المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[هلاك فرعون وجنوده] - البداية والنهاية - ت التركي - جـ ٢

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ ذِكْرِ أُمَمٍ أُهْلِكُوا بِعَامَّةٍ]

- ‌[أَصْحَابُ الرَّسِّ]

- ‌[قِصَّةُ قَوْمِ يس]

- ‌[قِصَّةُ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قَوْمُ يُونُسَ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ]

- ‌[فَضْلُ يُونُسَ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ مُوسَى الْكَلِيمِ عليه الصلاة والسلام]

- ‌[قِصَّتُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ]

- ‌[تَحْرِيضُ فِرْعَوْنَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى وَإِسْلَامُ السَّحَرَةِ]

- ‌[هَلَاكُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دُخُولِ بَنِي إِسْرَائِيلَ التِّيهَ وَمَا جَرَى لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ]

- ‌[سُؤَالُ الرُّؤْيَةِ]

- ‌[قِصَّةُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فِي غَيْبَةِ كَلِيمِ اللَّهِ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ حَدِيثٍ آخَرَ بِمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ]

- ‌[قِصَّةُ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْمُلَقَّبِ بِحَدِيثِ الْفُتُونِ الْمُتَضَمِّنِ قِصَّةَ مُوسَى مَبْسُوطَةً مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا]

- ‌[ذِكْرُ بِنَاءِ قُبَّةِ الزَّمَانِ]

- ‌[قِصَّةُ قَارُونَ مَعَ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ فَضَائِلِ مُوسَى عليه السلام وَشَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ وَوَفَاتِهِ]

- ‌[ذِكْرُ حَجِّ مُوسَى عليه السلام إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَصِفَتِهِ]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاتِهِ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ نُبُوَّةِ يُوشَعَ وَقِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ عليهم السلام]

- ‌[ذِكْرُ قِصَّتَيِ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ عليهما السلام]

- ‌[قِصَّةُ الْخَضِرِ]

- ‌[قِصَّةُ إِلْيَاسَ عليه السلام]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ حِزْقِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ الْيَسَعَ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ]

- ‌[قِصَّةُ شَمْوِيلَ]

- ‌[قِصَّةُ دَاوُدَ عليه السلام]

- ‌[فَضَائِلُهُ وَشَمَائِلُهُ وَدَلَائِلُ نُبُوَّتِهِ وَأَعْلَامِهِ]

- ‌[ذِكْرُ كَمِّيَّةِ حَيَّاتِهِ وَكَيْفِيَّةِ وَفَاتِهِ عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام]

- ‌[نَسَبُهُ وَمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ]

- ‌[ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَمُدَّةِ مُلْكِهِ وَحَيَاتِهِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ]

- ‌[شِعْيَا بْنُ أَمْصِيَا]

- ‌[أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا]

- ‌[ذِكْرُ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ]

- ‌[ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ خَبَرِ دَانْيَالَ عليه السلام]

- ‌[ذِكْرُ عِمَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ خَرَابِهَا]

- ‌[قِصَّةُ الْعُزَيْرِ]

- ‌[هَلْ كَانَ عُزَيْرٌ نَبِيًّا أَمْ لَا]

- ‌[الزَّمَنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ الْعُزَيْرُ]

- ‌[قِصَّةُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عليهما السلام]

- ‌[قِصَّتُهُمَا كَمَا حَكَاهَا الْقُرْآنُ]

- ‌[بَيَانُ سَبَبِ قَتْلِ يَحْيَى عليه السلام]

- ‌[قِصَّةُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ]

- ‌[قِصَّةُ مَرْيَمَ وَالْبِشَارَةِ بِعِيسَى]

- ‌[ذِكْرُ مِيلَادِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ الْبَتُولِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَلَدِ]

- ‌[ذِكْرُ مَنْشَأِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام وَبَيَانُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[بَيَانُ نُزُولِ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَمَوَاقِيتِهَا]

- ‌[بَيَانُ شَجَرَةِ طُوبَى مَا هِيَ]

- ‌[ذِكْرُ خَبَرِ الْمَائِدَةِ]

- ‌[فَصَلٌ فِي مَشْيِ عِيسَى عَلَى الْمَاءِ]

- ‌[ذِكْرُ رَفْعِ عِيسَى عليه السلام]

- ‌[صِفَةُ عِيسَى عليه السلام وَشَمَائِلُهُ وَفَضَائِلُهُ]

- ‌[اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ عليه السلام بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِيهِ]

- ‌[بَيَانُ بِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةِ]

