الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالصِّدِّيقُ عَازِمٌ عَلَى جَمْعِ الْجُنُودِ ; لِيَبْعَثَهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْحَجِّ، وَذَلِكَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123] . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 29] . وَاقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; فَإِنَّهُ جَمَعَ الْمُسْلِمِينَ لِغَزْوِ الشَّامِ وَذَلِكَ عَامَ تَبُوكَ، حَتَّى وَصَلَهَا فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَجَهْدٍ، فَرَجَعَ عَامَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَ قِبَلَ مُؤْتَةَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ ; لِيَغْزُوَ تُخُومَ الشَّامِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا فَرَغَ الصِّدِّيقُ مِنْ أَمْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بَسَطَ يَمِينَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى الشَّامِ كَمَا بَعَثَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَشَرَعَ فِي جَمْعِ الْأُمَرَاءِ فِي أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى صَدَقَاتِ قُضَاعَةَ، مَعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ فِيهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْتَنْفِرُهُ إِلَى الشَّامِ: إِنِّي كُنْتُ قَدْ رَدَدْتُكَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي وَلَّاكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً، وَسَمَّاهُ لَكَ أُخْرَى، وَقَدْ أَحْبَبْتُ، أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَنْ أُفَرِّغَكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فِي حَيَاتِكَ وَمَعَادِكَ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ أَحَبَّ إِلَيْكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنِّي سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ فَعَبْدُ اللَّهِ الرَّامِي بِهَا، وَالْجَامِعُ لَهَا، فَانْظُرْ أَشَدَّهَا وَأَخْشَاهَا فَارْمِ بِي فِيهَا. وَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ 542
بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ، وَأَقْبَلَا - بَعْدَمَا اسْتَخْلَفَا فِي عَمَلِهِمَا - إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَدِمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مِنَ الْيَمَنِ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ دِيبَاجٍ، فَلَمَّا رَآهَا عُمَرُ عَلَيْهِ أَمَرَ مَنْ هُنَاكَ مِنَ النَّاسِ بِتَمْزِيقِهَا عَنْهُ، فَغَضِبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، أَغُلِبْتُمْ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَنِ الْإِمْرَةِ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَمُغَالَبَةً تَرَاهَا أَمْ خِلَافَةً؟ فَقَالَ: لَا يُغَالِبُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَوْلَى مِنْكُمْ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ، وَاللَّهِ لَا تَزَالُ كَاذِبًا تَخُوضُ فِيمَا قُلْتَ، ثُمَّ لَا تَضُرُّ إِلَّا نَفْسَكَ، وَأَبْلَغَهَا عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ، فَلَمْ يَتَأَثَّرْ لَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَلَمَّا اجْتَمَعَ عِنْدَ الصِّدِّيقِ مِنَ الْجُيُوشِ مَا أَرَادَ، قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ فَقَالَ: أَلَا لِكُلِّ أَمْرٍ جَوَامِعُ، فَمَنْ بَلَغَهَا فَهِيَ حَسْبُهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِلَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ، عَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالْقَصْدِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ أَبْلَغُ، أَلَا إِنَّهُ لَا دِينَ لِأَحَدٍ لَا إِيمَانَ لَهُ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا حِسْبَةَ لَهُ، وَلَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يُخَصَّ بِهِ، هِيَ التِّجَارَةُ الَّتِي دَلَّ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَنَجَّى بِهَا مِنَ الْخِزْيِ، وَأَلْحَقَ بِهَا الْكَرَامَةَ.
