المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب التعزير وحكم الصائل - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٩

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌باب التعزير وحكم الصائل

‌باب التعزير وحكم الصائل

التعزير مصدر عزر، وهو مأخوذ من العزر، وهو الرد والمنع، ويستعمل في معنى الدفع عن الشخص كدفع أعدائه عنه، ومنعهم من إضراره، ومنه قوله تعالى:{وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} (1). وهو هنا عبارة عن فعل ما (أ) يؤلم بمن وقع منه معصية لا توجب الحد، سمى بذلك لدفعه عن إتيان القبيح، ويكون بالقول وبالفعل بحسب ما يليق به، والصائل اسم فاعل من صال على قرنه إذا سطا عليه واستطال.

1043 -

عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله". متفق عليه (2).

الحديث روي: "لا يجلد". بوجهين؛ أحدهما: فتح الياء وكسر اللام. والثاني: بضم الياء وفتح اللام بصيغة النهي مجزوما، وبصيغة النفي مرفوعًا، ويؤيد الجزم رواية:"لا تجلدوا"(3).

وقوله: "فوق عشرة أسواط". وفي رواية: "عشر جلدات"(4). وفي

(أ) ساقطة من: جـ. والمثبت يقتضيه السياق. وينظر الفتح 12/ 178.

_________

(1)

الآية 12 من سورة المائدة.

(2)

البخاري، كتاب الحدود، باب كم التعزير والأدب 12/ 175، 176 ح 6748، 6749، ومسلم، كتاب الحدود، باب قدر أسواط التعزير 3/ 1332 ح 1708.

(3)

البخاري 12/ 176 ح 6850.

(4)

البخاري 12/ 176 ح 6848.

ص: 179

رواية: "لا عقوبة فوق عشر ضربات"(1).

وقوله: "إلا في حد من حدود الله تعالى". المراد به ما ورد عن الشارع فيه عدد من الضرب أو عقوبة مخصوصة؛ كالقطع والرجم، ونحوه، والمتفق عليه من ذلك الزنى، والسرقة، وشرب الخمر، وحد المحارب، والقذف بالزنى، والقتل في الردة، والقصاص في النفس والأطراف على الخلاف في كونه حدا، واختلف في أشياء كثيرة يستحق مرتكبها العقوبة هل تسمى حدا أو لا؟ وهي جحد العارية، واللواط، وإتيان البهيمة، وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها، والسحاق، وأكل الدم والميتة ولحم الخنزير في حال الاختيار، والسحر، والقذف بشرب الخمر، وترك الصلاة تكاسلا، والفطر في رمضان، والتعريض بالزنى.

وذهب بعض العلماء إلى أن الحد هنا مراد به عقوبة المعصية مطلقا، قال: وتخصيصهم الحد بالعقوبة في الأشياء المخصوصة، إنما هو أمر اصطلاحي من الفقهاء بعد أن كان عرف الشرع إطلاق الحد في عقوبة كل معصية كبرت أو صغرت. ونسب هذا ابن دقيق العيد إلى بعض المعاصرين له. والتزم هذه المقالة ابن قيم الجوزية وقال: المراد بالحدود هنا هي أوامر الله ونواهيه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (2). وغير ذلك، وأن المراد بالنهي في الحديث إنما هو في التأديب للمصالح كتأديب الأب ابنه الصغير، ولعل المعاصر لابن دقيق العيد هو ابن تيمية، ولذلك

(1) البخاري 12/ 176 ح 6850.

(2)

الآية 1 من سورة الطلاق.

ص: 180

انتصر تلميذه ابن القيم [لقوله](أ)، واعترض عليه بأنه قد ظهر أن اصطلاح الشارع للحدود المذكورة قد وقع، ويدل عليه ما تقدم في قياس الخمر على القذف، فإن في لفظة عبد الرحمن:"أخف الحدود ثمانون"(1). فهو مصرح بأن الحد متعارف للشارع في المعينات، فاعترضه ابن دقيق العيد (2) بأنا إذا حملناه على ما ذكره، لم يبق لنا شيء تمتنع فيه الزيادة، إذ ما عدا المحرم لا يجوز فيه التعزير، والتأديب ليس بتعزير. قلت: ويؤيد أن الأدب ليس بتعزير، أن البخاري (3): بوب باب التعزير والأدب. فعطفه عليه، والأصل في العطف المغايرة.

