المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب الأيمان والنذور - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٩

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌كتاب الأيمان والنذور

‌كتاب الأيمان والنذور

الأيمان بفتح الهمزة، جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة اليد، وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه. وقيل: لأن اليد اليمين من شأنها حفظ الشيء، فسمي الحلف بذلك لحفظه المحلوف عليه، ويسمَّى المحلوف عليه يمينا لتلبسه بها. ويجمع اليمين أيضًا على أيمن كرغيف وأرغف.

وعُرِّفت شرعًا بأنها توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله تعالى.

والنذور جمع نذر، وأصله الإنذار بمعنى التخويف، وعرَّفه الراغب (1) بأنّه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر.

1139 -

عن ابن عمر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت". متفق عليه (2). وفي رواية لأبي داود والنسائي (3) عن أبي هريرة: "لا تحلفوا بآبائكم وأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون".

(1) مفردات الراغب ص 487.

(2)

البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بآبائكم 11/ 530 ح 6646، ومسلم، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى 3/ 1267 ح 3/ 1646.

(3)

أبو داود 3/ 219 ح 3248، والنسائي 7/ 5.

ص: 437

الحديث فيه دلالة على أن الحلف بالآباء منهي عنه، وقد اختلف العلماء هل النهي للتحريم أو للتنزيه؟ فللمالكية قولان، (أقال ابن دقيق العيد: المشهور عندهم الكراهة أ). والحنابلة اختلفوا في ذلك، والمشهور عن ابن حنبل التحريم، وبه جزم الظاهرية. وقال ابن عبد البر (1): لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع. ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه، فإنه قال في موضع آخر (2): أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها. والخلاف عند الشافعية؛ لأن الإمام الشافعي قال (3): أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية. فأشْعَر بالتردد، وجمهور أصحابه على أنه للتنزيه، وقال إمام الحرمين (4): المذهب القطع بالكراهة. وجزم غيره بالتفصيل، وقال الماوردي (4): لا يجوز لأحد أن يُحلِّف أحدًا بغير الله تعالى؛ لا بطلاق ولا بعتاق ولا نذر، وإذا حلَّف الحاكم أحدًا بشيء من ذلك وجب عزله. وذهب الإمام يحيى إلى أنه يكره الحلف بغير الله، وصرح الإمام المهدي في "الأزهار" (5) أن الحلف بغير الله لا يقتضي الإثم ولا الكفارة ما لم يُسو في التعظيم أو يضمن كفرا أو فسقا. انتهى. والأوْلى أن يقول: أو إثما. بدل قوله: فسقا.

(أ- أ) عبارة الفتح 11/ 531: كذا قال ابن دقيق العيد، والمشهور عندهم الكراهة. وينظر شرح عمدة الأحكام 4/ 144.

_________

(1)

التمهيد 14/ 366.

(2)

التمهيد 14/ 367.

(3)

الأم 7/ 61.

(4)

الفتح 11/ 531، 532.

(5)

السيل الجرار 4/ 15.

ص: 438

وظاهر الحديث التحريم، والمناسبة (أ) للنهي أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله فلا يضاهى به غيره، وقد وردت أحاديث صريحة في التحريم، وهو ما أخرجه أبو داود والحاكم (1) واللفظ له من حديث ابن عمر أنَّه قال صلى الله عليه وسلم:"من حلف بغير الله فقد كفر". وفي رواية للحاكم (2) أيضًا: "كل يمين يحلف بها دون الله شرك". ورواه أحمد (3) بلفظ: "من حلف بغير الله فقد أشرك".

وحجة من قال بعدم التحريم ما جاء في حديث الأعرابي: "أفلح وأبيه إن صدق"(4). وما وقع في القرآن من الإقسام بغير الله، فيكون النهي محمولا على الكراهة.

وأما قوله: "فقد كفر". وقوله: "فقد أشرك". فقال الترمذي (5): قد حمل بعض العلماء مثل هذا على التغليظ، كما حمل بعضهم قوله:"الرياء شرك"(6). على ذلك، وفُسِّر قوله تعالى:{وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (7). أي: لا يرائي. وقال الماوردي: فيه تأويلان؛ أحدهما: فقد أشرك بين الله وبين غيره في التعظيم وإن لم يَصِر من الكافرين المشركين. وثانيهما: صار

(أ) في ب: المناسب.

_________

(1)

أبو داود 3/ 220 ح 3251، والحاكم 1/ 18.

(2)

الحاكم 1/ 18.

(3)

أحمد 2/ 69.

(4)

مسلم 1/ 40، 41 ح 11/ 9.

(5)

الترمذي 4/ 94 عقب ح 1535.

(6)

البيهقي في الشعب 5/ 328، 329 ح 6813. وينظر الدر المنثور 4/ 256، 257.

(7)

الآية 110 من سورة الكهف.

ص: 439

كافرا به بعد أن اعتقد لزوم يمينه بغير الله كاعتقاد لزومها بالله.

وأجيب عن الحديث بأن قوله: "وأبيه". لم يقصد به القسم، وإنما قصد به مجرد التوكيد، أو قاله قبل أن يعلم كراهة ذلك. وقال ابن عبد البر (1): هذه اللفظ غير محفوظة، وقد جاءت عن راويها بلفظ:"أفلح والله إن صدق". وزعم بعضهم أن راويها صحف: "والله" بـ: "أبيه".

وأما تأويل الحديثين بالتغليظ فإنما يدفع القول بكفر من قال بذلك، وأما التحريم فلا يدفعه، فإن التغليظ إنما كان لأجل التحريم. وقول أبي بكر في الذي سرق حلي ابنته فقال: وأبيك ما ليلك بليل سارق. أخرجه "الموطأ"(2) وغيره، فتأول بما ذكر من قصد التأكيد.

وقوله: "ولا تحلفوا بالأنداد". الأنداد جمع ند، والند هو من (أ) يجعل شريكا في العبادة. وقد أخرج مسلم (3) قوله صلى الله عليه وسلم:"من حلف منكم فقال في حلفه: واللات والعزى. فليقل: لا إله إلا الله". وأخرج النسائي (4) من حديث سعد بن أبي وقاص أنه حلف باللات والعزى. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وانفث عن يسارك ثلاثا، وتعوذ بالله من الشيطان

(أ) في جـ: ما.

_________

(1)

التمهيد 14/ 367.

(2)

الموطأ 2/ 835، 836 ح 30.

(3)

مسلم 3/ 1267، 1268 ح 1647.

(4)

النسائي 7/ 7، 8.

ص: 440

الرجيم، ثمَّ لا تعُد". وأخرج النسائي (1) عن قُتَيلة -امرأة من جهينة- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقولوا: ورب الكعبة. بعد ذكر الإشراك بقولهم: والكعبة.

والحديث فيه دلالة على تحريم الحلف بالأصنام. وأما أنه يكفر بذلك فظاهر قوله: "فليقل: لا إله إلا الله". أنه لا يكفر؛ لأنه لو كفر لوجب تمام الشهادتين بالإقرار بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن المنذر (2): اختلف فيمن قال: أكفر بالله ونحو ذلك إن فعلت كذا. (أثم فعل أ)؛ فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار: لا كفارة عليه، ولا يكون كافرا إلا إن أضمر ذلك بقلبه. وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق: هو يمين، وعليه الكفارة إذا حنث. وقال ابن المنذر: الأول أصح؛ لقوله: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله". ولم يذكر كفارة. وكذا قال: "من حلف بملة سوى الإسلام فهو كما قال"(3). فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه.

ونقل أبو الحسين بن القصار (4) من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لإيجاب الكفارة بأنه إنما وجبت في اليمين لإيجابها الامتناع من الفعل،

(أ - أ) ساقط من: جـ.

_________

(1)

النسائي 7/ 6.

(2)

الإشراف على مذاهب أهل العلم 2/ 245، 246.

(3)

البخاري 11/ 537 ح 6652، ومسلم 1/ 105 ح 110/ 177.

(4)

الفتح 11/ 538.

ص: 441

وهذا كذلك، وتضمن كلامه تعظيم الإسلام، وقياسا على الظهار، فإنه منكر من القول وزور، وهذا كذلك. ولكنه كان يلزم أن تجب فيه كفارة الظهار ولا يقولون به. ويرد عليهم أنهم قالوا: إذا قال: وحق الإسلام. لا تجب عليه الكفارة إذا حنث، (أوبه قالت أ) الحنفية، إلا إذا قال: أنا مبتدع أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم. فلا كفارة، وكذا قوله: هو يهودي إن فعل كذا.

وظاهر قوله: "فليقل: لا إله إلا الله". وجوب ذلك، وذهب الجمهور إلى أنه مستحب، وكأن القرينة على الحمل على الاستحباب أن وجوبه إنما يكون إذا قلنا بأنه يقتضي الكفر، ولو قلنا بذلك لوجب تمام الشهادتين، فدل الاقتصار على أن ذلك لا على سبيل الوجوب، وإنما هو كالأمر بازدياد الذكر.

وقوله: "ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون". يدل على تحريم الحلف على الشيء وهو يعتقد كذبه، وهذه اليمين هي الغموس المحرمة، والله أعلم.

1140 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك". وفي رواية: "اليمين على نية المستحلِف". أخرجهما مسلم (1).

الحديث فيه دلالة على أن اليمين تكون على ما يقصده المحلِّف، ولا تنفع نية الحالف إذا نوى بها غير ما أظهره. وظاهر الحديث الإطلاق، سواء كان

(أ - أ) في جـ: فقالت.

_________

(1)

مسلم، كتاب الأيمان، باب يمين الحالف على نية المستحلف 3/ 1274 ح 1653/ 20، 21.

ص: 442

المحلِّف له الحاكم أو المدعي للحق. وقد أفهم الحديث أنه حيث (أ) كان المحلِّف له التحليف؛ لأن قوله: "على ما يصدقك به صاحبك". إنما هو حيث كان المحلف له التحليف وهو حيث كان صادقا فيما ادعاه على الحالف، وأما لو كان على خلاف ذلك كانت النية نية الحالف، وقد اعتبر الشافعية والفقيه محمد بن يحيى من الهدوية أن يكون المحلف الحاكم وإلا كانت النية نية الحالف.

قال النووي (1): وأما إذا حلف بغير استحلاف وورَّى فتنفعه التورية ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليف أو حلَّفه غير القاضي أو غير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلِف -بكسر اللام- غير القاضي، وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت (ب) عليه فتكون اليمين على نية المستحلِف، وهو مراد الحديث، أما إذا حلف بغير استحلاف القاضي في دعوى فالاعتبار بنية الحالف، وسواء في هذا كله اليمين بالله تعالى أو بالطلاق والعتاق، إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق والعتاق تنفعه التورية، ويكون الاعتبار بنية الحالف؛ لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق وإنما يستحلف بالله تعالى. وقال (1): التورية وإن كان لا يحنث بها فلا يجوز فعلها، حيث يبطل بها حق المستحق، وهذا مجمع عليه. انتهى.

(أ) في جـ: حنث.

(ب) في ب: وجهت.

_________

(1)

شرح مسلم 11/ 117.

ص: 443

ونقل القاضي عياض (1) عن مالك وأصحابه اختلافا وتفصيلا فقال: لا خلاف بين العلماء أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه، له نيته ويُقبل قوله، وأما إذا حلف لغيره في حق أو وثيقة متبرعا أو بقضاء عليه فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه، سواء حلف متبرعا باليمين أو باستحلاف. وأما فيما بينه وبين الله تعالى فقيل: اليمين على نية المحلوف له. وقيل: على نية الحالف، وقيل: إن كان مستحلَفا فعلى نية المحلوف له وإن كان متبرعا باليمين فعلى نية الحالف، وهذا قول عبد الملك وسحنون، وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم، وقيل عكسه، وهي رواية عن يحيى عن ابن القاسم أيضًا، وحُكي عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة فهو فيه آثم حانث، وما كان على وجه العذر فلا بأس به، وقال ابن حبيب عن مالك (2): ما كان على المكر والخديعة فله نيته، وما كان في حق فهو على نية المحلوف له. انتهى.

1141 -

وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأْت الذي هو خير". متفق عليه (3)، وفي لفظ البخاري (4):

(1) شرح مسلم 11/ 117.

(2)

شرح مسلم 11/ 118.

(3)

البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيْمَانِكُمْ} 11/ 516 ح 6622، ومسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه 3/ 1273، 1274 ح 1652.

(4)

البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده 11/ 608 ح 6722.

ص: 444

"فأْت الذي هو خير وكفر عن يمينك". وفي رواية لأبي داود (1): "فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير". وإسنادها (أ) صحيح.

قوله: "على يمين". أي المحلوف منه، سماه يمينا مجازا، والضمير في:"غيرها" يعود إلى اليمين بمعناها المجازي، وأنَّث الضمير نظرا (ب) إلى لفظ:"يمين" فإنه مُؤنث.

الحديث فيه دلالة على أن من حلف على فعل شيء أو تركه وكان الحنث خيرا من التمادي على اليمين استُحِب له الحنث وتلزمه الكفارة، وهذا متفق عليه، والإجماع على أنه لا تجب الكفارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها إلى بعد الحنث، وعلى أنه لا يصح تقديمها قبل اليمين. ودلَّ الحديث على أنه يجوز تقديم الكفارة على الحنث بعد وقوع اليمين لا سيما حديث:"ثم ائت". فإن "ثم" تدل على الترتيب مع المهلة، وأما الرواية التي العطف فيها بالواو فهي لا تدل على شيء؛ لجواز عطف المتأخر على المتقدم والعكس فيها.

وقد ذهب إلى جواز تقديم الكفارة على الحنث مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأربعة عشر صحابيا وجماعات من التابعين (2)، وهو قول جماهير العلماء؛ لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث. وظاهره جميع

(أ) في ب: إسنادهما.

(ب) ساقط من: جـ.

_________

(1)

أبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب الرجل يكفر قبل أن يحنث 3/ 226 ح 3278.

(2)

شرح مسلم 11/ 109.

ص: 445

أنواع الكفارة، واستثنى الشافعي (1) الكفارة بالصوم فقال: لا يجوز قبل الحنث؛ لأنها عبادة بدنية لا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة وصوم رمضان، وأما التكفير بالمال فيجوز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة. واستثنى بعض أصحابه (2) حنث المعصية فقال: لا يجوز تقديم كفارته؛ لأن فيه إعانة على المعصية. وظاهر هذا أن الشافعي لم يحتج بالحديث، وذلك لاختلاف الرواية، ولذلك قال البيهقي رحمه الله تعالى (3): واحتجاج الشافعي في هذه المسألة بما أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، أنبأ الربيع قال: قال الشافعي: وإن كفَّر قبل الحنث بإطعام رجوت أن يُجزئ عنه، وذلك أنّا نزعم أن لله حقا على العباد في أنفسهم وأموالهم، فالحق الذي في أموالهم إذا قدموه قبل محله أجزأ، وأصل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تسلَّف من العباس صدقة عام قبل أن يدخل، وأن المسلمين قد قدموا صدقة الفطر قبل أن يكون الفطر، فجعلنا الحقوق التي في الأموال قياسًا على هذا. انتهى. فظاهر الاحتجاج إنما هو بالقياس.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأشهب المالكي وهو مذهب الهدوية ونسبه الإمام المهدي في "البحر" إلى العترة -إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث بكل حال، وذلك لأن سبب وجوب الكفارة عند الأئمة هو مجموع الحنث واليمين، فلا يصح التقديم قبل سبب الوجوب، وعند أبي حنيفة أن السبب هو الحنث فكذلك، والاحتمال حاصل في ذلك، فإنه يحتمل أن

(1) الأم 7/ 63.

(2)

شرح مسلم 11/ 109.

(3)

البيهقي 10/ 54.

ص: 446

يكون السبب هو اليمين والحنثُ شرط، ويحتمل أن يكون المجموع هو السبب، أو أن كل واحد منهما سبب. فعلى التقدير الأول والثالث يجوز التقديم، وعلى التقدير الثاني لا يجوز. وأما الاحتجاج بالحديث فعلى صحة رواية "ثم" يتعين العمل به من جواز التقديم، ولا تعارض [بينها](أ) وبين رواية الواو؛ لأن الترتيب يصدق مع الجمعية المطلقة التي تدل عليها الواو.

1142 -

وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف على يمين فقال: إن شاء الله. فلا حنث عليه". رواه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان (1).

الحديث قال الترمذي (2): لا نعلم أحدًا رفعه غير أيوب السَّختياني، وقال ابن علية: كان أيوب تارة يرفعه وتارة لا يرفعه. قال: ورواه مالك وعبيد الله بن عمر وغير واحد موقوفًا. وهو في "الموطأ"(3) موقوف. وقال

(أ) في ب، جـ: بينهما. والمثبت يقتضيه السياق.

_________

(1)

أحمد 2/ 10، وأبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين 3/ 222 ح 3261، والترمذي، كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في الاستثناء في اليمين 4/ 91 ح 1531، والنسائي، كتاب الأيمان، باب الاستثناء 7/ 32، وابن ماجه، كتاب الكفارات، باب الاستثناء في اليمين 1/ 680 ح 2106، وابن حبان، كتاب الأيمان، باب ذكر إباحة الاستثناء للحالف 10/ 182 ح 4339.

(2)

الترمذي 4/ 91، 92 عقب ح 1531.

(3)

الموطأ 2/ 477 ح 10.

ص: 447

البيهقي (1): لا يصح رفعه (أ) إلا عن أيوب مع أنه شك فيه، وتابعه على لفظه عبد الله العمري، وموسى بن عقبة، وكثير بن فَرقد، وأيوب بن موسى، وحسان بن عطية، كلهم عن نافع مرفوعًا. ورواية أيوب بن موسى أخرجها ابن حبَّان في "صحيحه"(2)، ورواية كَثير أخرجها النسائي والحاكم في "مستدركه"(3)، ورواية موسى أخرجها ابن عدي (4) في ترجمة داود بن عطاء أحد الضعفاء (5).

الحديث فيه دلالة على أنه إذا حلف على شيء وقال: إن شاء الله تعالى. أنه لا يحنث إذا فعل المحلوف على تركه، أو ترك المحلوف على فعله، فيكون الاستثناء مانعًا لانعقاد اليمين، أو حالًّا لها بعد الانعقاد، وهما احتمالان، وللاحتمالين فائدة أنه على الأول يشترط إرادة الاستثناء قبل الفراغ واتصال الاستثناء، وعلى الثاني لا يشترط الاتصال وإن اختلفوا في مقدار الانفصال، وقد ذهب إلى ظاهر الحديث الجمهور، وادعى القاضي أبو بكر بن العربي الإجماع على ذلك، وقال (6): أجمع المسلمون على أن قوله: إن شاء الله. يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلًا. قال: ولو جاز

(أ) في جـ: رافعه.

_________

(1)

البيهقي 10/ 46.

(2)

ابن حبان 10/ 183 ح 4340.

(3)

النسائي 7/ 31، والحاكم 4/ 303.

(4)

ابن عدي 3/ 954 موقوفًا.

(5)

داود بن عطاء المزني مولاهم، أبو سليمان المدني، أو المكي، ضعيف، من الثامنة. التقريب ص 199.

(6)

عارضه الأحوذي 7/ 12، 13.

ص: 448

منفصلًا كما روي عن (أ) بعض السلف، لم يحنث أحد قط في يمين ولم يحتج إلى كفارة. قال: واختلفوا في الاتصال؛ فقال مالك، والأوزاعي، والشافعي، والجمهور: هو أن يكون قوله: إن شاء الله. متصلا باليمين من غير سكوت بينهما ولا تضر سكتة التنفس. وعن طاوس، والحسن، وجماعة من التابعين، أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم. وقال عطاء: قدر حلبة ناقة. وقال سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر. وعن ابن عباس: له الاستثناء أبدا متى تذكره. وتأول بعضهم هذا المنقول عن هؤلاء على أن مرادهم أنَّه يستحب له (ب) قول: إن شاء الله. تبركا، أو يجب على ما ذهب إليه بعضهم؛ لقوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (1). فيكون الإتيان بالاستثناء المذكور رافعا للإثم الحاصل بتركه، أو لتحصيل ثواب الندب على القول باستحبابه، ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث.

وذهب الجمهور بأن الاستثناء مانع للحنث في الحلف بالله وفي غيره؛ كالطلاق والعتق وغير ذلك من الظهار والنذر والإقرار. وقال مالك والأوزاعي: لا ينفع الاستثناء إلا في الحلف بالله دون غيره. واستقواه ابن العربي قال (2): لأن الاستثناء أخو الكفارة، وقد قال الله تعالى: {ذَلِكَ

(أ) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من شرح مسلم 11/ 119.

(ب) في ب: لهم.

_________

(1)

الآية 24 من سورة الكهف.

(2)

عارضة الأحوذي 7/ 15.

ص: 449

كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (1). فلا يدخل في ذلك إلا اليمين الشرعية، وهي الحلف بالله تعالى. وذهب أحمد أنه لا يدخل العتق. واحتج بما ورد في حديث (أ) معاذ رفعه:"إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله تعالى. لم تطلق، وإن قال لعبده: أنت حر إن شاء الله. فإنه حر"(2). قال البيهقي: تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول (3)، واختلف عليه في إسناده. وقال الحسن، وقتادة، وابن أبي ليلى، والليث: يدخل في الجميع إلا الطلاق. قالوا: لأن الطلاق لا تحله الكفارة، وهي أغلظ على الحالف من النطق بالاستثناء، فلا يحله الأضعف وهو الاستثناء.

وذهبت (ب) الهدوية إلى أن الاستثناء بقوله: إن شاء الله. يعتبر فيه أن يكون المحلوف عليه مما يشاؤه الله تعالى أو لا يشاؤه، فإن كان مما يشاؤه الله تعالى، بأن يكون واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، في المجلس؛ ذكره الفقيه يحيى من مفرعي الهدوية، أو حال التكلم، ذكره الفقيه علي الوشلي؛ لأن مشيئة الله حاصلة في الحال، فلا تبطل اليمين بل تتقيد به، وإن كان لا يشاؤه، بأن يكون محظورا أو مكروها، فلا تنعقد اليمين. فجعلوا حكم الاستثناء بالمشيئة حكم التقييد بالشروط، يقع المعلق عند وقوع المعلق به، وينتفي بانتفائه. وكذا قوله: إلا أن يشاء الله. فإن

(أ) بعده في ب، جـ: ابن. والمثبت من مصادر التخريج.

(ب) في جـ: ذهب.

_________

(1)

الآية 89 من سورة المائدة.

(2)

الدارقطني 4/ 35 ح 94، وابن عدي 2/ 694، 695، والبيهقي 7/ 361.

(3)

حميد بن مالك اللخمي، جد حميد بن الربيع الخزاز، ضعفه يحيى وأبو زرعة، وقال النسائي: لا أعلم روى عنه غير إسماعيل بن عياش. ميزان الاعتدال 1/ 616.

ص: 450

حكمه حكم: إن شاء الله تعالى.

وذهب المؤيد بالله أنه إذا قال: أنت طالق إن شاء الله تعالى. أن الطلاق يقع بكل حال؛ لأن معناه: إن بَقّاني الله تعالى وقتًا أقدر على طلاقك. فلو مات قبل أن يمضي وقت يمكن أن تطلق فيه لم تطلق. ولا يخفى منابذة هذه الأقوال للحديث، وعدم مناسبة القول الأخير للمعنى اللغوي أيضًا، وظاهر قوله:"فقال: إن شاء الله". وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة سليمان عليه السلام: "لو قال: إن شاء الله. لم يحنث"(1). أن الاستثناء لا يكفي بالنية؛ لأنه رتبه على القول. وبهذا قال الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد، والعلماء كافة، إلا ما حكي عن بعض المالكية أن قياس قول مالك صحة الاستثناء بالنية من غير لفظ. كذا ذكر النووي (2)، وأشار إلى هذا البخاري (3) وبوب عليه بـ: باب النية في الأيمان. يعني بفتح الهمزة، وذلك لأن النية عمل، وقد صح:"الأعمال بالنيات"(4). ومذهب الهدوية أنه يصح الاستثناء بالنية، وإن لم يلفظ بالعموم إلا من عدد منصوص، فلا بد من الاستثناء باللفظ، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا. ونوى: إلا واحدة. لزمه حكم الثلاث، ونحو ذلك، وهذا مقتضى ما ذكره نجم الدين في "لا" التي لنفي الجنس أنها نص في الاستغراق، فلا يخصصها إلا مقارن متصل. والله سبحانه أعلم.

1143 -

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم:

(1) البخاري 9/ 339 ح 5242، ومسلم 3/ 1275 ح 1654/ 22، 23.

(2)

شرح مسلم 11/ 120.

(3)

الفتح 11/ 572.

(4)

البخاري 1/ 9 ح 1.

ص: 451

"لا ومقلب القلوب". رواه البخاري (1).

قوله: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا في لفظ، وفي لفظ (2): كثيرا ما كان. وفي لفظ (3): أكثر أيمان النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ومصرف القلوب". زاد الإسماعيلي من رواية وكيع: التي يحلف عليها. وفي أخرى له (4): التي يحلف بها. والمراد اليمين التي كان يواظب على القسم بها أو يكثر. وقد ذكر البخاري في الباب أربعة ألفاظ أحدها: "والذي نفسي بيده"(5) وكذا: "نفس محمَّد بيده"(6). فبعضها مُصدَّر بلفظ "لا". [وبعضها بلفظ: "أما"](أ). وبعضها بلفظ: "وايم". ثانيها: "لا ومقلب القلوب". وفي رواية الزهري: "مصرف القلوب"(7). ثالثها: "والله"(8). رابعها: "ورب الكعبة"(9). ولابن أبي شيبة (10): كان إذا اجتهد في اليمين قال: "لا والذي نفس أبي القاسم بيده". ولابن ماجه (11): [كانت](ب) يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم

(أ) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من الفتح 11/ 526.

(ب) في ب، جـ: كان. والمثبت من ابن ماجه، وينظر الفتح 11/ 526.

_________

(1)

البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم 11/ 523 ح 6628.

(2)

البخاري 11/ 513 ح 6617.

(3)

ابن ماجه 1/ 676، 677 ح 2092.

(4)

الإسماعيلي -كما في الفتح 11/ 527.

(5)

البخاري 11/ 523 - 525 ح 6629، 6632، 6640، 6643، 6645.

(6)

البخاري 11/ 523 - 525 ح 6630، 6637، 6639، 6642.

(7)

ليست عند البخاري، وتقدم تخريجها عند ابن ماجه.

(8)

البخاري 11/ 523 ح 6631.

(9)

البخاري 11/ 524 ح 6638.

(10)

ابن أبي شيبة 5/ 67.

(11)

ابن ماجه 1/ 676 ح 2091.

ص: 452

التي يحلف بها: "أشهد عند الله، والذي نفسي بيده". ومنها: لاها الله (1). ولكنه لم يحلف بها صلى الله عليه وسلم، ولكنه قرر عليها أبا بكر.

قوله: "لا" نفي للكلام السابق، و"مقلب القلوب"، هو المقسم به، والمراد بتقلب القلوب هو تقليب أعراضها وأحوالها، لا تقليب ذات القلب. قال الراغب (2): تقليب الله القلوب والأبصار صرفها عن رأي إلى رأي، والتقلب (أ) التصرف، قال الله تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} (3). قال: وسمي قلب الإنسان قلبا لكثرة تقلبه، ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة، ومنه قوله تعالى:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (4). أي الأرواح. وقوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (5). أي علم وفهم. وقوله تعالى: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} (6). أي تثبت به شجاعتكم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي (7): القلب جزء من البدن، خلقه الله تعالى وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة (ب)، وجعل ظاهر البدن محلّ التصرفات الفعلية والقولية، ووكل به

(أ) في جـ: القلب.

(ب) في ب، جـ: الناطقة. والمثبت من عارضة الأحوذي، والفتح 11/ 527.

_________

(1)

البخاري 8/ 34، 35 ح 4321، ومسلم 3/ 1370، 1371 ح 1751.

(2)

المفردات ص 411.

(3)

الآية 46 من سورة النحل.

(4)

الآية 10 من سورة الأحزاب.

(5)

الآية 37 من سورة ق.

(6)

الآية 10 من سورة الأنفال.

(7)

عارضة الأحوذي 7/ 22، 23.

ص: 453

ملكا يأمر بالخير وشيطانا يأمر بالشر، والعقل بنوره يهديه، والهوى بظلمته يغويه، والقضاء مسيطر (أ) على الكل، والقلب يتقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة، واللمة من الملك تارة، ومن الشيطان أخرى، والمحفوظ من حفظه الله تعالى. انتهى.

وفي الحديث دلالة على صحة القسم بصفة من صفات الله وإن لم تكن صفة ذات، وقد ذهب إلى هذا الهدوية، فإنهم قالوا: الحلف بالله أو بصفة (ب) لذاته أو لفعله لا تكون على ضدها، وصفة الذات كالعلم والقدرة، ولكنهم قالوا: لا بد من إضافتها إلى الله تعالى، كعلم الله وقدرته، وصفة الفعل؛ كالعهد والأمانة إذا أضيفت إلى الله تعالى، والمراد بعهد الله صدق الله فيما وعد وعقد، والأمانة، وكذا ذمة الله أي ضمانه والتزامه بإثابة المطيع، وقد جاء النهي عن الحلف بالأمانة، وهو حديث بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف بالأمانة فليس منا". أخرجه أبو داود (1). وذلك لأن (جـ) الأمانة ليست من صفاته تعالى بل من فروضه. ذكره في "المعالم"(2). وقولهم: لا تكون على ضدها. احتراز من الرضا والغضب والإرادة والمشيئة، فلا تنعقد بها اليمين. وذهب ابن حزم، وهو ظاهر كلام المالكية والحنفية، بأن جميع الأسماء الواردة في القرآن والسنة الصحيحة، وكذا الصفات، صريح في اليمين وتجب به الكفارة. وهو وجه غريب

(أ) في جـ: مستطر.

(ب) في جـ: بصفته.

(جـ) في جـ: أن.

_________

(1)

أبو داود 3/ 220 ح 3253.

(2)

معالم السنن 4/ 46.

ص: 454

للشافعية، وعندهم وجه أغرب منه؛ أنه ليس في شيء من ذلك صريح إلا لفظ الجلالة. والأحاديث ترده، والمشهور (أعندهم وأ) عند الحنابلة أنها ثلاثة أقسام؛ أحدها، ما يختص به تعالى؛ كالرحمن، ورب العالمين، وخالق الخلق، فهو صريح تنعقد به اليمين، سواء قصد الله تعالى أم أطلق.

ثانيها، ما يطلق عليه تعالى وقد يقال على غيره لكن بقيد؛ كالرب، والخالق، فتنعقد به اليمين، إلا أن يقصد به غير الله تعالى.

ثالثها، ما يطلق عليه وعلى غيره على السواء؛ كالحي، والموجود، والمؤمن، فإن نوى غير الله تعالى أو أطلق فليس بيمين، وإن نوى به الله تعالى انعقد على الصحيح، فمثل: والذي نفسي بيده. ينصرف عند الإطلاق إلى الله تعالى جزما، وإن نوى به غيره، كملك الموت مثلًا، لم يخرج عن الصراحة، وكذا: الذي فلق الحبة، ومقلب القلوب. صريح لا يشاركه غيره، وكذا: الذي أعبده، أو: أسجد له، أو: أصلي له، صريح. وفرقت (ب) الحنفية بين العلم والقدرة، فقالوا: إن حلف بقدرة الله انعقدت به اليمين، وإن حلف بعلم الله لم ينعقد به؛ لأن العلم يعبر به عن المعلوم، كقوله تعالى:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} (1). ويجاب بأن ذلك مجاز، والكلام في المعنى الحقيقي.

1144 -

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: جاء أعرابي

(أ - أ) ساقط من: جـ.

(ب) في جـ: فرق.

_________

(1)

الآية: 148 من سورة الأنعام.

ص: 455

إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ فذكر الحديث، وفيه:"اليمين الغموس". وفيه: قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب". أخرجه البخاري (1).

قوله: جاء أعرابي. قال المصنف (2) رحمه الله: لم أقف على اسم هذا الأعرابي.

وقوله: ما الكبائر؟ هي جمع كبيرة، وقد اختلف العلماء في المعاصي، هل تنقسم إلى صغيرة وكبيرة أو جميعها كبيرة؟ فذهب جماعة منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والقاضي أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين في "الإرشاد"، وابن القشيري في "المرشد"، وحكاه ابن فُورَك عن الأشاعرة، واختاره في "تفسيره"، واعتمد ذلك السبكي، إلى أنها كلها كبائر، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية: إنها صغيرة. إلا على معنى أنها تصغُر باجتناب غيرها. وأخرج مثل هذا الطبراني (3) عن ابن عباس بإسناد منقطع، أنه ذكر عنده الكبائر فقال: ما نهى الله عنه فهو كبيرة. وفي رواية عنه (4): كل شيء عصي الله فيه (أ) فهو كبيرة.

وذهب الجماهير من العلماء إلى أن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر؛

(أ) ساقطة في: جـ.

_________

(1)

البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة 12/ 264 ح 6920.

(2)

الفتح 11/ 556، 12/ 266.

(3)

الطبراني 18/ 140 ح 293.

(4)

ابن جرير في تفسيره 5/ 41.

ص: 456

لقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (1). وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلا اللَّمَمَ} (2). وقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (3). وفي الأحاديث الصحيحة ما هو صريح في ذلك؛ ولذلك قال الغزالي (4): لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر، وقد عرفا من مدارك الشارع. وقال بعضهم: إنه لا خلاف في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق؛ لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح، وإنما فر الأولون من تسمية المعصية صغيرة نظرًا إلى عظمة الله وشدة عقابه وإجلاله عز وجل عن تسمية معصيته صغيرة. ثم اختلف القائلون بالفرق في حدّ الكبيرة؛ فقال النووي في "الروضة" (5): هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة. ولفظ: شديد. قيد واقع لا مخصص. وقال البغوي (6): كل معصية أوجبت الحد. وهذا الحد منتقض بكبيرة وقع النص عليها بأنها كبيرة ولا حد؛ كأكل الربا، وعقوق الوالدين، وغير ذلك. وقال بعضهم: كل ما نص الكتاب على تحريمه، أو وجب في جنسه حد، أو ترك فريضة تجب فورا، والكذب في الرواية واليمين وكل قول خالف الإجماع العام. وقال بعضهم: كل جريمة (أ) تؤذن بقلة اكتراث

(أ) زاد في جـ: لا.

_________

(1)

الآية 7 من سورة الحجرات.

(2)

الآية 32 من سورة النجم.

(3)

الآية 31 من سورة النساء.

(4)

شرح مسلم 2/ 85، والفتح 10/ 409.

(5)

روضة الطالبين 1/ 222.

(6)

جواهر العقود 2/ 349.

ص: 457

مرتكبها بالدين ورقة الديانة مبطلة للعدالة، وكل جريمة لا تؤذن بذلك، بل يبقى حسن الظن ظاهرا بصاحبها، لا تبطل العدالة. وذهب إلى هذا ابن القشيري في "المرشد"، واختاره الإمام السبكي وغيره، إلا أن هذا ما جعله ضابطًا إلا لما يخل العدالة، وقد شمل صغائر الخسة وليست بكبائر، إلا أنه قد شمل جميع ما عد من الكبائر. وقال الماوردي (1): الكبيرة ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد. وقال ابن عطية: كل ما وجب فيه حد، أو ورد فيه وعيد بالنار، أو جاءت فيه لعنة. وقال الحليمي (2) فيما نقله عنه القاضي حسين: إنها كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه، فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم، كان فاحشة، فالزنى كبيرة، وبحليلة الجار فاحشة، والصغيرة تعاطي ما تنقص رتبته عن رتبة المنصوص عليه، أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه، فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كان كبيرة، فالقبلة واللمس والمفاخذة صغيرة، ومع حليلة الجار كبيرة، فما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بما ينضم إليها، والكبيرة فاحشة كذلك، إلا الكفر بالله، فإنه ليس من نوعه صغيرة.

وقال بعضهم: إنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه. يعني بلفظ التحريم. وقال الواحدي (3): إنه لا حصر لها على وجه تعرفه (أ) العباد، وإنما

(أ) في جـ: بمعرفة.

_________

(1)

الفتح 10/ 410.

(2)

شعب الإيمان للبيهقي 1/ 268.

(3)

شرح مسلم 2/ 86، والفتح 10/ 411.

ص: 458

ذلك أخفاه الله سبحانه ليجتهد العباد في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، كما أخفى الصلاة الوسطى وليلة القدر. وقال الحسن، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك: كل ذنب وعد فاعله بالنار. وقال الغزالي (1): كل معصية يُقدم المرء عليها من غير إشعار خوف ووجدان (أ) ندم تهاونًا واستجراءً عليها، فهي كبيرة، وما كان من فلتات النفس ولا ينفك عن ندم يمتزج بها ويُنغِّص التلذذ بها، فليس بكبيرة. وقال مرة أخرى (2)؛ لا مطمع في معرفة الكبائر مع الحصر، إذ لا يعرف ذلك إلا بالسمع، ولم يرد. وقال ابن عبد السلام (3): الكبيرة ما تشعر بتهاون مرتكبها بدينه (ب) إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها. قال: وإذا أردت الفرق لون الصغيرة والكبيرة فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل الكبائر فهي صغيرة، وإلا فكبيرة. ويرد عليه أن الإحاطة بمفاسدها كلها حتى يعلم أقلها مفسدة في غاية الندور بل التعذر والاستحالة، إذ لا يطلع على ذلك إلا الشار صلى الله عليه وسلم. وقال الجلال البلقيني (4) على ما لخصه البارزي في "تفسيره" الذي على "الحاوي": التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد

(أ) في شرح النووي: حذار.

(ب) في جـ: بذنبه.

_________

(1)

شرح مسلم 2/ 85.

(2)

ينظر الإحياء 4/ 2099.

(3)

شرح مسلم 2/ 85، 86، والفتح 10/ 411.

(4)

إعانة الطالبين 4/ 280.

ص: 459

أو لعن، أو أكبر من مفسدته، أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار (أ) أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك، كما لو قتل من يعتقده معصوما فظهر أنه مستحق لدمه، أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها، فإذا هي زوجته أو أمته. وأول الضابط يؤيده قول ابن عباس: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو لعنة، أو غضب، أو عذاب. رواه عنه ابن جرير (1). وآخره مثل قول ابن عبد السلام. وذهب آخرون إلى تعريفها بالعد من غير حد؛ فعن ابن عباس (2) وجماعة أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة "النساء" إلى قوله:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} . وقيل: سبع. ويستدل له (ب) بخبر "الصحيحين"(3): "اجتنبوا السبع الموبقات؛ الشرك بالله عز وجل، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وفي رواية لهما (4): "الكبائر؛ الشرك بالله، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس". زاد البخاري: "واليمين الغموس". ومسلم بدلها: "وقول الزور". وروي عن علي رضي الله عنه أنها سبع (5). وكذا عن عطاء وعبيد بن عمير. وقيل:

(أ) في جـ: أشعر.

(ب) في جـ: به.

_________

(1)

تفسير ابن جرير 5/ 41.

(2)

هذا القول مشهور بنسبته إلى ابن مسعود، ينظر تفسير ابن جرير 5/ 37، وتفسير القرطبي 5/ 159.

(3)

البخاري 5/ 393 ح 2766، ومسلم 1/ 92 ح 145/ 89.

(4)

البخاري 11/ 555 ح 6675، مسلم 1/ 91 ح 144/ 18.

(5)

تفسير ابن جرير 5/ 37، 38.

ص: 460

خمس عشرة. وقيل: أربع عشرة. وقيل: أربع. ونقل عن ابن مسعود (1). وعنه أنها ثلاث (2). وعنه أنها عشر (3). وعن ابن عباس كما رواه عبد الرزاق والطبري (4): هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال سعيد بن جبير: هي إلى السبع المائة أقرب. وروى الطبري (5) هذه المقالة عن سعيد، عن ابن عباس، أن رجلا قال لابن عباس: كم الكبائر، سبع هي؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. وقد عد العلائي في "قواعده" خمسة وعشرين، وهو ما نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه كبيرة، وهو الشرك بالله، والقتل، والزنى؛ وأفحشه بحليلة الجار، والفرار من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، والسحر، والاستطالة في عرض السلم بغير حق، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والنميمة، والسرقة، وشرب الخمر، واستحلال بيت الله الحرام، ونكث الصفقة، وترك السنة، والتعرب بعد الهجرة، واليأس من رَوْح الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل من فضل الماء، وعدم التنزه من البول، وعقوق الوالدين، والتسبب إلى شتمهما، والإضرار في الوصية. وقد تعقب بأن السرقة لم ينص على أنها كبيرة، وإنما في "الصحيحين" (6):"ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". وفي رواية النسائي (7): "فإن فعل

(1) تفسير ابن جرير 5/ 40.

(2)

تفسير ابن المنذر 2/ 669 ح 1664، وتفسير ابن جرير 5/ 41.

(3)

تفسير ابن أبي حاتم 3/ 933 ح 5212 وعنده إحدى عشرة.

(4)

تفسير عبد الرزاق 1/ 155، وتفسير ابن جرير 5/ 41.

(5)

تفسير ابن جرير 5/ 41.

(6)

البخاري 5/ 119 ح 2475، ومسلم 1/ 76 ح 100/ 57.

(7)

النسائي 8/ 436.

ص: 461

ذلك فقد خلع رِبْقةَ (1) الإِسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه". وقد جاء في أحاديث صحيحة النص على الغلول (2) -وهو إخفاء بعض الغنيمة- بأنه كبيرة، وقد جاء في حديث الجمع بين الصلاتين لغير عذر (3)، ومنع الفحل (4). [ولكنه] (أ) حديث ضعيف. وقال أبو طالب المكي (5): الكبائر سبع عشرة؛ أربع في القلب؛ الشرك، والإصرار على المعصية، والقنوط، والأمن من المكر. وأربع في اللسان؛ القذف، وشهادة الزور، والسحر، وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئًا من أعضائه، واليمين الغموس، وهي التي يُبطل بها حقًّا أو يثبت بها باطلا. وثلاث في البطن؛ أكل مال اليتيم ظلما، وأكل الربا، وشرب كل مسكر. واثنتان في الفرج؛ الزنى واللواط. واثنتان في اليد؛ القتل والسرقة. وواحدة في الرجل؛ الفرار من الزحف.

وواحدة في جميع الجسد؛ عقوق الوالدين.

وقوله: فذكر الحديث [و](ب) فيه: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين لغموس". وفي رواية غُنْدَر، عن شعبة:"وعقوق الوالدين -أو قال: -اليمين الغموس". شك شعبة. أخرجه البخاري (6) في

(أ) في ب، جـ: ولكن.

(ب) الواو ساقطة من: ب، جـ.

_________

(1)

الربقة في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها. النهاية 2/ 190.

(2)

تفسير ابن جرير 5/ 43.

(3)

الترمذي 1/ 356 ح 188.

(4)

تفسير ابن أبي حاتم 3/ 933 ح 5213.

(5)

قوت القلوب 4/ 17، 18.

(6)

البخاري 12/ 191 ح 6870.

ص: 462

أوائل الديات. وأخرجه الإسماعيلي (1) عن شعبة بلفظ: "الكبائر؛ الإشراك بالله، واليمين الغموس، وعقوق الوالدين -أو قال: قتل النفس". وفي رواية شيبان (2)، عن فراس:"الإشراك بالله". قال: ثم ماذا؟ قال: "ثم عقوق الوالدين". قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس". ولم يذكر قتل النفس. قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "التي اقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب". والقائل هو عبد الله بن عمرو راوي الخبر، والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون السائل من دون عبد الله، والمجيب هو عبد الله أو من دونه. قال المصنف رحمه الله (3): الحديث أخرجه في "صحيح ابن حبان"(4) بالسند الذي أخرجه البخاري، فقال في آخره بعد قوله:"ثم اليمين الغموس". قلت لعامر: ما اليمين الغموس؟ إلخ. فظهر أن السائل عن ذلك فراس، والمسئول الشعبي وهو عامر. فلله الحمد على ما أنعم، ثم لله الحمد، ثمَّ لله الحمد، فإني لم أر من تحرر (أ) له ذلك من الشراح. انتهى.

وهذه المذكورات في الحديث أنها الكبائر قد جاءت في الأحاديث الصحيحة أنها من أكبر الكبائر، ولا منافاة في ذلك، إلا أنه يدل على أن في الذنوب كبيرا وأكبر، وقد جاء في الحديث أيضًا تسمية أكبر (ب) غير ما ذكر،

(أ) في جـ: يجوز.

(ب) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

الإسماعيلي -كما في الفتح 12/ 194.

(2)

البخاري 12/ 264 ح 6920.

(3)

الفتح 11/ 556.

(4)

ابن حبان 12/ 373 ح 5562.

ص: 463

مثل ما جاء في حديث ابن مسعود (1): أي الذنب أعظم؛ فذكر فيه الزنى بحليلة الجار. وحديث أبي هريرة: "إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم". أخرجه ابن أبي حاتم (2) بإسناد حسن. وحديث بريدة يرفعه: "من أكبر الكبائر". وذكر منها منع فضل الماء، ومنع الفحل. أخرجه البزار (3) بسند ضعيف. وغير ذلك.

وقوله: "الغموس". هو بفتح الغين المعجمة وضم الميم وآخره سين مهملة، قيل: سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار. فهي فَعول بمعنى فاعل. وقيل: الأصل في ذلك أنهم كانوا إذا أرادوا أن يتعاهدوا أحضروا جَفنة فجعلوا فيها طينا أو دما أو رمادا، ثم يحلفون عندما يُدخلون أيديهم فيها، ليتم لهم المراد من جميد ما أرادوا، فسميت بذلك إذا غدر صاحبها غموسا؛ لكونه بالغ في نقض العهد، وكأنها على (أ) هذا مأخوذة من اليد المغموسة، فيكون فَعول بمعنى مفعولة.

وظاهر الحديث أنه لا يلزم كفارة في اليمين الغموس؛ لأن الكفارة لم تُذكر في الحديث، ولأنها قرنت بما لا يكفره إلا التوبة ولا كفارة فيها. ونقل ابن المنذر ثم ابن عبد البر (4) اتفاق العلماء على أنه لا كفارة فيها. وهو

(أ) زاد بعده في جـ: ما.

_________

(1)

البخاري 8/ 163 ح 4477، ومسلم 1/ 90 ح 86.

(2)

تفسير ابن أبي حاتم 3/ 932 ح 5205. وينظر علل ابن أبي حاتم 2/ 290، 192 ح 2375.

(3)

البزار 1/ 71، 72 ح 107 - كشف.

(4)

الإجماع ص 67، والإشراف على مذهب أهل العلم 2/ 244، والتمهيد 20/ 267، والاستذكار 15/ 64، 65، وقد ذكرا أن في المسألة قولين، والذي ذكره الحافظ في الفتح =

ص: 464

مذهب الهدوية، ولكن الاستدلال بما ذكر غير صحيح، فإن عدم الذكر لا ينفي أن يكون لها دليل آخر، وكذا الاقتران بما لا كفارة له، فإن الجمع بين مختلف الأحكام واقع، إلا أنه يحتج لذلك بما أخرجه ابن الجوزي في "التحقيق"(1) عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ليس فيها كفارة، يمين صبر (2) يقتطع بها مالا بغير حق". وظاهر سند الحديث الصحة، إلا أن فيه عنعنة بقية (3)، وفي إسناده أبو المتوكل. وقد أخرجه أحمد (4) بهذا السند، وقال: عن التوكل (5)، أو أبي المتوكل (5). وهذا ليس هو أبا المتوكل الناجي الثقة (6)، بل آخر مجهول. وبما رواه آدم بن أبي إياس في "مسند شعبة"، وإسماعيل القاضي في "الأحكام"(7)، عن ابن مسعود: كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس، أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا ليقتطعه. قالوا: ولا مخالف له من الصحابة. وذهب الحكم، وعطاء، والأوزاعي، ومعمر، والشافعي، إلى وجوب الكفارة في اليمين الغموس؛ لقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (8).

= 11/ 557 عن ابن المنذر وابن عبد البر اتفاق الصحابة على أن لا كفارة في اليمين الغموس.

(1)

التحقيق 2/ 383 ح 2028.

(2)

يمين صبر: أي: ألزم بها وحبس عليها، وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم. النهاية 3/ 8.

(3)

تقدمت ترجمته في 1/ 122.

(4)

أحمد 2/ 362.

(5)

قال أبو حاتم: مجهول، وقال ابن حبان: لا أدري من هو. الثقات 5/ 459، وتعجيل المنفعة 2/ 235.

(6)

علي بن داود، ويقال: ابن دؤاد، أبو المتوكل الناجي، البصري، مشهور بكنيته، ثقة. التقريب ص 401، وتهذيب الكمال 20/ 425.

(7)

الفتح 11/ 557.

(8)

الآية 89 من سورة المائدة.

ص: 465

واليمين المغموسة معقودة، والكفارة وإن لم ترفع الإثم كله فيما كان المحلوف عليه مال الغير، لكنها قد نفعته في الجملة، فإن ضم إلى الكفارة التحلل من حق الغير نفعه مجموعهما. والحديث (أ) قد عرفت ما فيه. وأثر ابن مسعود تكلم في صحته ابن حزم (1)، واحتج ابن حزم بالقياس على من جامع في نهار رمضان متعمدا وفيمن أفسد حجه. وقد يجاب عنه بأن هذا يستقيم فيمن لم يقتطع مال الغير، وأما من اقتطع مال الغير، فقد ثبت وعيده بالنار، وقد عرفت الجواب عن هذا، والله أعلم.

1145 -

عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيْمَانِكُمْ} (2). قالت: هو قول الرجل؛ لا والله. و: بلى والله. أخرجه البخاري، ورواه أبو داود مرفوعًا (3).

الحديث فيه دلالة على أن لغو اليمين لا حنثَ فيه، وقد (ب) فسرت عائشة اللغو بما لا يكون عن قصد الحلف، وإنما جرى على اللسان من غير قصد للحلف، وهذا أنسب، لموافقته الوضع اللغوي للغو (ب)؛ وذلك لأن اللغو حقيقة فيما كان باطلا وما لا يعتد به من القول، ومنه قيل لولد الناقة

(أ) كتب فوقها في ب: يعني حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن الجوزي.

(ب) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

المحلى 8/ 397.

(2)

الآية 225 من سورة البقرة، والآية 89 من سورة المائدة.

(3)

البخاري، كتاب التفسير، باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو فِي أَيْمَانِكُمْ} 8/ 275 ح 4613، وأبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب لغو اليمين 3/ 220، 221 ح 3254.

ص: 466

الذي لا يعتد به في الدية: لغو. وقد ذهب إلى هذا الشافعي، ونقله ابن المنذر (1) وغيره عن ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما من الصحابة، وعن القاسم، وعطاء، والشعبي، وطاوس، والحسن. وعن أبي قلابة: لا والله، وبلى والله. لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين، وهي من (أ) صلة الكلام. ودليلهم تفسير عائشة رضي الله عنها؛ لكونها شهدت التنزيل، وقد جزمت بأن الآية نزلت فيما ذكر. وقد رواه أبو داود مرفوعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لغو اليمين هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله". وأشار أبو داود (2) إلى أنه اختلف على عطاء وعلى إبراهيم الصائغ في رفعه ووقفه. وقد أخرج ابن أبي عاصم، وابن وهب، وعبد الرزاق (3)، عن معمر، كلهم عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: لغو اليمين ما كان في المراء والهزل والمراجعة في الحديث الذي لا يعقد عليه القلب. وهذا موقوف. وأخرج الطبري (4) من طريق الحسن مرفوعًا في قصة الرماة: وكان أحدهم إذا رمى حلف أنه أصاب، فيظهر أنه أخطأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أيمان الرماة لغو لا كفارة لها ولا عقوبة". ولكنه من مراسيل الحسن وهو غير ثابت.

وذهب أبو حنيفة، والهدوية، وغيرهم، إلى أن لغو اليمين هو ما حلف على الشيء يظن صدقه فينكشف خلافه. وبه قال ربيعة، ومالك،

(أ) ساقطة من: ب.

_________

(1)

الأشراف على مذاهب أهل العلم 2/ 250.

(2)

أبو داود 3/ 221 عقب ح 3254.

(3)

ابن أبي عاصم وابن وهب -كما في الفتح 1/ 548 - وعبد الرزاق 8/ 474 ح 15952.

(4)

تفسير ابن جرير 2/ 412.

ص: 467

ومكحول، والأوزاعي، والليث. وعن أحمد روايتان. وأخرجه عبد الرزاق (1) عن الحسن. وذهب طاوس إلى أن اللغو أن يحلف وهو غضبان. وأخرجه الطبري (أ)(2) من طريق طاوس، عن ابن عباس. وروي عن علي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يمين في إغلاق". وعن ابن عباس أن اللغو أن يحرم ما أحل الله له. أخرجه الطبري (3) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس. ولكنه معارض بما صح عن ابن عباس من وجوب الكفارة فيه. أخرجه البخاري (4). وقال بعض أهل العلم: إن اللغو ما يجب نقضه؛ لأن اللغو واجب الرفع. فقال الشعبي ومسروق: هو أن يحلف على معصية فلا يكفر. ويروى عن ابن عباس أيضًا (5). وقال بعضهم: هو أن يقول: إن فعلت كذا فهو كافر بالله، أو مشرك، أو يهودي، أو نصراني. فلا كفارة إذا فعل ذلك، ولكن يقال: ليس ذلك لغوا؛ لأنه مؤاخذ باليمين المحرمة، وإنما لم تلزم كفارة. وقد ذهب إلى عدم لزوم الكفارة مالك والشافعي، وهو (ب) قول الهدوية. وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى لزوم الكفارة، وتجال بعضهم: إن اللغو ما تجب فيه الكفارة؛ لأنها إذا لزمت الكفارة لم يتعلق

(أ) في جـ: الطبراني.

(ب) في ب: هذا.

_________

(1)

عبد الرزاق 8/ 475 ح 15956.

(2)

تفسير ابن جرير 2/ 409 من طريق وسيم، عن ابن عباس، موقوفًا، وأخرجه من طريق طاوس، عن ابن عباس مرفوعًا.

(3)

تفسير ابن جرير 7/ 15 من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.

(4)

البخاري 8/ 656 ح 4911.

(5)

تفسير ابن جرير 2/ 411، وتفسير ابن أبي حاتم 2/ 409 ح 2160.

ص: 468

حنث بالحالف. وأجيب بأن الله تعالى رفع المؤاخذة عن اللغو مطلقا، فلا إثم ولا كفارة، فكيف يفسر اللغو بما فيه الكفارة، وثبوت الكفارة من لوازم الحنث؟ والأظهر من هذه الأقوال هو القولان الأولان. والله أعلم.

1146 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة". متفق عليه (1). وساق الترمذي وابن حبان (2) الأسماء، والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الزوائد (أ).

لفظ "اسما" منصوب على التمييز في معظم الروايات، وحكى السهيلي (3) أنه رُوي بالجر، وخرجه على لغة من يعرب "تسعين" بالحركات، فيجعل النون محل الإعراب وتضاف مع بقاء النون، مثل قوله (4):

* وقد جاوَزْتُ حَدَّ الأرْبَعينِ*

بكسر النون.

قوله: "تسعة وتسعين". ظاهر الحديث أن الأسماء الحسنى منحصرة في

(أ) كتب في حاشية ب: هكذا بخط المؤلف، وفي نسخة المتن: من بعض الرواة.

_________

(1)

البخاري، كتاب الشروط، باب المكاتب وما لا يخل من الشروط 5/ 354 ح 2736، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى 4/ 2063 ح 6/ 2677.

(2)

الترمذي، كتاب الدعوات، باب 83، 5/ 496 ح 3507، وابن حبان، كتاب الرقائق، باب الذكر، ذكر تفصيل الأسامي التي يُدْخِلُ الله محصيها الجنة 3/ 88، 89 ح 808.

(3)

الفتح 11/ 219.

(4)

هو سُحَيم بن وَثيل الرياحي، وهو عجز لبيت له في الأصمعيات ص 19، وصدره:

* وماذا يَدري الشعراء مني *

ص: 469

هذا العدد بدلالة مفهوم العدد، ويحتمل أن الحصر في هذه الأسماء باعتبار ما ذكر بعده من قوله:"من أحصاها دخل الجنة". وهو خبر المبتدأ، والمعنى أن هذه التسعة والتسعين لها فضيلة تختص (أ) بها من بين (ب) سائر الأسماء، وهو أن حفظها سبب لدخول الجنة، وليس المقصود حصر الأسماء فيها؛ لثبوت غيرها، فهي كثيرة، وذهب الجمهور إلى هذا، ونقل النووي (1) اتفاق العلماء عليه، وقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى، وليس معناه أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعنِن، وإنما مقصود الحديث أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة. ويدل عليه حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان (2):"أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك". وعند مالك (3): وأسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم. قال الخطابي (4): خصصها بالذكر لكونها أكثر الأسماء وأثبتها (جـ) معاني. وحكى القاضي أبو بكر بن العربي (4) عن بعضهم

(أ) في جـ: تخص.

(ب) ساقطة من: جـ.

(جـ) في الفتح: أبينها.

_________

(1)

شرح مسلم 17/ 5.

(2)

أحمد 6/ 246، 247، وابن حبان 3/ 253 ح 972.

(3)

الموطأ 2/ 951، 952 ح 12 عن كعب الأحبار.

(4)

الفتح 11/ 220.

ص: 470

أن لله ألف اسم. ونقل الفخر الرازي (1) عن بعضهم أن لله أربعة آلاف اسم، قال: استأثر الله بعلم ألف منها، وأعلم الملائكة بالبقية، والأنبياء بألفين منها وسائر الناس بألف. وهذه دعوى تحتاج إلى دليل. وقد ورد في حديث قيام الليل:"أنت المقدم وأنت المؤخر"(2). وفي "صحيح البخاري"(3) حديث أنه وتر يحب الوتر. وذهب ابن حزم إلى أن الأسماء منحصرة في هذا العدد لا تزيد عليه، قال في "المحلى" (4) بعد أن روى حديث "الصحيح": قال الله تعالى: {إِنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} (5). فصح أنه لا يحل لأحد أن يسمَّي الله تعالى إلا بما سمى به نفسه، وصح أن أسماءه لا تزيد على تسعة وتسعين اسما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مائة إلا [واحدًا] (أ) ". فنفى الزيادة وأبطلها، وظاهره أنها موجودة في القرآن. وحكى الفخر الرازي (6) عن الأكثر أن ذكر العدد المذكور تعبد (ب) لا يعقل معناه، كما قيل في عدد الصلوات. وعن أبي خلف السلمي أن ذكر هذا العدد إشارة إلى أن الأسماء لا تؤخذ قياسا. وقيل: الحكمة فيه أن العدد زوج وفرد، والفرد أفضل من الزوج، ومنتهى الأفراد من غير تكرار تسعة وتسعون؛ لأن مائة وواحدا

(أ) في ب، جـ: واحدة. والمثبت من المحلى.

(ب) في ب: بعيد.

_________

(1)

الفتح 11/ 220.

(2)

البخاري 3/ 3 ح 1120، ومسلم 1/ 534 ح 770.

(3)

البخاري 11/ 214 ح 6410.

(4)

المحلى 8/ 382.

(5)

الآية 23 من سورة النجم.

(6)

الفتح 11/ 221.

ص: 471

يتكرر فيه الواحد. وقيل: الكمال في العدد حاصل في المائة؛ لأن الأعداد ثلاثة أجناس، آحاد وعشرات ومئات، والألف مبتدأة لآحاد أخر، فأسماء الله مائة استأثر الله منها بواحد، وهو الاسم الأعظم، فلم يطلع عليه أحدٌ، فكأنه قيل: إن لله مائة لكن واحد منها عند الله. وقيل: إن مكمل المائة هو الجلالة. وجزم بذلك السهيلي (1) وقال: الأسماء الحسنى على عدد درجات الجنة، والذي يكمل المائة "الله"، ويؤيده قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (2). فالتسعة والتسعون لله، فهي زائدة عليه، وبه تكمل المائة.

وقوله: "من أحصاها دخل الجنة". هكذا في رواية سفيان من طريق ابن أبي عمر (3). وفي رواية علي بن المديني (4)، ووافقه الحميدي، وكذا عمرو الناقد عند مسلم (5) بلفظ:"من حفظها". وفي "تفسير ابن مردويه"[و](أ) عند أبي نعيم (6)، من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة بلفظ:"من دعا بها دخل الجنة". وفي سنده حصين بن [مخارق](ب) وهو ضعيف (7)، وزاد خليد

(أ) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من الفتح.

(ب) في ب، جـ: محارب. والمثبت من مصادر الترجمة.

_________

(1)

الفتح 11/ 221.

(2)

الآية 180 من سورة الأعراف.

(3)

مسلم 4/ 2062 ح 2677/ 5.

(4)

البخاري 11/ 214 ح 6410.

(5)

الحميدي 2/ 479 ح 1130، ومسلم 4/ 2062 ح 2677/ 5.

(6)

ابن مردويه وأبو نعيم -كما في الفتح 11/ 227، والدر المنثور 3/ 148.

(7)

حصين بن مخارق بن ورقاء أبو جنادة، قال الدارقطني: يضع الحديث. وقال ابن حبان: لا يجوز الرواية عنه ولا الاحتجاج به إلا على سبيل الاعتبار. المجروحين 3/ 155، وميزان الاعتدال 1/ 554.

ص: 472

ابن دعلج في روايته: "وكلها في القرآن"(1). وكذا وقع من (أ) قول سعيد بن عبد العزيز. وفي حديث ابن عباس وابن عمر معا بلفظ: "من أحصاها دخل الجنة، وهي في القرآن"(2).

وقد اختلفوا في تفسير الإحصاء، فقال الخطابي (3): يحتمل وجوها؛ أحدها، أن يعدها حتى يستوفيها، يعني: لا يقتصر على بعضها، بل يدعو الله بها كلها ويثني عليه بجميعها، فيستوجب الموعود عليه من الثواب. ثانيها، أنه بمعنى الإطاقة، كقوله تعالى:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} (4). ومنه حديث: "استقيموا ولن تحصوا"(5). أي: تبلغوا كنه الاستقامة. والمعنى: من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها، وهو أن يعتبر معانيها، فيلزم نفسه بواجبها، فإذا قال: الرزاق. وثق بالرزق، وكذا سائر الأسماء. ثالثها، المراد الإحاطة بمعانيها، من قول العرب: فلان ذو حصاة. أي: ذو عقل ومعرفة. انتهى.

قال القرطبي (3): المرجو من كرم الله تعالى أن من حصل له إحصاء هذه

(أ) في جـ: في.

_________

(1)

الدارمي في الرد على بشر المريسي ص 12 دون هذه الزيادة. وينظر الفتح 11/ 215.

(2)

ابن منده في طرق حديث: إن لله تسعة وتسعين اسما. ص 158 ح 87، وأبو نعيم -كما في الدر المنثور 3/ 148.

(3)

الفتح 11/ 225.

(4)

الآية 20 من سورة المزمل.

(5)

أحمد 5/ 276، 277، وابن ماجه 1/ 101، 102 ح 277.

ص: 473

الاسماء على إحدى (أ) هذه المراتب مع صحة النية أن يدخله الله الجنة، وهذه المراتب الثلاث للسابقين والصديقين وأصحاب اليمين. وقيل:"أحصاها" أي: عرفها؛ لأن العارف بها لا يكون إلا مؤمنا. وقيل: عدها معتقدا؛ لأن الدَّهري لا يعترف بالخالق، والفلسفي لا يعترف بالقادر. وقيل:"أحصاها" أي: أراد بها إعظامه تعالى. وقيل: "أحصاها": عمل بها، فإذا قال: الحكيم. سلم لجميع أوامره، لأن جميعها على (ب) مقتضى الحكمة، وإذا قال: القدوس. استحضر كونه منزها عن جميع النقائص. واختاره أبو الوفاء بن عقيل (1). وقال ابن بطال (2): هو أن ما كان يسوغ الاقتداء به سبحانه فيها، كالرحيم والكريم، فيمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف [بها](جـ)، وما كان يختص به سبحانه، كالجبار والعظيم، فعلى العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه (د) معنى الوعد يقف فيه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه (د) معنى الوعيد يقف منه عند الخشية والرهبة، ويؤيد هذا أن حفظها لفظا من دون اتصاف كحفظ القرآن من دون عمل لا ينفع، كما جاء:"يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم"(3). ولكن

(أ) في جـ: إحصاء.

(ب) ساقطة من: جـ.

(جـ) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من الفتح 11/ 226.

(د) في جـ: فيها.

_________

(1)

الفتح 11/ 226.

(2)

شرح صحيح البخاري لابن بطال 10/ 420.

(3)

البخاري 6/ 376 ح 3344، ومسلم 2/ 740 ح 1063.

ص: 474

هذا الذي ذكره لا يمنع من ثواب من قرأها سردا وإن كان متلبسا بمعصية، وإن كان ذلك مقام الكمال الذي لا يقوم به إلا أفراد الرجال. قال النواوي (1): وقال البخاري وغيره من المحققين: معناه: حفظها. وهذا ظاهر، فإن إحدى الروايتين تكون مفسرة للأخرى. وبه قال ابن الجوزي (2). ولكنه يحتمل لفظ:"حفظها" الحفظ المعنوي، فلا يكفي حفظها سردًا. وقيل: المراد بحفظها حفظ القرآن جميعه، لأنها موجودة في القرآن مفرقة فيه. وقال ابن عطية (3): إنه يتضمن إحصاؤها وحفظها الإيمان بها، والتعظيم لها، والرغبة فيها، والاعتناء بمعانيها. وهذا قريب مما فصله ابن بطال، وكذا ما قاله أبو نعيم الأصفهاني (3): إن المراد به العلم والعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها. وكذا ما قال أبو عمَنْكي مر الطلَمَنْكي (3) أن يكون عالمًا بمعاني الأسماء، مستفيدا بذكرها ما تدل عليه من المعاني. وقال أبو العباس بن معد (3): يحتمل معنيين؛ هو أن يتتبعها من الكتاب والسنة حتى يحصل عليها، أو أن يحفظها بعد أن يجدها محصاة. ثم قال: وللإحصاء معان أخر، منها الإحصاء الفقهي؛ وهو العلم بمعانيها وتنزيلها على الوجوه المحتملة شرعا، ومنها الإحصاء النظري، وهو أن يعلم معنى كل اسم بالنظر في الصيغة ويستدل عليه بأثره الساري في الوجود، فلا تَمُرُّ على موجود إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني تلك الأسماء، وتعرف خواص بعضها، وموقع القيد بمقتضى كل اسم. قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء. قال:

(1) شرح مسلم 17/ 5.

(2)

غريب الحديث لابن الجوزي 1/ 219، والفتح 11/ 226.

(3)

الفتح 11/ 226.

ص: 475

وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن بما يقتضيه كل اسم من الأسماء، فيعبد الله بما يستحقه من الصفات المقدسة التي وجبت لذاته. قال: فمن حصلت له جميع مراتب الإحصاء حصل على الغاية، ومن منح منحًى من مناحيها (أ) فثوابه بقدر ما قال. فهذا ما قيل في تفسير الإحصاء، وقد قيل غير ذلك إلا أنه يرجع إلى بعض ما ذكر.

وقوله: وساق الترمذي. إلى آخره. الحديث رواه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (1)، من حديث الوليد بن مسلم، عن [شعيب](ب)، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة وسَرَد الأسماء. وقال الترمذي (2): لا نعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء (جـ) إلا في هذا الحديث. ثم قال: هذا حديث غريب حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، [ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح](د)، وهو ثقة.

وقد اختلف العلماء في سرد الأسماء، هل هو مرفوع أو مدرج من بعض الرواة؛ فمشى كثير منهم على الأول، واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم، لأن كثيرا من هذه الأسماء

(أ) في ب: مناحتها.

(ب) في ب، جـ: سعيد. والمثبت من مصادر التخريج، وينظر الفتح 11/ 214.

(جـ) في جـ: الاسم.

(د) في ب، جـ: عن الوليد بن مسلم. والمثبت من الترمذي والفتح 11/ 215.

_________

(1)

ابن خزيمة -كما في الفتح 11/ 214، والحاكم 1/ 16. وتقدم تخريجه عند الترمذي وابن حبان في حديث الباب.

(2)

الترمذي 5/ 497 عقب ح 3507.

ص: 476

كذلك. وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج؛ لخلو أكثر الروايات عنه. ونقله عبد العزيز النخشبي (أ) عن كثير من العلماء. قال الحاكم (1) بعد تخريج الحديث من طريق صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بسياق الأسماء، والعلة فيه عندهما تفرد الوليد بن مسلم. قال: ولا أعلم خلافا عند أهل الحديث أن الوليد أوثق وأحفظ وأجل وأعلم من بشر بن شعيب [وعلي بن عياش وغيرهما من أصحاب شعيب. يشير إلى أن بشرا وعليا وأبا اليمان رووه عن شعيب](ب) بدون سياق الأسماء. وقد تعقب هذا بأنه ليس العلة تفرد الوليد، وإنما العلة الاختلاف عليه والاضطراب وتدليسه، واحتمال الإدراج، فقد جاء في رواية عثمان الدارمي (2)، عن هشام بن عمار، عن الوليد بإسناده إلى أبي هريرة. فذكره بدون التعيين. قال الوليد: وحدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك، وقال:"كلها في القرآن، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم". وسرد الأسماء. وأخرجه أبو الشيخ بن حيان (جـ)(3) من رواية أبي عامر القرشي، عن الوليد بن مسلم بسند آخر، فقال: حدثنا زهير بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة. قال زهير: فبلغنا أن غير واحد من أهل

(أ) في ب: اليحسي.

(ب) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من الفتح 11/ 215.

(جـ) في جـ: حبان. وينظر السير 16/ 276.

_________

(1)

الحاكم 1/ 16، 17.

(2)

الرد على بشر المريسي ص 12.

(3)

أبو الشيخ -كما في الفتح 11/ 215، والدر المنثور 3/ 148.

ص: 477

العلم قال: إن أولها أن تفتتح بلا إله إلا الله. وسرد الأسماء. وهذه الطريق أخرجها ابن ماجه، وابن أبي عاصم، والحاكم (1)، من طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد. لكن سرَد الأسماء أولًا فقال بعد قوله:"من حفظها دخل الجنة"- "الله، الواحد، الصمد". إلى آخره. ثم قال بعد أن انتهى العد (أ): قال زهير: فبلغنا عن غير واحد من أهل العلم أن أولها يفتتح بقول: لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى.

قال المصنف (2) رحمه الله: والوليد بن مسلم أوثق من عبد الملك بن محمد الصنعاني، ورواية الوليد تشعر بأن التعيين مدرج، وقد تكرر في رواية الوليد عن زهير ثلاثة أسماء، وهي الأحد الصمد الهادي، ووقع بدلها في رواية عبد الملك: المقسط القادر الوالي (ب) الرشيد، وعند الوليد [أيضًا: الوالي الرشيد] (جـ)، وعند عبد الملك:[الوالي الراشد. وعند الوليد: العادل المنير، وعند عبد الملك](جـ): الفاطر القاهر. واتفقا في البقية. وأما رواية الوليد، عن شعيب، وهي أقرب الطرق إلى الصحة، وعليها عول غالب من شرح الأسماء الحسنى، (د فساقها عنه د) الترمذي (3): هو الله الذي لا إله إلا

(أ) في جـ: العدد.

(ب) في جـ: الولي.

(جـ) ساقط من: ب، جـ، والمثبت من الفتح 11/ 216.

(د- د) في الفتح: فسياقها عند.

_________

(1)

ابن ماجه 2/ 1269، 1270 ح 3861، وابن أبي عاصم والحاكم -كما في الفتح 11/ 215.

(2)

الفتح 11/ 216.

(3)

تقدم ص 469.

ص: 478

هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحصي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي (أ) المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور. وقد أخرجه الطبراني (1) عن أبي زرعة الدمشقي، عن صفوان بن صالح، فخالف في عدة أسماء، فقال: القائم الدائم بدل القابض الباسط، والشديد (ب) بدل الرشيد، والأعلى المحيط مالك يوم الدين، بدل الودود المجيد الحكيم. ووقع عند ابن حبان (2) عن الحسن بن سفيان، عن صفوان: الرافع بدل المانع. ووقع في (صحيح ابن خزيمة" (3) في رواية صفوان أيضًا مخالفة في بعض الأسماء: الحاكم بدل الحكم (جـ)، والقريب بدل الرقيب، والمولى بدل الوالي، والأحد بدل المغني.

(أ) في جـ: الولي.

(ب) في جـ: السديد.

(جـ) في الفتح: الحكيم.

_________

(1)

الطبراني في الدعاء 2/ 829، 830 ح 111.

(2)

تقدم ص 469.

(3)

ابن خزيمة -كما في الفتح 1/ 216.

ص: 479

ووقع في رواية البيهقي وابن منده (1) من طريق موسى بن أيوب، عن الوليد: المغيث، بالمعجمة والمثلثة بدل المقيت، بالقاف والمثناة. ووقع في رواية زهير وصفوان، عن الوليد المخالفة في ثلاثة وعشرين اسما، فليس في رواية زهير وصفوان عن الوليد:[الفتاح القهار الحكم العدل الحسيب](أ) الجليل المحصي المقتدر المقدم المؤخر البر المنتقم الغني النافع الصبور البديع الغفار الحفيظ الكبير الواسع الأحد مالك الملك ذو الجلال والإكرام. وذكر بدلها: الرب الفرد الكافي القاهر المبين -بالموحدة- الصادق الجميل البادئ -بالدال- القديم البار -بتشديد الراء- الوفي البرهان الشديد الواقي -بالقاف- القدير الحافظ العادل المعطي العالم الأحد [الأبد](أ)، الوتر ذو القوة. ووقع في رواية عبد العزيز بن الحصين (2) اختلاف آخر، فسقط فيها مما في رواية صفوان من القهار إلى تمام خمسة عشر اسما على الولاء، [وسقط منها أيضًا القوي الحليم الماجد القابض الباسط الخافض الرافع المعز الذل المقسط الجامع الضار النافع الوالي الرب، فوقع فيها مما في رواية موسى بن عقبة الذكورة آنفا ثمانية عشر اسما على الولاء](أ) وفيها أيضًا: الحنان المنان الجليل الكفيل المحيط القادر الرفيع الشاكر [الأكرم](ب) الفاطر الخلاق الفاتح المثبت -بالمثلثة ثم الموحدة- العلام المولى (جـ) النصير ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الإله

(أ) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من الفتح 11/ 216.

(ب) في ب، جـ: الإنعام. والمثبت من الفتح.

(جـ) في جـ: الولي.

_________

(1)

ابن منده -كما في الفتح 11/ 216 - والبيهقي في الأسماء والصفات 1/ 22 ح 6، وابن منده -كما في الفتح 11/ 216.

(2)

الحاكم 1/ 17، والبيهقي في الأسماء والصفات 1/ 32، 33 ح 10.

ص: 480

المدبر -بتشديد الموحدة. قال الحاكم (1): إنما أخرجت رواية عبد العزيز بن الحصين شاهدًا لرواية الوليد، عن شعبة، لأن الأسماء التي زادها على الوليد كلها في القرآن. كذا قال، وقد أورد عليه أنه ليس الأمر كذلك؛ وإنما تؤخذ من القرآن بضرب من التكلف، لا أن جميعها أورد فيه (أ) بصورة الأسماء.

والأسماء الحسنى على أربعة أقسام؛ الأول، الاسم العلم، وهو الله، وقد اختلف فيه هل مرتجل أو منقول؟ واختلف أيضًا في اشتقاقه. والثاني ما يدل على الصفات الثابتة للذات، كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير. والثالث، ما يدل على إضافة أمر ما إليه؛ كالخالق، والرازق. والرابع، ما يدل على سلب شيء عنه؛ كالعلي، والقدوس.

واختلف أيضًا هل هي توقيفية؟ بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله اسما إلا إذا ورد نص في الكتاب أو السنة، فقال الفخر الرازي (2): المشهور عن أصحابنا أنها توقيفية. وقالت المعتزلة والكرّامية: إذا دل العقل على معنى للفظ ثابت في حق الله تعالى جاز إطلاقه على الله. وقال القاضي أبو بكر والغزالي (3): الأسماء توقيفية دون الصفات. قال الغزالي: كما ليس لنا أن نسمي النبي صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه ولا أمه ولا

(أ) في جـ: فيها.

_________

(1)

الحاكم 1/ 17.

(2)

تفسير الرازي 15/ 70، والفتح 11/ 223.

(3)

الفتح 11/ 223.

ص: 481

سمى به نفسه، فكذلك في حق الله تعالى.

واتفقوا أنه لا يجوز أن يطلق عليه اسم أو صفة توهم نقصا، فلا يقال: ماهد، ولا زارع، ولا فالق. وإن جاء في القرآن:{فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (1). {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (2). {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} (3) ونحوها، ولا يقال: ماكر، ولا بناء، وإن ورد:{وَمَكَرَ اللَّهُ} (4). {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} (5). وقال أبو القاسم القشيري (6): الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة والإجماع، فكل اسم ورد فيها (أ) وجب إطلاقه في وصفه، وما لم يرد لم يجز ولو صح معناه. قال ابن حزم (7): قد صح عندي قريب من ثمانين اسما اشتمل عليها القرآن، فليطلب الباقي من الصحاح. والذي التقطه ابن حزم (8) هو: الله الرحمن الرحيم العليم الحكيم الكريم العظيم الحليم القيوم الأكرم السلام التواب الرب الوهاب الغني الكبير الخبير القدير البصير الغفور الشكور الغفار القهار الجبار المتكبر المصور البر المقتدر البارئ العلي الولي القوي

(أ) في ب: منها.

_________

(1)

الآية 48 من سورة الذاريات.

(2)

الآية 64 من سورة الواقعة.

(3)

الآية 95 من سورة الأنعام.

(4)

الآية 54 من سورة آل عمران.

(5)

الآية 47 من سورة الذاريات.

(6)

الفتح 11/ 223.

(7)

المقصد الأسنى 1/ 172.

(8)

المحلى 8/ 382، 383، والتلخيص الحبير 4/ 173.

ص: 482

المحيي (أ) الإله [القريب](ب) المجيب السميع الواسع العزيز الشاكر القاهر الآخر الظاهر المجيد الحميد الودود الصمد الأحد الواحد الأول الأعلى المتعال الخالق الخلاق الرزاق الحق اللطيف الرءوف العفو الفتاح المبين المتين المؤمن المهمين الباطن القدوس [الملك](جـ) المليك الأكبر الأعز السيد السبوح الوتر المحسن الجميل الرفيق المعز القابض الباسط الباقي المعطي المقدم المؤخر الدهر. فهذه أحد وثمانون اسما (د). قال القرطبي (1): وفاته: الصادق المستعان المحيط الحافظ الفعال الكافي النور الفاطر البديع الفالق الرافع المخرج. قال المصنف (1) رحمه الله تعالى: والذي ذكره ابن حزم لم يقتصر فيه على ما في القرآن، بل ذكر ما اتفق له العثور عليه منه، وهو [سبعة] (هـ) وستون اسما في القرآن إلى قولك: الملك. وما بعد ذلك التقطه من الأحاديث، ومما لم يذكره وهو في القرآن: المولى النصير الشهيد الشديد الحفي الكفيل [الوكيل](و) الحسيب الجامع الرقيب النور البديع الوارث السريع المقيت الحفيظ المحيط القادر الغافر الغالب الفاطر العالم القائم المالك الحافظ المنتقم المستعان الحكم الرفيع

(أ) زاد بعده في ب، جـ: الغني. وهو تكرار.

(ب) في ب، جـ: العزيز. والمثبت من المحلى والتلخيص.

(جـ) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من المحلى والتلخيص.

(د) كذا في ب، جـ، والتلخيص الحبير، والأسماء المذكورة أربعة وثمانون اسما، ووقع في المحلى: الحىِ بدل المحيي. والمسعر بدل المعز. والشافي بدل الباقي.

(هـ) في ب، جـ، والفتح 1/ 217: ثمانية. والمثبت من التلخيص الحبير.

(و) ساقطة من: ب، جـ. والمثبت من التلخيص.

_________

(1)

التلخيص الجبير 4/ 173.

ص: 483

الهادي الكافي [ذو الجلال والإكرام](أ). فهذه [اثنان](ب) وثلاثون، وجميعها واضحة في القرآن، والحفي في قوله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} (1). ثم قال المصنف (2) رحمه الله تعالى: وهذه تسعة وتسعون اسما منتزعة من القرآن منطبقة على قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما". موافقة لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3). فلله الحمد على جزيل عطائه، وجليل نعمائه، وقد رتبتها على هذا الوجه ليدعى بها: الله الرب الإله الواحد الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الأول الآخر الظاهر الباطن الحي القيوم العلي العظيم التواب الحكيم الواسع الحليم الشاكر العليم الغني (جـ) الكريم العفو القدير اللطيف الخبر السميع البصير المولى (د) النصير القريب المجب الرقيب الحسيب القوي الشهيد الحميد المجيد المحيط الحفيظ الحق المبين الغفار القهار الخلاق الفتاح الودود الغفور الرءوف الشكور الكبير المتعال المقيت المستعان الوهاب الحفي الوارث الولي القائم القادر الغالب القاهر البر الحافظ الأحد الصمد المليك المقتدر الوكيل الهادي الكفيل الكافي الأكرم الأعلى

(أ) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من التلخيص.

(ب) في ب، جـ: إحدى، والمثبت من التلخيص.

(جـ) ساقطة من: جـ.

(د) في جـ: الولي.

_________

(1)

الآية 47 من سورة مريم.

(2)

التلخيص الحبير 4/ 174.

(3)

الآية 180 من سورة الأعراف.

ص: 484

الرزاق ذو القوة المتين غافر إلذنب قابل التوب شديد العقاب ذو الطول رفيع الدرجات سريع الحساب (أعالم الغيب والشهادة أ) فاطر السماوات والأرض بديع السماوات والأرض نور السماوات والأرض مالك الملك ذو الجلال والإكرام.

وهذه الأسماء مائة واثنان (ب)، وإذا ضم ما ثبت في الأحاديث إلى هذه المنتزعة من القرآن كانت زائدة على المائة زيادة كبيرة، وهذا أيضًا مما يدل على أنها غير منحصرة في العدد المذكور.

والحديث فيه دلالة على أن هذه (جـ الأسماء لله جـ) تعالى، فإذا وقع الحلف بأي اسم منها انعقدت به اليمين، وفيها التفصيل الذي قد مر في شرح حديث:"لا ومقلب القلوب".

1147 -

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا. فقد أبلغ في الثناء". أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان (1).

قوله: "معروف". هو ضد المنكر، والمراد: من أحسن إليه.

(أ- أ) غير موجود في التلخيص.

(ب) كذا في: ب، جـ، والمذكور مائة اسم، وفي التلخيص تسعة وتسعون اسما.

(جـ-جـ) في ب: أسماء الله.

_________

(1)

الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في المتشبع بما لم يعط 4/ 333 ح 2035، وابن حبان، كتاب الزكاة، باب ذكر الشيء الذي إذا قاله المرء للمسدي إليه المعروف عند عدم القدرة على الجزاء يكون مبالغا في ثوابه 8/ 202 ح 3413.

ص: 485

وقوله: "فقد أبلغ في الثناء". يدل على أن الدعاء للمحسن مكافأة له على إحسانه، وقد ورد في الحديث أن الدعاء إذا عجز عن المكافأة مكافأة.

وذكر هذا الحديث في هذا الباب غير مناسب. والله أعلم.

1148 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن النذر وقال:"إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل". متفق عليه (1).

قوله: نهى عن النذر. هذا أول الكلام في النذور، والنذر في اللغة: التزام خير أو شر، وفي الشرع: التزام المكلف شيئًا لم يكن عليه، منجزا أو معلقا، وهو قسمان: نذر تبرر ونذر لجاج، ونذر التبرر قسمان، أحدهما، ما يتقرب به ابتداء: لله عليَّ أن أصوم (أ) كذا. ويلحق به ما إذا قال: لله عليَّ أن أصوم كذا شكرًا لله على ما أنعم به من شفاء مريضي. والثاني، ما يتقرب به معلقا بشيء ينتفع به إذا حصل له، كـ: إن قدم غائبي، أو كفاني شر عدوي، فعليَّ صوم كذا. مثلًا.

ونذر اللجاج وهو ما كان معلقا على فعل شيء أو تركه، وهو قسمان؛ أحدهما، أن يعلقه على فعل حرام أو ترك واجب، فلا ينعقد في الراجح إلا إذا كان فرض كفاية وكان في فعله مشقة فيلزمه، ويلحق به ما يعلقه (ب) على

(أ) في جـ: الصوم.

(ب) في جـ: تحلقه.

_________

(1)

البخاري، كتاب القدر، باب إلقاء العبد النذر إلى القدر 11/ 499 ح 6608، ومسلم، كتاب النذر، باب النهي عن النذر، وأنه لا يرد شيئًا 3/ 1261 ح 1638/ 4.

ص: 486

فعل مكروه. والثاني، ما يعلقه (أ) على فعل خلاف الأولى أو مباح أو ترك مستحب؛ وفيه ثلاثة أقوال للعلماء؛ الوفاء، أو كفارة يمين، أو التخيير بينهما. واختلف الترجيح عند الشافعية، وكذا عند الحنابلة، وجزم الحنفية بكفارة اليمين في الجميع، والمالكية بأنه لا ينعقد أصلا.

وقوله: نهى عن النذر. ظاهر الحديث النهي عن النذر على جهة الإطلاق، وقد اختلف العلماء في هذا النهي؛ فمنهم من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوَّله؛ قال ابن الأثير في "النهاية" (1): تكرر النهي عن النذر في الحديث هو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال لحكمه وإسقاط للزوم الوفاء به إذ (ب) كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الأمر لا يجر لهم في العاجل نفعا، ولا يصرف عنهم ضَرًّا، ولا يغير قضاء، فقال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدر الله لكم أو [تصرفون](جـ) عنكم ما قدره عليكم، فإذا نذرتم فاخرجوا [عنه](د) بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم. انتهى.

ونسبه (هـ) بعض شراح "المصابيح" إلى الخطابي، وأصله من (و) كلام أبي

(أ) في جـ: تعلقه.

(ب) في جـ: إذا.

(جـ) في ب، جـ: تصرفوا، والمثبت من النهاية.

(د) ساقطة من: ب، جـ، والمثبت من النهاية.

(هـ) في جـ: سمعه.

(و) في جـ: في.

_________

(1)

النهاية 5/ 39.

ص: 487

[عبيد](أ) فيما نقله ابن المنذر في كتابه "الكبير"، وذلك معنى ما ذكر، وقال المازري (1): ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر والحض على الوفاء به. قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث. قال: ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب (2)، فلا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار، أو لأن الناذر يصير القربة كالعوض عن المنذور لأجله فلا تكون (ب) خالصة. ويدل عليه قوله:"إنه لا يأتي بخير". وقوله: "إنه لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره"(3). وهذا الاحتمال يخص نذر المجازاة، وقال القاضي عياض (4): إن المعنى أنه لا يغالب القدر، والنهي لخشية أن يقع في ظن بعض الجهلة ذلك. وذهب مالك إلى أن النذر مباح إلا (جـ) إذا كان مؤبدا. قال القاضي (5): وقوله: "لا يأتي بخير" أي أن عقباه لا تحمد، وقد يتعذر الوفاء به، أو أنه لا يكون سببا لخير لم يقدر فيكون مباحا.

(أ) في ب، جـ: عبيدة. والمثبت من الفتح 11/ 577.

(ب) في ب: يكون.

(جـ) سقط من: جـ.

_________

(1)

المعلم بفوائد مسلم 2/ 236.

(2)

ضربة لازب: لازم شديد. اللسان (ل ز ب).

(3)

البخاري 11/ 499، 576 ح 6609، 6694 من حديث أبي هريرة.

(4)

شرح مسلم 11/ 99.

(5)

فتح الباري 11/ 578.

ص: 488

وذهب أكثر الشافعية ونقله أبو علي السنجي (أ) عن نص الإمام الشافعي، أن النذر مكروه؛ لثبوت النهي عنه، وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد (1)، وأشار ابن العربي (2) إلى الخلاف عنهم، والجزم عن الشافعية بالكراهة، قال: واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة؛ لأنه لم يقصد خالص القربة، وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررًا بما التزم. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم، وتوقف بعضهم في صحتها، وقال الترمذي (3) بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة، ثم قال: وفي الباب عن ابن عمر: العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، كرهوا النذر. وكذا قال ابن المبارك: يكره النذر في الطاعة وفي المعصية؛ فإن نذر بالطاعة ووفى بالنذر كان له الأجر.

قال ابن دقيق العيد (4): وفيه إشكال على القواعد، فإنه يقتضي أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية، والنذر وسيلة إلى التزام القربة، فيلزم أن يكون قربة، إلا أن الحديث دل على الكراهة. ثم قال: الكراهة في نذر المجازاة، وأما نذر الابتداء فهو قربة محضة. وقال ابن أبي الدم (5): هو خلاف الأولى وليس بمكروه. وأورد عليه بأن خلاف

(أ) في جـ: السبحي، وينظر تهذيب الأسماء 2/ 538، والإكمال 4/ 474.

_________

(1)

شرح عمدة الأحكام 4/ 156.

(2)

ينظر عارضة الأحوذي 7/ 8

(3)

الترمذي 4/ 95.

(4)

شرح عمدة الأحكام 4/ 157.

(5)

الفتح 11/ 578.

ص: 489

الأولى ما اندرج في عموم نهي، والمكروه ما نهي عنه بخصوصه، وقد ثبت النهي عن النذر بخصوصه فيكون مكروها. وذهب النووي في "شرح المهذب"(1) إلى أن النذر مستحب، وقال: إذا تلفظ به في الصلاة لا يبطلها؛ لأنها مناجاة لله تعالى فأشبهت الدعاء.

قال المصنف (2) رحمه الله تعالى: وأنا أتعجب ممن انطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت النهي الصريح، فأقل درجاته أن يكون مكروها. وجمع ابن الرَّفعة بين قول من قال بالاستحباب وبالكراهة، بأن الكراهة في نذر المجازاة، والاستحباب في نذر الابتداء. وجزم به القرطبي (2) وتأول أحاديث النهي به (3)، قال: وهذه حالة البخيل الذي لا يخرج من ماله شيئًا إلا بعوض (أ) عاجل، وهذا المشار إليه في الحديث. قال: وقد ينضم إليه اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب (ب) حصول الغرض، أو أن الله تعالى يفعل ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وقد أشار إليه في الحديث؛ فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئًا، والحالة الأولى كفر أو تقارب الكفر، والثانية خطأ صريح، واختار التحريم في حق من له الاعتقاد الفاسد، والكراهة في حق غيره.

وقد أخرج الطبري (4) بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يُوفُونَ

(أ) في جـ: لعوض.

(ب) في جـ: وجب.

_________

(1)

المجموع 4/ 16.

(2)

الفتح 11/ 578.

(3)

أي: بنذر المجازاة.

(4)

تفسير ابن جرير 29/ 208.

ص: 490

بِالنَّذْرِ} (1). قال: كانوا ينذرون طاعة الله تعالى من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم، [فسَمّاهم](أ) الله تعالى أبرارًا.

وقوله: "إنه لا يأتي بخير". بإثبات الياء لأكثر الرواة، ووقع في بعض النسخ (2):"لا يأت". بغير ياء، وليس بلحن، لأنه قد سمع في (ب) كلام العرب نظيره، والباء في:"بخير". يحتمل أن تكون لتعدية (جـ): "يأتي". والمعنى: لا يجلب خيرا؛ لأن المقدور كائن لا محالة، ويحتمل أن تكون للسببية (د)، بمعنى أنه لا يحصل بسبب خير في نفس الناذر، لأنه إنما (هـ) فعله لتحصيل مراده لا لغرض التقرب إلى الله تعالى.

وقوله: "وإنما يستخرج به (و) من البخيل". على البناء للمفعول في رواية مالك وابن ماجه والنسائي (3)، وفي لفظ (4):"ولكنه شيء يستخرج به من البخيل". وفي رواية للبخاري (5): "يستخرج الله به من البخيل". وقد جاء الحديث بألفاظ كثيرة. قال ابن العربي (6): في الحديث دلالة على وجوب

(أ) في ب، جـ: وسماهم. والمثبت من مصدر التخريج.

(ب) في جـ: من.

(جـ) في جـ: لتقدمة.

(د) في جـ: للتشبيه.

(هـ) في جـ: فعل.

(و) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

الآية 7 من سورة الإنسان.

(2)

الفتح 11/ 578.

(3)

مالك -كما في الفتح 11/ 579 - وابن ماجه 1/ 686 ح 2122، والنسائي 7/ 16.

(4)

البخاري 11/ 576 ح 6693.

(5)

البخاري 11/ 576 ح 6694 من حديث أبي هريرة.

(6)

عارضة الأحوذي 7/ 9.

ص: 491

الوفاء بما التزمه الناذر؛ لأن الحديث نص على ذلك؛ لأنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من استخراج مال البخيل.

وقد تعارض هذا الحديث بما أخرجه الترمذي (1) من حديث أنس، أن الصدقة تدفع ميتة السوء. ويجمع بينهما بأن الصدقة تكون سببا لدفع ميتة السوء، والأسباب مقدرة كالمسببات، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرقى: هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: "هي من قدر الله". أخرجه أبو داود والحاكم (2)، ونحوه قول عمر (3): نفر من قدر الله إلى قدر الله. ومثل ذلك مشروعية الطب والتداوي.

وقال ابن العربي (4): النذر شبيه بالدعاء؛ فإنه لا يرد القدر ولكنه من القدر، وقد ندب إلى الدعاء ونهي عن النذر؛ وذلك لأن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله تعالى والتضرع والخضوع، والنذر فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل (أ) إلى حين الضرورة.

1149 -

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة يمين". رواه مسلم (5)، وزاد الترمذي (6) فيه:

(أ) ساقطة من: جـ.

_________

(1)

الترمذي 3/ 52 ح 664.

(2)

الحاكم 4/ 199، وعزاه في الفتح 11/ 580 إلى أبي داود، وليس عنده، وإنما هو عند الترمذي 4/ 395، ح 2148، وابن ماجه 2/ 1137 ح 3437. وينظر تحفة الأشراف 9/ 152 ح 11898.

(3)

البخاري 10/ 179 ح 5729، ومسلم 4/ 1740 ح 2219 ح 98.

(4)

عارضة الأحوذي 7/ 9.

(5)

مسلم كتاب النذر، باب كفارة النذر 3/ 1265 ح 1645.

(6)

الترمذي، كتاب النذور والأيمان، باب كفارة النذر إذا لم يسم 4/ 89 ح 1528.

ص: 492

"إذا لم يُسم". وصححه، ولأبي داود (1) من حديث ابن عباس مرفوعًا:"من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين". وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه. وللبخاري (2) من حديث عائشة رضي الله عنها: "ومن نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه". ولمسلم (3) من حديث عمران: "لا وفاء لنذر في معصية".

قوله: "كفارة النذر كفارة يمين". ظاهر الحديث أن النذر سواء كان بمال الناذر جميعه، أو ببعضه، أو بمال في الذمة، أو بفعل من الأفعال، أو خرج مخرج الأيمان، كفارته كفارة يمين، ولا يجب الوفاء بما نذر به، وقد ذهب إلى هذا جماعة من فقهاء أهل الحديث، كذا قال النووي (4)، وقال البيهقي (5) في باب من جعل شيئًا من ماله صدقة أو في سبيل الله أو في رتاج الكعبة (أ) على معاني الأيمان: قال الشافعي رحمه الله تعالى: والذي يذهب إليه عطاء أنه يجزئه من ذلك كفارة يمين، ومن قال هذا القول قاله في كل ما حنث فيه سواء عتق أو طلاق، وهو مذهب عائشة ومذهب عدد من

(أ) في حاشية ب: الرتاج ككتاب وهو الباب المغلق وعليه باب صغير. قاموس. وفي حاشية جـ: رتاج الكعبة أي الباب. نهاية. وينظر القاموس (ر ت جـ)، النهاية 2/ 193.

_________

(1)

أبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب من نذر نذرا لا يطيقه 3/ 238 ح 3322.

(2)

البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة 11/ 581 ح 6696.

(3)

مسلم، كتاب النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله 3/ 1262 ح 1641.

(4)

شرح مسلم 11/ 101.

(5)

البيهقي 10/ 65.

ص: 493

الصحابة. ثم أخرج (1) عن عطاء عن عائشة في رجل جعل ماله في المساكين صدقة، قالت: كفارة يمين. وأخرج (1) عن (أ) صفية أنها سمعت عائشة وإنسان يسألها عن الذي يقول: كل ماله في سبيل الله. أو: كل ماله في رتاج الكعبة. ما يكفر ذلك؟ قالت عائشة: يكفره ما يكفر اليمين. وأخرج (1) عن عائشة أن رجلا أو امرأة سألتها عن شيء كان بينها وبين ذي قرابة لها، فحلفت إن كلمته فمالها في رتاج الكعبة. فقالت عائشة رضي الله عنها: يكفره ما يكفر اليمين. وأخرج (2) عن سعيد بن المسيب، أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: لئن عدت تسألني القسمة لم أكلمك أبدًا. أو: كل مال لي في رتاج الكعبة. فقال عمر رضي الله عنه: إن الكعبة لغنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لم تملك". وأخرج (2) من طريق البخاري من حديث أبي رافع أنه كان مملوكا لابنة عم عمر بن الخطاب فحلفت أن مالها في المساكين صدقة. فقال ابن عمر: كفري يمينك. وأخرج (2) عن عائشة وأم سلمة مثله. قال البيهقي (2): وهذا في غير العتق، فقد روي عن ابن عمر من وجه آخر أن العتاق يقع. وكذلك عن ابن عباس، وأخرج (3) عن عمر وعائشة في الرجل يحلف بالمشي، أو ماله في المساكين، أو في رتاج الكعبة، أنها يمين يكفرها إطعام عشرة مساكين. وأخرج

(أ) زاد في ب، جـ: أم. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 35/ 211.

_________

(1)

البيهقي 10/ 65.

(2)

البيهقي 10/ 66.

(3)

البيهقي 10/ 67.

ص: 494

الشافعي (1) في المشي إلى الكعبهْ عن عطاء، أنه يكفر كفارة يمين. وأخرج البيهقي (2) عن عطاء فيمن قال: هو محرم بحجة. فحنث: كفارة يمين. قال البيهقي: من قال بهذا القول يشبه أن يحتج. وذكر حديث مسلم المتقدم وحديث عمرو بن شعيب: "إنما النذر ما ابتغي به وجه الله". مرفوعًا.

وذهب غيرهم إلى تفصيل المنذور به؛ فإن كان المنذور به فعلا، فالفعل إن كان غير مقدور فهو غير منعقد، وإن كان مقدوزا فإن كان جنسه واجبا لزم الوفاء به عند الهدوية، ومالك، وأحد قولي الناصر، وأحد قولي الشافعي، وعند أبي حنيفة وأصحابه. وذهب المروزي، والصيرفي، وأحد قولي الشافعي إلى أنه لا ينعقد النذر المطلق بل يصير يمينا فيكفر. هكذا حكى الخلاف في "البحر"، وذهب داود وأهل الظاهر، وذكر النووي في "شرح مسلم" (3) ما لفظه: أجمع المسلمون على صحة النذر ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزم طاعة، فإن كان معصية أو مباحا؛ كدخول السوق لم ينعقد النذر ولا كفارة عليه عندنا. وبه قال جمهور العلماء، وقال أحمد وطائفة: فيه كفارة يمين. قال: وأما الحقوق المالية فمجمع عليها وأما البدنية ففيها خلاف قدمناه في مواضع من هذا الكتاب. ثم قال (4) في قوله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة يمين": اختلف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج فهو مخير بين الوفاء بالنذر أو الكفارة، وحمله مالك وكثيرون -أو الأكثرون- على النذر المطلق كقوله: عليّ نذر. وحمله

(1) الأم 7/ 67.

(2)

البيهقي. 10/ 67.

(3)

شرح مسلم 11/ 96.

(4)

شرح مسلم 11/ 104.

ص: 495

جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم ولنن كفارة يمين. انتهى كلامه، ولا يخفى ما فيه من التدافع، ثم حكى في "البحر" الخلاف فيما إذا خرج مخرج اليمين؛ فروى عن مذهب الهدوية أنه يلزم الوفاء به، قال: لعموم الدليل. وحكى عن الصادق والباقر والناصر والشافعي أنه يخير بيين الوفاء والكفارة. قال الإمام المهدي: وهو قوي. وقيل: لا يلزمه وفاء ولا كفارة، إذ شرط النذر القربة، ولا قربة هنا. قلنا: الخبر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إن شاء وفى وإن شاء كفَّر". أولى. وقال في النذر بالمال: إنه ينفذ من الثلث إذ هو في أصل شرعه قربة تعلقت بالمال كالوصية. قلت: ولخبر صاحب (أ) بيضة الذهب (1). وقال المؤيد: بل من جميع المال كالهبة. وقال الشافعي: بل يخير بين الوفاء والتكفير في المطلق لما مر. وقال النخعي والحكم بن زياد: لا شيء عليه. وقال ربيعة: بل يتصدق بقدر الزكاة إذ لم يوجب الله سبحانه في المال سواها. هكذا حكى الخلاف.

وذكر ابن رشد في "نهاية المجتهد"(2) في تحقيق الخلاف في هذه المسألة ما حاصله أنه وقع الاتفاق على لزوم النذر بالمال إذا كان في سبيل البر وكان على جهة الخبر، وإن كان على جهة الشرط؛ فقال مالك: يلزم كالخبر، ولا كفارة يمين في ذلك، إلا أنه إذا نذر بجميع ماله لزمه ثلث ماله إذا كان مطلقا، وإن كان معينا المنذور به لزمه وإن كان جميع ماله، وكذا إذا كان

(أ) ساقط من: ب.

_________

(1)

سيأتي تخريجه في الصفحة التالية.

(2)

الهداية في تخريج أحاديث البداية 6/ 147.

ص: 496

المعين أكثر من الثلث. وذهب الشافعي إلى أنه تجب كفارة يمين لأنه ألحقها بالأيمان، وذهب قوم أنه إذا نذر بجميع ماله لزمه إخراج الكل. وبه قال إبراهيم النخعي وزفر، وقال أبو حنيفة: يخرج جميع الأموال التي تحب الزكاة فيها. وقال بعضهم: إن أخرج مثل زكاة ماله أجزأه. وفي المسألة قول خامس، وهو أنه إذا كان المال كثيرا أخرج خمسه، وإن كان وسطا أخرج سُبُعه، وإن كان يسيرا أخرج عشره. وحدَّ هؤلاء الكثير بألفين، والوسط بألف، والقليل بخمسمائة، وذلك مروي عن قتادة، فمن قال: يخرج جميع ماله. فقياسًا على النذر الذي لم يكن مشروطا، ومن قال بالثلث فلقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي لبابة (1) وقد أراد أن يتصدق بماله كله:"يجزئك من ذلك الثلث". وكذلك حديث (2) صاحب بيضة ذهب وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصبت هذه من معدن، فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه عن يمينه، ثم عن يساره، ثم من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذفه بها، فلو أصابه بها لأوجعه، فقال صلى الله عليه وسلم:"يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذا صدقة. ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى". وهذا الحديث يكون حجة لمن يقول: إن النذر لا يلزم ولو لم يكن مشروطا بشرط، ويوافق حديث عقبة بن عامر الذي مر. انتهى. وقال في النذر المطلق حيث يقول الناذر: لله عليَّ نذر: قال كثير من العلماء: في ذلك كفارة يمين لا غير. وقال قوم: فيه كفارة الظهار. وقال قوم: فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم من القُرب؛ صيام يوم، أو

(1) أحمد 3/ 452، 453.

(2)

أبو داود 2/ 131، 132 ح 1673، 1674، وابن حبان 8/ 165، 166 ح 3372 من حديث جابر بن عبد الله.

ص: 497

صلاة ركعتين. وإنما صار الجمهور إلى وجوب كفارة اليمين للثابت من حديث عقبة بن عامر: "كفارة النذر كفارة يمين". وغيرهم اقتصر على أقل ما ينطلق عليه اسم النذر وهو صلاة ركعتين، وصيام يوم، وأما كفارة الظهار فخارج عن القياس. انتهى.

وقوله: "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين". تقدم الكلام فيه من كلام "نهاية المجتهد". وهو قول الجمهور.

وقوله: "من نذر نذرا في معصية". الحديث فيه دلالة على وجوب الكفارة ولو فعل المعصية، قد ذهب إلى هذا السيد يحيى من الهدوية، واستقواه الإمام المهدي في "البحر"، قال: لولا القياس. يعني القياس على سائر المنذورات أنها إذا فعلت سقطت الكفارة. ويجاب عنه بأن النص أرجح من القياس.

وقوله: "ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين". الحديث فيه دلالة على أنه لا يصح النذر بما لا يقدر على فعله، وظاهره حيث كان غير مقدور عقلا؛ كصعود السماء، وصوم أمس، فإن كان غير مقدور شرعا، كحجتين في عام واحد، لزمه حجتان في عامين، وكذا صوم يومين في يوم، لزمه صوم يوم واحد، وذكر بعض مفرعي الهدوية أنه لا بد أن يكون مقدورًا عقلًا وشرعًا. وقال ابن الصباغ: إن للشافعي قولين في صوم أمس. وقال الإمام يحيى: بل قول واحد أنه لا ينعقد.

