المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الصيد والذبائح - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٩

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌باب الصيد والذبائح

‌باب الصيد والذبائح

1115 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبًا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع، انتقص من أجره كل يوم قيراط". متفق عليه (1).

الحديث ورد بلفظ: "اتخذ"(2)، و:"اقتنى"، و:"أمسك". في روايات "الصحيحين". وجاء بلفظ: أمر بقتل الكلاب إلّا كلب صيد أو غنم. في حديث ابن عمر. وزيادة: "أو زرع". وردت في حديث أبي هريرة، فقيل لابن عمر، فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعًا (3). ويقال: إنه أراد ابن عمر أن أبا هريرة لما كان صاحب زرع كان له عناية في حفظها؛ لأن من كان مشتغلًا بشيء احتاج إلى تعرف أحكامه، وقد روي ذلك من حديث سفيان بن أبي زهير (4) وعبد الله بن مغفل (5)، والعطف بـ "أو" في الثلاثة للتنويع لا للتشكيك.

والحديث فيه دلالة على المنع من اتخاذ الكلاب، وهو يحتمل الكراهة بدليل نقص بعض الثواب على التدريج، فلو كان حرامًا لذهب الثواب مرة

(1) البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب اقتناء الكلب للحرث 5/ 5 ح 2322، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب وكان نسخه 3/ 1203 ح 1575/ 58 واللفظ له.

(2)

لفظ: "اتخذ" عند مسلم الوضع السابق. ولفظ: "اقتنى" عند البخاري 5/ 5 ح 2323، ومسلم 3/ 1203 ح 1575/ 57. ولفظ:"أمسك" عند مسلم 3/ 1203 ح 1575/ 59.

(3)

مسلم 3/ 1200 ح 1571/ 46.

(4)

مسلم 4/ 1203 ح 1576/ 61.

(5)

مسلم 3/ 1200، 1201 ح 1573/ 48.

ص: 353

واحدة. والوجه المناسب لمنع اتخاذها من دون حاجة هو ما يحصل منها من ترويع الناس وامتناع دخول الملائكة للبيت الذي هم فيه. كذا ذكره ابن عبد البر (1). ولكنه يحتمل أن يكون حرامًا وتكون العقوبة في اتخاذه نقصان القيراط، يعني أن الإثم الحاصل باتخاذه يوازن قدر قيراط من أجر المتخذ له. وأما حكمة التحريم فلِما في بقائها في البيت من التسبب إلى امتناع دخول الملائكة إليه، الذين دخولهم يقرب إلى فعل الطاعة والبعد عن المعصية، وبعدهم يتسبب إلى القرب من المعصية وترك الطاعة، ولما فيها من أذى المسلمين ولتنجيسها للأواني، وقد يغفل صاحبها فيستعمل الإناء المتنجس وقد سبَّب في نجاسته باتخاذ الكلاب. وقد ذهب إلى تحريم اقتناء الكلب الشافعية، إلا المستثنى. ذكَره النووي (2). واختلف العلماء هل نقصان القيراط من عمل ماض أو من الأعمال المستقبلة؟ فقال ابن التين (3): إن ذلك من العمل المستقبل. وقد حكى الروياني (3) في "البحر" اختلافا في ذلك، وقد جاء في رواية:"قيراطان". واختلف العلماء في الجمع بين الروايتين؛ فقيل: الحكم بالزائد هو الواجب؛ لأن في ذلك زيادة على الناقص فقد حفظ ما لم يحفظ غيره، أو أنه باعتبار كثرة الإضرار (أ) -كما في المدن- ينقص قيراطان، وقلَّته (ب) -كما في البوادي- ينقص قيراط، أو أن بعض القيراطين

(أ) في جـ: الإضراب.

(ب) في جـ: ثلثه.

_________

(1)

التمهيد 14/ 220.

(2)

شرح مسلم 10/ 236.

(3)

الفتح 5/ 7.

ص: 354

في المدينة المشرفة والقيراط في غيرها، أو قيراط من عمل النهار وقيراط من عمل الليل. فالمقتصر في الرواية باعتبار كل واحد من الليل والنهار، والمثنى باعتبار مجموعهما. واختلف في القيراط هنا هل هو كالقيراط المذكور في الجنازة؟ فقيل بالتسوية، وقيل: الذي في الجنازة من باب الفضل ففيه التوسعة، وهذا من باب العقوبة فهو محمول على العدل، وهي النظر إلى جانب الموازنة. وذكر في الحديث الثلاثة المستثناة فلا ضرر على متخذها، ويقاس عليه حفظ الدور إذا احتيج إلى ذلك. كذا أشار إليه ابن عبد البر (1). واتفقوا على أن المأذون في اتخاذه إنما هو غير العقور، وأما العقور فلا يتخذ؛ لأنه مأمورٌ بقتله، ويجوز تربية الجرو الصغير للمنفعة التي يئول إليها إذا كبر. وقد استدل بجواز الاتخاذ على طهارة المتخذ، لأن في ملابسته مع الاحتراز عنه مشقة شديدة، فالإذن في اتخاذه إذن في مكملاتِ مقصودِه، كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع من اتخاذه، وهو استدلال قوي يمكن أن يخصص عموم غسل الإناء مما ولغ فيه الكلب.

وفي الحديث دلالة على الحث على تكثير الأعمال الصالحة، والتحذير من العمل بما ينقصها، والتنبيه على أسباب الزيادة فيها والنقص منها لتجتنب، ولطف الله سبحانه بإباحة ما يحتاج إليه في تحصيل أمر المعاش وحفظه. وقد ورد الأمر بقتل الكلاب؛ أخرجه مسلم (2) في "صحيحه" من حديث ابن عمر وابن المغفل. قال القاضي عياض (3): ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث في قتل الكلاب إلا ما استثني. قال: وهذا مذهب

(1) التمهيد 14/ 219، 220.

(2)

تقدم ص 353.

(3)

صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 235.

ص: 355

مالك وأصحابه. قال: وذهب آخرون إلى جواز اتخاذها جميعا ونسخ الأمر بقتلها والنهي عن اقتنائها إلا الأسود البهيم. قال: وعندي أن النهي كان أولًا نهيًا عامًّا عن اقتنائها جميعًا، وأمر بقتل جميعها، ثم نهى عن قتل ما سوى الأسود، ومنَع الاقتناء في جميعها إلا المستثنى. انتهى. والمأمور بقتله هو الأسود البهيم وذو النقطتين؛ فإنه شيطان، والمراد بالبهيم الخالص السواد، والنقطتان معروفتان فوق عينيه، وأخذ أحمد من التعليل في الحديث وبعض الشافعية أنه لا يحل صيده. وقال الجمهور: يحل صيده؛ لأن الحديث لم يقصد به إخراجه عن جنس الكلاب، ولهذا إذا ولغ في (أ) إناء وجب غسله كما يغسل من الكلب الأبيض. والله أعلم.

1116 -

وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله، وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يوما ولم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل". متفق عليه (1)، وهذا لفظ مسلم.

قوله: "إذا أرسلت كلبك المعلم". فيه دلالة على أنه لا يعتبر صيد

(أ) في ب، جـ: من. والمثبت يقتضيه السياق.

_________

(1)

البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة 9/ 610 ح 5484، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة 3/ 1531 ح 1929/ 6.

