الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: الخروج عن مقتضى الظاهر
مقدمة
درس علماء البلاغة ضمن تتبُّعِهم لموضوعات علم المعاني ظاهرةَ الخروج عن مقتضى الظاهر في الكلام البليغ، لداعٍ من الدواعي البلاغيّة ذات التأثير في النفوس والأفكار، لما فيها من عناصر فَنّيَّةٍ إبداعيّة تتضمَّن دلالاتٍ فكرية، أو تعبيراتٍ جماليّة، أو إلماحات ذكيّة.
وظهر لهم من التتبُّع الأنواع التسعة التالية:
النوع الأوَّل: الالتفات.
النوع الثاني: أسلوبُ الحكيم.
النوع الثالث: الإِضمار في مقام الإِظهار، والإِظهار في مقام الإِضمار.
النوع الرابع: التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي.
النوع الخامس: التغليب.
النوع السادس: وضع الخبر موضع الإِنشاء ووضع الإِنشاء موضع الخبر.
النوع السابع: الانتقال من الماضي إلى المضارع وبالعكس.
النوع الثامن: تجاهُل العارف.
النوع التاسع: القلبُ بإجراء التبادل بين جزئَيْنِ يُمْكن إجراء التبادل بينهما من أجزاء الجملة.
وفيما يلي شرح لهذه الأنواع الّتي يلاحظ فيها خروجٌ في الكلام البليغ عن مقتضى الظاهر لداعٍ بلاغيّ حسُنَ بسببه هذا الخروج بلاغياً وأدبيّاً.
***
(1)
النوع الأول الالتفات
تعريف الالتفات:
الالتفات: هو في اللّغة تحويل الوجه عن أصل وضعه الطبيعيّ إلى وضْعٍ آخر.
وفي اصطلاح البلاغيين هو التحويل في التعبير الكلاميّ من اتجاه إلى آخر من جهات أو طرق الكلام الثلاث: "التكلّم - والخطاب - والغيبة" مع أنّ الظاهر في متابعة الكلام يقتضي الاستمرار على ملازمة التعبير وفق الطريقة المختارة أوّلاً دون التحوّل عنها.
وأضاف السَّكّاكيّ إلى ما اشتمل عليه هذا التعريف التعبيرَ ابتداءً بواحدة من هذه الطُّرُقِ إذا كان على خلاف مقتضى الظاهر، كأنْ يتحدّث المتكلِّم عن نفسه بأسلوب الخطاب الذي يخاطب به غيره، أو يتحدَّث مع من يخاطبه بأسلوب التكلّم عن الغائب، أو يتحدّث عن نفسه بأسلوب الحديث عن الغائب، أو يتحدّث عن الغائب بأسلوب الخطاب، وهكذا.
ومنه وفق رأي السّكّاكي قول البوصيري في بردته يخاطبُ نفسه:
أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ
…
مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
ومنه حديث الله عز وجل عن نفسه بأسلوب الحديث عن الغائب في القرآن المجيد: مثل قول الله عز وجل في سورة (البقرة/2) :
ومنه خطاب الله رسوله بقوله: {عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى} [عبس: 1-2] .
وكان مقتضى الظاهر أن يقول: "وإذْ قُلتُ لِلْمِلَائِكَة
…
" وأن يقول لرسولِهِ: "عَبَسْتَ وتولَّيْتَ أن جَاءَكَ الأعمى".
ويُلَقّبُ الالتِفاتُ بشجاعة العربيّة، على معنى أنَّ الْبُلَغَاء مِنْ ناطقي العربية كانت لديهم شجاعةٌ أدبيَّةٌ بيانيّة استطاعوا بها أن يفاجئوا المتلقّي بالتَّنقُّل بَيْن طُرُقِ الكلام الثلاثة "التكلُّم - والخطاب - والْغَيْبة" مشيرين بذلك إلى أغراضٍ بلاغيَّة يريدون التنبيه عليها بذلك.
والالتفات من الأساليب البلاغيَّةِ ذَاتِ اللَّطَائف النفيسة، وقد تكرّر في القرآن المجيد استخدامه جداً، وله فيه أمثلة كثيرة.
وهو فنٌّ بديعٌّ من فنون القول يُشْبِهُهُ تحريكٌ آلات التصوير السينمائي بنقلها من مشهد إلى مشهد آخر في المختلفات والمتباعدات الّتي يُرادُ عَرْضُ صُوَرٍ مِنْها، ومفاجأة الْمُشَاهِدِ بلَقَطاتٍ مِنْها متباعدات، ولكنَّها تدخُلُ في الإِطار الْكُلّي الذي يُراد عرض طائفةٍ من مشاهده تدلُّ على ما يُقْصد الإِعلام به.
ويَهْدِي الذوقُ الأدبيُّ السليم إلى استخدام الالتفات استخداماً بارعاً يُحَقِّق به البليغ فوائد في نفس المتَلَقِّي أو فكره، مع ما يُحِقِّق به من الاقتصاد والإِيجاز في العبارة.
فلننظر إلى الالتفات البديع الموجود في النصّ القرآنيّ التالي:
بينما يتحدّث النّصّ عن بني إسرائيل الأوّلين ما فعلُو من كبائِرَ بأسلوب الحديث عن الغائب، يلتفت النّصّ فيخاطب بني إسرائيل المعاصرين لنزول القرآن فمن يأتي بعدهم كأنَّهم الأوّلون أنفسُهم، للإِشعار بأنّ هؤلاء الْخُلُوف ما زالوا يتّصفون بأوصاف الأوّلين، لم يغيّروا منها شيئاً، فهم مَعْنِيُّون بعموم الخطاب، فقال الله عز وجل في سورة (الأعراف/7 مصحف/ 39 نزول) :
فالالتفاتُ في: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} خطاباً لبني إسرائيل المعاصرين لنزول النصّ فمن بعدهم فيه فائدتان:
الأولى: فنيّيّةُ التنويع في العبارة المثيرة لانْتِباه المتلَقِّي، والباعثة لنشاطه في استقبال ما يُوَجَّه له، والإِصْغَاءِ إلَيْه.
الثانية: الاقتصاد والإِيجاز في التعبير، فبدل أن يقول النصُّ لمعاصري التنزيل الكافرين من بني إسرائيل فمن بَعْدَهم: وأنتم يا بني إسرائيل ما زِلْتُم على طريقة أسْلَافِكُمْ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟. اقْتَصَرَ النّصُّ على:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} مُسْتَغْنِياً بأُسْلُوبِ الالْتفاتِ، للدلالة على ما يُمْكِن فَهْمُه ذِهْناً، إذْ اعتَبَرَهُمُ النَّصُّ داخِلِين في عُمُوم خطاب الغائبين السّالِفين، إذْ هم موافقون على ما كانوا يفعلون، أو يفعلون مثلهم.
ونظيره الالتفات البديع في قوله الله عز وجل في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) :
{مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب
…
} [الآية: 179] .
ففي هذه الآية تحقَّقَتِ الفائدتانِ أيضاً:
الأولى: فَنّيَّةُ التَّنْوِيع في أسلوب الكلام.
الثانية: الإِيجاز في العبارة.
وبسط الكلام يكونُ كما يلي: مَا كان الله ليذر المؤمنين على ما هم عليه من الدَّعَة والأمن والرَّخاء، وأنتم من المؤمنين، فما كان الله ليَذَرِكُمْ على ما أنْتُم عليه، حتَّى يميز بالامتحان الشديد على النفوس الخبيثَ من الطَّيب في الأعمال والأقوال والنيّات وحركات النفوس الإِرادِية.
ومن فوائد الالتفات من الخطاب إلى الغيبة الإِشعارُ بالعتاب أو الإِعراض عمَّنْ يليقُ به أن يُكرَّمَ بالخطاب بحسب مقتضى الظاهر، ولكن جاء الكلام على خلاف ذلك لأنّه أعرض أو تولَّى في مقامٍ كان ينبغي له في أَنْ لا يُعْرِض ِأو أن لا يتولّى، ومن أمثلته على رأي السّكّاكيّ - وهو رأيٌ حَسَنٌ - المثالُ الذي سبق الاستشهاد به لما ذهب إليه، وهو قول الله عز وجل في سورة (عبس/ 80 مصحف/ 24 نزول) :
{عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى} [الآيات: 1 - 2] .
إذِ الْتَفَتَ عنه ابتداءً، فتحدَّثَ عنْهُ بأسْلُوبِ الحديثِ عن الغائب، مع أنّ مُقْتَضَى الظاهر بحسب منزلته أنْ يُكلِّمَهُ بأسلوب الخطاب، لكِنْ لم يُطِلِ الالتفاتَ عنه بل أسْرَعَ إلى الالتفات إليه، فخاطبه بقوله معاتباً:
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 3] .
***
فوئد الالتفات:
ممّا سبق استطعنا أن تكتشف مِنْ فوائد الالتفات ما يلي:
الفائدة الأولى: فنيِّيّةُ التَّنْوِيعِ في العبارة، المثيرِ لانتباه المتلَقِّي، والباعثِ لنشاطه في استقبالِ ما يوجَّه له من كلام، والإِصغاءِ إليه، والتفكير فيه.
الفائدة الثانية: الاقتصادُ والإِيجازُ في التعبير.
الفائدة الثالثة: الإِعراض عن المخاطبين، لأنهم عن البيانات معرضون أو مُدْبرون وغير مكترثين.
الفائدة الرابعة: إفادة معنىً تتضمَّنُه العبارة الّتي حصل الالتفات إليها، وهذا المعنى لا يستفادُ إذا جرَى القول وفق مقتضى الظاهر.
الفائدة الخامسة: ما يُسْتفاد من معنىً بالالتفات إنّما يستفاد إلماحاً بطريقٍ غير مباشر، ومعلُومٌ أنّ الطُّرُقَ غير المباشرة تكون أكثر تأثيراً من الطرق المباشرة حينما تقتضي أحوال المتلقّين ذلك.
