هُنَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهُوَ: أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ كَانَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ حَسَّنَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَطَوَّلَهُ جِدًّا. فَقَالَ: أَوَّلَ مَا دَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ سَمِعْتُ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ، فَحَصَّنْتُ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مُوَاطَأَةِ قُلُوبِكُمْ لِأَلْسِنَتِكُمْ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالِاشْتِهَارِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقَدُّمِ، وَإِنْ صِرْتُمْ أَعْلَامًا فِيهِ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا بِالدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فُعِلَ بِكُمْ، وَأَنْ تَعْتَبِرُوا ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ فِي الْكَافَّةِ، وَلَا تَقُولُوا إِنَّ تَهْلِيلَ هَذَا لِاتِّقَاءِ الْقَتْلِ، لَا لِصِدْقِ النِّيَّةِ، فَتَجْعَلُوهُ سِلْمًا إِلَى اسْتِبَاحَةِ دَمِهِ وَمَالِهِ، وَقَدْ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ يَنْتَقِلُ عَنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَحْدُثُ لَهُ مَيْلٌ بِسَبَبٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ لَا يَزَالُ ذَلِكَ الْمَيْلُ يَتَأَكَّدُ وَيَتَقَوَّى إِلَى أَنْ يَكْمُلَ وَيَسْتَحْكِمَ وَيَحْصُلَ الِانْتِقَالُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: كُنْتُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا حَدَثَ فِيكُمْ مَيْلٌ ضَعِيفٌ بِأَسْبَابِ ضَعِيفَةٍ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِتَقْوِيَةِ ذَلِكَ الْمَيْلِ وَتَأْكِيدِ النُّفْرَةِ عَنِ الْكُفْرِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ لَمَّا حَدَثَ فِيهِمْ مَيْلٌ ضَعِيفٌ إِلَى الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ هَذَا الْخَوْفِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ هَذَا الْإِيمَانَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَكِّدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُقَوِّي تِلْكَ الرَّغْبَةَ فِي صُدُورِهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ آمَنَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ مَيْلُهُ أَوَّلًا إِلَى الْإِسْلَامِ مَيْلًا ضَعِيفًا ثُمَّ يَقْوَى، بَلْ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنِ اسْتَبْصَرَ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ دُعَاءَ الرَّسُولِ، أو رَأَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
كَأَبِي بَكْرٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَ مُسْتَبْصِرًا مُنْتَظِرًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
ويحتمل أن يكون المعنى إِشَارَةً بِذَلِكَ إِلَى الْقَتْلِ قَبْلَ التَّثَبُّتِ، أَيْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ لَا تَثْبُتُونَ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، هُوَ مِنْ تَمَامِ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ. وَقِيلَ: مِنْ تَمَامِ تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا قَبْلَهُ، فَالْمَعْنَى: مَنَّ عَلَيْكُمْ بِأَنْ قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ قَالَه: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، فَتَبَيَّنُوا: تَقَدَّمَ أَنَّهُ قُرِئَ فَتَثَبَّتُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَتَبَيَّنُوا فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ مِنَ التَّبَيُّنِ، أَنْ لَا يَكُونَ تَأْكِيدُ الِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقَ التَّبَيُّنِ.
فَالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ: فَتَبَيَّنُوا أَمْرَ مَنْ تُقْدِمُونَ عَلَى قَتْلِهِ، وَفِي الثَّانِي: فَتَبَيَّنُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالْإِسْلَامِ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أَيْ خَبِيرًا بِنِيَّاتِكُمْ وَطَلَبَاتِكُمْ، فَكُونُوا مُحْتَاطِينَ فِيمَا تَقْصِدُونَهُ، مُتَوَخِّينَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا فِيهِ تَحْذِيرٌ، فَاحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ مَوَارِدِ الزَّلَلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِقَوْلِهِ:
فَتَبَيَّنُوا «1» .
لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ قَوْمٍ كَانُوا إِذَا حَضَرَتْ غَزَاةٌ يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فَسَبَبُهَا قَوْلُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ: كَيْفَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ؟.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ الْكُفَّارَ، وَاسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً وَعَمْدًا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَبِتَأْوِيلٍ، فَنَهَى أَنْ يُقْدِمَ عَلَى قَتْلِهِ بِتَأْوِيلِ أَمْرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا كَانَ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، ذَكَرَ بَيَانَ فَضْلِ الْمُجَاهِدِ عَلَى الْقَاعِدِ، وَبَيَانَ تَفَاوُتِهِمَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ كَوْنُ الْجِهَادِ، مَظِنَّةَ أَنْ يُصِيبَ الْمُجَاهِدُ مُؤْمِنًا خَطَأً، أَوْ مَنْ يُلْقِي السَّلَمَ فيقتله بتأويل فيتقاعسن عَنِ الْجِهَادِ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، فَأَتَى عَقِيبَ ذَلِكَ بِفَضْلِ الْجِهَادِ وَفَوْزِهِ بِمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِنَ الدَّرَجَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، دَفْعًا لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ.
وَيَسْتَوِي هُنَا مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكْتَفِي بِفَاعِلٍ وَاحِدٍ، وَإِثْبَاتُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عموم
(1) سورة النساء: 4/ 94.
