المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في سبتهم] - البداية والنهاية - ت التركي - جـ ٢

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ ذِكْرِ أُمَمٍ أُهْلِكُوا بِعَامَّةٍ]

- ‌[أَصْحَابُ الرَّسِّ]

- ‌[قِصَّةُ قَوْمِ يس]

- ‌[قِصَّةُ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قَوْمُ يُونُسَ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ]

- ‌[فَضْلُ يُونُسَ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ مُوسَى الْكَلِيمِ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قِصَّتُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ]

- ‌[تَحْرِيضُ فِرْعَوْنَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى وَإِسْلَامُ السَّحَرَةِ]

- ‌[هَلَاكُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دُخُولِ بَنِي إِسْرَائِيلَ التِّيهَ وَمَا جَرَى لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ]

- ‌[سُؤَالُ الرُّؤْيَةِ]

- ‌[قِصَّةُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فِي غَيْبَةِ كَلِيمِ اللَّهِ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ حَدِيثٍ آخَرَ بِمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ]

- ‌[قِصَّةُ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْمُلَقَّبِ بِحَدِيثِ الْفُتُونِ الْمُتَضَمِّنِ قِصَّةَ مُوسَى مَبْسُوطَةً مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا]

- ‌[ذِكْرُ بِنَاءِ قُبَّةِ الزَّمَانِ]

- ‌[قِصَّةُ قَارُونَ مَعَ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ فَضَائِلِ مُوسَى عليه السلام وَشَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ وَوَفَاتِهِ]

- ‌[ذِكْرُ حَجِّ مُوسَى عليه السلام إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَصِفَتِهِ]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاتِهِ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ نُبُوَّةِ يُوشَعَ وَقِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ عليهم السلام]

- ‌[ذِكْرُ قِصَّتَيِ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ عليهما السلام]

- ‌[قِصَّةُ الْخَضِرِ]

- ‌[قِصَّةُ إِلْيَاسَ عليه السلام]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ حِزْقِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ الْيَسَعَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ]

- ‌[قِصَّةُ شَمْوِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَضَائِلُهُ وَشَمَائِلُهُ وَدَلَائِلُ نُبُوَّتِهِ وَأَعْلَامِهِ]

- ‌[ذِكْرُ كَمِّيَّةِ حَيَّاتِهِ وَكَيْفِيَّةِ وَفَاتِهِ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام]

- ‌[نَسَبُهُ وَمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَمُدَّةِ مُلْكِهِ وَحَيَاتِهِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ]

- ‌[شِعْيَا بْنُ أَمْصِيَا]

- ‌[أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا]

- ‌[ذِكْرُ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ]

- ‌[ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ خَبَرِ دَانْيَالَ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ عِمَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ خَرَابِهَا]

- ‌[قِصَّةُ الْعُزَيْرِ]

- ‌[هَلْ كَانَ عُزَيْرٌ نَبِيًّا أَمْ لَا]

- ‌[الزَّمَنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ الْعُزَيْرُ]

- ‌[قِصَّةُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عليهما السلام]

- ‌[قِصَّتُهُمَا كَمَا حَكَاهَا الْقُرْآنُ]

- ‌[بَيَانُ سَبَبِ قَتْلِ يَحْيَى عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ]

- ‌[قِصَّةُ مَرْيَمَ وَالْبِشَارَةِ بِعِيسَى]

- ‌[ذِكْرُ مِيلَادِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ الْبَتُولِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَلَدِ]

- ‌[ذِكْرُ مَنْشَأِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام وَبَيَانُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[بَيَانُ نُزُولِ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَمَوَاقِيتِهَا]

- ‌[بَيَانُ شَجَرَةِ طُوبَى مَا هِيَ]

- ‌[ذِكْرُ خَبَرِ الْمَائِدَةِ]

- ‌[فَصَلٌ فِي مَشْيِ عِيسَى عَلَى الْمَاءِ]

- ‌[ذِكْرُ رَفْعِ عِيسَى عليه السلام]

- ‌[صِفَةُ عِيسَى عليه السلام وَشَمَائِلُهُ وَفَضَائِلُهُ]

- ‌[اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ عليه السلام بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِيهِ]

