الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[قِصَّةُ مُوسَى الْكَلِيمِ عليه الصلاة والسلام]
[قِصَّتُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ]
ذِكْرُ قِصَّةِ مُوسَى الْكَلِيمِ، عليه الصلاة والسلام
وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ عَازِرَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عليهم السلام، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا - وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا - وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 51 - 53]
[مَرْيَمَ 51 - 53] . ذَكَرَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّكْلِيمِ وَالتَّقْرِيبِ، وَمَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ قِصَّتَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مَبْسُوطَةٍ، وَمُتَوَسِّطَةٍ، وَمُخْتَصَرَةٍ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ " التَّفْسِيرِ " وَسَنُورِدُ سِيرَتَهُ هَاهُنَا، مِنِ ابْتِدَائِهَا إِلَى آخِرِهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، الَّتِي ذَكَرَهَا السَّلَفُ وَغَيْرُهُمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
[الْقِصَصِ 1 - 6] . يَذْكُرُ تَعَالَى مُلَخَّصَ الْقِصَّةِ ثُمَّ يَبْسُطُهَا بَعْدَ هَذَا، فَذَكَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتْلُو عَلَى نَبِيِّهِ خَبَرَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ; أَيْ بِالصِّدْقِ الَّذِي كَأَنَّ سَامِعَهُ مُشَاهِدٌ لِلْأَمْرِ مُعَايِنٌ لَهُ {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4] أَيْ ; تَجَبَّرَ وَعَتَا، وَطَغَى وَبَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ الرَّبِّ الْأَعْلَى. {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4] أَيْ ; قَسَّمَ رَعِيَّتَهُ إِلَى أَقْسَامٍ وَفِرَقٍ وَأَنْوَاعٍ {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص: 4] وَهُمْ شَعْبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ هُمْ مِنْ سُلَالَةِ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ. وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ خِيَارَ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَلِكَ الظَّالِمَ الْغَاشِمَ الْكَافِرَ الْفَاجِرَ، يَسْتَعْبِدُهُمْ وَيَسْتَخْدِمُهُمْ فِي أَخَسِّ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ، وَأَرْدَئِهَا، وَأَدْنَاهَا، وَمَعَ هَذَا {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] وَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الْقَبِيحِ، أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَا كَانُوا يَأْثُرُونَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عليه السلام، مِنْ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ غُلَامٌ يَكُونُ هَلَاكُ مَلِكِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ، وَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، حِينَ جَرَى عَلَى سَارَّةَ امْرَأَةِ الْخَلِيلِ مِنْ مَلِكِ مِصْرَ، مِنْ إِرَادَتِهِ إِيَّاهَا عَلَى السُّوءِ، وَعِصْمَةِ اللَّهِ لَهَا.
وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ مَشْهُورَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَحَدَّثَ بِهَا الْقِبْطُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَوَصَلَتْ إِلَى فِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسِ مُسَامَرَتِهِ مَعَ أُمَرَائِهِ وَأَسَاوِرَتِهِ وَهُمْ يَسْمُرُونَ عِنْدَهُ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; حَذَرًا مِنْ وُجُودِ هَذَا الْغُلَامِ، وَلَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ نَارًا قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ نَحْوِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَحْرَقَتْ دَوْرَ مِصْرَ وَجَمِيعَ الْقِبْطِ، وَلَمْ تَضُرَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ هَالَهُ ذَلِكَ فَجَمَعَ الْكَهَنَةَ وَالْحُزَاةَ وَالسَّحَرَةَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْكَهَنَةُ: هَذَا غُلَامٌ يُولَدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِ أَهْلِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ. فَلِهَذَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ وَتَرْكِ النِّسْوَانِ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] أَيِ ; الَّذِينَ يَئُولُ مُلْكُ مِصْرَ وَبِلَادُهَا إِلَيْهِمْ {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] أَيْ ; سَنَجْعَلُ الضَّعِيفَ قَوِيًّا، وَالْمَقْهُورَ قَاهِرًا، وَالذَّلِيلَ عَزِيزًا. وَقَدْ جَرَى هَذَا كُلُّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ; كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57 - 59]
[الشُّعَرَاءِ 57 - 59] . وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ احْتَرَزَ كُلَّ الِاحْتِرَازِ أَنْ لَا يُوجَدَ مُوسَى، حَتَّى جَعَلَ رِجَالًا وَقَوَابِلَ يَدُورُونَ عَلَى الْحَبَالَى، وَيَعْلَمُونَ مِيقَاتَ وَضْعِهِنَّ، فَلَا تَلِدُ امْرَأَةٌ ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحَهُ أُولَئِكَ الذَّبَّاحُونَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَأْمُرُ بِذَبْحِ الْغِلْمَانِ لِتَضْعُفَ شَوْكَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يُقَاوِمُونَهُمْ إِذَا غَالَبُوهُمْ أَوْ قَاتَلُوهُمْ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ هَذَا بَعْدَ بَعْثَةِ مُوسَى فَجَعَلَ يَقْتُلُ الْوِلْدَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر: 25] . وَلِهَذَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129] . فَالصَّحِيحُ أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ أَوَّلًا حَذَرًا مِنْ وُجُودِ مُوسَى عليه السلام. هَذَا، وَالْقَدَرُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْجَبَّارُ، الْمَغْرُورُ بِكَثْرَةِ جُنُودِهِ، وَسُلْطَةِ بَأْسِهِ وَاتِّسَاعِ سُلْطَانِهِ، قَدْ حَكَمَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا
يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، وَلَا تُخَالَفُ أَقْدَارُهُ أَنَّ هَذَا الْمَوْلُودَ الَّذِي تَحْتَرِزُ مِنْهُ، وَقَدْ قَتَلْتَ بِسَبَبِهِ مِنَ النُّفُوسِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، لَا يَكُونُ مُرَبَّاهُ إِلَّا فِي دَارِكَ وَعَلَى فِرَاشِكَ، وَلَا يُغَذَّى إِلَّا بِطَعَامِكَ وَشَرَابِكَ فِي مَنْزِلِكَ، وَأَنْتَ الَّذِي تَتَبَنَّاهُ وَتُرَبِّيهِ وَتَتَعَدَّاهُ، وَلَا تَطَّلِعُ عَلَى سِرِّ مَعْنَاهُ، ثُمَّ يَكُونُ هَلَاكُكَ فِي دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ عَلَى يَدَيْهِ ; لِمُخَالَفَتِكَ مَا جَاءَكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَتَكْذِيبِكَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، لِتَعْلَمَ أَنْتَ وَسَائِرُ الْخَلْقِ أَنَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ، ذُو الْبَأْسِ الْعَظِيمِ، وَالْحَوَلِ وَالْقُوَّةِ وَالْمَشِيئَةِ، الَّتِي لَا مَرَدَّ لَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ الْقِبْطَ شَكَوْا إِلَى فِرْعَوْنَ قِلَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِسَبَبِ قَتْلِ وِلْدَانِهِمُ الذُّكُورِ، وَخَشَوْا أَنْ تَتَفَانَى الْكِبَارُ مَعَ قَتْلِ الصِّغَارِ، فَيَصِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَلُونَ مَا كَانَ يَلِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِ الْأَبْنَاءِ عَامًا، وَأَنْ يُتْرَكُوا عَامًا، فَوُلِدَ هَارُونُ، عليه السلام، فِي عَامِ الْمُسَامَحَةِ عَنْ قَتْلِ الْأَبْنَاءِ، وَوُلِدَ مُوسَى، عليه السلام، فِي عَامِ قَتْلِهِمْ، فَضَاقَتْ أُمُّهُ بِهِ ذَرْعًا، وَاحْتَرَزَتْ مِنْ أَوَّلِ مَا حَبِلَتْ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَظْهَرُ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَبَلِ، فَلَمَّا وَضَعَتْ أُلْهِمَتْ أَنِ اتَّخَذَتْ لَهُ تَابُوتًا، فَرَبَطَتْهُ فِي حَبْلٍ، وَكَانَتْ دَارُهَا مُتَاخِمَةً لِلنِّيلِ، فَكَانَتْ تُرْضِعُهُ، فَإِذَا خَشِيَتْ مِنْ أَحَدٍ وَضَعَتْهُ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ فَأَرْسَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ، وَأَمْسَكَتْ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا،
فَإِذَا ذَهَبُوا اسْتَرْجَعَتْهُ إِلَيْهَا بِهِ.
