الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الفصاحة - الفصاحة في اللّغة
الفصاحة في اللَّغة:
الفصاحة عند أهل اللّغة: البيان، والإِفصاح: الإِبانة. يقال لغة: فَصُحَ الرَّجُلُ فَصَاحةً فَهُو فصيحٌ، إذا كانَ في كلامِهِ قادراً على أن يُبَيِّن مُرَاده بوضوحٍ دون عَجْزٍ، ولا تَلكُّؤٍ، أو تعثُّرٍ، في نُطْقِ الألْفَاظ، أو في اختيار الكلمات الدالَاّتِ على ما يُريدُ إيضاحَهُ من المعاني للْمُتَلقّين.
ويُجْمَعُ "فَصيح" على فُصحاء، وفِصاحٍ وفُصُح. والأنْثَى فصيحةٌ، وهُنَّ فَصَائح.
ويقالُ: كلامٌ فصيحٌ، إذا كان المرادُ منْهُ واضحاً.
ويقالُ: لسانٌ فصيحٌ، إذا كان طَلْقاً في نُطْقِ الْكَلَامِ مُبِيناً لَا يَتَعَثَّر.
والرجلُ الفصيح هو المنطلق اللّسان في القولِ، الّذي يَعْرِفُ جَيِّدِ الكلام من رديِئه.
ويقالُ: أفْصَحَ الصُّبْحُ إِذا بَدَا ضَوْؤُهُ واستبان. وأَفْصَح المتَحَدِّثُ عن مُرادِهِ إذا بيَّنَهُ ولم يُجَمْجِمْ.
وكُلُّ ما وَضَحَ فقد أفْصَح، وكُلُّ وَاضحٍ هو مُفْصِحٌ.
وفَصُحَ اللَّبَنُ إذا أُزِيلَتِ الرَّغْوَةُ من سطحه فبانَ وظهَرَ.
الفصاحة في اصطلاح علماء البلاغة:
ذكر علماء البلاغة أنَّ الفصاحة تأتي وصفاً للكلمة الواحدة، ووصْفاً للكلام، ووصْفاً للمتكلّم، فيقال: كلمةٌ فصيحة، وكلامٌ فصيحٌ، ومتكلّم فصيح.
***
فصاحة الكلمة
أمّا الكلمة الفصيحة: فهي الكلمة العربية التي تَخْلُو من أربعة عيوب وهي: التنافر، والغرابة، ومُخَالفة القياس، وكراهة السَّمع لها.
أوّلاً:
شرح العيب الأوّل: وهو تنافر حروف الكلمةم. التنافر في الكلمة صفةٌ فيها تجعلها ثقيلة على اللِّسان، يصعُبُ النُّطْقُ بها.
وهذا التنافُرُ مِنْهُ ما هُو شديدٌ غايةٌ في الثّقل، ومنْهُ مَا هُو دون ذلِكَ، ويُحِسُّ به الذّوق السَّليم، ومن علامات التنافر في حروف الكلمة أنْ يصعُب على معظم ألسنة الناطقين بالعربيّة النُّطقُ بها.
ومن أمثلة ما هو شديد التنافر ما يلي:
* كلمة "صَهْصَلِق" يقال لغة: رجُلٌ صَهْصَلِقُ الصَّوْتِ، إذا كان ذا صوتٍ شديد، ويقالُ: امرأةٌ صَهْصَلِق وصَهْصَلِيق، أي: شديدة الصّوتِ صَخَّابة.
* كلمة "طَسَاسِيج" جمع "طَسُّوج" اسم للناحية، واسمٌ لمقدار من الوزن يعْدِلُ رُبْعَ دانِقٍ، فالدَّانِق أربعةُ طَسَاسِيج، وهو سُدْسُ الدّرهم.
* كلمة "اطْرَغَشَّ" يقال: اطرغَشَّ الْمريضُ، إذا بَرِىءَ من مرضه، وإذا قام وتحرّك ومشى.