ص: 356

الكلب إلا إذا أرسله صاحبه، فلو استرسل بنفسه لم يحل ما اصطاده عند الجمهور، وحُكي عن الأصم إباحته، قال: لأن المعتبر التعليم. وحكى ابن المنذر (1) عن عطاء والأوزاعي أنه يحل إن كان صاحبه أخرجه للاصطياد.

ولا بد أن يكون معلقًا، فأما غير المعلم فمجمع على أنه لا يحل صيده. وحدّ التعلم أن يُغْرَى فيقصد، ويزجر فيقعد. ذكره أبو طالب. وقال الشافعي: التعليم هو قبول الإرسال والإغراء حتى يمتثل الزجر في الابتداء لا بعد العدو، ويترك أكل ما أمسك. ومثل هذا ذكر الإمام يحيى؛ أنه إنما يعتبر امتثاله للزجر قبل الإرسال، أما بعد إرساله على الصيد فذلك يتعذر.

وقوله: "فاذكر اسم الله". دليل على وجوب التسمية، وقد أجمع المسلمون على التسمية عند الإرسال وعند الذبح والنحر، واختلفوا في أن ذلك واجب أو سنة؛ فذهب الهدوية والناصر وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنها واجبة على الذاكر لها، لا تحل ذبيحته ولا صيده إذا تركها عمدا. قالوا: لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2). ولما تقدم من الحديث، وعفي عن الناسي لقوله صلى الله عليه وسلم:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"(3). ولما سيأتي من حديث ابن عباس في آخر الباب، ولأنه كالأخرس.

وذهب من قال بسنتها؛ وهم ابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة،

(1) شرح مسلم 13/ 74.

(2)

الآية 121 من سورة الأنعام.

(3)

تقدم ح 890.

ص: 357

ورواية عن مالك وأحمد، قالوا: لقوله تعالى: {إلا مَا ذَكَّيْتُمْ} (1). فأباح التذكية من غير اشتراط التسمية ولا وجوبها، ولقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2). وهم لا يسمون، ولحديث عائشة الآتي أنهم قالوا: يا رسول الله، إن قومًا حديث عهد بالجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله أم لم يذكروا، فنأكل منها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سموا وكلوا". رواه البخاري (3).

وأجابوا عن حجة الأولين أن قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا} الآية. المراد به ما ذبح للأصنام؛ كما قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (1)، {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (4). لأن الله تعالى قال:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (3). وقد أجمع المسلمون على أن من أكل متروك التسمية عليه فليس بفاسق، فوجب حملها على ما ذكر؛ جمعا بينها وبين الآيات السابقة وحديث عائشة، إلا أنه يقال: إن حديث عائشة لا يدل على المقصود؛ لأنه إنما حَلَّ حملا على السلامة للذابحين؛ بأنهم قد سَمَّوا لكونهم مسلمين.

وذهب الظاهرية إلى أنه يحرم ما تركت عليه التسمية ولو نسيانا، وهو مروي عن ابن سيرين وأبي ثور. قالوا: لظاهر الآية الكريمة وحديث عديٍّ ولم يفصل (أ) وقد عرفت الجواب عنه، وذهب أحمد، على ما هو الصحيح

(أ) في جـ: يفضل.

_________

(1)

الآية 3 من سورة المائدة.

(2)

الآية 5 من سورة المائدة.

(3)

البخاري 4/ 294 ح 2057.

(4)

الآية 173 من سورة البقرة.

ص: 358

من مذهبه، أن التسمية شرط في صيد الجوارح.

وقوله: "فإن أدركته حيا فاذبحه". فيه دلالة على أنه يجب عليه التذكية إذا وجد فيه الحياة، ولم يحل إلا بالذكاة، وهو مجمع عليه، وقد نقل عن الحسن البصري والنخعي خلافه، ولعله باطل (1). قال في "البحر": إجماعا. وأما إذا أدركه ولم يبق فيه حياة مستقرة؛ بأن كان قد قطع حلقومه ومريئه، أو خرق أمعاءه، أو أخرج حشوه (2)، فيحل من غير ذكاة. قال النووي (3): بالإجماع. قالت الشافعية: ويستحب إمرار السكين على حلقه. واختار الإمام المهدي لمذهب الهدوية إلى أنه إذا بقي فيه رمق وجب تذكيته، والرمق إمكان التذكية لو حضرته آلة.

وقوله: "وإن أدركعه وقد قتل ولم يأكل". فيه دلالة على أنه إذا أكل منه حرم أكله. وقد جاء في هذه الرواية معلّلا لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه". وهذا ناظر إلى قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (4). ولم يكن ممسكا على صاحبه، وقد أخرج أحمد (5) من حديث ابن عباس: "إذا أرسلت الكلب فأكل [من](أ) الصيد

(أ) ساقط من: ب، جـ. والمثبت من مصدر التخريج.

_________

(1)

شرح مسلم 13/ 78، ولفظه: وما نقل عن الحسن والنخعي خلافه فباطل، لا أظن يصح عنهما.

(2)

الحِشُوة، الشاة: جوفها. الوسيط (ح ش و).

(3)

شرح مسلم 13/ 78.

(4)

الآية 4 من سورة المائدة.

(5)

أحمد 1/ 231.

ص: 359

فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل، فإنما أمسك على صاحبه". وأخرجه البزار (1) من وجه آخر عن ابن عباس، وابن أبي شيبة (2) من حديث [أبي](أ) رافع نحوه بمعناه. وقد ذهب إلى هذا ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والشعبي والنخعي وعكرمة وقتادة وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وداود.

وذهب عليٌّ وابن عمر وسلمان وسعد بن أبي وقاص، ومالك، وهو قول ضعيف للشافعي، إلى أنه يحل، قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الخشُني، قال: يا رسول الله، إن لي كلابا مُكَلَّبَةً، فأفتني في صيدها. قال:"كل مما أمسكن عليك". قال: وإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه". أخرجه أبو داود (3) بإسناد حسن. وفي حديث سلمان: "كله وإن لم تدرك منه إلا نصفه"(4). قال الإمام المهدي في "البحر": ويحمل خبر عدي بأن ذلك في كلب قد اعتاد الأكل فخرج عن التعليم، ثم حديث أبي ثعلبة أرجح لكثرة العامل به. انتهى.

(أ) في ب، جـ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج.

_________

(1)

البزار 11/ 277، 278 ح 5069.

(2)

ابن أبي شيبة 7/ 74.

(3)

أبو داود 3/ 110 ح 2857.

(4)

أبو نعيم في الحلية 8/ 137، 138 بنحوه.

ص: 360

وأجاب بعضهم بأن حديث عدي محمول على كراهة التنزيه، وحديث أبي ثعلبة لبيان أصل الحل، قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عديًّا كان موسرًا فاختير له الأَوْلى، بخلاف أبي ثعلبة فإنه كان من الأعراب العسرين. وبعضهم بأنه يحمل على الذي مات من شدة العدْو أو من الصدمة وأكل منه الكلب. ولا يخفى بُعْدُ هذا. وأجاب أهل القول الأول بأن الحديثين تعارضا، لكن حديث عدي مُرَجَّح؛ لأنه مخرج في "الصحيحين"، ودلالته صريحة، مبيَّنة بالمناسب للتحريم، مؤيَّدة بظاهر قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (1). ومقتضاها أن الذي أمسكه من غير إرسال يحرم، فكذلك ما أكل منه، لأنه في حكم ما استُرسل بنفسه، ويتقوى أيضًا بالشواهد، كحديث ابن عباس. وأما جواب الإمام المهدي وما ذكر بعده فلا تخفى رِكَّتُه.

