الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل: نظام التلاؤم في الكلام
(1)
بيان التلاؤم
نَظْمُ الكلام عَمَلٌ فكريّ يُشْبه في الحسيَّات نَظْمَ العقود من اللآلىء أو غيْرِها من الجواهر، ويُشْبه وصفَ حجارةِ الألماس والياقوت والمرجان والزّمُرّد وغيرها من الحجارة الكريمة على مَا يُصاغ مِنْ حِلْيَاتٍ للرُّؤوسِ والصُّدُورِ والأيدي وغيرِها.
إنّ دخيلاً نابياً أو نظماً غير متلائم الألوان والطيوف والحجوم في عقود اللآلِىء، أو رَصْفاً محروماً من التناسق الجماليّ في الْحِلْيَات يُفْسِدها، ويُقَلِّل من قيمتها.
ورُبَّ عِقْدَيْن أو حِلْيَتَيْنِ جواهرُ كُلِّ منهما متساويتان في القيمة وَهُمَا غَيْرَ مَنْظُومَتَيْن أو غَير مَصُوغتين.
فيَنْظم الْعِقدَ أو يَصُوغُ الحِلْيَةَ ماهر خبير مُتْقِنٌ بتلاؤمِ جميلٍ بديع، يُرَاعي فيها حُسْنَ التجاور، وخُطُوط التلاؤم وطُيُوفَهُ وظِلَالَهُ، ويُراعي فيه تناسُبَ الألْوانِ، وجَمالَ تلاقيها وتدرُّجها وتكاملها، فإذا هون يُعَادِلُ أضعافَ قِيمة جواهره وهي غير منظومه أو غير مصوغة.
ويعمل نظير ذلك من لا خبرة له، ولا مهارة عنده، فلا تزيد قيمةُ ما نظم
أو صاغَ على قية جواهره منثورة، وربّما تَنْقُصُ قيمَتُها في نظر ذوّاقي الجمال.
كُنْتُ أجلس أحياناً إلى من كان يُسَمَّى "مَلِكَ اللُّؤْلؤ" الشيخ "محمد علي زينل علي رضا" - تغمّده الله برحمته وضاعف حسناته - في دارة عمله التجاريّ في مدينة "بومبي" إحدى كُبْرى مُدُنِ الهند، إذْ أقمت عنده أربعة أشهر وعشراً سنة (1372 هجرية) فأشاهِدُهُ يجمع أكوام حبّاتِ اللُّؤْلُؤ، ويختار منها بإتقان وإحكامٍ وتلاؤم، وينظم نفيسات عقود اللُّؤلؤ.
وأخبرني يومئذٍ وأنا أتابع اختياراته ونَظْمَهُ لعقود: أنّ العقد الذي يَنْظِمُه هو يُبَاعُ بقيمةِ عِقْدَيْن أو ثلاثةِ عُقُود، من العقود التي ينظمها من لا خبرة له، وليس لديه حِسٌّ مرهف يُدْرِكُ به التلاؤم بين الحبات التي ينظمها، سواء تجاورت أو تباعدت، مع أنّ وزن حبات عِقْدِه يساوي وزن حبات العقد الآخر، وقيمتها منثورةً تساوي قيمة الأخرى منثورة، والفرقُ بيْنَهما إتقانُ الانتقاء، ودقّة التلاؤم والتناسُقِ الجمالي فيما أنْظم، وانْعِدام ذلك فيما ينظم الآخرون.
أقول: ولدَى التحليل نلاحظ أنّ التلاؤم في حَبَّاتِ العقود، وجواهر الْحِلْيَاتِ يكون في الأَلوانِ، والطُّيوف، وبَريقِ الأشعة، والحجوم، والتدرّج، وحُسْنِ التآخي والمزاوجة، ونِسَبِ الأبعاد، وبدائِع التشكيلات ضمن أشكالٍ هندسيّة، أو أشكال مُتَناثِرَة العناصر ذاتِ جمالٍ يأسِرُ المشاعر، ونحو ذلك.
وأقول أيضاً: كذلك الكلمات والجمل حين تُجْمَعُ في نظام كلاميٍّ من النثر، أو من الشعر.
والتلاؤم الجماليُّ في الكلام تتدخّل فيه عوامل مختلفة فكريّةٌ ولفظية.
* أمّا العوامل اللفظيّة فقد سبق بيانُها في بحث الفصاحة، وأنّ شروط الكلمة
الفصيحة أن تكون خالية من أربعة عيوب، وهي:"التنافر - الغرابة - مخالفة القياس - كراهة السّمع لها".
وأن شروط الكلام الفصيح أن يكون خالياً من أربعة عيوب أيضاً، وهي:"تنافر الكلمات عند اجتماعها - ضعف التأليف - التعقيد اللّفظي - التعقيد المعنوي".
* وأمّا العوامل الفكرية فمن المتعذّر إحصاؤها، إذِ الأفكار ومعاني الألفاظ لا حصر لها، وضَمُّ فكرةٍ إلى فِكرةٍ أخرى، وَلفظ ذي معنى إلى لفظ آخر ذي معنى موافق أو مخالف، يتطلّب إدْراكاً عالياً جدّاً، قادراً على تمييز درجات حُسْن التلاؤم، ودركات قبح عدم التلاؤم الذي يُوَلِّد في النفوس الصَّدَّ أو النفرةَ أو الاستقباحَ، أو الحكم على الكلام بالركاكة، وسوء التركيب، وخروجِهِ عنْ أُطُرِ الجمال الفنّي.
وقد تعرّض أئمة علوم البلاغة وشيوخ الأدب للإِشارة إلى هذا الموضوع ضمن بحوث الفصل والوصل، أو ضمن بحوثٍ أخرى، دون أن يُفْرِزوه بعنوان خاص، مع كونه جديراً بأن يُفْرز ببحثٍ مستقلٍّ، كانت لهم حوله عبارات، ونظرات عامّات لم تُحَدَّدْ فيها أقسامٌ ولا عناصر متفاصلة، بسبب أنّ التلاؤمَ وعدَمَ التلاؤم بين المعاني قضيَّةٌ جمالية فكريّة، والبحث فيها مائجٌ رَجْراجٌ لا حصر لصوره، والبحث فيه كالبحث في صُوَرِ أمواج البحر، وكالبحث في صُورِ حركات السُّحُب وتشكيلاتها المتنوعات الناتجات عن تقاربها وتباعدها، واجتماعها وافتراقها، مع اختلاف ألوانها وكثافاتها في الأبعاد الثلاثة:"الطول والعرض والْعُمْق".
***
(2)
من أقوال شيوخ البلاغة والأدب
حول التلاؤم في الكلام
(1)
لقد وصف شيوخ البلاغة والأدب الكلمة الموضوعة في المكان الملائم لها من الجملة بأنها "مُتَمَكِّنة".
أي: هي ثابتة في المكان الذي وُضِعَتْ فيه، فهي ذات جذور وروابط فكرية تربطها بما جاورها من عناصر الجملة.
(2)
ووصفوا الكلمة الموضوعة في المكان غير الملائم لها من الجملة بأنّها "قَلِقَة" و"نَابِيَة" و"غَيْرُ مُتَمَكِّنَة".
(3)
وقالوا عن الشعر الذي لا تآخي بين كلماته، ولا تواصُلَ بين مُفْرَداته:"لَا قِرَانَ له".
أي: ليس له جامع فَنِّيٌ راقٍ يجمع بين كلماته ويَشُّدُّ بعضها إلى بعض، كما يَجْمَعُ أسْرُ الكائن الحيّ بين أعضاء جسده ومختلف أجزائه، وهو جملته العصبيّة.
القِران: هو الجمع بين شيئين وشدّ كلٍّ منهما إلى الآخر بِحَبْلٍ رابط، كأسيرين يُقْرَنانِ بحبل مَشْدُودٍ عليهما.
ويطلق القِرانُ أيضاً على الحبل الجامع بينهما.
فهو مصدر للشدّ بالحبل، واسم للحبْلِ الذي يُشَدُّ به.
ومن أقوالهم في ذمّ الشعر الذي لا قِرَان له، ما أنشده ابن الأعرابي.
وبَاتَ يُنْشِدُ شِعْراً لَا قِرَانَ لَهُ
…
قَدْ كَانَ ثقَّفَهُ حَوْلاً فَمَاذَادَا
لا قِرَانَ له: أي: لا روابط بين مفرداته وجُمَله.
قد كان ثَقَّفَهُ: أي: قد كان قوّمه وعدّله، وعمل على إزالة الزوائد النابية منه.
فَمَاذَادَ: أي: فما استطاع أن يذود عنه ويُبْعِد الْعوج، ويُخَلّصَهُ من الزوائد النابية، لضعف ملكته الشعريّة.