ومن أمثلة ما هو غير شديد التنافر ما يلي:
* كلمة "النُّقاخ" يقال لغة: ماءٌ نُقَاخٌ، إِذا كان ماءَ عذباً.
* كلمة "مُسْتَشْزِرَاتَ" بمعنى منفتلات، وقد جاءت في شِعْر امرىء القيس، إذْ قال:
وَفَرْع يَزِينُ الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ
…
أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ
غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلَا
…
تَضِلُّ الْمَدَارِي فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ
الْفَرْعُ: الشَّعَرُ التَّامُّ الَّذى لا نقص فيه. الْمَتْنُ: الظَّهْرُ. الفاحِمُ: الشّدِيدُ السَّواد. الأَثِيثُ: الكثير. قِنْوُ النَّخْلة: عِذْقُها بما فيه من الرُّطب. الْمُتَعَثْكِل: الكَثِيرُ الشَّمَاريخ، وهي العيدان الحاملةُ للثّمر. غَدَائِرُهُ: أي: ذُؤاباتُه الْمَضْفُورة، مُفْردُها غديرة. مُسْتَشْزِرَات: أي: مُنْفَتِلَاتٌ، يقالُ: اسْتَشْزَرَ الحبلُ، إذا انْفتَل. تَضِلُّ الْمَدَارِي: أي: تَضِيعُ الْمَدَارِي، وهي جمعُ مِدْراة، والْمِدْراةُ ما يُعْمَلُ من حديدٍ أو خَشَبٍ على شْكلِ سِنٍّ مِنْ أسْنَانِ الْمُشْطِ، وأطول منه، يُسَرَّحُ بها الشِّعَرُ الْمُتَلَبِّدُ. والْمُثَنَّى: الْمُنْعَطِفُ بَعْضُهُ عَلى بعض. والْمُرْسَل: المتروكُ على طَبيعَتِه دُون ضَفْرٍ وَلَا تَثْنِيَةٍ وَلَا تَجْعِيد.
* كلمة "الْعَشَنْزَر" وهي بمعنى الشَّديد الْخَلْقِ العظيم من كلّ شيء، وَيقال: ضَبُعٌ عَشَنْزَرَة، أَي: سيِّئةُ الْخُلُق.
* كلمة "الابْرِغْشَاشِ" بمعنى الْبُرْءِ من الْمَرَض.
* كلمة "الخَنْشَلِيل" بمعنى الْمُسِنّ من الناس والإِبل، وبمعنى الجيّد الضرب بالسيف.
***
ثانياً:
شرح العيب الثاني: "الغرابة" الغرابة في الكلمة كونُها غير ظاهرة المعنى ولا مألوفةِ الاستعمال عند فُصحاء العرب، وبلغائهم، في شعرهم ونثرهم، لاعند
المولّدين ومَن بعدهم، فأكثر الكلام العربي الفصيح غريب عند غير فصحاء العرب وبلغائهم.
والغرابة إمّا تكون بسبب نُدْرة استعمال الكلمة عند العرب، وإمّا أن تكون بسبب أنّ التوصّل إلى المراد منها في الكلام يحتاج إلى تخريج مُتكَلَّف بعيد.
ومثَّلُوا للغريب النادر بما يلي:
* كلمة "مُسْحَنْفِرَة" بمعنى "متّسِعَة".
* وكلمة "بُعَاق" بمعنى "مطر".
* وكلمة "جَرْدَحْل" بمعنى "الوادي".
* وفُلانٌ جُحَيْشُ وَحْدِهِ، أي: عَيِيُّ الرّأْي يَسْتَبِدُّ بِهِ، وهذا ذَمٌّ.
* وكلمة "مُشْمَخِرّ" إذا استعملتْ فِي النَّثْر، وهي بمعنى "العالي".