وقوله: "وإن وجدت". إلخ. فيه دلالة على أنه لا يحل ما احتمل أن المؤثر في قتله غيرُ المرسل؛ لوجود الشك في ذلك، فيُغَلَّب جانبُ الحظر، ولهذه القاعدة اختلفوا في أكل الصيد إذا غاب مصرعه؛ فقول لمالك أنه إذا وجد به أثرًا من الكلب، أنه يؤكل ما لم يبت، فإذا بات كره. وقال بالكراهة الثوري. وقال عبد الوهاب من المالكية: إنه لا يؤكل إذا كان من أثر الكلب، وإن كان من السهم ففيه خلاف. وقال ابن الماجشون: يؤكل منهما جميعًا إذا وجد منفوذ المقاتل. وقال مالك في "المدونة"(2): لا

(1) الآية 4 من سورة المائدة.

(2)

المدونة الكبرى 3/ 52.

ص: 361

يؤكل منهما جميعًا إذا بات وإن وجد منفوذ المقاتل. وقال الشافعي: القياس ألا تأكله إذا غاب عنك مصرعه. وقال أبو حنيفة: إذا توارى والكلب في طلبه فوجده المرسِل مقتولا جاز أكله ما لم يترك الكلب الطلب. وتخريج أبي طالب ورواه في "البحر" عن أصحاب أبي حنيفة أنه لا يحل إلا أن يشاهد الإصابة ولحقه فورا فيجدها في مقتل، ولا يُجَوِّزها من غيره، ولا أنه مات بغيرها. انتهى. وحدُّ الفور ألا يتراخى عن اللحوق بقدر التذكية، وذلك بناءً على أن اللحوق من تمام الاصطياد.

وقد اختلفت الأحاديث، فروى مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي (1) عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يدرك صيده بعد ثلاث، قال:"كل ما لم يُنْتِن". وروى مسلم (2) عن أبي ثعلبة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت سهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت". وفي حديث عدي في رواية (3): "إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد فيه أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله فكل".

وقوله: "وإن وجدته غريقا فلا تأكل". ظاهر هذا أنه لا يؤكل وإن كان السهم قد أنفذ مقاتله. وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة، قال:

(1) مسلم 3/ 1532 ح 1931، والنسائي 7/ 220، وأبو داود 3/ 111 ح 2861، وليس عند الترمذي، وينظر تحفة الأشراف 9/ 131 ح 11863.

(2)

مسلم 3/ 1532 ح 1931/ 9 بنحوه، وعنده:"ينتن". بدلا من: يبت".

(3)

النسائي 7/ 219.

ص: 362

[لا يؤكل](أ) إن وقع في ماء منفوذ المقاتل ويؤكل إن تردى. وقال عطاء (1): لا يؤكل أصلا إذا أصيبت المقاتل ووقع في ماء أو تردى من موضع عال؛ لإمكان أن يكون زهوق نفسه من قِبَل التردي أو الماء قَبْل زهوقها من قِبَل إنفاذ المقاتل.

واعلم أنه وقع الإجماع على حل ما قتله الكلب، إلا الأسود، ففيه ما تقدم من الخلاف، واختلف العلماء فيما عداه من السباع، كالفهد والنَّمِر وغيرهما، وكذلك الطيور؛ فذهب مالك، كما رواه عنه ابن شعبان (2)، أنه يحل بجميع الحيوانات إذا قبلت التعليم وعُلِّمت، حتى السنَّور، وذهب إليه أصحاب مالك، وبه قال فقهاء الأمصار، وهو مروي عن ابن عباس، وقال جماعة، ومنهم مجاهد: لا يحل ما صاده غير الكلب إلا بشرط إدراك ذكاته. وبعضهم خص البازي بحل ما قتله. وقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} . يحتمل أن تكون مشتقة من الكلْبِ، بسكون اللام، اسم العين، فيكون حجة لمن خص الكلب بالحِلِّ، ويحتمل أن يكون مشتقا من الكلَبِ، بفتح العين، وهو مصدر، بمعنى التكليب؛ وهو التَّضْرِيَةُ. ويقوِّي هذا عموم قوله:{مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} . فإن الجوارح المراد به الكواسب على أهلها، وهو عام. وعلى جَعْل {مُكَلِّبِينَ} مشتقا من الكلْبِ بالسكون يقاس عليه

(أ) ساقط من: ب، جـ. وفي حاشية ب: أظن هنا سقط: لا يؤكل. وينظر بداية المجتهد 6/ 268.

_________

(1)

بداية المجتهد 6/ 268.

(2)

بداية المجتهد 6/ 256.

ص: 363

سائر الكواسب من السباع والطير مما يقبل التعليم. ودليل من خص البازي ما أخرجه الترمذي (1) من حديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: "ما أمسك عليك فكل".

1117 -

وعن عدي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض، فقال:"إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل". رواه البخاري (2).

المعراض بكسر الميم وسكون المهملة وآخره معجمة، وهو سهم لا ريش له ولا نصل. كذا قال الخليل (3). وقال ابن دريد (4) وتبعه ابن سيده (5): إنه سهم طويل له أربع قذذ رقاق فإذا رمي به اعترض. وقال الخطابي (6): نصل عريض له ثقل ورزانة. وقيل (3): عود رقيق الطرفين غليظ الوسط. وقيل (3): خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها وفد لا يحدد. وقال النووي (7): هذا هو المشهور. وقال ابن التين (3): المعراض عصا في طرفها حديد يرمي به الصائد، فما أصاب بحده فهو ذكي يؤكل، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ. والوقيذ بقاف وآخره ذال معجمة بوزن عظيم؛ أي موقوذ، وهو ما قتل

(1) الترمذي 4/ 55 ح 1467.

(2)

البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب صيد المعراض 9/ 603 ح 5476.

(3)

الفتح 9/ 600.

(4)

جمهرة اللغة 2/ 363.

(5)

الفتح 9/ 600، وفي المحكم لابن سيده 1/ 247: المعراض السهم دون ريش يمضي عرضها.

(6)

معالم السنن 4/ 290.

(7)

مسلم بشرح النووي 13/ 75.

ص: 364

بعصا أو حجر أو ما لا حد فيه، والموقوذة المضروبة بخشبة حتى تموت من وقذته، أي ضربته. وقال ابن عمر (1): المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة.

والحديث فيه دلالة على أنه يحل صيد المعراض إذا كان خارقًا للجلد حتى يخرق معه اللحم، فإذا لم يكن له حد لم يحل. وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد، وهو مذهب الهدوية، وذهب مكحول والأوزاعي وغيرهما من فقهاء الشام إلى أنه يحل صيد المعراض مطلقا. وكذا قالوا في صيد البندقة أنه يحل. وذهب إلى هذا ابن أبي ليلى، وحكي عن سعيد بن المسيب (2). وقال الجمهور: لا يحل صيد البندقة لأنه كالمعراض.

وقوله: "فإنه وقيذ". أي كالوقيذ، من باب التشبيه البليغ، وذلك لأن الوقيذ المقتول بالضرب بالعصا من دون حد، وهذا شاركه في العلة وهو القتل بغير حد.

1118 -

وعن أبي ثعلبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكُلْه (أ) ما لم ينتن". أخرجه مسلم (3).