[الْقَصَصِ 7 - 9] . هَذَا الْوَحْيُ وَحَيُّ إِلْهَامٍ وَإِرْشَادٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ - ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} [النحل: 68 - 69]
[النَّحْلِ: 68، 69] . وَلَيْسَ هُوَ بِوَحْيِ نُبُوَّةٍ ; كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، بَلِ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، كَمَا حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُ أُمِّ مُوسَى يَاوِخُ وَقِيلَ: أَيَاذَخْتُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا أُرْشِدَتْ إِلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأُلْقِيَ فِي خَلَدِهَا وَرُوعِهَا أَنْ لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي، فَإِنَّهُ إِنْ ذَهَبَ فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرُدُّهُ إِلَيْكِ، وَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُهُ نَبِيًّا مُرْسَلًا، يُعْلِي كَلِمَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَتْ تَصْنَعُ مَا أُمِرَتْ بِهِ، فَأَرْسَلَتْهُ ذَاتَ يَوْمٍ، وَذَهَلَتْ أَنْ تَرْبُطَ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا، فَذَهَبَ مَعَ النِّيلِ فَمَرَّ عَلَى
دَارِ فِرْعَوْنَ {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ فَالْتَقَطَهُ وَأَمَّا إِنْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِمَضْمُونِ الْكَلَامِ ; وَهُوَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ قُيِّضُوا لِالْتِقَاطِهِ ; لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، صَارَتِ اللَّامُ مُعَلِّلَةً لِغَيْرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَوِّي هَذَا التَّفْسِيرَ الثَّانِيَ قَوْلُهُ {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} [القصص: 8] وَهُوَ الْوَزِيرُ السُّوءُ وَجُنُودَهُمَا الْمُتَابِعِينَ لَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ أَيْ ; كَانُوا عَلَى خِلَافِ الصَّوَابِ، فَاسْتَحَقُّوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ وَالْحَسْرَةَ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْجَوَارِيَ الْتَقَطْنَهُ مِنَ الْبَحْرِ فِي تَابُوتٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْنَ عَلَى فَتْحِهِ، حَتَّى وَضَعْنَهُ بَيْنَ يَدَيِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ ; آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ، الَّذِي كَانَ فِرْعَوْنَ مِصْرَ فِي زَمَنِ يُوسُفَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سِبْطِ مُوسَى. وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ عَمَّتَهُ. حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَدْحُهَا وَالثَّنَاءُ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَأَنَّهُمَا يَكُونَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنَّةِ. فَلَمَّا فَتَحَتِ الْبَابَ وَكَشَفَتِ الْحِجَابَ، رَأَتْ وَجْهَهُ يَتَلَأْلَأُ بِتِلْكَ الْأَنْوَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالْجَلَالَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ وَوَقَعَ نَظَرُهَا عَلَيْهِ أَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا جَاءَ
فِرْعَوْنُ قَالَ: مَا هَذَا؟ وَأَمَرَ بِذَبْحِهِ، فَاسْتَوْهَبَتْهُ مِنْهُ وَدَفَعَتْ عَنْهُ، وَقَالَتْ:{قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص: 9] فَقَالَ لَهَا فِرْعَوْنُ: أَمَّا لَكِ فَنَعَمْ، وَأَمَّا لِي فَلَا. أَيْ ; لَا حَاجَةَ لِي بِهِ. وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ. وَقَوْلُهَا:{عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} [القصص: 9] وَقَدْ أَنَالَهَا اللَّهُ مَا رَجَتْ مِنَ النَّفْعِ ; أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهَدَاهَا اللَّهُ بِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَأَسْكَنَهَا جَنَّتَهُ بِسَبَبِهِ {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا تَبَنَّيَاهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] أَيْ ; لَا يَدْرُونَ مَاذَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِمْ، أَنَّ قَيَّضَهُمْ لِالْتِقَاطِهِ، مِنَ النِّقْمَةِ الْعَظِيمَةِ بِفِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ الَّذِي الْتَقَطَتْ مُوسَى وَرَبَّتْهُ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ، وَلَيْسَ لِامْرَأَتِهِ ذِكْرٌ بِالْكُلِّيَّةِ. وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، عز وجل. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ - وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ - فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 10 - 13]
[الْقَصَصِ: 10 - 13] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10] أَيْ ; مَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ
أَمْرِ مُوسَى {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10] أَيْ ; لَتُظْهِرُ أَمْرَهُ وَتَسْأَلُ عَنْهُ جَهْرَةً. {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10] أَيْ ; صَبَّرْنَاهَا وَثَبَّتْنَاهَا {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ} [القصص: 10] وَهِيَ ابْنَتُهَا الْكَبِيرَةُ: {قُصِّيهِ} [القصص: 11] أَيِ; اتَّبِعِي أَثَرَهُ وَاطْلُبِي لِي خَبَرَهُ {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11] قَالَ مُجَاهِدٌ: عَنْ بُعْدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] وَذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى، عليه السلام، لَمَّا اسْتَقَرَّ بِدَارِ فِرْعَوْنَ أَرَادُوا أَنْ يُغَذُّوهُ بِرَضَاعَةٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ ثَدْيًا وَلَا أَخَذَ طَعَامًا، فَحَارُوا فِي أَمْرِهِ وَاجْتَهَدُوا فِي ذَلِكَ، أَيْ عَلَى تَغْذِيَتِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَفْعَلْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] فَأَرْسَلُوهُ مَعَ الْقَوَابِلِ وَالنِّسَاءِ إِلَى السُّوقِ ; لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ مَنْ يُوَافِقُ رَضَاعَتَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ وُقُوفٌ بِهِ وَالنَّاسُ عُكُوفٌ عَلَيْهِ، إِذْ بَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ، فَلَمْ تُظْهِرْ أَنَّهَا تَعْرِفُهُ، بَلْ قَالَتْ:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ، قَالُوا لَهَا: مَا يُدْرِيكِ بِنُصْحِهِمْ وَشَفَقَتِهِمْ علَيْهِ؟ فَقَالَتْ: رَغْبَةً فِي صِهْرِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ. فَأَطْلَقُوهَا وَذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَأَخَذَتْهُ أُمُّهُ، فَلَمَّا أَرْضَعَتْهُ الْتَقَمَ ثَدْيَهَا وَأَخَذَ يَمْتَصُّهُ وَيَرْتَضِعُهُ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى آسِيَةَ يُعْلِمُهَا بِذَلِكَ، فَاسْتَدْعَتْهَا إِلَى مَنْزِلِهَا، وَعَرَضَتْ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ عِنْدَهَا، وَأَنَّ تُحْسِنَ إِلَيْهَا، فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَسْتُ
أَقْدِرُ عَلَى هَذَا إِلَّا أَنْ تُرْسِلِيهِ مَعِي. فَأَرْسَلَتْهُ مَعَهَا، وَرَتَّبَتْ لَهَا رَوَاتِبَ، وَأَجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَاتِ وَالْكُسَاوى وَالْهِبَاتِ، فَرَجَعَتْ بِهِ تَحُوزُهُ إِلَى رَحْلِهَا، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ شَمَلَهُ بِشَمْلِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص: 13] أَيْ ; كَمَا وَعَدْنَاهَا بِرَدِّهِ وَرِسَالَتِهِ، فَهَذَا رَدُّهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْبِشَارَةِ بِرِسَالَتِهِ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13] .
وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ بِهَذَا عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ كَلَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ لَهُ:{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى - إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى - أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 37 - 39]
[طه 37 - 39] . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] قَالَ قَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَيْ تُطْعَمَ وَتُرَفَّهَ وَتُغَذَّى بِأَطْيَبِ الْمَآكِلِ، وَتَلْبَسَ أَحْسَنَ الْمَلَابِسِ ; بِمَرْأًى مِنِّي، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحِفْظِي وَكَلَاءَتِي لَكَ فِيمَا صَنَعْتُ بِكَ وَلَكَ، وَقَدَّرْتُهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرِي {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] . وَسَنُورِدُ حَدِيثَ الْفِتُونِ فِي مَوْضِعِهِ بَعْدَ هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
[الْقَصَصِ: 14 - 17] . لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى أُمِّهِ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا، وَإِحْسَانِهِ بِذَلِكَ، وَامْتِنَانِهِ عَلَيْهَا، شَرَعَ فِي ذِكْرِ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ; وَهُوَ احْتِكَامُ الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، وَهُوَ سِنُّ الْأَرْبَعِينَ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، آتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ; وَهُوَ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ الَّتِي كَانَ بَشَّرَ بِهَا أُمَّهُ، حَيْثُ قَالَ:{إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] ثُمَّ شَرَعَ فِي ذِكْرِ سَبَبِ خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ، وَذَهَابِهِ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ وَإِقَامَتِهِ هُنَالِكَ، حَتَّى كَمَلَ الْأَجَلُ، وَانْقَضَى الْأَمَدُ، وَكَانَ مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لَهُ، وَإِكْرَامِهِ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ تَعَالَى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: وَذَلِكَ نِصْفَ النَّهَارِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَ الْعِشَائَيْنِ {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} [القصص: 15] أَيْ ; يَتَضَارَبَانِ وَيَتَهَاوَشَانِ {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} [القصص: 15] أَيْ ; إِسْرَائِيلِيٌّ {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] أَيْ ; قِبْطِيٌّ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى، عليه السلام، كَانَتْ لَهُ بِدِيَارِ مِصْرَ صَوْلَةٌ ; بِسَبَبِ نِسْبَتِهِ إِلَى تَبَنِّي فِرْعَوْنَ لَهُ وَتَرْبِيَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدْ عَزُّوَا وَصَارَتْ لَهُمْ وَجَاهَةٌ، وَارْتَفَعَتْ رُءُوسُهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَرْضَعُوهُ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ، أَيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا اسْتَغَاثَ ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيُّ مُوسَى، عليه السلام، عَلَى ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، أَقْبَلَ إِلَيْهِ مُوسَى فَوَكَزَهُ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ طَعْنَهُ بِجُمْعِ كَفِّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ {فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] أَيْ ; فَمَاتَ مِنْهَا. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْقِبْطِيُّ كَافِرًا مُشْرِكًا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يُرِدْ مُوسَى قَتْلَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ زَجْرَهُ وَرَدْعَهُ، وَمَعَ هَذَا قَالَ مُوسَى {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ - قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص: 15 - 17] أَيْ، مِنَ الْعِزِّ وَالْجَاهِ {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17] .