ومثَّلُوا للغريب الذي يحتاج إلى تخريجٍ مُتكلَّف بعيدٍ لمعرفةِ المقصود به، بقول رؤبة بْنِ العجّاج يصِفُ الأنْفَ بكلمة "مُسَرَّج" فقال ابْنُ دُرَيد: هو من قولِهِمْ للسُّيوف سُرَيجيّة، أي: منسوبة إلى حدّادٍ يُسَمَّى سُرَيجاً، فهو يريد تشبيه الأنْفِ في دقَّتِهِ واستوائِه بالسَّيْفِ السُّرَيجيّ، وقال ابْنُ سِيدَه، صاحبُ المحكم: هو من السِّرَاج، فهو يريد تشبيهَ الأنْفِ في بريقه ولمعانه بالسِّراج.
أقول: ويكثر هذا التكلُّفُ الممجوجُ عند كثير من الشعراء والكتاب المبتدئين، فلا يُعْرَفُ الْمُرادُ من مفرداتهم، إلَاّ بسؤالهم عَنْ مقاصِدهم منها.
***
ثالثاً:
شرح العيب الثالث: "مخالفة الكلمة للقياس" أي: سوقُ الكلمة مخالفةً للقياسِ النحويّ أو الصّرفيّ، ومن أمثلة ما هو مخالف للقياسِ في الكلمة فكُّ
الحرف المضعّف في الكلمة التي يقتضي القياسُ فيها إْدغامَهُما بحرفٍ مُشَدَّدٍ، نحو:
* كلمة "الأجْلَلِ" والقياسُ أَنْ يُقَالَ فيها الأجَلّ.
ومنه قول أبي النّجم بن قُدامة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الأَجْلَلِ
…
أَنْتَ مَلِيكُ النَّاسِ ربّاً فَاقْبّلِ
وممّا هو مخالف للقياس جمع "فاعل" وصفاً لمذكر عاقل على "فَواعل: قالوا: ومنه استعمال الفرزدق نواكس جمعاً لناكسٍ وصفاً لمذكّر عاقل في قوله:
وإِذَا الرّجَالُ رَأَوْا يَزِيدَ رَأَيتَهُمْ
…
خُضْعَ الرِّقَابِ نَوَاكِسَ الأَبْصَارِ
أقول: ما في شعر الفرزدق ليس مخالفاً للقياس، لأنه يريد أَنْ يصف الأبصار بالنواكس، أي: هي منكسرة ذليلة، لا أَنْ يصف الذكورَ العقلاء، عَلَى أن جمع ناكس على نواكس، ممّا اسْتُعْمِل شاذاً عن القياس عند العرب، كما قالُوا في فَارسٍ فوارس، وفي هالِكٍ هَوَالِكَ.
وممّا هو مخالف للقياس استعمال هَمْزَةٍ القطْعِ بدلَ همزة الوصْل، واستعمال همزة الوصل بدل همزة الْقَطْعِ، ويكثُرُ مثُلُ هذَا في الشِّعْرِ لِمُرَاعَاةِ الوزن.
ومنه قول جميل:
ألَا لَا أرَى "إثْنَيْنِ" أحْسَنَ شِيمَةً
…
عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنِّي وَمِنْ جُمْلِ
فقطع همزة "اثنين" مع أنّها همزة وصْل، وحدَثان الدهر نوائبه، وأراد بِكَلِمَةِ "جُمْلِ" فَرَسَهُ أو جَمَلَه.
***
رابعاً: شرح العيب الرابع: "كون الكلمة مكروهةً في السمع" أي: كونُها ممجوجةً في الأسماع، تأنف منها الطّباع، خشنَةً وَحْشِيَّةً.
ومثَّلوا لهذا العيب، بنفور السمع عن كلمة "الْجِرِشَّى" بمَعْنَى "النفس" فعابوا على أبي الطيّبِ المتنبّي استعمالَها في قَوْلِهِ يمدحُ سيف الدولة:
مُبَارَكُ الاسْمِ أغَرُّ اللَّقَبْ
…
كَرِيمُ الْجِرِشَّى شَرِيفُ النَّسَبْ
كَرِيمُ الجِرِشَّى: أي: كريمُ النفس.
