الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْوِقَاعِ وَالذِّئْبِ فِي الْقُوَّةِ عَلَى الْفَسَادِ وَالتَّمْزِيقِ، وَالْعَقْرَبِ فِي قُوَّةِ الْإِيلَامِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ شَرَفًا بَلِ الْمُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ مَمْقُوتٌ مُسْتَقْذَرٌ مُسْتَحْقَرٌ يُوصَفُ بِأَنَّهُ بَهِيمَةٌ، وَبِدَلِيلِ عَدَمِ الِافْتِخَارِ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ بَلِ الْعُقَلَاءُ يُخْفُونَهَا وَيَخْتَفُونَ عِنْدَ فِعَالِهَا وَيُكَنُّونَ عَنْهَا وَلَا يُصَرِّحُونَ بِهَا إِلَّا عِنْدَ الشَّتْمِ بِهَا، وَبِأَنَّ حَقِيقَةَ اللَّذَّاتِ دفع آلام وَبِسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ خَسَاسَةُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ، وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ فَسَعَادَاتٌ عَالِيَةٌ شَرِيفَةٌ بَاقِيَةٌ مُقَدَّسَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ إِذَا تَخَيَّلُوا فِي إِنْسَانٍ كَثْرَةَ الْعِلْمِ وَشِدَّةَ الِانْقِبَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ بِالطَّبْعِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَبِيدًا لَهُ وَأَشْقِيَاءَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ فَرَضْنَا تَشَارُكَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ فِي التَّفْضِيلِ لَكَانَتْ خَيْرَاتُ الْآخِرَةِ أَفْضَلَ، لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَيْهَا مَعْلُومٌ قَطْعًا وَخَيْرَاتُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ مَعْلُومَةً بَلْ وَلَا مَظْنُونَةً، فَكَمْ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ بُكْرَةَ يَوْمٍ أَمْسَى تَحْتَ التُّرَابِ آخِرَهُ وَكَمْ مُصْبِحٍ أَمِيرًا عَظِيمًا أَمْسَى أَسِيرًا حَقِيرَا؟ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَجَدَ بَعْدَ سُرُورِ يَوْمٍ يَوْمًا آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَنْتَفِعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا جَمَعَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ؟ بِخِلَافِ مُوجِبِ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَهَبْ أَنَّهُ انْتَفَعَ بِهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ خَالِيًا مِنْ شَوَائِبِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحْزِنَاتِ وَهَبْ أَنَّهُ انْتَفَعَ فِي الْغَدِ فَإِنَّهَا تنقضي ويحزم عِنْدَ انْقِضَائِهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ
…
تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انتقالا
فثبت بما ذكر أن خيرات الدنيا موصوفة بهذه العيوب، وخيرات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أفضل وأكمل وأبقى انتهى ما لخص من كلامه مع اختلاف بعض ألفاظ وهي شبيهة بكلام أهل الفلسفة، لأن السعادات الأخروية عندهم هي روحانية فقط واعتقاد المسلمين أنها لذات جسمانية وروحانية، وأيضا ففي كلامه انتقاد من حيث إن بعض الأوصاف التي حقرها هو جعلها الله في بعض من اصطفاه من خلقه فلا تكون تلك الصفة إلا شريفة لا كما قاله هو من أنها صفة خسيسة. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وحفص أَفَلا تَعْقِلُونَ بالتاء خطاب مواجهة لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ من منكري البعث. وقرأ الباقون بالياء عودا على ما قبل لأنها أسماء غائبة والمعنى أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدّنيا.
