الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[غَزْوَةُ الرَّجِيعِ]
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَتْ فِي صَفَرٍ - يَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ - بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ لِيُخْبِرُوهُ. قَالَ: وَالرَّجِيعُ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ عُسْفَانَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، وَهُوَ جَدُّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ. فَتَبِعُوهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، حَتَّى أَتَوْا مَنْزِلًا نَزَلُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ نَوَى تَمْرٍ تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ. فَتَبِعُوا آثَارَهُمْ حَتَّى لَحِقُوهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَجَاءَ الْقَوْمُ فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَقَالُوا: لَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ إِنْ نَزَلْتُمْ
إِلَيْنَا ; أَلَّا نَقْتُلَ مِنْكُمْ رَجُلًا. فَقَالَ عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا رَسُولَكَ. فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ بِالنَّبْلِ، وَبَقِيَ خُبَيْبٌ، وَزَيْدٌ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، فَلَمَّا أَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، نَزَلُوا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ، حَلُّوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ بِهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ الَّذِي مَعَهُمَا: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ. فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَجَرُّوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ، وَزَيْدٍ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ فَاشْتَرَى خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ، اسْتَعَارَ مُوسًى مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ لِيَسْتَحِدَّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ. قَالَتْ: فَغَفَلْتُ عَنْ صَبِيٍّ لِي، فَدَرَجَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ ذَلِكَ مِنِّي، وَفِي يَدِهِ الْمُوسَى، فَقَالَ أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَتْ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قَطْفِ عِنَبٍ، وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ مِنْ ثَمَرِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقًا رَزَقَهُ اللَّهُ. فَخَرَجُوا بِهِ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ: دَعَونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَرَوْا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ لَزِدْتُ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ هُوَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا. ثُمَّ قَالَ:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
…
عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنَّ يَشَأْ
…
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
قَالَ: ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى عَاصِمٍ ; لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَبَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ»
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الَّذِي قَتَلَ خُبَيْبًا هُوَ أَبُو سِرْوَعَةَ. قُلْتُ: وَاسْمُهُ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَهُ حَدِيثٌ فِي الرَّضَاعِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَبَا سِرْوَعَةَ، وَعُقْبَةَ أَخَوَانِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
هَكَذَا سَاقَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ " صَحِيحِهِ " قِصَّةَ أَصْحَابِ
الرَّجِيعِ وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي التَّوْحِيدِ وَفِي الْجِهَادِ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عُمَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَالْمَشْهُورُ عَمْرٌو. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ» وَسَاقَ نَحْوَهُ. وَقَدْ خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَلْنَذْكُرْ كَلَامَ ابْنِ إِسْحَاقَ ; لِيُعَرَفَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ وَالِاخْتِلَافِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ إِمَامٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَغَيْرُ مُدَافَعٍ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: مَنْ أَرَادَ الْمَغَازِي فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رحمه الله: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أُحُدٍ رَهْطٌ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَةِ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فِينَا إِسْلَامًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِكَ يُفَقِّهُونَنَا فِي الدِّينِ، وَيُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ، وَيُعَلِّمُونَنَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ نَفَرًا سِتَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ حَلِيفُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ أَمِيرُ الْقَوْمِ - وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَخَبِيبُ بْنُ عَدِيٍّ أَخُو بَنِي جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ أَخُو بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَامِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ حَلِيفُ بَنِي ظَفَرٍ. رضي الله عنهم. هَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ كَانُوا سِتَّةً، وَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَسَمَّاهُمْ كَمَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا عَشَرَةً، وَعِنْدَهُ أَنَّ كَبِيرَهُمْ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجُوا مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا عَلَى الرَّجِيعِ - مَاءٍ لِهُذَيْلٍ بِنَاحِيَةِ الْحِجَازِ مِنْ صُدُورِ الْهَدْأَةِ - غَدَرُوا بِهِمْ، فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ هُذَيْلًا فَلَمْ يَرُعِ الْقَوْمَ - وَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ - إِلَّا الرِّجَالُ بِأَيْدِيهِمِ السُّيُوفُ قَدْ غَشُوهُمْ، فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ لِيُقَاتِلُوا الْقَوْمَ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ، وَلَكُنَّا نُرِيدُ أَنْ نُصِيبَ بِكُمْ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ لَا نَقْتُلَكُمْ. فَأَمَّا مَرْثَدٌ، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ مِنْ
مُشْرِكٍ عَهْدًا وَلَا عَقْدًا أَبَدًا. وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ:
مَا عِلَّتِي وَأَنَا جَلْدٌ نَابِلُ
…
وَالْقَوْسُ فِيهَا وَتَرٌ عُنَابِلُ
تَزِلُّ عَنْ صَفْحَتِهَا الْمَعَابِلُ
…
الْمَوْتُ حَقٌّ وَالْحَيَاةُ بَاطِلُ
وَكُلُّ مَا حَمَّ الْإِلَهُ نَازِلُ
…
بِالْمَرْءِ وَالْمَرْءُ إِلَيْهِ آيِلُ
إِنْ لَمْ أُقَاتِلْكُمْ فَأُمِّي هَابِلُ
وَقَالَ عَاصِمٌ أَيْضًا:
أَبُو سُلَيْمَانَ وَرِيشُ الْمُقْعَدِ
…
وَضَالَةٌ مِثْلُ الْجَحِيمِ الْمُوقَدِ
إِذَا النَّوَاحِي افْتُرِشَتْ لَمْ أُرْعَدِ
…
وَمُجْنَأٌ مِنْ جِلْدِ ثَوْرٍ أَجْرَدِ
وَمُؤْمِنٌ بِمَا عَلَى مُحَمَّدِ
وَقَالَ أَيْضًا:
أُبُو سُلَيْمَانَ وَمِثْلِي رَامَى
…
وَكَانَ قَوْمِي مَعْشَرًا كِرَامَا
قَالَ: ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَقُتِلَ صَاحِبَاهُ، فَلَمَّا قُتِلَ عَاصِمٌ أَرَادَتْ هُذَيْلٌ أَخْذَ رَأْسِهِ ; لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شُهَيْدٍ وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِينَ أَصَابَ ابْنَيْهَا يَوْمَ أُحُدٍ؛ لَئِنْ قَدَرَتْ عَلَى رَأْسِ عَاصِمٍ لَتَشْرَبَنَّ فِي قِحْفِهِ الْخَمْرَ، فَمَنَعَتْهُ الدَّبْرُ - هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ وَصُولِ خُبَيْبٍ، وَزَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ إِلَى مَكَّةَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنْسَبُ - قَالَ: فَلَمَّا حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قَالُوا: دَعُوهُ حَتَّى يُمْسِيَ فَتَذْهَبَ عَنْهُ فَنَأْخُذَهُ. فَبَعَثَ اللَّهُ الْوَادِيَ، فَاحْتَمَلَ عَاصِمًا فَذَهَبَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ عَاصِمٌ قَدْ أَعْطَى اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ، وَلَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا ; تَنَجُّسًا، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ الدَّبْرَ مَنَعَتْهُ: يَحْفَظُ اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ، كَانَ عَاصِمٌ نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ، وَلَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا فِي حَيَاتِهِ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا امْتَنَعَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا خُبَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ فَلَانُوا وَرَقُّوا وَرَغِبُوا فِي الْحَيَاةِ، وَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَأَسَرُوهُمْ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِمْ إِلَى مَكَّةَ لِيَبِيعُوهُمْ بِهَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالظَّهْرَانِ انْتَزَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ يَدَهُ مِنَ الْقِرَانِ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُ الْقَوْمُ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَبْرُهُ بِالظَّهْرَانِ وَأَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ فَقَدِمُوا بِهِمَا مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَاعُوهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ بِأَسِيرَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ كَانَا بِمَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَابْتَاعَ خُبَيْبًا، حُجَيْرُ بْنُ أَبِي إِهَابٍ التَّمِيمِيُّ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلٍ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ أَبُو إِهَابٍ أَخَا الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لِأُمِّهِ ; لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ. قَالَ: وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ فَابْتَاعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ; لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ، فَبَعَثَهُ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: نِسْطَاسٌ. إِلَى التَّنْعِيمِ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلَهُ، وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الْآنَ مَكَانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الْآنَ فِي
مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَإِنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي. قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا. قَالَ: ثُمَّ قَتَلَهُ نِسْطَاسٌ. قَالَ: وَأَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ، فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّهُ حُدِّثَ عَنْ مَاوِيَّةَ مَوْلَاةِ حُجَيْرِ بْنِ أَبِي إِهَابٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ، قَالَتْ: كَانَ خُبَيْبٌ عِنْدِي، حُبِسَ فِي بَيْتِي، فَلَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَقَطْفًا مِنْ عِنَبٍ مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَمَا أَعْلَمُ فِي أَرْضِ اللَّهِ عِنَبًا يُؤْكَلُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّهُمَا قَالَا: قَالَتْ: قَالَ لِي حِينَ حَضَرَهُ الْقَتْلُ: ابْعَثِي إِلَيَّ بِحَدِيدَةٍ أَتَطَهَّرُ بِهَا لِلْقَتْلِ. قَالَتْ: فَأَعْطَيْتُ غُلَامًا مِنَ الْحَيِّ الْمُوسَى، فَقُلْتُ لَهُ: ادْخُلْ بِهَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْبَيْتَ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ إِنْ هُوَ إِلَّا أَنْ وَلَّى الْغُلَامُ بِهَا إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَاذَا صَنَعْتُ؟ أَصَابَ وَاللَّهِ الرَّجُلُ ثَأْرَهُ بِقَتْلِ هَذَا الْغُلَامِ، فَيَكُونُ رَجُلًا بِرَجُلٍ. فَلَمَّا نَاوَلَهُ الْحَدِيدَةَ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَعَمْرُكَ مَا خَافَتْ أُمُّكَ غَدْرِي حِينَ بَعَثَتْكَ بِهَذِهِ الْحَدِيدَةِ إِلَيَّ. ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: أَنَّ الْغُلَامَ ابْنُهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ عَاصِمٌ: ثُمَّ خَرَجُوا بِخُبَيْبٍ حَتَّى جَاءُوا بِهِ إِلَى التَّنْعِيمِ لِيَصْلُبُوهُ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَدَعُونِي حَتَّى أَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَافْعَلُوا. قَالُوا: دُونَكَ فَارْكَعْ. فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ أَتَمَّهُمَا وَأَحْسَنَهُمَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا طَوَّلْتُ جَزَعًا مِنَ الْقَتْلِ، لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الصَّلَاةِ. قَالَ: فَكَانَ خُبَيْبٌ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: ثُمَّ رَفَعُوهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَلَمَّا أَوْثَقُوهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا قَدْ بَلَّغْنَا رِسَالَةَ رَسُولِكَ، فَبِلِّغْهُ الْغَدَاةَ مَا يُصْنَعُ بِنَا. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ احْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا، وَلَا تُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. ثُمَّ قَتَلُوهُ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ: حَضَرْتُهُ يَوْمَئِذٍ فِيمَنْ حَضَرَهُ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُلْقِينِي إِلَى الْأَرْضِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دُعِيَ عَلَيْهِ فَاضْطَجَعَ لِجَنْبِهِ، زَلَّتْ عَنْهُ.
فَائِدَةٌ: قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا صَارَتِ الرَّكْعَتَانِ سُنَّةً - يَعْنِي عِنْدَ الْقَتْلِ - لِأَنَّهَا فُعِلَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَقَرَّ عَلَيْهَا، وَاسْتُحْسِنَتْ مِنْ صَنِيعِهِ. قَالَ: وَقَدْ صَلَّاهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيِقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ
عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ بَغْلًا مِنَ الطَّائِفِ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ الْمُكْرِي أَنْ يُنْزِلَهُ حَيْثُ شَاءَ، فَمَالَ بِهِ إِلَى خَرِبَةٍ، فَإِذَا بِهَا قَتْلَى كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُ زَيْدٌ: دَعْنِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، لَطَالَمَا صَلَّى هَؤُلَاءِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ صَلَاتُهُمْ شَيْئًا. قَالَ: فَصَلَّيْتُ ثُمَّ جَاءَ لِيَقْتُلَنِي، فَقُلْتُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. فَإِذَا صَارِخٌ يَقُولُ: لَا تَقْتُلْهُ. فَهَابَ وَذَهَبَ يَنْظُرُ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ جَاءَ لِيَقْتُلَنِي فَقُلْتُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. فَسَمِعَ أَيْضًا الصَّوْتَ يَقُولُ: لَا تَقْتُلْهُ. فَذَهَبَ لِيَنْظُرَ ثُمَّ جَاءَ فَقُلْتُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. فَإِذَا أَنَا بِفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ، فِي يَدِهِ حَرْبَةٌ فِي رَأْسِهَا شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ، فَطَعَنَهُ بِهَا حَتَّى أَنْفَذَهُ فَوَقَعَ مَيِّتًا. ثُمَّ قَالَ: لَمَّا دَعَوْتَ اللَّهَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى كُنْتُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَلَمَّا دَعَوْتَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كُنْتُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَلَمَّا دَعَوْتَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَتَيْتُكَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ صَلَّاهَا حُجْرُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْأَدْبَرِ حِينَ حُمِلَ إِلَى مُعَاوِيَةَ مِنَ الْعِرَاقِ وَمَعَهُ كِتَابُ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَيْهِ وَأَرَادَ خَلْعَهُ، وَفِي الْكِتَابِ شَهَادَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: أَوَأَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ قَتْلِهِ، رحمه الله. قَالَ: وَقَدْ عَاتَبَتْ عَائِشَةُ مُعَاوِيَةَ فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: دَعِينِي وَحُجْرًا، فَإِنِّي سَأَلْقَاهُ عَلَى الْجَادَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَتْ: فَأَيْنَ ذَهَبَ عَنْكَ حِلْمُ أَبِي
سُفْيَانَ؟ قَالَ: حِينَ غَابَ عَنِّي مِثْلُكِ مِنْ قَوْمِي.
وَفِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: أَنَّ خُبَيْبًا، وَزَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ قُتِلَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُمِعَ يَوْمَ قُتِلَا وَهُوَ يَقُولُ:" وَعَلَيْكُمَا - أَوْ عَلَيْكَ - السَّلَامُ خُبَيْبٌ قَتَلَتْهُ قُرَيْشٌ ".
وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا صَلَبُوا زَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ رَمَوْهُ بِالنَّبْلِ لِيَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ، فَمَا زَادَهُ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. وَذَكَرَ عُرْوَةُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَفَعُوا خُبَيْبًا عَلَى الْخَشَبَةِ، نَادَوْهُ يُنَاشِدُونَهُ: أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا مَكَانَكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ الْعَظِيمِ، مَا أُحِبُّ أَنْ يَفْدِيَنِي بِشَوْكَةٍ يُشَاكَهَا فِي قَدَمِهِ. فَضَحِكُوا مِنْهُ. وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: زَعَمُوا أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ دَفَنَ خُبَيْبًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَنَا قَتَلْتُ خُبَيْبًا ; لِأَنِّي كُنْتُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَبَا مَيْسَرَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَخَذَ الْحَرْبَةَ
فَجَعَلَهَا فِي يَدِي، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي وَبِالْحَرْبَةِ، ثُمَّ طَعَنَهُ بِهَا حَتَّى قَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ الْجُمَحِيَّ عَلَى بَعْضِ الشَّامِ فَكَانَتْ تُصِيبُهُ غَشْيَةٌ وَهُوَ بَيْنُ ظَهْرَيِ الْقَوْمِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ مُصَابٌ. فَسَأَلَهُ عُمَرُ فِي قَدْمَةٍ قَدِمَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَعِيدُ، مَا هَذَا الَّذِي يُصِيبُكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا بِي مِنْ بَأْسٍ، وَلَكِنِّي كُنْتُ فِيمَنْ حَضَرَ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ حِينَ قُتِلَ وَسَمِعْتُ دَعْوَتَهُ، فَوَاللَّهِ مَا خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِي وَأَنَا فِي مَجْلِسٍ قَطُّ إِلَّا غُشِيَ عَلَيَّ. فَزَادَتْهُ عِنْدَ عُمَرَ خَيْرًا.
وَقَدْ قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ نَسِيجِ وَحْدِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَقَامَ خُبَيْبٌ فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى انْسَلَخَتِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ثُمَّ قَتَلُوهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، «عَنْ جَدِّهِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَعَثَهُ عَيْنًا وَحْدَهُ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى خَشَبَةِ خُبَيْبٍ فَرَقَيْتُ فِيهَا وَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْعُيُونَ، فَأَطْلَقْتُهُ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ اقْتَحَمْتُ فَانْتَبَذْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَّتُّ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَكَأَنَّمَا ابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ، فَلَمْ تُذْكَرْ لِخُبَيْبٍ رِمَّةٌ حَتَّى السَّاعَةِ» .
