الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 26]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)
قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَاّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
نَقَّبَ فِي الْجَبَلِ وَالْحَائِطِ فَتَحَ فِيهِ مَا كَانَ مُنْسَدًّا، وَالتَّنْقِيبُ التَّفْتِيشُ، وَمِنْهُ فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ «1» وَنَقُبَ عَلَى الْقَوْمِ يَنْقُبُ إِذَا صَارَ نَقِيبًا، أَيْ يُفَتِّشُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَهِيَ النِّقَابَةُ. وَالنِّقَابُ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ، وَالنُّقَبُ الْجَرَبُ وَاحِدُهُ النُّقْبَةُ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى نُقْبٍ عَلَى وَزْنِ ظُلْمٍ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مُتَبَذِّلًا تَبْدُو مَحَاسِنُهُ
…
يَضَعُ الْهِنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ
أَيِ الْجَرَبِ. وَالنُّقْبَةُ سَرَاوِيلُ بِلَا رِجْلَيْنِ، وَالْمَنَاقِبُ الْفَضَائِلُ الَّتِي تَظْهَرُ بِالتَّنْقِيبِ. وَفُلَانَةٌ حَسَنَةُ النُّقْبَةِ النقاب أَيْ جَمِيلَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّقِيبَ فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلِيمٍ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:
بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، يَعْنِي أَنَّهُمُ اخْتَارُوهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: هُوَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ وَالتَّدْبِيرُ، عَزَّرَ الرَّجُلَ قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: أَثْنَى عَلَيْهِ بِخَيْرٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
(1) سورة ق: 50/ 36.
عَظَّمَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رَدَّهُ عَنِ الظُّلْمِ: وَمِنْهُ التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ. قَالَ الْقَطَامِيُّ:
أَلَا بَكَرَتْ مَيٌّ بِغَيْرِ سَفَاهَةٍ
…
تُعَاتِبُ وَالْمَوْدُودُ يَنْفَعُهُ الْعَزْرُ
أَيِ الْمَنْعُ. وَقَالَ آخَرُ فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ:
وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ
…
وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ فِي النَّدِيِّ
وَعَلَى هَذِهِ النُّقُولُ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ. وَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ بَابِ الْمُتَوَاطِئِ قَالَ: عَزَّرْتُمُوهُ نَصَرْتُمُوهُ وَمَنَعْتُمُوهُ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ، وَمِنْهُ التَّعْزِيرُ وَهُوَ التَّنْكِيلُ وَالْمَنْعُ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْفَسَادِ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ، قَالَ: التَّعْزِيرُ الرَّدْعُ، عَزَّرْتُ فُلَانًا فَعَلْتُ بِهِ مَا يَرْدَعُهُ عَنِ الْقَبِيحِ، مِثْلَ نَكَّلْتُ بِهِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ عَزَّرْتُمُوهُمْ رَدَدْتُمْ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ إِلَّا إِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي عَزَّرْتُمُوهُمْ أَيْ عَزَّرْتُمْ بِهِمْ.
طَلَعَ الشَّيْءُ بَرَزَ وَظَهَرَ، وَاطَّلَعَ افْتَعَلَ مِنْهُ. غرا بالشيء غراء، وغر ألصق بِهِ وَهُوَ الْغِرَى الَّذِي يُلْصَقُ بِهِ. وَأَغْرَى فُلَانٌ زَيْدًا بِعَمْرٍو وَلَّعَهُ بِهِ، وَأَغْرَيْتُ الْكَلْبَ بِالصَّيْدِ أَشْلَيْتُهُ.
وَقَالَ النَّضْرُ: أَغْرَى بَيْنَهُمْ هَيَّجَ. وَقَالَ مُوَرِّجٌ: حَرَّشَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
أَلْصَقَ بِهِمُ. الصُّنْعُ: الْعَمَلُ. الْفَتْرَةُ: هِيَ الِانْقِطَاعُ، فَتَرَ الْوَحْيُ أَيِ انْقَطَعَ. وَالْفَتْرَةُ السُّكُونُ بَعْدَ الْحَرَكَةِ فِي الْأَجْرَامِ، وَيُسْتَعَارُ لِلْمَعَانِي. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكَ فَتْرَةٌ وَالْهَاءُ فِيهِ لَيْسَتْ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، بَلْ فَتْرَةٌ مُرَادِفٌ لِلْفُتُورِ. وَيُقَالُ: طَرْفٌ فَاتِرٌ إِذَا كَانَ سَاجِيًا. الْجَبَّارُ: فَعَّالٌ مِنَ الْجَبْرِ، كَأَنَّهُ لِقُوَّتِهِ وَبَطْشِهِ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى مَا يَخْتَارُونَهُ. وَالْجَبَّارَةُ النَّخْلَةُ الْعَالِيَةُ الَّتِي لَا تُنَالُ بِيَدٍ، وَاسْمُ الْجِنْسِ جَبَّارٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
سَوَابِقُ جَبَّارٍ أَثِيثٍ فُرُوعُهُ
…
وَعَالَيْنَ قُنْوَانًا مِنَ الْبُسْرِ أَحْمَرَا
التِّيهُ فِي اللُّغَةِ: الْحَيْرَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: تَاهَ، يَتِيهُ، وَيَتُوهُ، وَتَوَّهْتُهُ، وَالتَّاءُ أَكْثَرُ، وَالْأَرْضُ التَّوْهَاءُ الَّتِي لَا يُهْتَدَى فِيهَا، وَأَرْضٌ تِيهٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: التِّيهُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ إِلَى غَيْرِ مَقْصُودٍ. الْأَسَى: الْحُزْنُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَسَى يَأْسَى. وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِذِكْرِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ «1» ثُمَّ ذَكَرَ وَعْدَهُ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ عليه إِذْ كَفَّ أَيْدِيَ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ، ذَكَّرَهُمْ بِقِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، وَوَعْدِهِ لَهُمْ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، فَنَقَضُوا الْمِيثَاقَ وَهَمُّوا بِقَتْلِ الرَّسُولِ، وَحَذَّرَهُمْ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ أَنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. وَبَعْثُ النُّقَبَاءِ قِيلَ: هُمُ الْمُلُوكُ بُعِثُوا فِيهِمْ يُقِيمُونَ الْعَدْلَ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَالنَّقِيبُ: كَبِيرُ الْقَوْمِ الْقَائِمُ بِأُمُورِهِمْ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ عَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ فِي أَنْ بَعَثَ لِأَعْدَائِهِمْ هَذَا الْعَدَدَ مِنَ الْمُلُوكِ قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ: مَا وَفَّى مِنْهُمْ إِلَّا خَمْسَةٌ: دَاوُدُ.
وَسُلَيْمَانُ ابْنُهُ، وَطَالُوتُ، وَحَزْقِيلُ، وَابْنُهُ وَكَفَرَ السَّبْعَةُ وَبَدَّلُوا وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَخَرَجَ خِلَالَ الِاثْنَيْ عَشَرَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ جَبَّارًا كُلُّهُمْ يَأْخُذُ الْمُلْكَ بِالسَّيْفِ، وَيَعْبَثُ فِيهِمْ، وَالْبَعْثُ: مِنْ بَعْثِ الْجُيُوشِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ وَهُوَ إِرْسَالُهُمْ وَالنُّقَبَاءُ الرُّسُلُ جَعَلَهُمُ اللَّهُ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ كُلُّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ إِلَى سِبْطٍ.
وَقِيلَ: الْمِيثَاقُ هُنَا وَالنُّقَبَاءُ هُوَ مَا جَرَى لِمُوسَى مَعَ قَوْمِهِ فِي جِهَادِ الْجَبَّارِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِمِصْرَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَرِيحَا أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانَ يَسْكُنُهَا الْكُفَّارُ الْكَنْعَانِيُّونَ الْجَبَابِرَةُ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي كَتَبْتُهَا لَكُمْ دَارًا وَقَرَارًا فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا، وَجَاهِدُوا مَنْ فِيهَا، وَإِنِّي نَاصِرُكُمْ. وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا يَكُونُ كَفِيلًا عَلَى قَوْمِهِ بِالْوَفَاءِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ تَوْثِقَةً عَلَيْهِمْ، فَاخْتَارَ النُّقَبَاءَ، وَأَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِهِ النُّقَبَاءُ، وَسَارَ بِهِمْ فَلَمَّا دَنَا مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ بَعَثَ النُّقَبَاءَ يَتَجَسَّسُونَ فَرَأَوْا أَجْرَامًا عِظَامًا وَقُوَّةً وَشَوْكَةً، فَهَابُوا وَرَجَعُوا وَحَدَّثُوا قَوْمَهُمْ، وَقَدْ نَهَاهُمْ مُوسَى أَنْ يُحَدِّثُوهُمْ، فَنَكَثُوا الْمِيثَاقَ، إِلَّا كَالَبَ بْنَ يُوقَنَّا مِنْ سِبْطِ يُهُودَا، وَيُوشِعَ بْنِ نُونَ مِنْ سِبْطِ إفرائيم بْنِ يُوسُفَ وَكَانَا مِنَ النُّقَبَاءِ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ فِي الْمُحَبَّرِ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِأَلْفَاظٍ لَا تَنْضَبِطُ حُرُوفُهَا وَلَا شَكْلُهَا، وَذَكَرَهَا غَيْرُهُ مُخَالِفَةً فِي أَكْثَرِهَا لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ لَا ينضبط أَيْضًا. وَذَكَرُوا مِنْ خَلْقِ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارِينَ وَعِظَمِ أَجْسَامِهِمْ وَكِبَرِ قَوَالِبِهِمْ مَا لَا يَثْبُتُ بِوَجْهٍ، قَالُوا: وَعَدَدُ هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءِ كَانَ بِعَدَدِ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ السَّبْعِينَ رُجُلًا وَالْمَرْأَتَيْنِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَسَمَّاهُمْ: النُّقَبَاءَ.
(1) سورة المائدة: 5/ 7.
وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ أَيْ بِالنَّصْرِ وَالْحِيَاطَةِ. وَفِي هَذِهِ الْمَعِيَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الِاعْتِنَاءِ وَالنُّصْرَةِ، وَتَحْلِيلِ مَا شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا يَأْتِي بَعْدُ، وَضَمِيرُ الْخِطَابِ هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: هُوَ خِطَابٌ لِلنُّقَبَاءِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ لِانْسِحَابِ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اللَّامُ فِي لَئِنْ أَقَمْتُمْ هِيَ الْمُؤْذِنَةُ بِالْقَسَمِ وَالْمُوَطِّئَةُ بِمَا بَعْدَهَا، وَبَعْدَ أَدَاةِ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ مَحْذُوفًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَأُكَفِّرَنَّ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: وَبَعَثْنَا وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ يَكُونَانِ جُمْلَتَيِ اعْتِرَاضٍ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَهَذَا الْجَوَابُ يَعْنِي لَأُكَفِّرَنَّ، سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ جَمِيعًا انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ لَا يَسُدُّ لَأُكَفِّرَنَّ مَسَدَّهُمَا، بَلْ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ فَقَطْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَالزَّكَاةُ هُنَا مَفْرُوضٌ مِنَ الْمَالِ كَانَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَعْطَيْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ كُلَّ مَا فِيهِ زَكَاةٌ لَكُمْ حَسْبَمَا نُدِبْتُمْ إِلَيْهِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. والأول هو الرَّاجِحُ.
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي، الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِجَمِيعِ ما جاؤوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدَّمَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ تَشْرِيفًا لَهُمَا، وَقَدْ عُلِمَ وَتَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عَمَلٌ إِلَّا بِالْإِيمَانِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: كَانَ الْيَهُودُ مُقِرِّينَ بِحُصُولِ الْإِيمَانِ مَعَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَكَانُوا مُكَذِّبِينَ بَعْضَ الرُّسُلِ، فَذَكَرَ بَعْدَهُمَا الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ لَا تَحْصُلُ نَجَاةٌ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِهِمْ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِرُسْلِي بِسُكُونِ السِّينِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: وَعَزَرْتُمُوهُمْ خَفِيفَةَ الزَّايِ.
وَقَرَأَ فِي الْفَتْحِ: وَتُعَزِّرُوهُ «1» بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الزَّايِ، وَمَصْدَرُهُ الْعَزْرُ.
وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا: إِيتَاءُ الزَّكَاةِ هُوَ فِي الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْقَرْضُ هُوَ فِي الْمَنْدُوبِ.
وَنَبَّهَ عَلَى الصَّدَقَاتِ الْمَنْدُوبَةِ بِذِكْرِهَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَجْمُوعِ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا لِمَوْقِعِهَا مِنَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ جَاءَ إِقْرَاضًا لَكَانَ صَوَابًا، أُقِيمَ الِاسْمُ هُنَا مَقَامَ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً «2» لَمْ يَقُلْ بِتَقْبِيلٍ ولا إنباتا
(1) سورة الفتح: 48/ 9.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 37.
انْتَهَى. وَقَدْ فُسِّرَ هَذَا الْإِقْرَاضُ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ، وَبِالزَّكَاةِ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ تَكْرَارٌ. وَوَصَفَهُ بِحَسَنٍ إِمَّا لِأَنَّهُ لَا يُتْبَعُ بِمَنٍّ وَلَا أَذًى، وَإِمَّا لِأَنَّهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ.
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ: رَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْمَشْرُوطَةِ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ، وَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى إِزَالَةِ الْعِقَابِ، وَإِدْخَالِ الْجَنَّاتِ، وَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ.
فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ وَالشَّرْطِ الْمُؤَكَّدِ فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ. وَسَوَاءُ السَّبِيلِ وَسَطُهُ وَقَصْدُهُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْقَصْدِ، وَهُوَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ. وَتَخْصِيصُ الْكُفْرِ بِتَعْدِيَةِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ ضَلَالًا عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الشَّرْطِ الْمُؤَكَّدِ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ الْأَمِينِ الْعَظِيمِ أَفْحَشُ وَأَعْظَمُ، إِذْ يُوجِبُ أَخْذُ الْمِيثَاقِ الْإِيفَاءَ بِهِ، لَا سِيَّمَا بَعْدَ هَذَا الْوَعِيدِ عِظَمُ الْكُفْرِ هُوَ بِعِظَمِ النِّعْمَةِ الْمَكْفُورَةِ.
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
لَعَنَّاهُمْ أَيْ طَرَدْنَاهُمْ وَأَبْعَدْنَاهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ قَالَهُ: عَطَاءٌ وَالزَّجَّاجُ. أَوْ عذبناهم بالمسح قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ كَمَا قَالَ: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ «1» أَيْ نَمْسَخَهُمْ كَمَا مَسَخْنَاهُمْ قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَمُقَاتِلٌ: أَوْ عَذَّبْنَاهُمْ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
نَقَضُوا الْمِيثَاقَ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ مُوسَى وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَتَضْيِيعِ الْفَرَائِضِ.
وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَافِيَةً جَافَّةً. وَقِيلَ: غَلِيظَةً لَا تَلِينُ.
وَقِيلَ: مُنْكِرَةً لَا تَقْبَلُ الْوَعْظَ، وَكُلُّ هَذَا مُتَقَارِبٌ. وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ غِلَظُهُ وَصَلَابَتُهُ حَتَّى لَا يَنْفَعِلَ لِخَيْرٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ: قَاسِيَةً اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَسَا يَقْسُو. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: قَسِيَّةً بِغَيْرِ أَلِفٍ وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهِيَ فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَشَاهِدٍ وَشَهِيدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ:
هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَعْنَى الْقَسْوَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ كَالْقَسِيَّةِ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَهِيَ الَّتِي خَالَطَهَا غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ، وَكَذَلِكَ القلوب لم يصل الْإِيمَانُ بَلْ خَالَطَهَا الْكُفْرُ وَالْفَسَادُ. قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ الطائي:
(1) سورة النساء: 4/ 47.
لَهُمْ صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلَاحِ كَمَا
…
صَاحَ الْقَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيَارِيفِ
وَقَالَ آخَرُ:
فَمَا زَادُونِي غَيْرَ سَحْقِ عِمَامَةٍ
…
وَخَمْسَ مِيءٍ فِيهَا قَسِيٌّ وَزَائِفُ
قَالَ الْفَارِسِيُّ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُعَرَّبَةٌ وَلَيْسَتْ بِأَصْلٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ قَسِيَّةً أَيْ رَدِيئَةً مَغْشُوشَةً مِنْ قَوْلِهِمْ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ، وَهُوَ مِنَ الْقَسْوَةِ، لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْخَالِصَتَيْنِ فِيهِمَا لِينٌ، وَالْمَغْشُوشُ فِيهِ يُبْسٌ وَصَلَابَةٌ. وَالْقَاسِي وَالْقَاسِحُ بِالْحَاءِ أَخَوَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْيُبْسِ وَالصَّلَابَةِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: سُمِّيَ الدِّرْهَمُ الزَّائِفُ قَسِيًّا لِشِدَّتِهِ بِالْغِشِّ الَّذِي فِيهِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْقَاسِي وَالْقَاسِحُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى. وَقَوْلُ الْمُبَرِّدِ: مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْفَارِسِيِّ، لِأَنَّ الْمَعْهُودَ جَعْلُهُ عَرَبِيًّا مِنَ الْقَسْوَةِ، وَالْفَارِسِيُّ جَعَلَهُ مُعَرَّبًا دَخِيلًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِهَا.
وَقَرَأَ الْهَيْصَمُ بن شراح: قُسِيَّةً بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الياء، كحيى. وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْقَافِ إِتْبَاعًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَذَلْنَاهُمْ وَمَنَعْنَاهُمُ الْأَلْطَافَ حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، أَوْ أَمْلَيْنَا لَهُمْ وَلَمْ نُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ حَتَّى قَسَتْ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقَسْوَةَ فِي قُلُوبِهِمْ.
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أَيْ يُغَيِّرُونَ مَا شَقَّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحْكَامِهَا، كَآيَةِ الرَّجْمِ بَدَّلُوهَا لِرُؤَسَائِهِمْ بِالتَّحْمِيمِ وَهُوَ تَسْوِيدُ الْوَجْهِ بِالْفَحْمِ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا:
التَّحْرِيفُ بِالتَّأْوِيلِ لَا بِتَغْيِيرِ الْأَلْفَاظِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِهَا وَلَا يُمْكِنُ. أَلَا تَرَاهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ؟ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَحْرِيفُهُمُ الْكَلِمَ هُوَ تَغْيِيرُهُمْ صِفَةَ الرَّسُولِ أَزَالُوهَا وَكَتَبُوا مَكَانَهَا صِفَةً أُخْرَى فَغَيَّرُوا الْمَعْنَى وَالْأَلْفَاظَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ هُوَ التَّغْيِيرُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى التَّوْرَاةِ عَلِمَ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا جَاءَتْ بَيَانًا لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، وَلَا قَسْوَةَ أَشَدُّ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَغْيِيرِ وَحْيِهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالنَّخَعِيُّ الْكَلَامَ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: الكلم بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْكَلِمَ بِفَتْحِ الْكَافِ.
وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وَسُوءِ فِعْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ ذُكِّرُوا بِشَيْءٍ فَنَسُوهُ وَتَرَكُوهُ، وَهَذَا الْحَظُّ مِنَ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا غَيَّرُوا مَا غَيَّرُوا مِنَ التَّوْرَاةِ اسْتَمَرُّوا عَلَى تِلَاوَةِ مَا غَيَّرُوهُ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَقِيلَ: أَنْسَاهُمْ نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ بِسَبَبِ مَعَاصِيهِمْ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قَدْ يَنْسَى الْمَرْءُ بَعْضَ الْعِلْمِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي
…
فَأَوْمَأَ لِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي
وَقِيلَ: تَرَكُوا نَصِيبَهُمْ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَبَيَانِ نَعْتِهِ.
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أَيْ هَذِهِ عَادَتُهُمْ وَدَيْدَنُهُمْ مَعَكَ، وَهُمْ عَلَى مَكَانِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ خِيَانَةِ الرُّسُلِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ. فَهُمْ لَا يَزَالُونَ يُخَوِّفُونَكَ وَيَنْكُثُونَ عُهُودَكَ، وَيُظَاهِرُونَ عَلَيْكَ أَعْدَاءَكَ، وَيَهُمُّونَ بِالْقَتْلِ بِكَ، وَأَنْ يُسِمُّوكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخَائِنَةُ مَصْدَرًا كَالْعَافِيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ عَلَى خِيَانَةٍ، أَوِ اسْمَ فَاعِلٍ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَرَاوِيَةٍ أَيْ خَائِنٍ، أَوْ صِفَةً لِمُؤَنَّثٍ أَيْ قَرْيَةٍ خَائِنَةٍ، أَوْ فِعْلَةٍ خَائِنَةٍ، أَوْ نَفْسٍ خَائِنَةٍ.
وَالظَّاهِرُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ مِنَ الْأَشْخَاصِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالْمُسْتَثْنَوْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابن عطية: ويحتمل إن يكون فِي الْأَفْعَالِ أَيْ: إِلَّا فِعْلًا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَلَا تَطَّلِعُ فِيهِ عَلَى خِيَانَةٍ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً «1» وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّ الْقَسْوَةَ زَالَتْ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ.
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ظَاهِرُهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالصَّفْحُ عَنْهُمْ جَمِيعِهُمْ، وَذَلِكَ بَعْثٌ عَلَى حُسْنِ التَّخَلُّقِ مَعَهُمْ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
يَجُوزُ أَنْ يعفو عنهم في غدرة فَعَلُوهَا مَا لَمْ يَنْصِبُوا حَرْبًا، وَلَمْ يَمْتَنِعُوا مِنْ أَدَاءِ جِزْيَةٍ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ، فَلَا تُؤَاخِذْهُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْمُسْتَثْنَيْنَ. وَقِيلَ: هَذَا الْأَمْرُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «2» . وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً «3» وَفُسِّرَ قَوْلُهُ: يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، بِالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَبِالَّذِينِ أَحْسَنُوا عَمَلَهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَبِالْمُسْتَثْنَيْنَ وَهُمُ الَّذِينَ مَا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَبِالنَّبِيِّ عليه السلام لِأَنَّهُ الْمَأْمُورُ فِي الْآيَةِ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ.
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ. الظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: أَخَذْنَا وَأَنَّ الضمير في ميثاقهم عائد عَلَى الْمَوْصُولِ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ «4» وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ مِنَ النَّصَارَى مِيثَاقَ أنفسهم وهو
(1) سورة المائدة: 5/ 13.
(2)
سورة التوبة: 9/ 29.
(3)
سورة الأنفال: 8/ 58.
(4)
سورة المائدة: 5/ 12.
الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالرُّسُلِ وَبِأَفْعَالِ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي مِيثَاقَهُمْ عَائِدٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَكُونُ مَصْدَرًا شَبِيهًا أَيْ: وَأَخَذْنَا مِنَ النَّصَارَى مِيثَاقًا مِثْلَ مِيثَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: وَمِنَ الَّذِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْهُمْ، مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ «5» مِنْهُمْ أي من اليهود، ومن الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ مُسْتَأْنَفًا، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِلْفَصْلِ، وَلِتَهْيِئَةِ الْعَامِلِ لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ وَقَطْعِهِ عَنْهُ دُونَ ضَرُورَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أُخِذَ عَلَى النَّصَارَى الْمِيثَاقُ كَمَا أُخِذَ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَتَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِمْ بِالْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ، وَبِكُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ. وَفِي قَوْلِهِ:
قَالُوا إِنَّا نَصَارَى، تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَزَجْرٌ عَمَّا ادَّعَوْهُ مِنْ أَنَّهُمْ ناصر ودين اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ، إِذْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُجَرَّدَ دَعْوَى لَا حَقِيقَةً. وَحَيْثُ جَاءَ النَّصَارَى مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ إِلَى أَنَّهُمْ قَالُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعَلَمِ لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ الَّذِي قَصَدُوهُ مِنَ النَّصْرِ، كَمَا صَارَ الْيَهُودُ عَلَمًا لم يحلظ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: هُدْنَا إِلَيْكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلَّا قِيلَ:
وَمَنِ النَّصَارَى؟ (قُلْتُ) : لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَمَّوْا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمُ ادِّعَاءً لِنُصْرَةِ اللَّهِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِعِيسَى: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدُ إِلَى نَسْطُورِيَّةَ وَيَعْقُوبِيَّةَ وَمَلْكَانِيَّةَ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ قِيلَ: سُمُّوا نَصَارَى لِأَنَّهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ بِالشَّامِ تُسَمَّى نَاصِرَةً، وَقَوْلُهُ: وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِعِيسَى نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ الْقَائِلُ لِذَلِكَ هُمُ الْحَوَارِيُّونَ، وَهُمْ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ كُفَّارٌ، وقد أَوْضَحَ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وعند غيره مُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا هُمْ، إِنَّمَا اخْتَلَفَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَدَّعِي تَبَعِيَّتَهُمْ.
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فِي مَكْتُوبِ الْإِنْجِيلِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَالْحَظُّ هُوَ الْإِيمَانُ بِهِ، وتنكيرا لحظ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَظٌّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ، وَخُصَّ هَذَا الْوَاحِدُ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَكْثَرَ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُهِمُّ.
فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الضَّمِيرُ فِي بَيْنَهُمْ يُعُودُ عَلَى النَّصَارَى قَالَهُ الرَّبِيعُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّصَارَى مِنْهُمْ وَالنَّسْطُورِيَّةُ وَالْيَعْقُوبِيَّةُ وَالْمَلْكَانِيَّةُ، كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ تُعَادِي الْأُخْرَى. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَيْ: بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءٌ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
(5) سورة المائدة: 5/ 13. [.....]
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ هَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، إِذْ مُوجَبُ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا هُوَ الْخُلُودُ فِي النار.
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: أَوَّلُ مَا نَزَلْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، ثُمَّ نَزَلَ سَائِرُ السُّورَةِ بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَعُمُّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. فَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ خَاصَّةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا
رَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَتَى الْيَهُودُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ عَنِ الرَّجْمِ، فَاجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ فَقَالَ:«أَيُّكُمْ أَعْلَمُ» ؟
فَأَشَارُوا إِلَى ابْنِ صُورِيَّا فَقَالَ: «أَنْتَ أَعْلَمُهُمْ» قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ قَالَ: «أَنْتَ أَعْلَمُهُمْ» ؟
قَالَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، قَالَ: «فَنَاشَدْتُكَ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالَّذِي رَفَعَ الطُّورَ فَنَاشَدَهُ بِالْمَوَاثِيقِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَخَذَهُ أَفْكَلٌ، فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَنَا نِسَاءٌ حِسَانٌ فَكَثُرَ فِينَا الْقَتْلُ، فَاخْتَصَرْنَا فَجَلَدْنَا مِائَةً مائة، وحلقنا الرؤوس، وخالفنا بين الرؤوس على الدبرات أَحْسَبُهُ قَالَ: الْإِبِلِ. قَالَ: فأنزل الله يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا.
وَقِيلَ:
الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يُخْفُونَ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالرَّجْمَ وَنَحْوَهُ. وَأَكْثَرُ نَوَازِلِ الْإِخْفَاءِ إِنَّمَا نَزَلَتْ لِلْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجَاوِرِي الرَّسُولِ فِي مُهَاجَرِهِ. وَالْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ:
رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأُضِيفَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ إِعْلَامَهُ بِمَا يُخْفُونَ مِنْ كِتَابِهِمْ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَا يَصْحَبُ الْقُرَّاءَ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْكِتَابِ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ، وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ أَيْ: مِمَّا يُخْفُونَ لَا يُبَيِّنُهُ إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، وَلَا يَفْضَحُكُمْ بِذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ تَخْفِيفِ مَا كَانَ شُدِّدَ عَلَيْهِمْ، وَتَحْلِيلِ مَا كَانَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِهَا، وَهَذَا الْمَتْرُوكُ الَّذِي لَا يُبَيَّنُ هُوَ فِي مَعْنَى افْتِخَارِهِمْ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَضْحُهُمْ بِهِ وَتَكْذِيبُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَاعِلَ يُبَيِّنُ وَيَعْفُو عَائِدٌ عَلَى رَسُولُنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ قِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ سَمَّاهُ نُورًا لِكَشْفِ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ، أَوْ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْإِعْجَازِ. وَقِيلَ: النُّورُ الرَّسُولُ. وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: النُّورُ مُوسَى، وَالْكِتَابُ الْمُبِينُ التَّوْرَاةُ. وَلَوِ اتَّبَعُوهَا حَقَّ الِاتِّبَاعِ لَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِذْ هِيَ آمِرَةٌ بِذَلِكَ مُبَشِّرَةٌ بِهِ.
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ أَيْ رِضَا اللَّهِ سُبُلُ السَّلَامِ طُرُقُ النَّجَاةِ،
وَالسَّلَامَةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعُودُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الرَّسُولِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ على الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: سُبُلُ السَّلَامِ، قِيلَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسُبُلُهُ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَهُ. وَقِيلَ:
طُرُقُ الْجَنَّةِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسَلَّامٌ، وَحُمَيْدٌ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: بِهُ اللَّهُ بِضَمِّ الْهَاءِ حَيْثُ وَقَعَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ شِهَابٍ: سُبْلَ سَاكِنَةَ الْبَاءِ.
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، أَيْ بِتَمْكِينِهِ وَتَسْوِيغِهِ. وَقِيلَ: ظُلُمَاتُ الْجَهْلِ وَنُورُ الْعِلْمِ.
وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هُوَ دِينُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ. وَقِيلَ: طَرِيقُ الْجَنَّةِ. وقيل:
ريق الْحَقِّ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ كُلَّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَتُكَرَّرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْفِعْلُ فِيهَا مُسْنَدٌ إِلَيْهِ تَعَالَى.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ حَقِيقَةً، وَحَقِيقَةُ مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ، وَمَنْ كَانَ ابْنَ امْرَأَةٍ مَوْلُودًا مِنْهَا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَائِلُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَقَالَاتُهُمْ عَلَى أَنَّ مَعْبُودَهُمْ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ أَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ: الْأَبُ، وَالِابْنُ، وَالرُّوحُ أَيِ الْحَيَاةُ وَيُسَمُّونَهَا رُوحَ الْقُدُسِ. وَأَنَّ الِابْنَ لَمْ يَزَلْ مَوْلُودًا مِنَ الْأَبِ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَبُ وَالِدًا لِلِابْنِ، وَلَمْ تَزَلِ الرُّوحُ مُنْتَقِلَةً بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَاهُوتٌ وَنَاسُوتٌ أَيْ: إِلَهٌ وَإِنْسَانٌ. فَإِذَا قَالُوا: الْمَسِيحُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَقَدْ قَالُوا اللَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ القائلين هذا الْقَوْلِ فِرْقَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ يقولون: إن الكلمة اتخذت بِعِيسَى سَوَاءٌ قُدِّرَتْ ذَاتًا أَمْ صِفَةً. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْيَعْقُوبِيَّةَ مِنَ النَّصَارَى هِيَ الْقَائِلَةُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَكُلُّ طَوَائِفِهِمُ الثَّلَاثَةُ الْيَعْقُوبِيَّةُ، وَالْمَلْكَانِيَّةُ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ، يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالَّذِي يُقِرُّونَ بِهِ أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ إِلَهٌ. وَإِذَا اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّهُ إِلَهٌ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَنَّهُ اللَّهُ انْتَهَى. وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ نَصَارَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ مَنْ كَانَ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ فِيهِمْ، وَذَكَرَ لِي أَنَّ عِيسَى نَفْسَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَصَارَى الْأَنْدَلُسِ مَلْكِيَّةٌ.
قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَعَجَّبَ مِنْ
قَوْلِي وَقَالَ: إِذَا كُنْتَ أَنْتَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ قَادِرًا عَلَى أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ؟ فَاسْتَدْلَلْتُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فَرْطِ غَبَاوَتِهِ وَجَهْلِهِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ نَجْرَانَ، وَزَعَمَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ إِلَهُ الْأَرْضِ، وَاللَّهُ إِلَهُ السَّمَاءِ. وَمِنْ بَعْضِ اعْتِقَادَاتِ النَّصَارَى اسْتَنْبَطَ مَنْ تَسَتَّرَ بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا وَانْتَمَى إِلَى الصُّوفِيَّةِ حُلُولَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ، وَمَنْ ذَهَبَ مِنْ مَلَاحِدَتِهِمْ إِلَى الْقَوْلِ بِالِاتِّحَادِ وَالْوَحْدَةِ:
كَالْحَلَّاجِ، وَالشَّوْذِيِّ، وَابْنِ أَحْلَى، وَابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمُقِيمِ كَانَ بِدِمَشْقَ، وَابْنِ الْفَارِضِ. وَأَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ كَابْنِ سَبْعِينَ، وَالتُّسْتَرِيِّ تِلْمِيذِهِ، وَابْنِ مُطَرِّفٍ الْمُقِيمِ بِمُرْسِيَةَ، وَالصَّفَّارِ الْمَقْتُولِ بِغِرْنَاطَةَ، وَابْنِ اللَّبَّاجِ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْمُقِيمُ كَانَ بِلُورَقَةَ. وَمِمَّنْ رَأَيْنَاهُ يُرْمَى بِهَذَا الْمَذْهَبِ الْمَلْعُونِ الْعَفِيفُ التِّلِمْسَانِيُّ وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ، وَابْنُ عَيَّاشٍ الْمَالِقِيُّ الْأَسْوَدُ الْأَقْطَعُ الْمُقِيمُ كَانَ بِدِمَشْقَ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمُؤَخَّرِ الْمُقِيمُ كَانَ بِصَعِيدِ مِصْرَ، وَالْأَيْكِيُّ الْعَجَمِيُّ الَّذِي كَانَ تَوَلَّى الْمَشْيَخَةَ بَخَانِقَاهِ سَعِيدِ السعداء بالقاهر مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، وَأَبُو يَعْقُوبَ بْنُ مُبَشِّرٍ تِلْمِيذُ التُّسْتَرِيِّ الْمُقِيمُ كَانَ بِحَارَةِ زُوَيْلَةَ. وَإِنَّمَا سَرَدْتُ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ نُصْحًا لِدِينِ اللَّهِ يَعْلَمُ اللَّهُ ذَلِكَ وَشَفَقَةً عَلَى ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِيَحْذَرُوا فَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَرُسُلَهُ وَيَقُولُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَيُنْكِرُونَ الْبَعْثَ. وَقَدْ أُولِعَ جَهَلَةٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي لِلتَّصَوُّفِ بِتَعْظِيمِ هَؤُلَاءِ وَادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ صَفْوَةُ اللَّهِ وَأَوْلِيَاؤُهُ، وَالرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى وَالْحُلُولِيَّةِ وَالْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ هُوَ مِنْ عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هو المسيح فِرْقَةٌ مِنَ النَّصَارَى، وَكُلُّ فِرَقِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمْ يَجْعَلُ لِلْمَسِيحِ حَظًّا مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قِيلَ: كَانَ فِي النَّصَارَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ يُؤَدِّي إِلَيْهِ حَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ يَخْلُقُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُدَبِّرُ الْعَالَمَ.
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ. وَالْفَاءُ فِي: فَمَنْ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ تَضَمَّنَتْ كَذِبَهُمْ فِي مَقَالَتِهِمْ التَّقْدِيرُ: قُلْ كَذَبُوا، وَقُلْ لَيْسَ كَمَا قَالُوا فَمَنْ يَمْلِكُ، وَالْمَعْنَى: فَمَنْ يَمْنَعُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ شَيْئًا؟ أَيْ: لَا أَحَدَ يَمْنَعُ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ مَنِ ادَّعَوْهُ إِلَهًا مِنَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَأُمَّهُ عَبْدَانِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى رَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهُمَا، بَلْ تَنْفُذُ فِيهِمَا إرادة الله تعالى، ومن تَنْفُذُ فِيهِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَعَطَفَ عَلَيْهِمَا: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، عَطْفَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِيَكُونَا قَدْ ذُكِرَا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالنَّصِّ عَلَيْهِمَا،
وَمَرَّةً بِالِانْدِرَاجِ فِي الْعَامِّ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَعَلُّقِ نَفَاذِ الْإِرَادَةِ فِيهِمَا.
وَلِيُعْلَمَ، أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ مَنْ فِي الْأَرْضِ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِهِمَا، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ أَنْ تَحِلَّ بِهِ الْحَوَادِثُ، وَأَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لَهَا.
وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْكَرَّامِيَّةِ.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَالْمَسِيحُ وَأُمُّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي الْأَرْضِ، فَهُمَا مَقْهُورَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، مَمْلُوكَانِ لَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ، وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ فَعَلَ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ ذَلِكَ الْمُلْكُ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يَشَاءُ.
يَخْلُقُ مَا يَشاءُ أَيْ إِنَّ خَلْقَهُ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ، بَلْ مَا تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ بإيجاده أو جده وَاخْتَرَعَهُ، فَقَدْ يُوجِدُ شَيْئًا لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى كَآدَمَ عليه السلام، وَأَوَائِلِ الْأَجْنَاسِ الْمُتَوَلِّدِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَقَدْ يَخْلُقُ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَقَدْ يَخْلُقُ مِنْ أُنْثَى لَا مِنْ ذَكَرٍ مَعَهَا كَالْمَسِيحِ. فَفِي قَوْلِهِ: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ مَخْلُوقَانِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى يخْلُقُ مَا يَشَاءُ كَخَلْقِ الطَّيْرِ عَلَى يَدِ عِيسَى مُعْجِزَةً، وَكَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكَمَةِ وَالْأَبْرَصِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تُنْسَبَ إِلَيْهِ وَلَا تُنْسَبَ إِلَى الْبَشَرِ الْمُجْرَى عَلَى يَدِهِ.
وَتَضَمَّنَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ أَنْ مَنْ كَانَ مَخْلُوقًا مَقْهُورًا بِالْمِلْكِ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ لَا يَكُونُ إِلَهًا.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقدم تفسير هذه لجملة، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْقُدْرَةَ عَقِيبَ الِاخْتِرَاعِ وَذِكْرِ الْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ.
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّ جَمِيعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالُوا عَنْ جَمِيعِهِمْ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ فِي الْكَلَامِ لَفٌّ وَإِيجَازٌ. وَالْمَعْنَى: وَقَالَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَنْ نَفْسِهَا خَاصَّةً: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، ويدل على ذلك، وَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ. وَالْبُنُوَّةُ هُنَا بُنُوَّةُ الْحَنَانِ وَالرَّأْفَةِ. وَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى إِسْرَائِيلَ أَنَّ أَوْلَادَكَ بِكْرِي فَضَلُّوا بِذَلِكَ. وَقَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، لَا يَصِحُّ. وَلَوْ صَحَّ مَا رَوَوْا، كَانَ مَعْنَاهُ بِكْرًا فِي التَّشْرِيفِ وَالنُّبُوَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُمْ: أَبْنَاءُ اللَّهِ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَأُقِيمَ هَذَا مَقَامَهُ أي: نحن أشياع الله ابْنَيِ اللَّهِ عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ، كَمَا قِيلَ لِأَشْيَاعِ أَبِي خُبَيْبٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْخُبَيْبِيُّونَ، وَكَمَا كَانَ يَقُولُ رَهْطُ مَسْلَمَةَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ، وَيَقُولُ أَقْرِبَاءُ الْمَلِكِ وَحَشَمُهُ: نَحْنُ الْمُلُوكُ. وَأَحِبَّاؤُهُ جَمْعُ حَبِيبٍ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَحْبُوبُوهُ، أُجْرِيَ مَجْرَى فَعِيلٍ مِنَ الْمُضَاعَفِ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ نَحْوَ: لَبِيبٍ وَأَلِبَّاءَ. وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: بَعْضُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ، فَنُسِبَ إِلَى الْجَمِيعِ لِأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضٍ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْجَمِيعِ. قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنُونَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ أَيْ: نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنْكُمْ لَهُ، يَفْخَرُونَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ عَيَّاشٍ: هُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ خَوَّفَهُمُ الرَّسُولُ عِقَابَ اللَّهِ فَقَالُوا: أَتُخَوِّفُنَا بِاللَّهِ وَنَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ؟
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَغَيْرَهُ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ السَّيِّدِ وَالْعَاقِبِ، خَاصَمُوا أَصْحَابَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَعَيَّرَهُمُ الصَّحَابَةُ بِالْكُفْرِ وَغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّمَا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْنَا كَمَا يَغْضَبُ الرَّجُلُ عَلَى وَلَدِهِ، نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. هَذَا قَوْلُ الْيَهُودِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى قَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ.
