الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[بَيَانُ شَجَرَةِ طُوبَى مَا هِيَ]
قَالَ عِيسَى: يَا رَبِّ، وَمَا طُوبَى؟ قَالَ: غَرْسُ شَجَرَةٍ أَنَا غَرَسْتُهَا بِيَدِي فَهِيَ لِلْجِنَانِ كُلِّهَا، أَصْلُهَا مِنْ رِضْوَانٍ، وَمَاؤُهَا مِنْ تَسْنِيمٍ، وَبَرْدُهَا بَرْدُ الْكَافُورِ، وَطَعْمُهَا طَعْمُ الزَّنْجَبِيلِ، وَرِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا. قَالَ عِيسَى: يَا رَبِّ، اسْقِنِي مِنْهَا. قَالَ: حَرَامٌ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا، حَتَّى يَشْرَبَ ذَلِكَ النَّبِيُّ، وَحَرَامٌ عَلَى الْأُمَمِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا، حَتَّى تَشْرَبَ مِنْهَا أُمَّةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ. قَالَ: يَا عِيسَى، أَرْفَعُكَ إِلَيَّ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَلِمَ تَرْفَعُنِي؟ قَالَ: أَرْفَعُكَ ثُمَّ أُهْبِطُكَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ ; لِتَرَى مِنْ أُمَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْعَجَائِبَ، وَلِتُعِينَهُمْ عَلَى قِتَالِ اللَّعِينِ الدَّجَّالِ، أُهْبِطُكَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ، ثُمَّ لَا تُصَلِّي بِهِمْ ; لِأَنَّهَا أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عِيسَى قَالَ: يَا رَبِّ، أَنْبِئْنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ. قَالَ: أُمَّةُ أَحْمَدَ، هَمْ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَأَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ، يَرْضَوْنَ مِنِّي بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَطَاءِ، وَأَرْضَى مِنْهُمْ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَا عِيسَى، هُمْ أَكْثَرُ سُكَّانِ الْجَنَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَذِلَّ أَلْسُنُ قَوْمٍ قَطُّ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا ذَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَلَمْ تَذِلَّ رِقَابُ قَوْمٍ قَطُّ بِالسُّجُودِ كَمَا ذَلَّتْ بِهِ رِقَابُهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ بَدِيلٍ الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْسَجَةَ، قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: أَنْزِلْنِي مِنْ نَفْسِكَ كَهَمِّكَ، وَاجْعَلْنِي ذُخْرًا لَكَ فِي مَعَادِكَ، وَتَقَرَّبْ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ أُحِبَّكَ، وَلَا تَوَلَّ غَيْرِي فَأَخْذُلَكَ، اصْبِرْ عَلَى الْبَلَاءِ، وَارْضَ بِالْقَضَاءِ، وَكُنْ لِمَسَرَّتِي فِيكَ، فَإِنَّ مَسَرَّتِي أَنْ أُطَاعَ فَلَا أُعْصَى، وَكُنْ مِنِّي قَرِيبًا، وَأَحْيِ ذِكْرِي بِلِسَانِكَ، وَلْتَكُنْ مَوَدَّتِي فِي صَدْرِكَ، تَيَقَّظْ مِنْ سَاعَاتِ الْغَفْلَةِ، وَاحْكُمْ لِي لَطِيفَ الْفِطْنَةِ، وَكُنْ لِي رَاغِبًا رَاهِبًا، وَأَمِتْ قَلْبَكَ مِنَ الْخَشْيَةِ لِي، وَرَاعِ اللَّيْلَ لِحَقِّ مَسَرَّتِي، وَأَظْمِ نَهَارَكَ لِيَوْمِ الرَّيِّ عِنْدِي، نَافِسْ فِي الْخَيْرَاتِ جَهْدَكَ وَأَعْرِفْ بِالْخَيْرِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ وَقُمْ فِي الْخَلَائِقِ بِنَصِيحَتِي، وَاحْكُمْ فِي عِبَادِي بِعَدْلِي، فَقَدْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ شِفَاءَ وَسَاوِسِ الصُّدُورِ مِنْ مَرَضِ النِّسْيَانِ، وَجِلَاءَ الْأَبْصَارِ مِنْ غِشَاءِ الْكَلَالِ، وَلَا تَكُنْ حَلِسًا كَأَنَّكَ مَقْبُوضٌ وَأَنْتَ حَيٌّ تَنَفَّسُ، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، مَا آمَنَتْ بِي خَلِيقَةٌ إِلَّا خَشَعَتْ، وَلَا خَشَعَتْ لِي إِلَّا رَجَتْ ثَوَابِي، فَأُشْهِدُكَ أَنَّهَا آمِنَةٌ مِنْ عِقَابِي، مَا لَمْ تُغَيِّرْ أَوْ تُبَدِّلْ سُنَّتِي، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، ابْكِ عَلَى نَفْسِكَ أَيَّامَ الْحَيَاةِ بُكَاءَ مَنْ وَدَّعَ الْأَهْلَ وَقَلَا الدُّنْيَا، وَتَرَكَ اللَّذَّاتِ لِأَهْلِهَا، وَارْتَفَعَتْ رَغْبَتُهُ فِيمَا عِنْدَ إِلَهِهِ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ تُلِينُ الْكَلَامَ، وَتُفْشِي السَّلَامَ، وَكُنْ يَقِظَانَ إِذَا نَامَتْ عُيُونُ الْأَبْرَارِ، حَذَارِ مَا هُوَ آتٍ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ، وَزَلَازِلِ شَدَائِدِ الْأَهْوَالِ، قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ أَهْلٌ وَلَا مَالٌ، وَاكْحَلْ عَيْنَكَ بِمُلْمُولِ الْحُزْنِ