[الْقَصَصِ 18 - 21] . يُخْبِرُ تَعَالَى
أَنَّ مُوسَى أَصْبَحَ بِمَدِينَةِ مِصْرَ خَائِفًا أَيْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقَتِيلَ الَّذِي رُفِعَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ مُوسَى فِي نُصْرَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَقْوَى ظُنُونُهُمْ أَنَّ مُوسَى مِنْهُمْ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَصَارَ يَسِيرُ فِي الْمَدِينَةِ فِي صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ أَيْ ; يَتَلَفَّتُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذَا ذَلِكَ الرَّجُلُ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ أَيْ ; يَصْرُخُ بِهِ، وَيَسْتَغِيثُهُ عَلَى آخَرَ قَدْ قَاتَلَهُ، فَعَنَّفَهُ مُوسَى وَلَامَهُ عَلَى كَثْرَةِ شَرِّهِ، وَمُخَاصَمَتِهِ، قَالَ لَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، الَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لِمُوسَى وَلِلْإِسْرَائِيلِيِّ، فَيَرْدَعُهُ عَنْهُ وَيُخَلِّصُهُ مِنْهُ، فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْقِبْطِيِّ {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19] . قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْكَلَامَ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي اطَّلَعَ عَلَى مَا كَانَ صَنَعَ مُوسَى بِالْأَمْسِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى مُوسَى مُقْبِلًا إِلَى الْقِبْطِيِّ، اعْتَقَدَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِ لَمَّا عَنَّفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] فَقَالَ مَا قَالَ لِمُوسَى، وَأَظْهَرَ الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ وَقَعَ بِالْأَمْسِ، فَذَهَبَ الْقِبْطِيُّ فَاسْتَعْدَى فِرْعَوْنَ عَلَى مُوسَى. وَهَذَا الَّذِي لَمْ يَذْكُرْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ سِوَاهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا هُوَ الْقِبْطِيُّ، وَأَنَّهُ لَمَّا رَآهُ مُقْبِلًا إِلَيْهِ خَافَهُ ; وَرَأَى مِنْ سَجِيَّتِهِ انْتِصَارًا جَيِّدًا لِلْإِسْرَائِيلِيِّ، فَقَالَ مَا قَالَ مِنْ بَابِ الظَّنِّ وَالْفِرَاسَةِ، أَنَّ هَذَا لَعَلَّهُ قَاتِلُ ذَاكَ الْقَتِيلِ بِالْأَمْسِ، أَوْ لَعَلَّهُ فَهِمَ مِنْ كَلَامِ الْإِسْرَائِيلِيِّ، حِينَ اسْتَصْرَخَهُ عَلَيْهِ، مَا دَلَّهُ عَلَى هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ بَلَغَهُ أَنَّ مُوسَى هُوَ قَاتِلُ ذَلِكَ الْمَقْتُولِ بِالْأَمْسِ، فَأَرْسَلَ
فِي طَلَبِهِ، وَسَبَقَهُمْ رَجُلٌ نَاصِحٌ مِنْ طَرِيقٍ أَقْرَبَ إِلَيْهِ، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20] سَاعِيًا إِلَيْهِ مُشْفِقًا عَلَيْهِ فَقَالَ: {يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} [القصص: 20] أَيْ ; مِنْ هَذِهِ الْبَلْدَةِ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ أَيْ ; فِيمَا أَقُولُهُ لَكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] أَيْ ; فَخَرَجَ مِنْ مَدِينَةِ مِصْرَ مِنْ فَوْرِهِ، عَلَى وَجْهِهِ، لَا يَهْتَدِي إِلَى طَرِيقٍ وَلَا يَعْرِفُهُ، قَائِلًا:{رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21] .
[الْقَصَصِ: 22 - 24] . يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خُرُوجِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مِنْ مِصْرَ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ أَيْ ; يَتَلَفَّتُ خَشْيَةَ أَنْ يُدْرِكَهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، وَلَا إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِصْرَ قَبْلَهَا وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ أَيْ ; اتَّجَهَ لَهُ طَرِيقٌ يَذْهَبُ فِيهِ {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] أَيْ ; عَسَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّرِيقُ مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَقْصُودِ. وَكَذَا وَقَعَ، أَوْصَلَتْهُ إِلَى مَقْصُودٍ، وَأَيُّ مَقْصُودٍ {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] وَكَانَتْ بِئْرًا يَسْتَقُونَ مِنْهَا. وَمَدْيَنُ هِيَ الْمَدِينَةُ الَّتِي أَهْلَكَ اللَّهُ فِيهَا أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عليه السلام، وَقَدْ
كَانَ هَلَاكُهُمْ قَبْلَ زَمَنِ مُوسَى، عليه السلام، فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. وَلَمَّا وَرَدَ الْمَاءَ الْمَذْكُورَ {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص: 23] أَيْ ; تُكَفْكِفَانِ غَنَمَهُمَا أَنْ تَخْتَلِطَ بِغَنَمِ النَّاسِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَنَّهُنَّ كُنَّ سَبْعَ بَنَاتٍ. وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْغَلَطِ. وَلَعَلَّهُ كَانَ لَهُ سَبْعٌ، وَلَكِنْ إِنَّمَا كَانَ تَسْقِي اثْنَتَانِ مِنْهُنَّ. وَهَذَا الْجَمْعُ مُمْكِنٌ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى بِنْتَيْنِ.
{قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] أَيْ ; لَا نَقْدِرُ عَلَى وِرْدِ الْمَاءِ إِلَّا بَعْدَ صُدُورِ الرِّعَاءِ ; لِضَعْفِنَا، وَسَبَبُ مُبَاشَرَتِنَا هَذِهِ الرَّعِيَّةَ ضَعْفُ أَبِينَا وَكِبَرُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسَقَى لَهُمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَذَلِكَ أَنَّ الرِّعَاءَ كَانُوا إِذَا فَرَغُوا مِنْ وِرْدِهِمْ، وَضَعُوا عَلَى فَمِ الْبِئْرِ صَخْرَةً عَظِيمَةً، فَتَجِيءُ هَاتَانِ الْمَرْأَتَانِ فَيَشْرَعَانِ غَنَمَهُمَا فِي فَضْلِ أَغْنَامِ النَّاسِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ جَاءَ مُوسَى فَرَفْعَ تِلْكَ الصَّخْرَةِ وَحْدَهُ، ثُمَّ اسْتَقَى لَهُمَا، وَسَقَى غَنَمَهُمَا، ثُمَّ رَدَّ الصَّخْرَةَ كَمَا كَانَتْ. قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمْرُ: وَكَانَ لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا عَشَرَةٌ. وَإِنَّمَا اسْتَقَى ذَنُوبًا وَاحِدًا فَكَفَاهُمَا، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ. قَالُوا: وَكَانَ ظِلَّ شَجَرَةٍ مِنَ السَّمُرِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ،
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ رَآهَا خَضْرَاءَ تَرِفُّ. {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَارَ مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ، لَمْ يَأْكُلْ إِلَّا الْبَقْلَ وَوَرَقَ الشَّجَرِ، وَكَانَ حَافِيًا فَسَقَطَتْ نَعْلَا قَدَمَيْهِ مِنَ الْحَفَاءِ وَجَلَسَ فِي الظِّلِّ، وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّ بَطْنَهُ لَاصِقٌ بِظَهْرِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ خُضْرَةَ الْبَقْلِ لَتُرَى مِنْ دَاخِلِ جَوْفِهِ، وَأَنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ. قَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: لَمَّا قَالَ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] أَسْمَعَ الْمَرْأَةَ.