(4)
ووصفوا الشعر الرّاقي بالتماسُكِ والإِحكام، والتَّلاؤُم، والسَّلاسَةِ والتَّحَدُّر، نظراً إلى ما يشتمل عليه من حُسْنِ بناءٍ، وسَبْكٍ، وصِيَاغةٍ، ولِينٍ وسُهُولةٍ في النُّطْقِ، وعُذُوبةٍ في مجاري السَّمْع، وذلك بسبب ما في معاني كلماتَه وجمله من ترابط وتعانُقٍ وتلاحُمٍ موافق لما في فِطَرِ أنظمة الفكر وحركات مشاعر النفوس من تشعُّبَاتٍ شَجَرِيَّةٍ بديعةِ التواصل والتلاقي، من بزورها وجذورها حتى أقاصي فروعها، ما يتلاقى منها وما يَتَبَاعَدُ. وبسبب ما في الألفاظ من سهولة وتلاؤمٍ في النُّطْقِ وعُذُوبةِ طَرَقَاتِ موسيقاها على السَّمْع، مَعَ التلاؤم بين مخارج حروف الكلمات الْمُنْتَقَيات، والمعاني الّتِي يُراد أداؤها بها.
(5)
وذكر الجاحظ قول "خلف الأحمر":
وَبَعْضُ قَرِيضِ الْقَومِ أبْنَاءُ عَلَّةٍ
…
يَكِدُّ لِسَانَ النَّاطِقِ الْمُتَحَفِّظِ
أبناءُ عَلَّة: أي: أبناء ضَرَّة، الْعَلَّة الضَّرَّة، يقال: هم أبناءُ عَلَاّت أي: أبناء ضرائر، أبوهم واحد وأمَّهاتُهُمْ شتَّى. ومعلوم أنّ البناء العلاّت يحدُث بينهم جفوات وتنافر في أكثر الأحيان.
يَكِدُّ لِسَانَ النَّاطِقِ: أي: يُجْهِدُ لِسَانَ الرجُلِ النّاطِقِ الذي يُطاوعه لسانُه في النُّطق.
المتحفِّظ: هو المحترز الذي يحاول الضبط وعدم الانزلاق إلى ما لا يُحْسِن، أو الذي بَذَلَ جَهْداً حتَّى حفظ النصّ وأتقنه أجزاءً، ومع ذلك فهو يكِدُّ لِسَانَه: أي يُتْعِبُه ويُجْهِدُه.
قال الجاحظ في كتابه: "البيان والتبيين":
(أمّا قول خَلَفٍ: "وبَعْضُ قريضِ القوم أَبْنَاءُ عَلَّة" فإنّه يقول: إذا كان الشّعرُ مستكْرَهاً، وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقَعُ بعضُهَا مُمَاثلاً لبعضٍ كان بينهما من التنافر ما بين أبناء الْعَلَاّت، وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مُرْضياً موافقاً، كان على اللّسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة) .
وقال أيضاً: وأنشدني أبو البيداء الرِّياحي:
وشِعْرٌ كَبَعْرِ الكَبْشِ فَرَّقَ بَيْنَهُ
…
لِسَانٌ دَعِيٌّ في الْقَرِيضِ دَخِيلُ
وعلّق الجاحظ بقوله:
"وأمّا قوله: "كَبَعْرِ الكَبْش" فإنَّما ذهب إلى أنَّ بَعَرَ الكَبْشِ يقع متفرّقاً، غَيْرَ مؤتلف، ولا متجاور، وكذلك حروف الكلام، وأجزاء البيت من الشعر، تراها متفقة ملساء، وليّنة المعاطف سهلة، وتراها مختلفة متباينة، ومتنافرة مستكْرَهة، تَشُقُّ على اللِّسَانِ وَتَكِدُّهُ، والأخرى تراها سهلةً ليّنةً، ورطبَةً مواتية، سلسلة النظام، خفيفةً على اللّسان، حتَّى كأنّ البيت بأسْرِه كلمةٌ واحدة، وحتَّى كأنّ الكلمة بأسرها حرفٌ واحد".
(6)
وقال عبد القاهر الجرجاني في كتابه: "دلائل الإِعجاز":
"وهل نَجِد أحداً يقول: هذه اللَّفظة فصيحة إلَاّ وهو يعتبر مكانَها من النظم، ومن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفَضْلَ مؤانَسَتِها لأخواتها؟!
