المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[ذكر منشأ عيسى ابن مريم عليهما السلام وبيان بدء الوحي إليه من الله تعالى] - البداية والنهاية - ت التركي - جـ ٢

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ ذِكْرِ أُمَمٍ أُهْلِكُوا بِعَامَّةٍ]

- ‌[أَصْحَابُ الرَّسِّ]

- ‌[قِصَّةُ قَوْمِ يس]

- ‌[قِصَّةُ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قَوْمُ يُونُسَ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ]

- ‌[فَضْلُ يُونُسَ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ مُوسَى الْكَلِيمِ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قِصَّتُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ]

- ‌[تَحْرِيضُ فِرْعَوْنَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى وَإِسْلَامُ السَّحَرَةِ]

- ‌[هَلَاكُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دُخُولِ بَنِي إِسْرَائِيلَ التِّيهَ وَمَا جَرَى لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ]

- ‌[سُؤَالُ الرُّؤْيَةِ]

- ‌[قِصَّةُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فِي غَيْبَةِ كَلِيمِ اللَّهِ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ حَدِيثٍ آخَرَ بِمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ]

- ‌[قِصَّةُ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْمُلَقَّبِ بِحَدِيثِ الْفُتُونِ الْمُتَضَمِّنِ قِصَّةَ مُوسَى مَبْسُوطَةً مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا]

- ‌[ذِكْرُ بِنَاءِ قُبَّةِ الزَّمَانِ]

- ‌[قِصَّةُ قَارُونَ مَعَ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ فَضَائِلِ مُوسَى عليه السلام وَشَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ وَوَفَاتِهِ]

- ‌[ذِكْرُ حَجِّ مُوسَى عليه السلام إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَصِفَتِهِ]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاتِهِ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ نُبُوَّةِ يُوشَعَ وَقِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ عليهم السلام]

- ‌[ذِكْرُ قِصَّتَيِ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ عليهما السلام]

- ‌[قِصَّةُ الْخَضِرِ]

- ‌[قِصَّةُ إِلْيَاسَ عليه السلام]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ حِزْقِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ الْيَسَعَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ]

- ‌[قِصَّةُ شَمْوِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَضَائِلُهُ وَشَمَائِلُهُ وَدَلَائِلُ نُبُوَّتِهِ وَأَعْلَامِهِ]

- ‌[ذِكْرُ كَمِّيَّةِ حَيَّاتِهِ وَكَيْفِيَّةِ وَفَاتِهِ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام]

- ‌[نَسَبُهُ وَمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَمُدَّةِ مُلْكِهِ وَحَيَاتِهِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ]

- ‌[شِعْيَا بْنُ أَمْصِيَا]

- ‌[أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا]

- ‌[ذِكْرُ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ]

- ‌[ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ خَبَرِ دَانْيَالَ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ عِمَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ خَرَابِهَا]

- ‌[قِصَّةُ الْعُزَيْرِ]

- ‌[هَلْ كَانَ عُزَيْرٌ نَبِيًّا أَمْ لَا]

- ‌[الزَّمَنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ الْعُزَيْرُ]

- ‌[قِصَّةُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عليهما السلام]

- ‌[قِصَّتُهُمَا كَمَا حَكَاهَا الْقُرْآنُ]

- ‌[بَيَانُ سَبَبِ قَتْلِ يَحْيَى عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ]

- ‌[قِصَّةُ مَرْيَمَ وَالْبِشَارَةِ بِعِيسَى]

- ‌[ذِكْرُ مِيلَادِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ الْبَتُولِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَلَدِ]

- ‌[ذِكْرُ مَنْشَأِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام وَبَيَانُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[بَيَانُ نُزُولِ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَمَوَاقِيتِهَا]

- ‌[بَيَانُ شَجَرَةِ طُوبَى مَا هِيَ]

- ‌[ذِكْرُ خَبَرِ الْمَائِدَةِ]

- ‌[فَصَلٌ فِي مَشْيِ عِيسَى عَلَى الْمَاءِ]

- ‌[ذِكْرُ رَفْعِ عِيسَى عليه السلام]

- ‌[صِفَةُ عِيسَى عليه السلام وَشَمَائِلُهُ وَفَضَائِلُهُ]

- ‌[اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ عليه السلام بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِيهِ]

- ‌[بَيَانُ بِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةِ]

- ‌[كِتَابُ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ]

- ‌[خَبَرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ]

- ‌[بَيَانُ طَلَبِ ذِي الْقَرْنَيْنِ عَيْنَ الْحَيَاةِ]

- ‌[ذِكْرُ أُمَّتَيْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَصِفَاتِهِمْ وَمَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَصِفَةِ السَّدِّ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ]

- ‌[قِصَّةُ الرَّجُلَيْنِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ أَيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ]

الفصل: ‌[ذكر منشأ عيسى ابن مريم عليهما السلام وبيان بدء الوحي إليه من الله تعالى]

[ذِكْرُ مَنْشَأِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام وَبَيَانُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى]

قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، قَرِيبًا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَزَعَمَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ وُلِدَ بِمِصْرَ، وَأَنَّ مَرْيَمَ سَافَرَتْ هِيَ وَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ، وَهِيَ رَاكِبَةٌ عَلَى حِمَارٍ. لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِكَافِ شَيْءٌ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَهْمَا عَارَضَهُ فَبَاطِلٌ.

وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ خَرَّتِ الْأَصْنَامُ يَوْمَئِذٍ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ حَارَتْ فِي سَبَبِ ذَلِكَ، حَتَّى كَشَفَ لَهُمْ إِبْلِيسُ الْكَبِيرُ أَمْرَ عِيسَى، فَوَجَدُوهُ فِي حِجْرِ أُمِّهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مُحْدِقَةٌ بِهِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ نَجْمٌ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ مَلِكَ الْفُرْسِ أَشْفَقَ مِنْ ظُهُورِهِ، فَسَأَلَ الْكَهَنَةَ عَنْ

ص: 465

ذَلِكَ فَقَالُوا: هَذَا لِمَوْلِدِ عَظِيمٍ فِي الْأَرْضِ. فَبَعَثَ رُسُلَهُ وَمَعَهُمْ ذَهَبٌ وَمُرٌّ وَلِبَانٌ، هَدِيَّةً إِلَى عِيسَى، فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ سَأَلَهُمْ مَلِكُهَا عَمَّا أَقْدَمَهُمْ، فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذَا قَدْ وُلِدَ فِيهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ كَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ بِمَا مَعَهُمْ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ لَهُ ; لِيَتَوَصَّلَ إِلَى قَتْلِهِ إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَرْيَمَ بِالْهَدَايَا وَرَجَعُوا، قِيلَ لَهَا: إِنَّ رُسُلَ مَلِكِ الشَّامِ إِنَّمَا جَاءُوا لِيَقْتُلُوا وَلَدَكِ. فَاحْتَمَلَتْهُ، فَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَتْ بِهَا حَتَّى بَلَغَ عُمْرُهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ كَرَامَاتٌ وَمُعْجِزَاتٌ فِي حَالِ صِغَرِهِ، فَذَكَرَ مِنْهَا، أَنَّ الدِّهْقَانَ الَّذِي نَزَلُوا عِنْدَهُ افْتَقَدَ مَالًا مِنْ دَارِهِ، وَكَانَتْ دَارُهُ لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْمَحَاوِيجُ، فَلَمْ يَدْرِ مَنْ أَخَذَهُ، وَعَزَّ ذَلِكَ عَلَى مَرْيَمَ، عليها السلام، وَشَقَّ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ، وَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهَا، فَلَمَّا رَأَى عِيسَى، عليه السلام، ذَلِكَ، عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ أَعْمَى، وَآخَرَ مُقْعَدٍ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هُوَ مُنْقَطِعٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِلْأَعْمَى: احْمِلْ هَذَا الْمُقْعَدَ وَانْهَضْ بِهِ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. فَقَالَ: بَلَى، كَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ وَهُوَ حِينَ أَخَذْتُمَا هَذَا الْمَالَ مِنْ تِلْكَ الْكُوَّةِ مِنَ الدَّارِ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ صَدَّقَاهُ فِيمَا قَالَ، وَأَتَيَا بِالْمَالِ، فَعَظُمَ عِيسَى فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَهُوَ صَغِيرٌ جِدًّا.

وَمِنْ ذَلِكَ، أَنَّ ابْنَ الدِّهْقَانِ عَمِلَ ضِيَافَةً لِلنَّاسِ بِسَبَبِ طُهُورِ أَوْلَادِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ وَأَطْعَمَهُمْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهُمْ شَرَابًا، يَعْنِي خَمْرًا، كَمَا