- ‌[كِتَابُ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ]

- ‌[خَبَرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ]

- ‌[بَيَانُ طَلَبِ ذِي الْقَرْنَيْنِ عَيْنَ الْحَيَاةِ]

- ‌[ذِكْرُ أُمَّتَيْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَصِفَاتِهِمْ وَمَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَصِفَةِ السَّدِّ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ]

- ‌[قِصَّةُ الرَّجُلَيْنِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ]

- ‌[قِصَّةُ أَصْحَابِ أَيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ]

الفصل: ‌[هلاك فرعون وجنوده]

[هَلَاكُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ]

ذِكْرُ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ

لَمَّا تَمَادَى قِبْطُ مِصْرَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ، وَعِنَادِهِمْ، مُتَابَعَةً لِمَلِكِهِمْ فِرْعَوْنَ، وَمُخَالَفَةً لِنَبِيِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ، مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، عليه السلام، وَأَقَامَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ الْحُجَجَ الْعَظِيمَةَ الْقَاهِرَةَ وَأَرَاهُمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَا بَهَرَ الْأَبْصَارَ وَحَيَّرَ الْعُقُولَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَرْعَوُونَ، وَلَا يَنْتَهُونَ، وَلَا يَنْزِعُونَ، وَلَا يَرْجِعُونَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، قِيلَ: ثَلَاثَةٌ; وَهُمُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَلَا عِلْمَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِخَبَرِهَا، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، الَّذِي تَقَدَّمَ حِكَايَةُ مَوْعِظَتِهِ، وَمَشُورَتِهِ، وَحُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَالرَّجُلُ النَّاصِحُ، الَّذِي جَاءَ يَسْعَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ:{يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. وَمُرَادُهُ غَيْرُ السَّحَرَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْقِبْطِ. وَقِيلَ: بَلْ آمَنَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْقِبْطِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَالسَّحَرَةُ كُلُّهُمْ، وَجَمِيعُ شَعْبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] . فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس: 83] عَائِدٌ عَلَى فِرْعَوْنَ;

ص: 103

لِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَلَى مُوسَى; لِقُرْبِهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي " التَّفْسِيرِ ". وَإِيمَانُهُمْ كَانَ خُفْيَةً; لِمَخَافَتِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَسَطْوَتِهِ، وَجَبَرُوتِهِ وَسُلْطَتِهِ، وَمِنْ مَلَئِهِمْ أَنْ يَنِمُّوا عَلَيْهِمْ إِلَيْهِ، فَيَفْتِنَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا:{وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ} [يونس: 83] أَيْ; جَبَّارٌ، عَنِيدٌ، مُسْتَعْلٍ بِغَيْرِ الْحَقِّ، {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] أَيْ; فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَشُئُونِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَلَكِنَّهُ جُرْثُومَةٌ قَدْ حَانَ انْجِعَافُهَا، وَثَمَرَةٌ خَبِيثَةٌ قَدْ آنَ قِطَافُهَا، وَمُهْجَةٌ مَلْعُونَةٌ قَدْ حُتِمَ إِتْلَافُهَا. وَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى:{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ - فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس: 84 - 86]

[يُونُسَ 84 - 86] . يَأْمُرُهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، فَأْتَمَرُوا بِذَلِكَ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 87] أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ، عليهما السلام، أَنْ يَتَّخِذُوا لِقَوْمِهِمَا بُيُوتًا مُتَمَيِّزَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ عَنْ بُيُوتِ الْقِبْطِ; لِيَكُونُوا عَلَى أُهْبَةٍ مِنَ الرَّحِيلِ، إِذَا أَمَرُوا بِهِ، لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ بُيُوتَ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ:{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] قِيلَ: مَسَاجِدَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرُهُمْ.

ص: 104

وَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا الِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ، وَالشِّدَّةِ، وَالضِّيقِ، بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ; كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ يَقْدِرُونَ عَلَى إِظْهَارِ عِبَادَتِهِمْ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ، وَمَعَابِدِهِمْ، فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْ إِظْهَارِ شِعَارِ الدِّينِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، الَّذِي اقْتَضَى حَالُهُمْ إِخْفَاءَهُ; خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَقْوَى; لِقَوْلِهِ:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 87] وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي الثَّانِيَ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] أَيْ; مُتَقَابِلَةً.