وقال المصنف رحمه الله تعالى (4): ويحتمل أن يفرق بين مراتب المعاصي، فما ورد فيه تقدير لا [يزاد](ب) عليه، وهو المستثنى في الأصل، وما لم يرد فيه تقدير، فإن كان كبيرة جازت الزيادة فيه، وأطلق عليه اسم الحد كما في الآيات المشار إليها والتحق بالمستثنى، وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزيادة، وقد ذهب إلى العمل بظاهر هذا الحديث الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض الشافعية، وقال مالك والشافعي و [صاحبا](جـ)

(أ) ساقطة من: جـ. والمثبت موافق لما في الفتح 12/ 178.

(ب) في جـ: يرد. والمثبت من الفتح 12/ 178.

(جـ) في جـ: صاحب. والمثبت من الفتح 12/ 178.

_________

(1)

مسلم 3/ 1330 ح 35، 36 - 1706.

(2)

الفتح 12/ 178.

(3)

الفتح 12/ 175.

(4)

الفتح 12/ 178، 179.

ص: 181

أبي حنيفة وزيد بن علي والمؤيد والإمام يحيى (أ): إنه تجوز الزيادة على العشرة، ولكن لا يبلغ أدنى الحدود. وفي كونه هل يعتبر حد الحر أو حد العبد؟ قولان. وذهب الهادي والقاسم والناصر وأبو طالب أنه يكون في كل دون حد جنسه؛ لأن عليا جلد من وجده مع امرأة من غير زنى مائة سوط إلا سوطين، وأفتى بذلك. وذهب الشافعي إلى أن تعزير الحر دون أدنى حده، وتعزير العبد دون أدنى حد العبد. وهو مقتضى قول الأوزاعي. وقال الباقون: هو إلى رأي الإِمام بالغًا ما بلغ. وهو اختيار أبي ثور وأبي يوسف ومحمد. وهو مذهب مالك وأصحابه، كما رواه النووي (1). وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى، ألا تجلد في التعزير أكثر من عشرين. وعن عثمان: ثلاثين. وعن عمر أنه بلغ بالسوط مائة في ضربه مَن نقش على خاتمه، وضرب صبيا أكثر من الحد. وكذا عن ابن مسعود، وعن مالك وعطاء وأبي ثور:[لا يعزر](ب) إلا من تكرر بغيه، ومن وقع منه مرة واحدة معصية لا حد فيها فلا يعزر، وعن أبي حنيفة: لا يبلغ أربعين. وعن ابن أبي ليلى وأبي يوسف: لا يزاد على خمس وتسعين جلدة، وفي رواية عن مالك وأبي يوسف: لا يبلغ ثمانين. وأجاب هؤلاء عن الحديث بما تقدم في كلام ابن دقيق العيد، وأن ذلك مختص بالجلد بالسوط، وأما الضرب بالعصا مثلًا وباليد فتجوز الزيادة، لكن لا يجاوز أدنى الحدود. وهذا رأي الإصطخري من الشافعية، وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب، أو أنه

(أ) زاد بعده في جـ: إلى. والمثبت بقتضيه السياق.

(ب) ساقطة من: جـ: والمثبت من الفتح 12/ 178.

_________

(1)

شرح مسلم 11/ 221، 222.