الْمُسَاوَاةِ، وَكَذَلِكَ نَفْيُهُ. وَإِنَّمَا عَنَى نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْفَضْلِ، وَفِي ذَلِكَ إِبْهَامٌ عَلَى السَّامِعِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَحْرِيرِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي بَيْنَ الْقَاعِدِ وَالْمُجَاهِدِ. فَالْمُتَأَمِّلُ يَبْقَى مَعَ فِكْرِهِ، وَلَا يَزَالُ يَتَخَيَّلُ الدَّرَجَاتِ بَيْنَهُمَا، وَالْقَاعِدُ هُوَ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الْجِهَادِ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقُعُودِ، لِأَنَّ الْقُعُودَ هَيْئَةُ مَنْ لَا يَتَحَرَّكُ إِلَى الْأَمْرِ الْمَقْعُودِ عَنْهُ فِي الأغلب. وأولوا الضَّرَرِ هُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ لِعَمًى، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عَرَجٍ، أَوْ فَقْدِ أُهْبَةٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الْقَادِرُونَ عَلَى الْغَزْوِ وَالْمُجَاهِدُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ: غَيْرُ بِرَفْعِ الرَّاءِ. وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنَّصْبِ، وَرَوَيَا عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِهَا. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الرَّفْعِ فَوَجَّهَهَا الْأَكْثَرُونَ عَلَى الصِّفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، كَمَا هِيَ عِنْدَهُ صِفَةٌ فِي غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ «1» وَمِثْلُهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
وَإِذَا جُوزِيتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ
…
إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى غَيْرُ الْجُمَلْ
كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَيُرْوَى: لَيْسَ الْجَمَلْ. وَأَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ الْبَدَلَ. قِيلَ:
وَهُوَ إِعْرَابٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ نَفْيٍ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الصِّفَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْأَفْصَحَ فِي النَّفْيِ الْبَدَلُ، ثُمَّ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ الْوَصْفُ فِي رُتْبَةٍ ثَالِثَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنْ غَيْرًا نَكِرَةٌ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ وَإِنْ أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ هَذَا، هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَتَعَرَّفُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَجَعَلَهَا هُنَا صِفَةً يُخْرِجُهَا عَنْ أَصْلِ وَضْعِهَا إِمَّا بِاعْتِقَادِ التَّعْرِيفِ فِيهَا، وَإِمَّا بِاعْتِقَادِ أَنَّ الْقَاعِدِينَ لَمَّا لَمْ يَكُونُوا نَاسًا مُعَيَّنِينَ، كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ جِنْسِيَّةً، فَأُجْرِيَ مَجْرَى النَّكِرَاتِ حَتَّى وُصِفَ بِالنَّكِرَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَهِيَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْقَاعِدِينَ. وَقِيلَ: اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْقَاعِدِينَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجَرِّ فَعَلَى الصِّفَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، كَتَخْرِيجِ مَنْ خَرَّجَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ عَلَى الصِّفَةِ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «2» وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: الْقَاعِدُونَ. أَيْ:
كَائِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَاخْتَلَفُوا: هل أولوا الضَّرَرِ يُسَاوُونَ الْمُجَاهِدِينَ أَمْ لَا؟ فَإِنِ اعْتَبَرْنَا مَفْهُومَ الصِّفَةِ، أَوْ قُلْنَا بِالْأَرْجَحِ مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، لَزِمَتِ الْمُسَاوَاةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مردود، لأن أولي الضَّرَرَ لَا يُسَاوُونَ الْمُجَاهِدِينَ، وَغَايَتُهُمْ إِنْ خَرَجُوا مِنَ التوبيخ والمذمة
(1) سورة الفاتحة: 1/ 7.
(2)
سورة الفاتحة: 1/ 6.
الَّتِي لَزِمَتِ الْقَاعِدِينَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الِاسْتِثْنَاءُ لِرَفْعِ الْعِقَابِ، لَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ. المعذور يستوي فِي الْأَجْرِ مَعَ الَّذِي خَرَجَ إِلَى الْجِهَادِ، إِذْ كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ قَادِرًا لَخَرَجَ. قَالَ: اسْتَثْنَى الْمَعْذُورَ مِنَ الْقَاعِدِينَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَثَبَتَ الِاسْتِوَاءُ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ الْمَعْذُورِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا نَفَى الِاسْتِوَاءَ فِيمَا عَلِمَ أَنَّهُ مُنْتَفٍ ضَرُورَةً لِإِذْكَارِهِ مَا بَيْنَ الْقَاعِدِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَالْمُجَاهِدِ مِنَ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ، فَيَأْنَفُ الْقَاعِدُ مِنَ انْحِطَاطِ مُنْزِلَتِهِ فَيَهْتَزُّ لِلْجِهَادِ وَيَرْغَبُ فِيهِ. وَمِثْلُهُ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ «1» أُرِيدَ بِهِ التَّحْرِيكُ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِ وَأَنَفَتِهِ لِيَنْهَضِمَ إِلَى التَّعَلُّمِ، وَيَرْتَقِيَ عَنْ حَضِيضِ الْجَهْلِ إِلَى شَرَفِ الْعِلْمِ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الْجِهَادُ فِيهِ تَطَوُّعًا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَوِي مَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَرْضَ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَوِي هُوَ وَالْآتِي بِهِ، بَلْ يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِالتَّارِكِ، وَيَرْغَبُ الْآتِي بِهِ فِي الثَّوَابِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: نَفْيُ التَّسَاوِي بَيْنَ فَاعِلِ الْجِهَادِ وَتَارِكِهِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ مَا كَانَ فَرْضًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. إِلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ «2» نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ المؤمن والفاسق، والإيمان فرض. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
«3» الْآيَةَ وَقَالَ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَالْعِلْمُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَرْضٌ. وَإِذْ جَازَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ فَاعِلِ التَّطَوُّعِ وَتَارِكِهِ، فَلِأَنْ يَجُوزَ بَيْنَ فَاعِلِ الْفَرْضِ وَتَارِكِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْحَقِ الْإِثْمُ تَارِكَهُ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَ هَذَا الِاسْتِوَاءِ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِقَاعِدَةٍ عَنْ جِهَادٍ مَخْصُوصٍ، وَلَا مُجَاهِدٍ جِهَادًا مَخْصُوصًا بَلْ ذَلِكَ عام.