وقوله في حديث عائشة: "فلا تعصه". وحديث عمران بن حصين: "لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى". يدل على أن النذر بالمعصية لا ينعقد ولا يلزمه كفارة يمين ولا غيرها. وقد ذهب إلى هذا الشافعي ومالك وأبو

ص: 498

حنيفة وداود وجمهور العلماء، وذهب الهدوية وأحمد بن حنبل إلى وجوب الكفارة؛ لحديث ابن عباس وحديث عمران بن حصين وعائشة مرفوعًا:"لا نذر في معصية وكفارتة كفارة يمين". وأجيب عنه بأن حديث ابن عباس الراجح وقفه، وحديث عمران وعائشة ضعيف باتفاق المحدثين، كذا قال النووي (1). قال المصنف رحمه الله تعالى (2): قد صححه الطحاوي (3)، فأين الاتفاق؟! وزيادة حديث عمران:"وكفارته كفارة يمين". هذا الحديث بهذه الزيادة رواه النسائي والحاكم والبيهقي (4)، ومداره على محمد بن الزبير الحنظلي (5) وليس بالقوي وهو وأبوه (6) مجهولان. وقد وقع في (1) طريق حديث عمران وقد اختلف عليه فيه، وله طريق أخرى إسنادها صحيح إلا أنه معلول، ورواه الأربعة (7) من حديث عائشة وفيه سليمان بن أرقم متروك (8). ورواه الدارقطني (9) وفي سنده غالب بن [عبيد الله](1) الجزري وهو متروك (10)،

(أ) في جـ: من.

(ب) في النسخ: عبد الله. والمثبت من التلخيص 4/ 176.

_________

(1)

شرح مسلم 1/ 101.

(2)

التلخيص الحبير 4/ 176.

(3)

ضعف الطحاوي حديث عمران وعائشة، ينظر شرح مشكل الآثار 5/ 403 - 410.

(4)

النسائي 7/ 28، والحاكم 4/ 305، والبيهقي 10/ 70.

(5)

محمد بن الزبير الحنظلي، البصري، متروك. التقريب ص 478، وينظر تهذيب الكمال 25/ 211.

(6)

الزبير التميمي، الحنظلي، البصري، والد محمد، لين الحديث. التقريب 214، وينظر تهذيب الكمال 9/ 332.

(7)

أبو داود 3/ 329، 330 ح 3290 - 3292، والترمذي 4/ 87، 88، ح 524/ 1525، والنسائي 7/ 26، 27، وابن ماجه 1/ 686 ح 2125.

(8)

تقدمت ترجمته في 2/ 38، 39.

(9)

الدارقطني 4/ 159، 160 ح 4.

(10)

قال البخاري وابن أبي حاتم: منكر الحديث. التاريخ الكبير 7/ 101، والجرح والتعديل 7/ 48.

ص: 499

ورواه أبو داود (1) من حديث ابن عباس وإسناده حسن، لكن قال أبو داود: وقفه أصح.

1150 -

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لتمش ولتركب". متفق عليه (2) واللفظ لمسلم، ولأحمد والأربعة (3): فقال: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، مرها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام".

الحديث فيه دلالة على أن النذر بالمشي إلى بيت الله لا يلزم الناذر، وله أن يركب وإن أطاق المشي، وقد ذهب إلى هذا الشافعي، كذا ذكر عن الشافعي الإمام المهدي، ولكن يلزم دم إذا كان الركوب لغير العجز، وذهب الهدوية إلى أنه لا يجوز الركوب مع القدرة على المشي، فإذا عجز جاز الركوب ولزمه دم، وحديث أخت عقبة وإن جاءت الرواية مطلقة فقد رواها أبو داود (4) مبينة أنها ركبت للعجز. قال: إن أختي نذرت أن تحج ماشية، وإنها لا تطيق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد بَدَنة". فيتأول قوله: "لتمش ولتركب". أي تمشي إن

(1) أبو داود 3/ 238 ح 3322.

(2)

البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب من نذر المشي إلى الكعبة 4/ 78، 79 ح 1866، ومسلم، كتاب النذر، باب من نذر أن يمشي إلي الكعبة 3/ 1264 ح 1644/ 11.

(3)

أحمد 4/ 152، وأبو داود، كتاب الأيمان والنذور، من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية 3/ 231 ح 3299، والنسائي، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حلفت المرأة لتمشي حافية غير مختمرة 7/ 26، والترمذي، كتاب النذور والأيمان 4/ 98 ح 1544، وابن ماجه، كتاب الكفارات، باب من نذر أن يحج ماشيا 1/ 689 ح 2134.

(4)

أبو داود 3/ 232 ح 3303.

ص: 500

استطاعت، وتركب في الوقت الذي لا تستطع المشي فيه، أو لحقها مشقة ظاهرة فتركب. وحديث أبي إسرائيل (1) وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم يهادى بين ابنيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما بال هذا؟ " فقالوا: نذر أن يمشي. فقال: "إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه". وأمره أن يركب، فالأمر بالركوب للعجز.

وقوله: "مرها فلتختمر". وقع في الرواية أنها نذرت أن تحج لله ماشية غير مختمرة، قال: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مر أختك فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام". وأخرجه البيهقي (2) وفي إسناده اختلاف، والأمر بالصيام ثلاثة أيام لعله للنذر بعدم الاختمار، وهو نذر معصية، فوجب كفارة يمين، وأما الركوب فلم يذكر الهدي لأجله، وقد جاءت فيه روايات مختلفة، قال البخاري (2): لا يصح في حديث عقبة بن عامر الأمر بالهدي. وقد أخرج أبو داود (3) من حديث ابن عباس، أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديا. قال ابن دقيق العيد: إسناده على شرط الشيخين.

1151 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال:"اقضه عنها". متفق عليه (4). الحديث.

(1) البخاري 11/ 586 ح 6704، وأبو داود 3/ 232 ح 3300، وابن ماجه 1/ 690 ح 2136.

(2)

البيهقي 10/ 80.

(3)

تقدم في الصفحة السابقة حاشية 4.

(4)

البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر 11/ 583 ح 6698، ومسلم، كتاب النذر، باب الأمر بقضاء النذر 3/ 260 ح 1638.

ص: 501

قوله: في نذر. لم يبين في هذه الرواية النذر ما هو، وقد جاء في رواية: أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ قال: "أعتق عن أمك". فظاهر هذه الرواية أن المنذور به عتق، وإن كان يحتمل أنها نذرت نذرًا مطلقا غير معين، فيكون في الحديث حجة لمن قال: يلزم في النذر المطلق كفارة يمين. والإعتاق أعلى كفارات الأيمان، فلذلك أمره أن يعتق عنها، وذهب بعضهم إلى أن النذر كان صومًا، واستند إلى حديث ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم. الحديث، ورده ابن عبد البر (1) بأن هذا في سؤال امرأة؛ فإن في بعض رواياته عن ابن عباس: جاءت امرأة فقالت: إن أختي ماتت. ورجح المصنف رحمه الله تعالى (2) أنهما قضيتان، وكذلك ما أخرجه النسائي (3) عن سعد بن عبادة قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؛ قال:"نعم". قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء". وأخرجه الدارقطني (4) في "غرائب مالك"، فيكون في شأنها الأمران؛ قضاء النذر عنها والصدقة.

وفي الحديث دلالة على أنه ينفع الميت ما فعله غيره عنه من واجب أو تطوع كما في رواية النسائي، وقد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب الجنائز (5).

(1) التمهيد 9/ 25، 26.

(2)

الفتح 5/ 390.

(3)

النسائي 6/ 254، 255.

(4)

الدارقطني -كما الفتح 5/ 389.

(5)

تقدم في 4/ 275 - 278.

ص: 502

وقد يفهم من الحديث أن الوصية لمن كان فقيرا غير واجبة عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها ترك الوصية، ولكنه قد يجاب عنه بأنه لا فائدة للإنكار؛ لتعذر الفعل بالموت، إلا أن يقال: فائدته تعريف الغير وجوب الوصية، فلما أقر عليه دل على عدم الوجوب.

وأم سعد هي عمرة بنت مسعود -وقيل: سعد- بن قيس بن عمرو، أنصارية خزرجية، ذكر ابن سعد (1) أنها أسلمت وبايعت، وماتت سنة خمس والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل وابنها سعد بن عبادة معه. قال: فلما رجعوا جاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على قبرها. وعلى هذا فالحديث مرسل صحابي؛ لأن ابن عباس كان حينئذ مع أبويه بمكة، ويمكن أنه سمعه من سعد بن عبادة، وقد جاء في رواية سليمان بن كثير (2)، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن سعد بن عبادة، أنه استفتى. الحديث.

واعلم أن مذهب الجمهور أنه لا يلزم الوارث أن يقضي عن الميت النذر إذا كان غير مالي، وكذا المالي إذا لم يُخَلِّفْ تركة، لكن يستحب، وقال أهل الظاهر: يلزمه ذلك، لحديث سعد. والجواب أنه لا دلالة فيه على وجوب ذلك، ولعله تبرع بذلك عنها برًّا منه لها، أو كان لها مال فقضاه من مالها.

1152 -

وعن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببُوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: "هل كان فيها

(1) الطبقات 3/ 614، 8/ 451.

(2)

النسائي 6/ 253.

ص: 503

وثن يعبد؟ ". قال: لا. قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ ". فقال: لا. فقال: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا في قطيعة رحم، ولا فيما لا يملك ابن آدم". رواه أبو داود والطبراني (1) واللفظ له، وهو صحيح الإسناد، وله شاهد من حديث كَردَم عند أحمد (2).

هو ثابت بن الضحاك [الأشهلي](أ)، قال البخاري (3): إنه ممن بايع تحت الشجرة، حدث عنه أبو قلابة وغيره، توفي سنة خمس وأربعين.

وأخرجه أبو داود (4) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ورواه ابن ماجه (5) من حديث ابن عباس. ورواه أحمد (6) في "مسنده" من حديث عمرو بن شعيب، عن ابنة كردم، عن أبيها أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر ثلاثة من إبلي. فقال: "إن كان على وثن من أوثان الجاهلية فلا". وفي لفظ لابن ماجه (7): عن ميمونة بنت كردم الثقفية أن أباها لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهي رَديفة كَردَم وقال: إنىِ نذرت أن أنحر ببُوانة. فقال: "فهل فيها وثن؟ ". قال: لا. قال: "فأوف بنذرك".

(أ) في ب، جـ: الإشبيلي. والمثبت من الإصابة 1/ 391.

_________

(1)

أبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر 3/ 235 ح 3313، والطبراني 2/ 68 ح 1341.

(2)

أحمد 6/ 366.

(3)

كما في الإصابة 1/ 391.

(4)

أبو داود 3/ 235 ح 3312.

(5)

ابن ماجه 1/ 688 ح 2130.

(6)

أحمد 4/ 64، 5/ 376.

(7)

ابن ماجه 2/ 688 ح 2131.

ص: 504

وبُوانة بضم الباء الموحدة وبعد الألف نون، موضع بين الشام وديار بكر. قاله أبو عبيد (1)، وقال البغوي: أسفل مكة دون يلملم. وقال المنذري: هضبة من وراء ينبع. وكذا في "النهاية"(2).

الحديث فيه دلالة على أنه إذا نذر بفعل صدقة أو غيرها في محل معين، فإذا كان فعله في ذلك المحل جائزا لا يشوبه شيء من أعمال الجاهلية لزم الناذر الوفاء بذلك، وقد ذهب إلى أنه يتعين المكان المنذور بالفعل فيه المنصور بالله وأبو مضر من الهدوية، وظاهر الأثر يدل عليه، ولكنه يعارَض بحديث:"لا تشد الرحال". وسيأتي، فيكون قرينة على أن الأمر هنا للندب جمعا بين الأحاديث.

1153 -

وعن جابر رضي الله عنه أن رجلا قال يوم الفتح: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت القدس. فقال:"صل ها هنا". فسأله، فقال:"صل ها هنا". فسأله، فقال:"شأنك إذن". رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم (3).

وأخرج الحديث البيهقي (4)، وصححه أيضًا ابن دقيق العيد في "الاقتراح".

الحديث فيه دلالة على أن المكان لا يتعين في النذر وإن عين.

1154 -

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1) معجم ما استعجم 1/ 283.

(2)

النهاية 1/ 164.

(3)

أحمد 3/ 363، وأبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب من نذر أن يصلي في بيت المقدس 3/ 233 ح 3305، والحاكم، كتاب النذور 4/ 304، 305.

(4)

البيهقي 10/ 82، 83.

ص: 505

"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي". متفق عليه (1) واللفظ للبخاري.

تقدم الكلام في الحديث في آخر باب الاعتكاف (2)، ولعل المصنف رحمه الله تعالى ذكره للتنبيه على أن النذر لا يتعين فيه المكان في غير الثلاثة المساجد، وقد ذهب مالك والشافعي إلى أنه يلزم الوفاء بالنذر بالصلاة في الثلاثة المساجد، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الوفاء، وله أن يصلي في أي محل شاء. وإنما يجب عنده المشي إلى المسجد الحرام إذا كان لحج أو عمرة، وقال أبو يوسف: من نذر بالصلاة في بيت المقدس ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه الصلاة في المسجد الحرام عن ذلك. وما عدا هذه الثلاثة المساجد فأكثر الناس على أنه لا يلزم، وذهب بعض إلى أن النذر إلى غير الثلاثة مما له فضل زائد يلزم؛ لما روي من فتوى ابن عباس في المرأة التي نذرت أن تمشي إلى مسجد قباء فماتت، فقال لولدها: امش عنها. وقد تقدم الكلام في آخر كتاب الاعتكاف.

1155 -

وعن عمر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال:"أوف بنذرك". متفق عليه (3) وزاد البخاري (4) في رواية: "فاعتكف ليلة".

(1) البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس 3/ 70 ح 1197، ومسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2/ 976 ح 827/ 415.

(2)

تقدم في 5/ 164 - 169.

(3)

البخاري، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف ليلا 4/ 274 ح 2032، ومسلم، كتاب الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم 3/ 1277 ح 1656/ 27.

(4)

البخاري، كتاب الاعتكاف، باب من لم ير عليه إذا اعتكف صوما 4/ 284 ح 2042.

ص: 506

الحديث فيه دلالة على وجوب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم، وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي والمغيرة المخزومي وأبو ثور والبخاري وابن جرير. وذهب الجمهور إلى أنه لا ينعقد النذر من الكافر، قال الطحاوي: لا يصح منه التقرب بالعبادة، ولكنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من عمر أنه سمح بفعل ما كان نذر فأمره به، لأن فعله طاعة وليس هو ما كان نذر به في الجاهلية. وقال بعض المالكية: إنما أمره بالوفاء استحبابا وإن كان التزمه في حال لا ينعقد فيها. قال عمر: ولم أعتكف إلا بعد حنين.

وقد استدل به على أن الاعتكاف لا يلزمه الصوم، إذ الليل ليس ظرفا له، وتعقب بأن في رواية شعبة عن عبد الله عند مسلم (1):"يوما" بدل "ليلة"(أ)، وجمع ابن حبان (2) وغيره بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يوما أراد بليلته، وقد ورد ذكر الصوم صريحا في رواية أبي داود والنسائي (3):"اعتكف وصم". وهو ضعيف.

وفي الحديث حجة على من قال: أقل الاعتكاف عشرة أيام. وهو مالك، وعنه: يوم أو يومان.

وأراد بقوله: في الجاهلية. ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر أنه نذر قبل إسلامه، وبين البعثة وإسلامه مدة.

(أ) في ب: الليلة.

_________

(1)

مسلم 3/ 1277 ح 27/ 1656.

(2)

ابن حبان 10/ 226.

(3)

أبو داود 2/ 347 ح 2474، والنسائي في الكبرى 2/ 262 ح 3355 وليس فيه ذكر الصوم. وينظر تحفة الأشراف 8/ 16 ح 7353.

ص: 507