تقدم الكلام في الصيد إذا غاب وإذا بات، وقد جاء في رواية فيمن يدرك (ب) صيده بعد ثلاثٍ:"فكله ما لم ينتن". والحديث فيه دلالة على أنه

(أ) في ب: فكل.

(ب) في جـ: أدركه.

_________

(1)

سيأتي ص 371.

(2)

ينظر مصنف عبد الرزاق 4/ 474، 475، 8523، 8523، ومصنف ابن أبي شيبة 7/ 99.

(3)

مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب إذا غاب عنه الصيد ثم وجده 3/ 1532 ح 1931/ 9.

ص: 365

يحرم أكل اللحم المنتن، وهو محمول على أنه يضر الآكل، أو أنه قد صار مستخبثا. وقد جاء النهي عن أكل المستخبث، أو يحمل على التنزيه، ويقاس عليه سائر اللحوم والأطعمة المنتنة. والله أعلم.

1119 -

وعن عائشة رضي الله عنها أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا. فقال: "سموا الله عليه أنتم وكلوه". رواه البخاري (1).

قوله: إن قومًا. قال المصنف (2) رحمه الله تعالى: لم أقف على تعيينهم، ووقع في رواية مالك (3): سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: أَذُكِرَ. بضم الذال على البناء للمجهول. وجاء في رواية (4): أذَكَروا. بالضمير بصيغة المعلوم. وفي رواية (5): لا ندري أيذكرون. وفي رواية أبي داود (6) بلفظ: أم لم يذكروا، أفنأكل منها؟ وتمام الحديث في البخاري قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر. وفي رواية مالك زيادة في آخره: وذلك في أول الإسلام.

الحديث فيه دلالة على أن التسمية على الذبح غير واجبة. قال المهلب (2): لأن التسمية على الأكل ليست واجبة بالإجماع وقد قامت مقام التسمية على الذبح، فدلت على عدم وجوبها. قال: والأمر في حديث

(1) البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم 9/ 634 ح 5507.

(2)

الفتح 9/ 635.

(3)

الموطأ 2/ 488 ح 1065 من حديث هشام بن عروة عن أبيه.

(4)

تقدم ص 358.

(5)

البخاري 13/ 379 ح 7398.

(6)

أبو داود 3/ 103 ح 2829.

ص: 366

عدي (1) وأبي ثعلبة (2) محمول على الندب، وذلك لأنهما كانا يصيدان على ما عهداه في الجاهلية، فعلمهما النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصيد والذبح؛ فرضه ومندوبه، لئلا يقعا في مشتبه ويأخذا بأكمل الأحوال في المستقبل، وأما الذين سألوا عن أكل اللحم المذكور، فإنهم سألوا عن أمر قد وقع ويقع من غيرهم ليس لهم قدرة على الأخذ بالأكمل، فبين لهم أصل الحل. والأولى أن يقال: إن الحديث لا دلالة له (أ) على ذلك، وإنما دلالته على أنه لا عليكم أن تعلموا ذلك؛ لأنه يحمل على الصحة جميع ما يجلب إلى أسواق المسلمين، وكذا ما ذبحه أعراب السلمين؛ لأنهم قد عرفوا التسمية. قال ابن عبد البر (3): لأن المسلم لا يظن به في كل شيء إلا الخير حتى يتبين خلاف ذلك. ويكون الجواب بقوله: "فسموا" إلى آخره. من تلقي السائل بغير ما يتطلب؛ تنبيهًا على أنه الأولى بأن يهتم به، فكأنه قال: لا تهتموا أنتم بالسؤال عن ذلك، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا. وهذا من الأسلوب الحكيم. وقد ذهب بعضهم إلى أن هذا الحديث منسوخ بآية "الأنعام":{وَلَا تَأكلُوا} (4) الآية. وتمسك بالزيادة التي في رواية مالك. وأجيب عنه بأن الحديث وقع في حق أعراب المدينة، وآية "الأنعام" مكية بالاتفاق. وقد جاء في رواية ابن عيينة (5):"اجتهدوا أيمانهم وكلوا". أي: حلِّفوهم على أنهم سمّوا حين ذبحوا. والزيادة غريبة لكن ابن عيينة

(أ) ساقط من: جـ.

_________

(1)

تقدم ح 1116.

(2)

تقدم ص 362، وفي ح 1118.

(3)

التمهيد 22/ 299.

(4)

الآية 121 من سورة الأنعام.

(5)

فتح الباري 9/ 635.

ص: 367

ثقة، إلا أن روايته مرسلة، ولكنها متأيدة بما أخرجه الطبراني (1) من حديث أبي سعيد نحوه لكن [قال] (أ):"اجتهدوا أيمانهم أنهم ذبحوها". ورجاله ثقات. ولعله يقال: إن ذلك على وجه الندب للاحتياط في الورع عن المشتبه. ويدل على هذا ما أخرجه الطحاوي في "المشكل"(2): سأل ناس من الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أعاريب يأتوننا بلحمان وجبن وسمن، ما ندري ما كنه إسلامهم. قال:"انظروا ما حرم الله عليكم فأمسكوا عنه، وما سكت عنه فقد عفا لكم، وما كان ربك نسيًّا، اذكروا اسم الله". ففيه دلالة على الاحتياط بالنظر في ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى قد عفا عما سكت عنه ولم ينص على تحريمه مثل طعام الأعرابي الذي فيه احتمال الشبهة، والله سبحانه أعلم. وقد ذكر الغزالي في "الإحياء"(3) أن من المشتبه ما يتأكد الاستحباب في التورع عنه، وهو ما يقوى فيه دليل المخالف كمتروك التسمية عند ذبحه، فإن الآية ظاهرة في تحريم الأكل منه على جهة العموم والأخبار المتواترة في الأمر بها، ولكن لما صح من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"المؤمن يذبح على اسم الله سمّى أم لم يسم"(4).واحتمل أن يكون عامًّا موجبا لصرف الآية والأخبار عن ظاهرها، واحتمل أن يحمل على الناسي، وهذا الاحتمال الثاني أولى. انتهى. لكن قوله: لما صح من قول النبي صلى الله عليه وسلم. غير صحيح، فإن الحديث قال النووي (5): هو مجمع على ضعفه. وقد

(أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من الفتح 9/ 635.

_________

(1)

الطبراني في الأوسط 3/ 23 ح 2346.

(2)

شرح مشكل الآثار 2/ 226 ح 754.

(3)

إحياء علوم الدين 2/ 851، 852.

(4)

ينظر المغني عن حمل الأسفار بحاشية الإحياء 2/ 851.

(5)

المجموع 8/ 389.

ص: 368

أخرجه البيهقي (1) من حديث أبي هريرة وقال: منكر لا يحتج به. وقد أخرج أبو داود في "المراسيل"(2) عن الصلت السدوسي (أ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذبيحة المسلم حلال ذكر الله أو لم يذكر". وهو مرسل جيد، فقد ذكر ابن حبان الصلت في "الثقات"(3). وأما حديث أبي هريرة ففيه مروان بن سالم وهو متروك (4)، ولكنه قد ثبت ذلك عن ابن عباس (5)، واختلف (ب) في رفعه ووقفه، ومع انضمامه إلى المرسل المذكور يقوى ولا يبلغ درجة الصحة.

1120 -

وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال: "إنها لا تصيد صيدًا ولا تنكأ عدوًّا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين". متفق عليه واللفظ لسلم (6).