ص: 466

كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لَمْ يَجِدْ فِي جِرَارِهِ شَيْئًا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ قَامَ فَجَعَلَ يَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الْجِرَارِ وَيَمُرُّ يَدَهُ عَلَى أَفْوَاهِهَا، فَلَا يَفْعَلُ بِجَرَّةٍ مِنْهَا ذَلِكَ إِلَّا امْتَلَأَتْ شَرَابًا مِنْ خِيَارِ الشَّرَابِ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا، وَعَظَّمُوهُ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ مَالًا جَزِيلًا، فَلَمْ يَقْبَلَاهُ وَارْتَحَلَا قَاصِدِينَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ السَّاجِ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَوَّلَ مَا أَطْلَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ، بَعْدَ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ طِفْلٌ، فَمَجَّدَ اللَّهَ تَمْجِيدًا لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ، لَمْ يَدَعْ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا جَبَلًا وَلَا نَهْرًا وَلَا عَيْنًا إِلَّا ذَكَرَهُ فِي تَمْجِيدِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْقَرِيبُ فِي عُلُوِّكَ، الْمُتَعَالِي فِي دُنُوِّكَ، الرَّفِيعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ، أَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَ سَبْعًا فِي الْهَوَاءِ بِكَلِمَاتِكَ، مُسْتَوِيَاتٍ طِبَاقًا، أَجَبْنَ وَهُنَّ دُخَانٌ مِنْ فَرَقِكَ، فَأَتَيْنَ طَائِعَاتٍ لِأَمْرِكَ، فِيهِنَّ مَلَائِكَتُكَ يُسَبِّحُونَ قُدْسَكَ لِتَقْدِيسِكَ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ نُورًا عَلَى سَوَادِ الظَّلَامِ، وَضِيَاءً مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ الرَّعْدَ الْمُسَبِّحَ بِالْحَمْدِ، فَبِعِزَّتِكَ تَجْلُو ضَوْءَ ظُلْمَتِكَ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ مَصَابِيحَ يَهْتَدِي بِهِنَّ فِي الظُّلُمَاتِ الْحَيْرَانُ، فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ فِي مَفْطُورَ سَمَاوَاتِكَ، وَفِيمَا دَحَوْتَ مِنْ أَرْضِكَ، دَحَوْتَهَا عَلَى الْمَاءِ، فَسَمَكْتَهَا

ص: 467

عَلَى تَيَّارِ الْمَوْجِ الْمُتَغَامِرِ، فَأَذْلَلْتَهَا إِذْلَالَ الْمَاءِ الْمُتَطَاهِرِ، فَذَلَّ لِطَاعَتِكَ صَعْبُهَا، وَاسْتَحْيَى لِأَمْرِكَ أَمْرُهَا، وَخَضَعَتْ لِعِزَّتِكَ أَمْوَاجُهَا، فَفَجَّرْتَ فِيهَا بَعْدَ الْبُحُورِ الْأَنْهَارَ، وَمِنْ بَعْدِ الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ الصِّغَارَ، وَمِنْ بَعْدِ الْجَدَاوِلِ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ الْغِزَارَ ثُمَّ أَخْرَجْتَ مِنْهَا الْأَنْهَارَ وَالْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ، ثُمَّ جَعَلْتَ عَلَى ظَهْرِهَا الْجِبَالَ فَوَتَّدْتَهَا أَوْتَادًا عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ، فَأَطَاعَتْ أَطْوَادُهَا وَجُلْمُودُهَا، فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ، فَمَنْ يَبْلُغُ بِنَعْتِهِ نَعْتَكَ؟ أَمَّنْ يَبْلُغُ بِصِفَتِهِ صِفَتَكَ؟ تَنْشُرُ السَّحَابَ، وَتَفُكُّ الرِّقَابَ وَتَقْضِي الْحَقَّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، أَمَرْتَ أَنْ نَسْتَغْفِرَكَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، سَتَرْتَ السَّمَاوَاتِ عَنِ النَّاسِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، إِنَّمَا يَخْشَاكَ مِنْ عِبَادِكَ الْأَكْيَاسُ، نَشْهَدُ أَنَّكَ لَسْتَ بِإِلَهٍ اسْتَحْدَثْنَاكَ، وَلَا رَبٍّ يَبِيدُ ذِكْرُهُ، وَلَا كَانَ مَعَكَ شُرَكَاءُ يَقْضُونَ مَعَكَ فَنَدْعُوَهُمْ وَنَذَرَكُ، وَلَا أَعَانَكَ عَلَى خَلْقِنَا أَحَدٌ فَنَشُكَّ فِيكَ، نَشْهَدُ أَنَّكَ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُوًا أَحَدٌ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ بَعْدَ إِذْ كَلَّمَهُمْ طِفْلًا، حَتَّى بَلَغَ