أقوال مأثورة اشتملت على مفرداتٍ غير فصيحة لِعَيْبٍ ما فيها:
(1)
كتب بعض أُمَراء بغداد رُقْعةً طرحها في المسجد الجامع حين مَرِضتْ أُمُّهُ، جاءَ فيها:
"صِينَ امْرُؤٌ وَرُعِي، دَعَا لاِمْرَأةٍ إِنْقَحْلَةٍ مُقْسَئِنَّةٍ، فَقَدْ مُنِيَتْ بِأَكْلِ الطُّرْمُوخِ، فَأَصَابَهَا مِنْ أجْلِهِ الاسْتِمْصَالُ، أَنْ يَمُنَّ اللهُ عَلَيْهَا بِالاطْرغْشَاشِ والابْرِغْشاشِ".
إنْقَحْلَة: أي: مُسِنَّةٌ هَرِمَةٌ يَبِسَ جلْدُهَا وسَاءَ حَالُها.
مُقْسَئِنَّة: أي: كبيرة السّنّ، ليس لها قدرة على الحركة.
الطُّرْمُوخ: الْخُفَّاش.
الاسْتِمْصَال: إسهالُ الطبيعة.
الاطرغْشَاش والابرغْشاش: كلاهما بمعنى البرء من المرض.
(2)
جاء في خُطْبَةٍ لابْنِ نُبَاتة، يَذْكُرُ فيها أَهْوَالَ يَوْمِ القيامة، قولُه:
"اقْمَطَرَّ وَبَالُهَا، واشْمَخَرَّ نَكَالُهَا، فَمَا سَاغَتْ وَلَا طَابَتْ":
أقْمَطَرَّ وَبَالُهَا: ِأي: اشتَدَّ وعَظُمَ ثِقَلُها.
واشْمَخَرَّ نَكَالُهَا: أي: اشْتَدَّ وارتَفَعَ وعَظُمَ عِقَابُهَا.
فَمَا سَاغَتْ وَلَا طَابَتْ: أي فَمَا سَهُلَتْ ولَا كانَتْ طيّبَة.
(3)
قال امرؤ القيس حين أَدْركتْهُ المنيَّةُ، وَكان قَدْ ذَهَبَ إلى مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى قَتَلَةِ أَبيه:
"رُبَّ جَفْنَةٍ مُثْعَنْجِرَةٍ، وَطَعْنَةٍ مُسْحَنْفِرَةٍ، وَخُطْبَةٍ مُسْتَحْضَرَةٍ، وَقَصِيدَةٍ مُحَبَّرَةٍ، تَبْقَى غداً بِأَنْقِرَةٍ".
رُبَّ جَفْنَةٍ مُثْنْجِرَةٍ: أي: رَبِّ قَصْعَةِ طَعَامٍ مَلأَى.
وطَعْنَةٍ مُسْحَنْفِرَةٍ: أي: ورُبَّ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ في الْقِتَالِ واسِعَةٍ.
(4)
رُوي أنَّ أُمَّ الهيْثَمِ الأَعْرَابِيَّةَ قَالت لأَِبي عُبَيْدَة الرَّاوِية، حِينَ عَادَهَا فِي علَّةٍ أصابَتْها:
"كُنْتُ وَحْمَى سَدِكَةً، وَشَهِدْتُ مَأْدُبَةً، فَأَكَلْتُ جُبْجُبَةً مِنْ صَفِيفِ هِلَّعَةٍ، فَاعْتَرَتْنِي زُلَّخَةٌ".
فَقِيلَ لَهَا: أيَّ شَيْءِ تُقُولِينَ؟
فقالَتْ: أَوَ لِلنَّاسِ كَلَامَانِ، والله مَا كَلَّمْتُكُمْ إِلَاّ بالْعَرَبِيِّ الْفَصيح.