الفائدة السادسة: إشعارُ مختلِف زُمر المقصودين بالكلام بأنّهم محلُّ اهتمام المتكلّم، ولو لم يكونوا من الزُّمْرَة المتحدّث عنها أوّلاً، ويظهر هذا في النصوص الدينيّة الموجَّهة لجميع الناس، وفي خُطَب الملوك والرؤساء والوّعاظ وأشباههم.
***
ملاحظات حول شروط الالتفات وما يقرُب منه:
الملاحظة الأولى: قالوا: يشترط في الالتفات أن يكون الضمير المتنقل إليه عائداً في نفس الأمر إلى المنتقل عنه.
ولكنّي لست أرى هذا شرطاً لازماً، لأنّ مطلق التنقّل بين التكلّم والخطاب والغيبة له التأثير نفسه، وله خصائصه الفنيّة البيانية البليغة، إذا استوفى عناصره الجماليّة المؤثرة، وأدى بعض فوائده وأغراضه البلاغية.
الملاحظة الثانية: وقالوا: يقربُ من الالتفات نقل الكلام من خطاب الواحد
أو الاثنين أو الجمع إلى الآخر. أقول: هذا صحيح، ولا مانع من إلحاقه به.
الملاحظة الثالثة: وقالوا: يقربُ من الالتفات التنقُّل بين الماضي والمضارع والأمر. أقول: وهذا صحيح أيضاً، وهو من الخروج عن مقتضى الظاهر، ويُلْحَقُ به التنقُّل بين الفعل واسم الفاعل واسم المفعول، مثل:{يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} [الأنعام: 95] .
ويُلْحق به أيضاً كُلُّ تنويع من هذا القبيل يُلَاحَظُ فيه خروج الكلام عن مقتضى الظاهر، مثل قول الله عز وجل في سورة (الفاتحة) .
{اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضآلين} [الآيات: 6 - 7] .
إذْ كان الظاهر أن يقال: "غير الذينَ غَضِبْتَ عليهم" فَخُولِفَ هذا الظاهر.
***
صُورُ اللالتفات:
يأتي الالتفات في ستِّ صُوَر:
الصورة الأولى: الانتقال من التكلّم إلى الخطاب، وكذا الابتداء بالخطاب، مع أنّ مقتضى الظاهر يستدعي التكلم أو الْغَيْبَة.
الصورة الثانية: الانتقال من التكلُّم إلى الغيبة، وكذا الابتداء بالْغَيْبة مع أنّ مقتضى الظاهر يستدعي التكلّم أو الخطاب.
الصورة الثالثة: الانتقال من الخطاب إلى التكلّم، وكذا الابتداءُ بالتكلّم مع أنّ مقتضى الظاهر يستدعي الخطاب أو الْغَيْبَة.
الصورة الرابعة: الانتقال من الخطاب إلى الْغَيْبة.
الصورة الخامسة: الانتقال من الْغَيْبة إلى التكلّم.
الصورة السادسة: الانتقال من الْغَيْبة إلى الخطاب.
***
الأمثلة:
أولاً: فمن أمثلة الانتقال من التكلّم إلى الخطاب مايلي:
* ما جاء في قول الله عز وجل في سورة (يَس/ 36 مصحف/ 41 نزول) في حكاية ما كان من الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة (قيل: هي أنطاطية لنُصْرَة الرُّسل الثلاثة:
قوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} معطوفٌ على محذوفٍ دلَّ عليه حرف العطف "الواو" والمطويُّ المحذوف يُمْكِنُ تقديره بأن نقول.
قالوا له: أتُؤْمن بما جاء به هؤلاء المرسلون وتَعْبُدُ الرَّبَّ الَّذِي يدعُونَ لعبادته؟
قال نعم: أومنُ بما جاؤا به، وأَعْبُدُ رَبِّي، ومَالِيَ لَا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني؟!.
ثم انتقل من التكلّم إلى الخطاب فقال لهم: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فخاطَبَهُمْ مع أن مقتضى الظاهر أن يقول: وإليه أُرْجَعُ يوم الدين ليحاسبني ويجازيني، كما يُرْجَعُ إليه سائر الناس وأنتم منهم.
فأوجز في العبارة، وأشعرهم بأسلوب غير مباشر أنَّهم قد كان عليهم أن يؤمنوا كما آمَنَ هو، لأنّهم سَيُرْجَعُون إليه يوم الدين، وسَيُحَاسِبُهم ويجازيهم على أعمالهم.
***
ثانياً: ومن أمثلة الانتقال من التكلّم إلى الغيبة مايلي:
* قول الله عز وجل في سورة (الكوثر/ 108 مصحف/ 15 نزول) :
{إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر} [الآيات: 1 - 2] .
فقد جاء الكلام أوّلاً على طريقة التكلُّم: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ} ثُمَّ انْتَقَل إلى أسلوب الحديث عن الغائب: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} ولم يَقُلْ: فَصَلِّ لنا.
والحكمة من هذا الالتفات التذكير بحقِّ الرّبّ الْمُنْعِم بعطاءات الربوبيَّة في أن يَعْبُدَهُ عبادُهُ ويُصَلُّوا له، مع الاقتصاد في التعبير، والإِيْجاز في القول.
* وقول الله عز وجل في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول) :
كان مقتضى الظاهر أن يأتي التعبير: لا تقنطوا من رحمتي إنّي أغْفِرُ الذُّنوب جميعاً.
ولكن حصل العدول عنه إلى {مِن رَّحْمَةِ الله
…
} للإِشعار بأنّ من صفات الله الجليل العظيم أن يغفر ذنوب مَنْ يُنيبون إلى رَبِّهِمْ ويسلمون له، كما جاء في الآية التالية من السورة، مع الإِيجاز والاقتصاد في العبارة.
* وقول الله عز وجل في سورة (الدخان/ 44 مصحف/ 64 نزول) :
بدأ الأسلوب في هذا النّصّ عَلى طَرِيقة حديث المتكلّم عن نفسه: {إِنَّا أنْزَلْنَاهُ - إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ - أمراً من عِنْدِنا - إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} .
وبعد ذلك انتقل إلى أسلوب الحديث عن الغائب خلافاً لمقتضى الظّاهر {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} .
وفائدة هذا الالتفات التذكير بربوبيّة الله عز وجل والتوطئة لذكر بعض صفاته التي هي من متقضيات ولوازم كونه رَبّاً، مع الإِيجاز والاقتصاد في العبارة.
* وقول الْحُصَيْنِ بنِ الْحُمَام في مُفَضَّليته يتحدّث عن الخيل في موقعةِ يوم "دَارةِ موضوع" بين بني سعد بن ذبيان، وبين بني سهم بن مُرَّة، وكان الْحُصَيْن قائد بني سهم، وكتب الله له فيها النصر، فجاء في قصيدته:
وَأَنْجَيْنَ مَنْ أَبْقَيْنَ مِنَّا بخُطَّةٍ
…
مِنَ الْعُذْرِ لَمْ يَدْنَسْ وإِنْ كَانَ مُؤْلِماً
أَبَى لاِبْنِ سَلْمَى أَنَّهُ غَيْرُ خَالِدٍ
…
مُلَاقِي المَنَايَا أَيَّ صَرْفٍ تَيَمَّمَا
فَلَسْتُ بمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ بِسُبَّةٍ
…
وَلَا مُبْتَغٍ مِنْ رَهْبَةِ الْمَوْتِ سُلَّمَا
يَصِفُ الْحُصَيْنُ بن الْحُمَامُ خَيْلَ قَوْمه وقد نجّتْ من بقي منهم في معركتهم الظافرة، وأبان أنّ مَنْ بقي حيّاً فقد بقي بخُطَّةٍ يُعْذَر بها، إذْ لم يجبُنْ، بل أبلى بلاءً حسناً، فلَمْ يَدْنَسْ بفرار من المعركة.
وتحدَّث عن نفسه بأسلوب الحديث عن الغائب فقال: "أبى لابن سلمى" بعد أن تحدّث عن نفسه بأسلوب التكلم مع قومه في قوله: "مَنْ أبْقَيْنَ مِنّا" وكان هو ممّن بقي.
ونقل الحديث إلى الحديث عن الغائب ليوطىء للحديث عن نفسه، كأنَّه يُحَدِّث عن فارسٍ شجاعٍ لا يخشى المنايا، لأنّه يعلم أنه غير خالد لوفرّ من مواقعها، وقَصَدَ أيّ صَرْفٍ من صُروفِ المَهَارِب.
وبعد ذلك التفت أَيضاً إلى التكلّم، فَتَحَدَّث عن نفسه فقال:
فَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَياةِ بِسُبَّةٍ
…
وَلَا مُبْتَغٍ مِنْ رَهْبَةِ الْمَوْتِ سُلماً
بمتاعٍ الحياة: أي بِشارٍ لها.
***
ثالثاً: ومن أمثلة الانتقال من الخطاب إلى التكلّم مايلي:
* قول "عَلْقَمة بْنِ عَبْدَة":
طَحَابِكَ قَلْبٌ في الْحِسَانِ طَرُوبُ
…
بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ
يُكَلّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ وَلْيُهَا
…
وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنَا وَخُطُوبُ
بدأ يتحدث عن نفسه بأسلوب الخطاب في البيت الأوّل مُجَرِّداً من نَفْسِه مُخاطَباً قائلاً: "طَحَا بِكَ قَلْبٌ" أي: ذهبَ بِكَ وأتْلَفَك.
وانتقل إلى أسلوب التكلُّم في الحديث عن نفسه فقال في البيت الثاني "يُكَلِّفني ليلى وَقَدْ شَطّ وَلْيُهَا" أيْ: يُكَلِّفُنِي حُبَّ ليلى وقد بَعُدَ قُرْبَها.
قال المرصفي: مدَحَ "أي: علقمة بهذا القصيدة" ملِكَ غَسَّانَ واستعطاه، وسأله مع طلب الجائزَة أن يَمُنَّ على أخيه شاس بن عبْدَة، وكان أسيراً عند الملك، ولم يكتف بهذا بل طلب الجائزة لأخيه.
***
رابعاً: ومن أمثلة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة مايلي:
* قول الله عز وجل في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) :
{هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هاذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين * فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق
…
} [الآيات: 22 - 23] .
