الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السُّلْطَانِ فَبَذَلَ الْفِرِنْجُ فِيهِ أَلْفَ دِينَارٍ فَلَمْ يُجَابُوا وَقَدِمَ بَعْدَهُ كُنْدِفْرِيرُ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ مُلُوكِهِمْ أَيْضًا وَوَصَلَتْ سُفُنُ مَلِكِ الْإِنْكِلْتِيرِ وَلَمْ يَجِئْ هُوَ لِاشْتِغَالِهِ بِجَزِيرَةِ قُبْرُسَ وَأَخْذِهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا وَتَوَاصَلَتْ مُلُوكُ الْإِسْلَامِ مِنْ بُلْدَانِهَا فِي أَوَّلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ.
قَالَ الْعِمَادُ: وَقَدْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ لُصُوصٌ يَدْخُلُونَ إِلَى خِيَامِ الْفِرِنْجِ فَيَسْرِقُونَ حَتَّى إِنَّهُمْ يَسْرِقُونَ الرِّجَالَ فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَهَمْ أَخَذَ صَبِيًّا رَضِيعًا مِنْ مَهْدِهِ ابْنَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَوَجَدَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَجْدًا عَظِيمًا، وَاشْتَكَتْ إِلَى مُلُوكِهِمْ فَقَالُوا لَهَا: إِنَّ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ رَحِيمُ الْقَلْبِ، وَقَدْ أَذِنَّا لَكِ أَنْ تَذْهَبِي إِلَيْهِ فَتَشْتَكِي أَمْرَكِ إِلَيْهِ. قَالَ الْعِمَادُ: فَجَاءَتْ إِلَى السُّلْطَانِ وَأَنَا وَاقِفٌ مَعَهُ فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا وَجَعَلَتْ تُمَرِّغُ وَجْهَهَا عَلَى الْأَرْضِ فَسَأَلَهَا عَنْ أَمْرِهَا. فَأَنْهَتْ إِلَيْهِ حَالَهَا فَرَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً حَتَّى دَمَعَتْ عَيْنُهُ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ وَلَدِهَا فَإِذَا هُوَ قَدْ بِيعَ فِي السُّوقِ، فَرَسَمَ بِدَفْعِ ثَمَنِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى جِيءَ بِالْغُلَامِ، فَأَخَذَتْهُ أُمُّهُ وَأَرْضَعَتْهُ سَاعَةً وَهِيَ تَبْكِي مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهَا وَشَوْقِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِحَمْلِهَا إِلَى قَوْمِهَا عَلَى فَرَسٍ مُكَرَّمَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَلَّ بِالرَّأَفَةِ ثَرَاهُ.
[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ مَدِينَةَ عَكَّا مِنْ يَدِ السُّلْطَانِ قَسْرًا]
لَمَّا كَانَ شَهْرُ جُمَادَى الْأُولَى اشْتَدَّ حِصَارُ الْفِرِنْجِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - لَعَكَّا وَتَمَالَئُوا عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ فِي جَمٍّ غَفِيرٍ
وَجَمْعٍ كَثِيرٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ قِطْعَةً مَشْحُونَةً بِالْمُقَاتِلَةِ وَابْتُلِيَ أَهْلُ الثَّغْرِ مِنْهُ بِبَلَاءٍ لَا يُشْبِهُ مَا قَبْلَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ حُرِّكَتِ الْكُوسَاتُ فِي الْبَلَدِ، وَكَانَتْ عَلَامَةَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ فَحَرَّكَ السُّلْطَانُ كُوسَاتِهِ وَاقْتَرَبَ مِنَ الْبَلَدِ وَتَحَوَّلَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْهُمْ لِيَشْغَلَهُمْ عَنِ الْبَلَدِ وَقَدْ أَحَاطُوا بِهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَنَصَبُوا عَلَيْهِ سَبْعَةَ مَجَانِيقَ وَهَى تَضْرِبُ فِي الْبَلَدِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا سِيَّمَا عَلَى بُرْجِ عَيْنِ الْبَقَرِ حَتَّى أَثَّرَتْ بِهِ أَثَرًا بَيِّنًا، وَشَرَعُوا فِي رَدْمِ الْخَنْدَقِ بِمَا أَمْكَنَهُمْ مِنْ دَوَابَّ مَيْتَةٍ وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَمَنْ مَاتَ أَيْضًا، وَقَابَلَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ يَنْقُلُونَ مَا أَلْقَوْهُ فِيهِ إِلَى الْبَحْرِ وَظَفِرَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ بِبُطْسَةٍ عَظِيمَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْرُوتَ مَشْحُونَةً بِالْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ فَأَخَذَهَا وَكَانَ وَاقِفًا فِي الْبَحْرِ فِي أَرْبَعِينَ مَرْكِبًا لَا يَتْرُكُ شَيْئًا يَصِلُ إِلَى الْبَلَدِ بِالْكُلِّيَّةِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَكَانَ فِيهَا سِتُّمِائَةٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ الصَّنَادِيدِ الْأَبْطَالِ فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ رحمهم الله أَجْمَعِينَ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُحِيطَ بِهِمْ مِنَ الْجَوَانِبِ كُلِّهَا وَتَحَقَّقُوا إِمَّا الْغَرَقَ أَوِ الْقَتْلَ خَرَقُوا مِنْ جَوَانِبِهَا كُلِّهَا فَغَرِقَتْ وَلَمْ يَقَدْرِ الْفِرِنْجُ عَلَى أَخْذِ شَىْءٍ مِنْهَا لَا مِنَ الْمِيرَةِ وَلَا مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَحَزِنَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا الْمُصَابِ حُزْنًا عَظِيمًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَلَكِنْ جَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْبَلَاءَ بِأَنْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِلْفِرِنْجِ دَبَّابَةً كَانَتْ أَرْبَعَ طَبَقَاتٍ ; الْأُولَى مِنْ خَشَبٍ وَالثَّانِيَةُ مِنْ رَصَاصٍ وَالثَّالِثَةُ مِنْ حَدِيدٍ وَالرَّابِعَةُ مِنْ نُحَاسٍ وَهِيَ مُشْرِفَةٌ عَلَى السُّورِ وَالْمُقَاتِلَةُ فِيهَا وَقَدْ قَلِقَ أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْهَا بِحَيْثُ حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ شَرِّهَا بِأَنْ يَطْلُبُوا الْأَمَانَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ فَفَرَّجَ اللَّهُ وَأَمْكَنَهُمْ مِنْ حَرِيقِهَا وَاتَّفَقَ ذَلِكَ
فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي غَرِقَتْ فِيهِ الْبُطْسَةُ الْمَذْكُورَةُ فَأَرْسَلَ أَهْلُ الْبَلَدِ إِلَى السُّلْطَانِ يَشْكُونَ كَثْرَةَ الْحِصَارِ وَقُوَّتَهُ عَلَيْهِمْ مُنْذُ قَدِمَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَمَعَ هَذَا قَدْ مَرِضَ وَجُرِحَ مَلِكُ الْإِفْرِنْسِيسِ أَيْضًا وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا شِدَّةً وَغِلْظَةً وَعُتُوًّا وَفَارَقَهُمُ الْمَرْكِيسُ وَسَارَ إِلَى بَلَدِهِ صُورَ خَوْفًا مِنْهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مُلْكَهَا مِنْ يَدِهِ وَبَعَثَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ إِلَى السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ يَذْكُرُ أَنَّ عِنْدَهُ جَوَارِحَ قَدْ جَاءَ بِهَا مِنَ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ إِرْسَالِهَا إِلَيْهِ وَلَكِنَّهَا قَدْ ضَعُفَتْ وَهُوَ يَطْلُبُ لَهُ دَجَاجًا وَطَيْرًا لِتَتَقَوَّى بِهِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بِتَلَطُّفٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَرَمًا وَسَجِيَّةً وَحِشْمَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ يَطْلُبُ فَاكِهَةً وَثَلْجًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَيْضًا فَلَمْ يُفِدْ مَعَهُ الْإِحْسَانُ بَلْ لَمَّا عُوفِيَ عَادَ إِلَى شَرٍّ مِمَّا كَانَ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَأَرْسَلَ مَنْ بِالْبَلَدِ يَقُولُونَ: إِنْ تَعْمَلُوا مَعَنَا شَيْئًا غَدًا وَإِلَّا طَلَبْنَا مِنَ الْفِرِنْجِ الْأَمَانَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَيَّرَ إِلَيْهَا أَسْلِحَةَ الشَّامِ وَالدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَسَائِرَ السَّوَاحِلِ وَمَا كَانَ غَنِمَهُ مِنْ وَقْعَةِ حِطِّينَ وَمِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَهِيَ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ فَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى مُهَاجَمَةِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَكِبَ فِي جَيْشِهِ، فَرَأَى الْفِرِنْجَ قَدْ رَكِبُوا مِنْ وَرَاءِ خَنْدَقِهِمْ وَالرَّجَّالَةُ مِنْهُمْ قَدْ ضَرَبُوا سُورًا حَوْلَ الْفُرْسَانِ، وَهُمْ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ صَمَّاءَ لَا يَنْفُذُهَا شَيْءٌ فَأَحْجَمَ عَنْهُمْ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ نُكُولِ جَيْشِهِ عَمَّا يُرِيدُهُ وَتَحْدُوهُ عَلَيْهِ شَجَاعَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
هَذَا وَقَدِ اشْتَدَّ الْحِصَارُ بِالْبَلَدِ جِدًّا، وَدَخَلَتِ الرَّجَّالَةُ مِنْهُمْ إِلَى الْخَنْدَقِ وَعَلَّقُوا بَدَنَةً مِنَ السُّورِ وَحَشَوْهَا وَأَحْرَقُوهَا فَسَقَطَتْ وَدَخَلَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى الْبَلَدِ فَمَانَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ وَقَتَلُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ سِتَّةَ أَنْفُسٍ فَاشْتَدَّ حَنَقُ الْفِرِنْجِ عَلَيْهِمْ جِدًّا بِسَبَبِ ذَلِكَ وَجَاءَ اللَّيْلُ فَحَالَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَلَمَّا
أَصْبَحَ الصَّبَاحُ خَرَجَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَلَدِ سَيْفُ الدِّينِ الْمَشْطُوبُ فَاجْتَمَعَ بِمَلِكِ الْإِفْرِنْسِيسِ وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَتَسَلَّمُونَ مِنْهُ الْبَلَدَ فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ: بَعْدَمَا سَقَطَ السُّورُ جِئْتَ تَطْلُبُ الْأَمَانَ! فَأَغْلَظَ لَهُ الْأَمِيرُ الْمَشْطُوبُ فِي الْكَلَامِ وَرَجَعَ إِلَى الْبَلَدِ فِي حَالَةٍ اللَّهُ بِهَا عَلِيمٌ، وَلَمَّا أُخْبِرَ أَهْلُ الْبَلَدِ خَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا لِمَا وَقَعَ وَأَرْسَلُوا إِلَى السُّلْطَانِ يُعْلِمُونَهُ بِمَا وَقَعَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُسْرِعُوا الْخُرُوجَ مِنَ الْبَلَدِ فِي الْبَحْرِ وَلَا يَتَأَخَّرُوا عَنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَلَا يَبْقَى بِهَا مُسْلِمٌ فَتَشَاغَلَ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ بِهَا فِي جَمْعِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ وَتَأَخَّرُوا عَنِ الْمَسِيرِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَمَا أَصْبَحَ الْخَبَرُ إِلَّا عِنْدَ الْفِرِنْجِ مِنْ مَمْلُوكَيْنِ صَغِيرَيْنِ سَمِعَا بِمَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ فَهَرَبَا إِلَى قَوْمِهِمَا فَأَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ، فَاحْتَفَظُوا عَلَى الْبَحْرِ احْتِفَاظًا عَظِيمًا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةٍ وَلَا خَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى كَبْسِ الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَلَمْ يُوَافِقْهُ الْجَيْشُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالُوا لَا نُخَاطِرُ بِالْإِسْلَامِ كُلِّهِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ بَعَثَ إِلَى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْأَمَانَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى أَنْ يُطْلِقَ عِدَّتَهُمْ مِنَ الْأَسْرَى الَّذِينَ تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَيَزِيدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ صَلِيبَ الصَّلَبُوتِ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يُطْلِقَ كُلَّ أَسِيرٍ تَحْتَ يَدِهِ، وَيُطْلِقَ لَهُمْ جَمِيعَ الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَبَى ذَلِكَ وَتَرَدَّدَتِ الْمُرَاسَلَاتُ فِي ذَلِكَ وَالْحِصَارُ يَتَزَايَدُ عَلَى أَسْوَارِ الْبَلَدِ وَقَدْ تَهَدَّمَتْ ثُلَمٌ كَثِيرَةٌ وَأَعَادَ الْمُسْلِمُونَ كَثِيرًا مِنْهَا وَسَدُّوا ثَغْرَ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ بِنُحُورِهِمْ رحمهم الله وَصَبَرُوا صَبْرًا عَظِيمًا، وَصَابَرُوا ثُمَّ كَانَ آخِرَ أَمْرِهِمُ الشَّهَادَةُ صَبْرًا وَقَدْ كَتَبُوا إِلَى السُّلْطَانِ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ يَقُولُونَ: يَا مَوْلَانَا لَا تَخْضَعْ لِهَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينِ الَّذِينَ قَدْ أَبَوْا عَلَيْكَ الْإِجَابَةَ فِينَا، فَقَدْ بَايَعْنَا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى نُقْتَلَ عَنْ آخِرِنَا وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَا شَعَرَ النَّاسُ إِلَّا وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَعْلَامُ الْكُفْرِ وَصُلْبَانُهُ وَشِعَارُهُ وَنَارُهُ عَلَى أَسْوَارِ الْبَلَدِ وَصَاحَ الْفِرِنْجُ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاشْتَدَّ حُزْنُ الْمُوَحِّدِينَ وَانْحَصَرَ كَلَامُ الْعُقَلَاءِ فِي النَّاسِ فِي: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَغَشِيَ النَّاسَ بَهْتَةٌ عَظِيمَةٌ وَحَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ وَوَقَعَ فِي الْعَسْكَرِ الصِّيَاحُ وَالْعَوِيلُ وَالْبُكَاءُ وَالنَّحِيبُ وَدَخَلَ الْمَرْكِيسُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَقَدْ عَادَ إِلَيْهِمْ سَرِيعًا بِهَدَايَا إِلَى الْمُلُوكِ، فَدَخَلَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِأَرْبَعَةِ أَعْلَامٍ لِلْمُلُوكِ فَنَصَبَهَا فِي الْبَلَدِ وَاحِدًا عَلَى الْمِئْذَنَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَآخَرَ عَلَى الْقَلْعَةِ وَآخَرَ عَلَى بُرْجِ الدَّاوِيَّةِ وَآخَرَ عَلَى بُرْجِ الْقِتَالِ عِوَضًا عَنْ أَعْلَامِ السُّلْطَانِ، وَتَحَيَّزَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ بِهَا إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَلَدِ مُعْتَقَلِينَ مُحْتَاطٌ بِهِمْ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أُسِرَتِ النِّسَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَقُيِّدَتِ الْأَبْطَالُ وَأُهِينَ الرِّجَالُ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَأَمَرَ السُّلْطَانُ أَيَّدَهُ اللَّهُ الْجَيْشَ بِالتَّأَخُّرِ عَنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الْمُضَايَقَةِ إِلَى الَّتِي بَعْدَهَا وَتَأَخَّرَ هُوَ جَرِيدَةً؛ لِيَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَمَا عَلَيْهِ يُعَوِّلُونَ وَهُمْ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْبَلَدِ مَشْغُولُونَ، وَبِتَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا مَدْهُوشُونَ ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الْعَسْكَرِ وَعِنْدَهُ مِنَ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عز وجل، وَجَاءَتِ الْمُلُوكُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَالْأُمَرَاءُ وَكُبَرَاءُ الدَّوْلَةِ يُعَزُّونَهُ فِيمَا وَقَعَ، وَيَسَلُونَهُ عَمَّا عَنْهُ الْحَالُ انْقَشَعَ، ثُمَّ رَاسَلَ مُلُوكَ الْفِرِنْجِ فِي خَلَاصِ مَنْ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أُسَارَى الْإِسْلَامِ فَطَلَبُوا مِنْهُ عِدَّتَهُمْ مِنْ أُسَارَاهُمْ وَمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَصَلِيبَ الصَّلَبُوتِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَأَرْسَلَ فَأَحْضَرَ الْمَالَ وَالصَّلِيبَ، وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ مِنَ الْأُسَارَى إِلَّا سِتُّمِائَةِ أَسِيرٍ فَطَلَبَ الْفِرِنْجُ مِنْهُ أَنْ يُرِيَهُمُ الصَّلِيبَ مِنْ بَعِيدٍ فَلَمَّا