ص: 182

منسوخ، دل على نسخه إجماع الصحابة، ورد بأنه قال به بعض التابعين، وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار، أو أنه قد قام الإجماع بأن التعزير يخالف الحد، فإذا أخذنا بالعشر وافق الحد في أن له قدرا معلوما، والإجماع خلاف ما دل عليه الحديث، ولا يخفى ما في هذا الكلام من الركة، ونقل القرطبي أن الجمهور قالوا بما دل عليه الحديث، وعكسه النووي، وهذا المعتمد، فإنه لا يعرف القول به في أحد من الصحابة، واعتذر الداودي عن مالك فقال: لم يبلغ [مالكا](أ) هذا الحديث، فكان يرى العقوبة بقدر الذنب، وهذا يقتضي أنه لو بلغه ما عدل عنه. فيجب على من بلغه أن يأخذ به. والله أعلم.

1044 -

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود". رواه أحمد وأبو داود والنسائي (1).

الحديث أخرجه أيضًا ابن عدي والعسكري والعقيلي (2) من حديث عمرة عن عائشة مرفوعًا، وقال العقيلي: له طرق لا يثبت منها شيء. وهو عند الشافعي وابن حبان (3) في "صحيحه"، إلا أن في إسناد ابن حبان والعسكري أبا بكر بن نافع (4)، ضعفه أبو زرعة، وفي الباب عن ابن عمر،

(أ) ساقط من: جـ. والمثبت من الفتح 12/ 178.

_________

(1)

أحمد 6/ 181، وأبو داود، كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه 4/ 131 ح 4375، والنسائي في "الكبرى" كتاب الرجم، باب التجاوز عن زلة ذي الهيئة 4/ 310 ح 7293.

(2)

ابن عدي في الكامل 5/ 1945، والعقيلي في الضعفاء 2/ 343.

(3)

الشافعي في المسند 2/ 175 ح 287، وابن حبان 1/ 296 ح 94.

(4)

أبو بكر بن نافع العدوي، مولاهم، المدني، قاضي بغداد، ضعيف. التقريب ص 624، =

ص: 183

رواه أبو الشيخ في كتاب الحدود بسند ضعيف، وعن ابن مسعود رفعه بلفظ:"تجاوزوا عن ذنب السخي، فإن الله يأخذ بيده عند عثراته". رواه الطبراني في "الأوسط"(1).

وقوله: "أقيلوا". مأخوذ من إقالة البائع وهو موافقته على نقض البيع، والمراد هنا موافقته على ترك المؤاخذة له على الذنب، وذوو الهيئات هم الذين لا يعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة. كذا فسره الشافعي، والهيئة سورة الشيء وشكله وحالته. يريد به ذوي الهيئات الحسنة الذين يلزمون هيئة واحدة وسمتا واحدا، ولا تختلف حالتهم بالتنقل من هيئة إلى هيئة. وعثراتهم جمع عشرة، وهي واحدة، عثرا مصدر من عشر كضرب، والمراد هنا الزلة. قال الماوردي: المراد هنا الصغائر أول معصية تقع من الإنسان.

وقوله: "إلا الحدود". قد تقدم الكلام في أن الحد إذا [رفع](أ) لم يجز تأخيره، وأما قبل المرافعة فقد تقدم التفصيل فيمن يترك ولا يرافع (2).

1045 -

وعن علي رضي الله عنه قال: ما كنت لأقيم على أحد حدًّا فيموت فأجد في نفسي، إلا شارب الخمر، فإنه لو مات وديته. أخرجه البخاري (3).

قوله: لأقيم. اللام هي لام الجحود، لتأكيد النفي.

(أ) في جـ: وقع. والمثبت يقتضيه السياق.

_________

= وينظر تهذيب الكمال 33/ 147.

(1)

الطبراني في الأوسط 2/ 46 ح 1199.

(2)

ينظر ما تقدم ص 95 - 99.

(3)

البخاري، كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال 12/ 66 ح 6778.

ص: 184

وقوله: فيموت فأجد. بالنصب فيهما بالعطف على أقيم. ومعنى أجد من الوجد، وهو الحزن.

وقوله: يموت. مسبب عن أقيم، وأجد مسبب عنهما جميعًا.

وقوله: إلا شارب الخمر. يحتمل الاستثناء أن يكون متصلًا منصوبا على تقدير: ما أجد من موت أحد يقام عليه الحد شيئًا إلا موت شارب الخمر، ويحتمل أن يكون منقطعا منصوبا أو مرفوعًا على أنه جملة تامة، أي لكن شارب الخمر إذا مات.

الحديث فيه دلالة على أن من مات بالتعزير -وهو ما لم ينص الشارع على مقداره- أنه يضمنه الإِمام. وقد ذهب إلى هذا الجمهور لهذا، ولقول علي لعمر -لما قال له عبد الرحمن بن عوف في حق المرأة التي أسقطت ولدها: إنك مؤدب فلا شيء عليك- إن اجتهد فقد أخطأ، وإن لم يجتهد فقد غشك (1). وذهبت الهدوية إلى أنه لا شيء فيمن مات بحد أو تعزير، فاستوى التعزير على الحد بجامع أن الشارع قد أذن فيهما، والجواب ما تقدم من أن التعزير إذا أعنت فيه ينكشف أن ذلك غير مأذون فيه، وأما الحد فهو مأذون فيه، ولا يقال: إن الحد مع الإعنات غير مأذون فيه لأنه مأذون في أصله، والخطأ إنما هو في صفته، وأما التعزير فيكشف أنه غير مأذون من أصله، قالوا: وقول علي في حق الشارب إنما هو للاحتياط، ولا يخفى عليك أنه مصرح بأن ذلك واجب، وقد تقدم تمامه، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه. وقال الطبري: إن كان على مُغلَّظ كوطء أجنبية في غير الفرج فلا

(1) الأم 6/ 173، والسنن الكبرى للبيهقي 6/ 123. وفيهما إبهام عبد الرحمن بن عوف.

ص: 185

ضمان، وإن كان على مخفف كإساءة أدب في مجلس الحكم ضمن. قال الإِمام المهدي: قلت: وهو قريب، إذ المخفف أشبه بضرب الزوجة. انتهى.

وظاهر كلامه أن ضرب الزوجة إذا أعنت مضمون بلا خلاف، وقال الإِمام في "البحر": والتعزير إلى الإِمام والسيد والزوج للولاية، وليس للأب تعزير ولده الكبير إذ لا ولاية عليه، وضرب ولده الصغير ليس بتعزير إذ لا معصية له، وكذا المعلم، فإن أتلف ضمن لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا توى (1) على مال المسلم"(2). فكذا الزوج. انتهى. ثم قال: مسألة الإِمام يحيى: وليس للزوج التعزير في غير النشوز وترتيبه ترتيب الآية؛ الوعظ ثم الهجر ثم الضرب، وهذا يقتضي سقوطه بالتوبة، ويكون ضربا غير مبرح إذ المجحف مهلك، واليسير لا يجدي، وللسيد تعزير عبده فيما يتعلق بحق الله والخلق أو بنفسه؛ كالتمرد عن الخدمة وسوء الأدب إجماعا، وسقط التعزير بالتوبة، واحتج على ذلك البخاري بقضية المجامع في نهار رمضان (3).

وقوله: وديته. بتخفيف الدال المهملة وسكون الياء، أي: غرمت ديته. وقال النووي في شرح مسلم (4): قال بعض العلماء: الوجه أن يقال: فديته بالفاء. وقد أجمع العلماء على أن من وجب عليه حد فجلده الإِمام أو جلاده الحد الشرعي فمات، فلا دية فيه ولا كفارة، لا على الإِمام ولا على جلاده ولا في بيت المال، وأما من مات من التعزير فمذهبنا وجوب

(1) لا توى: أي لا ضياع ولا خسارة. النهاية 1/ 201.

(2)

أخرجه البيهقي 6/ 71 موقوفًا على عثمان بن عفان.

(3)

الفتح 12/ 131.

(4)

شرح مسلم 11/ 221.