وعن ابن عابس: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَيْهَا. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: إِلَى تَبُوكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أولوا الضَّرَرِ هُمْ أَهْلُ الْأَعْذَارِ. إِذْ قَدْ أَضَرَّتْ بِهِمْ حَتَّى مَنَعَتْهُمُ الْجِهَادَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَقَدْ خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ»
وَجَاءَ هُنَا تَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَنْفُسِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ «4» تَقْدِيمُ الْأَنْفُسِ عَلَى الْأَمْوَالِ لِتَبَايُنِ الْغَرَضَيْنِ، لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ بَائِعٌ، فَأَخَّرَ ذِكْرَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُضَايَقَةَ فِيهَا أَشَدُّ، فَلَا يَرْضَى بِبَذْلِهَا إِلَّا في آخر
(1) سورة الزمر: 39/ 9.
(2)
سورة السجدة: 32/ 18.
(3)
سورة الجاثية: 45/ 21.
(4)
سورة التوبة: 9/ 111.
الْمَرَاتِبِ. وَالْمُشْتَرِي قُدِّمَتْ لَهُ النَّفْسُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الرَّغْبَةَ فِيهَا أَشَدُّ، وَإِنَّمَا يرعب أَوَّلًا فِي الْأَنْفَسِ الْغَالِي.
فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً الظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ هُمُ الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ، فَذَكَرَ مَا امْتَازُوا بِهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَيْهِمْ بِدَرَجَةٍ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا لَهُمْ لَا يَسْتَوُونَ؟ فَقِيلَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ هُنَا دَرَجَةً هُمُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ آخِرًا دَرَجَاتٍ، وَمَا بَعْدَهَا وَهُمُ الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. وَتَكَرَّرَ التَّفْضِيلَانِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهِمَا، فَالتَّفْضِيلُ الْأَوَّلُ بِالدَّرَجَةِ هُوَ مَا يُؤْتَى فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالتَّفْضِيلُ الثَّانِي هُوَ مَا يُخَوِّلُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَنَبَّهَ بِإِفْرَادِ الْأَوَّلِ، وَجَمَعَ الثَّانِي عَلَى أَنَّ ثَوَابَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ يَسِيرٌ. وَقِيلَ: الْمُجَاهِدُونَ تَتَسَاوَى رُتَبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِهِمْ، كَتَسَاوِي الْقَاتِلِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَخْذِ سَلَبِ مَنْ قَتَلُوهُ وَتَسَاوِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفُرْسَانِ وَنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مُتَفَاوِتُونَ بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ، فَلَهُمْ دَرَجَاتٌ بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ الْغُفْرَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ الرَّحْمَةُ فَقَطْ. فَكَأَنَّ الرَّحْمَةَ أَدْنَى الْمَنَازِلِ، وَالْمَغْفِرَةُ فَوْقَ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ بُعْدُ الدَّرَجَاتِ عَلَى الطَّبَقَاتِ، وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ «1» وَمَنَازِلُ الْآخِرَةِ تَتَفَاوَتُ. وَقِيلَ: الدَّرَجَةُ الْمَدْحُ وَالتَّعْظِيمُ، وَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا غَيْرُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِمْ ثَانِيًا. فَالْأَوَّلُ هُمُ الْقَاعِدُونَ بِعُذْرٍ، وَالثَّانِي هُمُ الْقَاعِدُونَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُفَضَّلُ بِهِ: فَفِي الْأَوَّلِ دَرَجَةٌ، وَفِي الثَّانِي دَرَجَاتٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ مَنْ لَا يستوي عنده أولوا الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ.
وَقِيلَ: اخْتَلَفَ الْجِهَادَانِ، فَاخْتَلَفَ مَا فُضِّلَ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْجِهَادَ جِهَادَانِ: صَغِيرٌ، وَكَبِيرٌ. فَالصَّغِيرُ مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ، وَالْكَبِيرُ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ. وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ
قَوْلُهُ عليه السلام: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»
وَإِنَّمَا كَانَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ أَعْظَمَ، لِأَنَّ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فَقَدْ جَاهَدَ الدُّنْيَا، وَمَنْ غَلَبَ الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ مُجَاهَدَةُ الْعِدَا، فَخَصَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ بِالدَّرَجَاتِ تَعْظِيمًا لَهَا. وَقَدْ تَنَاقَضَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْقَاعِدِينَ فَقَالَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ جُمْلَةٌ مُوَضِّحَةٌ لِمَا نُفِيَ مِنَ اسْتِوَاءِ الْقَاعِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَهُمْ
(1) سورة آل عمران: 3/ 163.
لَا يَسْتَوُونَ؟ فَأُجِيبَ بِذَلِكَ: وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، لِكَوْنِ الْجُمْلَةِ بَيَانًا لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى الْمُتَضَمِّنَةِ لِهَذَا الْوَصْفِ. ثُمَّ قَالَ:(فَإِنْ قُلْتَ) : قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُفَضَّلِينَ دَرَجَةً وَمُفَضَّلِينَ دَرَجَاتٍ مَنْ هُمْ؟ (قُلْتُ) : أَمَّا الْمُفَضَّلُونَ دَرَجَةً وَاحِدَةً فَهُمُ الَّذِينَ فُضِّلُوا عَلَى الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءِ، وَأَمَّا الْمُفَضَّلُونَ دَرَجَاتٍ فَالَّذِينَ فُضِّلُوا عَلَى الْقَاعِدِينَ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ اكْتِفَاءً بِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْغَزْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَالَ: أَوَّلًا الْمَعْنَى عَلَى الْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَقَالَ فِي هَذَا الْجَوَابِ: عَلَى الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: دَرَجَاتٍ، لَا يُرَادُ بِهِ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي بَرَاءَةَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ «1» الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَرَجَاتُ الْجِهَادِ لَوْ حُصِرَتْ لَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: الدَّرَجَاتُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعُونَ دَرَجَةً، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ حَضْرُ الْجَوَادِ الْمُضْمَرِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَإِلَى نَحْوِهِ ذَهَبَ: مُقَاتِلٌ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لَا أَنَّ مَدْلُولَ دَرَجَةٍ مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ دَرَجَاتٍ فِي الْمَعْنَى، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى. قَالَ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ «2» لَا يُرَادُ بِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، بَلْ أَشْيَاءُ. وَكَرَّرَ التَّفْضِيلَ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّرْغِيبِ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَاتُرِيدِيُّ قَالَ: وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، حَيْثُ يَسْقُطُ بِقِيَامِ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ خِطَابُ قَوْلِهِ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَعُمُّ انْتَهَى.
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَيْ وَكُلًّا مِنَ الْقَاعِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ. وَقِيلَ: وَكُلًّا مِنَ الْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَأُولِي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدِينَ. وَالْحُسْنَى هُنَا: الْجَنَّةُ بِاتِّفَاقٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: هَذَا الْوَعْدُ لَا يَلِيقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا لِلْمُجَاهِدِينَ مِنَ الْحَظِّ عَاجِلًا جَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ كَمَا اخْتُصَّ بِهَذِهِ النِّعَمِ، فَكَذَلِكَ يُخْتَصُّ بِالثَّوَابِ. فَبَيَّنَ أَنَّ لِلْقَاعِدِينَ مَا لِلْمُجَاهِدِينَ مِنَ الْحُسْنَى فِي الْوَعْدِ مَعَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ فَضْلَ دَرَجَاتٍ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَأَوْهَمَ أَنَّ حَالَهُمَا فِي الْوَعْدِ بِالْحُسْنَى سَوَاءٌ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ كُلًّا عَلَى أَنَّهُ مفعول أوّل لوعد، وَالثَّانِي هُوَ الْحُسْنَى. وَقُرِئَ: وَكُلٌّ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَحَذْفِ الْعَائِدِ أَيْ: وَكُلَّهُمْ وعد الله.
(1) سورة التوبة: 9/ 120. [.....]
(2)
سورة البقرة: 2/ 228.
وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قِيلَ: الدَّرَجَاتُ بِاعْتِبَارِ الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ بَعْدَ إِدْخَالِ الْجَنَّةِ، وَالْمَغْفِرَةِ بِاعْتِبَارِ سَتْرِ الذَّنْبِ، وَالرَّحْمَةُ بِاعْتِبَارِ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ الْخَاصَّ لِلْمُجَاهِدِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَمَنْ تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ جَاهَدَ، وَمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْجِهَادِ، لَيْسَ كَمَنْ جَاهَدَ بِنَفَقَةٍ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ.