ثُمَّ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَصْحَابُ الرَّجِيعِ قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: يَا وَيْحَ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُونِينَ الَّذِينَ هَلَكُوا هَكَذَا، لَا هُمْ أَقَامُوا فِي أَهْلِيهِمْ وَلَا هُمْ أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ. فَأَنْزَلُ اللَّهُ فِيهِمْ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] وَمَا بَعْدَهَا. وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَوْلُ خُبَيْبٍ حِينَ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُهَا لَهُ -:
لَقَدْ جَمَّعَ الْأَحْزَابُ حَوْلِي وَأَلَّبُوا
…
قَبَائِلَهُمْ وَاسْتَجْمَعُوا كُلَّ مَجْمَعِ
وَكُلُّهُمْ مُبْدِي الْعَدَاوَةِ جَاهَدٌ
…
عَلَيَّ لِأَنِّي فِي وِثَاقٍ مُضَيَّعِ
وَقَدْ جَمَّعُوا أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ
…
وَقُرِّبْتُ مِنْ جِذْعٍ طَوِيلٍ مُمَنَّعِ
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو غُرْبَتِي ثُمَّ كُرْبَتِي
…
وَمَا أَرْصَدَ الْأَعْدَاءُ لِي عِنْدَ مَصْرَعِي
فَذَا الْعَرْشِ صَبِّرْنِي عَلَى مَا يُرَادُ بِي
…
فَقَدْ بَضَّعُوا لَحْمِي وَقَدْ يَأِسَ مَطْمَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
…
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
وَقَدْ خَيَّرُونِي الْكُفْرَ وَالْمَوْتُ دُونَهُ
…
وَقَدْ هَمَلَتْ عَيْنَايَ مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ
وَمَا بِي حِذَارُ الْمَوْتِ إِنِّي لِمَيِّتٌ
…
وَلَكِنْ حِذَارِي جَحْمُ نَارٍ مُلَفَّعِ
فَوَاللَّهِ مَا أَرْجُو إِذَا مُتُّ مُسْلِمًا
…
عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَضْجَعِي
فَلَسْتُ بِمُبْدٍ لِلْعَدُوِّ تَخَشُّعًا
…
وَلَا جَزَعًا إِنِّي إِلَى اللَّهِ مَرْجِعِي
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " بَيْتَانِ مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ، وَهُمَا قَوْلُهُ:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
…
عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
…
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي خُبَيْبًا فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ:
مَا بَالُ عَيْنِكَ لَا تَرْقَا مَدَامِعُهَا
…
سَحًّا عَلَى الصَّدْرِ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ الْقَلِقِ
عَلَى خُبَيْبٍ فَتَى الْفِتْيَانِ قَدْ عَلِمُوا
…
لَا فَشِلٍ حِينَ تَلْقَاهُ وَلَا نَزِقِ
فَاذْهَبْ خُبَيْبُ جَزَاكَ اللَّهُ طَيِّبَةً
…
وَجَنَّةَ الْخُلْدِ عِنْدَ الْحُورِ فِي الرُّفُقِ
مَاذَا تَقُولُونَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ
…
حِينَ الْمَلَائِكَةُ الْأَبْرَارُ فِي الْأُفُقِ
فِيمَ قَتَلْتُمْ شَهِيدَ اللَّهِ فِي رَجُلٍ
…
طَاغٍ قَدَ اوْعَثَ فِي الْبُلْدَانِ وَالرُّفَقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا بَعْضَهَا ; لِأَنَّهُ أَقْذَعَ فِيهَا.