وقيل: أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدّنيا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَإِنَّهُ كَانَ يُكَذِّبُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيُصَدِّقُ فِي السِّرِّ وَيَقُولُ: نَخَافُ أَنْ تَتَخَطَّفَنَا الْعَرَبُ وَنَحْنُ أَكَلَةُ رَأَسٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: رُوِيَ أَنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شريف قَالَ لِأَبِي جَهْلٍ. يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا أَحَدٌ غَيْرَنَا فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ فَنَزَلَتْ. قَدْ حَرْفُ تَوَقُّعٍ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ كَانَ التَّوَقُّعُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِكَ: قَدْ يَنْزِلُ الْمَطَرُ فِي شَهْرِ كَذَا وَإِذَا كَانَ مَاضِيًا أَوْ فِعْلَ حَالٍ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ فَالتَّوَقُّعُ كَانَ عِنْدَ السَّامِعِ، وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ فَهُوَ مُوجِبُ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَعَبَّرَ هُنَا بِالْمُضَارِعِ إِذِ الْمُرَادُ الِاتِّصَافُ بِالْعِلْمِ وَاسْتِمْرَارُهُ وَلَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الزَّمَانُ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالتَّبْرِيزِيُّ:
قَدْ نَعْلَمُ بِمَعْنَى رُبَّمَا الَّذِي تَجِيءُ لِزِيَادَةِ الْفِعْلِ وَكَثْرَتِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ قَدْ تَأْتِي لِلتَّكْثِيرِ فِي الْفِعْلِ وَالزِّيَادَةِ قَوْلٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ لِلنُّحَاةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ
…
كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ
وَبِقَوْلِهِ:
أَخِي ثِقَةٍ لَا يُتْلِفُ الْخَمْرُ مَالَهُ
…
وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ
وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ التَّكْثِيرَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْ قَدْ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْفَخْرُ وَالْمَدْحُ بِقَتْلِ قَرْنٍ وَاحِدٍ وَلَا بِالْكَرَمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ قَدْ تَكُونُ لِلتَّكْثِيرِ فِي الْفِعْلِ وَزِيَادَتِهِ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ، فِي قَوْلِهِ: قَدْ نَعْلَمُ لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالتَّكْثِيرُ، وَقَوْلُهُ: بِمَعْنَى رُبَّمَا الَّتِي تَجِيءُ لِزِيَادَةِ الْفِعْلِ وَكَثْرَتِهِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ رُبَّ لِلتَّقْلِيلِ لَا لِلتَّكْثِيرِ وَمَا الدَّاخِلَةُ عَلَيْهَا هِيَ مُهَيِّئَةٌ لِأَنْ يليها الفعل وما الْمُهَيِّئَةُ لَا تُزِيلُ الْكَلِمَةَ عَنْ مَدْلُولِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي كَأَنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ وَلَعَلَّمَا يَخْرُجُ
بَكْرٌ لَمْ تُزِلْ كَأَنَّ عَنِ التَّشْبِيهِ وَلَا لَعَلَّ عَنِ التَّرَجِّي. قَالَ بَعْضُ أصحابنا: فذكر بِمَا فِي التَّقْلِيلِ وَالصَّرْفِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ يَعْنِي إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ قَالَ: هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، فَإِنْ خَلَتْ مِنْ مَعْنَى التَّقْلِيلِ خَلَتْ غَالِبًا مِنَ الصَّرْفِ إِلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ وَتَكُونُ حِينَئِذٍ لِلتَّحْقِيقِ وَالتَّوْكِيدِ نَحْوَ قَوْلِهِ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ وَقَوْلِهِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ «1» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ
…
وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيًا
وَقَدْ تَخْلُو مِنَ التَّقْلِيلِ وَهِيَ صَارِفَةٌ لِمَعْنَى المضي نحو قول: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ «2» انْتَهَى.
وَقَالَ مَكِّيٌّ: قَدْ هُنَا وَشِبْهُهُ تَأْتِي لِتَأْكِيدِ الشيء وإيجابه وتصديقه ونَعْلَمُ بِمَعْنَى عَلِمْنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ فِي رَيِّ الظَّمْآنِ: كَلِمَةُ قَدْ تَأْتِي لِلتَّوَقُّعِ وَتَأْتِي لِلتَّقْرِيبِ مِنَ الْحَالِ وَتَأْتِي لِلتَّقْلِيلِ انْتَهَى، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْكَذُوبَ قَدْ يُصَدَّقُ وَإِنَّ الْجَبَانَ قَدْ يَشْجُعُ وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُفَسِّرَةٌ لَهُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ وَلَا يَقَعُ هُنَا اسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى تَقْدِيرِ رَفْعِهِ مَا بَعْدَهُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ مَوْقِعَ الْمُضَارِعِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ خَبَرِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مُفْرَدًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يَحْزُنْكَ رُبَاعِيًّا وَثُلَاثِيًّا فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا والَّذِي يَقُولُونَ مَعْنَاهُ مِمَّا يُنَافِي مَا أَنْتَ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ. وَقِيلَ: كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا يَقْبَلُونَ دِينَهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالِافْتِعَالِ. وَقِيلَ: كَانَ بَعْضُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَقُولُ لَهُ: رَئْيٌ مِنَ الْجِنِّ يُخْبِرُهُ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ يُكَذِّبُونَكَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّشْدِيدِ. فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ نَحْوَ كَثُرَ وَأَكْثَرَ. وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ حَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: كَذَّبْتُ الرَّجُلَ إِذْ نَسَبْتَ إِلَيْهِ الْكَذِبَ وَأَكْذَبْتُهُ إِذَا نَسَبْتَ الْكَذِبَ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ دُونَ أَنْ تَنْسُبَهُ إِلَيْهِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ أَيْضًا: أَكْذَبْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتَهُ كَذَّابًا كَمَا تَقُولُ: أَحَمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتَهُ مَحْمُودًا فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْفَرْقِ يَكُونُ مَعْنَى التَّخْفِيفِ لَا يَجِدُونَكَ كَاذِبًا أَوْ لَا يَنْسُبُونَ الْكَذِبَ إِلَيْكَ، وَعَلَى مَعْنَى التَّشْدِيدِ يَكُونُ إِمَّا خَبَرًا مَحْضًا عَنْ عَدَمِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَيَكُونُ مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى كُلِّهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَالْمُرَادُ بِهِ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُكَذِّبُهُ، وَيُكَذِّبُ مَا جَاءَ بِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيُ التَّكْذِيبِ لِانْتِفَاءِ مَا يترتب عليه من
(1) سورة الصف: 61/ 5.
(2)
سورة البقرة: 2/ 144.
الْمَضَارِّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَا يُكَذِّبُونَكَ تَكْذِيبًا يَضُرُّكَ لِأَنَّكَ لَسْتَ بِكَاذِبٍ فَتَكْذِيبُهُمْ كَلَا تَكْذِيبٍ.
وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: لَا يُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَذِّبُونَكَ خُصُوصِيَّةُ تَكْذِيبِهِ هُوَ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ مُطْلَقًا فَالْمَعْنَى لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى التَّعْيِينِ بَلْ يُكَذِّبُونَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لَا يُكَذِّبُونَكَ بِحُجَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَكْذِيبُ عِنَادٍ وَبُهْتٍ. وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَقُولُونَ إِنَّكَ كَاذِبٌ لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِكَ وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَ مَا جِئْتَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: لَا يُكَذِّبُونَكَ فِي السِّرِّ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَكَ فِي الْعَلَانِيَةِ عَدَاوَةً. وَقَالَ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَكَ فِيمَا أَنْبَأْتَ بِهِ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ كَذَبْتَ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَرَجَّحَ قِرَاءَةَ عَلِيٍّ بِالتَّخْفِيفِ بَعْضُهُمْ، وَلَا ترجيح بين المتواترتين. قال الزمخشري: والمعنى أن تَكْذِيبَكَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّكَ رَسُولُهُ الْمُصَدَّقُ بِالْمُعْجِزَاتِ فَهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا يُكَذِّبُونَ اللَّهَ بِجَحُودِ آيَاتِهِ فَانْتَهِ عَنْ حُزْنِكَ لِنَفْسِكَ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوكَ وَأَنْتَ صَادِقٌ، وَلَيَشْغَلْكَ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ أَهَمُّ وَهُوَ اسْتِعْظَامُكَ لِجُحُودِ آيَاتِ اللَّهِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِكِتَابِهِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ السَّيِّدِ لِغُلَامِهِ إِذَا أَهَانَهُ بَعْضُ النَّاسِ إِنَّهُمْ لَمْ يُهِينُوكَ وَإِنَّمَا أَهَانُونِي وَفِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «1»
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمَّى الْأَمِينَ فَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَجْحَدُونَ، فَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يَقُولُ: مَا نُكَذِّبُكَ وَإِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ وَإِنَّمَا نُكَذِّبُ مَا جِئْتَنَا بِهِ
انْتَهَى. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، وَأُقِيمَ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمُضْمَرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْجَحُودِ هِيَ الظُّلْمُ وَهِيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الِاعْتِدَاءِ، أَيْ وَلَكِنَّهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
وَآيَاتُهُ قَالَ السُّدِّيُّ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: مُحَمَّدٌ وَالْقُرْآنُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: آيَاتُ اللَّهِ علاماته وشواهد نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَالْجُحُودُ إِنْكَارُ الشَّيْءِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ مُطْلَقًا فَيَكُونُ فِي الْجُحُودِ تَجَوُّزٌ إِذْ كُلُّهُمْ لَيْسَ كُفْرُهُ بَعْدَ مَعْرِفَةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ وَرَامُوا تَكْذِيبَهُ بِالدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ عَبَّرَ عَنْ إِنْكَارِهِمْ بِأَقْبَحِ وُجُوهِ الْإِنْكَارِ وَهُوَ الْجَحْدُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ وَتَقْبِيحًا لِفِعْلِهِمْ، إِذْ مُعْجِزَاتُهُ وَآيَاتُهُ نَيِّرَةٌ يَلْزَمُ كُلُّ مَفْطُورٍ أَنْ يقربها وَيَعْلَمَهَا وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْمُعَانِدِينَ تَرَتَّبَ الْجُحُودُ حَقِيقَةً وَكُفْرُ الْعِنَادِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ وَاقِعٌ أَيْضًا كَقِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ
(1) سورة الفتح: 48/ 10.
وَقِصَّةِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَقَوْلِهِ: مَا كُنْتُ لِأُومِنَ بِنَبِيٍّ لَمْ يَكُنْ مِنْ ثَقِيفٍ، وَمَنَعَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ جَوَازَ كُفْرِ الْعِنَادِ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَقْتَضِي الْإِيمَانَ وَالْجَحْدَ يَقْتَضِي الْكُفْرَ، فَامْتَنَعَ اجْتِمَاعُهُمَا، وَتَأَوَّلُوا ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ فَقَالُوا: فِي قَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1» أَنَّهَا فِي أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بَدَّلُوهَا كَآيَةِ الرَّجْمِ وَنَحْوِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكُفْرُ الْعِنَادِ مِنَ الْعَارِفِ بِاللَّهِ وَبِالنُّبُوَّةِ بِعِيدٌ انْتَهَى. وَالتَّأْوِيلَاتُ فِي نَفْيِ التَّكْذِيبِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ اعْتِقَادَاتِهِمْ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَقْوَالِهِمْ فَأَقْوَالُهُمْ مُكَذِّبَةٌ إِمَّا لَهُ وَإِمَّا لِمَا جَاءَ بِهِ.
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: عَزَّى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا يكون هُوَ صلى الله عليه وسلم قَدْ كُذِّبَ وَهُوَ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَزَوَالُ الْمُنَافَاةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ كَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُكَذِّبُونَكَ لَيْسَ هُوَ مِنْ نَفْيِ تَكْذِيبِهِ حَقِيقَةً. قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِكَ لِغُلَامِكَ: مَا أَهَانُوكَ وَلَكِنْ أَهَانُونِي وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «2» تَسْلِيَةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمَّا سَلَّاهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ بِتَكْذِيبِكَ إِنَّمَا كَذَّبُوا اللَّهَ تَعَالَى سَلَّاهُ ثَانِيًا بِأَنَّ عَادَةَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ قَبْلَكَ تَكْذِيبُ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّ الرُّسُلَ صَبَرُوا فَتَأَسَّ بِهِمْ فِي الصَّبْرِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كُذِّبُوا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَالْمَعْنَى فَتَأَسَّ بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْأَذَى حَتَّى يَأْتِيَكَ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ كَمَا أَتَاهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا رَجَاءَ ثَوَابِي وَأُوذُوا حَتَّى نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ وَحُرِّقُوا بِالنَّارِ، حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا بِتَعْذِيبِ مَنْ يُكَذِّبُهُمُ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ وَأُوذُوا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: كُذِّبَتْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قوله فَصَبَرُوا وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كُذِّبُوا وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَرَأَ وَأُذُوا بِغَيْرِ وَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ جَعَلَهُ ثُلَاثِيًّا لَا رُبَاعِيًّا مِنْ أَذَيْتُ فُلَانًا لَا مِنْ آذَيْتُ، وَفِي قَوْلِهِ: نَصْرُنا الْتِفَاتٌ إِذْ قَبْلَهُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَبَلَاغَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّهُ أَضَافَ النَّصْرَ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُشْعِرِ بِالْعَظَمَةِ الْمُتَنَزِّلِ فِيهِ الْوَاحِدُ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ وَالنَّصْرُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ نَصْرُنَا إِيَّاهُمْ عَلَى مُكَذِّبِيهِمْ وَمُؤْذِيهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَايَةَ هُنَا الصَّبْرُ وَالْإِيذَاءُ لِظَاهِرِ عَطْفِ وَأُوذُوا عَلَى فَصَبَرُوا وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى كُذِّبُوا فَتَكُونُ الْغَايَةُ لِلصَّبْرِ أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى كُذِّبَتْ فَغَايَةٌ لَهُ وَلِلتَّكْذِيبِ أو للإيذاء فقط.
(1) سورة النمل: 27/ 14. [.....]
(2)
سورة آل عمران: 3/ 184.
وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لِمَوَاعِيدِ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ قَالَ: لِمَوَاعِيدِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ «1» .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَالْإِخْبَارُ وَالْأَوَامِرُ مِنْ كَلِمَاتِ اللَّهِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى بَعْضِ مَا قَالَ الزَّجَّاجُ فَقَالَ: وَلَا رَادَّ لِأَوَامِرِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِحُكُومَاتِهِ وَأَقْضِيَتِهِ، كَقَوْلِهِ وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ «2» أَيْ وَجَبَ مَا قَضَاهُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَبْدِيلِ كَلِمَاتِ اللَّهِ وَإِنْ زَخْرَفَ وَاجْتَهَدَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى صَانَهُ بِرَصِينِ اللَّفْظِ وَقَوِيمِ الْمَعْنَى أَنْ يُخْلَطَ بِكَلَامِ أَهْلِ الزَّيْغِ. وَقِيلَ: اللَّفْظُ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى عَلَى النَّهْيِ أَيْ لَا يُبَدِّلُ أَحَدٌ كَلِمَاتِ اللَّهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ «3» أَيْ لَا يَرْتَابُونَ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ.
وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ هَذَا فِيهِ تَأْكِيدُ تَثْبِيتٍ لِمَا تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ بِهِ مِنْ تَكْذِيبِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ لِلرُّسُلِ وَإِيذَائِهِمْ وَصَبْرِهِمْ إِلَى أَنْ جَاءَ النَّصْرُ لَهُمْ عليهم والفاعل بجاء.
قَالَ الْفَارِسِيُّ: هُوَ مِنْ نَبَأِ وَمِنْ زَائِدَةٌ أَيْ وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأُ الْمُرْسَلِينَ، وَيَضْعُفُ هَذَا لِزِيَادَةِ مَنْ فِي الْوَاجِبِ. وَقِيلَ: مَعْرِفَةٌ وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ بَلْ إِنَّمَا جَاءَ بَعْضُ نبأهم لا أنباؤهم، لِقَوْلِهِ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «4» . وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: فَاعِلُ جَاءَكَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّوَابُ عِنْدِي أَنْ يُقَدَّرَ جَلَاءً أَوْ بيان، وَتَمَامُ هَذَا الْقَوْلِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَقَدْ جَاءَ هُوَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ أَيْ نَبَأٌ أَوْ بَيَانٌ، فَيَكُونُ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا يُفَسَّرُ بِنَبَأٍ أَوْ بَيَانٍ لَا مَحْذُوفًا لِأَنَّ الْفَاعِلَ لَا يُحْذَفُ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الفاعل مضمر تَقْدِيرُهُ هُوَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَيْ وَلَقَدْ جَاءَكَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ تَكْذِيبِ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ لِلرُّسُلِ وَالصَّبْرِ وَالْإِيذَاءِ إِلَى أَنْ نُصِرُوا، وَأَنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ هُوَ بَعْضُ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ يُتَأَسَّى بِهِمْ ومِنْ نَبَإِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ ذَلِكَ الْمُضْمَرُ وَالْعَامِلُ فِيهَا وَفِيهِ جاءَكَ فَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ أَوْ بَيَانٌ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالنَّبَأِ وَالْبَيَانِ هَذَا النَّبَأُ السَّابِقُ أَوِ الْبَيَانُ السَّابِقُ، وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِفَاعِلِ جَاءَ بَلْ قال: لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ بَعْضُ أَنْبَائِهِمْ وَقَصَصِهِمْ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تفسير إِعْرَابٍ لِأَنَّ مِنْ لَا تَكُونُ فَاعِلَةً.
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ
(1) سورة الصافات: 37/ 171، 172.
(2)
سورة الزمر: 39/ 71.