وَفِي انْتِصَابِ دَرَجَةً وَدَرَجَاتٍ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا يَنْتَصِبَانِ انْتِصَابَ الْمَصْدرِ لِوُقُوعِ دَرَجَةٍ مَوْقِعَ الْمَرَّةِ فِي التَّفْضِيلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَضَّلَهُمْ تَفْضِيلَهُ. كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ سَوْطًا، وَوُقُوعُ دَرَجَاتٍ مَوْقِعَ تَفْضِيلَاتٍ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ أَسْوَاطًا تَعْنِي: ضَرَبَاتٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يَنْتَصِبَانِ انْتِصَابَ الْحَالِ أَيْ: ذَوِي دَرَجَةٍ، وَذَوِي دَرَجَاتٍ. وَالثَّالِثُ: عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ: بِدَرَجَةٍ وَبِدَرَجَاتٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمَا انْتَصَبَا عَلَى مَعْنَى الظَّرْفِ، إِذْ وَقَعَا مَوْقِعَهُ أَيْ: فِي دَرَجَةٍ وَفِي دَرَجَاتٍ. وَقِيلَ: انْتِصَابُ دَرَجَاتٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَجْرًا قِيلَ: وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مَعْطُوفَانِ عَلَى دَرَجَاتٍ. وَقِيلَ: انْتَصَبَا بِإِضْمَارِ فِعْلِهِمَا أَيْ: غَفَرَ ذَنْبَهُمْ مَغْفِرَةً وَرَحِمَهُمْ رَحْمَةً. وَأَمَّا انْتِصَابُ أَجْرًا عَظِيمًا فَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى فَضَّلَ مَعْنَى أَجْرٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَعْنَى، لَا مِنَ اللَّفْظِ. وَقِيلَ: عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ بِأَجْرٍ. وَقِيلَ: مَفْعُولُ بِفَضْلِهِمْ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى أَعْطَاهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَنَصَبَ أَجْرًا عَظِيمًا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ النَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ دَرَجَاتٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَظْهَرُ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، لِأَنَّ أَجْرًا عَظِيمًا مُفْرَدٌ، وَلَا يَكُونُ نَعْتًا لِدَرَجَاتٍ، لِأَنَّهَا جَمْعٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَصَبَ دَرَجَاتٍ، إِمَّا عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْأَجْرِ، وَإِمَّا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلْأَجْرِ، كَمَا نَقُولُ لَكَ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ عُرْفًا، كَأَنَّكَ قُلْتَ: أَعْرِفُهَا عُرْفًا انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ، أَوْ يُضْرَبُ فَيَقْتُلُ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا، فَلَمَّا هَاجَرَ الرَّسُولُ أَقَامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، وَفُتِنَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ خَرَجَ مِنْهُمْ قَوْمٌ مَعَ الْكُفَّارِ، فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ فَنَزَلَتْ. قَالَ عِكْرِمَةُ:
نَزَلَتْ فِي خَمْسَةٍ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ: قَيْسُ بْنُ النَّائِحَةِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، والحرث بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ أَسَدٍ، وَقَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو الْعَاصِي بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَعَلِيُّ بْنُ
أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: فِي أُنَاسٍ سِوَاهُمْ أَسْلَمُوا ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْجِهَادِ، أَتْبَعَهُ بِعِقَابِ مَنْ قَعَدَ عَنِ الْجِهَادِ وَسَكَنَ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: التَّوَفِّي هُنَا قَبْضُ الْأَرْوَاحِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَشْرُ إِلَى النَّارِ. وَالْمَلَائِكَةُ هُنَا قِيلَ: مَلَكُ الْمَوْتِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدَةِ تَفْخِيمًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «1» هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ وَهُمْ: سِتَّةٌ، ثَلَاثَةٌ لِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَلَاثَةٌ لِأَرْوَاحِ الْكَافِرِينَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ «2» وَظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ، وَقُعُودِهِمْ مَعَ قَوْمِهِمْ حِينَ رَجَعُوا لِلْقِتَالِ، أَوْ بِرُجُوعِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ بِشَكِّهِمْ، أَوْ بِإِعَانَةِ الْمُشْرِكِينَ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ: وَتَوَفَّاهُمْ: مَاضٍ لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ تَوَفَّتْهُمْ، وَلَمْ يُلْحِقْ تَاءَ التَّأْنِيثِ لِلْفَصْلِ، وَلِكَوْنِ تَأْنِيثِ الْمَلَائِكَةِ مَجَازًا أَوْ مُضَارِعٌ، وَأَصْلُهُ تَتَوَفَّاهُمْ.
وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ: تُوَفَّاهُمْ بِضَمِّ التَّاءِ مُضَارِعُ وَفَّيْتُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يُوَفِّي الْمَلَائِكَةَ أَنْفُسَهُمْ فَيَتَوَفَّوْنَهَا، أَيْ: يُمَكِّنُهُمْ مِنَ اسْتِيفَائِهَا فَيَسْتَوْفُونَهَا. وَالضَّمِيرُ فِي قَالُوا لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَالرَّابِطُ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، التقدير: قَالُوا لَهُمْ فِيمَ كُنْتُمْ؟ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ. وَالْمَعْنَى: فِي أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ مِنْ أَمْرِ دينكم؟
وقيل: من أَحْوَالَ الدُّنْيَا، وَجَوَابُهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ اعْتِذَارٌ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَإِقَامَتِهِمْ بِدَارِ الْكُفْرِ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ صَحَّ وُقُوعُ قَوْلِهِ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: فِيمَ كُنْتُمْ؟ وَكَانَ حَقُّ الْجَوَابِ أَنْ يَقُولُوا: كُنَّا فِي كَذَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ؟ (قُلْتُ) : مَعْنَى فِيمَ كُنْتُمْ، التَّوْبِيخُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ حَيْثُ قَدَرُوا عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَقَالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ اعْتِذَارًا مِمَّا وُبِّخُوا بِهِ، وَاعْتِلَالًا بِالِاسْتِضْعَافِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْهِجْرَةِ حَتَّى يَكُونُوا فِي شَيْءٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: فِيمَ كُنْتُمْ عَلَى الْمَعْنَى، لَا عَلَى اللَّفْظِ. لِأَنَّ مَعْنَى: فِيمَ كُنْتُمْ فِي أَيِّ حَالٍ مَانِعَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ كُنْتُمْ، قَالُوا: كنا مستضعفين أي
(1) سورة السجدة: 32/ 11.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 61.
