الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: مقدمات عامّة
المقدمة الأولى:
الأصل في الكلام ذكر ما يدُلُّ على العنصر المراد بيانُه من عناصر الجملة، إلَاّ أنّ أهل اللّسان اعتادوا أن يحذفوا من الجملة عناصر يفهمون معانِيَها دون ذكر ألفاظها، لكثرة الاستعمال، أو لورود الجملة على طريقة الأمثال، أو لوجود قرينة تدُلُّ عليها من قرائن الحال أو قرائن المقال.
فما اعتاد أهل اللّسان أو اعتاد البلغاء منهم على حذفه، أو هو ممّا يمكن إدراكُه بسهولة إذا حُذِف، فإنّ ذكره يُعْتَبر إسرافاً في التعبير يتحاشاه البلغاء، وحين يَعْمَدُ البليغ الذوَّاق للأدب الرفيع إلى ذكره فإنَّما يَفْعَلُ ذلك لغرضٍ بلاغيٍّ يقْصِدُه.
***
المقدّمة الثانية:
ويتعرّض كلُّ عُنْصرٍ من العناصر الأساسيّةِ التي تُبْنَى منها الجملة المؤدّية لما يَقْصِد المتكلّم بيانَهُ، لاحتمال تقييده بالوصف أو غيره من القيود، كالحال، والبدل، وعطف البيان، والتأكيد، والظرف الزماني أو المكاني، والجارّ والمجرور به، وغير ذلك، ويتعرّض أيضاً لاحتمال إطلاقه وعدم تقييده.
والبليغ الذّوّاق للأدب الرفيع يختار من احتمالي التقييد وعدمه، ما يَراهُ مُحقّقاً لغرضٍ بلاغِيٍّ يقْصده، أو يَراهُ أَوْفَى بتحقيقه ممَّا يطابقُ به مقتضَى حال من يُوَجّه له بيانه، فرداً كان أو جماعة.
***
المقدمة الثالثة:
وكلُّ ما يُمْكن في الجملة الكلاميّة إيرادُه من الأسماء معرفةً أو نكرة، فإنّ على البليغ الذّوّاق للأدب الرفيع أن يختار من الاحتمالات الممكنة ما يُحَقِّق به غرضاً بلاغيّاً يقصِدُهُ، أو يراه أَوْفَى بتحقيقه، ممّا يطابق به مقتضى حال من يوجّه له بيانه، فرداً كان أو جماعةً.
ويَتحقِّقُ باختيار الاسم النكرة أغراضٌ بلاغيّة متعدّدة، تقتضيها أحوال المخاطبين، ويُسْتَدَلُّ على المراد من هذه الأغراض بقرائن الحال، أو قرائن المقال.
ويتحقَّقُ باختيار الاسم المعرفة أغراضٌ بلاغيّةٌ مُتَعَدِّدةٌ أيضاً تقتضيها أحوال المخاطبين، ويُسْتَدَلُّ على المراد من هذه الأغراض بقرائن الحال، أو قرائن المقال، وذلك بحسب نوع المعرفة، إذ الاسم المعرفة ينقسم إلى ستة أنواع، وهي الأنواع التالية:
النوع الأول: ما يكون تعريفه بسبب كونه ضميراً.
النوع الثاني: ما يكون تعريفه بسبب كونه عَلَماً.
النوع الثالث: ما يكون تعريفه بسبب كونه اسم إشارة.
النوع الرابع: ما يكون تعريفه بسبب كونه اسم موصول.
النوع الخامس: ما يكون تعريفه بسبب كونه محلَّى بالأَلف واللاّم.
النوع السادس: ما يكون تعريفه بسبب كونه مضافاً إلى واحدٍ ممّا سبق.
قالوا: وأعْرَفُ هذه الأنواع الضمير، ويليه في الرُّتْبَة الْعَلَم والمضاف إلى الضمير، فرتبةُ اسم الإِشارة، فرتبة اسم الموصول، فرتبة المحلَّى بالأَلف واللاّم، فرتبة المضاف إلى أحد المعارف غير الضمير.
ولمّا كان مُنْشِىء البيان الكلاميّ أمام احتمالاتٍ وصُورٍ متعدّدة من كلّ ما سبق، وكان عليه أن يختار لبيانه واحداً منها.
ولمّا كان كلُّ احتمال يُمكن أن يَقْصِدَ بِه البليغ معنىً بلاغيّاً يطابق مقتضى الحال، وهذا المعنى لا يتحقّق بغيره من الاحتمالات.
ولمّا كانت مقتضيات أحوال المخاطبين مختلفات، فما يطابق مقتضى حال بعضهم قد لا يطابق مقتضى حال غيره.
لمّا كانت كلُّ هذه الأمور مُجْتَمِعةً في وقت واحد، كان على البليغ أن يختار بلاغيّاً لبيانه ما هو الأبلغ والأَجمل المطابق لمقتضى الحال، وكان مسؤولاً عن هذا الاختيار.