(3)
سورة البقرة: 2/ 2.
(4)
سورة غافر: 40/ 78.
كَبُرَ أَيْ عَظُمَ وَشَقَّ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَبُرَ عَلَيْهِ إِعْرَاضُهُمْ لَكِنْ جَاءَ الشَّرْطُ مُعْتَبَرًا فِيهِ التَّبْيِينُ وَالظُّهُورُ، وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ الَّذِي لَمْ يَقَعْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ وَلَيْسَ مَقْصُودًا وَحْدَهُ بِالْجَوَابِ فَمَجْمُوعُ الشَّرْطَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَقَعْ بَلِ الْمَجْمُوعُ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ أَحَدِهِمَا بانفراده واقع وَنَظِيرُهُ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ «1» وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ «2» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنْ يَتَبَيَّنَ وَيَظْهَرَ كَوْنُهُ قُدَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا يَتَأَوَّلُ مَا يَجِيءُ مِنْ دُخُولِ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى صِيغَةِ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ خِلَافًا لِأَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ إِنْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى كَانَ بَقِيَتْ عَلَى مُضِيِّهَا بِلَا تَأْوِيلٍ وَالنَّفَقُ السِّرْبُ فِي دَاخِلِ الْأَرْضِ الَّذِي يُتَوَارَى فِيهِ. وَقَرَأَ نبيج الْغَنَوِيُّ أَنْ تَبْتَغِيَ نَافِقًا فِي الْأَرْضِ وَالنَّافِقَاءُ مَمْدُودٌ وَهُوَ أَحَدُ مَخَارِجِ جُحْرِ الْيَرْبُوعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَرْبُوعَ يَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ إِلَى وَجْهِهَا وَيُرِقُّ مَا واجه الأرض ويجعل للحجر بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا النَّافِقَاءُ وَالْآخَرُ الْقَاصِعَاءُ، فَإِذَا رَابَهُ أَمْرٌ مِنْ أَحَدِهِمَا دَفَعَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الَّذِي أَرَّقَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَخَرَجَ مِنْهُ. وَقِيلَ: لِجُحْرِهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: السُّلَّمُ الْمِصْعَدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الدَّرَجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّبَبُ وَالْمِرْقَاةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: اتَّخِذْنِي سُلَّمًا لِحَاجَتِكَ أَيْ سَبَبًا. وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
وَلَا لَكُمَا مَنْجًى مِنَ الْأَرْضِ فَابْغِيَا
…
بِهِ نَفَقًا أَوْ في السموات سُلَّمَا
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السُّلَّمُ مِنَ السَّلَامَةِ وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إِلَى مِصْعَدِكَ، وَالسُّلَّمُ الَّذِي يُصْعَدُ عَلَيْهِ وَيُرْتَقَى وَهُوَ مُذَكَّرٌ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ فِيهِ التَّأْنِيثَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْنِيثُهُ عَلَى مَعْنَى الْمِرْقَاةِ لَا بِالْوَضْعِ كَمَا أُنِّثَ، الصَّوْتُ بِمَعْنَى الصَّيْحَةِ وَالِاسْتِغَاثَةِ فِي قَوْلِهِ: سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حِرْصِهِ عَلَى إِسْلَامِ قَوْمِهِ وَتَهَالُكِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ فَوْقِ السَّمَاءِ لَأَتَى بِهَا رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ. وَقِيلَ: كَانُوا يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ فَكَانَ يَوَدُّ أَنْ يُجَابُوا إِلَيْهَا لِتَمَادِي حِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ كَذَا فَافْعَلْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ مِنْ حِرْصِهِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أَنَّ الْآيَةَ هِيَ غَيْرُ ابْتِغَاءِ النَّفَقِ فِي الْأَرْضِ أَوِ السُّلَّمِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ فَتَدْخُلَ فِيهِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَصْعَدَ عَلَيْهِ إِلَيْهَا فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ غَيْرَ الدُّخُولِ فِي السِّرْبِ وَالصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ مِمَّا يُرْجَى إيمانهم بسببها أو
(1) سورة يوسف: 12/ 26.
(2)
سورة يوسف: 12/ 27.