قوله: نهى عن الحذف. هو بالخاء والذال المعجمتين وبالفاء؛ وهو رمي الإنسان بحصاة أو نواة أو نحوها، يجعلها بين أصبعيه السبابتين أو الإبهام والسبابة.

(أ) في جـ: الدوسي، وينظر تهذيب الكمال 13/ 232.

(ب) في جـ: اختلفوا.

_________

(1)

البيهقي 9/ 240.

(2)

المراسيل لأبي داود ص 197.

(3)

الثقات 6/ 471، وقال الحافظ: الصلت السدوسي مولاهم، تابعي، لين الحديث، أرسل حديثًا. التقريب ص 278.

(4)

ضعفه أحمد بن حنبل والبخاري والنسائي والدارقطني وغيرهم. وقال الذهبي: أجمعوا على ضعفه. التاريخ الكبير 7/ 373، والسير 9/ 35، وميزان الاعتدال 4/ 90.

(5)

سعيد بن منصور في سننه 5/ 81 ح 914، والبيهقي 9/ 239، 240.

(6)

البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب الخذف والبندقة 9/ 607 ح 5479، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد 3/ 1548 ح 1954/ 56.

ص: 369

وقال ابن سيده (1): خذف بالشيء يخذف [خذفا: رمى](أ)، وخص بعضهم به الحصى. قال: والمخذفة التي يوضع فيها الحجر ويرمى بها الطير، وتطلق على المقلاع أيضًا. قاله في "الصحاح"(2).

وقوله: "إنها لا تصيد صيدًا". قال المهلب (3): أباح الله الصيد على صفة معينة، فقال:{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} (4). وليس الرمي بالبندقة ونحوها من ذلك، وإنما هو وقيذ. انتهى. وأطلق الشارع أن الخذف لا يصاد به؛ لأنه ليس مما يجهز به، وذلك لأنه إنما يقتل الصيد بقوة راميه لا بحده، وقد اتفق العلماء إلا من شذ منهم على تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر.

وقوله: "ولا (ب ينكأ". بفتح الياء ب) والهمزة في آخره. قال النووي (5): هكذا هو في الروايات. قال القاضي عياض: وكذا رويناه. قال: وفي بعض الروايات المشهورة: "ينكى". بفتح الياء وكسر الكاف غير مهموز. قال القاضي: وهو أوجه هنا، لأن المهموز إنما هو من: نكأت القرحة. وليس هذا موضعه إلا بتجوز، وإنما هذا من النكاية، يقال: نكيت العدو وأنكيته نكاية. ونكأت بالهمزة (جـ) لغة فيه. قال: فعلى هذه اللغة تتوجه رواية شيوخنا.

(أ) في ب، جـ: فارسي. وينظر مصدر التخريج.

(ب- ب) في جـ: تنكأ بفتح التاء.

(جـ) زاد في جـ: تقدم.

_________

(1)

المحكم 5/ 99.

(2)

ينظر الصحاح (ح ذ ف) 4/ 1348.

(3)

الفتح 9/ 607.

(4)

الآية 94 من سورة المائدة.

(5)

شرح مسلم 13/ 105، 106.

ص: 370

وقوله: "وتفقأ العين" مهموز. والحديث فيه دلالة على النهي عن الخذف؛ لأنه لا مصلحة فيه ويخاف [مفسدته](أ)، ويلحق به كل ما كان فيه مفسدة. والمراد هنا أن الخذف قد يكسر سن المرمي ويفقأ عينه لغير غرض يعود على الرامي، ويحتمل أنه قد يصيب غير الرمي من آدمي، ولذلك كره الحسن البصري رمي البندقة في القرى والأمصار (1)، ومفهومه أنه لا يكره في الفلاة، فجعل (5) مدار النهي خشية إدخال الضرر على أحد من الناس، والظاهر من الحديث إنما هو باعتبار الصيد، لأنه يعرضه للتلف لغير أكل، وقد ورد النهي عن ذلك، وأما إذا كان الرمي بالبندق وبالخذف إنما هو لتحصيل الصيد وكان الغالب فيه عدم قتله، فإنه يجوز ذلك إذا أدركه الصائد وذكاه، كرمي الطيور الكبار بالبنادق. كذا قال النووي (2). وقد أخرج البيهقي (3) عن ابن عمر أنه كان يقول: المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة. وأخرج ابن أبي شيبة (4) عن سالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد أنهما كانا يكرهان البندقة إلا ما أدركت ذكاته. وكذا مالك (5) بلغه أن القاسم كان يكره ما قتل بالمعراض والبندقة. وأخرج ابن أبي شيبة (4) عن مجاهد أنه قال: لا تأكل إلا أن تذكي. وأخرج (4) عن إبراهيم النخعي: لا

(أ) في ب، جـ: مفسدة. والمثبت من شرح النووي 13/ 106.

(ب) في جـ: فجعله.

_________

(1)

ابن أبي شيبة 7/ 100، وعلقه البخاري 9/ 603.

(2)

شرح مسلم 13/ 106.

(3)

البيهقي 9/ 2049.

(4)

ابن أبي شيبة 7/ 99.

(5)

الموطأ 2/ 491 ح 2.

ص: 371

تأكل ما أصابت البندقة إلا أن تذكي. وأخرج عبد الرزاق (1) عن عطاء: إن رميت صيدًا ببندقة فأدركت ذكاته فكله، وإلّا فلا تأكله. وأخرج ابن أبي شيبة (2) عن الحسن: إذا رمى الرجل الصيد بالجلّاهقة -وهي بضم الجيم وتشديد اللام وكسر الهاء بعدها قاف، وهي البندقة بالفارسية (أ)، والجمع جلاهق- فلا جمل إلا أن تدرك ذكاته.

1121 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا". رواه مسلم (3).

الحديث فيه دلالة على تحريم جعل الحيوان كالغرض الذي يجعل منصة للرمي من الرماة كما تجعل الجلود وغيرها غرضًا للرمي، ويدل على أن النهي للتحريم قوله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله من فعل هذا"(4). لَمَّا مَرَّ وطائرٌ قد نصب وهم يرمونه، والحكمة في النهي أن فيه تعذيب الحيوان وإتلاف نفسه وتضييع ماليته، وتفويت ذكاته إن كان مذكى، ولمنفعته إن كان غير مذكى.

والمراد بقوله: "شيئًا فيه الروح". الحيوان.

والغرض بالغين المعجمة محرك (ب) الراء: هدف يرمى إليه، ثم جُعل اسمًا لكل غاية يتحرى إدراكها.

(أ) في جـ: الفارسية.

(ب) في جـ: محرف.

_________

(1)

عبد الرزاق 4/ 476 ح 8527.

(2)

ابن أبي شيبة 7/ 100 ح 19979.

(3)

مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب النهي عن صبر البهائم 3/ 1549 ح 1957.

(4)

مسلم 3/ 1549، 1550 ح 1958.

ص: 372

1122 -

وعن كعب بن مالك رضي الله عنه، أن امرأة ذبحت شاة بحجر، فسُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمر بأكلها. رواه البخاري (1).

قوله: أن امرأة. وجاء في لفظ في (أ) البخاري: جارية. وفي لفظ: أمة.

ولفظ: أمة. فيه قيد زائد فيكون مفسرًا لقوله: امرأة.