وهل قالوا: لفظةٌ متمكّنةٌ ومقبولة، وفي خلافه: قَلِقةٌ ونابيةٌ مستكرهة، إلَاّ وغرضُهم أن يُعَبِّروا بالتمكّن عنْ حُسْنِ الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها. وبالْقَلَق والنُّبُوّ عن سوء التلاؤم، وأنَّ الأولى لم تَلْتَقِ بالثّانية في معناها، وأنّ السَّابقةَ لم تَصْلُحْ أنْ تكون لِفْقاً للتالية في مؤدّاها؟! ".
لِفْقاً: يَقْصِد أنْ تكون الكلمة ملائمةً ومُلْتَحمةً مع جارتها كَتَلاؤُمِ الشِّقِ المخيط بالشِّقِّ الآخر من الْحُلَّة.
يقالُ لغة: حُلُّةٌ ذاتُ لِفْقَيْن، أي: ذاتُ شِقّينِ مُنْضَمَّيْنِ معاً بالخياطة، ولا يُقال للشِّقّ "لِفْقٌ" إذا فُتِقَتِ الخياطَة الضّامَّةُ لهما.
(7)
وذكر السَّكَّاكِيُّ مثالاً للكلام الذي ليس بين مفرداته ترابط فكري، فالجمع بينها في حكم واحدٍ غير مقبول في الذوق الأدبيّ، وإن كان مطابقاً للواقع، أن يقول القائل:"الشمس، ومرارة الأرنب، وألف باذنجانة، مُحْدَثَة".
أقول: والسبب في عدم قبول مثل هذا الجمع أنّ الذّهن إمَّا أنْ يَقْرن بين الأشباه والنظائر، أو بَيْنَ المتجاورات في الواقع، أو بين الأضدّاد، لأنَّ استدعاء الذهن للأضدّاد، أسرع من استدعائه للنظائر، وينفر من جمع مفردات متباعدات لا يجمعها تشابه أو تجاوز، أو تضادّ، لأنّ شريط السلاسل الفكريّة ذو نظامٍ فطريّ مُحْكَمِ الترابط، أمّا الالتقاط العشوائي دون ملاحظة أنظمة الترابط الفكريّة الفطريّة فهو لا ينسجم معها، والنفس الإِنسانية تنفر منه بسبب ذلك.
(8)
وجاء في مُدوَّناتِ الأدب أنّه: اجتمع "نَصِيبُ بن رَباح" وهو من فحول شعراء القرن الأول الهجري، و"الكُمَيْت" وهو أيضاً من فحول الشعراء في عصره، و"ذو الرّمّة" وهو من فحول شُعراء الطبقة الثانية في عصره، فأنْشَدَ الكميتُ صاحبيْهِ قصيدتَهُ التي في مَطْلعِها:"هَل أَنْتَ عَنْ طَلَبِ الأيفاعِ مُنْقَلِبُ" حتَّى إذا بلغ إلى قوله:
أَمْ هَلْ ظَعَائِنُ بالْعَلْيَاءِ نَافِعَةٌ
…
وَإِنْ تَكَامَلَ فِيها الأُنْسُ والشَّنَبُ
عقَدَ "نَصِيبٌ" واحدة.
فقال الكُمَيْتُ: ماذا تُحْصي؟
قال نَصِيبٌ: خطأَكَ، بَاعَدْتَ في القول، مَا الأُنْسُ من الشنب (أي: ما الرابط الفكري بين الأنس والشَّنَب) ألَاّ قُلْتَ كما قال ذو الرّمّة:
لَمْيَاءُ في شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَس
…
وَفِي اللّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ
فانْكسَرَ الكُمَيْت، (أي: طأطأ رأسَهُ معترفاً بأنَّه لم يُحْسِنِ الجمع بين الأُنْسِ والشَّنَب) .
الشَّنَبُ: جمال الثَّغْر، وصفاءُ الأسنان ورقّتها.
لَمْيَاءُ: أي: ذاتُ شفاه حُمْرتُها ضاربة إلى سواد، وهذا نوع من الجمال يستحسنه العرب.
حُوَّة: الحوّةُ لونٌ مُسْتَحْسنٌ في الشفاه، وهو حمرةٌ إلى سواد.
لَعَس: اللَّعَسُ سواد في باطن الشفة.
أقول لقد كان يكفي ذا الرّمّة أن يقول: "لمياء" دون أن يؤكّد ذلك بقوله: "في شفتيها حُوَّةٌ لَعَسُ" إلَاّ أنّه فيما يبدو قد حَلَا لَهُ أن يتلذّذَ بتَنْويع العبارة حول هذا الجمال، الذي هو شَغُوفٌ به في شِفاهِ لَمْيَائِه.
***