الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالسُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَاصِرٌ حَلَبَ وَقَدْ أَشْرَفَ مِنْهَا عَلَى نَيْلِ الطَّلَبِ، فَسَأَلُوهُ وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ حَلَبُ وَأَعْمَالُهَا لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ فَقَطْ، فَكُتِبَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ، وَأُبْرِمَ الْحِسَابُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَعَثَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ يَسْأَلُ مِنْهُ زِيَادَةَ قَلْعَةِ عَزَازَ، عَلَى مَا شَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْإِعْزَازِ، وَأَرْسَلَ بِأُخْتٍ لَهُ صَغِيرَةٍ وَهِيَ الْخَاتُونُ بِنْتُ نُورِ الدِّينِ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى قَبُولِ السُّؤَالِ، وَأَنْجَعَ لِحُصُولِ النَّوَالِ، فَحِينَ رَآهَا النَّاصِرُ قَامَ كَالْقَضِيبِ النَّاضِرِ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَأَجَابَهَا إِلَى سُؤَالِهَا، وَأَطْلَقَ لَهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالتُّحَفِ مَا رَأَى أَنَّهُ عَلَيْهِ فَرْضٌ، ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْ حَلَبَ فَقَصَدَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا عَلَيْهِ فَحَاصَرَ حِصْنَهُمْ مِصْيَابَ فَقَتَلَ وَضَرَبَ وَسَبَى، وَأَخَذَ أَبْقَارَهُمْ، وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ، وَقَصَّرَ أَعْمَارَهُمْ، حَتَّى شَفَعَ فِيهِمْ خَالُهُ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تِكِشَ صَاحِبُ حَمَاةَ ; لِأَنَّهُمْ جِيرَانُهُ، فَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ، وَقَدْ أَحْضَرَ إِلَيْهِ نَائِبُ بَعْلَبَكَّ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُقَدَّمٍ -
الَّذِي كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ - جَمَاعَةً مِنْ أُسَارَى الْفِرِنْجِ الَّذِينَ عَاثُوا بِالْبِقَاعِ فِي غَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَاشْتِغَالِهِ بِحِصَارِ مِصْيَابَ، فَجَدَّدَ لَهُ الْعَزْمَ عَلَى غَزْوِ الْفِرِنْجِ وَالِانْبِعَاثِ فَصَالَحَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ أَصْحَابَ سِنَانٍ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى دِمَشْقَ فِي حِرَاسَةِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ تَلَقَّاهُ أَخُوهُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ فَتَسَالَمَا وَتَعَانَقَا وَتَنَاشَدَا الْأَشْعَارَ، وَلَمَّا دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ فِي سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ فَوَّضَهَا إِلَى أَخِيهِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ تُوارَنْشَاهْ وَلَقَّبَهُ الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى السَّفَرِ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ الْقَاضِي كَمَالُ الدَّيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرُزُورِيُّ قَدْ تُوُفِّيَ فِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ، وَأَخَصِّ النَّاسِ بِنُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ، فَوَّضَ إِلَيْهِ نَظَرَ الْجَامِعِ وَدَارَ الضَّرْبِ وَعِمَارَةَ الْأَسْوَارِ وَالنَّظَرَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى بِالْقَضَاءِ لِابْنِ أَخِيهِ ضِيَاءِ الدِّينِ بْنِ تَاجِ الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيِّ، فَأَمْضَى ذَلِكَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ ; رِعَايَةً لِحَقِّ الْكَمَالِ الشَّهْرُزُورِيِّ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عَلَيْهِ ; بِسَبَبِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِينَ كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ شِحْنَةً بِدِمَشْقَ، وَكَانَ يُعَاكِسُهُ وَيُخَالِفُهُ، وَمَعَ هَذَا أَمْضَى وَصِيَّتَهُ لِابْنِ أَخِيهِ، فَجَلَسَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عَلَى عَادَةِ عَمِّهِ وَقَاعِدَتِهِ وَرَسْمِهِ، وَبَقِيَ فِي نَفْسِ السُّلْطَانِ مِنْ تَوْلِيَةِ شَرَفِ الدِّينِ أَبَى سَعْدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَصْرُونَ الْحَلَبِيِّ، وَكَانَ قَدْ هَاجَرَ إِلَى السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ فَوَعْدَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ قَضَاءَهَا، فَأَسَرَّ بِذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي الْفَاضِلِ، فَأَشَارَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَلَى الضِّيَاءِ أَنْ يَسْتَعْفِيَ مِنْ
الْقَضَاءِ فَاسْتَعْفَى فَأُعْفِيَ، وَتُرِكَ لَهُ وَكَالَةُ بَيْتِ الْمَالِ، وَوَلَّى السُّلْطَانُ ابْنَ أَبِي عَصْرُونَ عَلَى أَنْ يَسْتَنِيبَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ أَبَا الْمَعَالِي مُحَمَّدَ بْنَ زَكِيِّ الدِّينِ، وَالْأَوْحَدَ، عَنْهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَ سَنَوَاتٍ اسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ مُحْيِي الدِّينِ ; أَبُو حَامِدِ بْنُ أَبِي عَصْرُونَ عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ شَرَفِ الدِّينِ ; بِسَبَبِ ضَعْفِ بَصَرِهِ.
وَفِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَفَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ قَرْيَةَ حَزْمٍ عَلَى الزَّاوِيَةِ الْغَزَّالِيَّةِ، وَمَنْ يَشْتَغِلُ بِهَا بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْفَقِيهُ، وَجَعَلَ النَّظَرَ لِقُطْبِ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيِّ مُدَرِّسِهَا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تَزَوَّجَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ بِالسِّتِّ خَاتُونَ عِصْمَةِ الدِّينِ بِنْتِ مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَأَقَامَتْ بَعْدَهُ فِي الْقَلْعَةِ مُحْتَرَمَةً مُكَرَّمَةً، وَوَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْهُ أَخُوهَا الْأَمِيرُ سَعْدُ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ أَنُرَ، وَحَضَرَ الْقَاضِي ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ الْعَقْدَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعُدُولِ، وَبَاتَ النَّاصِرُ عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ مِنَ الدُّخُولِ بِهَا، فَرَكِبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَنَزَلَ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، ثُمَّ سَافَرَ فَعَشَا قَرِيبًا مِنَ الصَّنَمَيْنِ، ثُمَّ أَجَدَّ السَّيْرَ حَتَّى كَانَ دُخُولُهُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي أُبَّهَةِ الْمُلْكِ. وَقَدْ تَلَقَّاهُ أَخُوهُ
وَنَائِبُهُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عِنْدَ بَحْرِ الْقُلْزُمِ وَمَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا شَيْءٌ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا الْمَآكِلُ الْمُتَنَوِّعَةُ، وَكَانَ فِي صُحْبَةِ السُّلْطَانِ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ، وَلَمْ يَكُنْ وَرَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَشَرَعَ يَذْكُرُ مَحَاسِنَهَا، وَمَا اخْتُصَّتْ بِهِ مِنْ بَيْنِ الْبُلْدَانِ، وَوَصَفَ الْهَرَمَيْنِ، وَشَبَّهَهُمَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّشْبِيهَاتِ، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ حَسْبَ مَا ذَكَرَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ ".
وَفِي شَعْبَانَ رَكِبَ السُّلْطَانُ النَّاصِرُ بْنُ أَيُّوبَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَأَسْمَعَ وَلَدَيْهِ الْأَفْضَلَ عَلِيًّا، وَالْعَزِيزَ عُثْمَانَ عَلَى الْحَافِظِ السَّلَفِيِّ، وَتَرَدَّدَ بِهِمَا إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ; الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ رَابِعَ رَمَضَانَ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى الصِّيَامِ بِهَا، وَقَدْ كَمَّلَ عِمَارَةَ السُّورِ عَلَى الْبَلَدِ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْأُسْطُولِ وَإِصْلَاحِ مَرَاكِبِهِ وَسُفُنِهِ وَشَحْنِهِ بِالرِّجَالِ وَالْمُقَاتِلَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِغَزْوِ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، وَأَقْطَعَهُمُ الْإِقْطَاعَاتِ الْجَزِيلَةَ، وَأَرْصَدَ لِصَالِحِ الْأُسْطُولِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ شُئُونِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي أَثْنَاءِ رَمَضَانَ فَأَكْمَلَ صَوْمَهُ بِهَا.
وَفِيهَا أَمَرَ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ بِبِنَاءِ مَدْرَسَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى قَبْرِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَجَعَلَ الشَّيْخَ نَجْمَ الدِّينِ الْخُبُوشَانِيَّ مُدَرِّسَهَا وَنَاظِرَهَا.
وَفِيهَا أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَارَسْتَانِ بِالْقَاهِرَةِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ أَوْقَافًا كَثِيرَةً. وَفِيهَا بَنَى الْأَمِيرُ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ نَائِبُ قَلْعَةِ الْمَوْصِلِ جَامِعًا حَسَنًا وَرِبَاطًا وَمَدْرَسَةً وَمَارَسْتَانًا