فيه دلالة على أنه يصح التذكية من المرأة. وهذا قول الجمهور، وقد نقل عن محمد بن عبد الحكم عن مالك كراهته (2)، وفي "المدونة"(3) جوازه، وفي "نهاية المجتهد" (4) لابن رشد أنه جائز غير مكروه من المرأة والصبي. قال: وهو مذهب مالك، وكره ذلك أبو مصعب. انتهى. وفي وجه للشافعية: يكره ذبح المرأة الأضحية. وعند سعيد بن منصور (5) بسند صحيح عن إبراهيم النخعي، أنه قال في ذبيحة المرأة والصبي: لا بأس إذا أطاق (ب) الذبيحة وحفظ التسمية. وهو قول الجمهور.

وقوله: فسئل النبي صلى الله عليه وسلم. قد بين في لفظ للبخاري (6) أن السائل كعب بن مالك.

(أ) ساقط من: جـ.

(ب) في جـ: طاق.

_________

(1)

البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب في ذبيحة المرأة والأمة 9/ 632 ح 5504.

(2)

الفتح 9/ 632.

(3)

المدونة الكبرى 2/ 67.

(4)

الهداية في تخريج أحاديث البداية 6/ 243.

(5)

سعيد بن منصور -كما في التغليق 4/ 516.

(6)

البخاري 9/ 630 ح 5501.

ص: 373

وفي الحديث دلالة أنه يحل (أ) أكل ما ذبح بغير إذن المالك. والخلاف في ذلك لطاوس وعكرمة وإسحاق بن راهويه وأهل الظاهر. وحجتهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإهراق ما في قدور من ذبح من الغنم قبل القسمة بذي الحليفة من تهامة ما بين حاذة (ب) وذات عرق. أخرجه البخاري ومسلم (1). وأجيب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإراقة المرق، وأما اللحم فهو باق جُمِع ورد إلى المغنم. فإن قيل: إنه لم ينقل أنه جمع ورد إلى المغنم. قلنا: ولم ينقل أنهم أتلفوه وأحرقوه، فيجب تأويله بما ذكرنا موافقا للقواعد الشرعية. والحديث فيه دلالة على أن التذكية تصح بالحجر الحاد إذا فرى (2) الأوداج، وقد جاء في لفظ في هذه الرواية أنها كسرت الحجر وذبحت، والحجر إذا كسر يكون فيه الحد.

قال في "الفتح"(3): ويدل الحديث على تصديق الأجير الأمين فيما اؤتمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة، وجواز تصرف المودَع بغير إذن المالك للمصلحة كما جاء في هذه القصة أنها رأت بالشاة الموت فذبحتها. وقال [ابن] (جـ) القاسم: إذا ذبح الراعي شاة بغير إذن المالك وقال: خشيت عليها من الموت. لم يضمن على ظاهر هذا الحديث. وتعقب بأن الجارية كانت

(أ) في جـ: يجعل.

(ب) في ب: حاوه، وفي جـ: حاده. والمثبت من معجم البلدان 2/ 182، 324.

(جـ) في ب: أبو.

_________

(1)

البخاري 9/ 622 ح 5498، ومسلم 3/ 1558 ح 1968/ 21.

(2)

فرى الشيء: شقه وأفسده. ينظر اللسان (ف ر ى).

(3)

الفتح 9/ 633.

ص: 374

أمة لصاحب الغنم، فلا يتصور تضمينها، وعلى تقدير أن تكون غير ملكه فلم ينقل في الحديث أنه أراد تضمينها، وكذا لو أنزى على الإناث فحلًا بغير إذن أهلها فهلكت. قال ابن القاسم: لا يضمن، لأنه من صلاح المال. والله أعلم.

1123 -

وعن رافع بن خديج رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر؛ أما السن فعظم، وأما الظفر فَمُدَى الحبشة". متفق عليه (1).

قوله: "ما أنهر الدم". بالراء المهملة، أي أساله وصبه بكثرة، شُبه بجري الماء في النهر، وهذا هو المشهور في الروايات. وذكره أبو ذر الخشني (2) بالزاي المعجمة وقال: النهز بمعنى الدفع. وهو غريب. قال العلماء: في هذا دلالة صريحة بأنه يشترط في الذكاة ما يقطع ويُجري الدم ولا يكفي رضُّها ودمغها بما لا يُجري. قال بعض العلماء: والحكمة في اشتراط الذبح وإنهار الدم تميز حلال الشحم واللحم من حرامهما، وتنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها.

وقوله: "وذكر اسم الله عليه". لفظ "عليه" في رواية أبي داود (3).

وأما في "الصحيحين" فمحذوفة، والمعنى على ذكرها.

(1) البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب مما أنهر الدم 9/ 631 ح 5503، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم 3/ 1558 ح 1968/ 20.

(2)

ينظر شرح مسلم 13/ 123.

(3)

أبو داود 3/ 101 ح 2821.

ص: 375

وقوله: "فكُلْ، ليس السن والظفر". منصوبان على الاستثناء لإخراجهما من عموم ما يحل به الذبح، فدل على أنه يحل الذبح بكل محدد، فدخل في ذلك السيف والسكين والحجر والخشب والزجاج والقصب والخزف والنحاس وسائر الأشياء المحدودة. والظفر يدخل فيه ظفر الآدمي وغيره من كل الحيوانات، وسواء المتصل والمنفصل، والطاهر والنجس. والسن يدخل فيه سن الآدمي وغيره، والطاهر والنجس، والمتصل والمنفصل.

وقوله: "أما السن فعظم". فيه بيان العلة المانعة للتذكية بالسن بأنها كونها عظمًا، وكأنه عليه السلام قد قرر أولًا أن العظم لا يحل به الذبح. قال ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" (1): ولم أر مَن ذكر للمنع من الذكاة بالعظم معنى معقولًا. وعلله النووي (2) بأن الذبح بالعظم تنجيس للعظم فيكون كالاستجمار بالعظم، وقد ثبت أنه طعام الجن (3). وهذا معنى مناسب. وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث الشافعي وأصحابه. وقال به النخعي والحسن بن صالح والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وفقهاء الحديث والجمهور. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين، ويجوز بالمنفصلين. وعن مالك روايات أشهرها جوازه بالعظم دون السن كيف كانا. والثانية كمذهب الجمهور. والثالثة كأبي حنيفة. والرابعة حكاها عنه ابن المنذر: يجوز بكل شيء حتى بالسن والظفر.

(1) الفتح 9/ 628، 629.

(2)

شرح النووي 13/ 125.

(3)

تقدم تخريجه في 2/ 84.

ص: 376

واحتجوا بما أخرجه أبو داود (1) من حديث عدي بن حاتم: "أَمِرَّ الدم بما شئت". والجواب أنه مخصص بهذا الحديث.

وعن ابن جريج جواز الذكاة بعظم الحمار دون القرد (2). وهذه الأقوال منابذة للحديث (أ).

وقوله: "وأما الظفر فمُدَى الحبشة". مدى جمع مُدية بالدال المهملة؛ أي وهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم، وقد يعترض على هذا التعليل بأن الحبشة تذبح بالسكين أيضًا فيلزم المنع من ذلك للشبه، وأجيب بأن الذبح بالسكين هو الأصل وهو غير مختص بالحبشة ولحق بها ما أشبهها، وهذا مختص بهم فمنع منه، وعلل ابن الصلاح (3) بأن ذلك إنما هو لما يحصل به من التعذيب للحيوان، ولا يحصل به إلا الخنق الذي هو ليس على صورة الذبح، وقد قالوا: إن الحبشة تدمي مذابح الشاة بالظفر حتى تزهق نفسها خنقا. وقد ذكر في "المعرفة" للبيهقي (4) من رواية حرملة عن الشافعي أنه حمل الظفر في هذا الحديث على النوع الذي يدخل في الطيب وهو من بلاد الحبشة وهو لا يفري، فيكون في معنى الخنق.

