الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ إِلَّا أَهْلُ طَاعَةٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، أَوْ أَهْلُ ذِمَّةٍ مِنَ الصِّدِّيقِ، كَأَهْلِ نَجْرَانَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَعَامَّةُ مَا وَقَعَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوبِ كَانَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَوَائِلِ سَنَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، وَلْنَذْكُرْ بَعْدَ إِيرَادِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ. وَفِيهَا رَجَعَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِنَ الْيَمَنِ، وَفِيهَا اسْتَقْضَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رضي الله عنهما.
[مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ]
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ، وَذَكَرْنَا مَعَهُمْ مَنْ قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ أَنَّهَا فِي رَبِيعٍ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ.
تُوُفِّيَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعِهَا الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشْرِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ وَبَعْدَهُ بِسِتَّةِ أَشْهَرٍ - عَلَى الْأَشْهَرِ - تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ، رضي الله عنها، وَتُكَنَّى بِأُمِّ أَبِيهَا، وَقَدْ كَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَهِدَ إِلَيْهَا أَنَّهَا أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ، وَقَالَ لَهَا مَعَ ذَلِكَ:«أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟» . وَكَانَتْ أَصْغَرَ بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ سِوَاهَا،
فَلِهَذَا عَظُمَ أَجْرُهَا ; لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِهِ، عليه الصلاة والسلام، وَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ تَوْأَمًا لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَيْسَ لَهُ، عليه الصلاة والسلام، نَسْلٌ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا، قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ. وَقَدْ وَرَدَ. أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام، لَيْلَةَ زِفَافِ عَلِيٍّ عَلَى فَاطِمَةَ تَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيْهِ وَعَلَى فَاطِمَةَ، وَدَعَا لَهُمَا أَنْ يُبَارَكَ فِي نَسْلِهِمَا. وَقَدْ تَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: بَعْدَ أُحُدٍ. وَقِيلَ: بَعْدَ تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ. وَبَنَى بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، أَصْدَقَهَا دِرْعَهُ الْحُطَمْيَةَ، وَقِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ عُمُرُهَا إِذْ ذَاكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ أَسَنَّ مِنْهَا بِسِتِّ سِنِينَ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ فِي تَزْوِيجِ عَلِيٍّ بِفَاطِمَةَ، لَمْ نَذْكُرْهَا ; رَغْبَةً عَنْهَا فَوَلَدَتْ لَهُ حَسَنًا وَحُسَيْنًا وَمُحَسِّنًا، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، الَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادٌ، أَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا زَوَّجَهُ فَاطِمَةَ بَعَثَ مَعَهَا بِخَمِيلَةٍ،
وَوِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَرَحَيَيْنِ وَسِقَاءٍ وَجَرَّتَيْنِ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِفَاطِمَةَ ذَاتَ يَوْمٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى لَقَدِ اشْتَكَيْتُ صَدْرِي، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ أَبَاكِ بِسَبْيٍ فَاذْهَبِي فَاسْتَخْدِمِيهِ. فَقَالَتْ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ. فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " مَا جَاءَ بِكِ أَيْ بُنَيَّةِ؟ " قَالَتْ: جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ. وَاسْتَحْيَتْ أَنْ تَسْأَلَهُ، وَرَجَعَتْ. فَقَالَ: مَا فَعَلْتِ؟ قَالَتِ: اسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ. فَأَتَيَاهُ جَمِيعًا، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى اشْتَكَيْتُ صَدْرِي. وَقَالَتْ فَاطِمَةُ: لَقَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ، وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِسَبْيٍ وَسَعَةٍ فَأَخْدِمْنَا. فَقَالَ:" وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تُطْوَى بُطُونُهُمْ، لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ ". فَرَجَعَا فَأَتَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ دَخَلَا فِي قَطِيفَتِهِمَا، إِذَا غَطَّتْ رُءُوسَهُمَا تَكَشَّفَتْ أَقْدَامُهُمَا، وَإِذَا غَطَّيَا أَقْدَامَهُمَا تَكَشَّفَتْ رُءُوسُهُمَا، فَثَارَا، فَقَالَ:" مَكَانَكُمَا ". ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمَا بِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟ " قَالَا: بَلَى. قَالَ: " كَلِمَاتٌ عَلَّمَنِيهِنَّ جِبْرِيلُ ; تُسَبِّحَانِ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدَانِ عَشْرًا، وَتُكَبِّرَانِ عَشْرًا، وَإِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ» . قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَرَكَتْهُنَّ مُنْذُ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ فَقَالَ: قَاتَلَكُمُ اللَّهُ يَا أَهْلَ