فِي حَالَةِ اسْتِضْعَافٍ فِي الْأَرْضِ بِحَيْثُ لَا نَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَهُوَ جَوَابٌ كَذِبٌ، وَالْأَرْضُ هُنَا أَرْضُ مَكَّةَ. قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها هَذَا تَبْكِيتٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ، وَرَدٌّ لِمَا اعْتَذَرُوا بِهِ. أَيْ لَسْتُمْ مُسْتَضْعَفِينَ، بَلْ كَانَتْ لَكُمُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى بَعْضِ الْأَقْطَارِ فَتُهَاجِرُوا حَتَّى تَلْحَقُوا بِالْمُهَاجِرِينَ، كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ لَحِقُوا بَعْدُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِالْمَدِينَةِ. وَمَعْنَى فَتُهَاجِرُوا فِيهَا أَيْ: فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِهَا، بِحَيْثُ تَأْمَنُونَ عَلَى دِينِكُمْ. وَقِيلَ: أَرْضُ اللَّهِ أَيِ الْمَدِينَةُ. وَاسِعَةً آمِنَةً لَكُمْ مِنَ الْعَدُوِّ فَتَخْرُجُوا إِلَيْهَا. وَهَلْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي قِتَالٍ فَقُتِلُوا؟ أَوْ مُنَافِقُونَ، أَوْ مُشْرِكُونَ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. الثَّالِثُ قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بَعْدَ تَوَفِّي أَرْوَاحِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا لَمْ يُقَلْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرُوا فِي الصَّحَابَةِ لِشِدَّةِ مَا وَاقَعُوهُ، وَلِعَدَمِ تَعَيُّنِ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَاحْتِمَالِ رِدَّتِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ كَافِرًا حَتَّى يُهَاجِرَ، إِلَّا مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدِي سَبِيلًا انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأُصُولُ أَنَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أُولَئِكَ كَافِرٌ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ عَلَى جِهَةِ الْخُلُودِ، وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَمَاتَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرْ، أَوْ أُخْرِجَ كُرْهًا فَقُتِلَ، عَاصٍ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ دُونَ خُلُودٍ. وَلَا حُجَّةَ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَعَاصِي. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ فِي بَلَدٍ كَمَا يُحِبُّ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ.
وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ وَإِنْ كَانَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ اسْتَوْجَبْتُ لَهُ الْجَنَّةَ، وَكَانَ رَفِيقَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم»
. فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً الْفَاءُ لِلْعَطْفِ، عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ.
وَقِيلَ: فَأُولَئِكَ خَبَرُ إِنَّ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِ إِنَّ تَشْبِيهًا لِاسْمِهَا بِاسْمِ الشَّرْطِ، وَقَالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ حَالٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ صِفَةٌ لِظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ قَائِلًا لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ:
فِيمَ كُنْتُمْ؟ وَقِيلَ: خَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: هَلَكُوا، ثُمَّ فَسَّرَ الْهَلَاكَ بِقَوْلِهِ: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ.
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا مِنَ الرِّجَالِ جَمَاعَةٌ، كَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي زَمْعَةَ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ.
وَمِنَ النِّسَاءِ جَمَاعَةٌ: كَأُمِّ الفضل أمامة بنت الحرث أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنَ الْوِلْدَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. فَإِنْ أُرِيدَ بِالْوِلْدَانِ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ الْبَالِغُونَ فَلَا إِشْكَالَ فِي دُخُولِهِمْ
فِي الْمُسْتَثْنَيْنَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْوِلْدَانِ الْأَطْفَالُ فَهُمْ لَا يَكُونُونَ إِلَّا عَاجِزِينَ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ وَعِيدٌ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَدْ يَكُونُونَ عَاجِزِينَ، وَقَدْ يَكُونُونَ غَيْرَ عَاجِزِينَ. وَإِنَّمَا ذُكِرُوا مَعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَجْزَهُمْ هُوَ عجزهم لِآبَائِهِمُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، لِأَنَّ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعَجْزِ وعدم الحنكة وكون الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَشْغُولِينَ بِأَطْفَالِهِمْ، مَشْغُوفِينَ بِهِمْ، فَيَعْجِزُونَ عَنِ الْهِجْرَةِ بِسَبَبِ خَوْفِ ضَيَاعِ أَطْفَالِهِمْ وَوِلْدَانِهِمْ.
فَذِكْرُ الْوِلْدَانِ فِي الْمُسْتَثْنَيْنَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَعْظَمِ طَرْقِ الْعَجْزِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، لِأَنَّ طُرُقَ الْعَجْزِ لَا تَنْحَصِرُ، فَنَبَّهَ بِذِكْرِ عَجْزِ الْوِلْدَانِ عَلَى قُوَّةِ عَجْزِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ بِسَبَبِهِمْ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمُرَاهِقُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ عَقَلُوا مَا يَعْقِلُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَيَلْحَقُوا بِهِمْ فِي التَّكْلِيفِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ لَا يَلْحَقُ بِالْمُكَلَّفِ أَصْلًا، وَلَا وَعِيدَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُكَلَّفْ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُسْتَضْعَفِينَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً إِلَى الْخُرُوجِ، وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى تَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمْ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ «1» . قَالَ غَيْرُهُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأُولَئِكَ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَعَلَى هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «2» إِلَى آخِرِهِ يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي مَأْوَاهُمْ إِلَيْهِمْ. وَهُمْ عَلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ إِمَّا كَفَّارٌ، وَإِمَّا عُصَاةٌ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْهِجْرَةِ وَهُمْ قَادِرُونَ، فَلَمْ يَنْدَرِجْ فِيهِمُ الْمُسْتَضْعَفُونَ الْمُسْتَثْنَوْنَ لِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً، وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا.