[الْقَصَصِ: 25 - 28] . لَمَّا جَلَسَ مُوسَى، عليه السلام، فِي الظِّلِّ، وَقَالَ:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] سَمِعَتْهُ الْمَرْأَتَانِ، فِيمَا قِيلَ، فَذَهَبَتَا إِلَى أَبِيهِمَا، فَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَنْكَرَ سُرْعَةَ رُجُوعِهِمَا، فَأَخْبَرَتَاهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى عليه السلام، فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَذْهَبَ إِلَيْهِ فَتَدْعُوهُ {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25]
أَيْ ; مَشْيَ الْحَرَائِرِ. قَالَ عُمْرُ، رضي الله عنه: تَسْتُرُ وَجْهَهَا بِكُمِّ دِرْعِهَا {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] صَرَّحَتْ لَهُ بِهَذَا ; لِئَلَّا يُوهِمَ كَلَامُهَا رِيبَةً، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ حَيَائِهَا وَصِيَانَتِهَا. {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} [القصص: 25] أَيْ ; وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، وَمَا كَانَ مَنْ أَمْرِهِ ; فِي خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ فِرَارًا مَنْ فِرَعَوْنِهَا، قَالَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْخُ:{لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] أَيْ ; خَرَجْتَ مِنْ سُلْطَانِهِمْ، فَلَسْتَ فِي دَوْلَتِهِمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الشَّيْخِ ; مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ شُعَيْبٌ، عليه السلام. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرِينَ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَجَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثٍ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. وَصَرَّحَ طَائِفَةٌ بِأَنَّ شُعَيْبًا، عليه السلام، عَاشَ عُمْرًا طَوِيلًا بَعْدَ هَلَاكِ قَوْمِهِ، حَتَّى أَدْرَكَهُ مُوسَى، عليه السلام، وَتَزَوَّجَ بِابْنَتِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ صَاحِبَ مُوسَى، عليه السلام، هَذَا اسْمُهُ شُعَيْبٌ، وَكَانَ سَيِّدَ الْمَاءِ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِالنَّبِيِّ صَاحِبِ مَدْيَنَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: ابْنُ عَمِّهِ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: رَجُلٌ
اسْمُهُ يَثْرُونُ. هَكَذَا هُوَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ: يَثْرُونُ كَاهِنُ مَدْيَنَ. أَيْ ; كَبِيرُهَا وَعَالِمُهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: اسْمُهُ يَثْرُونُ. زَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَهُوَ ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ. زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَاحِبُ مَدْيَنَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، بَشَّرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ نَجَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ لِأَبِيهَا {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] أَيْ; لِرَعْيِ غَنَمِكَ. ثُمَّ مَدَحَتْهُ بِأَنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ عُمْرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَأَبُو مَالِكٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ قَالَ لَهَا أَبُوهَا: وَمَا عِلْمُكِ بِهَذَا؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ رَفَعَ صَخْرَةً لَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا عَشَرَةٌ، وَإِنَّهُ لَمَّا جِئْتُ مَعَهُ تَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ، فَقَالَ: كُونِي مِنْ وَرَائِي، فَإِذَا اخْتَلَفَ الطَّرِيقُ فَاحْذِفِي لِي بِحَصَاةٍ أَعْلَمْ بِهَا كَيْفَ الطَّرِيقُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ; صَاحِبُ يُوسُفَ حِينَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ وَصَاحِبَةُ مُوسَى حِينَ قَالَتْ: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27] اسْتَدَلَّ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، رحمه الله، عَلَى صِحَّةِ مَا إِذَا بَاعَهُ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أَوِ الثَّوْبَيْنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَنَّهُ يَصِحُّ; لِقَوْلِهِ: إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ; لِأَنَّ هَذِهِ مُرَاوَضَةٌ لَا مُعَاقَدَةٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَحْمَدَ عَلَى صِحَّةِ الْإِيجَارِ بِالطُّعْمَةِ وَالْكُسْوَةِ، كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَاسْتَأْنَسُوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مُتَرْجَمًا فِي كِتَابِهِ " بَابُ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ عَلَى طَعَامِ بَطْنِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّىالْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنَ النُّدَّرِ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَ " {طسم} [القصص: 1] " حَتَّى إِذَا بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى قَالَ: «إِنَّ مُوسَى، عليه السلام، آجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ، أَوْ عَشْرًا، عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ» . وَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِحُّ; لِأَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ عَلِيٍّ الْخُشَنِيَّ الدِّمَشْقِيَّ الْبَلَاطِيَّ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، لَا يُحْتَجُّ بِتَفَرُّدِهِ، وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ; فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، (ح) . وَحَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنَ النُّدَّرِ السُّلَمِيَّ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:«إِنَّ مُوسَى، عليه السلام، آجَرَ نَفْسَهُ لِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطُعْمَةِ بَطْنِهِ» .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] . يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى قَالَ لِصِهْرِهِ: الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَ، فَأَيُّهُمَا قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ، وَاللَّهُ عَلَى مَقَالَتِنَا سَامِعٌ وَشَاهِدٌ، وَوَكِيلٌ عَلِيَّ وَعَلَيْكَ. وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَقْضِ مُوسَى إِلَّا أَكْمَلَ الْأَجَلَيْنِ وَأَتَمَّهُمَا، وَهُوَ الْعَشْرُ سِنِينَ كَوَامِلَ تَامَّةً.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، حَتَّى أَقْدِمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ. فَقَدِمْتُ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ، كَمَا سَيَأْتِي مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، كِلَاهُمَا عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«سَأَلْتُ جِبْرِيلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَتَمَّهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا» وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ إِلَّا
بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبَانٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ سُنَيْدٌ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ جِبْرِيلَ، فَسَأَلَ جِبْرِيلُ إِسْرَافِيلَ، فَسَأَلَ إِسْرَافِيلُ الرَّبَّ، عز وجل، فَقَالَ: أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا» وَبِنَحْوِهِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ سَرْجٍ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَوْفَاهُمَا وَأَتَمَّهُمَا» . وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ عُوَيْدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنَيِّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَوْفَاهُمَا وَأَبَرَّهُمَا» . قَالَ: «وَإِنْ سُئِلَ: أَيَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ: الصُّغْرَى مِنْهُمَا» وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ مُوسَى آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ
بَطْنِهِ. فَلَمَّا وَفَّى الْأَجَلَ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَّ الْأَجَلَيْنِ؟ قَالَ: أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا، فَلَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ، أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ، فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ مِنْ قَالِبِ لَوْنٍ مِنْ وَلَدِ ذَلِكَ الْعَامِ، وَكَانَتْ غَنَمُهُ سُودًا حِسَانًا، فَانْطَلَقَ مُوسَى، عليه السلام، إِلَى عَصًا قَسَمَهَا مِنْ طَرَفِهَا، ثُمَّ وَضَعَهَا فِي أَدْنَى الْحَوْضِ، ثُمَّ أَوْرَدَهَا فَسَقَاهَا، وَوَقَفَ مُوسَى، عليه السلام، بِإِزَاءِ الْحَوْضِ، فَلَمْ تَصْدُرْ مِنْهَا شَاةٌ إِلَّا ضَرَبَ جَنْبَهَا شَاةً شَاةً قَالَ: فَأَتْأَمَتْ وَأَثْلَثَتْ وَوَضَعَتْ كُلُّهَا قَوَالِبَ أَلْوَانٍ، إِلَّا شَاةً أَوْ شَاتَيْنِ; لَيْسَ فِيهَا فَشُوشٌ، وَلَا ضَبُوبٌ، وَلَا عَزُوزٌ، وَلَا ثَعُولٌ، وَلَا كَمْشَةٌ تَفُوتُ الْكَفَّ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوِ افْتَتَحْتُمُ الشَّامَ وَجَدْتُمْ بَقَايَا تِلْكَ الْغَنَمِ، وَهِيَ السَّامِرِيَّةُ» قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: الْفَشُوشُ: وَاسِعَةُ الشَّخْبِ. وَالضَّبُوبُ: طَوِيلَةُ الضَّرْعِ تَجُرُّهُ. وَالْعَزُوزُ: ضَيِّقَةُ الشَّخْبِ. وَالثَّعُولُ: الصَّغِيرَةُ الضَّرْعِ كَالْحَلَمَتَيْنِ. وَالْكَمْشَةُ الَّتِي لَا يُحْكَمُ الْكَفُّ عَلَى ضَرْعِهَا لِصِغَرِهِ. وَفِي صِحَّةِ رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا دَعَا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى صَاحِبَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: كُلُّ شَاةٍ وَلَدَتْ عَلَى لَوْنِهَا فَلَكَ وَلَدُهَا. فَعَمَدَ فَوَضَعَ خَيَالًا عَلَى الْمَاءِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْخَيَالَ فَزِعَتْ، فَجَالَتْ جَوْلَةً، فَوَلَدْنَ كُلُّهُنَّ بُلْقًا إِلَّا شَاةً وَاحِدَةً،
فَذَهَبَ بِأَوْلَادِهِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ، عَنْ نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، عَنْ يَعْقُوبَ عليه السلام، حِينَ فَارَقَ خَالَهُ لَابَانَ، أَنَّهُ أَطْلَقَ لَهُ مَا يُوَلَدُ مِنْ غَنَمِهِ بُلْقًا، فَفَعَلَ نَحْوَ مَا ذُكِرَ عَنْ مُوسَى، عليه السلام، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْقَصَصِ: 29 - 32] . تَقَدَّمَ أَنَّ مُوسَى قَضَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وَأَكْمَلَهُمَا، وَقَدْ يُؤْخَذُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} [القصص: 29] وَعَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ أَكْمَلَ عَشْرًا، وَعَشْرًا بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: وَسَارَ بِأَهْلِهِ أَيْ; مِنْ عِنْدِ صِهْرِهِ ذَاهِبًا، فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ اشْتَاقَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَصَدَ زِيَارَتَهُمْ بِبِلَادِ مِصْرَ، فِي صُورَةِ مُخْتَفٍ، فَلَمَّا سَارَ بِأَهْلِهِ، وَمَعَهُ وِلْدَانٌ مِنْهُمْ، وَغَنَمٌ قَدِ اسْتَفَادَهَا مُدَّةَ مُقَامِهِ. قَالُوا: وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ بَارِدَةٍ، وَتَاهُوا فِي طَرِيقِهِمْ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى
السُّلُوكِ فِي الدَّرْبِ الْمَأْلُوفِ، وَجَعَلَ يُورِي زِنَادَهُ فَلَا يُوْرِي شَيْئًا، وَاشْتَدَّ الظَّلَامُ وَالْبَرَدُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَبْصَرَ عَنْ بُعْدٍ نَارًا تَأَجَّجُ فِي جَانِبِ الطُّورِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ مِنْهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ:{امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [القصص: 29] وَكَأَنَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - رَآهَا دُونَهُمْ; لِأَنَّ هَذِهِ النَّارَ هِيَ نُورٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا تَصْلُحُ رُؤْيَتُهَا لِكُلِّ أَحَدٍ {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص: 29] أَيْ; لَعَلِّي أَسْتَعْلِمُ مِنْ عِنْدِهَا عَنِ الطَّرِيقِ {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَاهُوا عَنِ الطَّرِيقِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ وَمُظْلِمَةٍ; لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى - إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 9 - 10]
[طه: 9، 10] . فَدَلَّ عَلَى وُجُودِ الظَّلَامِ، وَكَوْنِهِمْ تَاهُوا عَنِ الطَّرِيقِ.
وَجَمَعَ الْكُلَّ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ {قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل: 7] . وَقَدْ أَتَاهُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ، وَأَيُّ خَبَرٍ؟ وَوَجَدَ عِنْدَهَا هُدًى، وَأَيُّ هُدًى؟ وَاقْتَبَسَ مِنْهَا نُورًا، وَأَيُّ نُورٍ؟ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] وَقَالَ تَعَالَى فِي " النَّمْلِ ": {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8] .