ثُمَّ شَرَعَ الصِّدِّيقُ فِي تَوْلِيَةِ الْأُمَرَاءِ، وَعَقْدِ الْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ، فَيُقَالُ: إِنْ أَوَّلَ لِوَاءٍ عَقَدَهُ لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَثَنَاهُ عَنْهُ وَذَكَّرَهُ بِمَا قَالَ، فَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ الصِّدِّيقُ كَمَا تَأَثَّرَ بِهِ عُمَرُ، بَلْ عَزَلَهُ عَنِ الشَّامِ وَوَلَّاهُ أَرْضَ
تَيْمَاءَ يَكُونُ بِهَا فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرُهُ. ثُمَّ عَقَدَ لِوَاءَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَمَعَهُ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَمَعَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَأَشْبَاهُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ مَاشِيًا يُوصِيهِ بِمَا اعْتَمَدَهُ فِي حَرْبِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ لَهُ دِمَشْقَ. وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ عَلَى جُنْدٍ آخَرَ، وَخَرَجَ مَعَهُ مَاشِيًا يُوصِيهِ، وَجَعَلَ لَهُ نِيَابَةَ حِمْصَ. وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَمَعَهُ جُنْدٌ آخَرُ، وَجَعَلَهُ عَلَى فِلَسْطِينَ. وَأَمَرَ كُلَّ أَمِيرٍ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ الْآخَرِ ; لِمَا لَحَظَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ اقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِنَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ حِينَ قَالَ لِبَنِيهِ:{يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67] . فَكَانَ سُلُوكُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى تَبُوكَ. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ شُيُوخِهِ، قَالُوا: وَكَانَ بَعْثُ أَبِي بَكْرٍ هَذِهِ الْجُيُوشَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَاشِيًا وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَاكِبًا، فَجَعَلَ يُوصِيهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَأَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ. ثُمَّ انْصَرَفَ وَمَضَى يَزِيدُ فَأَخَذَ التَّبُوكِيَّةَ، ثُمَّ تَبِعَهُ شُرَحْبِيلُ ابْنُ حَسَنَةَ، ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ مَدَدًا لَهُمَا، فَسَلَكُوا ذَلِكَ الطَّرِيقَ، وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى نَزَلَ الْعَرَبَاتِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَيُقَالُ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ نَزَلَ الْبَلْقَاءَ أَوَّلًا، وَنَزَلَ شُرَحْبِيلُ بِالْأُرْدُنِّ، وَيُقَالُ: بِبُصْرَى. وَنَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالْجَابِيَةِ، وَجَعَلَ
الصِّدِّيقُ يُمِدُّهُمْ بِالْجُيُوشِ، وَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْضَافَ إِلَى مَنْ أَحَبَّ مِنَ الْأُمَرَاءِ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا مَرَّ بِمَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ قَاتَلَهُمْ حَتَّى صَالَحُوهُ، وَكَانَ أَوَّلَ صُلْحٍ وَقَعَ بِالشَّامِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ حَرْبٍ وَقَعَ بِالشَّامِ أَنَّ الرُّومَ اجْتَمَعُوا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْعَرَبَةُ. مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ أَبَا أُمَامَةَ فِي سَرِيَّةٍ فَقَتَلَهُمْ وَغَنِمَ مِنْهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ بِطْرِيقًا عَظِيمًا. ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَ هَذِهِ وَقْعَةُ مَرْجِ الصُّفَّرِ، اسْتُشْهِدَ فِيهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي اسْتُشْهِدَ فِي مَرْجِ الصُّفَّرِ ابْنٌ لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ. وَأَمَّا هُوَ فَفَرَّ حَتَّى انْحَازَ إِلَى أَرْضِ الْحِجَازِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَمَّا انْتَهَى خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ إِلَى تَيْمَاءَ اجْتَمَعَ لَهُ جُنُودٌ مِنَ الرُّومِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ ; مِنْ بَهْرَاءَ، وَتَنُوخَ، وَبَنِي كَلْبٍ، وَسَلِيحٍ، وَلَخْمٍ، وَجُذَامَ، وَغَسَّانَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُمْ تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ إِلَى الصِّدِّيقِ يُعَلِمُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْفَتْحِ، فَأَمَرَهُ الصِّدِّيقُ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَلَا يُحْجِمَ، وَأَمَدَّهُ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَجَمَاعَةٍ، فَسَارَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ آبِلَ، فَالْتَقَى هُوَ وَأَمِيرٌ مَنِ الرُّومِ