الْعِرَاقِ، نَعَمْ، وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ. وَآخِرُ هَذَا الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. فَقَدْ كَانَتْ فَاطِمَةُ صَابِرَةً مَعَ عَلِيٍّ عَلَى جَهْدِ الْعَيْشِ وَضِيقِهِ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي وَقْتٍ بِدُرَّةَ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ، فَأَنِفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ، وَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ:«إِنِّي لَا أُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا، وَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا، وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تُفْتَنَ عَنْ دِينِهَا، وَلَكِنْ إِنْ أَحَبَّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَيَتَزَوَّجَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ نَبِيِّ اللَّهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ تَحْتَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَبَدًا» . قَالَ: فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ. وَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَتْ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الْمِيرَاثَ، فَأَخْبَرَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ» . فَسَأَلَتْ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا نَاظِرًا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ، فَأَبَى ذَلِكَ وَقَالَ: إِنِّي أَعُولُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُولُ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ أَنَّ أَضِلَّ، وَوَاللَّهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي. فَكَأَنَّهَا وَجَدَتْ فِي نَفْسِهَا مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ تَزَلْ مُغْضَبَةً مُدَّةَ حَيَّاتِهَا، فَلَمَّا مَرِضَتْ جَاءَهَا الصِّدِّيقُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَجَعَلَ يَتَرَضَّاهَا، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا تَرَكَتُ الدَّارَ وَالْمَالَ وَالْأَهْلَ وَالْعَشِيرَةَ، إِلَّا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ
وَمَرْضَاتِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ. فَرَضِيَتْ، رضي الله عنهما. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَلَمَّا حَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ أَوْصَتْ إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمِيسٍ امْرَأَةِ الصِّدِّيقِ أَنْ تُغَسِّلَهَا، فَغَسَّلَتْهَا هِيَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَلْمَى أَمُّ رَافِعٍ، قِيلَ: وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهَا اغْتَسَلَتْ قَبْلَ وَفَاتِهَا، وَأَوْصَتْ أَنْ لَا تُغَسَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَضَعِيفٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ، وَقِيلَ: عَمُّهَا الْعَبَّاسُ. وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَدُفِنَتْ لَيْلًا، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ، عليه الصلاة والسلام، بِشَهْرَيْنِ. وَقِيلَ: بِسَبْعِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: بِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ.
وَالصَّحِيحُ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنْ فَاطِمَةَ عَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَدُفِنَتْ لَيْلًا. وَيُقَالُ: إِنَّهَا لَمْ تَضْحَكْ فِي مُدَّةِ بَقَائِهَا بَعْدَهُ، عليه الصلاة والسلام، وَإِنَّهَا كَادَتْ تَذُوبُ
مِنْ حُزْنِهَا عَلَيْهِ، وَشَوْقِهَا إِلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ سِنِّهَا يَوْمَئِذٍ، فَقِيلَ: سَبْعٌ. وَقِيلَ: ثَمَانٍ. وَقِيلَ: تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَهَذَا بَعِيدٌ، وَمَا قَبْلَهُ أَقْرَبُ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ سُتِرَ سَرِيرُهَا.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ عَلِيًّا كَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّاسِ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا مَاتَتِ الْتَمَسَ مُبَايَعَةَ الصِّدِّيقِ فَبَايَعَهُ. كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ فِي " الْبُخَارِيِّ ". وَهَذِهِ الْبَيْعَةُ لِإِزَالَةِ مَا كَانَ وَقَعَ مِنْ وَحْشَةٍ حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْمِيرَاثِ، وَلَا يَنْفِي مَا ثَبَتَ مِنَ الْبَيْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهَا كَمَا قَرَّرْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمُّ أَيْمَنَ، بَرَكَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُصَيْنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ النُّعْمَانِ، مَوَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ، وَقِيلَ: مِنْ أُمِّهِ. وَحَضَنَتْهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ شَرِبَتْ بُولَهُ، فَقَالَ لَهَا:«لَقَدِ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ مِنَ النَّارِ» . وَقَدْ أَعْتَقَهَا وَزَوَّجَهَا عُبَيْدًا، فَوَلَدَتْ مِنْهُ ابْنَهَا أَيْمَنَ فَعُرِفَتْ بِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَلَدَتْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَقَدْ هَاجَرَتِ الْهِجْرَتَيْنِ ; إِلَى الْحَبَشَةِ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يَزُورُهَا فِي بَيْتِهَا وَيَقُولُ:«هِيَ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي» . وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَزُورَانِهَا فِي بَيْتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ الْمَوَالِي، وَقَدْ تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ، عليه الصلاة والسلام، بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَمِنْهُمْ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْعَجْلَانِ الْبَلَوِيُّ، حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ مِمَّنْ حَضَرَ مُؤْتَةَ فَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ دُفِعَتِ الرَّايَةُ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَهَا لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِالْقِتَالِ مِنِّي. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّ قَتَلَهُ وَقَتَلَ مَعَهُ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ طُلَيْحَةُ:
عَشِيَّةَ غَادَرْتُ ابْنَ أَقْرَمَ ثَاوِيًا
…
وَعُكَّاشَةَ الْغَنْمِيَّ تَحْتَ مَجَالِ
وَذَلِكَ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ. وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قُتِلَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهُمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ خَطِيبُ
الْأَنْصَارِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: خَطِيبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ، عليه الصلاة والسلام، أَنَّهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ وَأَنَّهُ بَشَّرَهُ بِالشَّهَادَةِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ - فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا، وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:«نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ» .