كان الكلام في صدر الآية جارياً على أُسلوب الخطاب: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي
البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} ، وبَعْدَ ذَلِكَ انْتَقَلَ الْكَلامُ إلى أسْلُوب الحديث عن الغائب:{وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} .
وفائدة هذا الالتفات بيانُ أنّ الذين تكون منهم هذه الظاهرة التي تحدّث عنها النّصّ ليسوا جميع المخاطبين، بل هم فريق منهم، فمن الحكمة الحديث عنهم بأسلوب الحديث عن الغائب، مع ما في الحديث عن الغائب من الإِعراض المشعر بالتأنيب على ما يكون منهم، وقد جاء في النصّ بعد ذلك تأنيبُهُمْ صراحةً فقال تعالى:
{ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} ولَوْ تتابع الكلامُ وفْقَ أُسْلُوب الْخِطاب دون ما حصل في النصّ من الالتفات لكان التأنيب مُوَجّهاً لكلّ الناس، مع أنّ فيهم صالحين لا تظهر منهم هذه الظاهرة القبيحة من الظواهر المنافية للسلوك الدّيني المطلوب من العباد.
* وقول الله عز وجل في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) في معرض بيان خطابه لِجَمْعٍ كبيرٍ من الأنبياء المرسلين الذين جاء ذكرهم في السورة:
{إِنَّ هاذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون * وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الآيات: 92 - 93] .
يظهر لنا في هذا النصّ نَظِيرُ ما ظهر لنا في النَّصّ السّابق، فالذين تقطَّعُوا أَمْرَهم بَيْنَهُمْ لَيْسُوا كُلَّ أتباعِ الرُّسُل، إذْ فيهم من حافظوا على وحدة الأمّة الرَّبَّانيَّةِ، ولم يَتَنكَّبُوا صِراطَ الله، وحينما بعثَ الله الرَّسُولَ الخاتم اتَّبعوه مؤمنين بأنَّ أُمَّتَه هُمْ أُمَّةُ الرُّسُلِ الذين جاءوا قبله، تلاحقت مواكبهم، إذْ هُمْ رُسُلُ مُرْسلٍ واحدٍ، يَقُودون أمَّةً واحدةً على صراط الله المستقيم.
* وقول الشاعر:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي
…
حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ
كَرِيمٌ لَا يُغَيِّرُهُ صَبَاحٌ
…
عَنِ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ وَلَا مَسَاءُ
في البيت الأوّل واجه ممدوحه بالخطاب، وفي البيت الثاني انتقل من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات.
وموضع الحسن في هذا الالتفات أنّ الشاعر أراد أن يُواجه الناسَ بمدحه، ويُعْلِن على الملأ أنّه كريم ذو خُلُقٍ جميل، ولو تابع طريقة الخطاب لأوهم أنّه يتزلّف إليه بينه وبينه، وهو لا يريد إعلان مدحه بين الناس.
خامساً: ومِنْ أمثلة الانتقال من الغيبة إلى التكلّم ما يلي:
* قول الله عز وجل في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) :
الكلامُ في صَدْرِ الآيةِ جَارٍ وفْقَ أُسْلُوبِ الْحدِيثِ عن الْغَائب:
{والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} .
وبَعْدَ ذلِكَ انْتَقَل إلى أُسْلُوبِ التكَلُّمِ فقال تَعَالى:
{فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} .
وفائِدة هذا الالتفاتِ إيقاظُ الأذْهانِ للتفكُّر في مِنَّةِ اللهِ على عبادِه الذي يُقَدِّر أسْباب رِزْقِهِم ويَسُوقُها لهم، وللتفكُّرِ في مظهر من مظاهر قدرته الَّتِي يُحْيِي بها الأرْضَ الميتة، الذي يُشْبِهُهُ إحياءُ الموتَى يومَ القيامة، إذ جاء فيه تحدُّثُ الرَّبّ الجليل عن نفسه بضمير المتكلِّم العظيم:{فَسُقْنَاهُ - فَأَحْيَيْنَا بِهِ} .
* وقول الله عز وجل في سورة (فُصِّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول) :
{ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ *
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} [الآيات: 11 - 12] .
الكلام في صدر النصّ جارٍ وفق أسلوب الحديث عن الغائب كما هو ظاهر، وبعد ذلك انتقل إلى أسلوب التكلّم، فقال تعالى:
{وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً} .
وفائدة هذا الالتفاتِ هو ما سبق بيانه في النصّ السابق.
وبعد ذلك انتقل النَّصُّ أيضاً إلى أسلوب الحديث عن الغائب.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} .
توطئةً لذكر اسْمَيْنِ من أسْمَاءِ الله الحسنى الملائمة لدقَّةِ التقدير العظيم وإحكامه.
* وقول المخبَّل السَّعْدِي في مطلع مُفَضَّلِيَّتِه:
ذَكَرَ الرَّبَابَ وَذِكْرُهَا سُقْمُ
…
فَصَبَا وَلَيْسَ لِمَنْ صَبَا حِلْمُ
وَإِذَا أَلَمَّ خَيَالُهَا طَرَفَتْ
…
عَيْني فَمَاءُ شُؤونِهَا سَجْمُ
كاللُّؤْلؤِ الْمَسْجُورِ أُغْفِلَ فِي
…
سِلْكِ النِّظَامِ مَخَانَهُ النَّظْمُ
الرَّباب: اسم محبوبته.
فَصَبَا: أي: فَحَنَّ ومَال.
طَرَفَتْ عَيْنِي: تَحَرَّكَ جَفْنَاها.
فَماءُ شُؤُونها: شُؤُونُ العين مجاري دَمْعِهَا.
سَجْمُ: أي: سَائِلٌ يتصَبَّب.
كاللُّؤْلُؤِ الْمَسْجُورِ: أي: كالُّؤْلُؤ الْمَحْمِّيِ.
أُغْفِلَ في سِلْكِ النِّظَام: أَي تُرِكَ مُهْمَلاً في الْخَيْطِ الَّذِي نُظِمَ فِيه فَلَمْ يُعْقَد.
فَخَانَهُ النَّظْمُ: أي: فتناثَر لأَنّ النَّظْمَ الذي كانَ لَهُ في سِلْكِهِ خَانَهُ لَمْ يُمْسِكْهُ عَنِ التَّسَاقط.
في البيت الأول اتِّبَعَ في الحديث عن نفسه أُسْلُوبَ الْحَدِيثِ عَنِ الغائب.
وفي البيت الثاني التفت من الغيبة فتحدّث عن نفسه بأسْلُوب التكلُّم، ليدلُّ على أنّه هو المقصود في البيت الأوّل.
***
سادساً: وَمِن أمثلة الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ما يلي:
* قول الله عز وجل في سورة (الفاتحة/ 1 مصحف/ 5 نزول) :
النص في مطلع السورة جارٍ وفق أسلوب الحديث عن الغائب، وبَعْدَ ذلِكَ انْتَقَلَ إلى أسْلوب الخطاب:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
…
} .
وفَائِدَةُ هذا الالتفات التحوُّلُ من موضوع الثناء على الله عزّ جلّ إلى موضوع التوجُّهِ له بالعبادة والدُّعاء، فالثناء يحْسُنُ فيه الإِعلانُ العامّ، وهذا يلائمه أسلوبُ الحديث عن الغائب، والعبادةُ الدّعَاءُ يَحْسُنُ فيهما مواجهة المعبود الْمَدْعُوّ بالخطاب.
* وقول الله عز وجل في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) :
{وَقَالُواْ اتخذ الرحمان وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} [الآيات: 88 - 89] .
الإِدّ: المنكر الفظيع الشنيع.
بدأ الحديث عمَّن افترى على الله بأنّه اتخذ ولداً بأسلوب الحديث عن الغائب خطاباً للمؤمنين.
وعَقِبَ ذلك وجّه الخطاب للمفترين فقالَ الله لهم:
{لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} .
وفائدةُ هذا الالتفات تحقيق غرضَيْنِ:
الأول: تَثْبِيتُ المؤمنين على عقيدة تنزيه الله عمّا لا يليق به سبحانه.
الثاني: تَأْنِيبُ المفترين على الله بأنَّهم ارتكبوا أمراً بالغ النكارة والفظاعة والشناعة.
مع الاقتصاد والإِنجاز في العبارة.
***
تطبيقات تحليليّة لأمثلة قرآنية
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) ضمْنَ عَرْضِ قصّة أصحاب القرية الّتي جاءها المرسلون فكذّبوهم:
دلَّت عبارة {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} على أَنَّ قَوْمَه تَوَجَّهُوا له يحاكمونه على انتصاره للرُّسُل، فأخذوا يسألونه ويُجيبُهُم بحكمة وعقْلٍ وسداد، وباستطاعتنا أن نتخيّل مجلس المحاكمة:
قالوا: هل صدّقت هؤلاء الذين يزعمون أنَّهم مُرْسلون؟ وهَلْ آمنتَ بهم؟
قال: نعم.
قالوا: وَهل تركتَ ما يعبُد قومُك من آلهة؟
قال: نعم.
قالوا: وَهل صِرْتَ تَعبُد الإِلَه الّذِي يدعو هؤلاء إلى عبادته وحده لا شريك له؟.
قال: نعم، إنّه هو الذي فطرني، ومَالِيَ لَا أعْبُد الذي فَطَرني وَإليه تُرْجَعُون؟!.
فالتفت من الحديث عن نفسه، إذْ كانت متابعة الأسلوب تستدعي أن يقول:"وإليه أرجع" أي: للحساب والجزاء، فخاطبهم فقال:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
ونَلْمَحُ في هذا الالتفات البديع أنّه بدأ كلامه أوّلاً بأسلوب اتخاذ طريق الخير لنفسه، وهو يريد ضِمْناً مناصحة قومه تلطُّفاً بهم، وليُشْعرهم بأنّه يريد لهم ما يريد لنفسه، وبعد ذلك التفت إليهم إذْ أراد تخويفهم من عذاب الله، ودعوتهم إلى الإِيمان واتّباع المرسلين.