أَيْ; سُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. {يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9] . وَقَالَ فِي سُورَةِ " طه ": {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى - إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى - وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى - إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي - إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى - فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 11 - 16]
[طه: 11 - 16] . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: لَمَّا قَصَدَ مُوسَى إِلَى تِلْكَ النَّارِ الَّتِي رَآهَا، فَانْتَهَى إِلَيْهَا، وَجَدَهَا تَأَجَّجُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ مِنَ الْعَوْسَجِ، وَكُلُّ مَا لِتِلْكَ النَّارِ فِي اضْطِرَامٍ، وَكُلُّ مَا لِخُضْرَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فِي ازْدِيَادٍ، فَوَقَفَ مُتَعَجِّبًا، وَكَانَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ فِي لِحْفِ جَبَلٍ غَرْبِيٍّ مِنْهُ عَنْ يَمِينِهِ; كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص: 44] . وَكَانَ مُوسَى فِي وَادٍ اسْمُهُ طُوًى، فَكَانَ مُوسَى مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ، وَتِلْكَ الشَّجَرَةُ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، فَأُمِرَ أَوَّلًا بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ; تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَتَوْقِيرًا لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ النُّورِ; مَهَابَةً لَهُ وَخَوْفًا عَلَى بَصَرِهِ.
ثُمَّ خَاطَبَهُ تَعَالَى كَمَا يَشَاءُ قَائِلًا لَهُ: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي أَيْ; أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِلَّا لَهُ. ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ، إِنَّمَا الدَّارُ الْبَاقِيَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا وَوُجُودِهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى أَيْ; مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَحَضَّهُ وَحَثَّهُ عَلَى الْعَمَلِ لَهَا وَمُجَانَبَةِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا مِمَّنْ عَصَى مَوْلَاهُ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ مُخَاطِبًا وَمُؤَانِسًا، وَمُبَيِّنًا لَهُ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءِ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ. فَيَكُونُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17] . أَيْ; أَمَّا هَذِهِ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا مُنْذُ صَحِبْتَهَا؟ {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَئارِبُ أُخْرَى} [طه: 18] . أَيْ; بَلْ هَذِهِ عَصَايَ الَّتِي أَعْرِفُهَا وَأَتَحَقَّقُهَا {قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى - فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه: 19 - 20]
[طه: 19، 20] . وَهَذَا خَارِقٌ عَظِيمٌ، وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُكَلِّمُهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ. وَأَنَّهُ الْفَعَّالُ بِالِاخْتِيَارِ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ سَأَلَ بُرْهَانًا عَلَى صِدْقِهِ عِنْدَ مَنْ يُكَذِّبُهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ عز وجل: مَا هَذِهِ الَّتِي فِي يَدِكَ؟ قَالَ: عَصَايَ. قَالَ: أَلْقِهَا إِلَى الْأَرْضِ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى فَهَرَبَ مُوسَى مِنْ قُدَّامِهَا، فَأَمَرَهُ الرَّبُّ، عز وجل، أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ وَيَأْخُذَهَا بِذَنَبِهَا، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهَا ارْتَدَّتْ عَصًا فِي يَدِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص: 31]
أَيْ; صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً لَهَا ضَخَامَةٌ هَائِلَةٌ، وَأَنْيَابٌ تَصْطَكُّ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ فِي سُرْعَةِ حَرَكَةِ الْجَانِّ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ يُقَالُ لَهُ: الْجَانُّ وَالْجَنَانُ. وَهُوَ لَطِيفٌ، وَلَكِنَّهُ سَرِيعُ الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَكَةِ جِدًّا، فَهَذِهِ جَمَعَتِ الضَّخَامَةَ وَالسُّرْعَةَ الشَّدِيدَةَ فَلَمَّا عَايَنَهَا مُوسَى، عليه السلام، وَلَّى مُدَبِّرًا أَيْ; هَارِبًا مِنْهَا; لِأَنَّ طَبِيعَتَهُ الْبَشَرِيَّةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَمْ يُعَقِّبْ أَيْ; وَلَمْ يَلْتَفِتْ فَنَادَاهُ رَبُّهُ قَائِلًا لَهُ:{يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31] فَلَمَّا رَجَعَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُمْسِكَهَا قَالَ {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 21] فَيُقَالُ: إِنَّهُ هَابَهَا شَدِيدًا، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي كُمِّ مِدْرَعَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي وَسَطِ فَمِهَا - وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: بِذَنَبِهَا - فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهَا، إِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ عَصًا ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ. فَسُبْحَانُ الْقَدِيرِ الْعَظِيمِ رَبِّ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِدْخَالِ يَدِهِ فِي جَيْبِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِنَزْعِهَا فَإِذَا هِيَ تَتَلَأْلَأُ كَالْقَمَرِ بَيَاضًا مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أَيْ; مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ وَلَا بَهَقٍ. وَلِهَذَا قَالَ:{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32] قِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا خِفْتَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى فُؤَادِكَ يَسْكُنْ جَأْشُكَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ، إِلَّا أَنَّ بِبَرَكَةِ الْإِيمَانِ بِهِ حَقَّ الْإِيمَانِ يَنْتَفِعُ مَنِ اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ":{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 12] .
أَيْ; هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَهُمَا الْعَصَا وَالْيَدُ، وَهُمَا الْبُرْهَانَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 32] وَمَعَ ذَلِكَ سَبْعُ آيَاتٍ أُخَرُ فَذَلِكَ تِسْعُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي آخِرِ سُورَةِ " سُبْحَانَ " حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا - قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101 - 102]
[الْإِسْرَاءِ: 101، 102] . وَهِيَ الْمَبْسُوطَةُ فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ - فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف: 130 - 133]
[الْأَعْرَافِ: 130 - 133] . كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَذِهِ التِّسْعُ الْآيَاتِ غَيْرُ الْعَشْرِ كَلِمَاتٍ; فَإِنَّ التِّسْعَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْقَدَرِيَّةِ، وَالْعَشْرَ مِنْ كَلِمَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا; لِأَنَّهُ قَدِ اشْتَبَهَ أَمْرُهَا عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَظَنَّ أَنَّ هَذِهِ هِيَ هَذِهِ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آخِرِ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ مُوسَى، عليه السلام، بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ - وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ - قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 33 - 35]
[الْقَصَصِ: 33 - 35] . يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى، عليه السلام، فِي جَوَابِهِ لِرَبِّهِ، عز وجل، حِينَ أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى عَدُوِّهِ، الَّذِي خَرَجَ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ فِرَارًا مِنْ سَطْوَتِهِ وَظُلْمِهِ، حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ فِي قَتْلِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ وَلِهَذَا {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ - وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص: 33 - 34] أَيْ; اجْعَلْهُ مَعِي مُعِينًا وَرِدْءًا وَوَزِيرًا يُسَاعِدُنِي وَيُعِينُنِي عَلَى أَدَاءِ رِسَالَتِكَ إِلَيْهِمْ ; فَإِنَّهُ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا وَأَبْلَغُ بَيَانًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، مُجِيبًا لَهُ إِلَى سُؤَالِهِ:{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} [القصص: 35] أَيْ; بُرْهَانًا {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} [القصص: 35] أَيْ; فَلَا يَنَالُونَ مِنْكُمَا مَكْرُوهًا بِسَبَبِ قِيَامِكُمَا بِآيَاتِنَا. وَقِيلَ بِبَرَكَةِ آيَاتِنَا {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] وَقَالَ فِي سُورَةِ " طه ": {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي - وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي - وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي - يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 24 - 28]
[طه: 24 - 28] . قِيلَ: إِنَّهُ أَصَابَهُ فِي لِسَانِهِ لُثْغَةٌ; بِسَبَبِ تِلْكَ الْجَمْرَةِ الَّتِي وَضَعَهَا عَلَى لِسَانِهِ، الَّتِي كَانَ فِرْعَوْنُ أَرَادَ اخْتِبَارَ عَقْلِهِ، حِينَ
أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَخَافَتْ عَلَيْهِ آسِيَةُ، وَقَالَتْ: إِنَّهُ طِفْلٌ. فَاخْتَبَرَهُ بِوَضْعِ تَمْرَةٍ وَجَمْرَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَمَّ بِأَخْذِ التَّمْرَةِ، فَصَرَفَ الْمَلَكُ يَدَهُ إِلَى الْجَمْرَةِ، فَأَخَذَهَا، فَوَضَعَهَا عَلَى لِسَانِهِ، فَأَصَابَهُ لُثْغَةٌ بِسَبَبِهَا، فَسَأَلَ زَوَالَ بَعْضِهَا بِمِقْدَارِ مَا يَفْهَمُونَ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَسْأَلْ زَوَالَهَا بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَالرُّسُلُ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. وَلِهَذَا بَقِيَتْ فِي لِسَانِهِ بَقِيَّةٌ، وَلِهَذَا قَالَ فِرْعَوْنُ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، فِيمَا زَعَمَ إِنَّهُ يَعِيبُ بِهِ الْكِلِيمَ:{وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] . أَيْ; يُفْصِحُ عَنْ مُرَادِهِ، وَيُعَبِّرُ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَفُؤَادِهِ. ثُمَّ قَالَ مُوسَى، عليه السلام:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي - هَارُونَ أَخِي - اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي - وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي - كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا - وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا - إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا - قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 29 - 36]
[طه: 29 - 36] . أَيْ; قَدْ أَجَبْنَاكَ إِلَى جَمِيعِ مَا سَأَلْتَ، وَأَعْطَيْنَاكَ الَّذِي طَلَبْتَ. وَهَذَا مِنْ وَجَاهَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل، حِينَ شَفَعَ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى أَخِيهِ فَأَوْحَى إِلَيْهِ، وَهَذَا جَاهٌ عَظِيمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الْأَحْزَابِ: 69] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53] . وَقَدْ سَمِعَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَجُلًا يَقُولُ لِأُنَاسٍ، وَهُمْ سَائِرُونَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ: أَيُّ أَخٍ أَمَنُّ عَلَى أَخِيهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَنْ حَوْلَ هَوْدَجِهَا: هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ حِينَ شَفَعَ فِي أَخِيهِ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا يُوحَى إِلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53] .