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَلَّى الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: قَدَمْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ عَمَّنْ يُحَدِّثُنِي بِحَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، فَأَرْشَدُونِي إِلَى ابْنَتِهِ، فَسَأَلْتُهَا، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَمَّا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] . اشْتَدَّتْ عَلَى ثَابِتٍ وَغَلَّقَ عَلَيْهِ بَابَهُ، وَطَفِقَ يَبْكِي، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَبُرَ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ أُحِبُّ الْجَمَالَ، وَأَنَا أَسَوَدُ قَوْمِي. فَقَالَ:«إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ، بَلْ تَعِيشُ بِخَيْرٍ وَتَمُوتُ بِخَيْرٍ، وَيُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ» . فَلَمَّا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات: 2] . فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَبُرَ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَأَنَّهُ جَهِيرُ الصَّوْتِ، وَأَنَّهُ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ حَبِطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ:«إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ؛ بَلْ تَعِيشُ حَمِيدًا، وَتُقْتَلُ شَهِيدًا، وَيُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ» . فَلَمَّا اسْتَنْفَرَ أَبُو بَكْرٍ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْيَمَامَةِ وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، سَارَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِيمَنْ سَارَ، فَلَمَّا لَقُوا مُسَيْلِمَةَ وَبَنِي حَنِيفَةَ هَزَمُوا الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ ثَابِتٌ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: مَا هَكَذَا كُنَّا نُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَجَعَلَا لِأَنْفُسِهِمَا حُفْرَةً فَدَخَلَا فِيهَا، فَقَاتَلَا حَتَّى قُتِلَا. قَالَتْ: وَأُرِيَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فِي مَنَامِهِ، فَقَالَ: إِنِّي لَمَّا قُتِلْتُ بِالْأَمْسِ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَانْتَزَعَ مِنِّي دِرْعًا نَفِيسَةً، وَمَنْزِلُهُ فِي أَقْصَى الْعَسْكَرِ، وَعِنْدَ مَنْزِلِهِ فَرَسٌ يَسْتَنُّ فِي طُولِهِ، وَقَدْ أَكْفَأَ عَلَى الدِّرْعِ بُرْمَةً، وَجَعَلَ فَوْقَ الْبُرْمَةِ رَحْلًا، وَائْتِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ،، فَلْيَبْعَثْ إِلَى دِرْعِي فَلْيَأْخُذْهَا، فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْلِمْهُ أَنَّ عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ كَذَا، وَلِي مِنَ الْمَالِ كَذَا، وَفُلَانٌ مِنْ رَقِيقِي عَتِيقٌ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ: هَذَا حُلْمٌ، فَتُضَيِّعَهُ. قَالَ: فَأَتَى خَالِدًا فَوَجَّهَ إِلَى الدِّرْعِ فَوَجَدَهَا كَمَا ذَكَرَ، وَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَخْبَرَهُ فَأَنَفَذَ أَبُو بَكْرٍ وَصِيَّتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا جَازَتْ وَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَّا ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذِهِ الْقِصَّةِ
شَوَاهِدُ أُخَرُ، وَالْحَدِيثُ الْمُتَعَلِّقُ بِقَوْلِهِ:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَنَسٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ جَاءَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَقَدْ تَحَنَّطَ وَنَشَرَ أَكْفَانَهُ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ، وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ. فَقُتِلَ، وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ فَسُرِقَتْ، فَرَآهُ رَجُلٌ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقَالَ: إِنَّ دِرْعِي فِي قِدْرٍ تَحْتَ الْكَانُونِ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. وَأَوْصَاهُ بِوَصَايَا، فَطَلَبُوا الدِّرْعَ فَوَجَدُوهَا وَأَنْفَذُوا الْوَصَايَا. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا.