مِمَّا اقْتَرَحُوهُ رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ، وَتِلْكَ الْآيَةُ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ إِلْزَامُ الْحُجَّةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَقْسِيمُ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنْ لَا وَجْهَ إِلَّا الصَّبْرُ وَالْمُضِيُّ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتَ تُعَظِّمُ تَكْذِيبَهُمْ وَكُفْرَهُمْ عَلَى نَفْسِكَ وَتَلْتَزِمُ الْحُزْنَ عَلَيْهِ فَإِنْ كُنْتَ تَقْدِرُ عَلَى دُخُولِ سِرْبٍ فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى ارْتِقَاءِ سُلَّمٍ فِي السَّمَاءِ، فَدُونَكَ وَشَأْنَكَ بِهِ أَيْ إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَلَا بُدَّ مِنَ الْتِزَامِ الصَّبْرِ وَاحْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ وَمُعَارَضَتِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ لِلنَّاظِرِينَ الْمُتَأَمِّلِينَ إِذْ هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَهْتَدِي بِالنَّظَرِ فِيهِ قَوْمٌ بِحَقِّ مِلْكِهِ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أَيْ فِي أَنْ تَأْسَفَ وَتَحْزَنَ عَلَى أَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَمْضَاهُ وَعَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ انْتَهَى.
وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا هِيَ نَفْسُ الْفِعْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يكون ابتغاء النفق في الأرض أَوِ السُّلَّمِ فِي السَّمَاءِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْآيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَوِ اسْتَطَعْتَ النُّفُوذَ إِلَى مَا تَحْتَ الْأَرْضِ أَوِ التَّرَقِّيَ فِي السَّمَاءِ لَعَلَّ ذَلِكَ يَكُونُ آيَةً لَكَ يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ بِعَلَامَةٍ وَيُرِيدُ: إِمَّا فِي فِعْلِكَ ذَلِكَ أَيْ تَكُونُ الْآيَةُ نَفْسَ دُخُولِكَ فِي الْأَرْضِ وَارْتِقَائِكَ فِي السَّمَاءِ وَإِمَّا فِي أَنْ تَأْتِيَهُمْ بِالْآيَةِ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ انتهى. وما جوزاه مِنْ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا جَوَّزَاهُ لَكَانَ التَّرْكِيبُ فَتَأْتِيَهُمْ بِذَلِكَ آيَةً وَأَيْضًا فَأَيُّ آيَةٍ فِي دُخُولِ سِرْبٍ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا الرُّقِيُّ فِي السَّمَاءِ فَيَكُونُ آيَةً. وَقِيلَ قَوْلُهُ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «1» وَقَوْلُهُ: أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ «2» وَكَانَ فِيهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ المصدرة بكبر عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا يَكُونُ مَاضِيًا وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَقْدِيرِ قَدْ، لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَدْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً وَخِلَافًا لمن حصر ذلك بكان دُونَ أَخَوَاتِهَا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا إِعْرَاضُهُمْ فَلَا يكون مرفوعا بكبر كَمَا فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَكَبُرَ فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ فَافْعَلْ كَمَا تَقُولُ: إِنْ شِئْتَ تَقُومُ بِنَا إِلَى فُلَانٍ نَزُورُهُ، أَيْ فَافْعَلْ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَوِ الْمُضَارِعِ المنفيّ بلم لِأَنَّهُ مَاضٍ، وَلَا يَكُونُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ إِلَّا فِي الشعر.
(1) سورة الإسراء: 17/ 90.
(2)
سورة الإسراء: 17/ 93.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أَيْ إِمَّا يَخْلُقُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ أَوَّلًا فَلَا يَضِلُّ أَحَدٌ وَإِمَّا يَخْلُقُهُ فِيهِمْ بَعْدَ ضَلَالِهِمْ، وَدَلَّ هَذَا التَّعْلِيقُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهُمْ جَمِيعَهُمُ الْهُدَى، بَلْ أَرَادَ إِبْقَاءَ الْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَيُقَرِّرُ هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ، فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْإِيمَانِ فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ يَكُونُ قَدْ أَرَادَ الْكُفْرَ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً له كما صالحة لِلْكُفْرِ اسْتَوَتْ نِسْبَةُ الْقُدْرَةِ إِلَيْهِمَا فَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ إِلَّا الدَّاعِيَةُ مُرَجِّحَةٌ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْعَبْدِ وَإِلَّا وَقَعَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ وَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَ الدَّاعِيَةِ الصَّالِحَةِ تُوجِبُ الْفِعْلَ وَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ مَجْمُوعِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَلِكَ الْكُفْرِ مُرِيدٌ لِذَلِكَ الْكُفْرِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِذَلِكَ الْإِيمَانِ، فَهَذَا الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ قَوَّى ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا بَيَانَ أَقْوَى مِنْ تَطَابُقِ الْبُرْهَانِ مَعَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمُفَوِّضَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَقْتَضِي أَنْ يُؤْمِنَ الْكَافِرُ وَأَنَّ مَا يَأْتِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ لَا خَلْقَ فِيهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بِآيَةٍ مُلْجِئَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْحِكْمَةِ انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: وَالْإِلْجَاءُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ حَاوَلُوا غَيْرَ الْإِيمَانِ لَمَنَعَهُمْ مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ غَيْرِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا تَرَكَ فِعْلَ هَذَا الْإِلْجَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ تَكْلِيفَهُمْ، فَيَكُونُ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ كَأَنْ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْوَصْلَةِ بِهِ إِلَى الثَّوَابِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا اخْتِيَارًا، وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْإِيمَانِ حَالَ كَوْنِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى الْكُفْرِ بِالسَّوِيَّةِ، أَوْ حَالَ حُصُولِ هَذَا الرُّجْحَانِ، وَالْأَوَّلُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ الرُّجْحَانِ حَالَ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالطَّرَفُ الرَّاجِحُ يَكُونُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ تُنَافِي مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمِكْنَةِ وَالِاخْتِيَارَاتِ، فَسَقَطَ قَوْلُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ.
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي أَنْ تَأْسَفَ وَتَحْزَنَ عَلَى أَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمْضَاهُ، وَعَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فيه.
وقال أيضا: ومِنَ الْجاهِلِينَ يُحْتَمَلُ فِي أَنْ لَا تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى وَيُحْتَمَلُ فِي أَنْ تَهْتَمَّ بِوُجُودِ كُفْرِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ، وَتَذْهَبَ بِكَ نَفْسُكَ إِلَى مَا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ، انْتَهَى. وَضُعِّفَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ كَمَالِ ذَاتِهِ وَتَوَفُّرِ مَعْلُومَاتِهِ وَعَظِيمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِقُدْرَةِ الْحَقِّ جل جلاله، وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى جَمِيعِ مَقْدُورَاتِهِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الدِّينِ وَالْعَقَائِدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهَا، وَكَأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بِأَنْ تَأْتِيَهُمْ آيَةٌ ملجئة، ولكنه لا يفعل لِخُرُوجِهِ عَنِ الْحِكْمَةِ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ مِنَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ ذَلِكَ وَيَرُومُونَ مَا هُوَ خِلَافُهُ.
وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْآيَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْإِلْجَاءِ.
وَقِيلَ: لَا تَجْهَلْ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِكَ بَعْضُهُمْ وَيَكْفُرُ بَعْضُهُمْ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يَجْهَلُهُ صلى الله عليه وسلم.
وَقِيلَ لَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا صَبْرَ لَهُ لِأَنَّ قِلَّةَ الصَّبْرِ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِينَ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَمَعَ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِالصَّبْرِ وَبَيَانِ أَنَّهُ خَيْرٌ يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بَعْدَ صَبْرِهِ بِقِلَّةِ الصَّبْرِ.
وَقِيلَ: لَا يَشْتَدُّ حُزْنُكَ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ فَتُقَارِبَ حَالَ الْجَاهِلِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا فِي قَوْلِهِ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ «1» وَقَالَ قَوْمٌ: جَازَ هَذَا الْخِطَابُ لِأَنَّهُ لِقُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَهُ كَانَ ذَلِكَ حَمْلًا عَلَيْهِ كَمَا يَحْمِلُ الْعَاقِلُ عَلَى قَرِيبِهِ فَوْقَ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَجَانِبِ، خَشْيَةً عَلَيْهِ مِنْ تَخْصِيصِ الْإِذْلَالِ.
وَقَالَ مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وَتَمَّمَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ كَانَ يُحْزِنُهُ إِصْرَارُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَحِرْمَانُهُمْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ انْتَهَى.
وَقِيلَ: الرَّسُولُ مَعْصُومٌ مِنَ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَكِنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَمْنَعُ
(1) سورة فاطر: 35/ 80.