[الشُّعَرَاءِ: 10 - 19] . تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَأْتَيَاهُ فَقُولَا لَهُ ذَلِكَ وَبَلِّغَاهُ مَا أُرْسِلْتُمَا بِهِ مِنْ دَعْوَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَفُكَّ أُسَارَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْضَتِهِ وَقَهْرِهِ وَسَطْوَتِهِ، وَيَتْرُكُهُمْ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ حَيْثُ شَاءُوا، وَيَتَفَرَّغُونَ لِتَوْحِيدِهِ، وَدُعَائِهِ، وَالتَّضَرُّعِ لَدَيْهِ. فَتَكَبَّرَ فِرْعَوْنُ فِي نَفْسِهِ، وَعَتَا وَطَغَى، وَنَظَرَ إِلَى مُوسَى، عليه السلام، بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالتَّنَقُّصِ، قَائِلًا لَهُ:{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] أَيْ; أَمَا أَنْتَ الَّذِي رَبَّيْنَاهُ فِي مَنْزِلِنَا وَأَحْسَنَّا إِلَيْهِ، وَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِ مُدَّةً مِنَ الدَّهْرِ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ، خِلَافًا لِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ مَاتَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِمَدْيَنَ، وَأَنَّ الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ آخَرُ. وَقَوْلُهُ:{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19] أَيْ; وَقَتَلْتَ الرَّجُلَ الْقِبْطِيَّ، وَفَرَرْتَ مِنَّا، وَجَحَدْتَ نِعْمَتَنَا
قَالَ {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] أَيْ; قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَى، وَيَنْزِلَ عَلَى {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 21] . ثُمَّ قَالَ مُجِيبًا لِفِرْعَوْنَ عَمَّا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] . أَيْ; وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي ذَكَرْتَ، مِنْ أَنَّكَ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ، وَأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، تُقَابِلُ مَا اسْتَخْدَمْتَ هَذَا الشَّعْبَ الْعَظِيمَ بِكَمَالِهِ، وَاسْتَعْبَدْتَهُمْ فِي أَعْمَالِكَ وَخِدْمَتِكَ وَأَشْغَالِكَ.
[الشُّعَرَاءِ: 23 - 28] . يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمُوسَى، مِنَ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَمَا أَقَامَهُ الْكَلِيمُ عَلَى فِرْعَوْنَ اللَّئِيمِ مِنَ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ ثُمَّ الْحِسِّيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، أَظْهَرَ جَحْدَ الصَّانِعِ تبارك وتعالى، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْإِلَهُ {فَحَشَرَ فَنَادَى - فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 23 - 24]
[النَّازِعَاتِ: 23، 24] . وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] . وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ مُعَانِدٌ،
يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ، الْإِلَهُ الْحَقُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] . وَلِهَذَا قَالَ لِمُوسَى، عليه السلام، عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ لِرِسَالَتِهِ، وَالْإِظْهَارِ أَنَّهُ مَا ثَمَّ رَبٌّ أَرْسَلَهُ:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] . لِأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمَا: وَمَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي تَزْعُمَانِ أَنَّهُ أَرْسَلَكُمَا وَابْتَعَثَكُمَا؟ فَأَجَابَهُ مُوسَى قَائِلًا:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24] . يَعْنِي رَبَّ الْعَالَمِينَ، خَالِقَ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُشَاهَدَةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَجَدِّدَةِ; مِنَ السَّحَابِ وَالرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ، الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ مُوقِنٍ أَنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ بِأَنْفُسِهَا، وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُوجِدٍ وَمُحْدِثٍ وَخَالِقٍ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ أَيْ; فِرْعَوْنُ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أُمَرَائِهِ، وَمَرَازِبَتِهِ وَوُزَرَائِهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالتَّنَقُّصِ لِمَا قَرَّرَهُ مُوسَى، عليه السلام: أَلَّا تَسْتَمِعُونَ يَعْنِي كَلَامَهُ هَذَا. قَالَ مُوسَى مُخَاطِبًا لَهُ وَلَهُمْ: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26] . أَيْ; هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ; مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ فِي الْآبَادِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ نَفْسَهُ وَلَا أَبُوهُ وَلَا أُمُّهُ، وَلَمْ يَحْدُثْ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ، وَإِنَّمَا أَوْجَدَهُ وَخَلَقَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَهَذَانِ الْمَقَامَانِ هُمَا
الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] . وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَسْتَفِقْ فِرْعَوْنُ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَلَا نَزَعَ عَنْ ضَلَالَتِهِ، بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى طُغْيَانِهِ وَعِنَادِهِ، وَكُفْرَانِهِ {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ - قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 27 - 28]
[الشُّعَرَاءِ: 27، 28] . أَيْ; هُوَ الْمُسَخِّرُ لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَةِ، الْمُسَيَّرُ لِلْأَفْلَاكِ الدَّائِرَةِ، خَالِقُ الظَّلَّامِ وَالضِّيَاءِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، رَبُّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، خَالِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْكَوَاكِبِ السَّائِرَةِ وَالثَّوَابِتِ الْحَائِرَةِ، خَالِقُ اللَّيْلِ بِظَلَامِهِ وَالنَّهَارِ بِضِيَائِهِ، وَالْكُلُّ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَتَسْيِيرِهِ سَائِرُونَ، وَفِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، يَتَعَاقَبُونَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَيَدُورُونَ، فَهُوَ تَعَالَى الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ.
فَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَجُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَانْقَطَعَتْ شُبَهُهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ قَوْلٌ سِوَى الْعِنَادِ، عَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ سُلْطَانِهِ وَجَاهِهِ وَسَطْوَتِهِ، قَالَ:{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ - قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ - وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 29 - 33]
[الشُّعَرَاءِ: 29 - 33] . وَهَذَانِ هُمَا الْبُرْهَانَانِ اللَّذَانِ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِمَا، وَهَمَا الْعَصَا وَالْيَدُ. وَذَلِكَ مَقَامٌ أَظْهَرَ فِيهِ الْخَارِقَ الْعَظِيمَ، الَّذِي بَهَرَ بِهِ الْعُقُولَ وَالْأَبْصَارَ، حِينَ أَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، أَيْ عَظِيمُ الشَّكْلِ، بَدِيعٌ فِي الضَّخَامَةِ وَالْهَوْلِ، وَالْمَنْظَرِ الْعَظِيمِ الْفَظِيعِ الْبَاهِرِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ
لَمَّا شَاهَدَ ذَلِكَ وَعَايَنَهُ، أَخَذَهُ رُعْبٌ شَدِيدٌ، وَخَوْفٌ عَظِيمٌ، بِحَيْثُ إِنَّهُ حَصَلَ لَهُ إِسْهَالٌ عَظِيمٌ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ مَرَّةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَتَبَرَّزُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَانْعَكَسَ عَلَيْهِ الْحَالُ. وَهَكَذَا لَمَّا أَدْخَلَ مُوسَى، عليه السلام، يَدَهُ فِي جَيْبِهِ وَاسْتَخْرَجَهَا، أَخْرَجَهَا وَهِيَ كَفِلْقَةِ الْقَمَرِ، تَتَلَأْلَأُ نُورًا يَبْهَرُ الْأَبْصَارَ، فَإِذَا أَعَادَهَا إِلَى جَيْبِهِ رَجَعَتْ إِلَى صِفَتِهَا الْأُولَى، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَنْتَفِعْ فِرْعَوْنُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ سِحْرٌ، وَأَرَادَ مُعَارَضَتَهُ بِالسَّحَرَةِ، فَأَرْسَلَ يَجْمَعُهُمْ مِنْ سَائِرِ مَمْلَكَتِهِ، وَمَنْ فِي رَعِيَّتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَدَوْلَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ وَبَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ; مِنْ إِظْهَارِ اللَّهِ الْحَقَّ الْمُبِينَ، وَالْحُجَّةَ الْبَاهِرَةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَأَهْلِ دَوْلَتِهِ وَمِلَّتِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " طه ": {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى - وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي - اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي - اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى - قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى - قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 40 - 46]
[طه: 40 - 46] . يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى، فِيمَا كَلَّمَهُ بِهِ لَيْلَةَ أَوْحَى إِلَيْهِ، وَأَنْعَمَ بِالنُّبُوَّةِ عَلَيْهِ، وَكَلَّمَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ: قَدْ كُنْتُ مُشَاهِدًا لَكَ وَأَنْتَ فِي دَارِ فِرْعَوْنَ، وَأَنْتَ تَحْتَ كَنَفِي وَحِفْظِي وَلُطْفِي، ثُمَّ أَخْرَجْتُكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ بِمَشِيئَتِي وَقُدْرَتِي وَتَدْبِيرِي، فَلَبِثْتَ
فِيهَا سِنِينَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ أَيْ; مِنِّي لِذَلِكَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ تَقْدِيرِي وَتَسْيِيرِي وَاصْطَنَعَتْكَ لِنَفْسِي أَيْ; اصْطَفَيْتُكَ لِنَفْسِي بِرِسَالَتِي وَبِكَلَامِي {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42] يَعْنِي: وَلَا تَفْتُرَا فِي ذَكَرِي إِذْ قَدِمْتُمَا عَلَيْهِ، وَوَفَدْتُمَا إِلَيْهِ; فَإِنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ لَكُمَا عَلَى مُخَاطَبَتِهِ وَمُجَاوَبَتِهِ، وَإِهْدَاءِ النَّصِيحَةِ إِلَيْهِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ:«يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلَاقٍ قِرْنَهُ» وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] وَهَذَا مِنْ حِلْمِهِ تَعَالَى، وَكَرَمِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِ فِرْعَوْنَ وَعُتُوِّهِ وَتَجَبُّرِهِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ أَرْدَى خَلْقِهِ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ صَفْوَتَهُ مِنْ خَلَقَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَمَعَ هَذَا يَقُولُ لَهُمَا وَيَأْمُرُهُمَا أَنْ يَدْعُوَاهُ إِلَيْهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ; بِرِفْقٍ وَلِينٍ، وَيُعَامِلَاهُ مُعَامَلَةَ مَنْ يَرْجُو أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] . وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمُ الْآيَةَ [الْعَنْكَبُوتِ: 46] . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] ;. أَعْذِرَا إِلَيْهِ، قَوْلًا لَهُ: إِنَّ لَكَ رَبًّا وَلَكَ مَعَادًا، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً
وَنَارًا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قُولَا لَهُ: إِنِّي إِلَيَّ الْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ أَقْرَبُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: يَا مَنْ يَتَحَبَّبُ إِلَى مَنْ يُعَادِيهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُنَادِيهِ؟ {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45] وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، شَيْطَانًا مَرِيدًا، لَهُ سُلْطَانٌ فِي بِلَادِ مِصْرَ طَوِيلٌ عَرِيضٌ، وَجَاهٌ وَجُنُودٌ وَعَسَاكِرُ وَسَطْوَةٌ، فَهَابَاهُ مِنْ حَيْثُ الْبَشَرِيَّةُ، وَخَافَا أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِمَا فِي بَادِئِ الْأَمْرِ، فَثَبَّتَهُمَا تَعَالَى، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، فَقَالَ:{لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ - فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى - إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 15 - 48]
[طه: 47، 48] . يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَمَرَهُمَا أَنْ يَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَيَدْعُوَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى; أَنْ يَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يُرْسِلَ مَعَهُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُطْلِقَهُمْ مِنْ أَسْرِهِ وَقَهْرِهِ، وَلَا يُعَذِّبَهُمْ {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه: 47] وَهُوَ الْبُرْهَانُ الْعَظِيمُ فِي الْعِصِيِّ وَالْيَدِ {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ بَلِيغٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ تَهَدَّدَاهُ وَتَوَعَّدَاهُ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَقَالَا:{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48] أَيْ; كَذَّبَ بِالْحَقِّ بِقَلْبِهِ، وَتَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِقَالَبِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مِنْ بِلَادِ مَدْيَنَ، دَخَلَ عَلَى أُمِّهِ
وَأَخِيهِ هَارُونَ وَهُمَا يَتَعَشَّيَانِ مِنْ طَعَامٍ فِيهِ الطَّفَيْشَلُ; وَهُوَ اللِّفْتُ فَأَكَلَ مَعَهُمَا، ثُمَّ قَالَ يَا هَارُونُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي وَأَمَرَكَ أَنْ نَدْعُوَ فِرْعَوْنَ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَقُمْ مَعِي. فَقَامَا يَقْصِدَانِ بَابَ فِرْعَوْنَ، فَإِذَا هُوَ مُغْلَقٌ، فَقَالَ مُوسَى لِلْبَوَّابِينَ وَالْحَجَبَةِ: أَعْلِمُوهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بِالْبَابِ. فَجَعَلُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ طَوِيلٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَذِنَ لَهُمَا بَعْدَ سَنَتَيْنِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُ أَحَدٌ يَتَجَاسَرُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ لَهُمَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ: إِنَّ مُوسَى تَقَدَّمَ إِلَى الْبَابِ فَطَرَقَهُ بِعَصَاهُ فَانْزَعَجَ فِرْعَوْنُ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِمَا، فَوَقَفَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَعَوَاهُ إِلَى اللَّهِ، عز وجل، كَمَا أَمَرَهُمَا. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى، عليه السلام: إِنَّ هَارُونَ اللَّاوِيَّ - يَعْنِي مِنْ نَسْلِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ - سَيَخْرُجُ وَيَتَلَقَّاكَ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ مَشَايِخَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى عِنْدِ فِرْعَوْنَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ لَهُ: سَأُقْسِّي قَلْبَهُ فَلَا يُرْسِلُ الشَّعْبَ، وَأَكْثَرُ آيَاتِي وَأَعَاجِيبِي بِأَرْضِ مِصْرَ. وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى أَخِيهِ يَتَلَقَّاهُ بِالْبَرِّيَّةِ عِنْدَ جَبَلِ حُورِيبَ، فَلَمَّا تَلْقَاهُ أَخْبَرَهُ مُوسَى بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، فَلَمَّا دَخَلَا مِصْرَ، جَمْعَا شُيُوخَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا بَلَّغَاهُ رِسَالَةَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ هُوَ اللَّهُ؟ لَا أَعْرِفُهُ، وَلَا أُرْسِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ:
[طه: 49 - 55] . يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ أَنْكَرَ إِثْبَاتَ الصَّانِعِ تَعَالَى، قَائِلًا:{فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى - قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 - 50] أَيْ; هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ، وَقَدَّرَ لَهُمْ أَعْمَالًا وَأَرْزَاقًا وَآجَالًا، وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي كِتَابِهِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ هَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ إِلَى مَا قَدَّرَهُ لَهُ، فَطَابَقَ عِلْمَهُ فِيهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّرَهُ وَعَلِمَهُ; لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقَدَرِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى - الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى - وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3]
[الْأَعْلَى: 1 - 3] . أَيْ; قَدَّرَ قَدَرًا وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51] يَقُولُ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى: فَإِذَا كَانَ رَبُّكَ هُوَ الْخَالِقُ الْمُقَدِّرُ، الْهَادِي الْخَلَائِقَ، لِمَا قَدَّرَهُ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، فَلِمَ عَبَدَ الْأَوَّلُونَ غَيْرَهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَنْدَادِ مَا قَدْ عَلِمْتَ؟ فَهَلَّا اهْتَدَى إِلَى مَا ذَكَرْتَهُ الْقُرُونُ الْأُولَى؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] أَيْ; هُمْ وَإِنْ عَبَدُوا غَيْرَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَكَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا أَقُولُ; لِأَنَّهُمْ جَهَلَةٌ مِثْلُكَ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مُسْتَطَرٌ عَلَيْهِمْ فِي الزُّبُرِ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ رَبِّي، عز وجل، وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ; لِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَنْسَى رَبِّي شَيْئًا. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ عَظَمَةَ الرَّبِّ، وَقُدْرَتَهُ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَجَعْلَهُ الْأَرْضَ
مِهَادًا، وَالسَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا، وَتَسْخِيرَهُ السَّحَابَ وَالْأَمْطَارَ لِرِزْقِ الْعِبَادِ وَدَوَابِّهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، كَمَا قَالَ:{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 54] أَيْ; لِذَوِي الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْقَوِيمَةِ غَيْرِ السَّقِيمَةِ. فَهُوَ تَعَالَى الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ. وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22]
[الْبَقَرَةِ: 21، 22] . وَلَمَّا ذَكَرَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ، وَاهْتِزَازَهَا بِإِخْرَاجِ نَبَاتِهَا فِيهِ، نَبَّهَ بِهِ عَلَى الْمَعَادِ فَقَالَ: مِنْهَا أَيْ; مِنَ الْأَرْضِ {خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] .
[طه: 56 - 59] . يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ شَقَاءِ فِرْعَوْنَ وَكَثْرَةِ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ فِي تَكْذِيبِهِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَاسْتِكْبَارِهِ عَنِ اتِّبَاعِهَا، وَقَوْلِهِ لِمُوسَى: إِنَّ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ سِحْرٌ وَنَحْنُ نُعَارِضُكَ بِمِثْلِهِ. ثُمَّ طَلَبَ مِنْ مُوسَى
أَنَّ يُوَاعِدَهُ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَمَكَانٍ مَعْلُومٍ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِ مُوسَى، عليه السلام; أَنْ يُظْهِرَ آيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجَهُ وَبَرَاهِينَهُ جَهْرَةً بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَلِهَذَا قَالَ:{مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه: 59] وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ، وَمُجْتَمَعٍ لَهُمْ {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] أَيْ; مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فِي وَقْتِ اشْتِدَادِ ضِيَاءِ الشَّمْسِ، فَيَكُونُ الْحَقُّ أَظْهَرَ وَأَجْلَى. وَلَمْ يَطْلُبْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَيْلًا فِي ظَلَامٍ، كَيْمَا يُرَوِّجُ عَلَيْهِمْ مِحَالًا وَبَاطِلًا، بَلْ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا جَهْرَةً لِأَنَّهُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَيَقِينٍ أَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُ كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفُ الْقِبْطِ.
[طه: 60 - 64] . يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ ذَهَبَ، فَجَمَعَ مَنْ كَانَ بِبِلَادِهِ مِنَ السَّحَرَةِ، وَكَانَتْ بِلَادُ مِصْرَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَمْلُوءَةً سَحَرَةً، فُضَلَاءَ، فِي فَنِّهِمْ غَايَةٌ فَجَمَعُوا لَهُ مَنْ كُلِّ بَلَدٍ، وَمِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ خُلُقٌ كَثِيرٌ وَجَمُّ غَفِيرٌ. فَقِيلَ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَقِيلَ: سَبْعِينَ أَلْفًا. قَالَهُ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا. وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَهُمْ فِرْعَوْنُ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْعُرَفَاءِ، فَيَتَعَلَّمُوا السِّحْرَ. وَلِهَذَا قَالُوا:{وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73] وَفِي هَذَا نَظَرٌ.