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ - قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 88 - 89]

[يُونُسَ 88 - 89] . هَذِهِ دَعْوَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعَا بِهَا كَلِيمُ اللَّهِ مُوسَى، عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ; غَضَبًا لِلَّهِ عَلَيْهِ، لِتَكَبُّرِهِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَصَدِّهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُعَانَدَتِهِ، وَعُتُوِّهِ، وَتَمَرُّدِهِ، وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَمُكَابَرَتِهِ الْحَقَّ الْوَاضِحَ الْجَلِيَّ الْحِسِّيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ، وَالْبُرْهَانَ الْقَطْعِيَّ، فَقَالَ:{رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ} [يونس: 88] يَعْنِي: قَوْمَهُ مِنَ الْقِبْطِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِ، وَدَانَ بِدِينِهِ {زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس: 88]

ص: 105

أَيْ; وَهَذَا يَغْتَرُّ بِهِ مَنْ يُعَظِّمُ أَمْرَ الدُّنْيَا، فَيَحْسَبُ الْجَاهِلُ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ; لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ، وَهَذِهِ الزِّينَةِ; مِنَ اللِّبَاسِ، وَالْمَرَاكِبِ الْحَسَنَةِ الْهَنِيَّةِ، وَالدُّورِ الْأَنِيقَةِ، وَالْقُصُورِ الْمَبْنِيَّةِ، وَالْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ، وَالْمَنَاظِرِ الْبَهِيَّةِ، وَالْمُلْكِ الْعَزِيزِ، وَالتَّمْكِينِ، وَالْجَاهِ الْعَرِيضِ، فِي الدُّنْيَا لَا الدِّينِ، {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. أَيْ; أَهْلِكْهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكُ: اجْعَلْهَا حِجَارَةً مَنْقُوشَةً كَهَيْئَةِ مَا كَانَتْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ زُرُوعَهُمْ صَارَتْ حِجَارَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: جَعَلَ سُكَّرَهُمْ حِجَارَةً. وَقَالَ أَيْضًا: صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلُّهَا حِجَارَةً. ذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِغُلَامٍ لَهُ: ائْتِنِي بِكِيسٍ. فَجَاءَهُ بِكِيسٍ، فَإِذَا فِيهِ. . . . وَبَيْضٌ قَدْ قُطِّعَ، قَدْ حُوِّلَ حِجَارَةً. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَوْلُهُ:{وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ; اطْبَعْ عَلَيْهَا. وَهَذِهِ دَعْوَةُ غَضَبٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِدِينِهِ، وَلِبَرَاهِينِهِ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا، وَحَقَّقَهَا وَتَقَبَّلَهَا; كَمَا اسْتَجَابَ لِنُوحٍ فِي قَوْمِهِ، حَيْثُ قَالَ:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا - إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى، مُخَاطِبًا لِمُوسَى حِينَ دَعَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَأَمَّنَ أَخُوهُ هَارُونُ عَلَى دُعَائِهِ، فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الدَّاعِي أَيْضًا:

ص: 106

{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: اسْتَأْذَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرْعَوْنَ، فِي الْخُرُوجِ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَهُوَ كَارِهٌ، وَلَكِنَّهُمْ تَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَكِيدَةٌ بِفِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ; لِيَتَخَلَّصُوا مِنْهُمْ، وَيَخْرُجُوا عَنْهُمْ، وَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ - أَنْ يَسْتَعِيرُوا حُلِيًّا مِنْهُمْ، فَأَعَارُوهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، فَخَرَجُوا بِلَيْلٍ فَسَارُوا مُسْتَمِرِّينَ ذَاهِبِينَ مِنْ فَوْرِهِمْ طَالِبِينَ بِلَادَ الشَّامِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَهَابِهِمْ فِرْعَوْنُ، حَنِقَ عَلَيْهِمْ كُلَّ الْحَنَقِ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَشَرَعَ فِي اسْتِحْثَاثِ جَيْشِهِ، وَجَمْعِ جُنُودِهِ لِيَلْحَقَهُمْ، وَيَمْحَقَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ - فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ - إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ - وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ - وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ - فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ - فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ - فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ - قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ - فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ - وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ - وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ - ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 52 - 68]

[الشُّعَرَاءِ: 52 - 68] . قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا رَكِبَ فِرْعَوْنُ فِي جُنُودِهِ، طَالِبًا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقْفُو أَثَرَهُمْ، كَانَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ عَرَمْرَمٍ،

