المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[قصة مريم والبشارة بعيسى] - البداية والنهاية - ت التركي - جـ ٢

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ ذِكْرِ أُمَمٍ أُهْلِكُوا بِعَامَّةٍ]

- ‌[أَصْحَابُ الرَّسِّ]

- ‌[قِصَّةُ قَوْمِ يس]

- ‌[قِصَّةُ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قَوْمُ يُونُسَ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ]

- ‌[فَضْلُ يُونُسَ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ مُوسَى الْكَلِيمِ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قِصَّتُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ]

- ‌[تَحْرِيضُ فِرْعَوْنَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى وَإِسْلَامُ السَّحَرَةِ]

- ‌[هَلَاكُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دُخُولِ بَنِي إِسْرَائِيلَ التِّيهَ وَمَا جَرَى لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ]

- ‌[سُؤَالُ الرُّؤْيَةِ]

- ‌[قِصَّةُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فِي غَيْبَةِ كَلِيمِ اللَّهِ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ حَدِيثٍ آخَرَ بِمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ]

- ‌[قِصَّةُ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْمُلَقَّبِ بِحَدِيثِ الْفُتُونِ الْمُتَضَمِّنِ قِصَّةَ مُوسَى مَبْسُوطَةً مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا]

- ‌[ذِكْرُ بِنَاءِ قُبَّةِ الزَّمَانِ]

- ‌[قِصَّةُ قَارُونَ مَعَ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ فَضَائِلِ مُوسَى عليه السلام وَشَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ وَوَفَاتِهِ]

- ‌[ذِكْرُ حَجِّ مُوسَى عليه السلام إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَصِفَتِهِ]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاتِهِ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ نُبُوَّةِ يُوشَعَ وَقِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ عليهم السلام]

- ‌[ذِكْرُ قِصَّتَيِ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ عليهما السلام]

- ‌[قِصَّةُ الْخَضِرِ]

- ‌[قِصَّةُ إِلْيَاسَ عليه السلام]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ حِزْقِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ الْيَسَعَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ]

- ‌[قِصَّةُ شَمْوِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَضَائِلُهُ وَشَمَائِلُهُ وَدَلَائِلُ نُبُوَّتِهِ وَأَعْلَامِهِ]

- ‌[ذِكْرُ كَمِّيَّةِ حَيَّاتِهِ وَكَيْفِيَّةِ وَفَاتِهِ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام]

- ‌[نَسَبُهُ وَمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَمُدَّةِ مُلْكِهِ وَحَيَاتِهِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ]

- ‌[شِعْيَا بْنُ أَمْصِيَا]

- ‌[أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا]

- ‌[ذِكْرُ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ]

- ‌[ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ خَبَرِ دَانْيَالَ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ عِمَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ خَرَابِهَا]

- ‌[قِصَّةُ الْعُزَيْرِ]

- ‌[هَلْ كَانَ عُزَيْرٌ نَبِيًّا أَمْ لَا]

- ‌[الزَّمَنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ الْعُزَيْرُ]

- ‌[قِصَّةُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عليهما السلام]

- ‌[قِصَّتُهُمَا كَمَا حَكَاهَا الْقُرْآنُ]

- ‌[بَيَانُ سَبَبِ قَتْلِ يَحْيَى عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ]

- ‌[قِصَّةُ مَرْيَمَ وَالْبِشَارَةِ بِعِيسَى]

- ‌[ذِكْرُ مِيلَادِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ الْبَتُولِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَلَدِ]

- ‌[ذِكْرُ مَنْشَأِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام وَبَيَانُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[بَيَانُ نُزُولِ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَمَوَاقِيتِهَا]

- ‌[بَيَانُ شَجَرَةِ طُوبَى مَا هِيَ]

- ‌[ذِكْرُ خَبَرِ الْمَائِدَةِ]

- ‌[فَصَلٌ فِي مَشْيِ عِيسَى عَلَى الْمَاءِ]

- ‌[ذِكْرُ رَفْعِ عِيسَى عليه السلام]

- ‌[صِفَةُ عِيسَى عليه السلام وَشَمَائِلُهُ وَفَضَائِلُهُ]

- ‌[اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ عليه السلام بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِيهِ]

- ‌[بَيَانُ بِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةِ]

- ‌[كِتَابُ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ]

- ‌[خَبَرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ]

- ‌[بَيَانُ طَلَبِ ذِي الْقَرْنَيْنِ عَيْنَ الْحَيَاةِ]

- ‌[ذِكْرُ أُمَّتَيْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَصِفَاتِهِمْ وَمَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَصِفَةِ السَّدِّ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ]

- ‌[قِصَّةُ الرَّجُلَيْنِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ أَيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ]

الفصل: ‌[قصة مريم والبشارة بعيسى]

[قِصَّةُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ]

[قِصَّةُ مَرْيَمَ وَالْبِشَارَةِ بِعِيسَى]

َ، عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ "، الَّتِي أُنْزِلَ صَدْرُهَا، وَهُوَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ آيَةً مِنْهَا، فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنْهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، مِنَ التَّثْلِيثِ فِي الْأَقَانِيمِ، وَيَدَّعُونَ - بِزَعْمِهِمْ - أَنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ; وَهُمُ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ، وَعِيسَى، وَمَرْيَمُ، عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عز وجل، صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَّنَ فِيهَا، أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ فِي الرَّحِمِ، كَمَا صَوَّرَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ وَقَالَ لَهُ: كُنْ. فَكَانَ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَصْلَ مِيلَادِ أُمِّهِ مَرْيَمَ، وَكَيْفَ كَانَ مِنْ أَمْرِهَا، وَكَيْفَ حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا عِيسَى، وَكَذَلِكَ بَسَطَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " مَرْيَمَ " كَمَا سَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 33]

[آلِ عِمْرَانَ: 33 - 37] .

ص: 416

يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ اصْطَفَى آدَمَ، عليه السلام، وَالْخُلَّصَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْمُتَّبِعِينَ شَرْعَهُ الْمُلَازِمِينَ طَاعَتَهُ، ثُمَّ خَصَّصَ فَقَالَ: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ، فَدَخَلَ فِيهِمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ، وَبَنُو إِسْحَاقَ. ثُمَّ ذَكَرَ فَضْلَ هَذَا الْبَيْتِ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ، وَهُمْ آلُ عِمْرَانَ، وَالْمُرَادُ بِعِمْرَانَ هَذَا وَالِدُ مَرْيَمَ عليهما السلام، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ بَاشِمَ بْنُ أَمُونَ بْنِ مَنْشَا بْنِ حِزْقِيَا بْنِ أَحْزِيقَ بْنِ مَوْثِمَ بْنِ عَزَارْيَا بْنِ أَمْصِيَا بْنِ يَاوِشَ بْنِ أَحْزِيهُو بْنُ يَارِمَ بْنُ يَهْفَاشَاطَ بْنِ أَيْشِ بْنِ أَبَانَ بْنِ رَحْبَعَامَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ.

ص: 417

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ مَاتَانَ بْنِ الَيعَازِرَ بْنِ الْيُودِ بْنِ أَجْبَنَ بْنِ صَادُوقَ بْنِ عَيَازُورَ بْنِ الْيَاقِيمِ بْنِ أَيْبُودَ بْنِ زَرْبَائِيلَ بْنِ شَالْتَانِ بْنِ يُوحِنْيَا بْنِ بِرِسْتِيَا بْنِ آمُونَ بْنِ مِيشَا بْنِ حَزْقِيلَ بْنِ أَجَازَ بْنِ يُوثَامَ بْنِ عَزِرْيَا بْنِ بُورَامَ بْنِ بُوسَافَاطَ بْنِ أَسَا بْنِ أَبْيَا بْنِ رَخِيعَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عليه السلام. وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا مِنْ سُلَالَةِ دَاوُدَ، عليه السلام، وَكَانَ أَبُوهَا عِمْرَانُ صَاحِبَ صَلَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهَا، وَهِيَ حَنَّةُ بِنْتُ فَاقُودَ بْنِ قُبَيْلَ، مِنَ الْعَابِدَاتِ، وَكَانَ زَكَرِيَّا نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَوْجَ أُخْتِ مَرْيَمَ أَشْيَاعَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: زَوْجُ خَالَتِهَا أَشْيَاعَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، أَنَّ أُمَّ مَرْيَمَ كَانَتْ لَا تَحْبَلُ، فَرَأَتْ يَوْمًا طَائِرًا يَزُقُّ فَرْخًا لَهُ،