كُنْتُ وَحْمَى سَدِكةً: وَحِمَتِ الْحُبْلَى، إِذا اشْتَهَتْ شيئاً عَلَى حَبَلِهَا، فَهِي وَحْمَى. سَدِكَةً: أي: مُولَعَةً بِنَوْع طَعَامٍ لِوَحَمِهَا. وَشَهِدْتُ مَأْدُبَةً: المَأدُبَةُ: الطَّعَامُ الَّذِي يُصْنَعُ لِدَعْوَةِ. جُبْجُبَةً: الْجُبْجُبَةُ: الكَرِشُ يُجْعَلُ فيها اللّحم المقطَّعُ، ويُغْلَى ثُمَّ يُقَدَّدُ. من صَفِيفِ هِلَّعَة: الصّفِيفُ: رقائقُ اللَّحْم تُشْوَى. والْهِلَّعَةُ: الأنْثَى مِنْ أولاد المعز والغنم. فاعْتَرَتْنِي زُلَّخَةٌ: الزُّلْخَةُ: داءٌ يأخُذُ فِي الظَّهْرِ والجنب.
***
فصاحة الكلام
وأمَّا الكلامُ الفصيح: فهو عند علماء البلاغة ما كان سهْلَ اللفظ، واضح المعنى، جيّد السَّبكِ، متلائم الكلمات، فصيح المفردات، غير مُسْتكْرَهٍ ولا مَمْجوجٍ ولا مُتكَلَّف، ولا مخالفٍ لقواعد العرب في نحوها وصرفها، وغير خارج عن الوضْعِ العربي في مفرداته وتراكِيبِه، وليس في كلماته تنافر، وليس فيه تعقيدٌ لفظيٌّ، ولا تعقيدٌ معنويّ.
قالوا: ولا بُدَّ لكون الكلام فصيحاً من أن يكون خالياً مِنْ أربعة عيوب، مع شرط فصاحة مفرداته، وهي:
العيبُ الأول: تنافر الكلمات عند اجتماعها، ولو كانت مفرداتها فصيحة.
العيبُ الثاني: ضعف التأليف.
العيبُ الثالث: التعقيد اللفظي.
العيبُ الرابع: التعقيد المعنويّ.
أوّلاً:
شرح العيب الأول: "تنافر الكلمات عند اجتماعها" وهو وصفٌ يعرض للكلام من جرّاء اجتماع كلماتٍ فيه تجعل النُّطْقَ بها ثقيلاً ممجوجاً حال اجتماعها، مع كون كلّ كلمةٍ ليّنةً سهلة النطق بها.
ويُحِسُّ بهذا الثَّقَل الممجوج أصحابُ الذوق السليم في نُطْق الكلام العربي، ومن علامات التنافر في الكلام أن يَصْعُب على معظم ألسنة الناطقين العربية النُّطقُ به.
الأمثلة:
(1)
من الأمثلة الّتي ذكروا أنّ فيها هذا العيب بشدّة، ما أورده عَمْرو بن بحر الجاحظ من شعر بشأن قَبْر حَرْب بن أميّة بن عبد شمس:
وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرُ
…
وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ
رُفع لفظ "قَفْر" مع أنه نعتٌ للفظ "مكانٍ" لضرورة الشعر، وخرّجوه على أنّه من قبيل الصفة المقطوعة عن موصوفها.
وقد جاء الثقل من تكرار الراء والباء في البيت.
(2)
ومن الأمثلة الَّتي ذكروا أَنَّ فيها هذا العيب دون شدَّة، قولُ أبي تمّام:
كَرِيمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ والْوَرَى
…
مَعِي وَإِذَا مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي
وقد جاء ثِقَلُهُ من تكرير لفظ "أَمْدَحْهُ" بما فيه من حاء وهاء.