ص: 107

حَتَّى قِيلَ: كَانَ فِي خُيُولِهِ مِائَةُ أَلْفِ فَحْلٍ أَدْهَمَ. وَكَانَتْ عِدَّةُ جُنُودِهِ تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ، وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ غَيْرَ الذُّرِّيَّةِ، وَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ صُحْبَةَ مُوسَى، عليه السلام، وَدُخُولِهِمْ إِلَيْهَا صُحْبَةَ أَبِيهِمْ إِسْرَائِيلَ، أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً شَمْسِيَّةً.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَحِقَهُمْ بِالْجُنُودِ، فَأَدْرَكَهُمْ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ، وَلَمْ يَبْقَ ثَمَّ رَيْبٌ، وَلَا لَبْسٌ، وَعَايَنَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَاحِبَهُ، وَتَحَقَّقَهُ وَرَآهُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُقَاتَلَةُ، وَالْمُجَاوَلَةُ، وَالْمُحَامَاةُ، فَعِنْدَهَا قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى، وَهُمْ خَائِفُونَ:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اضْطُرُّوا فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى الْبَحْرِ، فَلَيْسَ لَهُمْ طَرِيقٌ وَلَا مَحِيدٌ إِلَّا سُلُوكُهُ وَخَوْضُهُ، وَهَذَا مَا لَا يَسْتَطِيعُهُ أَحَدٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَالْجِبَالُ عَنْ يَسْرَتِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ، وَهِيَ شَاهِقَةٌ مُنِيفَةٌ، وَفِرْعَوْنُ قَدْ غَالَقَهُمْ وَوَاجَهَهُمْ، وَعَايَنُوهُ فِي جُنُودِهِ وَجُيُوشِهِ وَعَدَدِهِ وَعُدَدِهِ، وَهُمْ مِنْهُ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَالذُّعْرِ، لِمَا قَاسَوْا فِي سُلْطَانِهِ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالنُّكْرِ، فَشَكَوْا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ مَا هُمْ فِيهِ، مِمَّا قَدْ شَاهَدُوهُ وَعَايَنُوهُ، فَقَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ:{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وَكَانَ فِي السَّاقَةِ، فَتَقَدَّمَ إِلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَنَظَرَ إِلَى الْبَحْرِ، وَهُوَ يَتَلَاطَمُ بِأَمْوَاجِهِ، وَيَتَزَايَدُ زَبَدُ أُجَاجِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: هَاهُنَا أُمِرْتُ. وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ; وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٌ مِنْ سَادَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعُلَمَائِهِمْ،

ص: 108

وَعُبَّادِهِمُ الْكِبَارِ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَهُ نَبِيًّا بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعَهُمْ أَيْضًا مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَهُمْ وُقُوفٌ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ بِكَمَالِهِمْ عَلَيْهِمْ عُكُوفٌ. وَيُقَالُ: إِنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ جَعَلَ يَقْتَحِمُ بِفَرَسِهِ مِرَارًا فِي الْبَحْرِ، هَلْ يُمْكِنُ سُلُوكُهُ؟ فَلَا يُمْكِنُ، وَيَقُولُ لِمُوسَى، عليه السلام: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَهَاهُنَا أُمِرْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَضَاقَ الْحَالُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَاقْتَرَبَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فِي جِدِّهِمْ، وَحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، وَغَضَبِهِمْ، وَحَنَقِهِمْ، وَزَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْحَى الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْقَدِيرُ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ إِلَى مُوسَى الْكَلِيمِ:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63] فَلَمَّا ضَرَبَهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ لَهُ: انْفَلِقْ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَنَّاهُ بِأَبِي خَالِدٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] وَيُقَالُ: إِنَّهُ انْفَلَقَ اثْنَيْ عَشْرَةَ طَرِيقًا، لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ يَسِيرُونَ فِيهِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ صَارَ أَيْضًا شَبَابِيكَ; لِيَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَفِي هَذَا نَظَرٌ; لِأَنَّ الْمَاءَ جِرْمٌ شَفَّافٌ، إِذَا كَانَ مِنْ وَرَائِهِ ضِيَاءٌ حَكَاهُ. وَهَكَذَا كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ قَائِمًا مِثْلَ الْجِبَالِ مَكْفُوفًا بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ. فَيَكُونُ. وَأَمَرَ اللَّهُ رِيحَ الدَّبُورِ فَلَفَحَتْ حَالَ الْبَحْرِ، فَأَذْهَبَتْهُ حَتَّى صَارَ يَابِسًا لَا يَعْلَقُ فِي سَنَابِكِ الْخُيُولِ وَالدَّوَابِّ.