وَمِنْهُمْ حَزْنُ بْنُ أَبِي وَهْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ الْمَخْزُومِيُّ، لَهُ هِجْرَةٌ، وَيُقَالُ: أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ. وَهُوَ جَدُّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَمِّيَهُ سَهْلًا فَامْتَنَعَ وَقَالَ: لَا أُغَيِّرُ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبَوَايَ. قَالَ سَعِيدٌ: فَلَمْ تَزَلِ الْحُزُونَةُ فِينَا. اسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَقُتِلَ مَعَهُ أَيْضًا ابْنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَوَهْبٌ، وَابْنُ ابْنِهِ حَكِيمُ بْنُ وَهْبِ بْنِ حَزْنٍ.
وَمِمَّنِ اسْتُشْهِدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَاذَوَيْهِ الْفَارِسِيُّ، أَحَدُ أُمَرَاءِ الْيَمَنِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ، قَتَلَهُ غِيلَةً قَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ حِينَ ارْتَدَّ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ قَيْسٌ
إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا عَنَّفَهُ الصِّدِّيقُ عَلَى قَتْلِهِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَقَبِلَ عَلَانِيَتَهُ وَإِسْلَامَهُ.
وَمِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلٍ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَخُو عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِأَبِيهِ، وَكَانَ زَيْدٌ أَكْبَرُ مِنْ عُمَرَ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَقَدْ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْنِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ قُتِلَا جَمِيعًا بِالْيَمَامَةِ، وَقَدْ كَانَتْ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَئِذٍ بِيَدِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَقَدَّمُ بِهَا حَتَّى قُتِلَ فَسَقَطَتْ، فَأَخَذَهَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَقَدْ قَتَلَ زَيْدٌ يَوْمَئِذٍ الرَّجَّالَ بْنَ عُنْفُوَةَ، وَاسْمُهُ نَهَارٌ، وَكَانَ الرَّجَّالُ هَذَا قَدْ أَسْلَمَ وَقَرَأَ " الْبَقَرَةَ " ثُمَّ ارْتَدَّ وَرَجَعَ فَصَدَّقَ مُسَيْلِمَةَ، وَشَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، فَحَصَلَ بِهِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، فَكَانَتْ وَفَاتُهُ عَلَى يَدِ زَيْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْ زَيْدٍ، ثُمَّ قَتَلَ زَيْدًا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو مَرْيَمَ الْحَنَفِيُّ. وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ زَيْدًا بِيَدِي وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى يَدِهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ سَلَمَةُ بْنُ صُبَيْحٍ، ابْنُ عَمِّ أَبِي مَرْيَمَ هَذَا. وَرَجَّحَهُ أَبُو عُمَرَ، وَقَالَ: لِأَنَّ عُمَرَ اسْتَقْضَى أَبَا مَرْيَمَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ سَبَقَنِي إِلَى الْحُسْنَيَيْنِ ; أَسْلَمَ قَبْلِي، وَاسْتُشْهِدَ قَبْلِي. وَقَالَ لِمُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ حِينَ جَعَلَ يَرْثِي أَخَاهُ مَالِكًا بِتِلْكَ الْأَبْيَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا: لَوْ كُنْتُ أُحْسِنُ الشِّعْرَ لَقُلْتُ كَمَا قُلْتَ. فَقَالَ لَهُ مُتَمِّمٌ: لَوْ أَنَّ أَخِي ذَهَبَ عَلَى مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ أَخُوكَ مَا حَزِنْتُ
عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا عَزَّانِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا عَزَّيْتَنِي بِهِ. وَمَعَ هَذَا كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا هَبَّتِ الصَّبَا إِلَّا ذَكَّرَتْنِي زَيْدَ بْنَ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَسْمَاءُ، تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.
وَمِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عُبَيْدٍ وَيُقَالُ: ابْنُ مَعْقِلٍ. مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ مُعْتَقًا لِزَوْجَتِهِ ثُبَيْتَةَ بِنْتِ يَعَارٍ، وَقَدْ تَبَنَّاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ وَزَوَّجَهُ بِابْنَةِ أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] . جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فَضْلٌ. فَأَمَرَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ فَأَرْضَعَتْهُ، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ. وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، أَسَلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ يُصَلِّي بِمَنْ بِهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ; لِكَثْرَةِ حَفِظِهِ الْقُرْآنَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ» . فَذَكَرَ مِنْهُمْ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا احْتُضِرَ: لَوْ كَانَ سَالِمٌ حَيًّا لَمَا جَعَلْتُهَا شُورَى. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ فِيمَنْ يُوَلِّيهِ الْخِلَافَةَ.