الْحِيلَةُ: لَفْظٌ عَامٌّ لِأَنْوَاعِ أَسْبَابِ التَّخَلُّصِ. وَالسَّبِيلُ هُنَا طَرِيقُ الْمَدِينَةِ قَالَهُ: مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ. وَغَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ السُّبُلِ، يَعْنِي الْمُخَلِّصَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ انْتَهَى. وَقِيلَ: لَا يَعْرِفُونَ طَرِيقًا إِلَى الْخُرُوجِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ قِيلَ: مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَةٌ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ، أَوِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ وَالْجُمَلُ نَكِرَاتٌ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي انتهى كلامه.
(1) سورة النساء: 4/ 97.
(2)
سورة النساء: 4/ 97.
وَهُوَ تَخْرِيجٌ ذَهَبَ إِلَى مِثْلِهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» وَهُوَ هَدْمٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ: بِأَنَّ النَّكِرَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالنَّكِرَةِ، وَالْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: الْمُسْتَضْعَفِينَ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى: «إِلَّا الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فَجَاءَ بَيَانًا وَتَفْسِيرًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ الِاسْتِضْعَافَ يَكُونُ بِوُجُوهٍ، فَبَيَّنَ جِهَةَ الِاسْتِضْعَافِ النَّافِعِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْهِجْرَةِ وَهِيَ عَدَمُ اسْتِطَاعَةِ الْحِيلَةِ وَعَدَمُ اهْتِدَاءِ السَّبِيلِ. وَالثَّانِي مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحِيلَةِ الَّتِي يَتَخَلَّصُ بِهَا انْتِفَاءُ اهْتِدَاءِ السَّبِيلِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَى مُسْلِمِي مَكَّةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ
، فَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ ضَمْرَةَ اللَّيْثِيُّ: وَيُقَالُ: جُنْدُعٌ بِالْعَيْنِ، أَوْ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لِبَنِيهِ: احْمِلُونِي فَإِنِّي لَسْتُ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَإِنِّي لَأَهْتَدِي الطَّرِيقَ، وَاللَّهِ لَا أَبِيتُ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ، فَحَمَلُوهُ عَلَى سَرِيرٍ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا فَمَاتَ بِالتَّنْعِيمِ.
فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ عَسَى: كَلِمَةُ إِطْمَاعٍ وَتَرْجِيَةٍ، وَأَتَى بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةً، دَلَالَةً عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْهِجْرَةِ أَمْرٌ صَعْبٌ لَا فُسْحَةَ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ الْمُضْطَرَّ الْبَيِّنَ الِاضْطِرَارِ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِّي. وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَأَنَّهُ وَعَدَهُمْ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِمْ كَمَا
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرَتْ لَكُمْ»
. وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً تَأْكِيدٌ فِي وقوع عَفْوِهِ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُتَرَجَّى هُوَ وَاقِعٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ.
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَكْثَمِ بْنِ صَيْفِيِّ، وَلَمَّا رَغَّبَ تَعَالَى فِي الْهِجْرَةِ ذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ وُجُودِ السَّعَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْكَثِيرَةِ، لِيَذْهَبَ عَنْهُ مَا يَتَوَهَّمُ وُجُودَهُ فِي الْغُرْبَةِ وَمُفَارَقَةِ الْوَطَنِ مِنَ الشِّدَّةِ، وَهَذَا مُقَرَّرُ مَا قَالَتْهُ الْمَلَائِكَةُ: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «2» .
وَمَعْنَى مُرَاغَمًا: مُتَحَوَّلًا وَمَذْهَبًا قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، والربيع، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُزَحْزَحُ عَمَّا يَكْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُهَاجَرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُبْتَغَى لِلْمَعِيشَةِ. وَقَرَأَ الْجَرَّاحُ، ونبيح، والحسن بن عمران: مَرْغَمًا عَلَى وَزْنِ مَفْعَلٍ كمذهب. قال
(1) سورة يس: 36/ 37.
(2)
سورة النساء: 4/ 97.
ابْنُ جِنِّيٍّ: هُوَ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ مِنْ رَاغَمَ. وَالسِّعَةُ هُنَا فِي الرِّزْقِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سَعَةٌ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الْقِلَّةِ إِلَى الْغِنَى. وَقَالَ مَالِكٌ: السِّعَةُ سَعَةُ الْبِلَادِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُشْبِهُ لِفَصَاحَةِ الْعَرَبِ أَنْ يُرِيدَ سَعَةَ الْأَرْضِ وَكَثْرَةَ الْمَعَاقِلِ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ وَاتِّسَاعِ الصَّدْرِ عَنْ هُمُومِهِ وَفِكْرِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْفَرَحِ، وَنَحْوُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَكَانَ لِي مُضْطَرَبٌ وَاسِعٌ
…
فِي الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّولِ والعرش
انْتَهَى. وَقَدَّمَ مُرَاغَمَةَ الْأَعْدَاءِ عَلَى سَعَةِ الْعَيْشِ، لِأَنَّ الِابْتِهَاجَ بِرَغْمِ أُنُوفِ الْأَعْدَاءِ لِسُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ أَشَدُّ مِنْ الِابْتِهَاجِ بِالسَّعَةِ.
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي جُنْدُبِ بْنِ ضَمْرَةَ وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ قَبْلُ. وَقِيلَ: فِي ضَمْرَةِ بْنِ بَغِيضٍ.