(أ) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

أبو داود 3/ 102 ح 2824.

(2)

ينظر المغني 13/ 302.

(3)

ينظر الفتح 9/ 629.

(4)

معرفة السنن والآثار 7/ 182، 183.

ص: 377

1124 -

وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتل شيء من الدواب صبرًا. رواه مسلم (1).

الحديث فيه دلالة على تحريم إمساك الحيوان حيًّا ثم يرمى حتى يموت، ويسمى ذلك صبرا، وكذلك كل من قتل في غير معركة ولا حرب ولا خطأ فإنه مقتول صبرًا، والصبر الحبس.

1125 -

وعن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، ولْيُحد أحدكم شفرته، ولْيُرح ذبيحته". رواه مسلم (2).

هو أبو يعلى شداد بن أوس بن ثابت النجاري الأنصاري (3)، وهو ابن أخي حسان بن ثابت، يقال: إنه شهد بدرًا. ولا يصح، ونزل بيت المقدس وعداده في أهل الشام، روى عنه ابنه يعلى ومحمود بن الربيع وضمرة بن حبيب، مات بالشام سنة ثمان وخمسين وهو ابن خمس وسبعين، وقيل: مات سنة إحدى وأربعين. وقيل: سنة أربع وستين. قال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: كان شداد بن أوس ممن أوتي العلم والحلم.

قوله: "كتب الإحسان". أي: أوجب. [والإحسان](أ) هو فعل

(أ) في ب: الإحسان.

_________

(1)

مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب النهي عن صبر البهائم 3/ 1550 ح 1959/ 60.

(2)

مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح 3/ 1548 ح 1955/ 57.

(3)

أسد الغابة 2/ 507، وتهذيب الكمال 12/ 389.

ص: 378

الحسن الذي هو ضد القبيح، فيتناول الحسن شرعا والحسن عرفًا.

والقِتلة بكسر القاف مصدر للنوع، وهي الحالة والهيئة التي يكون عليها القتل، وهو عام في ذبح الحيوان من البهائم المأكولة، والقتل قصاصًا وحدًّا ونحو ذلك.

وقوله: "فأحسنوا الذبحة". بكسر الذال وبالهاء مصدر نوعي، ووقع في كثير من نسخ "مسلم":"فأحسنوا الذَّبح". بفتح الذال وبغير هاء مصدر توكيدي.

وقوله "وليُحدَّ". هو بضم الياء، يقال: أحد السكين وحددها واستحدها. والشفرة بفتح الشين المعجمة: السكين العظيمة وما عظم من الحديد وحُدِّد.

وقوله: "وليرح ذبيحته". بضم الياء، وهو في معنى ما قبله، فإن الإراحة تكون بإحداد السكين وتعجيل إمرارها وغير ذلك. ويستحب ألا يحدد السكين بحضرة الذبيحة، وألا يذبح واحدة بحضرة أخرى.

1126 -

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أمه". رواه أحمد وصححه ابن حبان (1).

الحديث أخرجه أحمد في "مسنده" عن أبي عبيدة الحداد، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد. وأخرجه الترمذي (2) من طريق

(1) أحمد 3/ 39، وابن حبان، كتاب الذبائح، ذكر البيان بأن الجنين إذا ذكيت أمه حل 13/ 206، 207 ح 5889.

(2)

الترمذي 4/ 60 ح 1476.

ص: 379

مجالد، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد، ورواه أبو داود (1) مثله، ورواه الدارقطني (2) بلفظ:"إذا سميتم على الذبيحة فإن ذكاته ذكاة أمه". وقد ضعفه (أ) عبد الحق (3) وقال: لا يحتج بأسانيده كلها. وخالفه الغزالي في "الإحياء"(4) وقال: هو حديث صحيح. وتبع في ذلك إمامه فإنه قال في "الأساليب": هو حديث صحيح لا يتطرق احتمال إلى متنه ولا ضعف إلى سنده. وفي هذا نظر، والحق أن فيها ما تنتهض به الحجة باعتبار مجموع الطرق، فإن مجالدًا (5) وإن كان ضعيفًا فمتابعته بما رواه أحمد متابعة قوية، وكذا بما رواه الحاكم (6) عن عطية عن أبي سعيد، وعطية (7) وإن كان لين الحديث فهو معتبر في المتابعة، وأما أبو الودّاك فلم يصرح أحد (ب) بضعفه، وقد احتج به مسلم، وقال يحيى بن معين: ثقة (8). ووثقه الذهبي في "الكاشف"(9)، واسمه جبر بن نوف البكالي. ومن هذا الوجه صححه ابن

(أ) زاد في ب، جـ: ابن.

(ب) في جـ: أحمد.

_________

(1)

أبو داود 3/ 103 ح 2827.

(2)

الدارقطني 4/ 273 ح 28.

(3)

الأحكام الوسطى 4/ 135، 136.

(4)

الإحياء 2/ 852.

(5)

تقدمت ترجمته في 2/ 369.

(6)

الحاكم 4/ 114.

(7)

تقدمت ترجمته في 4/ 251.

(8)

تاريخ ابن معين 1/ 88 ح 221.

(9)

الكاشف 1/ 124.

ص: 380

حبان وابن دقيق العيد. وفي الباب عن جابر وأبي أمامة وأبي الدرداء وأبي هريرة (1). قاله الترمذي (2). وفيه أيضًا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي أيوب والبراء بن عازب وابن عمر وابن عباس وكعب بن مالك (3)، وطوقها ضعيفة، وضعفها يَنجبر بتعدد الطرق.

والحديث فيه دلالة على أن الجنين إذا خرج ميتًا من بطن أمه بعد ذبحها حل أكله وكانت ذكاته حاصلة بذكاة أمه، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأبو يوسف ومحمد والثوري؛ وذلك لأن هذا الحديث صريح في ذلك، فإن الحديث لفظه قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البقرة أو الناقة أو الشاة ينحرها أحدنا فيجد في بطها جنينًا أيأكله أم يُلقيه؟ فقال: "كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه". وقد جاء في بعض روايات البيهقي (4): "في ذكاة أمه". وفي رواية له (4): "بذكاة أمه". والمراد من هذا أنها حاصلة بسبب ذكاة أمه، فإن الباء للسببية، وكذلك "في" قد تستعمل للسببية وإن كانت للظرفية، فالمعنى: كائنة في ذكاة أمه، والمعنى واحد، واشترط مالك أن يكون قد

(1) حديث جابر عند الدارمي 2/ 841، وأبي داود 3/ 103 ح 2828. وحديث أبي أمامة وأبي الدرداء عند البزار 2/ 70 ح 70 - كشف، والطبراني في الكبير 8/ 121، 122 ح 7498.

وحديث أبي هريرة عند الدارقطني 4/ 274 ح 32، والحاكم 4/ 114.

(2)

الترمذي 4/ 60 عقب ح 1476.

(3)

حديث علي وابن مسعود عند الدارقطني 4/ 274، 275 ح 31، 33، وحديث أبي أيوب عند الطبراني 4/ 192 ح 4010، والحاكم 4/ 114، 115. وحديث البراء بن عازب ذكره البيهقي 9/ 335. وحديث ابن عباس عند الدارقطني 4/ 275 ح 33، والبيهقي 9/ 336. وحديث ابن عمر وكعب بن مالك سيأتي في الصفحة التالية.