وَلَمَّا أَخَذَ الرَّايَةَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ الْمُهَاجِرُونَ: أَتَخْشَى أَنْ نُؤْتَى مِنْ قِبَلِكَ؟ فَقَالَ: بِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِذًا. انْقَطَعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى فَأَخَذَهَا بِيَسَارِهِ، فَقُطِعَتْ فَاحْتَضَنَهَا وَهُوَ يَقُولُ:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]، {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] . فَلَمَّا صُرِعَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا فَعَلَ أَبُو حُذَيْفَةَ؟ قَالُوا: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ قَالُوا: قُتِلَ. قَالَ: فَأَضْجِعُونِي بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ بَعَثَ عُمَرُ بِمِيرَاثِهِ إِلَى مَوْلَاتِهِ الَّتِي أَعْتَقَتْهُ ; ثُبَيْتَةَ، فَرَدَّتْهُ وَقَالَتْ: إِنَّمَا أَعْتَقْتُهُ سَائِبَةً. فَجَعَلَهُ عُمَرُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَمِنْهُمْ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ - وَيُقَالُ: سِمَاكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ خَرَشَةَ - بْنِ لَوْذَانَ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَأَبْلَى يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ سَيْفًا فَأَعْطَاهُ حَقَّهُ، وَكَانَ يَتَبَخْتَرُ عِنْدَ الْحَرْبِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«إِنَّ هَذِهِ لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ» . وَكَانَ يَعْصِبُ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ؛ شِعَارًا لَهُ بِالشَّجَاعَةِ، وَشَهِدَ الْيَمَامَةَ وَيُقَالُ: إِنَّهُ مِمَّنِ اقْتَحَمَ عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ يَوْمَئِذٍ الْحَدِيقَةَ، فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ،
فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَئِذٍ.
وَقَدْ قَتَلَ مُسَيْلِمَةَ مَعَ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ ; رَمَاهُ وَحْشِيٌّ بِالْحَرْبَةِ، وَعَلَاهُ أَبُو دُجَانَةَ بِالسَّيْفِ. قَالَ وَحْشِيٌّ: فَرَبُّكَ أَعْلَمُ أَيُّنَا قَتَلَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ عَاشَ حَتَّى شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلَيٍّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ ذَكْرِ الْحِرْزِ الْمَنْسُوبِ إِلَى أَبِي دُجَانَةَ، فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهُمْ شُجَاعُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ الْأَسَدِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ الْغَسَّانِيِّ، فَلَمْ يُسْلِمْ، وَأَسْلَمَ حَاجِبُهُ مُرِّيٌّ. وَاسْتُشْهِدَ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ يَوْمَ الْيَمَامَةِ عَنْ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ رَجُلًا طِوَالًا نَحِيفًا أَجْنَأَ.
وَمِنْهُمُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ طَرِيفِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دَوْسٍ الدَّوْسِيُّ أَسْلَمَ قَدِيمًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَذَهَبَ إِلَى قَوْمِهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَهَدَاهُمُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ جَاءَهُ بِتِسْعِينَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ دَوْسٍ مُسْلِمِينَ، وَقَدْ خَرَجَ عَامَ الْيَمَامَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عَمْرٌو، فَرَأَى الطُّفَيْلُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسَهُ قَدْ حُلِقَ، وَكَأَنَّ امْرَأَةً أَدْخَلَتْهُ فِي فَرْجِهَا، وَكَأَنَّ ابْنَهُ يَجْتَهِدُ أَنْ يَلْحَقَهُ فَلَمْ يَصِلْ. فَأَوَّلَهَا بِأَنَّهُ سَيُقْتَلُ
وَيُدْفَنُ، وَأَنَّ ابْنَهُ يَحْرِصُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يَنَالُهَا عَامَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا أَوَّلَهَا، ثُمَّ قُتِلَ ابْنُهُ شَهِيدًا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ. كَمَا سَيَأْتِي.
وَمِنْهُمْ عَبَّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، قَبْلَ إِسْلَامِ مُعَاذٍ وَأُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ مِمَّنْ قَتَلَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، وَكَانَتْ عَصَاهُ تُضِيءُ لَهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ظُلْمَةٍ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا عَنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ لَهُ بَلَاءٌ وَغَنَاءٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَهَجَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ فَقَالَ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ» .
وَمِنْهُمُ السَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، بَدْرِيٌّ، مِنَ الرُّمَاةِ، أَصَابَهُ يَوْمَ الْيَمَامَةِ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ وَهُوَ شَابٌّ، رحمه الله.
وَمِنْهُمُ السَّائِبُ بْنُ الْعَوَّامِ، أَخُو الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ، رحمه الله.
وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ، ثُمَّ اسْتُضْعِفَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ خَرَجَ
مَعَهُمْ، فَلَمَّا تَوَجَّهُوا فَرَّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَشَهِدَهَا مَعَهُمْ، وَمَا بَعْدَهَا، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَلَمَّا حَجَّ أَبُو بَكْرٍ عَزَّى أَبَاهُ فِيهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الشَّهِيدَ يَشْفَعُ لِسَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ» . فَأَرْجُو أَنْ يَبْدَأَ بِي.
وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، كَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ أَبُوهُ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى أَبِيهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ لَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَكَانَ اسْمُهُ الْحُبَابُ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ، وَقَدِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، رضي الله عنه.
وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْأَخْبَارِ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى أَبِيهِ أَبِي بَكْرٍ وَهُمَا بِغَارِ ثَوْرٍ، وَيَبِيتُ عِنْدَهُمَا وَيُصْبِحُ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ بِأَمْرٍ يُكَادَانِ بِهِ إِلَّا أَخْبَرَهُمَا بِهِ.
وَقَدْ شَهِدَ الطَّائِفَ فَرَمَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ. بِسَهْمٍ فَدُوِّيَ مِنْهَا فَانْدَمَلَتْ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ مِنْهَا ضَمِنًا حَتَّى مَاتَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ.
وَمِنْهُمْ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ غَنْمِ
بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ الْأَسَدِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، يُكَنَّى أَبَا مِحْصَنٍ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ، هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا، وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ بَلَاءً حَسَنًا، وَانْكَسَرَ سَيْفُهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ عُرْجُونًا، فَعَادَ فِي يَدِهِ سَيْفًا أَبْيَضَ الْحَدِيدِ شَدِيدَ الْمَتْنِ. وَكَانَ ذَلِكَ السَّيْفُ يُسَمَّى الْعَوْنَ. وَشَهِدَ أُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَمَا بَعْدَهَا.
«وَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، قَالَ عُكَّاشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ". ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: " سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» . وَالْحَدِيثُ مَرْوِّيٌّ مِنْ طُرُقٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ.
وَقَدْ خَرَجَ عُكَّاشَةُ مَعَ خَالِدٍ يَوْمَ أَمَّرَهُ الصِّدِّيقُ بِذِي الْقَصَّةِ، فَبَعَثَهُ وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَلِيعَةً، فَتَلَقَّاهُمَا طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ وَأَخُوهُ سَلَمَةُ فَقَتَلَاهُمَا، وَقَدْ قَتَلَ عُكَّاشَةُ قَبْلَ مَقْتَلِهِ حِبَالَ بْنَ طُلَيْحَةَ، ثُمَّ أَسْلَمَ طُلَيْحَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ عُمُرُ عُكَّاشَةَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ، رضي الله عنه.
وَمِنْهُمْ مَعْنُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْجَدِّ بْنِ عَجْلَانَ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْبَلَوِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ أَخُو عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ
وَسَائِرَ الْمَشَاهِدِ، وَكَانَ قَدْ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقُتِلَا جَمِيعًا يَوْمَ الْيَمَامَةِ، رضي الله عنهما.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَكَى النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ مَاتَ وَقَالُوا: وَاللَّهِ وَدِدْنَا أَنَّا مِتْنَا قَبْلَهُ، وَنَخْشَى أَنْ نُفْتَتَنَ بَعْدَهُ. فَقَالَ مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ: لَكِنِّي وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَمُوتَ قَبْلَهُ ; لِأُصَدِّقَهُ مَيِّتًا كَمَا صَدَّقْتُهُ حَيًّا.
وَمِنْهُمُ الْوَلِيدُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ ابْنَا عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قُتِلَا مَعَ عَمِّهِمَا خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِالْبُطَاحِ، وَأَبُوهُمَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ صَاحِبُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ.
وَمِنْهُمْ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْقُرَشِيُّ الْعَبْشَمِيُّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا قَبْلَ دَارِ الْأَرْقَمِ، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، وَقَدْ قُتِلَا شَهِيدِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ. وَكَانَ عُمُرُ أَبِي حُذَيْفَةَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ طَوِيلًا، حَسَنَ الْوَجْهِ، أَحْوَلَ أَثْعَلَ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ، وَكَانَ اسْمُهُ هُشَيْمًا، وَقِيلَ: مُهَشِّمٌ. وَقِيلَ: هَاشِمٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَمِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَؤُلَاءِ لِشُهْرَتِهِمْ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ.