- ‌[بَيَانُ بِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةِ]

- ‌[كِتَابُ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ]

- ‌[خَبَرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ]

- ‌[بَيَانُ طَلَبِ ذِي الْقَرْنَيْنِ عَيْنَ الْحَيَاةِ]

- ‌[ذِكْرُ أُمَّتَيْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَصِفَاتِهِمْ وَمَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَصِفَةِ السَّدِّ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ]

- ‌[قِصَّةُ الرَّجُلَيْنِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ أَيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ]

الفصل: ‌[قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في سبتهم]

[قِصَّةُ أَصْحَابِ أَيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ]

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ ":{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 163]

[الْأَعْرَافِ: 163 - 166] .

وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ ": {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 65]

[الْبَقَرَةِ: 65، 66] .

وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ ": {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47] .

ص: 582

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ: هُمْ أَهْلُ أَيْلَةَ. زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَ مَدْيَنَ وَالطُّورِ. قَالُوا: وَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ التَّوْرَاةِ فِي تَحْرِيمِ السَّبْتِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكَانَتِ الْحِيتَانُ قَدْ أَلِفَتْ مِنْهُمُ السَّكِينَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الصَّنَائِعِ وَالتِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ، فَكَانَتِ الْحِيتَانُ فِي مِثْلِ يَوْمِ السَّبْتِ يَكْثُرُ غَشَيَانُهَا لِمَحِلَّتِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ ; فَتَأْتِي مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا ظَاهِرَةً آمِنَةً مُسْتَرْسِلَةً فَلَا يُهَيِّجُونَهَا وَلَا يَذْعَرُونَهَا. {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْطَادُونَهَا فِيمَا عَدَا السَّبْتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} [الأعراف: 163] أَيْ: نَخْتَبِرُهُمْ بِكَثْرَةِ الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ. {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59] أَيْ: بِسَبَبِ فِسْقِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ احْتَالُوا عَلَى اصْطِيَادِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، بِأَنْ نَصَبُوا الْحِبَالَ وَالشِّبَاكَ وَالشُّصُوصَ، وَحَفَرُوا الْحُفَرَ الَّتِي يَجْرِي مَعَهَا الْمَاءُ إِلَى مَصَانِعَ قَدْ أَعَدُّوهَا، إِذَا دَخَلَهَا السَّمَكُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا جَاءَتِ الْحِيتَانُ مُسْتَرْسِلَةً يَوْمَ السَّبْتِ، عَلِقَتْ بِهَذِهِ الْمَصَايِدِ، فَإِذَا خَرَجَ سَبْتُهُمْ أَخَذُوهَا، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ; لَمَّا احْتَالُوا عَلَى خِلَافِ أَمْرِهِ، وَانْتَهَكُوا مَحَارِمَهُ بِالْحِيَلِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَةٌ لِلنَّاظِرِ، وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ مُخَالَفَةٌ مَحْضَةٌ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ افْتَرَقَ الَّذِينَ لَمْ يَفْعَلُوا فِرْقَتَيْنِ ; فِرْقَةٌ أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ صَنِيعَهُمْ

ص: 583

هَذَا وَاحْتِيَالَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَفِرْقَةٌ أُخْرَى لَمْ يَفْعَلُوا وَلَمْ يَنْهَوْا، بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى الَّذِينَ نَهَوْا وَقَالُوا:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164] يَقُولُونَ لَهُمْ: مَا الْفَائِدَةُ فِي نَهْيِكُمْ هَؤُلَاءِ وَقَدِ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ لَا مَحَالَةَ؟ فَأَجَابَتْهُمُ الطَّائِفَةُ الْمُنْكِرَةُ بِأَنْ قَالُوا: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164] أَيْ: فِيمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَنَقُومُ بِهِ خَوْفًا مِنْ عَذَابِهِ. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164] أَيْ: وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ يَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ، فَيَقِيهِمُ اللَّهُ عَذَابَهُ وَيَعْفُو عَنْهُمْ إِذَا هُمْ رَجَعُوا وَاسْتَمَعُوا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] أَيْ: لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَنْ نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ الشَّنِيعِ الْفَظِيعِ {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف: 165] وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْآمِرَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَةُ عَنِ الْمُنْكَرِ {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأعراف: 165] وَهُمُ الْمُرْتَكِبُونَ الْفَاحِشَةَ {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] وَهُوَ الشَّدِيدُ الْمُؤْلِمُ الْمُوجِعُ. {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59] ثُمَّ فَسَّرَ الْعَذَابَ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] وَسَنَذْكُرُ مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الظَّالِمِينَ، وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْكِرِينَ، وَسَكَتَ عَنِ السَّاكِتِينَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِمُ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ ; فَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنَ النَّاجِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنَ الْهَالِكِينَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَلِكَ عِنْدَ مُنَاظَرَةِ

ص: 584

مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ، فَكَسَاهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حُلَّةً سَنِيَّةً ; تَكْرِمَةً. قُلْتُ: وَإِنِمَّا لَمْ يُذْكَرُوا مَعَ النَّاجِينَ ; لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَرِهُوا بِبَوَاطِنِهِمْ تِلْكَ الْفَاحِشَةَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا ظَوَاهِرَهُمْ بِالْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْإِنْكَارِ الْقَوْلِيِّ، الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ، الَّتِي أَعْلَاهَا الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ ذَاتِ الْبَنَانِ، وَبَعْدَهَا الْإِنْكَارُ الْقَوْلِيِّ بِاللِّسَانِ، وَثَالِثُهَا الْإِنْكَارُ بِالْجَنَانِ. فَلَمَّا لَمْ يُذَكِّرُوا، لَمْ يُذْكَرُوا مَعَ النَّاجِينَ، إِذْ لَمْ يَفْعَلُوا الْفَاحِشَةَ، بَلْ أَنْكَرُوا. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَى مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ رُومَانَ، وَشَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، مَا مَضْمُونُهُ أَنَّ الَّذِينَ ارْتَكَبُوا هَذَا الصُّنْعَ، اعْتَزَلَهُمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَنَهَاهُمْ مَنْ نَهَاهُمْ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَكَانُوا يَبِيتُونَ وَحْدَهُمْ وَيُغْلِقُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ أَبْوَابًا، حَاجِزًا لِمَا كَانُوا يَتَرَقَّبُونَ مِنْ هَلَاكِهِمْ فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ وَأَبْوَابُ نَاحِيَتِهِمْ مُغْلَقَةٌ لَمْ يَفْتَحُوهَا، وَارْتَفَعَ النَّهَارُ وَاشْتَدَّ الضُحَاءُ فَأَمَرَ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ رَجُلًا أَنْ يَصْعَدَ عَلَى سَلَالِمَ وَيُشْرِفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، إِذَا هُمْ قِرَدَةٌ لَهَا أَذْنَابٌ يَتَعَاوَوْنَ وَيَتَعَادَوْنَ، فَفَتَحُوا عَلَيْهِمُ الْأَبْوَابَ فَجَعَلَتِ الْقِرَدَةُ تَعْرِفُ قَرَابَاتِهِمْ، وَلَا تَعْرِفُهُمْ قَرَابَاتُهُمْ، فَجَعَلُوا يَلُوذُونَ بِهِمْ، وَيَقُولُ لَهُمُ النَّاهُونَ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ صَنِيعِكُمْ؟ فَتُشِيرُ الْقِرَدَةُ بِرُءُوسِهَا أَنْ نَعَمْ. ثُمَّ بَكَى عَبْدُ

ص: 585

اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: إِنَّا لَنَرَى مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَا نُنْكِرُهَا، وَلَا نَقُولُ فِيهَا شَيْئًا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَارَ شَبَابُ الْقَرْيَةِ قِرَدَةً، وَشُيُوخُهَا خَنَازِيرَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمْ لَمْ يَعِيشُوا إِلَّا فُوَاقًا، ثُمَّ هَلَكُوا، مَا كَانَ لَهُمْ نَسْلٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لَمْ يَعِشْ مَسْخٌ قَطُّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَشْرَبُوا وَلَمْ يَنْسِلُوا. وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْآثَارَ فِي ذَلِكَ، فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ " الْبَقَرَةِ "، وَ " الْأَعْرَافِ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَغَرِيبٌ مِنْهُ جِدًّا، وَمُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

ص: 586