ص: 186

الضمان للدية والكفارة، وفي محل ضمانه قولان للشافعي، أصحهما: تجب ديته على عاقلة الإِمام، والكفارة في مال الإِمام. والثاني: تجب الدية في بيت المال. وفي الكفارة على هذا وجهان لأصحابنا؛ أحدهما: في بيت المال أيضًا. والثاني: في مال الإِمام. هذا مذهبنا. وقال جماهير العلماء: لا ضمان فيه على الإِمام. ولا على عاقلته، ولا في بيت المال. والله أعلم. انتهى. وظاهر قول الهدوية أن الدية تكون في بيت المال؛ لأن خطأ الإِمام في بيت المال، والكفارة تكون في ماله، وهذا في خطأ الإِمام، وأما في التعزير فكلامهم مثل قول الجمهور، وقد تقدم النقل عن الجمهور خلاف ما نقله النووي.

1046 -

وعن عبد الله بن خباب رضي الله عنه قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون فتن، فكن فيها عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل". أخرجه ابن أبي خيثمة والدراقطني (1). وأخرج أحمد (2) نحوه عن خالد بن عرفطة.

حديث خباب رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع وأبو يعلى وأحمد بن حنبل (3)، ومدار أسانيدهم على راولم يسم، فإن في طريقه أيوب، عن حميد بن هلال، عن رجل من عبد القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم، قال: دخلوا قرية فخرج عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) أخرجه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن 1/ 231 ح 30 من طريق ابن أبي خيثمة، والدارقطني، كتاب الحدود والديات وغيره 3/ 132.

(2)

أحمد 5/ 292.

(3)

ابن أبي شيبة 15/ 310، 311، وأحمد بن منيع -كما في الإتحاف للبوصيري 10/ 182 ح 9792 - وأبو يعلى 13/ 176، 177 ح 7215، وأحمد 5/ 110.

ص: 187

ذعرا يجر رداءه، فقال: والله لقد رعبتموني. قالوا: ألم تر؟! قال: والله لقد رعبتموني. قالوا: أنت عبد الله بن خباب؟ قال: نعم. قال: هل سمعت من أبيك شيئًا تحدثنا به؟ قال: سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر فتنة "القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فإن أدركك ذلك، فكن عبد الله المقتول". قال أيوب: ولا أعلمه إلا قال: "ولا تكن عبد الله القاتل". قال: أنت سمعت هذا من أبيك يحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. فقدموه على ضفة النهر فضربوا عنقه فسأل دمه امذقر. قال في "النهاية"(1) ما لفظه: في حديث ابن خباب: فقتله الخوارج على شاطئ نهر، فسال دمه في الماء فما امذقر، قال الراوي: فأتبعه بصري، كأنه شراك أحمر. قال أبو عبيد: أي ما امتزج بالماء. وقال شمر: الامذقرار: أن يجتمع الدم ثم يتقطع قطعا ولا يختلط بالماء، يقول: لم يكن كذلك، ولكنه سال وامتزج. وهذا يخالف الأول، وسياق الحديث يشهد للأول، أي أنه مر فيه كالطريقة الواحدة لم يختلط به، ولذلك شبهه بالشراك الأحمر، وهو سير من سيور النعل، وذكر المبرد هذا الحديث في "الكامل"، قال: فأخذوه وقربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه فامذقر دمه، أي جرى مستطيلا متفرقا. هكذا رواه بغير حرف النفي، ورواه بعضهم بالباء، وهو معناه. انتهى. وبقروا أم ولده عما في بطنها. وحديث خالد بن عرفطة، أخرجه أحمد والحاكم والطبراني أيضًا وابن قانع (2) من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن خالد بن عرفطة بلفظ:

(1) النهاية 4/ 311، 312.

(2)

أحمد 5/ 292، والحاكم 3/ 281، والطبراني 4/ 224، 225 ح 4096، وابن قانع -كما في التلخيص 4/ 84.