وَحَضَرَ فِرْعَوْنُ وَأُمَرَاؤُهُ وَأَهْلُ دَوْلَتِهِ وَأَهْلُ بَلَدِهِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ; وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ نَادَى فِيهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا هَذَا الْمَوْقِفَ الْعَظِيمَ، فَخَرَجُوا وَهُمْ يَقُولُونَ:{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40] . وَتَقَدَّمَ مُوسَى عليه السلام إِلَى السَّحَرَةِ، فَوَعَظَهُمْ وَزَجَرَهُمْ عَنْ تَعَاطِي السِّحْرِ الْبَاطِلِ، الَّذِي فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ، فَقَالَ:{وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى - فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه: 61 - 62] قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ; فَقَائِلٌ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ نَبِيٍّ وَلَيْسَ بِسَاحِرٍ. وَقَائِلٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ سَاحِرٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَسَرُّوا التَّنَاجِيَ بِهَذَا وَغَيْرِهِ قَالُوا {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} [طه: 63] يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا وَأَخَاهُ هَارُونَ سَاحِرَانِ، عَلِيمَانِ، مُطْبِقَانِ مُتْقِنَانِ لِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَمُرَادُهُمْ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْهِمَا، وَيَصُولَا عَلَى الْمَلِكِ وَحَاشِيَتِهِ، وَيَسْتَأْصِلَاكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ، وَيَسْتَأْمِرَا عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ
{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه: 64] وَإِنَّمَا قَالُوا الْكَلَامَ الْأَوَّلَ لِيَتَدَبَّرُوا وَيَتَوَاصَوْا، وَيَأْتُوا بِجَمِيعِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَكِيدَةِ وَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالسِّحْرِ وَالْبُهْتَانِ. وَهَيْهَاتَ، كَذَبَتْ وَاللَّهِ الظُّنُونُ وَأَخْطَأَتِ الْآرَاءُ، أَنَّى يُعَارِضُ الْبُهْتَانُ وَالسِّحْرُ وَالْهَذَيَانُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ، الَّتِي أَجْرَاهَا الدَّيَّانُ عَلَى يَدَيْ عَبْدِهِ الْكَلِيمِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ، الْمُؤَيَّدِ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي يَبْهَرُ الْأَبْصَارَ، وَتَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ وَالْأَذْهَانُ. وَقَوْلُهُمْ:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} [طه: 64] أَيْ; جَمِيعَ مَا عِنْدَكُمْ، {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه: 64] أَيْ; جُمْلَةً وَاحِدَةً. ثُمَّ حَضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى التَّقَدُّمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ; لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قَدْ وَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120] .
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى - قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى - فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى - قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 65 - 68] وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 65 - 69] . لَمَّا اصْطَفَّ السَّحَرَةُ وَوَقَفَ مُوسَى وَهَارُونُ، عليهما السلام، تُجَاهَهُمْ، قَالُوا لَهُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ قَبْلَنَا، وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ قَبْلَكَ. قَالَ: بَلْ أَلْقُوا أَنْتُمْ. وَكَانُوا قَدْ عَمَدُوا إِلَى حِبَالٍ وَعِصِيٍّ فَأَوْدَعُوهَا الزِّئْبَقَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تَضْطَرِبُ بِسَبَبِهَا تِلْكَ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ اضْطِرَابًا يُخَيَّلُ لِلرَّائِي أَنَّهَا تَسْعَى
بِاخْتِيَارِهَا، وَإِنَّمَا تَتَحَرَّكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ:{بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44] . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى - فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 66 - 67] أَيْ; خَافَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْتَتِنُوا بِسِحْرِهِمْ وَمِحَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَضَعُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ:{لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى - وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 68 - 69] فَعِنْدَ ذَلِكَ أَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ وَقَالَ: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ - وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 81 - 82]
[يُونُسَ: 81، 82] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45] . {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ - وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 118 - 122]
[الْأَعْرَافِ: 118 - 122] . وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام، لَمَّا تَقَدَّمَ وَأَلْقَاهَا صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً ذَاتَ قَوَائِمَ - فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ - وَعُنُقٍ عَظِيمٍ، وَشَكْلٍ هَائِلٍ مُزْعِجٍ، بِحَيْثُ إِنَّ النَّاسَ انْحَازُوا مِنْهَا، وَهَرَبُوا سِرَاعًا، وَتَأَخَّرُوا عَنْ مَكَانِهَا وَأَقْبَلَتْ هِيَ عَلَى مَا أَلْقَوْهُ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، فَجَعَلَتْ تَلَقَّفَهُ وَاحِدًا وَاحِدًا، فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَرَكَةِ،
وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا. وَأَمَّا السَّحَرَةُ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا مَا هَالَهُمْ وَحَيَّرَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ، وَاطَّلَعُوا عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ فِي خَلَدِهِمْ وَلَا بَالِهِمْ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ صِنَاعَاتِهِمْ وَأَشْغَالِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ تَحَقَّقُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِسِحْرٍ، وَلَا شَعْبَذَةٍ، وَلَا مِحَالٍ وَلَا خَيَالٍ وَلَا زُورٍ وَلَا بُهْتَانٍ وَلَا ضَلَالٍ، بَلْ حَقٌّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَقُّ الَّذِي ابْتَعَثَ هَذَا الْمُؤَيَّدَ بِهِ بِالْحَقِّ، وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ غِشَاوَةَ الْغَفْلَةِ، وَأَنَارَهَا بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْهُدَى وَأَزَاحَ عَنْهَا الْقَسْوَةَ، وَأَنَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ، وَخَرُّوا لَهُ سَاجِدِينَ، وَقَالُوا جَهْرَةً لِلْحَاضِرِينَ، وَلَمْ يَخْشَوْا عُقُوبَةً وَلَا بَلْوَى: آمَنَّا بِرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى - قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى - قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى - إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى - وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى - جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 70 - 76] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: لَمَّا سَجَدَ السَّحَرَةُ، رَأَوْا مَنَازِلَهُمْ وَقُصُورَهُمْ فِي
الْجَنَّةِ تُهَيَّأُ لَهُمْ، وَتُزَخْرَفُ لِقُدُومِهِمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى تَهْوِيلِ فِرْعَوْنَ، وَتَهْدِيدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَأَى هَؤُلَاءِ السَّحَرَةَ قَدْ أَسْلَمُوا وَأَشْهَرُوا ذِكْرَ مُوسَى وَهَارُونَ فِي النَّاسِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ، أَفْزَعَهُ ذَلِكَ، وَرَأَى أَمْرًا بَهَرَهُ، وَأَعْمَى بَصِيرَتَهُ وَبَصَرَهُ، وَكَانَ فِيهِ كَيْدٌ وَمَكْرٌ وَخِدَاعٌ، وَصَنْعَةٌ بَلِيغَةٌ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِلسَّحَرَةِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ:{آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه: 71] أَيْ; هَلَّا شَاوَرْتُمُونِي فِيمَا صَنَعْتُمْ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ بِحَضْرَةِ رَعِيَّتِي. ثُمَّ تَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ، وَأَبْرَقَ وَأَرْعَدَ، وَكَذَبَ فَأَبْعَدَ، قَائِلًا:{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه: 71] وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنَّ {هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 123] . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنَ الْبُهْتَانِ الَّذِي يَعْلَمُ كُلُّ فَرْدٍ عَاقِلٍ مَا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالْهَذَيَانِ، بَلْ لَا يَرُوجُ مَثَلَهُ عَلَى الصِّبْيَانِ; فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ، مِنْ أَهْلِ دَوْلَتِهِ وَغَيْرِهِمْ، يَعْلَمُونَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَرَهُ هَؤُلَاءِ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرَهُمُ الَّذِي عَلَّمَهُمُ السِّحْرَ؟! ثُمَّ هُوَ لَمْ يَجْمَعْهُمْ وَلَا عِلْمَ بِاجْتِمَاعِهِمْ، حَتَّى كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الَّذِي اسْتَدْعَاهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ وَوَادٍ سَحِيقٍ، وَمِنْ حَوَاضِرِ بِلَادِ مِصْرَ وَالْأَطْرَافِ، وَمِنَ الْمُدُنِ وَالْأَرْيَافِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ "
[يُونُسَ: 75 - 82] .
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ "{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ - قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ - وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ - قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ - يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ - قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ - يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ - فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ - وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ - لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ - فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ - قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ - قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ - فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ - فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ - فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 29 - 48] قَالَ {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ - قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ - إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 49 - 51]
[الشُّعَرَاءِ: 29 - 51] .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ وَافْتَرَى، وَكَفَرَ غَايَةَ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [الشعراء: 49] وَأَتَى بِبُهْتَانٍ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُونَ، بَلِ الْعَالَمُونَ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 123] وَقَوْلُهُ: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} [الشعراء: 49] يَعْنِي: يَقْطَعُ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى وَعَكْسَهُ، {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء: 49] أَيْ; لَيَجْعَلُهُمْ مَثُلَةً وَنَكَالًا; لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِمْ أَحَدٌ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَأَهْلِ مِلَّتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أَيْ; عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ; لِأَنَّهَا أَعْلَى وَأَشْهَرُ {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 71] يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا قَالُوا {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه: 72] أَيْ; لَنْ نُطِيعَكَ وَنَتْرُكَ مَا وَقَرَ فِي قُلُوبِنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ، وَالَّذِي فَطَرَنَا قِيلَ: مَعْطُوفٌ. وَقِيلَ: قَسَمٌ {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] أَيْ; فَافْعَلْ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] أَيْ; إِنَّمَا حُكْمُكَ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِذَا انْتَقَلْنَا مِنْهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، صِرْنَا إِلَى حُكْمِ الَّذِي أَسْلَمْنَا لَهُ وَاتَّبَعْنَا رُسُلَهُ {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73] . أَيْ; وَثَوَابُهُ خَيْرٌ مِمَّا وَعَدَتْنَا بِهِ مِنَ التَّقْرِيبِ وَالتَّرْغِيبِ، وَأَبْقَى أَيْ; وَأَدْوَمُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قَالُوا {لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ - إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} [الشعراء: 50 - 51]