قُلْتُ: وَمِمَّنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ; مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، حَلِيفُ بَنِي غَنْمٍ، مُهَاجِرِيٌّ بَدْرِيٌّ. وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيُّ، بَدْرِيٌّ، وَالْحَكَمُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأُمَوِيُّ، وَجُبَيْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ، أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ الْأَزْدِيُّ، حَلِيفُ بَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَعَامِرُ بْنُ الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، بَدْرِيٌّ. وَمَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ. وَأَبُو أُمَيَّةَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَمْرٍو. وَيَزِيدُ بْنُ أَوْسٍ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. وَحُيَيٌّ، وَيُقَالُ: مُعَلَّى بْنُ حَارِثَةَ الثَّقَفِيُّ. وَحَبِيبُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ. وَالْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ الْمَخْزُومِيُّ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ بُجْرَةَ الْعَدَوِيُّ. وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ السَّهْمِيُّ، وَهُوَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرٍ الْعَامِرِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ. وَعَمْرُو بْنُ أُوَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيُّ.
وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ. وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي خَرَشَةَ الْعَامِرِيُّ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رَحْضَةَ، مِنْ بَنِي عَامِرٍ.
وَمِنَ الْأَنْصَارِ غَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ ; عُمَارَةُ بْنُ حَزْمِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَانَ النَّجَّارِيُّ، وَهُوَ أَخُو عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، كَانَتْ مَعَهُ رَايَةُ قَوْمِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ. وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ السَّلَمِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا. وَثَابِتُ بْنُ هَزَّالٍ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، بَدْرِيٌّ فِي قَوْلٍ. وَأَبُو عَقِيلٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، مِنْ بَنِي جَحْجَبَى، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ أَصَابَهُ سَهْمٌ فَنَزَعَهُ، ثُمَّ تَحَزَّمَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَقَدْ أَصَابَتْهُ جِرَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ. وَرَافِعُ بْنُ سَهْلٍ. وَحَاجِبُ بْنُ يَزِيدَ الْأَشْهَلِيُّ. وَسَهْلُ بْنُ عَدِيٍّ. وَمَالِكُ بْنُ أَوْسٍ. وَعُمَيْرُ بْنُ أَوْسٍ. وَطَلْحَةُ بْنُ عُتْبَةَ، مِنْ بَنِي جَحْجَبَى. وَرَبَاحٌ مَوْلَى الْحَارِثِ. وَمَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ. وَجَزْءُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَامِرٍ، مِنْ بَنِي جَحْجَبَى. وَوَدَقَةُ
بْنُ إِيَاسِ بْنِ عَمْرٍو الْخَزْرَجِيُّ، بَدْرِيٌّ. وَجَرْوَلُ بْنُ الْعَبَّاسِ. وَعَامِرُ بْنُ ثَابِتٍ. وَبِشْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَزْرَجِيُّ. وَكُلَيْبُ بْنُ تَمِيمٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِتْبَانَ. وَإِيَاسُ بْنُ وَدَقَةَ. وَأُسِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ. وَسَعْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَسَعْدُ بْنُ حِمَّانَ. وَمُخَاشِنُ بْنُ حُمَيِّرٍ. وَسَلَمَةُ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: مَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ. وَضَمْرَةُ بْنُ عِيَاضٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ. وَأَبُو حَبَّةَ بْنُ غَزِيَّةَ الْمَازِنِيُّ. وَحَبِيبُ بْنُ زَيْدٍ. وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنٍ. وَثَابِتُ بْنُ خَالِدٍ. وَفَرْوَةُ بْنُ النُّعْمَانِ. وَعَائِذُ بْنُ مَاعِصٍ. وَيَزِيدُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الضِّحَاكِ أَخُو زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: فَجَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ رَجُلًا. يَعْنِي وَبَقِيَّةُ الْأَرْبَعِمِائَةٍ وَالْخَمْسِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْكُفَّارِ فِيمَا سُقْنَا مِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْتَقَى فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي هَذِهِ وَأَوَائِلِ الَّتِي قَبْلَهَا، مَا يَنِيفُ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
فَمِنْ مَشَاهِيرِهِمْ ; الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، لَعَنَهُ اللَّهُ، وَاسْمُهُ عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ غَوْثٍ، خَرَجَ أَوَّلَ مَخْرَجِهِ مِنْ بَلْدَةٍ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا: كَهْفُ خُبَّانَ، وَمَعَهُ سَبْعُمِائَةُ مُقَاتِلٍ، فَمَا مَضَى شَهَرٌ حَتَّى مَلَكَ صَنْعَاءَ، ثُمَّ اسْتَوْثَقَتْ لَهُ الْيَمَنُ بِحَذَافِيرِهَا فِي أَقْصَرِ مُدَّةٍ، وَكَانَ مَعَهُ شَيْطَانٌ يُمَخْرِقُ لَهُ، وَلَكِنْ خَانَهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ تَمْضِ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْ إِخْوَانِ صِدْقٍ، وَأُمَرَاءِ حَقٍّ، كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَهُمْ دَاذَوَيْهِ الْفَارِسِيُّ، وَفَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ، وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيُّ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَيَالٍ، وَقِيلَ: بِلَيْلَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ لَيْلَةَ قَتْلِهِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَسْلَفْنَاهُ.
وَمِنْهُمْ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْحَنَفِيُّ الْيَمَامِيُّ الْكَذَّابُ لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ وَقَفَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ اتَّبَعْتُهُ. فَقَالَ لَهُ: «لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْعُودَ - لِعُرْجُونٍ فِي يَدِهِ - مَا أَعْطَيْتُكَهُ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ
لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيَتُ» . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ فِي يَدِهِ سُوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَهَمَّهُ شَأْنُهُمَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْمَنَامِ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخَهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلَهُمَا بِكَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ، وَهُمَا صَاحِبُ صَنْعَاءَ وَصَاحِبُ الْيَمَامَةِ. وَهَكَذَا وَقَعَ فَإِنَّهُمَا ذَهَبَا وَذَهَبَ أَمْرُهُمَا ; أَمَّا الْأَسْوَدُ فَذُبِحَ فِي دَارِهِ، وَأَمَّا مُسَيْلِمَةُ فَعَقَرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ، رَمَاهُ بِالْحَرْبَةِ، فَأَنْفَذَهُ كَمَا تُعْقَرُ الْإِبِلُ، وَضَرَبَهُ أَبُو دُجَانَةَ عَلَى رَأْسِهِ فَفَلَقَهُ، وَذَلِكَ بِعُقْرِ دَارِهِ فِي الْحَدِيقَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: حَدِيقَةُ الْمَوْتِ. وَقَدْ وَقَفَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ طَرِيحٌ، أَرَاهُ إِيَّاهُ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى مُجَّاعَةُ بْنُ مُرَارَةَ، وَيُقَالُ: كَانَ أُصَيْفَرَ أُخَيْنِسَ. وَقِيلَ: كَانَ ضَخْمًا أَسْمَرَ اللَّوْنِ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ وَعُمُرُهُ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قُتِلَ قَبْلَهُ وَزِيرَاهُ وَمُسْتَشَارَاهُ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَهَمَا مُحَكَّمُ بْنُ الطُّفَيْلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مُحَكَّمُ الْيَمَامَةِ. قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ وَهُوَ يَخْطُبُ قَوْمَهُ يَأْمُرُهُمْ بِمَصَالِحِ حَرْبِهِمْ فَقَتَلَهُ، وَالْآخَرُ نَهَارُ بْنُ عُنْفُوَةَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَصَدَّقَ مُسَيْلِمَةَ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَشَهِدَ لَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ قَدْ أُشْرِكَ فِي الْأَمْرِ مَعَهُ، وَقَدْ كَذَبَ الرَّجَّالُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ رَزَقَ اللَّهُ زَيْدَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ زَيْدٌ، رضي الله عنه.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ الرَّجَّالِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ الضَّرُورَةُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، كَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولُ اللَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، فَلَكَ الْمَدَرُ وَلِيَ الْوَبَرُ. وَيُرْوَى: فَلَكُمْ نِصْفُ الْأَرْضِ وَلَنَا نِصْفُهَا، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مُسَيْلِمَةُ وَيَتَعَانَاهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ أَسْخَفُ مِنَ الْهَذَيَانِ، مِمَّا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُهُ وَأَمْثَالُهُ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَعْمَ أَنَّهُ اسْتَقَلَّ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ، وَكَانَ يَقُولُ:
خُذِي الدُّفَّ يَا هَذِهِ وَالْعَبِي
…
وَبُثِّي مَحَاسِنَ هَذَا النَّبِي
تَوَلَّى نَبِيُّ بَنِي هَاشِمٍ
…
وَقَامَ نَبِيُّ بَنِي يَعْرُبِ
فَلَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَيْفًا مِنْ سُيُوفِهِ، وَحَتْفًا مِنْ حُتُوفِهِ، فَبَعَجَ بَطْنَهُ، وَفَلَقَ رَأْسَهُ وَعَجَّلَ اللَّهُ بِرُوحِهِ إِلَى النَّارِ، فَبِئْسَ الْقَرَارُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 92] . فَمُسَيْلِمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَأَمْثَالُهُمَا، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، أَحَقُّ النَّاسِ دُخُولًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَوْلَاهُمْ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ.