الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجهاد
الجهاد بكسر الجيم مصدر جهدت جهادًا أي: بلغت المشقة، وهذا معناه لغة، وهو في الشرع: بذل (أ) الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضًا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق؛ فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين [ثم](ب) على العمل بها، ثم على تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب. وأما الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب. قيل: كان فرض عين على المهاجرين. وقال السهيلي (1): كان فرضا على الأنصار دون غيرهم. والمراد في حق الأنصار إذا طرق المدينة عدو، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال عدو ابتداء، وبعد النبي صلى الله عليه وسلم فرض كفاية على الأشهر، ويكفي عند الجمهور فعله في السنة مرة؛ إذ الجزية بدل عنه، وهي في السنة مرة، وأول شرعيته بعد الهجرة على الصحيح.
1048 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق". رواه مسلم (2).
الحديث فيه دلالة على أنه يجب العزم على فعل الواجب، فإن كان الواجب من الواجبات المطلقة كالجهاد وجب العزم على فعله عند إمكان
(أ) زاد بعده في جـ: على. والمثبت من الفتح 6/ 3.
(ب) ساقط من: جـ: والمثبت من الفتح.
_________
(1)
الروض الأنف 7/ 369، وينظر الفتح 6/ 37.
(2)
مسلم، كتاب الإمارة، باب ذم من مات ولم يغز 3/ 1517 ح 1910.
الفعل، فإن كان من الواجبات المؤقتة وجب العزم على الفعل عند دخول الوقت، وقد ذهب إلى هذا جماعة من أهل الأصول.
وقد اختلف العلماء في [المتمكن](أ) من الصلاة في أول وقتها فأخرها بنية أن يفعلها في أثنائه فمات قبل فعلها، أو أخر الحج بعد التمكن إلى سنة أخرى فمات قبل فعله، هل يأثم أو لا؟ والأصح عند الشافعية أنه يأثم في الحج دون الصلاة؛ لأن مدة الصلاة قريبة فلا ينسب إلى تفريط بالتأخير بخلاف الحج. وقيل: يأثم فيهما. وقيل: لا يأثم فيهما. وقيل: يأثم في الحج الشيخ دون الشاب.
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: فنُرَى أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: نُرَى. بضم النون، أي: نظن. وهذا الذي قاله محتمل. وقال غيره: إنه عام. والمراد أن من فعل ذلك فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف، فإن ترك الجهاد أحد شُعَب النفاق.
وفي الحديث دلالة على أن من نوى فعل عبادة، فمات قبل فعلها لا يتوجه عليه من الذم ما يتوجه على من مات ولم ينوها، والله أعلم.
1049 -
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم (1).
(أ) في جـ: التمكن. والمثبت يقتضيه السياق. وينظر شرح مسلم 13/ 56.
_________
(1)
أحمد 2/ 124، والنسائي، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد 6/ 7، والحاكم، كتاب الجهاد 2/ 81.
الحديث فيه دلالة على الأمر بالجهاد بما ذكر، وقد أمر بالجهاد بالنفس والمال في كتاب الله تعالى في مواضع، وهذا فرض كفاية كما عرفت، إلا أن فيما أخرج البخاري (1) عن أبي هريرة أنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة؛ جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها". ما يدل على أن الأمر أمر ندب، والله تعالى أعلم.
1050 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال:"نعم، جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة". رواه ابن ماجه وأصله في البخاري (2).
لفظ البخاري: قالت عائشة رضي الله عنها: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال:"جهادكن الحج". وفي لفظ آخر للبخاري (3): فسأله نساؤه عن الجهاد، فقال:"نِعمَ الجهاد الحج". وروى النسائي (4) عن أبي هريرة بلفظ: "جهاد الكبير -أي العاجز- والضعيف والمرأة الحج والعمرة".
والحديث فيه دلالة على أن المرأة لا يجب عليها الجهاد، وأنه يحصل لهن الثواب الذي يقوم مقام ثواب الرجال في الجهاد؛ الحج والعمرة، وذلك لأن المطلوب منهن التستر والبعد عن الرجال الأجانب، وذلك ينافي ما
(1) البخاري 6/ 11 ح 2790.
(2)
ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء 2/ 968 ح 2901، والبخاري، كتاب الجهاد، باب جهاد النساء 6/ 75 ح 287.
(3)
البخاري 6/ 75، 76 ح 2876.
(4)
النسائي 5/ 113 ح 2625.
يحتاج إليه في الجهاد من البروز والقرب من [القرن](أ) ورفع الصوت والاشتهار، ولذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد، وليس فيه منع لهن عن التطوع بالجهاد؛ ولذلك أردف البخاري (1) هذا بأبواب خروج النساء للغزو وقتالهن وغير ذلك.
وقد أخرج مسلم (2) من حديث أنس أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: اتخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه. فهو يدل على جواز القتال، وإن كان فيه مأخذ بأنها لا تقاتل إلا مدافعة، وليس ذلك من باب الجهاد المشروع للرجال من قصد العدو إلى مصفه، وفي البخاري إيماء إلى أن جهادهن بسقي المقاتلين ومداواة الجرحى ومناولة السهام، ولم يصرح بمقاتلتهن في الأبواب، والله سبحانه أعلم.
1051 -
وعن [عبد الله بن عمرو](جـ) رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال:"أحي والداك؟ " قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد". متفق عليه (3).
ولأحمد وأبي داود (4) من حديث أبي سعيد نحوه، وزاد: "ارجع
(أ) في جـ: لما. والمثبت يقتضيه السياق.
(ب) في جـ: القرب. وينظر سبل السلام 4/ 88.
(جـ) في جـ: عبيد الله بن عمر. والمثبت من مصدري التخريج.
_________
(1)
البخاري 6/ 76، 80.
(2)
مسلم 3/ 1442 ح 1809.
(3)
البخاري، كتاب الجهاد، باب الجهاد بإذن الأبوين 6/ 140 ح 3004، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب بر الوالدين 4/ 1975 ح 2549.
(4)
أحمد 3/ 75، 76، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان 3/ 17 ح 2530.
فاستأذنهما، فإن أذنا لك، وإلا فبرهما".
قوله: جاء رجل. قال المصنف (1) رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون هذا الرجل هو جاهمة بن العباس بن مرداس فقد روى النسائي وأحمد (2) من طريق معاوية بن جاهمة أن أباه جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت الغزو، وجئت لأستشيرك. فقال:"هل لك من أم؟ ". قال: نعم. قال: "الزمها". الحديث.
وقوله: "ففيهما فجاهد". استعمل لفظ الجهاد هنا مشاكلة لما استأذن فيه، والمراد بالمعنى المستعمل فيه هو إتعاب النفس في القيام بمصالحهما وإرغامها في طلب ما يرضيهما، وبذل المال في قضاء حوائجهما بجامع وهو يحمل الكلفة والمشقة فيكون لفظ:"فجاهد" استعارة تبعية، وحسَّن موقعَه المشاكلةُ، ويحتمل أن تكون العلاقة الضدية؛ لأن الجهاد فيه إنزال الضرر بالمجاهد، فاستعمل في إنزال النفع بالوالدين؛ للمشاكلة المذكورة.
والحديث فيه دلالة على أن فرض الجهاد ساقط مع عدم رضا الوالدين، وقد ذكر هذا في "مهذب الشافعي"(أ)(3)، وكذا ذكره النووي في "المنهاج"(4) وذهب إليه الإِمام يحيى والأمير الحسين صاحب "الشفا"،
(أ) كذا في جـ.
_________
(1)
الفتح 6/ 140.
(2)
النسائي 6/ 11، وأحمد 3/ 429.
(3)
المهذب 2/ 229.
(4)
المنهاج 1/ 136.
وظاهر الحديث: وإن لم يتضررا بفقده. وظاهره سواء كان الجهاد فرض عين في حقه أو فرض كفاية، ونسبه المصنف (1) رحمه الله تعالى إلى جمهور العلماء، وقال: إنه يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن. وذهب بعض الهدوية أنه لا يسقط عنه إلا إذا تضرر الوالدان، وكان كفاية، لا إذا تعين عليه فهو فرض عين، وبر الوالدين كذلك فيتعارضان، ولعلهم يتفقون على تقديم الجهاد؛ لأن مصلحته لحفظ الدين، وهو مقدم على حفظ مصلحة البدن، ولعله يكون هذا من باب التخصيص بالمعنى المعتبر المناسب.
وقد أخرج ابن حبان (2) من طريق أخرى عن عبد الله بن [عمرو](أ): جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال، قال:"الصلاة"، ثم قال: مه؟ قال: "الجهاد". فقال: إن لي والدين. فقال: "آمرك بوالديك خيرًا". فقال: والذي بعثك نبيًّا لأجاهدن ولأتركنهما. قال: "فأنت أعلم". وهذا متمسك لما ذهب إليه بعض الهدوية، ويحتمل أن يكون هذا في الجهاد المتعين على المذكور جمعًا بين الدليلين، ولا فرق لين أن يكون الولد حرًّا أو رقيقا؛ لوجوب البر في حق الجميع، ولو أذن السيد للعبد لم يكف، ويقاس على الجهاد خروج الولد لتعلم العلم أو نحوه من الواجبات، ويفترق الحال بين كونه فرض عين أو فرض كفاية على الخلاف الذي مر.
(أ) في جـ: عمر. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
الفتح 6/ 140.
(2)
ابن حبان 5/ 8 ح 1722.
والحديث فيه دلالة أيضًا على فضل بر الوالدين، وتعظيم حقهما، وكثرة الثواب على برهما، وأن برهما قد يكون أفضل من الجهاد، والمستشار يشير بالنصيحة المحضة، وأنه ينبغي للمكلف أن يستفصل عن الأفضل في أعمال الطاعة ليعمل به؛ لأنه لما سمع فضل الجهاد فبادر إليه، ثم لم يقنع حتى يستأذن فيه، فدُل على ما هو أفضل منه في حقه، [ولولا](أ) السؤال ما حصل له العلم بذلك.
وحديث أبي سعيد صححه ابن حبان (1).
1052 -
وعن جرير البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين". رواه الثلاثة، وإسناده صحيح (2)، ورجح البخاري إرساله (3).
الحديث رجح أيضًا أبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم (4)، ورواه الطبراني موصولًا (5).
(أ) في جـ: لولا. والمثبت من الفتح 6/ 140.
_________
(1)
ابن حبان 2/ 165 ح 422.
(2)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود 3/ 46 ح 2645، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين 4/ 132، 133 ح 1604، والنسائي، كتاب القسامة، باب القود بغير حديدة 8/ 36 من حديث قيس مرسلًا.
(3)
علل الترمذي الكبير ص 264.
(4)
علل ابن أبي حاتم 1/ 314، وأبو داود 3/ 46 عقب ح 2645، والترمذي 4/ 133 عقب ح 1604، وفي العلل الكبير ص 264، وعلل الدارقطني 4/ 88 - مخطوط. وينظر التلخيص الحبير 4/ 119.
(5)
الطبراني 2/ 342 ح 2261، 2262.
الحديث فيه دلالة على وجوب الهجرة من دار المشركين.
1053 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية". متفق عليه (1).
قوله: "لا هجرة". أي من مكة، "بعد الفتح". أي فتح مكة. والحديث يدل بمفهومه على أن الهجرة قبل الفتح كانت ثابتة مشروعة، وأنه لم يبق لها ذلك الحكم لمن هاجر بعد الفتح، والهجرة من مكة إلى المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أجمعت الأمة على وجوبها، حتى قال البغوي والواحدي: إنها شرط في الإِسلام. وذلك لقلة المسلمين بالمدينة واحتياجهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله سبحانه مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقى فرض الجهاد والنية.
واختلف العلماء في الهجرة من غير مكة؛ فقال أبو عبيد (2): لا تجب الهجرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من أسلم من العرب بالمهاجرة إليه ولم ينكر عليهم مقامهم ببلدهم، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال لأميرهم: "إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال -أو: ثلاث خلال- فأيتهن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك، أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجرى عليهم حكم الله الذي
(1) البخاري، كتاب الجهاد، باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية 6/ 37 ح 2825، ومسلم، كتاب الإجارة، باب المبايعة بعد فتح مكة 3/ 1487 ح 1353.
(2)
الأموال ص 279.
يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم من الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين". وسيأتي الحديث (1). وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} (2). الآية، فلم يسلب عنهم الإيمان بعدم المهاجرة.
وذهب الجمهور إلى وجوبها لحديث جرير المذكور آنفا، وأخرج النسائي (3) من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا:"لا يقبل الله من مشرك عملًا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين". وعموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (4). وقد أرسل بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
وأجاب من لم يوجب الهجرة بأن حديث: "لا هجرة بعد الفتح". عام ناسخ لما سبقه وإن كان فيه احتمال أنه لا هجرة من مكة، وبأن هذه الأحاديث في حق من لم يأمن على دينه، وأما من أمن على دينه وأمكنه استكمال الواجبات، فهو خارج من ذلك، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، ويكون الحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم هكذا؛ وهو أن من لم يمكنه استكمال ما يجب عليه من دينه تجب عليه المهاجرة إلى دار يمكنه الاستكمال فيها، ومن أمكنه الاستكمال لا تجب عليه الهجرة، وقد ذهب إلى هذا أيضًا الهادي والقاسم والإمام يحيى.
وقال الجمهور: إن الهجرة من دار الفسق التي تظهر فيها المعاصي
(1) سيأتي ح 1057.
(2)
الآية 72 من سورة الأنفال.
(3)
النسائي 5/ 83.
(4)
الآية 97 من سورة النساء.
تستحب ولا تجب، إلا أن يغلب على رزقها الحرام، وجب الخروج لطلب الحلال؛ فإن طلب الحلال فريضة. واختار الإِمام المهدي واستقر به لمذهب الهدوية (1) أنها تجب الهجرة عن دار الكفر وعن دار الفسق إلى خلي عما هاجر لأجله، أو ما فيه دونه، بنفسه وأهله إلا لمصلحة أو عذر. واحتج بما تقدم من الحديث، وقد حكي وجوب الهجرة عن دار الفسق للقاسم وأسباطه، وذكره المؤيد بالله، قال: وهو الظاهر من مذهب أهل البيت. وقال أكثر المعتزلة وأكثر الفقهاء وحكاه في "الكافي" عن السادة أنها لا تجب الهجرة عن دار الفسق. ودليل من أوجب من دار الفسق القياس على دار الكفر بجامع ظهور المعاصي فيهما، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل". أخرجه (أ). ويجاب بمعارضة الأحاديث التي مرت، والله أعلم.
وقوله: "ولكن جهاد ونية". قال الطيبي وغيره (2): هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى: أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة [على](ب) الأعيان إلى المدينة أنقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن، والنية في
(أ) بعده بياض في جـ بمقدار كلمتين. والحديث لم نجده فيما بين أيدينا من مراجع.
(ب) في جـ: من. والمثبت من الفتح 6/ 39.
_________
(1)
السيل الجرار 4/ 546 - 548.
(2)
الفتح 6/ 39.
جميع ذلك. وقال النووي (1): المعنى: أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة. و"جهاد" معطوف بالرفع على محل اسم لا.
وقال ابن العربي (2): الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإِسلام، وكانت فرضًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت بالأصالة هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان.
فائدة: قال ابن أبي جمرة (2): إن الحديث يمكن تنزيله على مراتب أحوال المسالك، فإنه أولًا يؤمر بأن يهجر مألوفاته حتى يحصل له الفتح، فإذا حصل أمر بالجهاد، وهو مجاهدة النفس والشيطان مع النية الصالحة في ذلك.
1054 -
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". متفق عليه (3).
الحديث أخرجه البخاري (4) في باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره
(1) شرح مسلم 13/ 8.
(2)
فتح الباري 6/ 39.
(3)
البخاري، كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا 6/ 27، 28 ح 2810، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا 3/ 1512 ح 1904.
(4)
البخاري 6/ 226 ح 3126.
من حديث أبي موسى: قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليرى مكانه، من في سبيل الله؟ فقال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". وأخرجه أيضًا في باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. وهذا الأعرابي السائل، يمكن أن يفسر بلاحق بن [ضميرة](أ) الباهلي، فإنه ذكر حديثه أبو موسى [المديني] في "الصحابة" من طريق عفير بن معدان: سمعت لاحق بن [ضميرة](أ) الباهلي، قال: وفدت على النبي كيم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر؟ فقال: "لا شيء له". الحديث، وفي إسناده ضعف، وقد أخرجه الطبراني (1) من وجه آخر عن أبي موسى، أنه قال: يا رسول الله. فذكره. ويبعد أن أبا موسى أبهم نفسه وعبر عنها بلفظ: أعرابي. فلعل ما وقع في "الطبراني" وهم.
والحديث فيه دلالة على أن حصول الأجر لا يكون إلا لمن قاتل لهذه الفضيلة، يدل عليه الجواب بالشرط والجزاء، ومفهوم الشرط أن من خلا عن هذه الخصلة فليس في سبيل الله كما هو المعتبر من مفهوم المخالفة، ولكن يبقى الكلام إذا ضم إليها قصد غيرها، وهو المغنم مثلًا، هل هو في سبيل الله أو لا؟ والحديث يحتمل أنه لا يخرج عن كونه في سببل الله مع التشريك، لأنه قد قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويتأيد بقوله تعالى: {لَيْسَ
(أ) في جـ: ضمرة. والمثبت من الفتح 6/ 28، وينظر الإصابة 5/ 671.
(جـ) في جـ: المدائني. والمثبت من الفتح 6/ 28. وينظر سير أعلام النبلاء 21/ 152.
_________
(1)
الطبراني -كما في الفتح 6/ 28.
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (1). فإن ذلك لا ينافي فضيلة الحج فكذلك غيره، وكذلك ما أخرجه أبو داود (2) بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنم شيئًا، فقال: "اللهم لا تكلهم إلى
…
" الحديث. وقال [الطبري] (أ): إنه إذا كان أصل المقصد إعلاء كلمة الله تعالى لم يضر ما حصل من غيره ضمنا. وبذلك قال الجمهور، فالحاصل أنه ينظر إلى أصل الباعث، فإن كان الباعث هو إعلاء لكلمة الله كان في سبيل الله وإن انضم إليه غيره، وإن كان الباعث غيره لم يكن في سبيل الله وإن حصل، وبقي الكلام إذا استوى قصدهما، وظاهر الحديث والآية أن ذلك لا يضر، ولكن يعارضه ما رواه أبو داود والنسائي (3) من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ قال: "لا شيء له". فأعادها ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا شيء له". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتغى به وجهه". وقال ابن أبي جمرة (4): ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه. انتهى.
(أ) في جـ: الطبراني. والمثبت من الفتح 6/ 28.
_________
(1)
الآية 198 من سورة البقرة.
(2)
أبو داود 3/ 19 ح 2535.
(3)
النسائي 6/ 25. والحديث عزاه الحافظ في الفتح 6/ 28 لأبي داود، وليس هو في السنن، وينظر تحفة الأشراف 4/ 168 ح 4881.
(4)
الفتح 6/ 29.
وجوابه صلى الله عليه وسلم على السائل بقوله: "من قاتل
…
" إلخ، باللفظ الجامع دون تعيين حد المسئول عنه؛ إحالة للسامع على الاجتهاد وإعمال الروية في تعيين ما هو في سبيل الله، فيكون ادعي في تحري إخلاص المقصد وتحرير النية الصالحة مع ما قد تقرر في الأذهان أن الأعمال بالنيات. وفي ترديد النظر في الأقسام المحتملة زيادة عمل؛ [لرجاء] (؟) إدراك الفضيلة، وقال المصنف (1) رحمه الله تعالى: إنما أجاب بذلك لأنه لو أجابه بأن جميع ما سأله عنه ليس في سبيل الله، احتمل أن يكون ما عدا ذلك في سبيل الله، وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع، عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل، فتضمن الجواب وزيادة. ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: "فهو". راجعًا إلى القتال الذي في ضمن "قاتل"، أي: قتاله قتال في سبيل الله. وقال ابن بطال (2): إنما عدل النبي صلى الله عليه وسلم إلى لفظ جامع فأفاد دفع الالتباس، وزيادة الإفهام. انتهى.
وقد اشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه، وطلب ثوابه، وطلب دحض أعدائه، فكلها متلازمة، ويتلخص مما ذكر في الحديث أن القتال منشؤه القوة العقلية، والقوة الغضبية، والقوة الشهوانية، ولا يكون في سبيل الله إلا الأول، فإنه قد ذكر في الرواية الأولى القتال للذكر، وهو السمعة، والقتال للرياء، ومرجعهما إلى القوة الشهوانية، وقد جاء في رواية منصور (3)
(أ) في جـ: الرَّجاء. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
الفتح 6/ 29.
(2)
شرح البخاري لابن بطال 1/ 203.
(3)
البخاري 1/ 222 ح 123، ومسلم 3/ 1513 ح 1904/ 150.
والأعمش (1) زيادة: ويقاتل حمية. أي لمن يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب، وفي رواية منصور أيضًا زيادة: ويقاتل غضبًا. أي لأجل حظ نفسه، ومرجعهما إلى القوة الغضبية. والله أعلم.
1055 -
وعن عبد الله بن السعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو". رواه النسائي وصححه ابن حبان (2).
هو أبو محمَّد عبد الله بن السعدي، والسعدي مختلف في اسمه، فقيل: هو قدامة -بضم القاف وتخفيف الدال المهملة- وقيل: عمرو. وقيل: [عبد الله](أ) بن وقدان -بفتح الواو وسكون القاف وبالدال المهملة والنون- المالكي. وإنما قيل له: السعدي. لأنه كان مسترضعا في بني سعد بن بكر، وإنما قيل له: المالكي؛ لأنه نسب إلى جده مالك بن حسل -بكسر الحاء المهملة وسكون السين وباللام- له صحبة ورواية، وروى عن عمر بن الخطاب، وروى عنه حويطب بن عبد العزي، وأبو إدريس الخولاني، وعبد الله بن محيريز، وقد اختلف عليه في ذكر حديثه، فأخرجه الحميدي في "الجمع بين الصحيحين": عبد الله بن السعدي، وفي رواية أخرى: عن ابن السعدي المالكي. وأخرجه أبو داود (3): عن ابن الساعدي.
(أ) في جـ: عبيد. والمثبت من الفتح 13/ 151. وينظر الإصابة 4/ 113، وتهذيب الكمال 15/ 25.
_________
(1)
مسلم 3/ 1513 ح 1904/ 151.
(2)
النسائي، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة 7/ 147، وابن حبان، كتاب السير، باب الهجرة 11/ 207 ح 4866.
(3)
أبو داود 3/ 134 ح 2944.
وأخرجه النسائي (1) في موضع: عن ابن الساعدي المالكي، وفي موضع آخر (2) مثل الحميدي، سكن عبد الله الأردن ومات بالشام سنة سبع وخمسين.
والحديث أخرجه أيضًا البغوي وابن السكن، وأخرج أبو داود (3) عن معاوية مرفوعًا:"لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".
وفي الحديث دلالة على أن حكم الهجرة بأن إلى يوم القيامة، فإن قتال العدو مستمر، ولكنه لا يدل على وجوبها، والظاهر أن فضيلة الهجرة وثوابها مجمع عليه، وأما الوجوب ففيه ما تقدم من الخلاف.
1056 -
وعن نافع قال: أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بني المصطلق وهم غارُّون، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، حدثني بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنه. متفق عليه (4).
هو أبو عبد الله نافع بن سرجس -بفتح السين المهملة الأولى وسكون الراء وكسر [الجيم](أ) - مولى عبد الله بن عمر، كان ديلميا، من كبار التابعين المدنيين، سمع ابن عمر وأبا سعيد الخدري، وروى عنه الزهريّ،
(أ) ساقط من: جـ. والمثبت من سبل السلام 4/ 94.
_________
(1)
النسائي 5/ 102، 103.
(2)
النسائي 7/ 147.
(3)
أبو داود 3/ 3 ح 2479.
(4)
البخاري، كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع وجامع وفدى وسبق الذرية 5/ 170 ح 2541، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإِسلام 3/ 1356 ح 1730.
وأيوب السختياني، وعبيد الله بن عمر بن حفص، وعاصم بن عمر بن الخطاب، ومالك بن أنس، وهو من المشهورين بالحديث ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم ويجمع حديثهم ويعمل به، ومعظم حديث ابن عمر عليه، قال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر لا أبالي ألا أسمعه من أحد. مات سنة سبع عشرة [ومائة](أ)، وقيل: سنة عشرين.
قوله: علي بن المصطلق. المصطلق -بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف- وهم بطن شهير من خزاعة، وهو المصطلق بن سعد بن عمرو بن ربيعة، يقال: إن المصطلق [لقب](5)، واسمه جَذِيمة بفتح الجيم بعدها ذال معجمة مكسورة.
وقوله: وهم غارون -بالغين المعجمة وتشديد الراء- جمع غار بالتشديد، أي: غافلون، أي: أخذهم على غرة.
والحديث فيه دلالة على جواز المقاتلة قبل الدعاء إلى الإِسلام في حق الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار. وفي المسألة ثلاثة مذاهب حكاها المازري والقاضي أبو بكر بن العربي (1)؛ أحدها: أنه يجب الإنذار مطلقًا. قاله مالك وغيره، والحديث هذا يرد عليه.
والثاني: لا يجب مطلقا. وورد عليه حديث بريدة الآتي بعد هذا، أخرجه مسلم، وفيه: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث
(أ) ساقط من: جـ. والمثبت من سبل السلام 4/ 94.
(ب) في جـ: لقبه. والمثبت من الفتح 5/ 171.
_________
(1)
شرح مسلم 12/ 36.
خصال أو خلال، فأيتهن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإِسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم". فإن قوله:"ثم ادعهم إلى الإِسلام". يدل على وجوب الدعاء.
والثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة، ولا يجب إن بلغتهم، لكن يستحب، وهذا هو الصحيح، وبه يحصل التوفيق بين الأدلة، وبه قال نافع مولى ابن عمر، والحسن البصري، والثوري، والليث، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر، والجمهور، قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، فمنها هذا الحديث، وحديث قتل كعب بن الأشرف (1)، وقتل ابن أبي الحقيق (2) وغير ذلك. وادعى الإِمام المهدي في "البحر" الإجماع على وجوب دعوة من لم تبلغه دعوة الإِسلام.
وقوله: سبى ذراريهم. دلالة على جواز استرقاق العرب؛ لأن بني المصطلق عرب من خزاعة، وقد ذهب إليه جمهور العلماء وقول الشافعي في الجديد، وقال به مالك وجمهور أصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي، وذهب جماعة من العلماء، منهم سعيد بن المسيب والزهري والشعبي، ورواية عن عمر لحديث معاذ مرفوعًا يوم حنين:"لو كان الاسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم، إنما هو أسر أو فداء". وضعفه البيهقي بالواقدي (3)، ورواه
(1) أخرجه البخاري 5/ 142 ح 2510، ومسلم 3/ 1425، 1426 ح 1801.
(2)
أخرجه البخاري 7/ 340، 341 ح 4038 - 4040.
(3)
البيهقي 9/ 73، 74.
الطبراني (1) من طريق أخرى، وفيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي - إلى أنهم لا يسترقون، وهو قول الشافعي في القديم. وذهب الهدوية إلى جواز استرقاق العربي الكتابي، ولا يسترق غير الكتابي، وأما ذراري العرب فيسترقون مطلقا. واختلفوا هل يثبت بعد البلوغ استرقاقهم ولو كانوا غير كتابيين، أو ذلك لا يثبت إلا في الكتابيين؟ والله سبحانه أعلم.
1057 -
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك إليها فأقبل منهم وكف عنهم؛ ادعهم إلى الإِسلام، فإن أجابوك فأقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك؛ فإنكم أن تخفروا ذمتكم أهون من [أن](أ) تخفروا ذمة الله، وإن
(أ) ساقط من: جـ: والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
الطبراني 20/ 168 ح 355.
أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل، بل على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا". أخرجه مسلم (1).
قوله: على جيش. الجيش الجند، أو السائرون إلى الحرب، أو غيره، والسرية قطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه. قال إبراهيم الحربي (2): هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها، قالوا: سميت سرية لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها، وهي فعيلة بمعنى فاعلة، يقال: سري وأسرى، إذا ذهب ليلًا. والغلول بضم الغين المعجمة: الخيانة مطلقًا، أو خاص بالمغنم، يقال: أغل وغل غلولًا، والغدر مصدر غدر، وهو ضد الوفاء، ومضارعه يغدر بالضم والكسر، والوليد الصبي.
وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان، وتحريم المثلة، وفيه استحباب وصية الإِمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله، والرفق بمن معه من المسلمين، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم، وما يجب عليهم، وما يحل لهم، وما يكره، وما يستحب.
وقوله: "ادعهم إلى الإِسلام". هو بيان لقوله "ثلاث خصال". وقد وقع في نسخ "مسلم" جميعها "ثم ادعهم" بزيادة "ثم" قال القاضي عياض (3): الصواب إسقاط "ثم". وقد جاء إسقاطها في كتاب أبي عبيد وفي
(1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الأمراء على البعوث ووصيته إيَّاهم بآداب الغزو وغيرها 3/ 1357 ح 1731.
(2)
شرح مسلم 12/ 37.
(3)
شرح مسلم 12/ 38.
"سنن أبي داود" وغيرهما (1)، لأنه تفسير للخصال الثلاث، وقال المازري (2): ليست ["ثم" هنا زائدة، بل](أ) دخلت لاستفتاح الكلام. وفيه دلالة على وجوب الدعاء إلى الإسلام. وقد تقدم الكلام عليه في الحديث الذي قبله.
وقوله: "ثم ادعهم إلى التحول
…
" إلى آخره. فيه دلالة على أنه يندب الهجرة من البادية التي لا يكون فيها من يعلم شرائع الدين، ولا يجب ذلك، وفيه دلالة على أن الفيء والغنيمة لا يستحقها إلا المهاجرون، وأن الأعراب لا حق لهم فيها، وأن حقهم في سهم الفقراء والمساكين من الزكاة، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وقال: لا يعطى أهل الفيء من الزكاة، ولا أهل الزكاة من الفيء. وقال مالك وأبو حنيفة وهو مذهب الهدوية: إن المالين على سواء، ويجوز صرف كل واحد منهما في مصرف الآخر. وقال أبو عبيد (3): هذا الحديث منسوخ، قال: وإنما كان هذا الحكم في أول الإسلام لمن لم يهاجر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (4). وهذا الذي ادعاه من النسخ لا يسلم له.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فسلهم الجزية
…
" إلى آخره. والحديث فيه دلالة على أن الجزية تقبل من كل كافر سواء كان عربيًّا أو عجميًّا، كتابيًّا أو غير كتابي؛ لعموم قوله: "عدوك". وقد ذهب إلى هذا مالك والأوزاعي وغيرهما،
(أ) في جـ: إن لم. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
أبو عبيد في الأموال ص 32، 33 ح 60، وأبو داود 3/ 37، 38 ح 2612، وأحمد 5/ 352.
(2)
شرح مسلم 12/ 38.
(3)
الأموال ص 277.
(4)
الآية 75 من سورة الأنفال.
وذهب الشافعي إلى أنها لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس عربا كانوا أو عجمًا، وذلك لقوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1). بعد ذكر أهل الكتاب، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب"(2). وما عداهم فداخلون في عموم قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (3). وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (4). والحديث وارد قبل الفتح بدليل الأمر بالتحول والهجرة، والعموم في الآيات بعد الهجرة، فيكون الحديث عمومه منسوخًا، أو يتأول أن:"عدوك". يراد به من كان من أهل الكتاب، وهم يسمون مشركين، وذهب العترة وأبو حنيفة إلى أن الجزية لا تقبل من العربي غير الكتابي؛ لعموم قوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} . وتقبل من الكتابي ومن العجمي وإن كان غير كتابي، قال في "البحر": لأنه أمر تعالى بالقتل ولم يذكر الجزية. ولا يخفى ضعف الاحتجاج.
وقوله: "ذمة الله و (أ) ذمة نبيه". الذمة هي عقد الصلح والمهادنة، وهذا نهي تنزيه لا تحريم، والظاهر أن ذلك إجماع، وإنما وقع النهي لأنه ينقض الذمة من لا يعرف حقها، وينتهك حرمتها بعض من لا يعرف التحريم وسواد الجيش، وإلا فنقض الذمة محرمة على كل حال، سواء كانت
(أ) زاد بعده في جـ: لا.
_________
(1)
الآية 29 من سورة التوبة.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 278، وعبد الرزاق 6/ 69، 10/ 325 ح 10025، 19253، وابن أبي شيبة 3/ 224، 12/ 243، 244 من حديث عبد الرحمن بن عوف.
(3)
الآية 193 من سورة البقرة.
(4)
الآية 5 من سورة التوبة.
معقودة على ذمة الله أو على ذمة المسلمين.
وقوله: "أن تخفروا". بضم التاء، من أخفر، تقول: أخفرت الرجل. إذا نقضت عهده، وخفرته بمعنى أمنته وحميته، فالهمزة للسلب، كقولك: أعجمت الكتاب. أي: أزلت عجمته، وخفرته أي: أمنته.
وقوله: "فلا تنزلهم على حكم الله
…
" إلى آخره. هذا النهي أيضًا محمول على التنزيه والاحتياط، وفيه حجة لمن يقول: الحق مع واحد، وليس كل مجتهد مصيبا؛ لأنه لو كان الحق ما أدى إليه الاجتهاد لكان ذلك حكم الله تعالى؛ لأنه لا مراد لله سبحانه وتعالى معين، بل مراد الله تعالى تابع لما أدى إليه نظر المجتهد. وقد يجاب عنه بأن الحديث [مبني](أ) على الاحتياط، وذلك لأن المجتهد عند من يقول: إن الحق غير معين. قد لا يوفي الاجتهاد حقه، فلا يكون صوابًا على كل تقدير موافقًا لحكم الله، ولذلك حمل على التنزيه، أو يقال بأن ذلك إنما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يأمن أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وحي ناسخ لما قد كان عَلِمه قبل، فيكون منه الحكم بناء على بقاء حكم المنسوخ، وأما بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا المعنى قد انتفى. والأول أولى، والله أعلم.
1058 -
وعن كعب بن مالك رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها. متفق عليه (1).
(أ) في جـ: مبين. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
البخاري، كتاب الجهاد، باب من أراد غزوة فورى بغيرها 6/ 112، 113 ح 2947، ومسلم، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه 4/ 2128 ح 54/ 2769.
وفي لفظٍ للبخاري (1): قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل غزو عدو كثير، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم. الحديث.
وقوله: ورَّى. أي سترها وأظهر غيرها، قال في "الضياء": ورَّى الأمر، أخفاه وأظهر غيره، ومنه الحديث. وكذا في "القاموس"(2)، وقيل: هو في الحرب أخذ العدو على غرة. وقيَّده السيرافي (3) في "شرح سيبويه" بالهمز، قال: وأصحاب الحديث لم يضبطوا فيه الهمز، فكأنهم سهلوها. وذكره في "القاموس" في باب الياء، وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي للإنسان ألا يُظهر ما يريد أن يفعله في المستقبل. وهو مطابق لمعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"استعينوا على أموركم بالكتمان"(4).
1059 -
وعن معقل أن النعمان بن مقرن قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس،
(1) البخاري 6/ 113 ح 2948.
(2)
القاموس المحيط (ور ى).
(3)
هو أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، إمام في النحو، ولي القضاء ببغداد، وله من التصانيف "الإقناع" في النحو و"القطع والوصل"، مات سنة 368 هـ. ينظر تاريخ العلماء النحويين ص 18، وسير أعلام النبلاء 16/ 247.
(4)
أخرجه الروياني 2/ 427 ح 1449، والطبراني 20/ 94 ح 183 بلفظ:"استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود". وعند الروياني بلفظ: "قضاء الحوائج".
وينظر مجمع الزوائد 8/ 195.
وتهب الرياح، وينزل النصر. رواه أحمد والثلاثة، وصححه الحاكم، وأصله في البخاري (1).
هو معقل بن مقرن (2) المزني، أخو النعمان بن مقرن، يكنى أبا عمارة، وكانوا سبعة إخوة كلهم [هاجر وصحب](أ) النبي صلى الله عليه وسلم وليس [ذلك](ب) لأحد من العرب سواهم، كذا قاله محمد بن عبد الله بن نمير، وذكر الواقدي أن الصحابة منهم خمسة والله أعلم (جـ)(3).
الحديث أخرجه البخاري من حديث النعمان بن مقرن في باب الجزية بلفظ: إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات. والحكمة في التأخير أن أوقات الصلاة مظنة إجابة الدعاء، وهبوب الريح قد
(أ) في جـ: هاجروا وصحبت. والمثبت من أسد الغابة 5/ 231.
(ب) ساقط من: جـ. والمثبت من أسد الغابة 5/ 231.
(جـ) بعده في جـ بياض بقدر خمس كلمات وكتب عليه: كذا.
_________
(1)
أحمد 5/ 444، 445، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في أي وقت يستحب اللقاء 3/ 50 ح 2655، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال 4/ 137 ح 1613، والنسائي في الكبرى، كتاب السير، باب الوقت الذي يستحب فيه لقاء العدو 5/ 191 ح 8637، والحاكم، كتاب الجهاد 6/ 112، والبخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب 6/ 258 ح 3160.
(2)
كذا ذكر المصنف هنا ترجمة معقل بن مقرن أبي عمرة -وليس أبا عمارة- على أنه الراوي عن النعمان بن مقرن، وإنما راوي هذا الحديث عن النعمان هو معقل بن يسار، أبو علي كما جاء في روايات الحديث كلها. وينظر أسد الغابة 5/ 342، 343، والإصابة 6/ 184.
(3)
ينظر الاستيعاب 3/ 1432.
وقع به النصر في الأحزاب فصار مظنة لذلك، وقد جاء هذا المعنى مصرحًا في رواية للترمذي (1) لحديث النعمان، وفيها انقطاع، قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قاتل، فإذا انتضف النهار أمسك حتى تزول الشمس، فإذا زالت قاتل، فإذا دخل وقت العصر أمسك حتى يصليها، ثم يقاتل، وكان يقال: عند ذلك تهيج رياح النصر، ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم. وقد علل بأن الرياح تهب عاليًا بعد الزوال فيحصل [بها](أ) تبريد حدة السلاح [والحرب](ب)، والزيادة في النشاط، والريح جاء جمعها على أرواح؛ لأن الياء في ريح أصلها الواو، وإنما قلبت ياء لكسر ما قبلها، فجاء الجمع على الأصل لعدم المقتضي لقلبها ياء فيه، وقد حكى ابن جني جمعها على أرياح حملًا للجمع على المفرد، وجمعت على رياح، ومقتضى القلب باق، ولا يعارض هذا ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير صباحًا؛ لأن هذا في الإغارة، وذلك عند المصافة للقتال.
1060 -
وعن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين، يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال:"هم منهم". متفق عليه (2).
(أ) في جـ: لها. والمثبت من الفتح 6/ 120.
(ب) في جـ: والخوف. والمثبت من الفتح 6/ 120.
_________
(1)
الترمذي 4/ 136، 137 ح 1612.
(2)
البخاري، كتاب الجهاد، باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري 6/ 146 ح 3012، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتل النساء والصبيان من غير تعمد 3/ 1364 =
قوله: سئل عن الدار. هكذا في مسلم، وفي بعض نسخ مسلم: عن الذراري. وفي لفظ البخاري: عن أهل الدار. وهو تصريح بالمضاف المحذوف في رواية مسلم، وأما رواية الذراري جمع ذرية، فقد حكم القاضي عياض بأنها تصحيف وباطلة (1)، ويجاب عليه بأن لها وجهًا، والمعنى: سئل عن حكم صبيان المشركين الذين يبيتون، فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل، فقال:"هم من آبائهم". أي: لا بأس على من أصابهم؛ لأن أحكام آبائهم جارية عليهم.
وقوله: يبيتون. بصيغة الفعل المضارع المستند إلى المفعول الذي لم يسم فاعله، والمراد به الإغارة عليهم في الليل على غفلة مع اختلاطهم بصبيانهم ونسائهم، فيصاب النساء والصبيان من غير قصد لقتلهم ابتداء، والسائل هو الصعب، وقد وقع مصرحًا في "صحيح ابن حبان" (2) عن الصعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين أنقتلهم معهم؟ قال: "نعم". وقد ذهب إلى جواز قتل النساء والصبيان في البيات الشافعي ومالك وأبو حنيفة والجمهور.
وقوله: "هم منهم". أي: في حكم الدنيا. وليس المراد إباحة قتلهم قصدًا، بل إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا به، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم، وقد أخرج ابن حبان في حديث الصعب زيادة: ثم نهى عنهم يوم حنين. وهي مدرجة في حديث الصعب، وفي "سنن أبي داود"
= ح 1745/ 26، وفي البخاري:"الدار". بدلًا من: "الذراري".
(1)
ينظر شرح مسلم 12/ 49.
(2)
ابن حبان 11/ 108 ح 4787.
في آخره (1): قال سفيان: قال الزهري: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والصبيان. ويؤيد أن النهي في حنين ما في البخاري (2): فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحدهم: "الحق خالدًا فقل له: لا تقتل ذرية ولا عسيفًا". والعسيف بمهملتين وياء: الأجير، وأول مشاهد خالد مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت غزوة حنين، وأخرج الطبراني في "الأوسط"(3) من حديث ابن عمر، قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتي بامرأة مقتولة، فقال:" [ما] (أ) كانت هذه تقاتل". فنهى. وأخرج أبو داود في "المراسيل"(4) عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف، فقال:"ألم أنه عن قتل النساء؟! مَن صاحبها؟ ". فقال رجل: أنا يا رسول الله؛ أردفتها، فأرادت أن تَصْرعَني فتقتلني فقتلتها. فأمر بها أن توارى. وقد ذهب إلى العمل بظاهر النهي وعمومه مالك والأوزاعي وقالا: لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال، حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم [يجز] (ب) رميهم ولا تحريقهم. وقد ذهب إلى هذا الهدوية؛ إلا أنهم قالوا في قتل الترس: إنه يجوز قتل النساء والصبيان إذا كان يخشى قتل من صالوا عليه إذا لم يقتلوا، فإنه يجوز قتل النساء والصبيان،
(أ) في جـ: من. والمثبت من الطبراني.
(ب) في جـ: يحرز. والمثبت من سبل السلام 4/ 102.
_________
(1)
أبو داود 3/ 54 ح 2672.
(2)
الحديث ليس في صحيح البخاري، وسيذكره المصنف في الصفحة التالية. وينظر تحفة الأشراف 3/ 166.
(3)
الطبراني 1/ 209 ح 673.
(4)
المراسيل ص 183.
وأما إذا ترَّسوا بمسلم فلا يجوز قتله إلا إذا خشي استئصال المسلمين، وذهب الشافعي والكوفيون إلى جواز قتل المرأة إذا قاتلت، وقال ابن حبيب من المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت إلا إن باشرت القتل أو قصدت إليه. قالوا: وكذلك الصبي المراهق. ويحتج لما ذهب إليه الشافعي وغيره بما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان (1) من حديث رياح -بكسر الراء المهملة وياء تحتانية باثنتين- بن الربيع التميمي، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين فرأى امرأة مقتولة، فقال:"ما كانت هذه لتقاتل! ". فمفهومه أنها لو قاتلت لقتلت، وءان كان يحتمل أن المرأة ليست مظنة للقتال، وليس ذلك صفة هذا النوع فيدافع بغير القتل ما أمكن مثل الصائل من الحيوانات، وقد اتفق الجميع كما نقل ابن بطال (2) وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والولدان؛ أما النساء فلضعفهن، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر، ولما في استبقائهم من الانتفاع [بهم](أ)، إما بالرق أو الفداء. وحكى الحازمي قولًا (3) بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب، وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي، وهو غريب.
وفي الحديث دلالة على جواز العمل بالعام حتى يرد الخاص؛ لأن الصحابة تمسكوا بالعمومات الدالة على قتل أهل الشرك، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، فخصص ذلك العموم. وقد يستدل به على جواز
(أ) في جـ: لهم. والمثبت من الفتح 6/ 148.
_________
(1)
أبو داود 3/ 54 ح 2669، والنسائي في الكبرى 5/ 186 ح 8625، وابن حبان 11/ 110 ح 4789.
(2)
شرح البخاري لابن بطال 5/ 170.
(3)
الاعتبار ص 170.
تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. وقوله: "هم منهم". يعني أن أولاد الكفار حكمهم في الدنيا حكم آبائهم، وأما في الآخرة ففيهم إذا ماتوا قبل البلوغ ثلاثة مذاهب؛ الصحيح: أنهم في الجنة. والثاني: أنهم في النار. والثالث: الوقف.
1061 -
وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تبعه يوم بدر:"ارجع، فلن أستعين بمشرك". رواه مسلم (1).
الحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بالمشرك في القتال، وقد ذهب إلى هذا طائفة من العلماء، وذهب العترة وأبو حنيفة وأصحابة إلى جواز ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية يوم [حنين](أ)، واستعان يوم حنين بجماعة من المشركين وتألفهم بالغنائم، واستعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم. أخرجه أبو داود في "المراسيل"(2)، وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلًا (3)، ومراسيل الزهري ضعيفة، قال الذهبي في "التذكرة" (4): لأنه كان حافظًا، ففي إرساله شبهة تدليس. وصحح البيهقي من حديث أبي حميد الساعدي أنه ردهم (5). قال المصنف رحمه الله تعالى (6): ويجمع
(أ) في جـ: خيبر. والمثبت من الأم 4/ 261، وينظر تهذيب الكمال 24/ 207.
_________
(1)
مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر 3/ 1449، 1450 ح 1817.
(2)
المراسيل ص 167.
(3)
الترمذي 4/ 108، 109 عقب ح 1558 بلفظ: أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه.
(4)
تذكرة الحفاظ 1/ 111.
(5)
البيهقي 9/ 37.
(6)
الفتح 6/ 179، 180.
بين الروايات بأن الذي رده يوم بدر تفرس فيه الرغبة في الإسلام، فرده رجاء أن يسلم فصدق ظنه، أو أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها، وهذا أقرب، ولكنهم شرطوا أن يستقيموا على أوامره ونواهيه، واشترطت الهدوية أن يكون معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام، وقال الشافعي وآخرون: إن كان للكافر حسن الرأي في المسلمين، ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به، وإلا فيكره، وحمل الحديث على هذين الحالين، كذا ذكره النووي في "شرح مسلم"(1)، ونسب الإمام المهدي في "البحر"(2) إلى أحد قولي الشافعي أنه لا يستعان بمشرك على باغ، ورد عليه بأنه قد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بخزاعة، ولا فرق بين الفسق والشرك مع جواز القتل، قال: ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعًا؛ لاستعانته صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وأصحابه، ويجوز الاستعانة بالفساق على الكفار إجماعَا، وعلى البغاة عندنا؛ لاستعانة علي بالأشعث (3). انتهى كلامه. فإذا حضر الكافر القتال رضخ (4) له ولا سهم.
1062 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه، فأنكر كعل النساء والصبيان. متفق عليه (5).
(1) شرح مسلم 12/ 199.
(2)
البحر 6/ 383.
(3)
هو الأشعث بن قيس الكندي، وكان من أصحاب علي بن أبي طالب يوم صفين. انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 3/ 469، وسير أعلام النبلاء 2/ 36.
(4)
الرضخ: العطية القليلة. النهاية 2/ 228.
(5)
البخاري، كتاب الجهاد، باب قتل الصبيان في الحرب 6/ 148 ح 3014، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب 3/ 1364 ح 1744.
تقدم الكلام على الحديث (1).
1063 -
وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شَرْخهم". رواه أبو داود وصححه الترمذي (2).
وأخرجه أحمد أيضًا (3). وهو من رواية الحسن عن سمرة.
قوله: "شيوخ". جمع شيخ، والشيخ من استبانت فيه السن، أو من بلغ خمسين سنة أو إحدى وخمسين سنة كما في "القاموس"(4)، والمراد هنا الرجال المسانّ أهل الجلد والقوة على القتال، ولم يرد الهَرْمَى، والشرخ: الصغار الذين لم يدركوا. كذا في "النهاية"(5). والشرخ -بالشين والخاء المعجمتين بينهما راء مهملة- أيضًا: أول الشباب، قال حسان (6):
[إن](أ) شَرْخَ الشبابِ والشعَرَ الأسـ
…
ـود ما لم [يُعَاصَ](ب) كان جنونا
والحديث يحتمل أن يراد به أنه يقتل من كان بالغًا، فعبر عنه بالشيخ من
(أ) في جـ: أين. والمثبت من الديوان.
(ب) في جـ: يعارض. والمثبت من الديوان.
_________
(1)
تقدم ص 220 - 223.
(2)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب في قتل النساء 3/ 54 ح 2670، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في النزول على حكم الله 4/ 123 ح 1583.
(3)
أحمد 5/ 12.
(4)
القاموس المحيط (ش ى خ).
(5)
النهاية 2/ 456، 457.
(6)
ديوانه ص 282.
باب التغليب، ويستبقى من كان صغيرًا، فيكون موافقًا لما تقدم من النهي عن قتل الصبي، ويحتمل أن يراد به استبقاء من كان في أول الشباب وإن كان بالغًا؛ رجاء أن يسلم، كما قال أحمد بن حنبل: الشيخ لا يكاد يسلم، والشاب أقرب إلى الإسلام. فيكون الحديث مخصوصًا بمن يجوز تقريره على الكفر بالجزية، والله أعلم.
1064 -
وعن علي رضي الله عنه، أنهم تبارزوا يوم بدر. رواه البخاري وأخرجه أبو داود مطولًا (1).
لفظ البخاري في المغازي: عن علي رضي الله عنه أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. وقال قيس (أ): وفيهم أنزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (2). قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر؛ حمزة، وعلي، وعبيدة -أو أبو عبيدة- بن الحارث، رضي الله عنهم، وشيبة بن ربيعة، وعتبة، والوليد بن عتبة.
وأخرج (3) عن قيس بن عباد قال: قال علي رضي الله عنه: فينا نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} . انتهى. لم يذكر في هذه
(أ) في حاشية جـ: هو قيس بن عُبادة البصري تابعي من قدماء التابعين، روى عن علي عليه السلام. تمت من خط المصنف. وقوله: بن عبادة. خطأ، والصواب عُباد كما سيأتي، وينظر ترجمته في تهذيب الكمال 24/ 64.
_________
(1)
البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل 7/ 296 ح 3965، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في المبارزة 3/ 52 ح 2665.
(2)
الآية 19 من سورة الحج.
(3)
البخاري 7/ 297 ح 3967.
الرواية تفصيل المبارزين، وذكر ابن إسحاق (1): أن عبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة كانا أسن القوم، فبرز [عبيد](أ) لعتبة، وحمزة لشيبة، وعلي للوليد. وعند موسى بن عقبة (2): أنه برز حمزة لعتبة، وعبيدة لشيبة، فقتل علي وحمزة من بارزهما، واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة في ركبة عبيدة فمات منها لما رجعوا بالصَّفْراء (3)، ومال حمزة وعلي إلى الذي بارز عبيدة فأعاناه على قتله.
الحديث فيه جواز المبارزة، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، والخلاف في ذلك للحسن البصري، وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق إذن الأمير كما في هذه الرواية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمذكورين بالمبارزة. وفي الحديث دلالة على جواز إعانة المبارز رفيقه، والله أعلم.
1065 -
وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. يعني قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4). قاله ردًّا على من أنكر على من حمل على صف الروم حتى دخل فيهم. رواه الثلاثة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم (5).
(أ) في جـ: عتيبة. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
السيرة النبوية لابن هشام 1/ 625.
(2)
الفتح 7/ 297.
(3)
الصفراء من ناحية المدينة، وهو كثير النخل والزرع والخير في طريق الحاج، وسلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة. معجم البلدان 3/ 399.
(4)
الآية 195 من سورة البقرة.
(5)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب في قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 3/ 12 =
الحديث أخرجوه من طريق أسلم بن يزيد أبي عمران، قال: كنا بالقسطنطينية، فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين على صَفِّ الروم حتى دخل فيهم، ثم رجع مقبلًا، [فصاح] (أ) الناس: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصره، قلنا بيننا سرًّا: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة التي أردنا. وصحَّ عن ابن عباس وجماعة من التابعين نحو ذلك في تأويل الآية (1).
والحديث فيه دلالة على جواز دخول الواحد في صَفِّ القتال ولو ظن الهلاك، كما أنكر أبو أيوب على من تأول الآية. وذكر الإمام يحى وجهين إذا ظن الهلاك، أحدهما: يجب الهرب، لقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} و: لا (2)؛ إذ قال له رجل: يا رسول الله، أرأيت لو انغمست في المشركين فقاتلتهم حتى قتلت، أإلى الجنة؟ قال:"نعم"(3). ومن انغمس
(أ) في جـ: صاح. والمثبت من مصادر التخريج.
_________
= ح 2512، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة 5/ 196 ح 2972، والنسائي في الكبرى، كتاب التفسير، قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 6/ 299 ح 11029، وابن حبان، كتاب السير، باب فرض الجهاد 11/ 9 ح 4711، والحاكم، كتاب التفسير 2/ 275.
(1)
ينظر الدر المنثور 2/ 321 - 323.
(2)
أي: لا يجب، وهذا هو الوجه الثاني. وينظر نيل الأوطار 7/ 298.
(3)
التلخيص 4/ 105، وخلاصة البدر المنير 2/ 345.
فيهم غلب في ظنه أنه يقتل، هكذا في "البحر"، وقال المصنف رحمه الله تعالى (1) في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو: وصرح الجمهور بأنه إذا كان لفرط شجاعته وظنه أنه يُرْهِبُ العدو بذلك، أو يُجرئ المسلمين عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور فممنوع، لا سيما إن ترتب على ذلك وَهَنٌ في المسلمين. والله أعلم.
1066 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حَرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع. متفق عليه (2).
في الحديث دلالة على أنه يجوز إفساد مال أهل الحرب بالتحريق والقطع لمصلحة يراها الإمام في ذلك، بأن النبي صلى الله عليه وسلم حَرَّق البويرة -بالباء الموحدة مُصَغَّر بؤرة وهي الحفرة، وهي هنا مكان معروف بين المدينة وتيماء، وهي من جهة قبلة مسجد قباء إلى جهة الغرب، ويقال لها أيضًا [البويلة] (أ) باللام بدل الراء- ونزلت الآية:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة} الآية (3). لما قال المشركون: إنك تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال قطع
(أ) في جـ: الحديبية. وهو خطأ، والمثبت من الفتح 7/ 333، وينظر تهذيب الأسماء واللغات 2/ 1 / 40.
_________
(1)
الفتح 8/ 185.
(2)
البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب قطع الشجر والنخل 5/ 9 ح 2326، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها 3/ 1365 ح 1746.
(3)
الآية 5 من سورة الحشر.
الأشجار وتحريقها؟ وفيها قال حسان شعرًا:
وهان على سراة بني لؤي
…
حريق بالبويرة مستطير
وقوله: سراة. بفتح المهملة وتخفيف الراء جمع سري، وهو الرئيس، والنضير بفتح النون وكسر الضاد المعجمة: قبيلة [كبيرة](أ) من اليهود. وكان الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام (1):
قسم وادعهم على ألا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة؛ قريظة والنضير وقينقاع -ونون قينقاع مثلثة، والأشهر فيها الضم- وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش. وقسم تاركوه وانتظروا ما يئول إليه أمره كطوائف العرب؛ فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، والعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرًا ومع عدوه باطنًا كالمنافقين، فكان أول من نقض العهد بني قينقاع، فحاربهم في شوال بعد وقعة بدر، فنزلوا على حكمه، فأراد قتلهم فاستوهبهم [منه](ب) عبد الله بن أبي، وكانوا حلفاءه فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرِعات، ثم نقض العهد بنو النضير، وكان رئيسهم حيي بن أخطب. واختلف أهل السير في سبب نقض العهد، فأخرج ابن مردويه (2) بإسناد صحيح إلى معمر
(أ) في جـ: كثيرة، والمثبت من الفتح 7/ 330.
(ب) في جـ: منهم. والمثبت من الفتح 7/ 330.
_________
(1)
الفتح 7/ 330.
(2)
ابن مردويه -كما في الفتح 7/ 331.
عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أبي وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر، يهددونهم بإيوائهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويتوعدونهم أن يغزوهم [بجميع](أ) العرب، فهمّ ابن أبي ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش! يريدون أن تلقوا بأسكم بينكم". فلما سمعوا ذلك عرفوا الحق فتفرقوا، فلما كانت وقعة بدر، كتب كفار قريش بعدها إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون. [يتهددونهم](ب)، فأجمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك. [ففعل](ب)، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم، تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع وصَبَّحهم بالكتائب فحصرهم يومه، ثم غدا علي بني قريظة فحاصرهم فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يُخْرِبون [بيوتهم بأيديهم](جـ) فيهدمونها، ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر إلى الشام.
(أ) في جـ: لجميع. والمثبت من الفتح 7/ 331.
(ب) في جـ: يتهدونهم. والمثبت من الفتح 7/ 331.
(جـ) ساقط من جـ. والمثبت من الفتح 7/ 331.
وكذا أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره"(1) عن عبد الرزاق، وذكر ابن إسحاق (2) وغيره غير هذا السبب، وسيأتي قريبًا من آخر الباب في حديث ابن عمرو هذا أصح إسنادًا، قال الزهري عن عروة: كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر (3)، وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا. وجزم ابن إسحاق بأن قصتهم كانت بعد أحد وبعد قضية بئر معونة (3)، ورجحه الداودي على ما حكاه عنه ابن التين، ولم [يسلم](أ) منهم إلا يامين بن عمير، وأبو سعيد بن وهب، فأحرزا أموالهما. ثم نقضت قريظة العهد بعد وقعة الخندق.
وفي الآية الكريمة تصريح بأن المقطوع من النخل هو اللين، قال السهيلي (4): في تخصيصها بالذكر إيماء إلى أن الذي يجوز قطعه من شجر العدو هو ما لا يكون معدًا للاقتيات؛ لأنهم كانوا يقتاتون العجوة والبَرْني (5) دون اللينة، وكذلك ترجم البخاري في التفسير (6): باب {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة} . نخلة ما لم تكن برنية أو عجوة. وقيل: اللينة الدقل، فعلى هذا لا
(أ) في جـ: يسم. والمثبت من الفتح 7/ 331.
_________
(1)
عبد بن حميد -كما في الفتح 7/ 331.
(2)
السيرة النبوية لابن هشام 2/ 191.
(3)
البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بني النضير 7/ 329.
(4)
الفتح 7/ 333.
(5)
ضربٌ من التمر أصفر مدور، وهو أجود التمر، واحدته برنية اللسان. (ب ر ن).
(6)
البخاري 8/ 629.
يتم الاحتجاج بالآية ولا بالحديث على جواز إفساد النافع من المال، وفي "القاموس" و"الضياء" على كلام السهيلي، وفي "معالم التنزيل" (1): اللينة فعلة من اللون ويجمع على ألوان، وقيل: من اللين، ومعناه النخلة الكريمة، وجمعها ليان، فعلى هذا يتم الاحتجاج بالاية والحديث على ما ذكر، لأن الآية والحديث وردا في قصة واحدة، ويؤيده ما رواه ابن إسحاق والبيهقي وموسى بن عقبة (2)، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مالك بن عوف بهدم أبنية الطائف وقطع الأعناب. وقد ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا تفعلوا شيئًا من ذلك. وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك، بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في حال القتال، وكما وقع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو مما أجيب به في قتل النساء والصبيان، ولهذا قال أكثر أهل العلم: ونهي أبي بكر لأنه علم أن تلك البلاد تُفتح فأراد بقاءها على المسلمين. والله سبحانه وتعالى أعلم.
1067 -
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تغلوا؛ فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة". رواه أحمد والنسائي، وصححه ابن حبان (3).
(1) معالم التنزيل 8/ 71، 72.
(2)
ابن إسحاق -كما في المراسيل لأبي داود ص 240 ح 317، والبيهقي، كتاب السير، باب قطع الشجر وحرق المنازل 9/ 84.
(3)
أحمد 5/ 316، والنسائي، كتاب الهبة، باب هبة المشاع 6/ 574 ح 3690 لكن من حديث عبد الله بن عمر، وابن حبان، كتاب السير، باب الغلول 11/ 193 ح 4856.
الغلول: بضم المعجمة واللام أي: الخيانة في المغنم، قال ابن قتيبة (1): سُمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه، أي يخفيه، ونقل النووي (2) الإجماع على أنه من الكبائر.
وفي الحديث دلالة على تعظيم شأن الغل، وأن صاحبه يشتهر بذلك يوم القيامة، وقد نبه على ذلك قوله تعالى:{يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (3). وفسره النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أبي هريرة أخرجها البخاري (4)، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول، فعظَّمه وعظَّم أمره، فقال:"لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، وعلى رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، وعلى رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك". انتهى.
فدلَّ الحديث أنه يأتي الغالُّ بهذه الحالة الشنيعة يوم القيامة، وهو معنى قوله في حديث عبادة:"عار". ويدل على أن هذا الذنب لا يُغفر بالشفاعة، وإن كان صلى الله عليه وسلم له الشفاعة العظمى يوم القيامة، إلا أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أبرز هذا الوعيد في مقام الزجر والتغليظ، كما في قوله تعالى:{وَمَن كَفَرَ} (5) بعد آية الحج، ويحتمل أن يكون ذلك الأمر لا بد منه عقوبة
(1) غريب الحدث له 1/ 226، 227.
(2)
شرح مسلم 12/ 217.
(3)
الآية 161 من سورة آل عمران.
(4)
البخاري 6/ 185 ح 2073.
(5)
الآية 97 من سورة آل عمران.
ليفتضح على رءوس الأشهاد، وبعد ذلك أمره إلى الله سبحانه وتعالى. قال ابن المنذر (1): أجمعوا على أن الغال يعيد ما غل قبل القسمة. وأما بعدها؛ فقال الثوري والأوزاعي والليث ومالك: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي. وكان الشافعي لايرى ذلك، ويقول: إن كان ملكه فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لم يملكه فليس له الصدقة بمال غيره. قال: والواجب أن يدفعه إلى الإمام كالأموال الضائعة.
1068 -
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل. رواه أبو داود وأصله عند مسلم (2)(3).
الحديث رواه أبو داود وابن حبان والطبراني (4) بزيادة: ولم يخمس السلب. وحديث مسلم فيه قصة لعوف بن مالك مع خالد بن الوليد.
الحديث فيه دلالة على أن السلب يستحقه القاتل؛ سواء كان بشرط
(1) الإجماع ص 26.
(2)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى، والفرس والسلاح من السلب 3/ 71 ح 2719، ومسلم، كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل 3/ 1374 ح 24 - 1753.
(3)
بعده في بلوغ المرام ص 288: وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في قصة قتل أبي جهل قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. قال: فنظر فيهما فقال: كلاكما قتله. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. متفق عليه. وسوف يذكره المصنف في ثنايا شرحه لحديث عوف بن مالك هذا. وينظر سبل السلام 4/ 110.
(4)
أبو داود 3/ 72 ح 2721، وابن حبان 11/ 178 ح 4844، والطبراني 18/ 47 ح 84.
الإمام أو لم يكن، وسواء كان القاتل مقبلًا أو منهزمًا، ممن يستحق السهم في المغنم أم لا، فإن قوله: قضى بالسلب للقاتل. يدل على أن هذا حكم مطلق غير مقيد. قال الشافعي: وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحكم في مواطن؛ منها يوم بدر، كما في حديث قاتلي أبي جهل (1)، فإنه حكم [بسلبه](أ) لمعاذ ابن الجموح لما كان هو المؤثر في قتل أبي جهل، وكذا في قتل حاطب بن أبي بلتعة لرجل يوم أحد فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه. أخرجه البيهقي (2). ومنها حديث جابر أن عقيل بن أبي طالب قتل يوم مؤتة رجلًا فنفله النبي صلى الله عليه وسلم سلبه (3). وكان ذلك الحكم مقررًا في الصحابة، حتى قال عبد الله بن جحش يوم أحد: اللهم ارزقني رجلًا شديدًا فأقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه. رواه الحاكم والبيهقي (4) بإسناد صحيح، وكما في قتل صفية يوم الخندق لليهودي، وقولها لحسان: انزل واسلبه. فقال: ما لي بسلبه حاجة. أخرجه أحمد (5) بإسناد قوي، وقول عمر لعلي (2) في قتله [عمرو بن عبد ود] (ب) يوم الخندق: هلا استلبت درعه، فإنه ليس للعرب خير منها. فإن هذه القصص تدل على أن هذا الحكم كان
(أ) في جـ: سلبه. والمثبت من صحيح مسلم.
(ب) في جـ: عمر بن ود. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
البخاري 6/ 246 ح 3141، ومسلم 3/ 1372 ح 1752.
(2)
البيهقي 6/ 308.
(3)
البيهقي 6/ 309.
(4)
الحا كم 4/ 50، والبيهقي 6/ 308.
(5)
أحمد -كما في الفتح 6/ 248.
متقررًا عند الصحابة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين (1):"من قتل قتيلًا فله سلبه". بعد القتال لا ينافي ذلك بل هو مؤيد للحكم السابق، وقد ذهب إلى أنه يستحق القاتل سلب القتيل سواء قال بذلك أمير الجيش أم لا، [الأوزاعي](أ) والليث، والثوري، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وابن جرير، والشافعي، والإمام يحيى، وأن هذا قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على قول أحد، وقال أبو حنيفة ومالك والهدوية ومن [تابعهم] (ب): لا يستحق القاتل ذلك بمجرد القتل، بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنائم، إلا إذا قال الأمير قبل القتال: من قتل قتيلًا فله سلبه. وحملوا الحديث على هذا، وهو يتوجَّه في قوله يوم حنين:"من قتل قتيلًا فله سلبه". وأما في حديث: قضى بالسلب للقاتل. فبعيد، فإن ظاهر قوله: قضى. أن ذلك حكم مطلق، إلا أن مالكا قال: يكره للإمام أن يقول ذلك، لأنه يضعف نيات المجاهدين، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلا بعد انقضاء الحرب، حتى قال مالك: لم يبلغني ذلك في غير حنين. ويُجاب عنه بما تقدم من القصص، وعن الحنفية لا كراهة في ذلك، وسواء قاله قبل الحرب أو في أثنائها، وذهب بعض إلى أن السلب مُفَوَّضٌ إلى رأى الإمام، وقرره الطحاوي وغيره؛ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سلب أبي جهل معاذ بن الجموح مع أنه قال له ولمشاركه في قتله: "كلاكما قتله". لما أرياه سيفيهما (2). وأجيب عنه بأن
(أ) في جـ: والأوزاعي. والمثبت كما في شرح مسلم 12/ 58.
(ب) في جـ: تابعهما. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
البخاري 6/ 274، 8/ 34 ح 3142، 4321، ومسلم 3/ 1370 ح 1751.
(2)
البخاري 6/ 246 ح 3141، ومسلم 3/ 1372 ح 1752.
النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم لمعاذ لكونه الذي أثَّر في قتله لما رأى عمق الجناية في سيفه، وقال:"كلاكما قتله". تطييبًا لنفس صاحبه. وقال الشافعي: يستحق القاتل السلب بشرط أن يقتل كافرًا متمنعًا في حال القتال، والأصح أنه يستحقه من لا يسهم له بم كالمرأة والصبي والعبد كغيرهم. وعن مالك: لا يستحقه إلا من يسهم له. واشترط الأوزاعي والشاميون أن يكون قتله قبل التحام القتال، واشترط الجمهور أن يكون المقتول من المقاتلة، لا إذا كان امرأة أو صبيًّا يجوز قتلهما، وقال [أبو ثور] (أ) وابن المنذر: لا يشترط.
واختلفوا في تخميس السلب؛ وللشافعي قولان، الصحيح منهما عند أصحابه أنه لا يخمس، وهو ظاهر الأحاديث، وبه قال أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وآخرون، وقال مالك، ومكحول، والأوزاعي: يخمس. وهو قول ضعيف للشافعي، وقال عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهويه: يخمس إذا كثر. وعن مالك رواية أن الإمام بالخيار، واختارها إسماعيل القاضي. وجاء في حديث "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه"(1). فيه تصريح بأنه لا يقبل قوله من دون بينة، وقد ذهب إلى هذا الليث والشافعي ومن وافقهما من المالكية وغيرهم. وقال مالك والأوزاعي: يعطاه بقوله بلا بينة. قالا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية قبل قول واحد ولم يحلفه، فلو كان يحتاج إلى بينة لما كفى قول واحد. وقد يُجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم القاتل بطريق من الطرق مع تصريحه بذكر البينة، ولعله يقال: إن في هذه القصة
(أ) في جـ: أبو أيوب. والمثبت من الفتح 6/ 249.
_________
(1)
تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
قد أقرَّ من هو في يده، وإقراره شهادة مع الشاهد الذي شهد له، ولا يقال: إنه عمل بالإقرار. لأنه غير مستحق له، فإن المال يكون من الغنيمة لجميع الجيش، والله أعلم.
1069 -
وعن مكحول رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف. أخرجه أبو داود في "المراسيل"(1)، ورجاله ثقات، ووصله العقيلي (2) بإسناد ضعيف عن علي رضي الله عنه.
هو أبو عبد الله مكحول بن عبد الله الشامي من سبي كابل، كان مولى لامرأة من قيس، وكان سنديًّا لا يفصح، وقال الواقدي: كان مولى لامرأة من هذيل. وقيل: مولى لسعيد بن العاص. وقيل: مولى لبني ليث. وهو معلم الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، وهو عالم الشام، ولم يكن أبصر منه بالفتيا في زمانه، سمع من أنس بن مالك، وواثلة -بكسر الثاء المثلثة- بن الأسقع -بالسين المهملة والقاف- وأبي هند الداري، وغيرهم، وروى عنه الزهري، وحميد الطويل، والأوزاعي، ويحيى بن يحيى الغساني، وابن جريج، وربيعة الرأي، وعطاء الخراساني، مات سنة ثماني عشرة ومائة. وقيل: ثلاث عشرة. وقيل: ست عشرة.
الحديث أخرجه أيضًا الترمذي (3) عن ثور [راويه](أ) عن مكحول، ولم
(أ) في جـ: روايه. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
المراسيل ص 248 ح 335.
(2)
ضعفاء العقيلي 2/ 244.
(3)
الترمذي 5/ 88 عقب ح 2762.
يذكر مكحولا، فهو معضل. وروى أبو داود (1) من مرسل يحيى بن أبي كثير، قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا. قال الأوزاعي: فقلت ليحيى: أبلغك أنه رماهم [بالمجانيق؟](أ) فأنكر ذلك، وقال: ما نعرف ما هذا. وروى أبو داود في "السنن"(2) أنه حاصرهم بضع عشرة ليلة. وقال السهيلي: ذكره الواقدي كما ذكره مكحول، وزعم أن الذي أشار به سلمان الفارسي، وروى ابن أبي شيبة (3)، عن عبد الله بن سنان، أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف خمسة وعشرين يومًا. ومن حديث عبد الرحمن بن عوف شيئًا من ذلك، وفي "الصحيحين" (4) من حديث ابن عمر: حاصر أهل الطائف شهرًا. ولمسلم (5) عن أنس، أن المدة كانت أربعين ليلة.
والحديث فيه دلالة على أنه يجوز قتل الكفار -إذا تحصنوا- بالمنجنيق، ويقاس عليه غيره، وإن هلك بالمنجنيق من لا يجوز قتله من الصبيان والنساء، وقد تقدم الكلام في ذلك (6).
1070 -
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار
(أ) في جـ: بالمناجيق. والمثبت من التلخيص 4/ 104، وينظر تاج العروس (جـ ن ق).
_________
(1)
المراسيل ص 248 ح 336، وينظر التلخيص 4/ 104.
(2)
أبو داود -كما في التلخيص 4/ 104.
(3)
ابن أبي شيبة 12/ 201.
(4)
البخاري 8/ 44 ح 4325، ومسلم 3/ 1402 ح 1778.
(5)
مسلم 3/ 1403 ح 1779.
(6)
تقدم ص 221، 222.
الكعبة. فقال: "اقتلوه". متفق عليه (1).
قوله: دخل مكة. يعني عام الفتح، دخل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة، وأمر خالدًا بالدخول من أسفلها، من غير إحرام، وكان ذلك خاصا به؛ أنه صلى الله عليه وسلم ممنوع أن يقاس عليه غيره من الأمة، وكان صلى الله عليه وسلم قد علم أن من عتاة الأمة من يترخص ويستند إلى فعله صلى الله عليه وسلم كما فعله [عمرو](أ) بن سعيد وأجاب على ابن شريح بالجواب الصادم للنص الصريح، فمنع الإلحاق، وقال لأصحابه: فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم.
وقوله: وعلى رأسه المغفر. يعني بغير إحرام، وقد جاء في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام (2) بزيادة: من حديد. وكذا رواه عشرة من أصحاب مالك خارج "الموطأ"، وهو عند ابن عدي أيضًا (3).
وقوله: فقال: ابن خطل. ابن خطل اسمه عبد الله بن خطل، بفتح الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة، من بني [تيم](1)، أحد التسعة الذين لم يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمن الناس، وأمر بقتلهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة،
(أ) في جـ: عمر. والمثبت من نيل الأوطار 7/ 53. وينظر البداية والنهاية 12/ 122، وسيأتي على الصواب ص 244.
(ب) في جـ: تميم. والمثبت من سيرة ابن هشام 2/ 409، والبداية والنهاية 6/ 559.
_________
(1)
البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب دخرل الحرم ومكة بغير إحرام 4/ 59 ح 1846، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام 2/ 989 ح 1357.
(2)
أبو عبيد في الأموال 1/ 173.
(3)
الفتح 8/ 16.
ثم أسلم ستة منهم وقتل ابن خطل، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صبابة، وإحدى القينتين لابن خطل، وكان قد أسلم فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه مسلم، فنزل منزلًا وأمر مولاه أن يذبح له تيسًا ويصنع له طعامًا ونام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركًا، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما معًا، فقتلت إحداهما واستؤمن للأخرى فأمنها.
وقوله: فقال: "اقتلوه". وجاء في الرواية عن الوليد بن مسلم عن مالك زيادة: فقتل. أخرجه ابن عائذ وصححه ابن حبان (1)، وقد اختلف في قاتله، فجزم ابن إسحاق بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، وحكى الواقدي فيه أقوالًا؛ منها: أن قاتله شريك بن عبدة العجلاني، ورجح أنه أبو برزة، قال الخطابي: قتله النبي صلى الله عليه وسلم بحق ما جناه في الإسلام، فدل على أن الحرم لا يعصم من إقامة واجب، [ولا](أ) يؤخره عن وقته. انتهى. وقد ذهب إلى هذا مالك والشافعي، وأنه يستوفى الحدود في الحرم كما يستوفى في الحل، وهو اختيار ابن المنذر، وقالوا: لعموم الأدلة الدالة على استيفاء الحدود والقصاص بكل مكان وزمان؛ ولهذه القصة وبما يروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الحرم لا يُعيذُ عاصيًا، ولا فارًّا بدم ولا خَرَبة (2)، وبأنه لو
(أ) في جـ: وأن. والمثبت من سبل السلام 4/ 113.
_________
(1)
ابن حبان 9/ 37 ح 3721.
(2)
الخربة: أصلها العيب، والمراد بها هاهنا الذي يفرُّ بشيء وريد أن ينفرد به ويغلب عليه مما لا تجيزه =
ارتكبه في الحرم لا يعيذه، وكذلك إذا لجأ إلى الحرم. وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى العمل بقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة ثاني [يوم الفتح](أ) في تحريم الحرم فلا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا، وعموم قوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (1). وكان ذلك متأصلًا في عهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن الحرم يعيذ العصاة، واستمر في الجاهلية، وقام الإسلام على ذلك، وكانت العرب في جاهليتها يرى أحدهم قاتل أبيه وابنه في الحرم فلا يهيجه، وأخرج الإمام أحمد (2) عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وعن عبد الله بن عمر (3) أنه قال: لو وجدت فيه قاتل عمر ما ندهته (4). وعن ابن عباس (5) قال: لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه. وهذا قول جمهور التابعين، وإليه ذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العراق، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث، وهو مذهب العترة، وأجيب عما احتج به الأولون: أما عموم
(أ) في جـ: يوم النحر. وضرب على "يوم". والمثبت كما في البخاري 4/ 41 ح 1832، ومسلم 2/ 987 ح 1354.
_________
= الشريعة. النهاية 2/ 17.
والحديث عند البخاري 1/ 197 ح 104، ومسلم 2/ 987 ح 1354.
(1)
الآية 97 من سورة آل عمران.
(2)
لم أجده عند أحمد، وهو عند عبد الرزاق 5/ 153 ح 9228.
(3)
عبد الرزاق 5/ 153 ح 9229.
(4)
ما ندهته: أي ما زجرته. والنَّدْه بصَهْ ومهْ. النهاية 5/ 36.
(5)
المحلى 12/ 268.
الأدلة لاستيفاء الحدود للمكان والزمان بالعموم غير مسلم لعدم التصريح بالزمان والمكان وإنما ذلك مطلق، والمطلق وإن كان حكمه حكم العام لكنه مقيد بحديت الحرم، وهو متأخر، فإف في حجة الوداع والحدود قد شرعت، وأما قوله: إن الحرم لا يعيذ. فليس بحديث، وإنما هو قول العاتي عمرو بن سعيد بن العاصي، تأبيًا من الإذعان للحق، فلا يُلْتفت إليه، وأما قتل ابن خطل ومن ذكر معه فإنما كان ذلك في الساعة التي أحل النبي صلى الله عليه وسلم فيها القتال بمكة، واستمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر، ثم عادت حرمتها كما كانت، وكان قتل عبد الله بن خطل وقت الضحى، ما بين زمزم ومقام إبراهيم، ثم قال صلى الله عليه وسلم (1):"لا يقتل قرشي بعد هذا صبرًا". ورجاله ثقات، إلا أن في إسناده أبا معشر (2)، وفيه مقال.
وأما إذا ارتكب في الحرم ما يوجب الحد، فالأصل هذا غير مسلَّم، فإن القائلين بالإعاذة اختلفوا؛ فذهب بعض العترة أنه يخرج من الحرم ولا يقام عليه فيه حتى يخرج، وروى أحمد (3) عن طاوس عن ابن عباس قال: من سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم. وذكر الأثرم عن ابن عباس أيضًا: من أحدث حدثًا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء (4). والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
(1) الطبراني في الكبير 7/ 188 ح 6687، والأوسط 8/ 93 ح 8070، وقال الهيثمي في المجمع 6/ 175: فيه أبو معشر نجيح، وهو ضعيف. وأصل الحديث عند أحمد 3/ 412، 4/ 213، ومسلم 9/ 1403، ح 1782.
(2)
تقدمت ترجمته في 4/ 349.
(3)
لم أقف عليه عند أحمد، وهو عند عبد الرزاق 4/ 309 ح 17306، والبيهقي 9/ 214.
(4)
الطبري 4/ 13.
فَاقْتُلُوهُمْ} (1). والفرق بينه وبين الملتجئ إليه، أن الجاني فيه هاتك لحرمة الحرم، والملتجئ معظم لها؛ ولأنه لو لم يقم الحد على من جنى فيه من أهله لعظم الفساد في الحرم، وأدى إلى أنه من أراد الفساد قصد إلى الحرم ليسكنه ويفعل فيه ما يقضي شهوته. ووقع خلاف أيضًا في القصاص فيما دون النفس وفي الحد بغير القتل، وفي ذلك روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد؛ فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها، ومن فرق قال: سفك الدم إنما ينصرف إلى القتل، ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريم ما دونه؛ لأن حرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشد، ولأن الحد فيما دون النفس جار مجرى تأديب السيد لعبده فلم يمنع منه.
1072 -
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة صبرًا. أخرجه أبو داود في "المراسيل"(2)، ورجاله ثقات.
هو أبو عبد الله سعيد بن جبير الأسدي مولى بني والبة بطن من بني أسد بن خزيمة، كوفي، أحد أعلام التابعين، سمع ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأنسًا، وسمع منه عمرو بن دينار وأيوب وجعفر بن إياس، قتله الحجاج بن يوسف في شعبان سنة خمس وتسعين وله تسع وأربعون سنة -ومات الحجاج في رمضان من السنة، ويقال مات بعده بستة أشهر، ولم يسلط بعده على قتل أحد- ودفن بظاهر واسط العراق، وقبره بها
(1) الآية 191 من سورة البقرة.
(2)
المراسيل ص 248، 249 ح 337.
يزار (1)، وجبير بضم الجيم وفتح الباء الموحدة.
قوله: كمل يوم بدر ثلاثة صبرًا. هم: المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، قال المصنف (2) رحمه الله تعالى: إن قوله: المطعم بن عدي. تحريف، والصواب طعيمة بن عدي، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (3)، ووصله الطبراني في "الأوسط"(4) بذكر ابن عباس.
1073 -
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل مشرك. أخرجه الترمذي وصححه، وأصله عند مسلم (5).
الحديث فيه دلالة على جواز مفاداة الأسير من المسلمين بأسير كافر، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وقال أبو حنيفة (6): لا يجوز المفاداة، ويتعين إما قتل الأسير، أو استرقاقه. وقال مالك: إنه لا يجوز في الأسير إلا القتل، أو الاسترقاق، أو مفاداته بأسير. وقال أبو يوسف ومحمد (7): يجوز المفاداة بغيره، أو قتل الأسير، أو استرقاقه، أو مفاداته بالمال. وذهب الجمهور إلى جواز المن، والفداء بأسير، أو القتل، أو الاسترقاق، وقال
(1) ينظر تهذيب الكمال 10/ 358، وسير أعلام النبلاء 4/ 321 - 343.
(2)
التلخيص 4/ 108.
(3)
ابن أبي شيبة 14/ 372.
(4)
الأوسط 4/ 135 ح 3801.
(5)
الترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في قتل الأسارى والفداء 4/ 115 ح 1568، ومسلم، كتاب النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله 3/ 1262، 1263 ح 1641.
(6)
المبسوط 10/ 139، وأحكام القرآن للجصاص 5/ 269.
(7)
ينظر مختصر اختلاف العلماء 3/ 480، وأحكام القرآن للجصاص 5/ 269.
الإمام يحيى (أ) بجوازها وبجواز الفداء بالمال، وفي قوله تعالى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (1) جواز الأمرين، وأخذ الفداء كما وقع في قصة بدر، ونزل العتاب على ذلك، وهي منسوخة بقوله تعالى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . ووقع من النبي صلى الله عليه وسلم قتل الأسير كما في النضر وعقبة بن أبي معيط، والمن كما في قضية أبي عزة، فإنه من عليه في يوم بدر على ألا يقاتل، فعاد إلى القتال يوم أحد، فأسره وقتله، وقال في حقه:"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"(2).
1074 -
وعن صخر بن [العيلة](ب) رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم". أخرجه أبو داود (3)، ورجاله موثقون.
هو أبو حازم صخر -بفتح المهملة وسكون المعجمة فراء- ابن [العيلة](5) -بفتح العين المهملة وسكون الياء تحتها نقطتان وباللام، ويقال: العيِّلة، بتشديد الياء المكسورة، ويقال: ابن أبي العيلة- الأحمسي البجلي، عداده في أهل الكوفة وحديثه عندهم، ويقال: إن العيلة أمه. روى عنه عثمان بن أبي حازم وهو ابن أبيه (4).
(أ) زاد في جـ: يجوز.
(أ) في جـ: العليه.
_________
(1)
الآية 4 من سورة محمد.
(2)
أخرجه البيهقي 6/ 320.
(3)
أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب إقطاع الأرضين 3/ 172، 173 ح 3067.
(4)
ينظر الإصابة 3/ 416، والإكمال 6/ 307.
وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أسلم على شيء فهو له".
أخرجه أبو يعلى (1)، وضعفه ابن عدي بياسين الزيات (2) راويه عن الزهري، قال البيهقي (3): إنما يروي عن ابن أبي مليكة، وعن عروة مرسلًا. ومرسل عروة أخرجه سعيد بن منصور (4) برجال ثقات.
الحديث فيه دلالة على أن الكفار إذا أسلموا حرم قتلهم وملكوا أموالهم، إلا أن في ذلك تفصيلًا وهو أنه إذا كان الإسلام طوعًا من دون قتال فأرضهم باقية على ملكهم، وذلك كأرض اليمن، والواجب عليهم في أموالهم الزكاة التي فرض الله سبحانه وتعالى، وإن أسلموا بعد القتال فالإسلام قد حقن دماءهم، وأما أموالهم؛ فالمنقول غنيمة، وغير المنقول فيء، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال مالك (5): لا تقسم الأرض وتكون وقفًا يقسم خراجها في مصالح المسلمين؛ من أرزاق المقاتلة، وبناء القناطر والمساجد، وغير ذلك من سبل الخير، إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة، فإن له أن يقسم الأرض.
وأيد هذا القول ابن القيم (6) في "الهدي النبوي"، وقال: إن الأرض
(1) أبو يعلى 10/ 226، 227 ح 5847.
(2)
ابن عدي في الكامل 7/ 2642، وتقدمت ترجمة ياسين الزيات ص 106.
(3)
البيهقي 9/ 113.
(4)
سنن سعيد بن منصور 1/ 76 ح 189.
(5)
الهداية تخريج أحاديث بداية المجتهد 6/ 87.
(6)
زاد المعاد 3/ 432، 433.
ليست داخلة في الغنيمة التي تقسم. قال: فإن الله سبحانه وتعالى لم يحل لأحد من الأنبياء قسمة المغنم، وكان ذلك مما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله سبحانه وتعالى في حل الأرض التي بأيدي الكفار لقوم موسى:{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} (1). وكان غير الأرض تنزل له نار من السماء تأكله. قال: وقال به جمهور الصحابة، وكان عليه سيرة الخلفاء الراشدين، ونازع في ذلك بلالٌ وأصحابُه عمرَ وطلبوا أن يقسم بينهم الأرض وهي في الشام التي فتحوها، وقالوا له: خذ خمسها واقسمها. فقال عمر رضي الله عنه: هذا غير المال، ولكن أحبسه فيئًا يجري عليكم وعلى المسلمين. فقال بلال. وأصحابه: اقسمها بيننا. فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اكفني بلالًا وذويه. فما حال الحول ومنهم عين تطرف (2)، ثم وافق سائر الصحابة عمر رضي الله عنه، وكذلك جرى في فتوح مصر والعراق وأرض فارس وسائر البلاد التي فتحت عنوة، لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة، ولا يصح أن يقال أنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم، فإنهم قد نازعوه فيها، وهو [يأبى] (أ) عليهم. ثم قال: ووافقه جمهور الأئمة، وإن اختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة، فظاهر مذهب الإمام أحمد وأكثر نصوصه على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة لا تخيير شهوة، فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها، وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها، وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله، فإن
(أ) في جـ: باقي. والمثبت من زاد المعاد.
_________
(1)
الآية 21 من سورة المائدة.
(2)
البيهقي 9/ 138 بنحوه.
رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الأقسام الثلاثة، فإنه قسم أرض قريظة والنضير، وترك قسمة مكة، وقسم بعض خيبر وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين.
وعن أحمد رواية ثانية، أنها تصير وقفًا بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن [ينشئ](أ) الإمام وقفها، وهو مذهب مالك، وعن أحمد رواية ثالثة أنه يقسمها بين الغانمين كما يقسم بينهم المنقول إلا أن يتركوا حقهم منها، وهو مذهب الشافعي بناء من الشافعي أن آية "الأنفال" وآية "الحشر" متواردتان، وأن الجميع يسمى فيئًا وغنيمة، ولكنه يرد عليه أن ظاهر سوق آيات "الحشر" أن الفيء غير الغنيمة، وأن له مصرفًا [عاما](ب)، ولذلك قال عمر رضي الله عنه (1): إنها عمت الناس بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (2) ولا [يبقى حق](جـ) لمن جاء من بعدهم إلا إذا بقيت محتبسة للمسلمين، إذ لو استحقها المباشرون للقتال وقسمت بينهم توارثها ورثة أولئك، وكانت القرية والبلد تصير إلى امرأة واحدة أو صبي صغير.
وأجاب البيهقي (3) بأن عمر رضي الله عنه قسم أرض خيبر لما أجلاهم، وقال: من كان له سهم من خيبر فليحضر حتى [نقسمها](د) بينهم. ثم
(أ) في جـ: بين. والمثبت من زاد المعاد 3/ 433.
(ب) في جـ: خاصا. والمثبت من نيل الأوطار 8/ 19.
(جـ) في جـ: ينقى حض. والمثبت ما يقتضيه السياق، ويوافق ما في نيل الأوطار 8/ 19.
(د) في جـ: يقسمها. والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
أبو داود 3/ 141 ح 2966، والنسائي 7/ 136، 137.
(2)
الآية 10 من سورة الحشر.
(3)
البيهقي 9/ 138، 139.
قسمها عمر رضي الله عنه بين من شهد خيبر من أهل الحديبية. وما فعله عمر رضي الله عنه في قصة بلال، فإنما فعل ذلك لما رآه من المصلحة، ودعا عليهم حيث خالفوه. ثم قال: وقد روينا في كتاب القسم في فتح مصر أنه رأى ذلك ورأى الزبير بن العوام قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. وأخرج البيهقي (1) عن أسلم، قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: لولا أني أترك الناس ببَّانا -بموحدتين الثانية ثقيلة وبعد الألف نون- أي فقراء معدمين لا شيء لهم- ما فتحت قرية إلا قسمناها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. ويجاب عنه بأن العمل بالآية الكريمة أولى لاحتمال ما عداها، وهو لا يمكن العمل بها إلا مع وقف الأرض للانتفاع بغلتها.
وقال أبو حنيفة (2): الإمام مخير بين القسمة بين الغانمين، أو يقرها لأربابها على خراج، أو ينتزعها منهم ويقرها مع آخرين بالخراج. وذهبت الهدوية إلى أنه يفعل فيها الأصلح من وجوه أربعة؛ إما القسمة بين الغانمين، أو أن يتركها لأهلها على خراج، أو يتركها على مقاتلة من عليها، أو يمن بها عليهم. وقالوا: وقد فعل مثل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه أعلم.
1075 -
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له". رواه البخاري (3).
(1) البيهقي 9/ 138.
(2)
زاد المعاد 3/ 433.
(3)
البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس 6/ 243 ح 3139.
المطعم بن عدي والد جبير، و"النتنى" جمع نتن بالنون والتاء المثناة من فوق، والمراد به أسارى بدر، وصفهم بالنتن لما هم عليه من الشرك، كما وصفوا بالنجس.
وقوله: "لتركتهم له". يعني بغير فداء، وبين السبب في ذلك ابن شاهين (1)، وأنه كان له يد، وذلك ما وقع منه حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ودخل في جوار المطعم بن عدي، وقد ذكر ابن إسحاق (2) القصة في ذلك مبسوطة وكذلك الفاكهي (1) بإسناد حسن مرسل، وأن المطعم أمر أولاده الأربعة فلبسوا السلاح وقام كل واحد منهم عند ركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشًا، فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك. وقيل: إن اليد التي له هي أنه كان من أشد من سعى في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم ومن معهم من المسلمين حتى حصروهم في الشعب. وروى الطبراني (1) عن جبير قال: مات المطعم بن عدي قبل وقعة بدر، وله بضع وتسعون سنة. وذكر الفاكهي (1) بإسناد مرسل أن حسان بن ثابت رثاه لما مات؛ مجازاة له على ما صنع للنبي صلى الله عليه وسلم.
1076 -
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فتحرجوا، فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ
(1) الفتح 7/ 324.
(2)
سيرة ابن هشام 1/ 381.
إلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) الآية. أخرجه مسلم (2).
قوله: يوم أوطاس. أوطاس، قال القاضي عياض (3): هو وادٍ في ديار هوازن، وهو موضع قرب حنين. قال المصنف (4) رحمه الله تعالى: والراجح أن وادي أوطاس هو وادي حنين، ويوضح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بَجيلة، وطائفة إلى أوطاس. وقال أبو عبيد البكري (5): أوطاس واد في ديار هوازن. والحديث فيه دلالة على أنه ينفسخ نكاح المسبية بالسبي، فيكون الاستثناء في الآية متصلًا، وقد ذهب إلى هذا الشافعي، وهو مذهب الهدوية، وظاهره سواء سبي معها زوجها أو لا، وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن سبي معها زوجها لم ينفسخ النكاح، وإن سبيت وحدها انفسخ النكاح، نظرًا من أبي حنيفة أن الموجب للفسخ اختلاف الدار لا طروء الملك، وعن مالك قولان؛ أحدهما: أن السبي يوجب الفسخ مطلقًا كمذهب الشافعي. والثاني: لا يوجب الفسخ مطلقًا.
والحديث وظاهر الآية المفسرة بالحديث المبين لسبب نزولها حجة للشافعي، وفيه دلالة على جواز الوطء ولو قبل الإسلام، سواء كانت كتابية أو وثنية، فالآية الكريمة عامة، وقصة [سبايا](أ) أوطاس لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم
(أ) في جـ: سبيا. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
الآية 24 من سورة النساء.
(2)
مسلم، كتاب الرضاع، باب جواز وطء المسبية بعد الاستبراء 2/ 1079 ح 1456/ 33.
(3)
مشارق الأنوار 1/ 58.
(4)
الفتح 8/ 42.
(5)
معجم ما استعجم 1/ 212.
عرض الإسلام عليهن، مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، وهم حديثو عهد بالإسلام، يبعد عن جميع الغانمين معرفة اشتراط إسلامهن؛ والسبايا عدة ألوف أصابهن السبي على كره بعد قتال الرجال وتشريدهم والإخراج من ديارهم، بيعد منهن المسارعة إلى الإسلام غاية البعد، وكذلك ما رواه الترمذي (1) عن عرباض بن سارية أن [النبي](أ) صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن. فجعل للتحريم غاية واحدة، وهي وضع الحمل، ولو كان متوقفًا على الإسلام لبينه. وما أخرجه أبو داود في "السنن" وأحمد في "المسند" (2) مرفوعًا:"لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها". ولم يذكر الإسلام، وما أخرجه أحمد (3):"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن شيئًا من السبايا حتى تحيض حيضة". ولم يذكر الإسلام، ولم يعرف ذكر اشتراط الإسلام في المسبية في موضع واحد البتة. وقد ذهب إلى هذا طاوس وغيره، واسترجحه صاحب "المغني"(4) من الحنابلة ورجح أدلته، وذهب الشافعي وغيره من الأئمة إلى أنه لا يجوز وطء المسبية بالملك حتى تسلم إذا لم تكن كتابية، وسبايا أوطاس هن وثنيات، فلا بد من التأويل بأن حلهن بعد الإسلام. ويرد عليه ما عرفت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(أ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
الترمذي 4/ 112، 113 ح 1564.
(2)
الترمذي 3/ 437 ح 1131 بلفظ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره، وأحمد 4/ 108 من حديث رويفع بن ثابت.
(3)
أحمد 4/ 109.
(4)
المغني 9/ 552.
1077 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية وأنا فيهم قبل نجد، فغنموا إبلا كثيرة، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا بعيرًا. متفق عليه (1).
قوله. سرية. هي بفتح السين المهملة وكسر الراء وتشديد الياء التحتانية، وهي التي تخرج بالليل، والسارية التي تخرج بالنهار، وقيل: سميت بذلك لأنها تخفي ذهابها، وهذا يقتضي أنها مأخوذة من الستر، وليس كذلك لاختلاف المادة، والسرية قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة، وما زاد على خمسمائة يقال له: منسر. بالنون ثم المهملة، فإن زاد على ثمانمائة سمي جيشًا، وما بينهما يسمى هبطة، فإن زاد على أربعة آلاف يسمى جحفلًا، فإن زاد فجيش جرار، والخميس الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثًا، والعشرة فما دونها تسمى حفيرة، والأربعون عصبة، وإلى ثلاثمائة تسمى مقنبًا بقاف ونون ثم باء موحدة، فإن زاد سمى جمرة بالجيم، والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر.
وهذه السرية ذكرها البخاري بعد غزوة الطائف، والذي ذكره أهل المغازي أنها كانت قبل التوجه لفتح مكة، فقال ابن سعد (2): أنها كانت في شعبان سنة ثمان. وذكر غيره أنها كانت قبل مؤتة، ومؤتة كانت في جمادى سنة ثمان، وقيل كانت في رمضان، قالوا: وكان أبو قتادة أميرها، وكانوا
(1) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين
…
6/ 237 ح 3134، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الأنفال 3/ 1368 ح 1749.
(2)
ابن سعد 2/ 132.
خمسة وعشرين، وغنموا من غطفان بأرض محارب مائتي بعير وألفي شاة،
ولكنه لا يستقيم قسمة السهمان المذكورة على هذا القدر فتنبه.
وقوله: قبل نجد. بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهتها.
وقوله: إبلًا كثيرة. في رواية مسلم (1): فأصبنا إبلًا وغنمًا.
وقوله: وكانت سهمانهم. أي أنصباؤهم، والمراد به: بلغ نصيب كل واحد منهم هذا القدر.
وقوله: اثني عشر بعيرًا. جاء في رواية "الموطأ" عند أكثر رواته (2): اثني عشر أو أحد عشر. بالشك، ولم يروه بغير شك إلا الوليد بن مسلم، فإنه رواه عن شعيب ومالك (3) بغير شك، وكأنه حمل [رواية](أ) مالك على رواية شعيب، وأبو داود (4) رواه عن مالك والليث بغير شك، وأما عن نافع فرواه أصحابه من غير شك إلا مالكًا (5).
قوله: ونفلوا. بصيغة الماضي المجهول، والنفل زيادة يزادها الغازي على نصيبه من المغنم، وفي رواية ابن إسحاق (6) أن التنفيل كان من الأمير، قبل أن
(أ) سقط من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
مسلم 3/ 1368 ح 1749/ 37.
(2)
الموطأ برواية يحيى 2/ 450، وبرواية أبي مصعب الزبيري 1/ 374، 375 ح 953.
(3)
أبو داود 3/ 78 ح 2741، وابن عبد البر 14/ 37 من طريق الوليد عن شعيب به، وابن عبد البر 14/ 37 من طريق الوليد عن مالك به.
(4)
أبو داود 3/ 79 ح 3744 عن مالك والليث به.
(5)
التمهيد 4/ 46، 47.
(6)
أبو داود 3/ 78، 79 ح 2743 من طريق ابن إسحاق به.
يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والقسم كان بعد الوصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قسم ذلك بينهم وبين الجيش؛ لأن الجيش إذا انفرد منه قطعة فغنمت كانت الغنيمة للجميع، وذلك حيث كانت الغنيمة بقوة رد الجيش مع قرب الجيش إذا كانوا بحيث يلحقهم غوثه لو احتاجوا، وظاهر رواية الليث عن نافع عند مسلم (1): أن ذلك كان من أمير الجيش؛ التنفيل والقسم، والنبي صلى الله عليه وسلم مقرر لذلك؛ لأنه قال: ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم. وعند مسلم (2) في رواية عبيد (أ) الله بن عمر: ونفلنا رسول الله بعيرًا بعيرًا.
قال النووي (3): نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما كان مقررًا لذلك، وفي رواية أبي داود (4) عن ابن إسحاق بلفظ: فأصبنا نعمًا كثيرًا، وأعطانا أميرنا بعيرًا بعيرًا لكل إنسان، ثم قدمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل اثني عشر بعيرًا بعد الخمس. وأخرجه أبو داود (5) من طريق أخرى ولفظه: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد، وانبعثت سرية من الجيش، فكان سُهمان الجيش اثني عشر بعيرًا اثني عشر بعيرًا، ونفل أهل السرية بعيرًا بعيرًا، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرًا ثلاثة عشر بعيرًا. وأخرجه ابن عبد البر (6) من هذا الوجه، وقال في روايته: إن ذلك الجيش أربعة آلاف. ويمكن
(أ) في جـ: عبد. والمثبت هو الصواب، وينظر مصدر التخريج.
_________
(1)
مسلم 3/ 1368 ح 1749/ 36.
(2)
مسلم 3/ 1368 ح 1749/ 37.
(3)
شرح مسلم 12/ 55، 56.
(4)
تقدم تخريجه الصفحة السابقة حاشية (6).
(5)
أبو داود 3/ 87 ح 2741.
(6)
التمهيد 14/ 37.
الجمع بين هذه الروايات بأن التنفيل كان من الأمير قبل الوصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد الوصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسم النبي صلى الله عليه وسلم على الجيش، وأن قسم السرية تولى قبضه وحمله الأمير، وقسم ذلك على أصحابه، فمن نسب ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلكونه الذي قسم أولًا، ومن نسب ذلك إلى الأمير فباعتبار أنه تولى ذلك لأصحابه آخرًا، وفي هذا دلالة على شرعية التنفيل، إلا أن عمرو بن شعيب (1) قال: إن هذا يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون من بعده. وكره مالك أن يكون التنفيل بشرط من الأمير بأن يقول: من فعل كذا فله نفل كذا. قال: لأنه يكون القتال للدنيا. قال: فلا يجوز.
واختلف العلماء في النفل، هل يكون من أصل الغنيمة أم من غيرها من الخمس أو من خمس الخمس، أو مما عدا الخمس؟ والأصح عند الشافعية أن ذلك من خمس الخمس، ونقله منذر بن سعيد عن مالك، وهو شاذ عندهم، وقال الأوزاعي وأحمد وأبو ثور وغيرهم: النفل من أصل الغنيمة. وقال مالك وطائفة: لا نفل إلا من الخمس. وقال الخطابي (2): أكثر ما روي من الأخبار يدل على أن النفل من أصل الغنيمة. والذي يقرب من حديث الباب أنه من الخمس، وروى مالك (3) أيضًا عن أبي الزناد، أنه سمع سعيد بن المسيب قال: كان الناس يعطون النفل من الخمس. قال المصنف (4) رحمه الله تعالى: وظاهره اتفاق الصحابة على ذلك. وقال ابن عبد البر (5): إن أراد الإمام
(1) الفتح 6/ 240.
(2)
معالم السننن 2/ 311 بنحوه.
(3)
الموطأ 2/ 456.
(4)
الفتح 6/ 241.
(5)
التمهيد 14/ 50.
تفضيل بعض الجيش لمصلحة فيه، فذلك من الخمس، وإن انفردت قطعة وأراد أن ينفلها، فذلك من غير الخصر بشرط ألا يزيد على الثلث. انتهى. وهذا الشرط قاله الجمهور، وقال الشافعي: هو راجع إلى ما يراه الإمام من الصلاح، ويدل على ذلك قوله تعالى:{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (1)، ففوض إليه أمرها، وظاهر الحديث إذا كان النفل من أصل الغنيمة أنه لا خمس فيه.
1078 -
وعنه رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما. متفق عليه (2) واللفظ للبخاري. ولأبي داود (3): أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم؛ سهمين لفرسه وسهما له.
تمام حديث البخاري، قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، وإن لم يكن له فرس فله سهم. وقد رواه البخاري (4) بطريق أخرى: أنه جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا. وهذه الرواية موافقة لتفسير نافع.
والحديث فيه دلالة على أن سهم الفرس اثنان من غير سهم صاحبها،
(1) الآية 1 من سورة الأنفال.
(2)
البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 7/ 484 ح 4228، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كيفية قسم الغنيمة بين الحاضرين 3/ 1383 ح 1762.
(3)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب في سهمان الخيل 3/ 75، 76 ح 2733.
(4)
البخاري 7/ 67 ح 2863.
و [رواية أبي](أ) داود موافقة لذلك، وكلها عن عبيد الله العمري، وقد ذهب إلى هذا الناصر والقاسم ومالك والشافعي، وذهب أبو حنيفة والهادي إلى أن الفرس لها سهم ولصاحبها سهم، محتجين بما أخرجه أبو داود (1) من حديث مجمع بن جارية -بالجيم والياء التحتانية- في قصة خيبر في حديث طويل، قال: فأعطى للفارس سهمين وللراجل سهما. وأجيب بأن ما رواه البخاري مقدم، لا سيما مع ضعف حديث أبي داود، وقد يؤيد بما أخرجه الدارقطني (2) من حديث أبي بكر بن أبي شيبة بلفظ: أسهم للفارس سهمين. قال الدارقطني عن شيخه أبي بكر النيسابوري: إنه وهم فيه الرمادي أو شيخه مع أن ابن أبي شيبة رواه في "مصنفه"(3) بهذا الإسناد بلفظ: للفرس. وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم (4) في كتاب "الجهاد" له بلفظ: أسهم للفرس. فيحمل قوله: أسهم للفارس سهمين. أي: أسهم للفارس سهمين بسبب فرسه غير سهمه المختص به، والجمع بين [الروايات](ب) ما أمكن هو الواجب، لا سيما مع كون الرواية الأولى أثبت، وهي متضمنة لزيادة علم، وقد أخرج أبو داود (5) من حديث أبي
(أ) ساقط من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق.
(ب) في جـ: الرواية. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
أبو داود 3/ 76 ح 2736.
(2)
الدارقطني 4/ 106.
(3)
ابن أبي شيبة 12/ 396، 397.
(4)
ابن أبي عاصم -كما في الفتح 6/ 68.
(5)
أبو داود 3/ 76 ح 2735.
عمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى للفرس سهمين ولكل إنسان سهمًا، فكان للفارس ثلاثة أسهم. وأخرج النسائي (1) من حديث الزبير، أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له أربعة أسهم؛ سهمين لفرسه، وسهما له، وسهما لقرابته. وقد نقل عن أبي حنيفة أنه كره أن تفضل بهيمة على مسلم، وهذه شبهة ضعيفة لا تعارض النصوص، مع [أن](أ) السهام في الحقيقة كلها للرجل، مع أن المعنى المقتضي لتضعيف سهم الفرس واضح، وهو أن الفرس يحتاج إلى مؤنة [لخدمتها](ب) وعلفها، وبأنه يحصل [بها](جـ) من الإرهاب في الحرب ما لا يخفى، وقد روي عن علي وعمر وأبي موسى مثل قول أبي حنيفة (2)، لكن الثابت عن علي وعمر مثل القول الأول (3). وإن حضر بفرسين، فقال الليث وأبو يوسف وأحمد وإسحاق (4): يسهم لهما أربعة أسهم. وقد أخرج الدارقطني (5) بإسناد ضعيف عن أبي [عمرة](د) قال: أسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسيّ أربعة أسهم، ولي سهمًا، فأخذت خمسة أسهم. وذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم إلا لفرس واحدة، وهو قول مالك، وأما لأكثر من
(أ) ساقط من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق.
(ب) في جـ: بخدمتها. والمثبت من الفتح 6/ 68.
(جـ) في جـ: لها. والمثبت من الفتح.
(د) في جـ: هريرة. والمثبت من الفتح 6/ 68 ومصدر التخريج.
_________
(1)
النسائي 6/ 228.
(2)
ينظر سنن سعيد بن منصور 2/ 279 ح 2765، وابن أبي شيبة 12/ 400، 401، وينظر الفتح 6/ 68.
(3)
ينظر مصنف ابن أبي شيبة 12/ 398، والبيهقي 6/ 327، والفتح 6/ 68.
(4)
ينظر الفتح 6/ 68.
(5)
الدارقطني 4/ 104.
فرسين فإجماع، وإذا مات الفرس قبل حضور القتال، فقال مالك: يسهم لها. وقال الجمهور: لا يسهم لها إلا إذا حضر بها القتال. وإذا مات الفرس في الحرب استحق صاحبه، وإن مات صاحبه استحق الورثة. وعن الأوزاعي فيمن وصل إلى موضع القتال فباع فرسه: يسهم له، لكن يستحق البائع مما غنموا قبل البيع، والمشتري مما بعده، وما اشتبه قسم. وقال غيره: يوقف حتى يصطلحا. ولو اشترى فرسًا في دار العدو قد دخل إليها راجلًا؛ فقال أبو حنيفة: لا يسهم له إلا سهم. ومن غزا في البحر ومعه فرس، فقال الأوزاعي والشافعي: يسهم للفرس. والفرس يشمل العربي والهجين، والمراد بالهجين ما يكون أحد أبويه عربيًّا والآخر غير عربي. وقيل: الهجين الذي أبوه فقط عربي، وأما الذي أمه عربية فقط فيسمى المقرِف. وعن أحمد: الهجين البرذون. وفي "المراسيل"(1) لأبي [داود](ب) عن مكحول، أن النبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم [خيبر](جـ)، وعرب العراب، فجعل للعربي سهمين والهجين سهمًا. وهو منقطع، وقد أخرجه الشافعي (2) عن عمر في قصة مشورة المنذر الوادعي، ولكنه منقطع، وقد أخذ بهذا أحمد، وعنه رواية كغيره من العلماء، وعنه: إن فعلت البراذين ما تفعله الخيل سوّى بينهما وإلا فضلت العربية. وعن الليث: يسهم للبراذين والهجين دون سهم الفرس.
1079 -
وعن معن بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(أ) في جـ: ذر، والمثبت من الفتح 6/ 67.
(ب) في جـ: حنين. والمثبت من الفتح ومصدر التخريج.
_________
(1)
المراسيل ص 227 ح 287.
(2)
الأم 7/ 337.
"لا نفل إلا بعد الخمس". رواه أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي (1).
هو أبو يزيد معن بن يزيد بن الأخنس (2) -بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة وفتح النون وبالسين المهملة- من بني بهثة -بضم الباء الموحدة وبالثاء المثلثة- بن سليم -بضم السين وفتح اللام- السلمي، له ولأبيه ولجده صحبة، شهدوا بدرًا فيما قيل، ولا يعلم أنه اتفق من شهد هو وأبوه وجده بدرًا غيرهم، وقيل: لا يصح شهوده بدرا. يعد في الكوفيين، روى عنه أبو جوصرية الجَرْمى ووائل بن كليب.
وقوله: "لا نفل". النفل: بفتح النون والفاء: الغنيمة، والمراد به هنا ما يزيده الإمام لمن شاء من الغانمين على نصيبه، وقد اتفق العلماء على جواز ذلك، واختلفوا من أي شيء يكون النفل وفي مقداره، وهل يجوز الوعد به قبل الحرب؟ وظاهر الحديث أن النفل إنما يكون بعد تخميس الغنيمة، ولك (3) فيه احتمال أن يكون النفل من الخمس أو يكون من أصل الغنيمة قبل أن تقسم، فقال مالك وغيره: إن النفل إنما يكون من الخمس. وقد روى هذا الشافعي (4) عن مالك عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب، قال: ما كانوا ينفلون إلا من الخمس. وذهب الشافعي وغيره إلى أنه يكون من خمس الخمس الذي هو حظ الإمام، وذهب أحمد وأبو عبيد وغيرهم إلى أن
(1) أحمد 3/ 470، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب النفل من الذهب
…
3/ 82 ح 2753، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 242.
(2)
ينظر الإصابة 6/ 192.
(3)
كذا في جـ، ولعل الصواب: لكن.
(4)
الأم 4/ 143.
التنفيل يكون من جملة الغنيمة، والسبب في الاختلاف أن قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} (1) يدل على أن الغنيمة قد صارت ملكًا للغانمين، فلا يجوز التنفيل منها، وإنَّما يكون من الخمس، وقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (2) الآية. أن للنبي صلى الله عليه وسلم التصرف في الغنيمة، فمن قال: إن قوله: {وَاعْلَمُوا} . ناسخ لقوله: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (2). قال: لا يكون النفل إلَّا من الخمس. ومن قال: إن الآية الأولى غير منسوخة. قال: إن التنفيل إلى رأي الرسول، له أن ينفل وله ألا ينفل، وكذلك ما تقدم من حديث ابن عمر (3)، أنَّه كان كل سهم اثني عشر بعيرًا، و [نفلوا](أ) بعيرًا بعيرًا، فيه دلالة على أن النفل كان من الخمس، إذ لا فائدة في التنفيل إذا كان التنفيل لجميع العسكر، إلَّا أن يقال: إن التنفيل اختص ببعضهم وهم السرية، وحديث حبيب بن مسلمة الآتي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقُل الربع للسرايا بعد الخمس في البدأة، وينفلهم الثُّلث بعد الخمس في الرجعة. يعني في بدأة غزوه وفي انصرافه، فظاهره أن التنفيل من غير الخمس، وأنه لبعض العسكر؛ [لأنه](ب) جعل ذلك للسرايا، وأمَّا المقدار فالذين أجازوا التنفيل من رأس الغنيمة قال بعضهم: لا يجوز أن ينفل أكثر من الثُّلث أو الربع، كما دل عليه حديث حبيب بن مسلمة. وقال بعضهم:
(أ) في جـ: نفلون.
(ب) في جـ: لأنَّ. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
الآية 41 من سورة الأنفال.
(2)
الآية 1 من سورة الأنفال.
(3)
تقدم ح 1077.
للإمام أن ينفل السرية جميع ما غنمت نظرًا إلى ظاهر قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ} . وقد روى [الحكم](أ)(1) من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل قبل أن تنزل فريضة الخمس من المغنم. الحديث. وهو مرسل. والله أعلم.
1080 -
وعن حبيب بن مسلمة رضي الله عنه قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة. رواه أبو داود وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم (2).
هو أبو عبد الرحمن حبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري (3)، و (ب) يقال له: حبيب الروم. لكثرة مجاهدته إياهم، ولاه عمر بن الخطاب أعمال الجزيرة إذ عزل عنها عياض بن غنم، وضم [إلى](جـ) حبيب أرمينية وأذربيجان، وكان فاضلًا مجاب الدعوة، مات بالشام، ويقال: بأرمينية، سنة اثنتين وأربعين، وروى عنه عبد الرحمن بن أميَّة الضمري وابن أبي مليكة. وحبيب بالحاء المهملة المفتوحة وباءين موحدتين بينهما ياء تحتية،
(أ) في جـ: الحاكم. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 7/ 114.
(ب) زاد في جـ: قال. والمثبت يقتضيه السياق.
(جـ) في جـ: ابن. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
أبو داود في المراسيل ص 225 ح 283 من طريق الحكم.
(2)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب فيمن قال: الخمس قبل النفل 3/ 80 ح 2749، وابن الجارود 3/ 334 ح 1079 - غوث)، وابن حبان، كتاب السير، باب الغنائم وقسمتها 11/ 165 ح 4835، والحاكم، كتاب قسم الفيء 2/ 133.
(3)
ينظر الإصابة 2/ 24، 25.
ومسلمة بفتح الميم واللام.
الحديث أخرج نحوه التِّرمذيُّ وابن ماجه وابن حبان (1) في "صحيحه" عن عبادة بن الصَّامت. وقد فسر الخطابي (2) الحديث بما حاصله أن السرية إذا ابتدأت السَّفر نفلها الربع، فإذا أقفلوا ثم رجعوا إلى العدو ثانية كان لهم الثُّلث؛ لأنَّ نهوضهم بعد القفول أشق عليهم وأخطر، وفيه دلالة على أن التنفيل من الغنيمة، وأن التنفيل يكون إلى نظر الإمام يفعله لمصلحة.
1081 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسمة عامة الجيش. متفَّق عليه (3).
1082 -
وعنه قال: كُنَّا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه. رواه البُخاريّ (4). ولأبي داود (5): فلم يؤخذ منهم الخمس. وصححه ابن حبان (6).
قوله: ينفل بعض من يبعث
…
إلخ. فيه دلالة على أن التنفيل ليس واجبًا بل ذلك جائز واقف أيضًا على حسب ما يراه من الصلاح.
(1) التِّرمذيُّ 4/ 110 ح 1561، وابن ماجه 2/ 951 ح 2852، وابن حبان 11/ 193 ح 4855.
(2)
معالم السنن 2/ 312.
(3)
البُخاريّ، كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين
…
6/ 237 ح 3135، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الأنفال 3/ 1369 ح 1750/ 40.
(4)
البُخاريّ، كتاب فرض الخمس، باب ما يصيب من الطعام 6/ 255 ح 3154.
(5)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب في إباحة الطعام في أرض العدو 3/ 65 ح 2701.
(6)
ابن حبان، كتاب السير، باب الغنائم وقسمته 11/ 156، 157 ح 4825.
وقوله: كنا نصيب في مغازينا. الحديث، قد جاء في رواية الإسماعيلي (1) بلفظ: كُنَّا نصيب السمن والعسل. وجاء من طريق جرير بن حازم (2) في أيوب بلفظ: أصبنا طعامًا وأغنامًا يوم اليرموك فلم يقسم. وللأول حكم المرفوع للتصريح بكونه في زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بخلاف الأخير؛ فإن يوم اليرموك بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: لا نرفعه. أي: ولا نحمله على سبيل الإدخال له، ويحتمل: ولا نرفعه إلى متولي أمر الغنيمة ونستأذنه في أكله اكتفاء منه بما سبق من الإذن. وقد ذهب الجمهور إلى أنَّه (أ) يجوز للغانمين أخذ القوت وما يصلح به، وكل طعام يعتاد أكله عمومًا، وكذلك علف الدواب قبل القسمة سواء كان بإذن الإمام أو بغير إذنه، وذهب قوم إلى أن ذلك غلول لا يجوز.
ودليل الجمهور هذا الحديث، وحديث ابن مُغفّل أخرجه البُخاريّ ومسلم (3)، قال: أصبت جراب شحم يوم خيبر، فقلت: لا أعطي منه أحدًا. فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم. وهذه الأحاديث مخصصة لأحاديث الغلول، ودليل المانع عموم أحاديث الغلول، ويجاب عنه بالتخصيص. واتفقوا على جواز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم واستعمال
(أ) بعده في جـ: لا. والكلام لا يستقيم بها.
_________
(1)
الإسماعيلي -كما في الفتح 6/ 256.
(2)
تاريخ دمشق 31/ 83 من طريق جرير به.
(3)
البُخاريّ 7/ 481 ح 4214، ومسلم 3/ 1393 ح 1772.
سلاحهم في حال الحرب ورد ذلك بعد انقضاء الحرب، وشرط الأوزاعي فيه إذن الإمام، وعليه أن يرده كما فرغت حاجته ولا يستعمله في غير الحرب ولا ينتظر برده انقضاء الحرب لئلا يعرضه للهلاك، لحديث رويفع بن ثابت الآتي (1) مرفوعًا:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها، حتَّى إذا عجفها ردها إلى المغانم". وذكر في الثوب كذلك، وهو حديث حسن أخرجه أبو داود والطحاوي (2). ونقل عن أبي يوسف أنَّه حمله على ما إذا كان الآخذ غير محتاج، وقال الزُّهريّ (3): لا يأخذ شيئًا من الطَّعام ولا غيره إلا بإذن الإمام. وقال سليمان بن موسى (4): له أن يأخذ إلَّا إذا نهى الإمام. وقال مالك: يباح ذبح الأنعام للأكل، كما يجوز أخذ الطَّعام. وقيده الشَّافعي بالضرورة إلى الأكل حيث لا طعام.
وقوله: فلم يؤخذ منهم الخمس. فيه دلالة على أنَّه لا يجب تخميس المأكول، والله أعلم.
1083 -
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، قال: أصبنا طعامًا يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينصرف. أخرجه أبو داود وصححه ابن الجارود والحاكم (5).
(1) سيأتي ح 1084.
(2)
أبو داود 2/ 255 ح 2159، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 251.
(3)
عبد الرَّزاق 5/ 179 ح 9297.
(4)
الفتح 6/ 256.
(5)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب في النَّهي عن النهبى إذا كان في الطَّعام قلة في أرض العدو 3/ 66 ح 2704، وابن الجارود 3/ 329 ح 1072، والحاكم، كتاب قسم الفيء 2/ 133، 134.
الحديث فيه دلالة على جواز أخذ الطَّعام من المغنم قبل القسمة كما تقدم، وفيه دلالة أيضًا على أن ذلك قبل التخميس. وقد تقدم الكلام عليه قريبًا.
1084 -
وعن رويفع بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين، حتَّى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين، حتَّى إذا أخلقه رده فيه". أخرجه أبو داود، والدارمي (1)، ورجاله ثقات لا بأس بهم.
الحديث فيه دلالة على أنَّه لا يجوز ركوب الدابة ولا لبس الثوب من المغنم قبل أن يقسم، وظاهره ولو كان محتاجًا إلى ذلك، وإن كان النَّهي محتملًا تقييده بحالة الإعجاف والإخلاق، وأمَّا الركوب الذي لا يضعف الدابة، واللبس الذي لا يخلق الثوب فجائز، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه.
1085 -
وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجير على المسلمين بعضهم". أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد (2)، وفي إسناده ضعف. وللطيالسي (3) من حديث عمرو بن العاص:"يجير على المسلمين أدناهم". وفي
(1) أبو داود، كتاب النكاح، باب في وطء السبايا 2/ 255 ح 2159، والدارمي، كتاب السير، باب النَّهي عن ركوب الدابة من المغنم ولبس الثوب منه 2/ 230.
(2)
ابن أبي شيبة، كتاب السير، باب في أمان المرأة والمملوك 12/ 450، 451، وأحمد 1/ 195.
(3)
الطيالسي 2/ 317 ح 1063.
"الصحيحين"(1) عن علي رضي الله عنه: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم". زاد ابن ماجه (2) من وجه آخر: "ويجير عليهم أقصاهم". وفي "الصحيحين"(3) من حديث أم هانئ: "قد أجرنا من أجرت".
حديث أبي عبيدة (أ) في إسناده حجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، وهو مدلس، وقد رواه معنعنا (ب) عن الوليد بن أبي مالك.
وحديث عمرو رواه الطَّيالسيُّ في "مسنده" مرفوعًا، ورواه أحمد (4) من حديث أبي هريرة:"يجير على المسلمين أدناهم". ورواه أيضًا من حديث أبي عبيدةَ بلفظ: "يجير على المسلمين بعضهم".
وحديث علي متَّفقٌ عليه أنَّه قال: ما عندي إلَّا كتاب الله، وهذه
(أ) زاد بعده في جـ: و. والمثبت هو الصواب.
(ب) في جـ: معنن. والمثبت هو الصواب.
_________
(1)
البُخاريّ، كتاب الجزية والموادعة، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة يسعى بها أدناهم 6/ 273 ح 3172، 3179، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل المدنية ودعاء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة
…
2/ 994 - 998 ح 1370/ 467.
(2)
ابن ماجه، كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم 2/ 895 ح 2683.
(3)
البُخاريّ، كتاب الصَّلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به 1/ 469 ح 357، وكتاب الجزية والموادعة، باب أمان النساء وجوارهن 6/ 273 ح 3171، وكتاب الأدب، جاب ما جاء في زعموا ح 6158، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان
…
1/ 498 ح 336/ 82.
(4)
أحمد 2/ 365 بلفظ: يجير على أمتي أدناهم.
الصحيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين. وقد تقدم في كتاب الجنايات بأتم من هذا (1).
وزيادة ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب بلفظ: "يد المسلمين على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم".
وحديث أم هانئ رواه التِّرمذيُّ (2) بلفظ: "أمنا من أمنت". وقد أجارت الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة. كذا رواه الحاكم، والأزرقي (3)، عن الواقدي.
الحديث فيه دلالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم، سواء كان ذكرًا أم أنثى، حرًّا أم عبدًا، سواء كان ذلك بإذن من الإمام أو بغيره، فإن قوله في رواية:"بعضهم". شامل لذلك، وكذلك في رواية:"أدناهم". فإن الأدنى نص صريح في الوضيع، والشريف مدلول بمفهوم الفحوى، وقد وقع خلاف في بعض الأطراف، قال ابن المنذر (4): أجمع أهل العلم على جواز أمانها إلَّا عبد الملك بن الماجشون وسحنون، فإنهما يقولان: إن ذلك موقوف على إذن الإمام. قالا: وقال على: "أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
(1) تقدم ح 966.
(2)
التِّرمذيُّ 4/ 120، 121 عقب ح 1579.
(3)
الحاكم 4/ 53، 54، والأزرقي في أخبار مكّة 1/ 389، 390.
(4)
الإجماع ص 27.