وَقِيلَ: أَبُو بَغِيضٍ ضَمْرَةُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْخُزَاعِيُّ. وَقِيلَ: خَالِدُ بْنُ حَرَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ أَخُو حَكِيمِ بْنِ حَرَامٍ خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ. وَقِيلَ: ضَمْرَةُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ نُعَيْمٍ.
وَقِيلَ: ضَمْرَةُ بْنُ خُزَاعَةَ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ هَاجَرَ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَسَخِرَ مِنْهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: لَا هُوَ بَلَغَ مَا يُرِيدُ، وَلَا هُوَ أَقَامَ فِي أَهْلِهِ حَتَّى دُفِنَ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ ضَمْرَةُ بْنُ بَغِيضٍ، أَوْ بَغِيضُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ الزِّنْبَاعِ، لِأَنَّ عِكْرِمَةَ سَأَلَ عَنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَصَحَّحَهُ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي ثُبُوتِ الْأَجْرِ وَلُزُومِهِ، وَوُصُولِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَتَكْرِيمًا، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْوُقُوعِ مُبَالَغَةً. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: ثُمَّ يُدْرِكْهُ بِرَفْعِ الْكَافِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ:
ثُمَّ هُوَ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ، فَعَطَفَ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْزُومِ، وَفَاعِلِهِ.
وَعَلَى هَذَا حَمَلَ يُونُسُ قَوْلَ الْأَعْشَى:
إِنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الْخَيْرِ عَادَتُنَا
…
أَوْ تَنْزِلُونَ فَإِنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
الْمُرَادُ: أَوْ أَنْتُمْ تَنْزِلُونَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الْآخَرِ:
إِنْ تُذْنِبُوا لم يَأْتِينِي نَعِيقُكُمْ
…
فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ عِنْدِكُمْ قُوتُ
الْمَعْنَى: ثُمَّ أَنْتُمْ يَأْتِينِي نَعِيقُكُمْ. وَهَذَا أَوْجَهُ مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَلَمْ يَأْتِيكَ انْتَهَى.
وَخُرِّجَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ رَفْعَ الْكَافِ مَنْقُولٌ مِنَ الْهَاءِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَاءِ إِلَى الْكَافِ كَقَوْلِهِ:
مِنْ عُرَى سَلْبِي لَمْ أَضْرِبُهُ يُرِيدُ: لَمْ أَضْرِبْهُ، فَنَقَلَ حَرَكَةَ الْهَاءِ إِلَى الْبَاءِ الْمَجْزُومَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَنُبَيْحٌ، وَالْجَرَّاحُ: ثُمَّ يُدْرِكَهُ بِنَصْبِ الكاف، وذلك على إضماران كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
وَيَأْوِي إِلَيْهَا الْمُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا لَيْسَ بِالسَّهْلِ، وَإِنَّمَا بَابُهُ الشِّعْرُ لَا الْقُرْآنُ وَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ فِيهِ:
سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ
…
وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
وَالْآيَةُ أَقْوَى مِنْ هَذَا لِتَقَدُّمِ الشَّرْطِ قَبْلَ الْمَعْطُوفِ انْتَهَى. وَتَقُولُ: أَجْرَى ثُمَّ مُجْرَى الْوَاوِ وَالْفَاءِ، فَكَمَا جَازَ نَصْبُ الْفِعْلِ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَهُمَا بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، كَذَلِكَ جَازَ فِي ثُمَّ إِجْرَاءُ لَهَا مُجْرَاهُمَا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الْفَاءِ:
وَمَنْ لَا يُقَدِّمْ رِجْلَهُ مُطَمْئِنَةً
…
فَيُثْبِتَهَا فِي مُسْتَوَى الْقَاعِ يَزْلَقُ
وَقَالَ آخَرُ فِي الْوَاوِ:
وَمَنْ يَقْتَرِبْ مِنَّا وَيُخْضِعْ نوؤه
…
وَلَا يَخْشَ ظُلْمًا مَا أَقَامَ وَلَا هَضْمًا
وَقَالُوا: كُلُّ هِجْرَةٍ لِغَرَضٍ دِينِيٍّ مِنْ: طَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ جِهَادٍ، أَوْ فِرَارٍ إِلَى بَلَدٍ يَزْدَادُ فِيهِ طَاعَةً، أَوْ قَنَاعَةً، وَزُهْدًا فِي الدُّنْيَا، أَوِ ابْتِغَاءَ رِزْقٍ طَيِّبٍ، فَهِيَ هِجْرَةٌ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَجْرُهُ واقع عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قِيلَ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَازِيَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ وَمَاتَ قَبْلَ الْقِتَالِ فَلَهُ سَهْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْحَرْبَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يُحْرَمِ الْأَجْرَ لَمْ يُحْرَمِ الْغَنِيمَةَ. وَلَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا بَعْدَ الْحِيَازَةِ، فَالسَّهْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحِيَازَةِ، وَهَذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْنَمَ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ وَمَا دَخَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ، وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ كَمَا وَقَعَ أَجْرُ الَّذِي خَرَجَ مُهَاجِرًا فَمَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ دَارَ الْهِجْرَةِ.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ: غَفُورًا لِمَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ، رَحِيمًا بِوُقُوعِ أَجْرِهِ عَلَيْهِ وَمُكَافَأَتِهِ عَلَى هِجْرَتِهِ وَنِيَّتِهِ.