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ كَمَا زَعَمْتُمْ، فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ وَكَانُوا قَدْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ: نَحْنُ نَدْخُلُ النَّارَ فَنُقِيمُ فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا. وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَتْ مَنْزِلَتُكُمْ مِنْهُ فَوْقَ مَنْزِلَةِ الْبَشَرِ لَمَا عَذَّبَكُمْ، وَأَنْتُمْ قَدْ أَقْرَرْتُمْ أَنَّهُ يُعَذِّبُكُمْ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا بِمَسْخِ آبَائِهِمْ عَلَى تَعَدِّيهِمْ فِي السَّبْتِ، وَبِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَبِالتِّيهِ عَلَى امْتِنَاعِهِمْ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَبِافْتِضَاحِ مَنْ أَذْنَبَ مِنْهُمْ بِأَنْ يُصْبِحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ ذَنْبُهُ وَعُقُوبَتُهُ عَلَيْهِ فَتُنَفَّذُ فِيهِمْ، وَالْإِلْزَامُ بِكِلَا التَّعْذِيبَيْنِ صَحِيحٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِإِقْرَارِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَيَقَعُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلِوُقُوعِ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُ شَيْءٍ مِنْهُ. وَالِاحْتِجَاجُ بِمَا وَقَعَ أَقْوَى. وَخَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ التَّعْذِيبَيْنِ: الدُّنْيَوِيَّ، وَالْأُخْرَوِيَّ فِي كَلَامِهِ، وَأَشْرَبَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، وَحَرَّفَ التَّرْكِيبَ الْقُرْآنِيَّ عَلَى عَادَتِهِ، فَقَالَ: إِنْ صَحَّ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، فَلِمَ تُذْنِبُونَ وَتُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِكُمْ فَتُمْسَخُونَ، وَتَمَسَّكُمُ النَّارُ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ عَلَى زَعْمِكُمْ؟ وَلَوْ كُنْتُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ لَكُنْتُمْ مِنْ جِنْسِ الْأَبِ غَيْرَ فَاعِلِينَ لِلْقَبَائِحِ، وَلَا مُسْتَوْجَبِينَ لِلْعَذَابِ. وَلَوْ كُنْتُمْ أَحِبَّاءَهُ لَمَا عَصَيْتُمُوهُ، وَلَمَا عَاقَبَكُمُ انْتَهَى. وَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُمْ أَحِبَّاءَهُ لَمَا عَصَيْتُمُوهُ، أَنْ يَكُونَ أَحِبَّاؤُهُ جَمْعَ حَبِيبٍ بِمَعْنَى مُحِبٍّ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ لَا يَعْصِي مَنْ يُحِبُّهُ، بِخِلَافِ الْمَحْبُوبِ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْصِي مُحِبَّهُ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: النبوّة تَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ، وَالْحَقُّ مُنَزَّهٌ عَنْهَا، وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَجَانِسَيْنِ تَقْتَضِي الِاخْتِلَاطَ وَالْمُؤَانَسَةَ، وَالْحَقُّ
مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا لِلْقَدِيمِ، وَالْقَدِيمُ لَا بَعْضَ لَهُ، لِأَنَّ الْأَحَدِيَّةَ حَقُّهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ مَحَبَّةً.
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أَضْرَبَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ غَيْرِ إِبْطَالٍ لَهُ إِلَى اسْتِدْلَالٍ آخَرَ مِنْ ثُبُوتِ كَوْنِهِمْ بَشَرًا مِنْ بَعْضِ مَنْ خَلَقَ، فَهُمْ مُسَاوُونَ لِغَيْرِهِمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَالْحُدُوثِ، وَهُمَا يَمْنَعَانِ الْبُنُوَّةَ. فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَلِدُ بَشَرًا، وَالْأَبُ لَا يَخْلُقُ ابْنَهُ، فَامْتَنَعَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْبُنُوَّةُ، وَامْتَنَعَ بِتَعْذِيبِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَحِبَّاءَ اللَّهِ، فَبَطَلَ الْوَصْفَانِ اللَّذَانِ ادَّعَوْهُمَا.
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أَيْ يَهْدِيهِ لِلْإِيمَانِ فَيَغْفِرُ لَهُ.
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أَيْ يُوَرِّطُهُ فِي الْكُفْرِ فَيُعَذِّبُهُ، أَوْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَهُمْ أَهْلُ الطَّاعَةِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَهُمُ الْعُصَاةُ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ دَسِيسَةِ الِاعْتِزَالِ، لِأَنَّ مِنَ الْعُصَاةِ عِنْدَنَا مَنْ لَا يُعَذِّبُهُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ يَغْفِرُ لَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ يُوجِبُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، أَوْ يَمْنَعَهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ:
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلَهُ التَّصَرُّفُ التَّامُّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيِ الرُّجُوعُ بِالْحَشْرِ وَالْمَعَادِ.
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ والنصارى، والرسول هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ:
الْمُخَاطَبُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا هُمُ الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَيُرَجِّحُهُ مَا
رُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ: وَأَنَّ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَسَعْدُ بْنَ عُبَادَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ اتَّقُوا اللَّهَ، فو الله إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ.
وَيُبَيِّنُ لَكُمْ أَيْ يُوَضِّحُ لَكُمْ وَيُظْهِرُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ يُبَيِّنُ حذف اختصار، أَوْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ. قَبْلَ هَذَا، أَيْ: يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا كُنْتُمْ تُخْفُونَ، أَوْ يَكُونَ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ أَيْ: شَرَائِعَ الدِّينِ. أَوْ حذف اقتصارا واكتفاء بِذِكْرِ التَّبْيِينِ مُسْنَدًا إِلَى الْفَاعِلِ، دُونَ أَنْ يَقْصِدَ تَعَلُّقَهُ بِمَفْعُولٍ، وَالْمَعْنَى: يَكُونُ مِنْهُ التَّبْيِينُ وَالْإِيضَاحُ.
وَيُبَيِّنُ لَكُمْ هُنَا وَفِي الْآيَةِ قَبْلُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الحال. وعلى فترة متعلق بجاءكم، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى فُتُورٍ وَانْقِطَاعٍ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ.
وَالْفَتْرَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام قَالَ قَتَادَةُ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ
وَسِتُّونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: أَرْبَعُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ وَسِتُّونَ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ كَانَ بَيْنَ مِيلَادِ عِيسَى وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، بُعِثَ فِي أَوَّلِهَا ثَلَاثَةُ أَنْبِيَاءَ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «1» وَهُوَ شَمْعُونُ وَكَانَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَنْبِيَاءَ، وَاحِدٌ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ بَنِي عَبْسٍ وَهُوَ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ الَّذِي
قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ» .
وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ. وَقَالَ وَهْبٌ: سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وَعِشْرُونَ. وَقِيلَ: سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ هَذَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ. فَإِنْ كَانَا كَمَا ذَكَرَ وَجَبَ أَنْ لَا يُعْدَلَ عَنْهُ لِسِوَاهُ. وَهَذِهِ التَّوَارِيخُ نَقَلَهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنْ كُتُبِ الْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَتَحَرَّى النَّقْلَ. وَذَكَرَ ابْنُ سعد في الطبقات عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزَّمَخْشَرِيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَا: كَانَ بَيْنَ موسى وعيسى أَلْفُ سَنَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَأَلْفُ نَبِيٍّ، زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ دُونَ مَنْ أُرْسِلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ. وَالْمَعْنَى:
الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ عَلَى حِينِ انْطَمَسَتْ آثَارُ الْوَحْيِ، وَهُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِ لِيَعُدُّوهُ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحَ بَابٍ إِلَى الرَّحْمَةِ، وَيُلْزِمُهُمُ الْحُجَّةَ فَلَا يَعْتَلُّوا غَدًا بِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِمْ مَنْ يُنَبِّهُهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ. وَأَنْ تَقُولُوا: مفعول من أجله فقده الْبَصْرِيُّونَ: كَرَاهَةَ أَوْ حَذَارِ أَنْ تَقُولُوا. وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ: لِئَلَّا تَقُولُوا. وَيَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ.
فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ: لَا تَعْتَدُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ، أَيْ لِمَنْ أَطَاعَ بِالثَّوَابِ، وَنَذِيرٌ لِمَنْ عَصَى بِالْعِقَابِ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى وَلَا أَرْسَلَ بَعْدَهُ.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هَذَا عَامٌّ فَقِيلَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنِ الْهِدَايَةِ وَالضَّلَالِ.
وَقِيلَ: مِنَ الْبَعْثَةِ وَإِمْسَاكِهَا. وَالْأَوْلَى الْعُمُومُ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَا ذَكَرُوا.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ تَمَرُّدَ أَسْلَافِ الْيَهُودِ عَلَى مُوسَى، وعصيانهم إياهم، مَعَ تَذْكِيرِهِ إِيَّاهُمْ نِعَمَ اللَّهِ وَتَعْدَادِهِ لِمَا هُوَ الْعَظِيمُ مِنْهَا، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ هُمْ جَارُونَ مَعَكُمْ مَجْرَى أسلافهم مع
(1) سورة يس: 36/ 14.
مُوسَى. وَنِعْمَةُ اللَّهِ يُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ، وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى جِهَةِ إِعْلَامِهِمْ بِغَيْبِ كُتُبِهِمْ لِيَتَحَقَّقُوا نُبُوَّتَكَ. وَيَنْتَظِمُ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَلَقِّيهِمْ تِلْكَ النِّعَمِ بِالْكُفْرِ وَقِلَّةِ الطَّاعَةِ. وَعَدَّدَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ ثَلَاثًا: الْأُولَى: جَعْلُ أَنْبِيَاءَ فِيهِمْ وَذَلِكَ أَعْظَمُ الشَّرَفِ، إِذْ هُمُ الْوَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَالْمُبَلِّغُونَ عَنِ اللَّهِ شَرَائِعَهُ. قِيلَ: لَمْ يُبْعَثْ فِي أُمَّةٍ مَا بُعِثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: الْأَنْبِيَاءُ هُنَا هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ، وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا مِنْ بَعْدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمُوسَى ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ جَعَلَ لَا يُرَادُ بِهَا حَقِيقَةُ الْمَاضِي بِالْفِعْلِ، إِذْ بَعْضُهُمْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ خِطَابِ مُوسَى إِيَّاهُمْ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُخْلَقْ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِيهِمْ. الثَّانِيَةُ: جَعْلُهُمْ مُلُوكًا ظَاهِرُهُ الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا إِذْ جَعَلَ مِنْهُمْ مُلُوكًا، إِذِ الْمُلْكُ شَرَفٌ فِي الدُّنْيَا وَاسْتِيلَاءٌ، فَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ مِنْهُمْ قَادَةَ الْآخِرَةِ وَقَادَةَ الدُّنْيَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: وَجَعَلَكُمْ أَحْرَارًا تَمْلِكُونَ وَلَا تُمْلَكُونَ، إِذْ كُنْتُمْ خَدَمًا لِلْقِبْطِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهُمْ، فسمي استنقاذكم مُلْكًا. وَقَالَ قَوْمٌ: جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِمْ وَتَفْجِيرِ الْحَجَرِ لَهُمْ، وَكَوْنِ ثِيَابِهِمْ لَا تَبْلَى ولا تنسخ وَتَطُولُ كُلَّمَا طَالُوا، فَهُمْ مُلُوكٌ لِرَفْعِ هَذِهِ الْكُلَفِ عَنْهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُلُوكًا لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْخُدَّامَ وَاقْتَنَوُا الْأَرِقَّاءَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَتَادَةُ: وَإِنَّمَا قَالَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، لِأَنَّا كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَدَمَهُ آخَرُ مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقِبْطَ كَانُوا يَسْتَخْدِمُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَظَاهِرُ أَمْرِ بَنِي آدَمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُسَخِّرُ بعضا مدة تَنَاسَلُوا وَكَثُرُوا انْتَهَى.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ: مَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَامْرَأَةٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ. وَقِيلَ: مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَلَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ فَهُوَ مَلِكٌ. وَقِيلَ: مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَخَادِمٌ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وقال عكرمة: مَنْ مَلَكَ عِنْدَهُمْ خَادِمًا وَبَيْتًا دُعِيَ عِنْدَهُمْ مَلِكًا. وَقِيلَ: مِنْ لَهُ مَنْزِلٌ وَاسِعٌ فِيهِ مَاءٌ جَارٍ. وَقِيلَ: مَنْ لَهُ مَالٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَكَلُّفِ الْأَعْمَالِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ. وَقِيلَ: مُلُوكٌ لِقَنَاعَتِهِمْ، وَهُوَ مُلْكٌ خَفِيٌّ. وَلِهَذَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَنْفَدُ» .
وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا أَنْفُسَهُمْ وَذَادُوهَا عَنِ الْكُفْرِ وَمُتَابَعَةِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: مَلَكُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ التِّبْرِيزِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.
الثَّالِثَةُ: إِيتَاؤُهُ إِيَّاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ:
بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالْحَجَرِ، وَالْغَمَامِ. وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ الدَّارُ وَالزَّوْجَةُ وَالْخَادِمُ. وَقِيلَ: كَثْرَةُ
الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَا أُوتِيَ أَحَدٌ مِنَ النِّعَمِ فِي زَمَانِ قَوْمِ مُوسَى مَا أُوتُوا، خُصُّوا بِفَلْقِ الْبَحْرِ لَهُمْ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَإِخْرَاجِ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ مِنَ الْحَجَرِ، وَمَدِّ الْغَمَامِ فَوْقَهُمْ.
وَلَمْ تُجْمَعِ النُّبُوَّةُ وَالْمُلْكُ لِقَوْمٍ كَمَا جُمِعَا لَهُمْ، وَكَانُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ هُمُ الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَنْصَارُ دِينِهِ انْتَهَى. وَإِنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ خُصُوصَاتُ مَجْمُوعِ آيَاتِ مُوسَى.
فَلَفْظُ الْعَالِمِينَ مُقَيَّدٌ بِالزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ أمة محمد قَدْ أُوتِيَتْ مِنْ آيَاتِ محمد صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ:
قَدْ ظُلِّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغَمَامَةٍ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَكَلَّمَتْهُ الْحِجَارَةُ وَالْبَهَائِمُ، وَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ الشَّجَرَةُ، وَحَنَّ لَهُ الْجِذْعُ، ونبع الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَشَبِعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَلِيلِ الطَّعَامِ بِبَرَكَتِهِ، وَانْشَقَّ لَهُ الْقَمَرُ، وعد الْعُودُ سَيْفًا، وَعَادَ الْحَجَرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْخَنْدَقِ رَمْلًا مَهِيلًا
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ آيَاتِهِ الْعُظْمَى وَمُعْجِزَاتِهِ الْكُبْرَى. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ مُوسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ هِيَ تَوْطِئَةٌ لِنُفُوسِهِمْ، وَتَقَدُّمٌ إِلَيْهِمْ بِمَا يُلْقِي مِنْ أَمْرِ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ لِيَقْوَى جَأْشُهُمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ لَا يَخْذُلُهُ اللَّهُ، بَلْ يُعْلِيهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَيَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهِ، وَيَجْعَلُ لَهُ السَّلْطَنَةَ وَالْقَهْرَ عَلَيْهِ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَآتَاكُمْ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا شَرَحْنَاهُ، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى لَهُمْ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ خِطَابٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَانْتَهَى الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ لَمَا ذَكَّرَ مُوسَى قَوْمَهُ بِنِعَمِ اللَّهِ، ذَكَّرَ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ جَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُ آتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ الْعُمُومُ، فَإِنَّ اللَّهَ فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ مَا لَمْ يُسْبِغْهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ اخْتِيَارُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا ضُعِّفَ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ مِنَ خِطَابِ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ عَلَى قَانُونِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْخُرُوجِ مِنْ خِطَابٍ إِلَى خِطَابٍ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ لَا يُنَاسِبُ مَنْ خُوطِبَ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ ثَانِيًا، فَيُقَوِّي بِذَلِكَ تَوْجِيهَ الْخِطَابِ إِلَى الثَّانِي إِذَا حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: يَا قَوْمُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَكَذَا حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَهَذَا الضَّمُّ هُوَ عَلَى مَعْنَى الْإِضَافَةِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: قُلْ رَبُّ احْكُمْ بِالْحَقِّ بِالضَّمِّ وَهِيَ إِحْدَى اللُّغَاتِ الْخَمْسِ الْجَائِزَةِ فِي الْمُنَادَى المضاف لياء المتكلم.
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ الْمُقَدَّسَةُ الْمُطَهَّرَةُ، وَهِيَ
أَرِيحَا قَالَهُ: السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ، وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَوْضِعُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَقِيلَ: إِيلِيَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قَرَأْتُ فِي مُنَاجَاةِ مُوسَى قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ اخْتَرْتَ فَذَكَرَ أشياء ثم قالت: رَبَّ إِيلِيَا بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ قَالَ:
إِيلِيَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَبَيْتَانِ بَيْتُ اللَّهِ نَحْنُ نَزُورُهُ
…
وَبَيْتٌ بِأَعْلَى إِيلِيَاءَ مُشَرَّفُ
وَقِيلَ: الطُّورُ، رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: فِلَسْطِينُ وَدِمَشْقُ وَبَعْضُ الْأُرْدُنِّ. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الشَّامُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: صَعِدَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام جَبَلَ لُبْنَانٍ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: انْظُرْ فَمَا أَدْرَكَهُ بَصَرُكَ فَهُوَ مُقَدَّسٌ، وَهُوَ مِيرَاثٌ لِذُرِّيَّتِكَ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَعَرِيشِ مِصْرَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يُخْتَلَفُ أَنَّهَا مَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَعَرِيشِ مِصْرَ قَالَ: وَقَالَ الْأُدْفُوِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَالسِّيَرِ وَالْعُلَمَاءُ بِالْأَخْبَارِ أَنَّهَا مَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَعَرِيشِ مِصْرَ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ أَنَّ دِمَشْقَ هِيَ قَاعِدَةُ الْجَبَّارِينَ انْتَهَى.
وَالتَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ قِيلَ: مِنَ الْآفَاتِ. وَقِيلَ: مِنَ الشِّرْكِ، جُعِلَتْ مَسْكَنًا وَقَرَارًا لِلْأَنْبِيَاءِ، وَغَلَبَةُ الْجَبَّارِينَ عَلَيْهَا لَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّسَةً. وَقِيلَ: الْمُقَدَّسَةُ الْمُبَارَكَةُ طُهِّرَتْ مِنَ الْقَحْطِ وَالْجُوعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: سُمِّيتْ مُقَدَّسَةً لِأَنَّ فِيهَا الْمَكَانَ الَّذِي يُتَقَدَّسُ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلسَّطْلِ قدس لأنه يتوضأ وَيُتَطَهَّرُ. وَمَعْنَى كَتَبَهَا اللَّهُ لَكُمْ: قَسَمَهَا، وَسَمَّاهَا، أَوْ خَطَّ فِي اللَّوْحِ أَنَّهَا لَكُمْ مَسْكَنٌ وَقَرَارٌ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهَبَهَا لَكُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَرَكُمْ بِدُخُولِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَنْشِيطٌ لَهُمْ وتقوية إذ أخبرهم بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَهَا لَهُمْ. وَالظَّاهِرُ اسْتِعْمَالُ كَتَبَ فِي الْفَرْضِ كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «1» وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ «2» وَأَمَّا إِنْ كَانَ كَتَبَهَا بِمَعْنَى خَطَّ فِي الْأَزَلِ، وَقَضَى، فَلَا يَحْتَاجُ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ. فَقِيلَ: اللَّفْظُ عَامٌّ. وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَكْتُوبَةٌ لِبَعْضِهِمْ وَحَرَامٌ عَلَى بَعْضِهِمْ، أَوْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِقَيْدِ امْتِثَالِ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَمْتَثِلُوا، فَلَمْ يَقَعِ الْمَشْرُوطُ أَوِ التَّحْرِيمُ، مُقَيَّدٌ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمَّا انْقَضَتْ جَعَلَ مَا كَتَبَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ كَتَبَهَا لَهُمْ بِمَعْنَى أَمَرَكُمْ بِدُخُولِهَا، فَلَا يُعَارِضُ التَّحْرِيمَ. حَرَّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَهَا وَمَاتُوا فِي التِّيهِ، وَدَخَلَ مَعَ مُوسَى أَبْنَاؤُهُمُ الَّذِينَ لَمْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام ماتا في
(1) سورة البقرة: 2/ 183.
(2)
سورة البقرة: 2/ 216.
التِّيهِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ أَبْنَاؤُهُمْ مَعَ حَزْقِيلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ هِبَةً، ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِعِصْيَانِهِمْ.
وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أَيْ لَا تَنْكِصُوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ مِنْ خَوْفِ الْجَبَابِرَةِ جُبْنًا وَهَلَعًا. وَقِيلَ: حَدَّثَهُمُ النُّقَبَاءُ بِحَالِ الْجَبَابِرَةِ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْبُكَاءِ وَقَالُوا:
لَيْتَنَا مُتْنَا بِمِصْرَ، وَقَالُوا: تَعَالَوْا نَجْعَلْ عَلَيْنَا رَأْسًا يَنْصَرِفُ بِنَا إِلَى مِصْرَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ:
لَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ، فِي دِينِكُمْ لِمُخَالَفَتِكُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَانْقِلَابِهِمْ خَاسِرِينَ، إِنْ كَانَ الِارْتِدَادُ حَقِيقِيًّا وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خُرِجَ مِنْهُ فَمَعْنَاهُ: يَصِيرُونَ إِلَى الذُّلِّ بَعْدَ الْعِزِّ وَالْخَلَاصِ مِنْ أَيْدِي الْقِبْطِ. وَإِنْ كَانَ الِارْتِدَادُ مَجَازًا وَهُوَ ارْتِدَادُهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَمَعْنَاهُ:
يَخْسَرُونَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَثَوَابَ الْآخِرَةِ. وَحَقِيقٌ بِالْخُسْرَانِ مَنْ خَالَفَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ.
قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ أَيْ: قَالَ النُّقَبَاءُ الَّذِينَ سَيَّرَهُمْ مُوسَى لِكَشْفِ حَالِ الْجَبَابِرَةِ، أَوْ قَالَ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ أَنْ يُطْلَعُوا عَلَى الْأَسْرَارِ وَأَنْ يُشَاوَرُوا فِي الْأُمُورِ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ بُعْدٌ لِتَقَاعُسِهِمْ عَنِ الْقِتَالِ أَيْ: إِنَّ فِيهَا مَنْ لَا نُطِيقُ قِتَالَهُمْ. قِيلَ:
هُمْ مِنْ بَقَايَا عَادٍ، وَقِيلَ: مِنَ الرُّومِ مِنْ وَلَدِ عِيصَ بْنِ إسحاق. وقرأ ابن السميفع: قَالُوا يَا مُوسَى فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ.
وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها هَذَا تَصْرِيحٌ بِالِامْتِنَاعِ التَّامِّ مِنْ أَنْ يُقَاتِلُوا الْجَبَابِرَةَ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّفْيُ بِلَنْ. وَمَعْنَى حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا: بِقِتَالِ غَيْرِنَا، أَوْ بِسَبَبٍ يُخْرِجُهُمُ اللَّهُ بِهِ فَيَخْرُجُونَ.
فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ وَهَذَا تَوْجِيهٌ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِخُرُوجِ الْجَبَّارِينَ مِنْهَا، إِذْ عَلَّقُوا دُخُولَهُمْ عَلَى شَرْطٍ مُمْكِنٍ وُقُوعُهُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَشُكُّوا فِيمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنْ كَانَ نُكُوصُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مِنْ خَوَرِ الطَّبِيعَةِ وَالْجُبْنِ الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّهُ فِيهِمْ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ «1» .
وَقِيلَ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ أَنْ يَقَعَ خُرُوجُ الْجَبَّارِينَ مِنْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ الْأَشْهَرُ عند
(1) سورة البقرة: 2/ 246.
الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ هُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونَ بْنِ إفرائيم بْنِ يُوسُفَ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ مُوسَى، وَكَالِبُ بْنُ يُوقَنَّا خَتَنُ مُوسَى عَلَى أُخْتِهِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَيُقَالُ فِيهِ: كِلَابُ، وَيُقَالُ:
كَالُوبُ، وَهُمَا اللَّذَانِ وَفَّيَا مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ مُوسَى فِي كَشْفِ أَحْوَالِ الْجَبَابِرَةِ فَكَتَمَا مَا اطَّلَعَا عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْجَبَابِرَةِ إِلَّا عَنْ مُوسَى، وَأَفْشَى ذَلِكَ بَقِيَّةُ النُّقَبَاءِ فِي أَسْبَاطِهِمْ فَآلَ بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الْخَوَرِ وَالْجُبْنِ بِحَيْثُ امْتَنَعُوا عَنِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: الرَّجُلَانِ كَانَا مِنَ الْجَبَّارِينَ آمَنَا بِمُوسَى وَاتَّبَعَاهُ، وَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بِالْإِيمَانِ. فَإِنْ كَانَ الرَّجُلَانِ هُمَا يُوشَعُ وَكَالِبُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَخَافُونَ، أَيْ: يَخَافُونَ اللَّهَ، وَيَكُونَ إِذْ ذَاكَ مَعَ مُوسَى أَقْوَامٌ يَخَافُونَ اللَّهَ فَلَا يُبَالُونَ بِالْعَدُوِّ لِصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ وَرَبْطِ جَأْشِهِمْ، وَهَذَانِ مِنْهُمْ. أَوْ يَخَافُونَ الْعَدُوَّ، وَلَكِنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بِالْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ، أَوْ يَخَافُهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي يَخَافُونَ عَائِدًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالضَّمِيرُ الرَّابِطُ لِلصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَهُمْ أَيْ:
يَخَافُهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، ومجاهد، يُخَافُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ. وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلَانِ يُوشِعَ وَكَالِبَ. وَمَعْنَى يُخَافُونَ أَيْ: يُهَابُونَ وَيُوَقَّرُونَ وَيُسْمَعُ كَلَامُهُمْ لِتَقْوَاهُمْ وَفَضْلِهِمْ، ويحتمل أن يكون من أَخَافَ أَيْ يُخِيفُونَ: بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ وَزَجْرِهِ وَوَعِيدِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَدْحًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى «1» وَالْجُمْلَةُ مِنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: رَجُلَانِ، وَصْفًا أَوَّلًا بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِالْجُمْلَةِ. وَهَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَكْثَرِ فِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ أَوِ الظَّرْفِ عَلَى الْجُمْلَةِ إِذَا وُصِفَتْ بِهِمَا، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، وَأَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَيْلَكُمُ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ. وَالْبَابُ: بَابُ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ، وَالْمَعْنَى: أَقْدِمُوا عَلَى الْجِهَادِ وَكَافِحُوا حَتَّى تَدْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى كَانَ قَدْ أَنْزَلَ مَحَلَّتَهُ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ.
فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ قَالَا ذَلِكَ ثِقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ «2» . وَقِيلَ: رَجَاءً لِنَصْرِ اللَّهِ رُسُلَهُ، وَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِمْ. وَمَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دِيَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا حَافِظِي بَابِ مَدِينَتِهِمْ حَتَّى دُخِلَ وَهُوَ الْمُهِمُّ، فَلَأَنْ لَا يَحْفَظُوا مَا وَرَاءَ الْبَابِ أَوْلَى. وَعَلَى قَوْلِ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا مِنَ الْجَبَّارِينَ فَقِيلَ: إِنَّهُمَا قَالَا
(1) سورة الحجرات: 49/ 3.
(2)
سورة المائدة: 5/ 21.
لَهُمْ: إِنَّ الْعَمَالِقَةَ أَجْسَامٌ لَا قُلُوبَ فِيهَا فَلَا تَخَافُوهُمْ، وَارْجِعُوا إِلَيْهِمْ فَإِنَّكُمْ غَالِبُوهُمْ تَشْجِيعًا لَهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ.
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لَمَّا رَأَيَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ عَصَوُا الرَّسُولَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِهَادِ مَعَ وَعْدِ اللَّهِ لَهُمُ السَّابِقِ، اسْتَرَابَا فِي إِيمَانِهِمْ، فَأَمَرَاهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ إِذْ هُوَ الْمَلْجَأُ وَالْمَفْزَعُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وعلق ذَلِكَ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ الَّذِي اسْتَرَابَا فِي حُصُولِهِ لِبَنِي إسرائيل.
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها لَمَّا كَرَّرَ عَلَيْهِمْ أَمْرَ الْقِتَالِ كَرَّرُوا الِامْتِنَاعَ عَلَى سَبِيلِ التوكيد بالمولين، وَقَيَّدُوا أَوَّلًا نَفْيَ الدُّخُولِ بِالظَّرْفِ الْمُخْتَصِّ بِالِاسْتِقْبَالِ وَحَقِيقَتُهُ التَّأْبِيدُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ الْمُتَطَاوِلِ فَكَأَنَّهُمْ نَفَوُا الدُّخُولَ طُولَ الْأَبَدِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى تَعْلِيقِ ذَلِكَ بِدَيْمُومَةِ الْجَبَّارِينَ فِيهَا، فَأَبْدَلُوا زَمَانًا مُقَيَّدًا مِنْ زَمَانٍ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَهُوَ بدل بعض من كل.
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ظَاهِرُ الذَّهَابِ الِانْتِقَالُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُشَبِّهَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ كُفْرٌ مِنْهُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ اسْتِهَانَةً بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَقِلَّةَ مُبَالَاةٍ بِهِمَا وَاسْتِهْزَاءً، وَقَصَدُوا ذَهَابَهُمَا حَقِيقَةً لِجَهْلِهِمْ وَجَفَائِهِمْ وَقَسْوَةِ قُلُوبِهِمُ الَّتِي عَبَدُوا بِهَا الْعِجْلَ، وَسَأَلُوا بِهَا رُؤْيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مُقَابَلَةُ ذَهَابِهِمَا بِقُعُودِهِمْ.
وَيُحْكَى أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ خَرَّا لِوُجُوهِهِمَا قُدَّامَهُمْ لِشِدَّةِ مَا ورد عليهما فسموا بِرَجْمِهِمَا
، وَلِأَمْرٍ مَا قَرَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ بِالْمُشْرِكِينَ وَقَدَّمَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا «1» وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَقْصِدُوا الذَّهَابَ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ كَمَا تَقُولُ: كَلَّمْتُهُ فذهب يحيبني، يُرِيدُ مَعْنَى الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ لِلْجَوَابِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أُرِيدَ إِقْبَالُهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالرَّبِّ هُنَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّبِّ هَارُونُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْ مُوسَى، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُحَبَّبًا لِسِعَةِ خُلُقِهِ وَرُحْبِ صَدْرِهِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: اذْهَبْ أَنْتَ وَكَبِيرُكَ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ يُخَلِّصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْكُفْرِ. وَرَبُّكَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اذْهَبِ الْمُؤَكَّدِ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ «2» وَرَدَدْنَا قَوْلَ من ذهب
(1) سورة المائدة: 5/ 82.
(2)
سورة البقرة: 2/ 35.
إِلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ مَحْذُوفٍ يُمْكِنُ رَفْعُهُ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ التَّقْدِيرُ: فَاذْهَبْ وَلْيَذْهَبْ رَبُّكَ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ، وَرَبُّكَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. أَوْ تَكُونُ الْجُمْلَةُ دُعَاءً وَالتَّقْدِيرُ فِيهِمَا: وَرَبُّكَ يُعِينُكَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ فَاسِدٌ بِقَوْلِهِ فَقَاتِلَا.
إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ خَارَتْ طِبَاعُهُمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى النُّهُوضِ مَعَهُ لِلْقِتَالِ، وَلَا عَلَى الرُّجُوعِ مِنْ حَيْثُ جَاءُوا، بَلْ أَقَامُوا حَيْثُ كَانَتِ الْمُحَاوَرَةُ بين موسى وبينهم. وها مِنْ قَوْلِهِ هَاهُنَا لِلتَّنْبِيهِ، وهنا ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْقَرِيبِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ قَاعِدُونَ. وَيَجُوزُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أن يَكُونَ الْخَبَرُ الظَّرْفَ وَمَا بَعْدَهُ حَالٌ فَيَنْتَصِبُ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الِاسْمَ وَالظَّرْفُ مَعْمُولٌ لَهُ. وَهُوَ أَفْصَحُ.
قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي لَمَّا عَصَوْا أَمْرَ اللَّهِ وَتَمَرَّدُوا عَلَى مُوسَى وَسَمِعَ مِنْهُمْ مَا سَمِعَ مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَسُوءِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ إِلَّا هَارُونَ قَالَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُنْطَوِي صَاحِبُهُ عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ وَالشَّكْوَى إِلَيْهِ، وَرِقَّةِ الْقَلْبِ الَّتِي تَسْتَجْلِبُ الرَّحْمَةَ وَتَسْتَنْزِلُ النُّصْرَةَ وَنَحْوُهُ قَوْلُ يعقوب: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
«1»
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ إِلَى قِتَالِ الْمُنَافِقِينَ فَمَا أَجَابَهُ إِلَّا رَجُلَانِ، فَتَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ وَدَعَا لَهُمَا وَقَالَ: أَيْنَ تَتْبَعَانِ مِمَّا أُرِيدُ؟
وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَأَخِي مَعْطُوفٌ عَلَى نَفْسِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَأَخِي مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ أَيْ: وَأَخِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ، فَيَكُونُ قَدْ عَطَفَ جُمْلَةً غَيْرَ مُؤَكَّدَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مُؤَكَّدَةٍ، أَوْ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ أَيْ: وَإِنَّ أَخِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَيَكُونُ قَدْ عُطِفَ الِاسْمُ وَالْخَبَرُ عَلَى الْخَبَرِ نَحْوَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَعَمْرًا شَاخِصٌ، أَيْ: وَإِنَّ عَمْرًا شَاخِصٌ. وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ وَأَخِي مَرْفُوعًا عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي أَمْلِكُ، وَأَجَازَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْمَفْعُولِ الْمَحْصُورِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام لَا يَمْلِكَانِ إِلَّا نَفْسَ مُوسَى فَقَطْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ مُوسَى يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ وَأَمْرَ أَخِيهِ فَقَطْ. وَجَوَّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا مَعْطُوفًا عَلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي نَفْسِي، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ. وَكَأَنَّهُ فِي هَذَا الْحَصْرِ لَمْ يَثِقْ بِالرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَا: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَى ثَبَاتِهِمَا لِمَا عَايَنَ من أحوال
(1) سورة يوسف: 12/ 86.
قَوْمِهِ وَتَلَوُّنِهِمْ مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ، فَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا النَّبِيَّ الْمَعْصُومَ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِي ثَبَاتِهِ. قِيلَ:
أَوْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الضجر عند ما سَمِعَ مِنْهُمْ تَعْلِيلًا لِمَنْ يُوَافِقُهُ، أَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَأَخِي، مَنْ يُوَافِقُنِي فِي الدِّينِ لَا هَارُونَ خَاصَّةً. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي بِفَتْحِ الْيَاءِ فِيهِمَا.
فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ دَعَا بِأَنْ يُفَرِّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ يَفْقِدَ وُجُوهَهُمْ وَلَا يُشَاهِدَ صُوَرَهُمْ إِذَا كَانُوا عَاصِينَ لَهُ مُخَالِفِينَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُسَّقِ. فَالْمُطِيعُ لَا يُرِيدُ صُحْبَةَ الْفَاسِقِ وَلَا يُؤْثِرُهَا لِئَلَّا يُصِيبَهُ بِالصُّحْبَةِ مَا يُصِيبُهُ، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «1» «أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ» وَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَلَمْ يَكُونَا مَعَهُمْ فِي التِّيهِ، بَلْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، لِأَنَّ التِّيهَ كَانَ عِقَابًا خُصَّ بِهِ الْفَاسِقُونَ الْعَاصُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا: الْمَعْنَى فَافْصِلْ بَيْنَنَا بِحُكْمٍ يُزِيلُ هَذَا الِاخْتِلَافَ وَيَلُمُّ الشَّعَثَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حَتَّى تَكُونَ مَنْزِلَةُ الْمُطِيعِ مُفَارَقَةً لِمَنْزِلَةِ الْعَاصِي الْفَاسِقِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَافْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ تَحْكُمَ لَنَا بِمَا نَسْتَحِقُّ، وَعَلَيْهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ وَصَلَ بِهِ قَوْلَهُ: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَيُوسُفُ بْنُ دَاوُدَ: فَافْرِقْ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَقَالَ الرَّاجِزُ:
يَا رَبِّ فَافْرِقْ بَيْنَهُ وبيني
…
أشدّ ما فرّق بَيْنَ اثْنَيْنِ
وَقَرَأَ ابْنُ السُّمَيْفِعِ: فَفَرِّقْ. وَالْفَاسِقُونَ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَاصُونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
الْكَاذِبُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْكَافِرُونَ.
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَأُضْمِرَ فِي قَالَ وَضَمِيرُ، فَإِنَّهَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ مُحَرَّمٌ دُخُولُهَا وَتَمَلُّكُهُمْ إِيَّاهَا وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى انْتِظَامِ قَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ «2» مَعَ قَوْلِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ لَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ.
فَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام كَانَا مَعَهُمْ فِي التِّيهِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَرَوْحًا وَسَلَامًا لَهُمَا، لَا عُقُوبَةً، كَمَا كَانَتِ النَّارُ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِمَلَائِكَةِ الْعَذَابِ.
فَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى سَارَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ يُوشَعُ وَكَالِبُ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ، فَفَتَحَ أَرِيحَا وَقَتَلَ عُوجَ بْنَ عُنُقَ
، وَذَكَرُوا مِنْ وَصْفِ عُوجَ وَكَيْفِيَّةِ قَتْلِ مُوسَى لَهُ مَا لَا يَصِحُّ. وَأَقَامَ مُوسَى فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قُبِضَ. وَقِيلَ: مَاتَ هارون في
(1) سورة الأنفال: 8/ 25.
(2)
سورة المائدة: 5/ 21.
التِّيهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي هَذَا.
وَرُوِيَ: أَنَّ مُوسَى مَاتَ فِي التِّيهِ بَعْدَ هَارُونَ بِثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ. وَقِيلَ: بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ. وَقِيلَ: بِسَنَةٍ وَنَبَّأَ اللَّهُ يُوشَعَ بَعْدَ كَمَالِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً فَصَدَّقَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْجَبَابِرَةِ فَصَدَّقُوهُ وَبَايَعُوهُ، وَسَارَ فِيهِمْ إِلَى أَرِيحَا وَقَتَلَ الْجَبَّارِينَ وَأَخْرَجَهُمْ، وَصَارَ الشَّامُ كُلُّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَفِي تِلْكَ الْحَرْبِ وَقَفَتْ لَهُ الشَّمْسُ سَاعَةً حَتَّى اسْتَمَرَّ هزم الْجَبَّارِينَ
، وَقَدْ أَلَمَّ بِذِكْرِ وُقُوفِ الشَّمْسِ لِيُوشَعَ أَبُو تَمَّامٍ فِي شِعْرِهِ فَقَالَ:
فَرُدَّتْ عَلَيْنَا الشَّمْسُ وَاللَّيْلُ رَاغِمٌ
…
بِشَمْسٍ بَدَتْ مِنْ جَانِبِ الْخِدْرِ تَطْلُعُ
نَضَا ضوؤها صِبْغَ الدُّجُنَّةِ وَانْطَوَى
…
لِبَهْجَتِهَا ثوب السماء المجزع
فو الله مَا أَدْرِي أَأَحْلَامُ نَائِمٍ
…
أَلَمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ فِي الرَّكْبِ يُوشَعُ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي قَوْلِهِ: أَرْبَعِينَ مُحَرَّمَةٌ، فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ مُقَيَّدًا بِهَذِهِ الْمُدَّةِ، وَيَكُونُ يَتِيهُونَ مُسْتَأْنَفًا أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ يَتِيهُونَ أَيْ:
يَتِيهُونَ هَذِهِ الْمُدَّةَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُ التَّحْرِيمُ عَلَى هَذَا غَيْرَ مُؤَقَّتٍ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ، بَلْ يَكُونُ إِخْبَارًا بِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَهَا، وَأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَمُوتُ فِيهَا مَنْ مَاتَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَنْ كَانَ جَاوَزَ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يَعِشْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ التِّيهِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ دُونَ الْعِشْرِينَ عَاشُوا، كَأَنَّهُ لَمْ يَعِشِ الْمُكَلَّفُونَ الْعُصَاةُ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الزَّجَّاجُ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي أَرْبَعِينَ مُحَرَّمَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي أَرْبَعِينَ مُضْمَرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ يَتِيهُونَ الْمُتَأَخِّرُ انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْعَامِلَ مُضْمَرٌ كَمَا ذَكَرَ؟ بَلِ الَّذِي جَوَّزَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلَ فِيهِ يَتِيهُونَ نَفْسُهُ، لَا مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ. وَالْأَرْضُ الَّتِي تَاهُوا فِيهَا عَلَى مَا حُكِيَ طُولُهَا ثَلَاثُونَ مِيلًا، فِي عَرْضِ سِتَّةِ فَرَاسِخَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ مِصْرَ وَالشَّامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تِسْعَةُ فَرَاسِخَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا عَرْضُهَا، وَطُولُهَا ثَلَاثُونَ فَرْسَخًا. وَقِيلَ: سِتَّةُ فَرَاسِخَ فِي طُولِ اثْنَيْ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَقِيلَ: تِسْعَةُ فَرَاسِخَ. وَتَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا التِّيهَ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ عَجِيبٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ جَازَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَسِيرُوا فَرَاسِخَ يَسِيرَةً وَلَا يَهْتَدُونَ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا. رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِاللَّيْلِ وَيَسِيرُونَ لَيْلَهُمْ أَجْمَعَ، حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا وَجَدُوا جُمْلَتَهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ابْتَدَأُوا مِنْهُ، وَيَسِيرُونَ النَّهَارَ جَادِّينَ حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا إِذَا هُمْ بِحَيْثُ ارْتَحَلُوا عَنْهُ، فَيَكُونُ سَيْرُهُمْ تَحْلِيقًا. قَالَ مُجَاهِدٌ