ولدى تحليل النصّ بوجه عام نلاحظ أنّ الرَّجُل المؤمن يريد أن يقدّم لهم الدليل الذي اقتنع هو به، وأنّ عليهم لمصلحة أنفسهم أن يتصّبروا بهذا الدّليل ليُوَلّد لديهم الاقتناع بما اقتنع هو به، فقال لهم:{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} وطوى ضمن كلامه: وإليه أرجع ليحاسبني ويجازيني، وأنتم كذلك مثلي، فلم لا تَعْبُدونَ الذي فطركم؟! واكتفى عن ذكر هذا المطوي بعبارة:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
فدلّت عبارة: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} من شطر الكلام الأول على عبارة: "ومَالكم لا تبعدون الذي فطركم" من شطر الكلام الثاني.
ودلّت عبارة: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} من شطر الكلام الثاني على عبارة: "وإليه أرجع" من شطر الكلام الأول.
وبهذا الحذف الإِيجازي ظهر التعبير على صورة الالتفات من أسلوب حديث المتكلّم عن نفسه مريداً به المخاطبين، إلى أسلوب الخطاب، ومثل هذا الالتفات البديع يشدّ الانتباه إلى التأمُّل وحُسْنِ التدبُّر.
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم فكُلّ داعِ إلى سبيل ربّه وآمرٍ بالمعروف وناهٍ عن المنكر من بَعْده:
{قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الآيات: 71 - 72] .
عبارة {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} جاءت بأسلوب حديث المتكلّم عن نفسه ومعه كُلّ المكلفين من الناس، أي: وأُمِرْنَا جميعاً بالأوامر الربّانيّة المختلفة لنُسْلِمَ مُنْقادين طائعين لربّ العالمين.
وبعد هذه العبارة تحوّل الأسلوب إلى التكليف بالخطاب، فجاء في النصّ:{وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
والغرض من هذا الالتفات نلاحظه حينما ندرك أنَّ الأَمْر بإقامَةِ الصلاة وبتقوى اللهِ مع كونه داخلاً في عُمُومِ {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} إلَاّ أنّ على الرسول وعلى كلّ آمِرٍ بالمعروف ناهٍ عن المنكر من بعده أنْ يقوم بهذه الوظيفة الاجتماعية تذكيراً وتحذيراً، فهو آمِرٌ ونَاهٍ بتوجيه منه، وليس مجرّد مقدّم على سبيل الحكاية ما أمر الله به ونهى عنه، ضمن المأمور به في عبارة:{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين}
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (الفتح/ 48 مصحف/ 111 نزول) خطاباً لرسوله محمّد صلى الله عليه وسلم:
بدأت الآياتُ بِحَدِيثِ المتكلّم العظيم عَنْ نفسه، وهذا الأسلوب يناسِبُه بحسَب الظاهر أن يكون الكلام بعدَهُ: "لنغفر لك ما تقدم
…
ونُتِمَّ نعْمَتَنَا
…
ونَهْدِيَكَ
…
".
إلَاّ أن الكلام جاء على خلاف ذلك، فحصل الالتفات من التكلّم إلى الغيبة، فقال تعالى:{لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} إذ الاسم الظاهر بقوّة ضمير الغائب.
والفائدةُ الخاصةُ التي يَدُلُّ عَلَيْها هذا الالتفاتُ الإِشعارُ بأنَّ قائل {إِنَّا فَتَحْنَا} هو الله نَفْسُه، والتنبيهُ على مقام لفظ الجلالة "الله" الدّالّ على الذات وكلّ الصفات والذي بيده الغفرانُ، وإتمامُ النعمة، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم، والنَّصْرُ العزيز، مع الفوائد العامّة الَّتي تُسْتَفَاد من الالتفات.
المثال الرابع:
قول الله عز وجل في سورة (الكوثر/ 108 مصحف/ 10 نزول) :
{إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} [الآيات: 1 - 3] .
بدأت السورة بحديث المتكلّم العظيم عن نفسه، وهذا الأسلوب يناسبُه بحسَب الظَّاهر أن يكون الكلام بَعْدَهُ:"فَصّلِ لنَا وانْحر".
إلَاّ أن الكلام جاء على خلاف مقتضى الظاهر هذا، إذْ حصل الالتفات من التكلّم إلى الغيبة، فقال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر} .
والفائدة الخاصة التي يدلُّ عليها هذا الالتفات الإِشعار بأنّ المتكلّم هو ربٌّ يُمِدُّ بعطاءات الرُّبوبيّة دواماً، فمن حقِّهِ على مَرْبُوبيه أن يَعْبُدوه بمختلف أنواع العبادات، ومنها الصلاة له، ونَحْرُ الْهَدْيِ ابتغاءَ مرضاته.
المثال الخامس:
قول الله عز وجل في سورة (الدخان/ 44 مصحف/ 64 نزول) :
كما جاء في المثالين السابقين الثالث والرابع بدأت السورة بحديث المتكلّم العظيم عن نفسه، وبعد ذلك حصل الالتفات من التكلُّم إلى الغيبة، فقال تعالى:{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} وكان الأسلوب النّمطِيُّ يستدعي أن يكون النّص: {رَحْمَةً منّا} .
والفائدة الخاصة في هذا الإِلتفات التنبيه على أنَّ كلّ أمرٍ حكيم يُفْرق بأمْر الله هو رحمةٌ من أَثَر صفةِ رُبوبيَّةِ الرَّبّ عز وجل.
المثال السادس:
قول الله عز وجل في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) :
إنّ أسلوب عبارة {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} هو من المواجهة بالخطاب، ويلائمه بحسب الظاهر أن يقال:{فَأنْتُمُ المضعفون} .
إلَاّ أنَّ الكَلاِمَ جَاءَ على خلال مقتضى الظَّاهِرِ هَذَا، إذْ حصل الالتفاتُ من الخطاب إلى الغيبة، فقال تعالى:{فأولائك هُمُ المضعفون} .
والغرض البلاغيّ الخاصّ في النَّصّ التنبيه باسم الإِشارة الذي هو في قُوّةِ ضَمِيرِ الغائب على ارتفاع منزلتهم عند الله، إذْ أُشِيرَ إليهم باسم الإِشارة الخاصّ بالمشار إليه البعيد.
والأمثلة على الالتفات في النصوص القرآنية كثيرةٌ جدّاً، وفيما سبق استعراضُهُ وتحليلهُ منها كفايةٌ لمن شاء أَن يتدبّر ويحلّل سائر النّصوص، إذا كانت لَدَيْهِ ملكة التدبُّر والتحليل.
***
(2)
النوع الثاني أسْلوبُ الحكيم
أسلوبُ الحكيم: هو عند علماء البلاغة صَرْفُ كلامِ المتكلّم أو سؤال السائل عن المراد منه، وحَمْلُه على ما هو الأَوْلَى بالْقَصْد، أو إجابته على ما هو الأولى بالقصد، وسمّاه الشيخ "عبد القادر الجرجاني":"المغالطة".
وهو قسمان:
القسمُ الأول: حَمْلُ كلام المتكلّم على غير ما يُريد به، تنبيهاً على أنَّه الأولى بالْقَصْد، ومنه ما يلي:
* قول ابن حجّاج البغدادي "هو أبو عبد الله بن أحمد البغدادي" شاعرَ فَكِهٌ:
قَالَ: ثَقَّلْتُ إِذْ أتَيْتُ مِرَاراً
…
قُلْتُ ثَقَّلْتَ كَاهِلي بالأَيَادِي
قالَ: طَوَّلْتُ. قُلْتُ: أَوْلَيْتَ طَوْلاً
…
قَالَ: أَبْرَمْتُ قُلْتُ: حَبْلَ وِدَادِي
الكاهل: من الإِنسان هو ما بين كِتفَيْهِ، فَوْقَ الْعُنُق.
بالأَيَادِي: أي: بالنعم.
في البيت الأول أخذ المخاطب ظاهر كلام صاحِبِهِ وحَمَلَه على غَيْر مرادِه به، إذْ أراد بالتثقيل ما يَحْمِلُه المضيف من أعباء الضيافة، لكن المضيف حَمَلَه على معنى أنّ صاحِبَهُ ثَقَّلَ كَاهله بأياديه في تكرير زيارته له.
وفي البيت الثاني حَمَل كلمةَ "أَبْرَمْتُ" على معنى إبْرام حبْلِ الوداد، وقَصْدُ المتكلّم من "أَبْرَمْتُ" معنى أضْجَرْتُ وأَنْزَلْتُ الْمَلَلَ، وحَمَلَ كلمةَ "طَوَّلْتُ" على معنَى أفْضَلْتَ، أي: أعطيتَ فضلاً، وقَصْدُ المتكلّم أنّه أطال الإِقامة.
* ومن العبارات الدارجات أنْ يقول المحتفي بضيفه معتذراً. "أرجو العفْوَ عن قُصُوري".
فيقول الضيف: "قُصُورُك عاليةٌ شماخة" أي: ما قدّمته من إكرام عظيم كالْقُصُورِ الشامخة إلى جانب الأبنية الأخرى، فيحمل كلمة "قصور" على غير ما أراد بها المضيف.
* ما رُوي من قصّة "القبعثرى" و"الْحَجَّاج بن يُوسف الثقفي" وإلى بني أُميَّة على العراق.
قالُوا: اجتمع نُدَماء من أهل الشّعْر والأدب في مَجْلِس شراب، إلى جانب شجرة من أشجار العنب ذاتِ عناقيد مُدَلاّة، وكان "القبعثرى" واحداً منهم، يعبث بعنقودِ عِنَبٍ مدلى من غُصْنِه، فذكر أحد النّدماء "الحجّاج بن يوسف" فقال "القبعثرى" وبيده عنقودُ العِنب المدلى من غُصْنه: قَطَع الله عُنُقَهُ وسقاني من دَمه.
فأبْلَغ أحدُ الوشاة كلمتَهُ إلى الحجّاج، فاستدعاه وقال له: أنت الذي قُلْتَ: قطع الله عنُقه وسقاني دمه؟
قال: نعم، وقد قَصَدْتُ عُنْقودَ العنب الّذي كان بيدي.
قال له الحجّاج: لأَحْمِلَنَّك على الأدهم (أي: لأُقيّدنَّكَ بالْحَدِيد) .
قال القبعثرى: مثْلُ الأمير يَحْمِل على الأدهم والأشهب (قاصداً من الخيل) .
قَال الحجّاج: قَصَدْتُ الحديد.
قال القبعثرى: لأنْ يكون حديداً خيرٌ من أن يكون بليداً.
* ققول الشاعر:
وَقَالُوا: قَدْ صَفَتْ مِنَّا قُلُوبٌ
…
نَعَمْ صَدَقُوا ولكِنْ مِنْ وِدَادِي
* قول القاضي الأرّجاني:
غَالَطَتْنِي إِذْ كَسَتْ جِسْمِي الضَّنَا
…
كِسْوَةً عَرَّتْ مِنَ اللَّحْمِ الْعِظَاماَ
ثُمَّ قَالَتْ: أنْتَ عِنْدِي فِي الْهوَى
…
مِثْلُ عَيْنِي. صَدَقَتْ لكن سَقَامَا
فقبل ظاهر كلامها: (أنْتَ مِثْلُ عَيْنِي) لكِنْ حمَلَهُ على غير ما قَصَدَت إذْ ذكَرَ أنَّهُ مِثْلُ عَيْنِها في سقامِها، ومعلومٌ أنّ السقام في العين يزيدها حسناً.
* وقول أحدهم:
ولَقَدْ أَتَيْتُ لِصَاحِبِي وسَأَلْتُهُ
…
ي قَرْضِ دِينارٍ لأَِمْرٍ كَانَا
فأَجَابَنِي - واللهِ - دَارِي مَا حَوَتْ
…
عَيْناً فَقُلْتُ لَهُ: وَلَا إِنْسَانا
أراد بقوله: "مَا حَوَتْ عيناً" أي: ذهباً، لكِنّ المخاطبَ حَمَل كلمة "عيناً" على العين المبصرة، وعطف عليها قوله:"وَلَا إنساناً" ومرادُهُ إنسان العين.
* وقول أحدهم:
طَلَبْتُ مِنْهُ دِرْهَماً
…
يَوْماً فأَظْهَرَ الْعَجَبْ
وَقَالَ: ذَا مِنْ فِضَّةٍ
…
يُصْنَعُ لَا مِنَ الذَّهِبْ
تجاهل غَرَضَ طالِب الدّرهم وحمل كلامه على غَيْر مراده مُوهِماً بأنّه يَرُدّ على زَعْمِهِ بأنّ الدّرْهم من الذهب ويبيّن له أنّ الدّرهَمَ يُصْنَعُ من الفضّة.
ولدينا أمثة قرآنيّة من هذا القسم:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (المنافقون/ 63 مصحف/ 104 نزول) بشأن قول المنافقين في غزوة بني المصطلق، وما بنى الله عز وجل عليه:
المنافقون قالوا: ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ من المدنية الأذلّ إنّ رَجَعْنَا من الغزوة التي نحن فيها إلى المدينة.
فجاء البيان القرآني تعليقاً على مقالهم بحمله على ظاهرة لكن على غير ما قصدوا، وذلك بإثبات أنّ الأعزَّ الرسولُ والمؤمنون معه بإمداد الله لهم بالعزّة، لأنّ العزّة أي: القوة الغالبة هي له سبحانه ولمن يُمدِّهم بالعزّة.
المثال الثاني: قول الله عز وجل في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) خطاباً للكافرين:
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
…
} [الآية: 19] .
أي: إنْ تَدْعُو الله بأنْ يَنْصُرَكم على الرسول والذين آمَنُوا معه، فَقَدْ جَاءَكم النَّصْرُ ولكن على غير ما تطلبُون، لقد جاءكم نَصْرُ الله لرسوله والّذين آمنوا معه عليكم.
فجاء قبول ظاهرة دُعائهم بالنّصر ولكن بعد حمله على غير ما طلبوا فيه، لقد طلبوا مجيء النّصر فجاءهم النّصر للمؤمنين عليهم.
المثال الثالث: قول الله عز وجل في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) بشأن المنافقين الّذين تخلَّفوا عن الرسول والمؤمنين فلم يخرجوا إلى غزوة تبوك:
إنَّهم يَطلبُونَ الإِعراض عن مؤاخذتهم على تخلُّفهم، فإذا حَمَلْنا قول الله عزَّ
وجلَّ {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} على معنى الإِعراض الدّالّ المجافاة والقطيعة وعَزْلِهم عن دائرة المؤمنين الصادقين، كان من الأسلوب الحكيم، إذْ جاء فيه حَمْلُ طلبهم على غير ما يَقْصِدُون به.
***
القسم الثاني: إجابة السائل بغير ما يطلُبُ في سؤاله، (لتنبيهه على أنّه الأَمْر الأَهَمُّ الذي كان ينبغي أن يسأل عنه.
ومن أمثلته في القرآن ما يلي:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
لَقَدْ سَأَلُوا عَنِ الشيء الذي يُنْفِقُونه، فعلَّم الله رسوله أَنْ يجيبهم عن الّذين يَنْبَغي أن تُوَجّه لهم النفقة، إشارةَ إلى أنّه كان ينبغي لهم أن يسألوا عمَّنْ ينبغي أنْ تُوجّه لَهُم النفقة، أمّا الشيءُ الذي يُنْفقُون منْهُ ومقدارُ ما يُنْفِقُونَ فيَعُمُّ كُلّ ما يَصْلُح للإِنْفاق منه، وما وراء حدّ الزكاة المفروضة هو من التطوّع المفتوح الذي لَا يُسأَلُ عن حدٍّ له، ويظهر أنّ حدّ الزكاة المفروضة لم يكن قَدْ نزَلَ به حكْمٌ فأعرض النصّ عن الإِجابة عليه، وقد أجاب الله عز وجل عن هذا حينما كرَّرُوا سؤالهم بقوله في السورة:
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو
…
} [البقرة: 219] .
الْعَفْوُ في النفقة: ما زاد على حاجة الإِنسان لنفسه ولمن يعولُهم.
المثال الثاني: قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{*يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج
…
} [الآية: 189] .
سأل السائِلونَ عَنْ سَبَبِ الظاهرة الكونيَّةِ في الأهلة، لماذا يَبْدأ الهلالُ كالحاجب في أوّل الشهر، ويتزايَدُ يَوْماً فَيَوْماً، حتَّى يكون الْقمَرُ بدراً، وبعد ذلك يتناقص حتى يكون في آخر الشهر مثلما بدأ في أوَّله؟
ولمّا كانت هذه الظاهرة إحدى أنظمة الكون يمكن بالبحث العلمي أن يكتشفها الناس مستقبلاً، وليس بيانُها من الأغراضِ الدينيّةِ الأساسيّة الَّتِي بعث اللهُ الرُّسُل لبيانِها، جاءَ الجوابُ مبيّناً وظيفة الأهلة المرتبطةَ ببعض قضايا الدين، وهي تحديد مواقيتِ الشهور، الّتي يحتاجها الناس لعباداتهم، ومعاملاتِهم، وتواريخهم، وتكاليفهم، المرتبطة بالأشهر القمرية، كالصيامِ، وأشهرِ العِدَّةُ، ومُرُورِ الحول لأداء الزكاة، وغيرِ ذلك، وخصّ اللهُ منها الحجَ اهتماماً بتحديد وقته، إذ دخل فيه التحريف الجاهليُّ بالنِّسيء الذي كانُوا يصنعونه.
أمّا الظواهر الكونية القائمة على أسباب غير منظورة فكثيرة جدّاً، والناس لا يستطيعون إحصاءها، وفتح أبواب السؤال عنها والإِجابة عَليْها. يُحَوِّلُ مُهِمَّة الرسول من رسالة دينيّة إلى رسالة عالِمٍ من علماء أنظمة الله في كونه.
***
(3)
النوع الثالث
الإِظهارُ في مقام الإِضمار، والإِضمار في مقام الإِظهار
ومن الخروج عن مقتضى الظاهر: الإِظْهَارُ في مقام الإِضْمارِ، وبالعكس، فهو قسمان:
القسم الأول: الإِظهارُ في مقام الإِضمار.
قد يكون استخدام الضمير في الكلام هو المتبادر الذي يقتضيه ظاهر الأسلوب المعتاد، لكن قد يوجد داعٍ بلاغي يستدعي استخدام الاسم الظاهر بدل استخدام الضمير، ومن الأغراض البلاغيّة لهذا ما يلي:
الغرض الأول: الإِشعار بكمال العناية بما اسْتُخْدِمَ للدلالة عليه الاسم الظاهر بدل الضمير، من أجل اختصاصه بحكم غريبٍ مثلاً، ومنه:
قول أحمد بن يحيى الراوندي:
كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ
…
وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقاً
هَذَا الَّذِي تَرَكَ الأَوْهَامَ حَائِرَةً
…
وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النَّحْرِيرَ زِنْدِيقَا
فجاء اسم الإشارة "هذا" في مقام الضمير "هو" لتوجيه العناية تفكّراً في حكمة اللهِ بتقدير أرْزاق العباد، وإدراك أنّ الأرزاق قد تقتضي حكمة الله بأن تأتي وافرةً للجاهل، وتأتِيَ غير وافرة للعالم العاقل.
الغرض الثاني: التهكّم باستخدام اسم الإِشارة، ويُمْكن أن أُمَثِّل له بقولي:
قَالَ لِلأَعْمَى وَقَدْ أَزْعَجَهُ
…
مِنْهُ إِنْكَارُ بُزُوغِ الْقَمَرِ
أَيُهَا الْجَاحِدُ هَذَا نُورُهُ
…
سَاطِعٌ عَبْرَ غُصُونِ الشَّجَرِ
كان مُقْتَضَى الظاهر أن يقول له:
نُورُهُ يَخْتَرِقُ الأُفْقَ لَنَا
…
فَنَراهُ مِنْ خِلالِ الشَّجَرِ
لكِنَّهُ أراد التهكم به لجحوده ما يراه المبصرون وهو أعْمَى، فاستخدم اسم الإِشارة، لإِشعاره بأنه لو كان يُبْصِر لرآه.