ص: 468

مَا يَبْلُغُ الْغِلْمَانُ، ثُمَّ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْبَيَانِ، فَأَكْثَرَ الْيَهُودُ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ مِنَ الْقَوْلِ، كَانُوا يُسَمُّونَهُ ابْنَ الْبَغِيَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156] . قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ فِي الْكُتَّابِ، فَجَعَلَ لَا يُعَلِّمُهُ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا إِلَّا بَدَرَهُ إِلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ أَبَا جَادٍ، فَقَالَ عِيسَى: مَا أَبُو جَادٍ؟ فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ عِيسَى: كَيْفَ تُعَلِّمُنِي مَا لَا تَدْرِي؟ فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: إِذًا فَعَلِّمْنِي. فَقَالَ لَهُ عِيسَى: فَقُمْ مِنْ مَجْلِسِكَ. فَقَامَ فَجَلَسَ عِيسَى مَجْلِسَهُ فَقَالَ: سَلْنِي. فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: فَمَا أَبُو جَادٍ؟ فَقَالَ عِيسَى: الْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ، الْبَاءُ بَهَاءُ اللَّهِ، الْجِيمُ بَهْجَةُ اللَّهِ وَجَمَالُهُ. فَعَجِبَ الْمُعَلِّمُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ فَسَّرَ أَبَا جَادٍ.

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ كَلَّمَهُ، بِحَدِيثٍ طَوِيلٍ مَوْضُوعٍ، لَا يُشَكُّ فِيهِ وَلَا يُتَمَارَى.

وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ مُلَيْكَةَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، رَفَعَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِ عِيسَى إِلَى الْكُتَّابِ وَتَعْلِيمِهِ الْمُعَلِّمَ مَعْنَى حُرُوفِ أَبِي جَادٍ، وَهُوَ مُطَوَّلٌ لَا يُفْرَحُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ وَهَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، لَا يَرْوِيهِ غَيْرُ إِسْمَاعِيلَ.

وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

ص: 469

عَمْرٍو يَقُولُ: كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَهُوَ غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَكَانَ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: تُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ مَا خَبَّأَتْ لَكَ أُمُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: خَبَّأَتْ لَكَ كَذَا وَكَذَا. فَيَذْهَبُ الْغُلَامُ مِنْهُمْ إِلَى أُمِّهِ فَيَقُولُ لَهَا: أَطْعِمِينِي مَا خَبَّأْتِ لِي. فَتَقُولُ: وَأَيُّ شَيْءٍ خَبَّأْتُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا. فَتَقُولُ لَهُ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟ فَيَقُولُ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمْ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ مَعَ ابْنِ مَرْيَمَ لَيُفْسِدَنَّهُمْ. فَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ عِيسَى يَلْتَمِسُهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ، فَسَمِعَ ضَوْضَاءَهُمْ فِي بَيْتٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّمَا هَؤُلَاءِ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ كَذَلِكَ. فَكَانُوا كَذَلِكَ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَكَانَ عِيسَى يَرَى الْعَجَائِبَ فِي صِبَاهُ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ، فَفَشَا ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ، وَتَرَعْرَعَ عِيسَى فَهَمَّتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَخَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّهِ أَنْ تَنْطَلِقَ بِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ ; فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] .

وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الرَّبْوَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ صِفَتِهَا أَنَّهَا ذَاتُ قَرَارٍ وَمَعِينٍ، وَهَذِهِ صِفَةٌ غَرِيبَةُ الشَّكْلِ ; وَهِيَ أَنَّهَا رَبْوَةٌ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، الَّذِي أَعْلَاهُ مُسْتَوٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ، فَمَعَ ارْتِفَاعِهِ، مُتَّسِعٌ،

ص: 470

وَمَعَ عُلُوِّهِ، فِيهِ عَيْنٌ مِنَ الْمَاءِ مَعِينٌ ; وَهُوَ الْجَارِي السَّارِحُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَكَانُ الَّذِي وَلَدَتْ فِيهِ الْمَسِيحَ. وَهُوَ مَحِلَّةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلِهَذَا {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ السَّلَفِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، أَنَّهَا أَنْهَارُ دِمَشْقَ. فَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِأَنْهَارِ دِمَشْقَ. وَقِيلَ: ذَلِكَ بِمِصْرَ. كَمَا زَعَمَهُ مَنْ زَعَمَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: هِيَ الرَّمْلَةُ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: قَالَ لَنَا إِدْرِيسُ، عَنْ جَدِّهِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: إِنَّ عِيسَى لَمَّا بَلَغَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ إِلَى بَيْتِ إِيلِيَا. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِ يُوسُفُ ابْنُ خَالِ أُمِّهِ، فَحَمَلَهُمَا عَلَى حِمَارٍ، حَتَّى جَاءَ بِهِمَا إِلَى إِيلِيَا وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ الْإِنْجِيلَ، وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ، وَأَعْطَاهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءَ الْأَسْقَامِ، وَالْعِلْمَ بِالْغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ، وَفَزِعُوا لِمَا كَانَ يَأْتِي مِنَ الْعَجَائِبِ، فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْهُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَفَشَا فِيهِمْ أَمْرُهُ.

ص: 471