إنَّما هو إجازة منه لأمانها، فلو لم يؤمن لم يصح أمانها. والجمهور حملوه على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّما أمضى ما قد وقع منها وأنه قد انعقد أمانها، ويؤيّد هذا عموم:"المسلمين". للنساء، كما هو المختار عند بعض أئمة الأصول، أو من باب التغليب لقرينة. والعبد اشترط أبو حنيفة أن يكون قد قاتل، وإلا لم يصح أمانه. وقال سحنون: إن أذن له سيده في القتال صح أمانه، وإلا فلا. قالا: لأنَّ الأمان من شرطه الكمال، والعبد ناقص بالعبودية، فوجب أن يكون للعبودية تأثير في إسقاطه، قياسًا على تأثيرها في إسقاط كثير من الأحكام الشرعيّة، فيخصص العموم بهذا القياس. وأمَّا الصبي، فقال ابن المنذر (1): أجمع أهل العلم أن أمان الصبي غير جائز. قال المصنف رحمه الله تعالى (2): وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذلك المميز الذي يعقل، والخلاف عن المالكية والحنابلة. وأمَّا المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف. وأمَّا الكافر الذهبي، فقال الأوزاعي: إذا غزا مع المسلمين وأمَّن، فإن شاء الإمام أمضاه، وإلا فليرده إلى مأمنه. وأمَّا الأسير في أرض الحرب، فكلام الهدوية أنَّه لا يصح تأمينه، لأنهم قالوا: لا بد أن يكون المؤمن متمنعًا من الكفار. وكذا حكى ابن المنذر (3) هذا عن الثوري، فقال: لا يصح تأمين الأسير.
فائدة: أم هانئ اختلف في اسمها، فقيل: فاختة. كذا رواه الطّبرانيّ (3)
(1) الإجماع ص 28.
(2)
الفتح 6/ 274.
(3)
الطبراني 24/ 416 ح 1013.
أنَّه صلى الله عليه وسلم قال لها: "مرحبًا بفاختة أم هانئ". وادعى الحاكم (1) تواتره. وقال الشَّافعي: اسمها هند. وقيل: فاطمة. حكاه ابن الأثير. وقيل: عاتكة. حكاه ابن حبان وأبو موسى. وقيل: جُمَانة. حكث الزُّبير بن بكار. وقيل: رَمْلة. حكاه ابن البرقي. وقيل: جمانة أختها. وقيل: ابنتها (2).
1086 -
وعن عمر رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتَّى لا أدع إلَّا مسلمًا" رواه مسلم (3).
الحديث فيه دلالة على عزمه صلى الله عليه وسلم على إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأخرجه أحمد والبيهقيّ (4) بزيادة:"لئن عشت إلى قابل". ومن المتفق عليه (5) عن ابن عباس، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" الحديث. وأخرج البيهقي (6) من حديث مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، أنَّه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: بلغني أنَّه كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ قال: "قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب". وأخرج (6) من حديث مالك، عن ابن شهاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
(1) الحاكم 4/ 52.
(2)
أسد الغابة 7/ 404، والإصابة 8/ 317، والتلخيص 4/ 119.
(3)
مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب 3/ 1388 ح 1767.
(4)
أحمد 1/ 32، والبيهقيّ 9/ 207.
(5)
البُخاريّ 6/ 170 ح 3053، ومسلم 3/ 1257 ح 1637/ 20.
(6)
البيهقي 9/ 208.
يجتمع دينان في جزيرة العرب". قال مالك: قال ابن شهاب: ففحص عمر عن ذلك حتَّى أتاه الثَّلج (1) واليقين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب". فأجلى يهود خيبر. قال مالك: وقد أجلى يهود نجران وفدك. وأخرج (2) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكن قبلتان في بلد واحد".
وجزيرة العرب؛ أخرج البيهقي (2) عن سعيد بن عبد العزيز: هي ما بين الوادي -يعني وادي القرى- إلى أقصى اليمن إلى تُخوم العراق إلى البحر. وأخرج (3) عن [أبي عبيد، عن](أ) أبي عبيدة، قال: جزيرة العرب ما بين حَفَر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول -وحَفَر أبي موسى بفتح الحاء المهملة وفتح الفاء أيضًا، وهو قريب من البصرة- وأمَّا العرض فيما بين رمل يَبرين إلى منقطع السماوة. قال: وقال الأصمعي: جزيرة العرب من أقصى عَدنِ أبْيَنَ إلى ريف العراق في الطول، وأمَّا في العرض فمن جُدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام. وأخرج (4) عن [أبي](ب) عبد الرحمن المقري، أن جزيرة العرب من لدن القادسية إلى لدن قعر عدن إلى البحرين.
(أ) في جـ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) في جـ: ابن. والمثبت من مصدر التخريج، وهو عبد الله بن في يد القرشي أبو عبد الرحمن المقرئ. ينظر تهذيب الكمال 16/ 318، وتذكرة الحفَّاظ 1/ 367.
_________
(1)
يقال: ثلِجت نفسي بالأمر تثْلَج ثَلَجا، وثلَجت تثلُج ثلُوجا، إذا اطمأنت إليه وسكنت، وثبت فيها ووثقت به. النهاية 1/ 219.
(2)
البيهقي 9/ 208.
(3)
البيهقي 9/ 208، 209.
(4)
البيهقي 9/ 209.
وحكي عن مالك أن جزيرة العرب هي المدينة. والصحيح المعروف عن مالك أنها مكّة والمدينة واليمامة واليمن. وقال عبد العزيز بن يَحْيَى المدني (1): سمعت مالكًا يقول: جزيرة العرب (أ) المدينة ومكة واليمن، فأمَّا مصر فمن بلاد المغرب، والشام من بلاد الروم، والعراق من بلاد فارس. وفي "القاموس" (2): جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند والشام ثم دجلة [والفرات، أو](ب) ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولًا، ومن جُدة إلى ريف العراق عرضًا. انتهى.
وسميت جزيرة لإحاطة البحار بها -يعني بحر الهند، وبحر القلزم، وبحر فارس، والحبشة- وانقطاعها عن المياه العظيمة. وأصل الجزر في اللغة القطع. وأضيفت إلى العرب، لأنها التي كانت بأيديهم قبل الإسلام، وديارهم التي هي أوطانهم وأوطان أسلافهم.
وظاهر هذه الأحاديث يدل على وجوب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب. وقد قال بهذا مالك، والشّافعيّ وغيره، إلَّا أن الشَّافعي وغيره كالهدوية خصوا ذلك بالحجاز، وقال الشَّافعي (3): وإن سأل من يؤخذ منه الجزية أن يعطيها، ويجرى عليه الحكم، على أن يسكن الحجاز، لم يكن له ذلك، والحجاز مكّة والمدينة واليمامة ومخاليفها كلها. وفي "القاموس" (4):
(أ) زاد بعده في جـ: من. والمثبت من البيهقي 9/ 209.
(ب) في جـ: والعراق و. والمثبت من القاموس المحيط.
_________
(1)
البيهقي 9/ 209.
(2)
القاموس المحيط (جـ ز ر).
(3)
الأم 4/ 177، 178.
(4)
القاموس المحيط (ح جـ ز).
الحجاز حجاز مكّة والمدينة والطائف ومخاليفها؛ [لأنها](أ) حجزت بين نجد وتهامة، أو بين نَجْد والسَّرَاة، أو لأنها احتجزت بالحرار الخمس، حرة بني سُلَيم وواقم وليلى وشَوران والنار. وقال الشَّافعي (1): لم أعلم أحدًا أجلى أحدًا من أهل الذمة من اليمن، وقد كانت [بها](ب) ذمة، وليست اليمن بحجاز، فلا يجليهم أحد من اليمن، ولا بأس أن يصالحهم على مقامهم باليمن. قال البيهقي (2): قد جعلوا اليمن من أرض العرب، والجلاء وقع على أهل نجران، وذمة أهل الحجاز دون ذمة أهل اليمن؛ لأنها ليست بحجاز، لا لأنهم لم يروها من أرض العرب، [والجلاء](جـ) في الحديث تخصيص، وفي حديث أبي عبيدة بن الجراح دليل أو شبه دليل على موضع الخصوص. والله أعلم. انتهى.
وقول البيهقي: دليل أو شبه دليل. يعني أن حديث أبي عبيدة أخرجه أحمد والبيهقيّ (3) أنَّه قال: آخر ما تكلم به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب". فيه ذكر بعض أفراد العام، وهو يهود الحجاز محكومًا عليه بما حكم به على العام، وهو [إخراج](د) اليهود
(أ) في جـ: كأنها. والمثبت من القاموس المحيط.
(ب) في جـ: لها. والمثبت من الأم.
(جـ) ساقطة من: جـ، والمثبت من البيهقي.
(د) في جـ: أخرج. والمثبت هو الصواب.
_________
(1)
الأم 4/ 178.
(2)
البيهقي 9/ 209.
(3)
أحمد 1/ 195، والبيهقيّ 9/ 208.
والنصارى من جزيرة العرب، لا يقتضي التخصيص عند الأكثر، وإن كان يقتضيه عند أبي ثور من أصحاب الشَّافعي، فهو دليل عند أبي ثور وشبه دليل عند غيره، إلَّا أن التخصيص متأيد بحديث معاذ لما بعثه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمره بتقرير الجزية على كل حاتم دينارًا أو عدله معافريًّا (1). وهذا خاص باليمن، وورد بعده حديث الوصيَّة. فعلى مقتضى ما ذهب إليه الشَّافعي، ورجحه كثير من المتأخرين، أن الخاص المتقدم مخصص للعام المتأخر، فهو مخصص لليمن، وهو دليل واضح. ويترجح أيضًا بعمل الخلفاء الراشدين على تقريرهم في اليمن. وأما أهل نجران فإنهم سألوا الجلاء، أو لما قد ورد فيهم بخصوصهم، كما في حديث أبي عبيدة، ولذلك لما أجلاهم عمر رضي الله عنه وأتوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته يسألونه العود إلى أرضهم، قال: إن عمر كان رشيد الأمر. أخرجه ابن أبي شيبة (2). ولا يبعد أن يكون ترك التعرض لهم في أيَّام الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إجماعًا سكوتيًّا متكررًا، ومثله قد يفيد القطع، كما حققه جماعة من أهل الأصول، مع أن حديث الأمر بالإخراج يحتمل أن يكون في حال سكونهم بغير جزية، كما كان عليه أهل خيبر الذين أجلاهم عمر، ولذلك قال عمر لليهود: من كان منكم عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت به، وإلا فإني مجليكم. أخرجه عبد الرَّزاق (3). وأمَّا حال إعطاء الجزية فمخالف ذلك كما كان عليه من في اليمن.
(1) أبو داود 2/ 103، 104 ح 1577، 1578، والترمذي 3/ 20 ح 623، والنَّسائيُّ 5/ 25، 26.
(2)
ابن أبي شيبة 12/ 32.
(3)
عبد الرّزاق 4/ 125، 126 ح 7208.
قال النووي (1): قال العلماء رحمهم الله تعالى: ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين إلى الحجاز، ولا يمكثون فيه أكثر من ثلاثة أيَّام، قال الشَّافعي وموافقوه: إلَّا مكّة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال، فإن دخل في خفية وجب إخراجه منها، فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج ما لم يتغير. هذا مذهب الشَّافعي وجماهير الفقهاء. وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم. وحجة الجماهير قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2). انتهى.
1087 -
وعنه رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير ممَّا أفاء الله على رسوله ممَّا لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع (3) والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل. متَّفقٌ عليه (4).
قوله: أموال بني النضير. بفتح النون وكسر الضَّاد المعجمة، هم قبيلة كثيرة من اليهود، وادعهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد قدومه إلى المدينة على ألا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه، ووادع قريظة وقينقاع. وكان بنو النضير منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فنكثوا العهد، وسار منهم كعب بن الأشرف في
(1) شرح مسلم 1/ 94.
(2)
الآية 28 من سورة التوبة.
(3)
الكراع: اسم لجميع الخيل. النهاية 4/ 165.
(4)
البُخاريّ، كتاب الجهاد، باب المجن ومن يترس بترس صاحبه 6/ 93 ح 2904، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء 3/ 1376 ح 1757/ 48.
الأربعين راكبًا إلى قريش، فحالفهم على رأس ستة أشهر من وقعة بدر كما ذكره الزُّهريّ. وذكر ابن إسحاق في "المغازي"(1) أن ذلك بعد قصة أحد وبئر معونة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم يستعينهم في دية رجلين قتلهما عمرو بن أميَّة الضمري من بني عامر قد أمنهما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يشعر بذلك، فجلس النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار لهم، فتمالئوا على إلقاء صخرة عليه من فوق ذلك الجدار، وقام لذلك عمرو بن جِحَاش بن كعب، فأتاه الخبر من السماء، فقام مظهرًا أنَّه يقضي حاجة، وقال لأصحابه:"لا تبرحوا". ورجع مسرعًا إلى المدينة، فاستبطأه أصحابه، فأُخبروا أنَّه توجه إلى المدينة فلحقوا به، فأمر بحربهم والمسير إليهم، فتحصنوا، فأمر بقطع النخل والتحريق، وحاصرهم ست ليال -في رواية ابن إسحاق- وكان ناس من المنافقين بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، فإن قوتلتم قاتلنا معكم. فتربصوا، فقذف الله في قلوبهم الرعب فلم [ينصروهم](أ)، فسألوا أن يجلوا عن أرضهم على أن لهم ما حملت الإبل، فصولحوا على ذلك إلَّا الحَلَقة -بفتح الحاء وفتح اللام، وهو السلاح- فخرجوا إلى أذْرِعاتٍ وأريحا من الشام، وآخرون إلى الحيرة، ولحق آلُ أبي الحُقَيق وآل حيي بن أخطب بخيبر، وكانوا أول من أُجلي من اليهود، كما قال الله تعالى:{لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} (2). وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء، والحشر (ب) الثَّاني من خيبر في أيَّام عمر
(أ) في جـ: ينصرهم. والمثبت موافق لمصدري التخريج.
(ب) زاد بعده في جـ: و. وبحذفها يستقيم السياق.
_________
(1)
ينظر سيرة ابن هشام 2/ 190 - 195، والروض الأنف 6/ 208 - 213.
(2)
الآية 2 من سورة الحشر.
رضي الله عنه، وكانت أموال بني النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين المهاجرين لحاجتهم وفقرهم، ولم يعط الأنصار شيئًا إلَّا ثلاثة نفر كانت لهم حاجة، أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.
وقوله: مما أفاء الله على رسول. الفيء: ما أخذ بغير قتال، والظاهر أنَّه لا خمس فيه. قال في "نهاية المجتهد" (1): وعند الجمهور، لا خمس فيه، وعن الشَّافعي في أحد أقواله، أنَّه يجب فيه الخمس، ولم يقل به غيره. انتهى.
وقوله: ممَّا لم يوجف عليه المسلمون. الإيجاف: هو الإسراع في المشي، وذلك لأنَّ أرض بني النضير كانت على ميلين من المدينة، فمشوا إليها رجالًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ركب جملًا أو حمارًا، ولم تنل أصحابه مشقة في ذلك. والمعنى أن المسلمين لم يجروا الخيل والإبل في استفتاح بني النضير.
وقوله: وكان ينفق على أهله. أي ممَّا استبقاه لنفسه، والمراد أنَّه يعزل لهم نفقة سنة، ولكنه كان ينفقه قبل انقضاء السنة في وجوه الخير، ولا يتم عليه السنة، ولهذا توفى صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير استدانه لأهله، ولم يشبع ثلاثة أيَّام متوالية. وقد تظاهرت الأحاديث بكثرة جوعه وجوع أهل بيته. وفيه دلالة على جواز ادخار قوت سنة، [وجواز](أ) الادخار للعيال، ولا يقدح في التوكل.
(أ) في جـ: بجواز. والمثبت هو الصواب.
_________
(1)
الهداية في تخريج أحاديث البداية 6/ 94.
وأجمع العلماء على جواز الادخار ممَّا يستغله الإنسان من أرضه، وأمَّا إذا أراد أن يشتري من السوق ويدخره، فإن كان في وقت ضيق الطَّعام لم يجز، بل يشتري ما لا يحصل به تضييق على المسلمين، كقوت أيَّام أو شهر، وإن كان في وقت سعة اشترى قوت سنة وأكثر. وهذا التفصيل نقله القاضي عياض (1) عن أكثر العلماء، وعن قوم إباحته مطلقًا.
1088 -
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فأصبنا فيها غنمًا، فقسم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة، وجعل بقيتها من المغنم. رواه أبو داود (2)، ورجاله لا بأس بهم.
الحديث فيه دلالة على التنفيل، وأنه من أصل الغنيمة، وقد مر الكلام فيه.
1089 -
وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لا أخيس بالعهد، ولا أحبس الرسل". رواه أبو داود والنَّسائيُّ، وصححه ابن حبان (3).
قوله: "لا أخيس بالعهد". معناه: لا أنقض العهد ولا أُفسده، من خاس الشيء في الوعاء إذا فسد، ويدل على أن العهد يرعى مع الكفار رعايته
(1) شرح مسلم 12/ 71.
(2)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب في بيع الطَّعام إذا فضل عن النَّاس في أرض العدو 3/ 66، 67 ح 2707.
(3)
أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الإمام يُستَجنُّ به في العهود 3/ 83 ح 2758، والنَّسائيُّ في الكبرى، كتاب السير، باب حمل الرءوس 5/ 205 ح 8674، وابن حبان، كتاب السير، باب الموادعة والمهادنة 11/ 233 ح 4877.
مع المسلم. ومعنى: "ولا أحبس الرسل". أن الرسالة تقتضي جوابًا، والجواب لا يصل إلى المرسل إلَّا على لسان الرسول بعد انصرافه، فكأنه به عقد له العهد مدة غيبته ورجوعه. وفي رواية:"البُرُد". جمع بريد، وهو المستعجل في مشيه.
1090 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم[قال] (أ):"أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم". رواه مسلم (1).
قال القاضي عياض (2): يحتمل أن يكون المراد بالقرية الأولى هي التي لم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب، بل أجلي عنها أهلها أو صالحوا، فيكون سهمهم فيها -أي حقهم- من العطاء كما يصرف الفيء، ويكون المراد بالثانية ما أخذت عَنوة، فتكون غنيمة، يخرج منها الخمس والباقي للغانمين، وهو معنى قوله:"ثم هي لكم". أي باقيها. وقد احتج به من لم يوجب الخمس في الفيء. قال ابن المنذر (2): لا يعلم أحد قبل الشَّافعي قال بالخمس في الفيء. والله أعلم.
(أ) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب حكم الفيء 3/ 1376 ح 1756.
(2)
شرح مسلم 12/ 69.