ص: 109

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى - فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ - وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 77 - 79]

[طه: 77 - 79] . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا آلَ أَمْرُ الْبَحْرِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، بِإِذْنِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الشَّدِيدِ الْمِحَالِ، أُمِرَ مُوسَى، عليه السلام، أَنْ يَجُوزَهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَانْحَدَرُوا فِيهِ مُسْرِعِينَ، مُسْتَبْشِرِينَ، مُبَادِرِينَ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ مَا يُحَيِّرُ النَّاظِرِينَ، وَيَهْدِي قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا جَاوَزُوهُ، وَجَاوَزَهُ، وَخَرَجَ آخِرُهُمْ مِنْهُ، وَانْفَصَلُوا عَنْهُ، كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِ أَوَّلِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ إِلَيْهِ، وَوُفُودِهِمْ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ مُوسَى عليه السلام، أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ لِيَرْجِعَ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ; لِئَلَّا يَكُونَ لِفِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ وَصُولٌ إِلَيْهِ، وَلَا سَبِيلٌ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ الْقَدِيرُ ذُو الْجَلَالِ، أَنَّ يَتْرُكَ الْبَحْرَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، كَمَا قَالَ، وَهُوَ الصَّادِقُ فِي الْمَقَالِ.

{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ - أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ - وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ - وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ - فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ - فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ - وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ - كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - وَنِعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ - فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ - وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ - مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ - وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ - وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} [الدخان: 17 - 33]

[الدُّخَانِ: 17 - 33] .

ص: 110

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24] أَيْ; سَاكِنًا عَلَى هَيْئَتِهِ، لَا تُغَيِّرْهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ. فَلَمَّا تَرَكَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ وَحَالَتِهِ، وَانْتَهَى فِرْعَوْنُ، فَرَأَى مَا رَأَى، وَعَايَنَ مَا عَايَنَ، هَالَهُ هَذَا الْمَنْظَرُ الْعَظِيمُ وَتَحَقَّقَ مَا كَانَ يَتَحَقَّقُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، مِنْ أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ رَبِّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، فَأَحْجَمَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ، وَنَدِمَ فِي نَفْسِهِ عَلَى خُرُوجِهِ فِي طَلَبِهِمْ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ، لَكِنَّهُ أَظْهَرَ لِجُنُودِهِ تَجَلُّدًا، وَعَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْعِدَا، وَحَمَلَتْهُ النَّفْسُ الْكَافِرَةُ وَالسَّجِيَّةُ الْفَاجِرَةُ، عَلَى أَنْ قَالَ لِمَنِ اسْتَخَفَّهُمْ فَأَطَاعُوهُ، وَعَلَى بَاطِلِهِ تَابَعُوهُ: انْظُرُوا كَيْفَ انْحَسَرَ الْبَحْرُ لِي; لِأُدْرِكَ عَبِيدِي الْآبِقِينَ مِنْ يَدِي، الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِي وَبَلَدِي؟ وَجَعَلَ يُورِي فِي نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ خَلْفَهُمْ، وَيَرْجُو أَنْ يَنْجُوَ وَهَيْهَاتَ، وَيُقْدِمُ تَارَةً، وَيُحْجِمُ تَارَاتٍ. فَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام، تَبَدَّى فِي صُورَةِ فَارِسٍ، رَاكِبٍ عَلَى رَمَكَةِ حَائِلٍ، فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْ فَحْلِ فِرْعَوْنَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَحَمْحَمَ إِلَيْهَا، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، وَأَسْرَعَ جِبْرِيلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاقْتَحَمَ الْبَحْرَ، وَاسْتَبَقَ الْجَوَادَ، وَقَدْ أَجَادَ فَبَادَرَ مُسْرِعًا، هَذَا وَفِرْعَوْنُ لَا يَمْلِكُ

ص: 111

مِنْ نَفْسِهِ وَلَا لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْجُنُودُ قَدْ سَلَكَ الْبَحْرَ، اقْتَحَمُوا وَرَاءَهُ مُسْرِعِينَ، فَحَصَلُوا فِي الْبَحْرِ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْصَعِينَ، حَتَّى هَمَّ أَوَّلُهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَلِيمَهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَضَرَبَهُ، فَارْتَطَمَ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا كَانَ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِنْسَانٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ - ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 65 - 68] أَيْ فِي إِنْجَائِهِ أَوْلِيَاءَهُ فَلَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِغْرَاقِهِ أَعْدَاءَهُ، فَلَمْ يَخْلُصْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى الْعَظِيمَةِ، وَصِدْقِ رَسُولِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْمَنَاهِجِ الْمُسْتَقِيمَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ - آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ - فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 90 - 92]