ص: 418

فَاشْتَهَتِ الْوَلَدَ، فَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ حَمَلَتْ لَتَجْعَلَنَّ وَلَدَهَا مُحَرَّرًا ; أَيْ حَبِيسًا فِي خِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالُوا: فَحَاضَتْ مِنْ فَوْرِهَا، فَلَمَّا طَهُرَتْ وَاقَعَهَا بَعْلُهَا، فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ، عليها السلام {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] وَقُرِئَ بِضَمِّ التَّاءِ {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] أَيْ: فِي خِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَنْذِرُونَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ خُدَّامًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ. وَقَوْلُهَا:{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36] اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ يُولَدُ، وَكَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "«عَنْ أَنَسٍ فِي ذَهَابِهِ بِأَخِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَنَّكَ أَخَاهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ.» وَجَاءَ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: وَ " يُدَمَّى " بَدَلَ: وَ " يُسَمَّى ". وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهَا: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] قَدِ اسْتُجِيبَ لَهَا فِي هَذَا، كَمَا تُقُبِّلَ مِنْهَا نَذْرُهَا ; فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ

ص: 419

الرَّزَّاقِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرْجِ، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ بِأُصْبُعِهِ، إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَابْنَهَا عِيسَى» . تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَيْثَمٌ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أُمُّهُ يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ بِحِضْنَيْهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَابْنِهَا، أَلَمْ تَرَ إِلَى الصَّبِيِّ حِينَ يَسْقُطُ كَيْفَ يَصْرُخُ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «ذَلِكَ حِينَ يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ بِحِضْنَيْهِ» وَهَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَرَوَاهُ قَيْسٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ

ص: 420

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَقَدْ عَصَرَهُ الشَّيْطَانُ عَصْرَةً أَوْ عَصْرَتَيْنِ ; إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ، وَمَرْيَمَ» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] وَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِأَصْلِ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ حِينَ يُولَدُ، إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ، فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ» وَهَذَا عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ "، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَوْلُهُ:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ أُمَّهَا حِينَ وَضَعَتْهَا، لَفَّتْهَا فِي خُرُوقِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ بِهَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَلَّمَتْهَا إِلَى الْعُبَّادِ الَّذِينَ هُمْ مُقِيمُونَ بِهِ، وَكَانَتِ ابْنَةَ إِمَامِهِمْ وَصَاحِبِ صَلَاتِهِمْ، فَتَنَازَعُوا فِيهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إِنَّمَا سَلَّمَتْهَا إِلَيْهِمْ بَعْدَ رَضَاعِهَا وَكَفَالَةِ مِثْلِهَا فِي صِغَرِهَا، ثُمَّ لَمَّا دَفَعَتْهَا إِلَيْهِمْ تَنَازَعُوا فِي أَيِّهِمْ يَكْفُلُهَا، وَكَانَ زَكَرِيَّا نَبِيَّهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِهَا دُونَهُمْ ; مِنْ أَجْلِ أَنَّ زَوْجَتَهُ أُخْتُهَا أَوْ خَالَتُهَا، عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَشَاحُّوهُ فِي ذَلِكَ، وَطَلَبُوا أَنْ يَقْتَرِعَ مَعَهُمْ،