لكنَّ مراتبَ أذواقِ الْبُلَغاء متفاوتة متفاضلة، ومراتب الاختيارات الجماليّة متفاوتة متفاضلة أيضاً، لذلك كان لا بُدَّ أَنْ تتفاوت بلاغة الكلام، وتتفاضَل نِسَبُ الجمال فيه، بحسب تَفَاوُتِ الاختيارات، وتفاضل مستوياتها.
***
المقدمة الرابعة:
وللجملة في اللّسان العربيّ نظامٌ أصليٌّ ينبغي ملاحظته لدى ترتيب عناصرها، واحتمالاتٌ فرعيّة جائزة يتمُّ بها تقديم ما حقُّه الأصليُّ التأخير، لأغراضٍ بلاغيّةٍ أو جماليّة.
لذلك كان على البليغ الذّوّاق للأدب الرفيع أن يتقيّد بنظام ترتيب عناصر الجملة، ولا يلجأ إلى الاحتمالات الفرعيّة الجائزة إلَاّ لأسباب بلاغيّةٍ أو جمالية دَعَتْهُ إلى ذلك.
والباحثُ البلاغيُّ يُنَبِّهُ على طائفةٍ من الأغراض البلاغيّة أو الجمالية الداعية إلى مخالفة النظام الأصلي في ترتيب عناصر الجملة الكلاميّة، حتَّى يهتدي بها
منشىء البيان الكلامي، ويَتَحرَّى فيما ينشىء من قول ما هو الأبلغ والأجمل دواماً، قدر استطاعته وتذوُّقِه لدقائق المعاني ومستويات الجمال.
***
المقدمة الخامسة:
ولدى إنشاء الكلام ومتابعة بناء بعضه على بعض، ورصْفِ بعضه إلى جانب بعض، يلاحظ كلُّ ذي فكرٍ متذوّقٍ لأساليب الكلام، أنّه تُوجَدُ طرائق وأساليب يقتضيها ظاهر النَّسّق، فالمتكلّم يتابعها بتلقائيّة، كتتابع الماء في مَجرىّ متماثل الأجزاء، ليس فها انحرافٌ ولا دورانٌ ولا الّتِوَاء، وليس فيها صَواعِد ولا نوازل.
ولكِنْ قد تدْعو دواعي بلاغيّة أو جمالية إلى مخالفة مقتضى الظاهر في الكلام، كما تدعو دواعي نفعيّة لعطف مجرى الماء عن نَسَقه المتماثل، أو تدعو دواعي جماليّة لإِيجاد دوائر ومنعطفات، وصواعد ونوازل في مجرى الماء، لإِحْدَاث مشاهد جماليّة بديعة لا تتحقّق بمتابعة النَّسَق المتماثل.
والباحثُ البلاغيُّ يُنَبِّهُ على طائفة من الأغراض البلاغيَّةِ أو الجماليّة الداعية إلى مخالفة مقتضى ظاهر النسق الكلامي، ليهتَديَ بهَدْيِها مُنْشِىءُ البيان، ويتحرَّى فيما ينشىء من قولٍ ما هو الأبلغ والأجمل دواماً قدر استطاعته، وتذوُّقِه لدقائق المعاني، ومستويات الجمال.
***
خاتمة:
هذه الأحوال التي تَقَدَّم الحديث عنها مجملاً في المقولات الخمس السابقات، تتطلّبُ دراسة تفصيليّة مُدَعَّمَةً بالأَمثلة والشواهد المقرونة بالتحليل، ليستفيد منها دارس علوم البلاغة وفنونِها في تحقيق أربع غايات، وهي ما يلي:
الغاية الأولى: حُسْنُ تَفَهُّم وتَدَبُّر النَّصوص البليغة الرفيعة من القرآن المجيد، وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام أساطين البلغاء والشعراء.
الغاية الثانية: اكتساب القدرة على نقد النصوص المشتملة على ما هو سمين وغثٌ من الكلام، وبيان ما في النصوص التي يَنْقُدُها من محاسن وعيوب بلاغيّة وأدبيّة.
الغاية الثالثة: اكتسابُ الذوق الرفيع الذي يُحِسُّ بمواطن البلاغة والجمال الأدبيّ.
الغاية الرابعة: الاهتداءُ بهَدْي ما أعطَتْهُ الدراسة، لدى إنشاء الكلام، وكتابةِ المقالات والخطب والرسائل والمؤلفات، واكتسابُ الدافع الذّاتي لِتَحَرِّي ما يَرَاه الأَبْلَغَ والأجْمَل فيما يُنْشِىءُ من بيان، ولا سيما حينما يقول بوظيفة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والأَمْرِ بالمعروف والنّهي عن المنكر.
ولا يَفُوتُنا أخيراً ملاحظةُ أَنَّ حظوظ الناس فيما يستفيدونه من دراستهم متفاوتة متفاضلة، وهي تكون بحسب هِبَاتِهم الفطريّة، من الاستعداد لتَذَوُّق البيان الرفيع، وصناعَةِ الكلام البليغ وصياغته.
***