ص: 188

"ستكون فتنة بعدي وأحداث واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل". وعلي بن زيد (1) ضعيف، وأخرج أحمد والترمذي (2) من حديث سعد بن أبي وقاص قال: فإن دخل عليّ بيتي وبسط يده إليّ ليقتلني؟ قال: "كن كابن آدم". وأخرج أحمد (3) من حديث ابن عمر بلفظ: "ما يمنع أحدكم إذا جاء أحد يريد قتله أن يكون مثل ابني آدم، القاتل في النار، والمقتول في الجنة". وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان (4) من حديث أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الفتنة:"كسّروا فيها قسيكم وأوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دُخل على أحدكم بيته، فليكن كخير ابني آدم". وصححه القشيري في "الاقتراح" على شرط الشيخين.

قوله: "تكون فتن". مضارع كان التامة، لا تحتاج إلى خبر. الحديث فيه دلالة على ترك القتال عند ظهور الفتن، والتحذير من الدخول فيها. قال القرطبي: اختلف السلف في ذلك، فذهب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم (5) إلى أنه يجب الكف عن المقاتلة، فمنهم من قال: يجب عليه أن يلزم بيته. وقالت طائفة: يجب عليه التحول عن بلد الفتنة أصلًا. ومنهم من قال: يترك المقاتلة حتى لو أراد أحدهم قتله

(1) تقدمت ترجمته في 2/ 55.

(2)

أحمد 1/ 185، والترمذي 4/ 422 ح 2194.

(3)

أحمد 2/ 100.

(4)

أحمد 4/ 416، وأبو داود 4/ 97 ح 4259، والترمذي 4/ 425 ح 2204، وابن ماجه 2/ 1310 ح 3961، وابن حبان 13/ 297 ح 5962.

(5)

الفتح 13/ 31.

ص: 189

لم يدفعه عن نفسه. ومنهم من قال: يدافع عن نفسه وعن ماله وعن أهله، وهو معذور إن قتل أو قتل. وذهب جمهور العلماء والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحملت هذه الأحاديث الواردة على من ضعف عن القتال، أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق. وبعضهم قال بالتفصيل: وهو أنه إذا كان القتال بين طائفتين لا إمام لهم فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث على هذا، وهو قول الأوزاعي. وقال الطبري: إنكار المنكر واجب على من يقدر عليه، فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل عليه الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها. وذهب البعض إلى أن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك: وقيل: إن النهي إنما هو في آخر الزمان حيث يحصل التحقيق، والمقاتلة إنما هي طلب الملك، وقد أتى هذا في حديث ابن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال:"أيام الهرج". قلت: ومتى؟ قال: "حين لا يأمن الرجل جليسه"(1).

وفي قوله: "فكن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل". فيه دلالة على أنه لا يجب المدافعة عن النفس بل ظاهر النهي التحريم، إلا أن قوله في حديث خالد:"فإن استطعت". يدل على أنها لا تحرم المدافعة، وكذلك قوله:"كخير ابني آدم". فيحمل النهي على الكراهة دون التحريم. والله أعلم.

1047 -

وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد". رواه الأربعة وصححه الترمذي (2).

(1) أحمد 1/ 448، وأبو داود 4/ 97 ح 4258.

(2)

أبو داود، كتاب الأدب، باب في قتال اللصوص 4/ 246، 247 ح 4772، والترمذي، =

ص: 190

وأخرجه ابن حبان والحاكم (1) وفيه: "من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد". وأخرج البخاري (2): "من قتل دون ماله فهو شهيد". من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

الحديث فيه دلالة على جواز الدفع عن المال. وهو قول الجمهور، وشذ من أوجبه، وأنه إذا قتل كان شهيدا، وكذا إذا قتل لا ضمان عليه لعدم التعدي منه، والظاهر أن ذلك مجمع عليه إلا أن بعض المالكية قالوا: لا يجوز إذا كان المال قليلًا، قال القرطبي: سبب الخلاف عندنا هل الإذن في ذلك من باب تغيير المنكر، فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال؟ إلا أنه لا يحسن إن كفى الدفع باللين، فإن فعل ما فيه زيادة على قدر الدفع كان متعديا ولزمه الضمان. وكذلك عن الأهل، وإذا كان يخشى انتهاك محرم في حق الأهل وجب عليه دفعا لوقوع المنكر، وكذلك في حق غير الأهل، إذا كان لا يندفع الفاعل عن فعل المنكر إلا [بالقتل](أ) فهو من باب دفع المنكر، وقد ورد من حديث سعد بن عبادة

(أ) في جـ: بالقليل. والمثبت يقتضيه السياق.