[يُونُسَ: 90 - 92] . يُخْبِرُ تَعَالَى، عَنْ كَيْفِيَّةِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ، زَعِيمِ كَفَرَةِ الْقِبْطِ، وَأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَتِ الْأَمْوَاجُ تَخْفِضُهُ تَارَةً، وَتَرْفَعُهُ أُخْرَى، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَإِلَى جُنُودِهِ، مَاذَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ وَبِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ الْعَظِيمِ وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ، لِيَكُونَ أَقَرَّ لِأَعْيُنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَشْفَى لِنُفُوسِهِمْ، فَلَمَّا عَايَنَ فِرْعَوْنُ الْهَلَكَةَ وَأُحِيطَ بِهِ، وَبَاشَرَ سَكَرَاتِ

ص: 112

الْمَوْتِ، أَنَابَ حِينَئِذٍ وَتَابَ، وَآمَنَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا; كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ - وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]

[يُونُسَ: 96، 97] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ - فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85]

[غَافِرٍ: 84، 85] .

وَهَكَذَا دَعَا مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، أَنْ يُطْمَسَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُشْدَدَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] أَيْ; حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَهُمَا; أَيْ لِمُوسَى وَهَارُونَ، حِينَ دَعَوْا بِهَذَا:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] فَهَذَا مِنْ إِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَعْوَةَ كَلِيمِهِ وَأَخِيهِ هَارُونَ، عليهما السلام.

وَمِنْ ذَلِكَ، الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَدَسَسْتُهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ الرَّحْمَةُ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

ص: 113

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخِذٌ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فَمِ فِرْعَوْنَ; مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وَأَشَارَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رِوَايَةٍ إِلَى وَقْفِهِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] قَالَ: فَخَافَ جِبْرِيلُ أَنْ تَسْبِقَ رَحْمَةُ اللَّهِ فِيهِ غَضَبَهُ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ الْحَالَ بِجَنَاحَيْهِ، فَيَضْرِبُ بِهِ وَجْهَهُ فَيَرْمُسُهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ زَاذَانَ، وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، لَوْ رَأَيْتَنِي، وَأَنَا أُغَطُّهُ، وَأَدُسُّ مِنَ الْحَالِ فِي فِيهِ، مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ رَحْمَةُ; اللَّهِ فَيَغْفِرَ لَهُ» يَعْنِي

ص: 114

فِرْعَوْنَ. وَقَدْ أَرْسَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ; كَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَيُقَالُ إِنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ خَطَبَ بِهِ النَّاسَ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ:«إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: مَا بَغَضْتُ أَحَدًا بُغْضِي لِفِرْعَوْنَ، حِينَ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى. وَلَقَدْ جَعَلْتُ أَدُسُّ فِي فِيهِ الطِّينَ حِينَ قَالَ مَا قَالَ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَنَصٌّ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ تَعَالَى مِنْهُ; ذَلِكَ لِأَنَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَوْ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا كَمَا كَانَ، لَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ، إِذَا عَايَنُوا النَّارَ وَشَاهَدُوهَا، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ:{يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] . قَالَ اللَّهُ: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] . وَقَوْلُهُ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: شَكَّ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَمُوتُ. فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ، فَرَفَعَهُ عَلَى مُرْتَفَعٍ - قِيلَ: عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ. وَقِيلَ: عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ - وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا مِنْ مَلَابِسِهِ; لِيَتَحَقَّقُوا بِذَلِكَ هَلَاكَهُ، وَيَعْلَمُوا قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ; وَلِهَذَا قَالَ:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] أَيْ; مُصَاحِبًا دِرْعَكَ الْمَعْرُوفَةَ بِكَ لِتَكُونَ أَيْ; أَنْتَ آيَةً {لِمَنْ خَلْفَكَ} [يونس: 92] أَيْ; مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، دَلِيلًا عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ الَّذِي أَهْلَكَهُ. وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ:(لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً) . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: نُنَجِّيكَ مُصَاحِبًا دِرْعَكَ; لِيَكُونَ دِرْعُكَ عَلَامَةً لِمَنْ

ص: 115

وَرَاءَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى مَعْرِفَتِكَ، وَأَنَّكَ هَلَكْتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ هَلَاكُهُ وَجُنُودِهِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ.

كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا» وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 116