وَقَالَ حَسَّانُ يَهْجُو الَّذِينَ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ:
إِنْ سَرَّكَ الْغَدْرُ صِرْفًا لَا مِزَاجَ لَهُ
…
فَأْتِ الرَّجِيعَ فَسَلْ عَنْ دَارِ لِحْيَانِ
قَوْمٌ تَوَاصَوْا بِأَكْلِ الْجَارِ بَيْنَهُمُ
…
فَالْكَلْبُ وَالْقِرْدُ وَالْإِنْسَانُ مِثْلَانِ
لَوْ يَنْطِقُ التَّيْسُ يَوْمًا قَامَ يَخْطُبُهُمْ
…
وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِيهِمْ وَذَا شَانِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا يَهْجُو هُذَيْلًا وَبَنِي لِحْيَانَ عَلَى غَدْرِهِمْ بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ:
لَعَمْرِي لَقَدْ شَانَتْ هُذَيْلَ بْنَ مُدْرِكٍ
…
أَحَادِيثُ كَانَتْ فِي خُبَيْبٍ، وَعَاصِمِ
أَحَادِيثُ لِحْيَانٍ صَلَوْا بِقَبِيحِهَا
…
وَلِحْيَانُ جَرَّامُونَ شَرَّ الْجَرَائِمِ
أُنَاسٌ هُمُ مِنْ قَوْمِهِمْ فِي صَمِيمِهِمْ
…
بِمَنْزِلَةِ الزَّمْعَانِ دُبْرَ الْقَوَادِمِ
هَمُ غَدَرُوا يَوْمَ الرَّجِيعِ وَأَسْلَمَتْ
…
أَمَانَتُهُمْ ذَا عِفَّةٍ وَمَكَارِمِ
رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ غَدْرًا وَلَمْ تَكُنْ
…
هُذَيْلٌ تَوَقَّى مُنْكِرَاتِ الْمَحَارِمِ
فَسَوْفَ يَرَوْنَ النَّصْرَ يَوْمًا عَلَيْهِمُ
…
بِقَتْلِ الَّذِي تَحْمِيهِ دُونَ الْحَرَائِمِ
أَبَابِيلُ دَبْرٍ شُمَّسٍ دُونَ لَحْمِهِ
…
حَمَتْ لَحْمَ شَهَّادٍ عِظَامَ الْمَلَاحِمِ
لَعَلَّ هُذَيْلًا أَنْ يَرَوْا بِمُصَابِهِ
…
مَصَارِعَ قَتْلَى أَوْ مَقَامًا لِمَأْتَمِ
وَنُوقِعُ فِيهَا وَقْعَةً ذَاتَ صَوْلَةٍ
…
يُوَافِي بِهَا الرُّكْبَانُ أَهْلَ الْمَوَاسِمِ
بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّ رَسُولَهُ
…
رَأَى رَأْيَ ذِي حَزْمٍ بِلِحْيَانَ عَالِمِ
قُبَيِّلَةٌ لَيْسَ الْوَفَاءُ يُهِمُّهُمْ
…
وَإِنْ ظُلِمُوا لَمْ يَدْفَعُوا كَفَّ ظَالِمِ
إِذَا النَّاسُ حَلُّوا بِالْفَضَاءِ رَأَيْتَهُمْ
…
بِمَجْرَى مَسِيلِ الْمَاءِ بَيْنَ الْمَخَارِمِ
مَحَلُّهُمُ دَارُ الْبَوَارِ وَرَأْيُهُمْ
…
إِذَا نَابَهُمْ أَمْرٌ كَرَأْيِ الْبَهَائِمِ
وَقَالَ حَسَّانُ رضي الله عنه، أَيْضًا يَمْدَحُ أَصْحَابَ الرَّجِيعِ وَيُسَمِّيهِمْ فِي شِعْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
صَلَّى الْإِلَهُ عَلَى الَّذِينَ تَتَابَعُوا
…
يَوْمَ الرَّجِيعِ فَأُكْرِمُوا وَأُثِيبُوا
رَأْسُ السَّرِيَّةِ مَرْثَدٌ وَأَمِيرُهُمْ
…
وَابْنُ الْبُكَيْرِ أَمَامَهُمْ وَخُبَيْبُ
وَابْنٌ لِطَارِقَ وَابْنُ دَثْنَةَ مِنْهُمُ
…
وَافَاهُ ثَمَّ حِمَامُهُ الْمَكْتُوبُ
وَالْعَاصِمُ الْمَقْتُولُ عِنْدَ رَجِيعِهِمْ
…
كَسَبَ الْمَعَالِيَ إِنَّهُ لَكَسُوبُ
مَنَعَ الْمَقَادَةَ أَنْ يَنَالُوا ظَهْرَهُ
…
حَتَّى يُجَالِدَ إِنَّهُ لَنَجِيبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لِحَسَّانَ.