ومنه فيما أرى باستخدام الاسم المظهر، قولُ الله عز وجل في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) خطاباً للكافرين:
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح
…
} [الآية: 19] .
أي: إن تطلبوا الفتح فقد جَاءَكَمُ الفتح، وكان مقتضى الظاهر أن يكتفى بالضمير فيقال:"إن تستفتحوا فقد جاءكم" ولكن جيء بالاسم المظهر للتهكم بهم، لأنّ الفتح وهو النصر الذي جاءهم كان عليهم ولصالح المسلمين..
الغرض الثالث: إظهار بلاهة المقصود بالخطاب، وأنّه لا يفهم إلَاّ بالإِشارة الحسيّة، فلا يكفيه الضمير لمعرفة المراد، كأن تقول لمن تُرِيد وصفه بالبلادة، وهو يتحدَّثُ عن كتابٍ بيده اشتراه وهو مبتهج بشرائه له: أرِني هذا الكتاب الذي اشتريته.
لقد كان مقتضى الظاهر أن تقول له: أَرِنِيهِ، إلَاّ أنّك أردت إشعاره بالبلادة، وأنّه ليس أهلاً لاقتناء الكتب.
الغرض الرابع: إظهار فطانة المتكلّم أو المخاطب، حتّى كأنّ الأمْرَ الفكريّ غير المحسوس هو بالنسبة إليه يشبه الأمور الحسيّة، ومنه قول الشاعر:
تَعَالَلْتِ كَيْ أَشْجَى وَمَا بِكِ عِلَّةٌ
…
تُرِيدين قَتْلِي قَدْ ظَفِرْتِ بِذَلِِكِ
أي: ادّعَيْتِ العلّة كَيْ أَحْزَنَ مِنْ أجْلِكِ وَأَنْتِ سَلِيمة، أتُريدينَ قتلي بما تفعلين.
إنْ كنت تريدين قتلي فقد ظفرتِ بذلِكِ، وكان مقتضى الظاهر أن يقول لها: قد ظفرتِ به.
الغرض الخامس: زيادةُ تمكين ما اسْتُخْدِمَ للدلالة عليه الاسم الظاهر بدل الضمير، ومنه قوله الله عز وجل في سورة (الصّمد/ 112 مصحف/ 22 نزول) :
{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الآيات: 1 - 2] .
كان مقتضى الظاهر أن يكون التعبير: "هُو الصّمد" لكنّ بلاغة القرآن جاء فيها استعمال الاسم العلم الظاهر بدل الضمير، لتوكيد وتمكين إسناد الصفات في السورة إلى الله عز وجل.
الغرض السادس: الاستعطاف بإعلان الخضوع، بغية استدرار الرحمة والشفقة، ومنه قول العبد الذي يستدر رحمة ربّه:
إلَهِي عَبْدُكَ الْعَاصِي أَتَاكَا
…
مُقِرّاً بالذُّنوب وَقَدْ دَعَاكَ
كان مقتضى الظاهر أن يقول: "أنا العاصي أتَيتُكَ" لكنّه أراد أن يستعطف ربّه ويظهر كمال خضوعه له، فذكر الاسم الظاهر بدل ذكر الضمير.
الغرض السابع: إدخال الروعة والمهابة في نفس المخاطب، ومنه قول الله عز وجل في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم:
إنّ مُقْتَضَى الظّاهر يستدعي أن يقال: "فتوكَّلْ عليه إنَّه يحبُّ المتوكلين".
لكن وُضع الاسم المظهر وهو لفظة الجلالة "الله" موضع الضمير لإِدخال الروعة والمهابة، نظراً إلى أن لفظ الجلالة يجمع كُلَّ صفات كمال الله عز وجل، باعتباره اسماً علماً للذات العليّة، وما هو اسم علم للذّات يكون جامعاً لكلّ صفات الكمال.
الغرض الثامن: التعجيب واستثارة الإِنكار، ومنه قول الله عز وجل في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) :
جاء في هذا النصّ: {وَقَالَ الكافرون} مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أنْ يُقَال: "وَقَالُوا" باستخدام الضمير، ولكن وُضِع الاسم المظهَرُ "الكافرون" مقام الضمير للتعجيب من فظاعة مقالتهم، واستثارة النكير عليهم، والإِشعار بأنّهم أهل تمرّدٍ وعناد، كافرون بالحقّ، ساترون لأدلّته وبراهينِه الواضحة.
***
القسم الثاني: الإِضمار في مقام الإِظهار.
ويلاحظ هذا القسم في موضعين:
الموضع الأول: ضمير الشأن أو القصّة، وهو ضمير الغائب الذي يقع قبل الجملة، ويسَمَّى ضمير الشأن إذا كان مذكّراً، وضمير القصة إذا كان مؤنَّثاً، ويعود كلُّ منهما إلى ما في الذهن من شأنٍ أو قصة، وذلك هو مضمون الجملة التي بعده.
وضمير الشأن أو القصة لا يحتاج إلى ظاهر يعود عليه، ولا يفسَّرُ إلَاّ بجملة.
ويُستعملُ ضمير الشأن أو القصة في مقام الاسم الظاهر في الأمر الذي يُرادُ فيه التعظيم والتفخيم، أو التهويل، أو الاستهجان، أو نحو ذلك.
ولهذا الضمير أربعة أحوال:
(1)
أنْ يكون بارزاً متّصلاً، في باب "إنَّ" مثل قول الله عز وجل في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لمقالة يوسف عليه السلام لإِخوته:
{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [الآية: 90] .
أي: إنّ الشأنَ العظيم الّذِي يَعْظُمُ لدى أُولي الألباب هو "مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِر
…
".
(2)
أن يكون بارزاً مُنْفَصلاً، إذا كان عامله معنويّاً، أي: إذَا كان مبتدأً، مثل قول الله عز وجل:
{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الآية: 1] .
أي: قل: الشأنُ العظيم الجليل الذي يجب أن يَهْتَمَّ بِه كُلُّ ذي فكر اللهُ أَحَدٌ
…
.
(3)
أن يكون مستتراً، ويكون مستتراً في باب "كاد"، مثل قول الله عز وجل في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) :
{لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ
…
} [الآية: 117] .
أي: من بعد مَا كادَ شأنُهُم المستنكر يَزِيغ قلوبُ فريق منهم، فضمير الشأن هنا مستتر، ولكن بقيَتْ دلالته.
(4)
أن يكون واجب الحذف، ويجب حذفه مع "أَنْ" المفتوحة المخففة من الثقيلة، مثل قول الله عز وجل في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) :
{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الآية: 10] .
أي: وآخر دُعَاءِ أهل الجنّةِ في الجنّة أنَّ شأَنَهُمُ المحمود أن يَحْمُدوا رَبَّهم قائلين: الْحَمْدُ للهِ رَبّ العالمين.
فضمير الشأن هنا محذوف وجوباً، ولا يجوز في العربية إظهاره.
والغرض من وضع ضمير الشأن موضع الاسم الظاهر التعظيم والتفخيم، أو التهويل، أو الاستهجان، أو نحو ذلك كما سبق، وهذا من خصائصه في أصل الوضع اللّغوي واستعمالات العرب له.
الموضع الثاني: الضمير في باب "نِعْمَ وبِئْسَ وَمَا جَرَى مجراهما" وهي أفعالٌ لإِنشاء المدح أو الذّمّ على سبيل المبالغة، وفاعل هذه الأفعال قد يكون اسماً ظاهراً، وقد يكون ضميراً مُسْتَتِراً وجُوباً مُمَيّزاً بكلمة "مَا" بمعنى شيْءٍ أو كلمةِ "مَنْ" بمعنى شخص، أو بنكرَةٍ عَامَّةٍ.
والغرض من الضمير المستتر في هذا الباب الإِبْهامُ به أوّلاً للتشويق واستثارة النفس، ويأتي التّمييز فيزيلُ بعض الإِبهام ويزيد تشويقاً لمعرفة المخصوص بالمدح
أو الذّم، وهذا من خصائص هذا الضمير في أصل الوضع اللّغويّ واستعمالات العرب له، ومن الأمثلة ما يلي:
* قول الله عز وجل في وسورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ
…
} [الآية: 271] .
أصلها: فنِعْمَ مَا، أي: فنعم هو شيئاً.
* وقولُ الله عز وجل في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) بشأن كثير من اليهود:
{وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الآية: 62] .
أي: لَبِئْسَ هو شيئاً قبيحاً كانوا يعملونه.
***
(4)
النوع الرابع
التَّعبير عن المستقبل بلفظ الماضي
من الخروج عن مقتضى الظاهر التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، والغرض من هذا التعبير الدلالة على تحقق الوقوع، وهو كثير في القرآن المجيد.
ومن روائعه ما كان على سبيل اقتطاع أحداث المستقبل التي سيتحقّق وقوعها حتماً، وتقديمها في صورة أحداثٍ تمَّ وقوعُها.
ومن الأمثلة قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
{والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا أولائك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي
هَدَانَا لهاذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الآيات: 42 - 44] .
فجاء في هذه الآيات وطائفة من الآيات بَعْدَها في السورة تَقْدِيمُ صُوَر من أحْداثِ المستقبل التي ستكون بِصِيَغِ أفعالٍ من أفعالِ الماضي، كأَنَّها أُمُورٌ قَدْ وقعت فعلاً ومضت للدّلالة على تحقُّقِ وقُوعها في المستقبل، ولإِعطاء الأحداث المستقبليَّة صُوَرَ قِصَص تَمَّ حُدُوثُها، فهي تُقَدَّم بتَصْوِيرٍ فَنِّيٍّ مطابق للواقِع.
ومعلومٌ لدى كلِّ ذَوَّاق للتَّصْويرِ الفَنِّي في القصَصِ أنَّ ما كانَ منها أكثر مطابقةً للواقع كان أكْثَرَ تأثِيراً في النفوس، واستثارةً للمشاعر.
***
(5)
النوع الخامس
التَّغْليب
التَّغْليب: إعطاء أحد المتصاحِبَيْن في اللّفظ، أو المتشاكِلَيْنِ المتشابِهَيْنِ فِي بَعْضِ الصفات، أو المتجاورين أو نحو ذلك حُكْمَ الآخَر.
ومن فوائده الإِيجاز في العبارة، مع فوائد بلاغية تُلاحَظُ في مُخْتَلِفِ الأَمثلة.
ويكون التغليب في أمور كثيرة، منها: تغليبُ المذكّر على المؤنّث، وتغليب الكثير على القليل، وتغليب المعنى على اللفظ، وتغليب المخاطب على الغائب، وتغليب أحد المتناسبين أو المتشابَهيْن أو المتجاوريْنِ على الآخر، وتغليب العقلاء على غيرهم، إلى غير ذلك من أمور.
الأمثلة:
* ذكر الله عز وجل في القرآن الذين آمنوا والّذين كفروا في نصوص كثيرة،
ويدخل المؤمنات في الذين آمنوا، والكافرات في الّذين كفروا، لأنّ الاقتصار في اللفظ على المذكورين قد كان على سبيل التغليب.
* قول الله عز وجل في سورة (صَ/ 38 مصحف/ 38 نزول) :
جاء في هذا النّصّ وأشباهه ذِكْرُ الملائكة دُونَ ذِكْرِ مَنْ كَانَ معهم من الجنّ عَلى سبيل تغليب الكثير على القليل، فالذينَ كانوا مع الملائكة من الجنّ داخلون في عموم الامر بالسجود لآدم، دلَّ على هذا استثناء إبليس، فقد كان من الجن ففسق عن أمر ربه، ولو لم يكن الجنُّ الذين كانوا مع الملائكة مأمورين بالسجود لما استثناهُ اللهُ من عُمُومِ المأمورين به إذْ لم يَسْجُدْ.
* قول الله عز وجل في سورة (الأحقاف/ 46 مصحف/ 66 نزول) حكاية لمقالة هود عليه السلام لقومه:
{ولاكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} [الآية: 23] .
كان مقتضى الظاهر أن يكون النص: قَوْماً يَجْهَلُون، بياء الغائب مراعاة للَفْظِ {قَوْماً} لكنْ جاء في النصّ تغليبُ المعنَى، فَهُوَ يُخاطبهم بقوله:{أَرَاكُمْ} فناسَبَ هذا المعنى أن يقول لهم {تَجْهَلُونَ} .
والغرض البلاغيُّ من هذا التغليب موجهتُهم بوصفهم بالجهالة، إذْ وصَلُوا إلى طَوْرِ العناد الشديد والتحدّي بأن يأتيهم بالإِهلاك الذي كان يُنْذِرُهُمْ به.
* ما جاء في قوله الله عز وجل في سورة (طه/ 20مصحف/ 45 نزول) خطاباً لموسى عليه السلام، وهو في المناجاة بجانب الطّور، ولم يكن معه أخوه:
{اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [الآيات: 42 - 44] .
ففي هذا النصّ تغليب المخاطب وهو موسى عليه السلام بأسلوب الخطاب على الغائب وهو هارون عليه السلام، والغرض البلاغيّ اعتبار الغائب كأنه حاضِرٌ يتلقَّى الخطاب.
* إطلاق لفظ {العالمين} [الآية: 2] في القرآن في سورة (الفاتحة) وفي بعض النصوص الأخرى على كلّ ما سوى الله، تغليباً للعقلاء على غيرهم.
* قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
{يابنيءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة
…
} [الآية: 27] .
أي: كما أخرجَ أَباكم وأمّكم، فقد جاء ذكرهما بعبارة {أَبَوَيْكُمْ} على سبيل التغليب، لما بينهما من علاقة، وغُلِّبَ الذكر على الأنثى.
ومنه ما هو معروف في استعمال الناس من إطلاق لفظ القمرين على الشمس والقمر.
***
(6)
النوع السادس
وضع الخبر موضع الإِنشاء ووضع الإِنشاء موضع الخبر
ومن الخروج عن مقتضى الظاهر وضع الخبر موضع الإِنشاء، ووضع الإِنشاء موضع الخبر، لأغراض بلاغيّة متعدّدة.
أولاً: فمن أغراض وضع الخبر موضع الإِنشاء مايلي: الغرض الأوّل: التفاؤل بتَحَقُّق المطلوب، كالدُّعاء بصيغة الخبر، تفاؤلاً بالاستجابة، ومنه ما يلي:
* قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "غِفَارُ غَفَرَ اللهُ لَهَا".
غَفَر: فعل ماضٍ، فالصيغةُ خبر، وقد وُضِع موضع الإِنشاء، إذ المعنى: اللَّهُمّ اغْفِرْ، والغرض التفاؤل باستجابة الدعاء.
ومنه قول الشاعر:
كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ
…
لَا تَرَكَ اللهُ لَهُ وَاضِحَهْ
كُلُّهُمْ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ
…
مَا اللَّيْلَةَ بالْبَارِحَهْ
الواضحة: الأسنان الّتي تبدو عند الضحك.
ما أشبه اللّيلة بالبارحة: مثل يُضْرَبُ لِتَشَابُهِ الأُمُور.
لقد كان مقتضى الظاهر أنْ يدعو عليه بمثل: "اللَّهُمَّ كسِّرْ أسنانه" بصيغة الإِنشاء، لكن جاء بصيغة الخبر تفاؤلاً بأن يُسْتَجَابَ دُعاؤه.
الغرض الثاني: التأدُّب بالابتعاد عن صيغة الأمر، احتراماً لِمَنْ يُوجَّهُ له الطَّلَب، كأن يقول رافعُ خطابِ طلبٍ للأمير أو الرئيس:"يتكرَّمُ الأَمِيرُ بِأَنْ يطّلِعَ على خطابي، ويَنْظُرَ في طَلَبِي".
الغرض الثالث: التنبيه على أنّ المطلوب يسير سهل، قد توافرت أسبابه، كأن يقول القائد لجنده في بدء المعركة:"أنتم تحُسُّونَهُمْ حَسّاً، تَقْتُلُونَ ذوي البأسِ منهم، وتُطَاردُونَ الفارّين، وتأسِرونَ سَائِرَهم".
أي: افعلوا كذا وكذا.
الغرض الرابع: إظهار الرغبة في حصول المطلوب، كأن تكتُبَ رسالة لقريب أو صديق غائب، تقول فيها:"جَمَعَ اللهُ شَمْلَنَا، ووصَلَ ما انقطع من حبالنا، وأمْتَعَنا بأيَّامِ أُنْسِ وصَفَاء، كما كُنَّا قَبْلَ زَمَانِ الْبُعْدِ والْغُرْبَة".
الغرض الخامس: التنبيهُ على لزوم سُرْعة امتثال الأمر التكليفي، وأنه ينبغي
ألَاّ يَمُرَّ زَمَنٌ إلَاّ والمطلوب متحقِّقُ الوقوع، ومنه قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لبني إسرائيل:
أي: لَا تَسْفِكُوا دِماءَكُمْ، ولا تخرجُوا أنفسكم من دياركم، فجاء التكليف بصغية الخبر وبعبارة الفعل المضارع للإِشعار بلزوم فورية الامتثال.
الغرض السادس: حمل المخاطب على الفعل بألطف أسلوب، كأن تقول لتلميذك الحريص على أنه لا يكذّبك فيما تخبر عنه من أحداث المستقبل.
"تلميذي حُسَين يخطُبُ غداً يوم الجمعة عنّي في المسجد الجامع بموضوع كذا
…
".
إلى غير ذلك من أغراض قد تتفتَّق عنها أذهان البلغاء الأذكياء.
ثانياً: ومن أغراض وضع الإِنشاء موض الخبر ما يلي:
الغرض الأول: إظهار العناية والاهتمام بالشيء، ومنه قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
كان مقتضى الظاهر أن يُقَال: وبإقامَةِ وُجُوهِكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وبدُعَائِكم مُخْلِصين له الدِّين، عطفاً على لفظ {بالقسط} وبأسلوب الخبر، لكن خُولِف هذا الظاهر فجاء التعبير بأسلوب الإِنشاء في صيغة الأمر التكليفي، إشعاراً بالاهتمام بالمطلوب في أمر التكليف.
الغرض الثاني: التفريق في أسلوب الكلام بين المتقارنين في العبارة للإِشعار
بالفرق بينهما، وبأنهما لا يحسُن الحديث عنهما بتعبيرين متثماثلَيْن، ولو في الصيغة الكلاميّة، ومن الأمثلة قول الله عز وجل في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) في حكاية قول هودٍ عليه السلام لقومه:
{قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الآية: 54] .
كان مقتضى الظاهر أن يقول لهم: إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَأَشْهِدُكُمْ أَنِّي بَرِيءٌ ممّا تُشْرِكون.
لكن جاء التعبير على خلاف مقتضى الظاهر هذا، لئلا يكون التحدّث عنهم وهم كفرة مشركون بعبارة مُشابهة للعبارة الّتِي جاء فيها إشْهَادُ الله عزّ جلّ.
الغرض الثالث: الإِشعار بأنّ ما هو مُقَرَّرٌ حصولُهُ هو أمْرٌ مرغوبٌ فيه للمتحدّث، فكأنّه مطلوبٌ له، ومن أمثلته قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
"مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متعمّداً فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
كان مقتضى الظاهر يستدعي أن يقول: فإنّه سيَتَبَوَّأُ مَقْعدَهُ من النار، بأسلوب الخبر، لكن عدل الرسول عن ذلك وجاء بأسلوب الإِنشاء "فَلْيَتَبَوَّأْ" للإِشعار بأنّ هذا التَّبُّوءَ أمر يَطْلُبُه الرسول صلى الله عليه وسلم ويدعو ربّه به.
إلى غير ذلك من أغراض بلاغيّة قد تتفتَّق عنها أذهان البلغاء الأذكياء.
***
(7)
النوع السابع
الانتقال من الفعل الماضي إلى الفعل المضارع وبالعكس
ومن الخروج عن مقتضى الظاهر الانتقال في تتابع الجمل من الفعل الماضي إلى الفعل المضارع وبالعكس.
ولهذا الانتقال أغراض بلاغيّةٌ يقصدها البلغاء، ويكتشف متدبّر النصوص الرفيعة أغراضاً نفيسة تُقْصد بهذا الانتقال.