إِذَا ضَحِكَ الْبَطَّالُونَ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، فَطُوبَى لَكَ إِنْ نَالَكَ مَا وَعَدْتُ الصَّابِرِينَ، رَجِّ مِنَ الدُّنْيَا بِاللَّهِ: يَوْمٌ بِيَوْمٍ، وَذُقْ مَذَاقَةَ مَا قَدْ هَرَبَ مِنْكَ أَيْنَ طَعْمُهُ، وَمَا لَمْ يَأْتِكَ كَيْفَ لَذَّتُهُ، فَرَجِّ مِنَ الدُّنْيَا بِالْبُلْغَةِ، وَلْيَكْفِكَ مِنْهَا الْخَشِنُ الْجَشِيبُ، قَدْ رَأَيْتَ إِلَى مَا تَصِيرُ، اعْمَلْ عَلَى حِسَابٍ فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ، لَوْ رَأَتْ عَيْنُكَ مَا أَعْدَدْتُ لِأَوْلِيَائِي الصَّالِحِينَ، ذَابَ قَلْبُكَ وَزَهَقَتْ نَفْسُكَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْقَدَرِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِبْلِيسَ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَكَ إِلَّا مَا كُتِبَ لَكَ؟ قَالَ إِبْلِيسُ: فَارْقَ بِذِرْوَةِ هَذَا الْجَبَلِ، فَتَرَدَّ مِنْهُ فَانْظُرْ تَعِيشُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: فَقَالَ عِيسَى: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: لَا يُجَرِّبُنِي عَبْدِي، فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا شِئْتُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَبْتَلِي رَبَّهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: أَتَى الشَّيْطَانُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّكَ صَادِقٌ؟ فَأْتِ هَذِهِ فَأَلْقِ نَفْسَكَ. قَالَ: وَيْلَكَ! أَلَيْسَ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَسْأَلْنِي هَلَاكَ نَفْسِكَ، فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ طَلْحَةَ، سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، قَالَ: تَعَبَّدَ الشَّيْطَانُ مَعَ عِيسَى عَشْرَ سِنِينَ أَوْ سَنَتَيْنِ، أَقَامَ يَوْمًا عَلَى شَفِيرِ جَبَلٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَلْقَيْتُ نَفْسِي، هَلْ يُصِيبُنِي إِلَّا مَا كُتِبَ لِي؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِالَّذِي أَبْتَلِي رَبِّي وَلَكِنَّ رَبِّي إِذَا شَاءَ ابْتَلَانِي. وَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ، فَفَارَقَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، عَنِ الْخَطَّابِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: كَانَ عِيسَى، عليه السلام، يُصَلِّي عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلْقِ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْجَبَلِ وَقُلْ: قَدَرٌ عَلَيَّ. فَقَالَ: يَا لِعَيْنُ، اللَّهُ يَخْتَبِرُ الْعِبَادَ، وَلَيْسَ الْعِبَادُ يَخْتَبِرُونَ اللَّهَ، عز وجل. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: لَقِيَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِبْلِيسُ، فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، أَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ. قَالَ: بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ لِلْإِلَهِ الَّذِي أَنْطَقَنِي، ثُمَّ يُمِيتُنِي، ثُمَّ يُحْيِينِي. قَالَ: فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تُحْيِي الْمَوْتَى. قَالَ: بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ مَنْ أَحْيَيْتُ ثُمَّ يُحْيِيهِ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ
لَإِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: فَصَكَّهُ جِبْرِيلُ صَكَّةً بِجَنَاحِهِ فَمَا تَنَاهَى دُونَ قُرُونِ الشَّمْسِ، ثُمَّ صَكَّهُ أُخْرَى بِجَنَاحِهِ فَمَا تَنَاهَى دُونَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ، ثُمَّ صَكَّهُ أُخْرَى فَأَدْخَلَهُ بِحَارَ السَّابِعَةِ فَأَسَاخَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَسْلَكَهُ - فِيهَا حَتَّى وَجَدَ طَعْمَ الْحَمْأَةِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: مَا لَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ مَا لَقِيتُ مِنْكَ يَا ابْنَ مَرْيَمَ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا بِأَبْسَطَ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ; فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سِنْدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْعَطَّارُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ سُوَيْدٌ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، قَالَ: صَلَّى عِيسَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَانْصَرَفَ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الْعَقَبَةِ، عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فَاحْتَبَسَهُ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَيُكَلِّمُهُ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا. فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ عِيسَى يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ، فَجَعَلَ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ فِيمَا يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لَكَ يَا عِيسَى أَنْ تَكُونَ عَبْدًا. قَالَ: فَاسْتَغَاثَ عِيسَى بِرَبِّهِ، فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَلَمَّا رَآهُمَا إِبْلِيسُ كَفَّ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّا مَعَهُ عَلَى الْعَقَبَةِ، اكْتَنَفَا عِيسَى، وَضَرَبَ جِبْرِيلُ إِبْلِيسَ بِجَنَاحِهِ، فَقَذَفَهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي. قَالَ: فَعَادَ إِبْلِيسُ مَعَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يُؤْمَرَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ لِعِيسَى: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَبْدًا، إِنَّ غَضَبَكَ لَيْسَ
بِغَضَبِ عَبْدٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِيتُ مِنْكَ حِينَ غَضِبْتَ، وَلَكِنْ أَدْعُوكَ إِلَى أَمْرٍ هُوَ لَكَ ; آمُرُ الشَّيَاطِينَ فَلْيُطِيعُوكَ، فَإِذَا رَأَى الْبَشَرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَطَاعُوكَ، عَبَدُوكَ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ أَنْ تَكُونَ إِلَهًا لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَكُونُ إِلَهًا فِي السَّمَاءِ، وَتَكُونُ أَنْتَ إِلَهًا فِي الْأَرْضِ. فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ، اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ وَصَرَخَ صَرْخَةً شَدِيدَةً، فَإِذَا إِسْرَافِيلُ قَدْ هَبَطَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَكَفَّ إِبْلِيسُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ ضَرَبَ إِسْرَافِيلُ إِبْلِيسَ بِجَنَاحِهِ، فَصَكَّ بِهِ عَيْنَ الشَّمْسِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَأَقْبَلَ إِبْلِيسُ يَهْوِي، وَمَرَّ بِعِيسَى وَهُوَ بِمَكَانِهِ، فَقَالَ: يَا عِيسَى، لَقَدْ لَقِيتُ فِيكَ الْيَوْمَ تَعَبًا شَدِيدًا. فَرَمَى بِهِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ، فَوَجَدَ سَبْعَةَ أَمْلَاكٍ عِنْدَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ. قَالَ: فَغَطُّوهُ، فَجَعَلَ كُلَّمَا خَرَجَ غَطُّوهُ فِي تِلْكَ الْحَمْأَةِ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَعْدُ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ شَيَاطِينُهُ، فَقَالُوا: سَيِّدُنَا، قَدْ لَقِيتَ تَعَبًا. قَالَ: إِنَّ هَذَا عَبْدٌ مَعْصُومٌ، لَيْسَ لِي عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَسَأُضِلُّ بِهِ بَشَرًا كَثِيرًا، وَأَبُثُّ فِيهِمْ أَهْوَاءً مُخْتَلِفَةً، وَأَجْعَلُهُمْ شِيَعًا، وَيَجْعَلُونَهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا أَيَّدَ بِهِ عِيسَى وَعَصَمَهُ مِنْ إِبْلِيسَ قُرْآنًا نَاطِقًا بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ عَلَى عِيسَى، فَقَالَ:{يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110] يَعْنِي: إِذْ قَوَّيْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ 72، يَعْنِي جِبْرِيلَ {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} [المائدة: 110]