_________

= كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد 4/ 22 ح 1418، 1421، والنسائي، كتاب تحريم الدم، باب من قتل دون ماله 7/ 115، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب من قتل دون ماله فهو شهيد 2/ 861.

(1)

ابن حبان 7/ 467 ح 3194 من حديث سعيد بن زيد، والحاكم في المستدرك 3/ 741 من حديث عبد الله بن عامر بن كريز وعبد الله بن الزبير، كلاهما بدون ذكر:"ومن قتل دون أهله"، وهو بهذا اللفظ في مسند أحمد 1/ 190.

(2)

البخاري 5/ 123 ح 2480.

ص: 191

قوله: لو رأتيت رجلًا مع امرأتي لضربته غير مصفح (1). بكسر الفاء وفتحها، وقرر قوله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"أتعجبون من غيرة سعد؟ ". وهو يدل على أن له أن يعاجله بالقتل وإن كان يندفع بغير القتل، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال الجمهور: عليه القود. وقال أحمد، وإسحاق (2)، وهو قول الهدوية: إن أقام بينة أنه وجده مع امرأته هدر دمه. وقال الشافعي: يسعه فيما بينه وبين الله تعالى قتل الرجل، إن كان ثيبا وعلم أنه نال منها ما يوجب الغسل، ولكن لا يسقط عنه القود في ظاهر الحكم. وحكى ابن المنذر عن الشافعي (3) قال: من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله الاختيار، أن يكلمه أو يستغيث، فإن امتنع لم يكن له قتاله وإلا فله أن يدافعه ولو أتى على نفسه، وليس عليه قتل ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له عمد قتله. وقد أخرج عبد الرزاق (4) بسند صحيح إلى هانئ بن حزام، أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا فقتلهما، فكتب عمر كتاب العلانية أن يقيدوه به، وكتابا في السر أن يعطوه الدية. وقال ابن المنذر: جاءت الأخبار عن عمر في ذلك مختلفة وعامة أسانيدها منقطعة. وقد ثبت عن علي رضي الله عنه، أنه سئل عن رجل قتل رجلًا وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء وإلا فليعط برمته (5). قال الشافعي: وبهذا نأخذ عن علي، ولم نعلم لعلي مخالفا في ذلك. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر، إذا أريد ظلما

(1) البخاري 12/ 174 ح 6846، 7416، ومسلم 2/ 1136 ح 1499.

(2)

الفتح 12/ 174.

(3)

الفتح 5/ 124.

(4)

عبد الرزاق 9/ 435 ح 17921.

(5)

الموطأ 2/ 737، والأم 6/ 30، والبيهقي 8/ 30.

[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الحواشي - هنا - غير واضحة بالمطبوع]

ص: 192

بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه. وفرق الأوزاعي بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام فحمل الحديث عليها، وأما في حال الاختلاف والفرقة فليستسلم ولا يقاتل أحدا، ويرد عليه ما وقع في حديث أبي هريرة عند مسلم (1) بلفظ: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "فهو في النار". كذا أورده المصنف (2). ولكنه يرد عليه بأن هذا حديث أبي هريرة مطلق غير مقيد بحال الفتنة وغيرها، وأحاديث ترك المقاتلة في الفتنة مقيدة بحال الفتنة، ومع التعارض فالعمل بالمقيد كما هو المختار عند جماعة من المحققين ومنهم الشافعي، فيندفع إيراده على هذا الوجه، وعلى قول من يقول بالتعارض مع جهل التاريح يتعارضان. والله سبحانه أعلم.

(1) مسلم 1/ 124 ح 140.

(2)

الفتح 5/ 124.

ص: 193