* فمن الانتقال من الماضي إلى المضارع فالماضي قول الله عز وجل في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) :
كان مقتضى الظّاهر بَعْدَ فعل {أَرْسَلَ} الماضي أن يُعْطَفَ عليه بفعل ماضٍ فيقال: "فأثارت" لكن عُدِلَ عن هذا الظاهر إلى: {فَتُثِيرُ} بالمضارع بُغْيَة تقديم صُورَةِ السَّحابِ المثار كأنّه حدَثٌ يجري مع تلاوة النَّصّ، وهذا أسلوب فَنِّيٌّ بديعٌ، فيه إحضارٌ للمشاهد الماضية في صُوَر المشاهد الحاضرة الجارية، ذاتِ الأحداث المتجدّدة، إذ الفعل المضارع يفيد مع الحدوث الحاضر ظاهرة التجدّد والتتابع.
يضافُ إلى هذا الغرض التنويعُ في أسلوب التعبير الذي يستثير الانتباه ويستدعيه بقوة.
ونلاحظ في هذه الآية العود إلى الفعل الماضي بقوله تعالى: {فَسُقْنَاهُ - فَأَحْيَيْنَا} للتأكد على أنَّ الغرض من التعبير بعبارة: {فَتُثِيرُ} تَصْوِيرُ حَدَثٍ مضَى بصُورَةٍ حدثٍ يجري في الحاضر.
* ومن الانتقال من المضارع إلى الماضي قول الله عز وجل في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) في وصق بعْضِ أحداث يوم القيامة:
{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلَاّ مَن شَآءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [الآية: 87] .
داخِرِين: أي: أذِلَاّء صاغرين خاضعين.
كان مقتضى الظاهر يستدعي أن يُقال: {فَفَزِعَ} بالفِعْل المضارع عطفاً على فعل {يُنفَخُ} لكن عُدِلَ عن هذا الظاهر لتقديم الأحداثِ الّتي ستأتي في المستقبل في صورة أحداثٍ قَدْ وقَعَتْ وَمَضَتْ.
ومع ما في هذا الأسلوب من تنويعٍ يَسْتَثير الانْتِبَاهَ، فهو يتضمَّن تأكيد أنّ هذا الأمْرَ الّذي سيحدث مستقبلاً هو بقوة الأمر الذي وقع في الماضي، إذْ مجيئُهُ في المستقبل حتميٌّ، وحتميَّةُ وقوعه في المستقبل تَسْمَحُ بالتحدُّثِ عَنْهُ بصيغة الفعل الماضي، كما يقول الماهر بالرَّمْي إذا أطْلَقَ قذيفةً مُسَدَّدَةً إلى الْهَدَفِ بدقَّةٍ تَامَّة:"لَقَدْ أصَابَتِ الهدفَ" مع أنَّها ما زالَتْ تَسِيرُ في الجوّ لم تَصِلْ بَعْدُ إلى الْهَدَف.
وهذا فنٌّ بديع من فنونِ الإِبداع البيانيّ البليغ، ولكنّ استخدامه يحتاج قدرة بيانيّةً رفيعةً، تمكّن المتكلّم من اختيار المواضع الملائمةِ لاستخدامه.
***
(8)
النوع الثامن
تجاهل العارف
ومن الخروج عن مقتضى الظاهر "تجاهُل العارف" إذْ الأمور التي تجري على طبيعتها بالتِّلْقائيّة أن يتكلّم العارف بالأمر على وفق معرفته له، ولكن قد تدعوه بلاغيّة إلى التظاهر بالشّكّ أو الجهل.
ومن الدواعي البلاغية لهذا: "المدح - الذَّمّ - التعجّب - التوبيخ".
أمثلة:
* قول الشاعر:
أَلَمْعُ بَرْقٍ جَرَى أَمْ ضَوْءُ مِصْبَاحِ
…
أَمِ ابْتِسَامَتُهَا بِالْمَنْظَرِ الضَّاحِي
المنظر الضاحي هو المنظر البارز الواضح.
يريد الشاعر أن يصف ابتسامة مالكةِ هواه بأنها ابتسامة مضيئة، فأراد تأكيد هذه الفكرة بطرح تشكيك حول ثلاثَةِ أُمُورٍ باعِثاتِ ضوء، وهي:"لَمْعُ البرق - ضوء مصباح - بَرِيقُ ثَغْرِها" وهو عارفٌ غير جاهل، فبريق ثغرها هو الذي أثار مشاعره، فأراد أن يُثْنِيَ عليه بطرح اختلاطه في تصوّره بالأشياء والنظائر، مع تأكيد أن ابتسامتها ذات بريق.
* قول البوصيري:
أَمِنْ تَذَكُّر جِيرَانٍ بذي سَلَمِ
…
مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
أَمْ هَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلْقَاءِ كَاظِمَةٍ
…
وَأَوْمَضَ الْبَرْقُ في الظَّلْمَاءِ مِنْ إضَمِ
يُريدُ تأكيد بُكَائِه المختلطِ بالدّمّ، بطرح تشكيكه في الأسباب الداعية إلى ذلك، أَهِيَ التذكر، أم الريح الّتي هبَّتْ من أرض محبوبه، أم البرق الذي أومض من جِهَتِها، وهو عارف بأن السبب هو التذكُّر.
* قول المتنبّي:
مَالِي أُكَتِّمَ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسِدي
…
وتَدَّعِي حُبَّ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الأُمَمُ
بَرَى جَسَدِي: أي: أنْحَلَهُ وَأَضْنَاهُ.
قال العكبري في شرح هذا البيت: يقول: لأَِيّ شيْءٍ أُخفِي حُبَّه؟ وغيري يُظْهِرُ أنَّه يُحِبُّه، وهُوَ بخلافِ مَا يُضْمِر، وَأَنَا مُضْمِرٌ مِنْ حُبّهِ مَا يَزيدُ مُضْمَرُهُ عَلَى ظَاهِره، ومَكْتُومُهُ عَلَى شَاهِدِهِ، والأُمَمُ تَشْرَكُنِي في ادّعاءِ ذَلِكَ، بقلُوبٍ غير خَالِصَة، ونَيَّاتٍ غَيْر صَادِقَةٍ، فَيَنْحَلُ جِسْمِي بِقِدَمِي في صِدْقِ وُدِّهِ، وَتَأَخُّرِي فِيمَا يَخُصُّنِي من فَضْلِه".
إنّه على طريقة تجاهل العارف قال: "مَالِي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدِي" لتأكيد حُبِّه له بتساؤله عن سبب تكتُّمِه بهذا الحب.
***
(9)
النوع التاسع
القلب
ومن الخروج عن مقتضى الظاهر "الْقَلْبُ" ويكون القلْب بإجراء التبادل بين جزئين من أجزاء الجملة لغرضٍ بلاغيّ يستحسنُه الفطناء، وَيُلْحَقُ به القلب في التشبيه.
وأُمثّل للقلب في التشبيه بقولي صانعاً مثلاً:
تَدَاوَلَ الإِلْمَاحَ بَدْرُ الدُّجَى
…
كَوَجْهِ هِنْدٍ مِنْ وَرَاءِ الشَّبَكْ
والْوَرْدَةُ الْحَسْناءُ فِي غُصْنِهَا * وَجْنَتُهَا مَدَّتْ إليْنَا الشَّرَكْ*
واستعمل القلب في التشبيه يتضمّن ادّعاء أنّ الصفات في المشبّه أفضل منها في المشبه به، فيأتي القلب أبلغ إذا كان التشبيه دقيقاً متقناً مختاراً ببراعة.
* ومن القلب قول الشاعر: "يكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ".
وكان مقتضى الظاهر أن يقول: تَكُونُ مِزَاجَ الْعَسلِ والماءِ، إلَاّ أن الشَاعرَ أجرى القلب بين جزئين جملته.
* ومن القلب قول الشاعر يصف ناقته.
فَلَّمَا أَنْ جَرَى سِمَنٌ عَلَيْهَا
…
كَمَا طَيَّنْتَ بِالْفَدَنِ السِّيَاعَا
الفَدَن: القصر.
السِّياع: الطين المخلوط بالتبن يُطَيّن به البناء.
وحسَّنَ هذا القلبَ إذْ كان الغرض منه الإِشعارَ بأنّ الطين كان أكثر من القصر، حتَّى كأنَّ القصر هو الذي كان طيناً للطين.
ملاحظات:
الأولى: حين لا يتضمّن القلب غرضاً مقبولاً لدى البلغاء والأدباء يكون سَمِجاً مرفوضاً، كقول عُرْوَةم بن الْوَرْد.
"فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفْسِي وَمَالي".
إنّ ما يتبادر إلى الذهن هو أنه يؤثر نفسه، ولا يفدي محبوبه بنفسه وماله.
الثانية: أرى أنّ من القلب أن يُوجّه الأب مثلاً لابنه تكليفاً بعمل بصورة مقلوبة، فيقول له مثلاً:"أعطني نقوداً لأذهبَ إلى السّوق وأشتري لك فاكهة"، أي: خذ منّي النقود وأحضر الفاكهة من السّوق.
الثالثة: وأرى أنّ من القلب أنْ يلاحظ البليغ أنّ عند غيره كلاماً يتلجلَجُ في صدره، ويريد أن يقوله له، إلَاّ أنّه يكتمه خجلاً، أو خوفاً، أو تأدُّباً، أو غير ذلك، فيقول عنه، لكنَّه يخاطبُه به، كأن يقول لزائره الذي يُكثر من زيارته، وفي نفسه أن يوجّه له عتاباً على أنّه لا يقابله بالمِثْلْ، في شعر صنعتُه مثلاً لهذا:
مَالِي أزُورُكَ في شَوْقٍ وَفِي حَدَبٍ
…
وَأَنْتَ تَهْجُرُنِيْ في الْفِكْرِ والنُّزُلِ
مَا هَكَذا يَصْنَعُ الأَحْبَابُ مَا صَدَقَتْ
…
حِبَالُ وِدِّهم فِي الْقَوْلِ والْعَمَلِ
أي: من حَقِّكَ أَنْ تقولَ لي هذا الكلام.
***