ص: 421

فَسَاعَدَتْهُ الْمَقَادِيرُ، فَخَرَجَتْ قُرْعَتُهُ غَالِبَةً لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] أَيْ: بِسَبَبِ غَلَبِهِ لَهُمْ فِي الْقُرْعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ أَلْقَى قَلَمَهُ مَعْرُوفًا بِهِ، ثُمَّ حَمَلُوهَا وَوَضَعُوهَا فِي مَوْضِعٍ، وَأَمَرُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، فَأَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْهَا، وَظَهَرَ قَلَمُ زَكَرِيَّا، عليه السلام، فَطَلَبُوا أَنْ يَقْتَرِعُوا مَرَّةً ثَانِيَةً، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يُلْقُوا أَقْلَامَهُمْ فِي النَّهْرِ، فَأَيُّهُمْ جَرَى قَلَمُهُ عَلَى خِلَافِ جَرْيَةِ الْمَاءِ فَهُوَ الْغَالِبُ، فَفَعَلُوا، فَكَانَ قَلَمُ زَكَرِيَّا هُوَ الَّذِي جَرَى عَلَى خِلَافِ جَرْيَةِ الْمَاءِ، وَسَارَتْ أَقْلَامُهُمْ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَقْتَرِعُوا ثَالِثَةً، فَأَيُّهُمْ جَرَى قَلَمُهُ مَعَ الْمَاءِ، وَتَكُونُ بَقِيَّةُ الْأَقْلَامِ قَدِ انْعَكَسَ سَيْرُهَا صُعُدًا ; فَهُوَ الْغَالِبُ، فَفَعَلُوا، فَكَانَ زَكَرِيَّا هُوَ الْغَالِبَ لَهُمْ، فَكَفَلَهَا إِذْ كَانَ أَحَقَّ بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا ; لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اتَّخَذَ لَهَا زَكَرِيَّا مَكَانًا شَرِيفًا مِنَ الْمَسْجِدِ، لَا يَدْخُلُهُ سِوَاهَا، فَكَانَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، وَتَقُومُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ سَدَانَةِ الْبَيْتِ إِذَا جَاءَتْ نَوْبَتُهَا، وَتَقُومُ بِالْعِبَادَةِ لَيْلَهَا وَنَهَارَهَا، حَتَّى صَارَتْ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ بِعِبَادَتِهَا فِي

ص: 422

بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاشْتَهَرَتْ بِمَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْكَرِيمَةِ، وَالصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مَوْضِعَ عِبَادَتِهَا، يَجِدُ عِنْدَهَا رِزْقًا غَرِيبًا فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، فَكَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، فَيَسْأَلُهَا:{أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] فَتَقُولُ: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 78] أَيْ: رِزْقٌ رَزَقَنِيهِ اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ طَمِعَ زَكَرِيَّا فِي وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ صُلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَسَنَّ وَكَبِرَ. {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38] قَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ: يَا مَنْ يَرْزُقُ مَرْيَمَ الثَّمَرَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، هَبْ لِي وَلَدًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ. فَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ وَقَضِيَّتِهِ، مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي قِصَّتِهِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ} [آل عمران: 42]

[آلِ عِمْرَانَ: 42 - 51] .

يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ مَرْيَمَ بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا، بِأَنِ اخْتَارَهَا لِإِيجَادِ وَلَدٍ مِنْهَا، مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَبُشِّرَتْ بِأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا شَرِيفًا {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 46] أَيْ: فِي صِغَرِهِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَكَذَلِكَ فِي حَالِ كُهُولَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَبْلُغُ الْكُهُولَةَ، وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ فِيهَا، وَأُمِرَتْ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالْقُنُوتِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ ; لِتَكُونَ أَهْلًا لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ، وَلِتَقُومَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ. فَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهَا، رضي الله عنها وَرَحِمَهَا، وَرَحِمَ أُمَّهَا وَأَبَاهَا. فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ:{يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} [آل عمران: 42] أَيِ اخْتَارَكِ وَاجْتَبَاكِ. (وَطَهَّرَكِ) أَيْ: مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَأَعْطَاكِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ.