يَعْنِي الْإِنْجِيلَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْحِكْمَةَ، {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ} [المائدة: 110] . وَإِذْ جَعَلْتُ الْمَسَاكِينَ لَكَ بِطَانَةً وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا تَرْضَى بِهِمْ، وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا يَرْضَوْنَ بِكَ هَادِيًا وَقَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ - فَاعْلَمْ - خُلُقَانِ عَظِيمَانِ، مَنْ لَقِيَنِي بِهِمَا فَقَدْ لَقِيَنِي بِأَزْكَى الْخَلَائِقِ وَأَرْضَاهَا عِنْدِي، وَسَيَقُولُ لَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: صُمْنَا فَلَمْ يَتَقَبَّلْ صِيَامَنَا، وَصَلَّيْنَا فَلَمْ يَقْبَلْ صَلَاتَنَا، وَتَصَدَّقْنَا فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَاتِنَا، وَبَكَيْنَا بِمِثْلِ حَنِينِ الْجِمَالِ فَلَمْ يَرْحَمْ بُكَاءَنَا. فَقُلْ لَهُمْ: وَلَمَّ ذَلِكَ؟ وَمَا الَّذِي يَمْنَعُنِي، أَنَّ ذَاتَ يَدِي قَلَّتْ؟! أَوَلَيِسَ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِيَدِي أُنْفِقَ مِنْهَا كَيْفَ أَشَاءُ، أَوْ أَنَّ الْبُخْلَ يَعْتَرِينِي؟ أَوَلَسْتُ أَجْوَدَ مَنْ سُئِلَ وَأَوْسَعَ مَنْ أَعْطَى؟ أَوْ أَنَّ رَحْمَتِي ضَاقَتْ؟ وَإِنَّمَا يَتَرَاحَمُ الْمُتَرَاحِمُونَ بِفَضْلِ رَحْمَتِي، وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي تُورِثُ فِي قُلُوبِهِمْ مَا اسْتَأْثَرُوا بِهِ الدُّنْيَا أَثَرَةً عَلَى الْآخِرَةِ، لَعَرَفُوا مِنْ أَيْنَ أُتُوا، وَإِذًا لَأَيْقَنُوا أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لَهُمْ، وَكَيْفَ أَقْبَلُ صِيَامَهُمْ وَهُمْ يَتَقَوَّوْنَ عَلَيْهِ بِالْأَطْعِمَةِ الْحَرَامِ؟! وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَلَاتَهُمْ وَقُلُوبُهُمْ تَرْكَنُ إِلَى الَّذِينَ يُحَارِبُونِي وَيَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمِي؟! وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَدَقَاتِهِمْ وَهُمْ يَغْصِبُونَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَيَأْخُذُونَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا؟! يَا عِيسَى، إِنَّمَا أَجْزِي عَلَيْهَا أَهْلَهَا، وَكَيْفَ أَرْحَمُ بُكَاءَهُمْ وَأَيْدِيهِمْ تَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، ازْدَدْتُ عَلَيْهِمْ غَضَبًا، يَا عِيسَى، وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنَّهُ مَنْ عَبَدَنِي وَقَالَ فِيكُمَا بِقَوْلِي، أَنْ أَجْعَلَهُمْ جِيرَانَكَ فِي الدَّارِ، وَرُفَقَاءَكَ فِي الْمَنَازِلِ، وَشُرَكَاءَكَ فِي الْكَرَامَةِ،
وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَكَ وَأُمَّكَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْ أَجْعَلَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَنِّي مُثَبِّتٌ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى يَدَيْ عَبْدِي مُحَمَّدٍ وَأَخْتِمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَمَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجَرُهُ بِطَيْبَةَ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا مُتَزَيِّنٌ بِالْفُحْشِ، وَلَا قَوَّالٍ بِالْخَنَا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمْرٍ جَمِيلٍ، وَأَهَبُّ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، أَجْعَلُ التَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ، وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَائِلَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الضَّعَةِ، أَهْدِي بِهِ، وَأَفْتَحُ بِهِ بَيْنَ آذَانٍ صُمٍّ، وَقُلُوبٍ غُلْفٍ، وَأَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، أَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ; إِخْلَاصًا لِاسْمِي وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، أُلْهِمُهُمُ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّقْدِيسَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَمُنْقَلَبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ، يُصَلُّونَ لِي قِيَامًا وَقُعُودًا وَرُكَّعًا وَسُجَّدًا، وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِي صُفُوفًا وَزُحُوفًا، قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ، وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، وَقُرْبَانُهُمْ فِي بُطُونِهِمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ، ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ، وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَسَنَذْكُرُ مَا يُصَدِّقُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، بِمَا سَنُورِدُهُ مِنْ سُورَتَيْ " الْمَائِدَةِ " وَ " الصَّفِّ "، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ بِأَسَانِيدِهِ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ - قَالُوا: لَمَّا بُعِثَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، جَعَلَ الْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فَيَقُولُونَ: مَا أَكَلَ فُلَانٌ الْبَارِحَةَ، وَمَا ادَّخَرَ فِي بَيْتِهِ؟ فَيُخْبِرُهُمْ، فَيَزْدَادُ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا، وَالْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ شَكًّا وَكُفْرَانًا، وَكَانَ عِيسَى، مَعَ ذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ يَأْوِي إِلَيْهِ، إِنَّمَا يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ قَرَارٌ وَلَا مَوْضِعٌ يُعْرَفُ بِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا أَحْيَا مِنَ الْمَوْتَى، أَنَّهُ مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى امْرَأَةٍ قَاعِدَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَتْ: مَاتَتِ ابْنَةٌ لِي لَمْ يَكُنْ لِي وَلَدٌ غَيْرُهَا، وَإِنِّي عَاهَدْتُ رَبِّي أَنْ لَا أَبْرَحُ مِنْ مَوْضِعِي هَذَا حَتَّى أَذُوقَ مَا ذَاقَتْ مِنَ الْمَوْتِ، أَوْ يُحْيِيَهَا اللَّهُ لِي فَأَنْظُرُ إِلَيْهَا. فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَرَأَيْتِ إِنْ نَظَرْتِ إِلَيْهَا أَرَاجِعَةٌ أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالُوا: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَنَادَى: يَا فُلَانَةُ قُومِي بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ فَاخْرُجِي. قَالَ: فَتَحَرَّكَ الْقَبْرُ، ثُمَّ نَادَى الثَّانِيَةَ، فَانْصَدَعَ الْقَبْرُ بِإِذْنِ اللَّهِ، ثُمَّ نَادَى الثَّالِثَةَ، فَخَرَجَتْ وَهِيَ تَنْفُضُ رَأْسَهَا مِنَ التُّرَابِ، فَقَالَ لَهَا عِيسَى: مَا بَطَّأَ بِكِ عَنِّي؟ فَقَالَتْ: لَمَّا جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الْأُولَى بَعَثَ اللَّهُ لِي مَلَكًا فَرَكَّبَ خَلْقِي، ثُمَّ جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الثَّانِيَةُ، فَرَجَعَ إِلَيَّ رُوحِي، ثُمَّ جَاءَتْنِي
الصَّيْحَةُ الثَّالِثَةُ، فَخِفْتُ أَنَّهَا صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ، فَشَابَ رَأْسِي وَحَاجِبَايَ وَأَشْفَارُ عَيْنِي ; مِنْ مَخَافَةِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَى أُمِّهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّتَاهُ، مَا حَمَلَكِ عَلَى أَنْ أَذُوقَ كَرْبَ الْمَوْتِ مَرَّتَيْنِ؟ يَا أُمَّتَاهُ، اصْبِرِي وَاحْتَسِبِي، فَلَا حَاجَةَ لِي فِي الدُّنْيَا، يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، سَلْ رَبِّي أَنْ يَرُدَّنِي إِلَى الْآخِرَةِ، وَأَنْ يُهَوِّنَ عَلَيَّ كَرْبَ الْمَوْتِ. فَدَعَا رَبَّهُ فَقَبَضَهَا إِلَيْهِ، وَاسْتَوَتْ عَلَيْهَا الْأَرْضُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ، فَازْدَادُوا عَلَيْهِ غَضَبًا.
وَقَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ، أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوهُ أَنْ يُحْيِيَ لَهُمْ سَامَ بْنَ نُوحٍ، فَدَعَا اللَّهَ، عز وجل، وَصَلَّى لَهُ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُمْ، فَحَدَّثَهُمْ عَنِ السَّفِينَةِ وَأَمْرِهَا، ثُمَّ دَعَا فَعَادَ تُرَابًا.
وَقَدْ رَوَى السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، وَفِيهِ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَاتَ وَحُمِلَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَجَاءَ عِيسَى، عليه السلام، فَدَعَا اللَّهَ، عز وجل، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ عز وجل، فَرَأَى النَّاسُ أَمْرًا هَائِلًا وَمَنْظَرًا عَجِيبًا.
[الْمَائِدَةِ: 110، 111] .
يُذَكِّرُهُ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ فِي خَلْقِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، بَلْ مِنْ أُمٍّ بِلَا ذَكَرٍ، وَجَعْلِهِ لَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، وَدَلَالَةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِرْسَالِهِ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ {وَعَلَى وَالِدَتِكَ} [المائدة: 110] فِي اصْطِفَائِهَا وَاخْتِيَارِهَا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ ; وَلِهَذَا قَالَ:{إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110] وَهُوَ جِبْرِيلُ، بِإِلْقَاءِ رُوحِهِ إِلَى أُمِّهِ، وَقَرْنِهِ مَعَهُ فِي حَالِ رِسَالَتِهِ، وَمُدَافَعَتِهِ عَنْهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة: 110] أَيْ: تَدْعُو النَّاسَ إِلَى اللَّهِ فِي حَالِ صِغَرِكَ فِي مَهْدِكَ، وَفِي كُهُولَتِكَ {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [المائدة: 110] أَيِ الْخَطَّ وَالْفَهْمَ. نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 110] وَقَوْلُهُ {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} [المائدة: 110] أَيْ: تُصَوِّرُهُ وَتُشَكِّلُهُ مِنَ الطِّينِ عَلَى هَيْئَتِهِ، عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ {فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110] أَيْ: بِأَمْرِي. يُؤَكِّدُ تَعَالَى بِذِكْرِ الْإِذْنِ لَهُ فِي ذَلِكَ ; لِرَفْعِ التَّوَهُّمِ. وَقَوْلُهُ: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ} [المائدة: 110] قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَهُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَمَاءِ إِلَى مُدَاوَاتِهِ {وَالْأَبْرَصَ} [المائدة: 110] وَهُوَ الَّذِي لَا طِبَّ فِيهِ، بَلْ قَدْ مَرِضَ بِالْبَرَصِ وَصَارَ دَاؤُهُ عُضَالًا {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى} [المائدة: 110] أَيْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بِإِذْنِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً
مِمَّا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110] وَذَلِكَ حِينَ أَرَادُوا صَلْبَهُ فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَأَنْقَذَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ; صِيَانَةً لِجَنَابِهِ الْكَرِيمِ عَنِ الْأَذَى، وَسَلَامَةً لَهُ مِنَ الرَّدَى. وَقَوْلُهُ:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْوَحْيِ وَحْيُ إِلْهَامٍ. أَيْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] . {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: 7] . وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَحْيٌ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ، وَتَوْفِيقٌ فِي قُلُوبِهِمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ ; وَلِهَذَا اسْتَجَابُوا قَائِلِينَ:{آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] .
وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ; أَنْ جَعْلَ لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا يَنْصُرُونَهُ وَيَدْعُونَ مَعَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62]
[آلِ عِمْرَانَ: 48 - 54] .
كَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ فِي زَمَانِهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ ; فَذَكَرُوا أَنَّ مُوسَى، عليه السلام، كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِمَّا يُنَاسِبُ أَهْلَ زَمَانِهِ، فَكَانُوا سَحَرَةً أَذْكِيَاءَ، فَبُعِثَ بِآيَاتٍ بَهَرَتِ الْأَبْصَارَ، وَخَضَعَتْ لَهَا الرِّقَابُ، وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ خَبِيرِينَ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَعَايَنُوا مَا عَايَنُوا مِنَ الْأَمْرِ الْبَاهِرِ الْهَائِلِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ صُدُورُهُ إِلَّا مِمَّنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَأَجْرَى الْخَارِقَ عَلَى يَدَيْهِ تَصْدِيقًا لَهُ، أَسْلَمُوا سِرَاعًا، وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَهَكَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، بُعِثَ فِي زَمَنِ الطَّبَائِعِيَّةِ الْحُكَمَاءِ، فَأُرْسِلَ بِمُعْجِزَاتٍ لَا يَسْتَطِيعُونَهَا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا، وَأَنَّى لِحَكِيمٍ إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ، الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ، وَمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَكَيْفَ يَتَوَصَّلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ الْمَيِّتَ مِنْ قَبْرِهِ، هَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ قَامَتْ بِهِ، وَعَلَى قُدْرَةِ مَنْ أَرْسَلَهُ، وَهَكَذَا مُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، بُعِثَ فِي زَمَنِ
الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فَلَفْظُهُ مُعْجِزٌ تَحَدَّى بِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مَثَلِهِ، أَوْ بِسُورَةٍ، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ، لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَلَنْ يَفْعَلُوا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ كَلَامُ الْخَالِقِ، عز وجل، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عِيسَى، عليه السلام، لَمَّا أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَانْتَدَبَ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ طَائِفَةً صَالِحَةً، فَكَانُوا لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا، قَامُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَذَلِكَ حِينَ هَمَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَوَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، فَأَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى أَحَدِ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ عِيسَى، وَهْمُ فِي ذَلِكَ غَالِطُونَ، وَلِلْحَقِّ مُكَابِرُونَ، وَسَلَّمَ لَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى مَا ادَّعَوْهُ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ مُخْطِئُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 6]
[الصَّفِّ: 6 - 9] .
إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] . فَعِيسَى، عليه السلام، هُوَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَبَشَّرَهُمْ بِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الْآتِي بَعْدَهُ، وَنَوَّهَ بِاسْمِهِ، وَذَكَرَ لَهُمْ صِفَتَهُ لِيَعْرِفُوهُ وَيُتَابِعُوهُ إِذَا شَاهَدُوهُ ; إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، «عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ. قَالَ:
دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ» وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوُ هَذَا، وَفِيهِ:«دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى» وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ قَالَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] . الْآيَةَ. وَلَمَّا انْتَهَتِ النُّبُوَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى عِيسَى، قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ، وَأَنَّهَا بَعْدَهُ فِي النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ، خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَحْمَدَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، الَّذِي هُوَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عليهم السلام. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] يُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى عِيسَى، عليه السلام، وَيُحْتَمَلُ عُودُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَرَّضَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَنُصْرَةِ نَبِيِّهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14] أَيْ: مَنْ يُسَاعِدُنِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14] وَكَانَ ذَلِكَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: النَّاصِرَةُ. فَسُمُّوا النَّصَارَى بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} [الصف: 14] يَعْنِي، لَمَّا دَعَا عِيسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ،
فَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ بِكَمَالِهِمْ، فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَالتَّفْسِيرِ، بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا ثَلَاثَةً، أَحَدُهُمْ شَمْعُونُ الصَّفَا، فَآمَنُوا وَاسْتَجَابُوا، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ " يس " لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، وَكَفَرَ آخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهْمُ جُمْهُورُ الْيَهُودِ، فَأَيَّدَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ فِيمَا بَعْدُ، وَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ عَلَيْهِمْ قَاهِرِينَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] . الْآيَةَ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ إِلَيْهِ أَقْرَبَ، كَانَ غَالِبًا لِمَنْ دُونَهُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، كَانُوا ظَاهِرِينَ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ وَأَطْرَوْهُ، وَأَنْزَلُوهُ فَوْقَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ النَّصَارَى أَقْرَبَ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْيَهُودُ فِيهِ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، كَانَ النَّصَارَى قَاهِرِينَ لِلْيَهُودِ فِي أَزْمَانِ الْفَتْرَةِ إِلَى زَمَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.