(4)

البيهقي 9/ 335، 336.

ص: 381

أشعر؛ وذلك لما ورد في حديث ابن عمر، رواه أحمد بن عصام عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا:"إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه". قال الخطيب (1): تفرد به أحمد بن عصام (2) وهو ضعيف. وهو في "الموطأ"(3) موقوف على ابن عمر وهو أصح، ولفظه: إذا نحرت الناقة فذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره، فإذا خرج من بطن أمه حيًّا ذبح حتى يخرج الدم من جوفه. وروي من طرق عن ابن عمر، (أوروي عن جماعة من الصحابة، وروى معمر عن الزهري عن كعب بن مالك أ) قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه (4). ويتأيد بالقياس، فإن الذكاة إنما هي فيما له حياة، والحياة لا تكون في الجنين إلّا إذا نبت شعره وتم خلقه. وأجيب عن اشتراط نبات الشعر بالمعارضة بما تقدم من إطلاق الأحاديث التي مرت، وبما رواه ابن المبارك عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذكاة الجنين ذكاة أمه، أشعر أولم يشعر". وفيه ضعف؛ لأن ابن أبي ليلى سيئ الحفظ (5)، ذكر هذا الحديث في "نهاية المجتهد"(6) لابن رشد المالكي. وأخرج البيهقي (7) من حديث ابن

(أ- أ) مضروب عليها في: جـ.

_________

(1)

الخطيب في الرواة عن مالك -كما في التلخيص الحبير 4/ 157.

(2)

أحمد بن عصام الموصلي، ضعفه الدارقطني. ميزان الاعتدال 1/ 119، ولسان الميزان 1/ 220.

(3)

الموطأ 2/ 490 ح 8.

(4)

ذكره ابن عبد البر في الاستذكار 15/ 253.

(5)

تقدمت ترجمته في 1/ 162.

(6)

الهداية في تخريج أحاديث البداية 6/ 217، 226.

(7)

البيهقي 9/ 335، 336.

ص: 382

المبارك عن مجاهد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الجنين:"ذكاته ذكاة أمه، أشعر أو لم يشعر". وروي من أوجه عن ابن عمر مرفوعًا. قال البيهقي: ورفعه عنه ضعيف، والصحيح أنه موقوف. والقياس معارض بأن الجنين جزء من أمه فلا معنى لاشتراط الحياة فيه. وذهب العترة وأبو حنيفة والحسن بن زياد إلى أن الجنين إذا خرج ميتا من المذكاة، صيدًا كان أو غيره، فإنه يكون ميتة. قالوا: لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (1). ولو خرج حيّا ثم مات. وإليه ذهب [أبو](أ) محمد بن حزم (2). قال الإمام المهدي في "البحر": والحديث متأول بأن المراد ذكاة الجنين كذكاة أمه إن خرج حيًّا. انتهى. وقد يجاب عنه بأن الحديث روي بالرفع على أن قوله: "ذكاة أمه". مبتدأ مؤخر، و:"ذكاة الجنين". خبر مقدم، كقوله (3):

* بنونا بنو أبنائنا

*

وهو يحتمل أن يكون المعنى: ذكاة أم الجنين هي ذكاة للجنين. وهذا

(أ) ساقطة من: ب، جـ.

_________

(1)

الآية 3 من سورة المائدة.

(2)

ينظر المحلى 8/ 120.

(3)

والبيت بتمامه:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا .... بنوهن أبناء الرجال الأباعد

قال البغدادي: وهذا البيت لا يعرف قائله مع شهرته في كتب النحاة وغيرهم. قال العيني: وهذا البيت استشهد به النحاة على جواز تقديم الخبر

ولم أر أحدّا منهم عزاه إلى قائله. قال البغدادي: ورأيت في شرح الكرماني في شواهد الكافية للخبيصي أنه قال: هذا البيت قائله أبو فراس همام الفرزدق بن غالب ثم ترجمه. والله أعلم بحقيقة الحال. الخزانة 1/ 445.

ص: 383

الذي يدل عليه سياق الحديث، وحديث:"في ذكاة أمه". ورواية الباء، فتكون هذه الرواية مفسرة للمراد، وهذا الذي فهمه الشافعي ومن ذهب إلى قوله. ويحتمل أن يكون المعنى على التشبيه البليغ ويكون في الكلام قلب التشبيه، والمعنى: ذكاة الجنين كذكاة أمه، فيشترط له ذكاة إذا خرج حيًّا، وإن خرج ميتًا كان ميتة، فلا يتم الاحتجاج به، ولكن هذا الاحتمال مرجوح لما عرفت من سياق الحديث. وقد روي بالنصب، فيكون المعنى على التشبيه ونصبه على المصدرية بتقدير مضاف؛ أي مثل ذكاة أمه، والعامل فيه النصب المصدر المبتدأ وخبره محذوف، أي ذكاة الجنين كائنة أو حاصلة مثل ذكاة أمه. وأجيب بأنها غير صحيحة، وإن صحت فهو يحتمل النصب على الظرفية بتقدير ظرف محذوف، والتقدير: ذكاة الجنين حاصلة وقت ذكاة أمه. والله سبحانه أعلم.

فائدة: قال ابن المنذر (1): ولم يرو عن أحد من الصحابة ولا من العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه، إلا ما روي عن أبي حنيفة. انتهى. قلت: وكذلك ما عرفت من مذهب العترة والحسن بن زياد.

1127 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم ثم ليأكل". أخرجه الدارقطني، [وفيه راو في حفظه ضعف](أ)، وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان (2) وهو صدوق ضعيف الحفظ. وأخرجه عبد الرزاق بإسناد

(أ) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من بلوغ المرام ص 305.

_________

(1)

التلخيص الحبير 4/ 158.

(2)

محمد بن يزيد بن سنان الجزري، أبو عبد الله بن أبي فروة الرهاوي، ليس بالقوي. التقريب =

ص: 384

صحيح إلي ابن عباس موقوفًا عليه (1).

وله شاهد عند أبي داود في "مراسيله"(2) بلفظ: "ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله عليها أو لم يذكر". ورجاله موثقون (أ).

وأخرج البيهقي (3) الحديث من طريق أخرى عن ابن عباس فيمن ذبح ونسي التسمية، قال: المسلم فيه اسم الله وإن لم يذكر التسمية. وأخرج أيضًا (4) من طريق أخرى عن ابن عباس قال: إذا ذبح المسلم ونسي أن يذكر اسم الله فليأكل، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله تعالى.

تقدم الكلام في أول الباب على أحكام الحديث.

وقوله في الحديث: "المسلم يكفيه اسمه". الضمير يعود إلى المسلم، يفسره الحديث الأخير، والمعنى أن المسلم في حكم المسمي لما كان اسمه مشتملا على اسم الله سبحانه وتعالى.

(أ) بعده في جـ: تقدم الكلام في أول الباب على أحكام الحديث. وسيأتي في ب بعد قليل.

_________

= ص 513، وينظر تهذيب الكمال 27/ 20.

(1)

الدارقطني، باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك 295، 296 ح 96، وعبد الرزاق، باب التسمية عند الذبح 4/ 479 ح 8538.

(2)

تقدم تخريجه ص 369.

(3)

البيهقي 9/ 239.

(4)

البيهقي 9/ 239، 240.

ص: 385