{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَالَمِي زَمَانِهَا، كَقَوْلِهِ لِمُوسَى:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف: 144] وَكَقَوْلِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عليه السلام، أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، أَفْضَلُ

ص: 423

مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَفْضَلُ عِلْمًا، وَأَزْكَى عَمَلًا، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] مَحْفُوظَ الْعُمُومِ ; فَتَكُونَ أَفْضَلَ نِسَاءِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا، وَوُجِدَ بَعْدَهَا ; لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَبِيَّةً، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُبُوَّتِهَا وَنُبُوَّةِ سَارَّةَ أُمِّ إِسْحَاقَ، وَنُبُوَّةِ أُمِّ مُوسَى، مُحْتَجًّا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ إِلَى أُمِّ مُوسَى، كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ سَارَّةَ وَأُمِّ مُوسَى ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ:{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] إِذْ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، كَمَا قَدْ حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالرِّجَالِ، وَلَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ، فَيَكُونُ أَعْلَى مَقَامَاتِ مَرْيَمَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] . فَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ الصِّدِّيقَاتِ الْمَشْهُورَاتِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا، وَمِمَّنْ يَكُونُ بَعْدَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهَا مَقْرُونًا مَعَ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ، رضي الله عنهن وَأَرْضَاهُنَّ.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ،

ص: 425

مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِأَرْبَعٍ ; مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ، وَصَحَّحَهُ.

وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ زِيَادٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ» .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ نِسَاءٍ

ص: 426

رَكِبْنَ الْإِبِلَ، صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ لِزَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بَعِيرًا قَطُّ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ "، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْأَفُهُ بِزَوْجٍ عَلَى قِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ابْنَةَ عِمْرَانَ لَمْ تَرْكَبِ الْإِبِلَ. تَفَرَّدَ بِهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحِ ". وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:

ص: 427

خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَ خُطُوطٍ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ.

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَاتِمٍ الْعَسْكَرِيُّ، نَبَّأَنَا بِشْرُ بْنُ مِهْرَانَ بْنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حَسْبُكَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ، سَيِّدَاتُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ» .

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ: أَرَأَيْتِ حِينَ أَكْبَبْتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَكَيْتِ، ثُمَّ ضَحِكْتِ؟

ص: 428

قَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَسْرَعُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ، وَأَنِّي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَضَحِكْتُ» . وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي " الصَّحِيحِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَاتِ.

وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ» إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ وَفَاطِمَةَ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءُ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ فَاطِمَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا عَلَى

ص: 429

السَّوَاءِ فِي الْفَضِيلَةِ ; لَكِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ، إِنْ صَحَّ عَيَّنَ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفَرَّاءِ، وَأَبُو غَالِبٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ، ابْنَا الْبَنَّا، قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، هُوَ ابْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ خَدِيجَةُ، ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَحْفُوظًا بِ " ثُمَّ " الَّتِي لِلتَّرْتِيبِ، فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِمَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَيُقَدَّمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ، الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا تَنْفِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، عَنْ دَاوُدَ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، فَذَكَرَهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ لَا بِ " ثُمَّ " التَّرْتِيبِيَّةِ، فَخَالَفَهُ إِسْنَادًا وَمَتْنًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ

ص: 430

يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثٌ ; مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» .

وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى، اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِهِ، وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْكَمَالِ فِي النِّسَاءِ فِي مَرْيَمَ وَآسِيَةَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَفَلَتْ نَبِيًّا فِي حَالِ صِغَرِهِ، فَآسِيَةُ كَفَلَتْ مُوسَى الْكَلِيمَ، وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يَنْفِي كَمَالَ غَيْرِهِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ ; فَخَدِيجَةُ خَدَمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَبْلَ الْبَعْثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً، وَبَعْدَهَا أَزْيَدَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا، رضي الله عنها وَأَرْضَاهَا، وَأَمَّا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهَا خُصَّتْ بِمَزِيدِ فَضِيلَةٍ عَلَى أَخَوَاتِهَا ; لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبَقِيَّةُ أَخَوَاتِهَا مِتْنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا عَائِشَةُ ; فَإِنَّهَا كَانَتْ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَلَا يُعْرَفُ فِي سَائِرِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ وَلَا فِي غَيْرِهَا، أَعْلَمُ مِنْهَا وَلَا أَفْهَمُ، وَقَدْ غَارَ اللَّهُ لَهَا حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَأَنْزَلَ بَرَاءَتَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَقَدْ

ص: 431

عُمِّرَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، تُبَلِّغُ عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، وَتُفْتِي الْمُسْلِمِينَ وَتُصْلِحُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَهِيَ أَشْرَفُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُمِّ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ، فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ، وَالْأَحْسَنُ الْوَقْفُ فِيهِمَا، رضي الله عنهما، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:«وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَدَا الْمَذْكُورَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، عليها السلام، فَإِنَّ اللَّهَ طَهَّرَهَا وَاصْطَفَاهَا عَلَى نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلُهَا عَلَى النِّسَاءِ مُطْلَقًا، كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَّةِ، هِيَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَاسْتَأْنَسَ بِقَوْلِهِ:{ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] . قَالَ: فَالثَّيِّبُ آسِيَةُ، وَمِنَ الْأَبْكَارِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ " التَّحْرِيمِ ". فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمِّيَ الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ نُفَيْعٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ

ص: 432

جُنَادَةَ هُوَ الْعَوْفِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَامْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، وَأُخْتَ مُوسَى» .

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ النُّورِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَشْعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ، وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى» رَوَاهُ ابْنُ جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ النُّورِ بِهِ، وَزَادَ: فَقُلْتُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ.

وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي مَرَضِهَا الَّذِي تُوُفِّيَتْ فِيهِ، فَقَالَ لَهَا: بِالْكُرْهِ مِنِّي مَا أَرَى مِنْكِ يَا خَدِيجَةُ، وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ فِي الْكُرْهِ خَيْرًا كَثِيرًا، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِي مَعَكِ فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى، وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ؟ قَالَتْ: وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ:

ص: 433

بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ» . وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْغَلَّابِيِّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، إِذَا لَقِيتِ ضَرَائِرَكِ فَأَقْرِئِيهِنَّ مِنِّي السَّلَامَ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ تَزَوَّجْتَ قَبْلِي؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ، وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى» .

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ سُوِيدِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:«نَزَلَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا أُرْسِلَ بِهِ، وَجَلَسَ يُحَدِّثُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ مَرَّتْ خَدِيجَةُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَنْ هَذِهِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: هَذِهِ صِدِّيقَةُ أُمَّتِي قَالَ جِبْرِيلُ: مَعِي إِلَيْهَا رِسَالَةٌ مِنَ الرَّبِّ، عز وجل، يُقْرِئُهَا السَّلَامَ، وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ، لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ. قَالَتِ: اللَّهُ السَّلَامُ، وَمِنْهُ السَّلَامُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمَا، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، مَا ذَلِكَ الْبَيْتُ الَّذِي مِنْ قَصَبٍ؟ قَالَ: لُؤْلُؤَةٌ جَوْفَاءُ بَيْنَ بَيْتِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَبَيْتِ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ، وَهُمَا مِنْ أَزْوَاجِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَأَصْلُ السَّلَامِ عَلَى خَدِيجَةَ مِنَ اللَّهِ وَبِشَارَتِهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ، مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ، فِي

ص: 434

" الصَّحِيحِ ". وَلَكِنَّ هَذَا السِّيَاقَ بِهَذِهِ الزِّيَادَاتِ غَرِيبٌ جِدًّا. وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي أَسَانِيدِهَا نَظَرٌ.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَهُ عَنِ الصَّخْرَةِ ; يَعْنِي صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: الصَّخْرَةُ عَلَى نَخْلَةٍ، وَالنَّخْلَةُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، وَتَحْتَ النَّخْلَةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، يَنْظِمَانِ سُمُوطَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ. وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ.

ثُمَّ قَدْ رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَذَكَرَهُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ،

ص: 435

أَشْبَهُ. قُلْتُ: وَكَلَامُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ هَذَا، إِنَّمَا تَلْقَاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ، وَضَعَهُ بَعْضُ زَنَادِقَتِهِمْ أَوْ جُهَّالِهِمْ، وَهَذَا مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 436