وكذلك قول أبي الطيّب المتنبّي:
أَتُرَاهَا لِكَثْرةِ الْعُشَّاقِ
…
تَحْسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً فِي الْمَآقِي
كَيْفَ تَرْثِي الَّتِي تَرَى كُلَّ جَفْنٍ
…
رَاءَها غَيْرَ جَفْنِهَا غَيْرَ رَاقِي
"راءَهَا" أي: رآها، قَدَّم وأخَّرَ لضرورة الشِّعر.
"راقِي": اسم فاعل من رَقَأَ الدَّمْعُ إذا انْقطع.
ومعنى البيت الثاني: كيف تَرْحَمُ هذِهِ الْمَعْشُوقَةُ عَاشِقَهَا وهِي تَرَى كلَّ الأَجْفَانِ باكيَةً غيْرَ جَفْنِها، فتحسبُ أَنَّ العيون تذرف الدمع بالْخِلْقَةِ لَا من العشق، لذلك فلا تُسْتثارُ فيها الرحمةُ على العشّاق.
وفي هذا البيت مع عيب الضرورة عيب تكرير الجيم والراء في كثير من كلماته، الأمر الذي أكسبَهُ بعض الثقل.
(3)
ومن الأمثلة التي ذكروا فيها عيبَ التنافُرِ في الكلام، أو ثِقَلَ النُّطْقِ بِهِ، أَوْ مَجَّ الذَّوْقِ له، قول عبد السَّلام بْنِ رُغْبَان المعروفِ بديكِ الجنّ:
أُحْلُ وامْرُرْ وضُرَّ وانْفَعْ وَلِنْ وَاخْشَنْ وَأَبْرِرْ ثُمَّ انْتَدِبْ لِلْمَعَالِي.
وعِلَّتُه تكرُّرُ أفعالِ الأَمْرِ فيهِ.
وأشدّ من هذا قول أبي الطيّب المتنبّي إذْ جَمَعَ أفْعالَ أمْرٍ دون عاطفٍ بينها، من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة:
أَقِلْ أَنِلْ أَقْطِعِ أحْمِلْ عَلِّ سَلِّ أعِدْ
…
زِدْ هِشَّ بِشَّ تَفَضَّلْ أَدْنِ سُرَّ صِلِ
دفعه إلى هذا ولَعُه بالإِغْرابِ والإِبداع.
أَقِلْ: فعل من الإِقالَةِ. أَنِلْ: من الإِنالَة وهي العطاء. أقْطِعْ: من الإِقْطاعِ بمَنْح الأرض. احْمِلْ: من قولهم: حملتُهُ على فَرَسٍ. عَلِّ: من التَّعْلِيَةِ وَالرَّفْعِ. سَلِّ: من التَّسْلِية والترويح عن النفس. أَعِدْ: من الإِعادة، أي: في العَطاء. زِدْ: من الزّيادة في العطاء الثاني. هِشَّ: من قولهم: هَشَشْتُ إلى كذا أهِشُّ. بِشَّ: من البشاشة وهي طلاقة الوجه. تَفَضَّلَ: من الإِفْضَالِ وهو عطاء الفضل. أَدْنِ: من الإِدناء وهو التقريب. سُرَّ: أي: افعلْ ما يَسُرُّ. صِلِ: من الصِّلَةِ، وهي العطيَّة.
وهذا أشبَهُ بمنْظوماتِ مُتُونِ الْعِلْم، وعلّتُه تَكَرُّرُ أفعالِ فيه دون حرف عطف بينَها، فزاده ثقلاً.
(4)
ومن الأمْثِلَةِ أيضاً، قول أبي الطيّب المتنبّي، في قَصِيدَة يَمْدَحُ فيها عُبَيْدَ الله بْنَ خراسان الطرابلسيّ:
دَانٍ بَعيدٍ مُحِبِّ مُبْغِضٍ بَهِجٍ
…
أَغَرَّ حُلْوٍ مُمِرًّ لَيِّنٍ شَرِسِ
شَرِس: الشَّرسُ في اللّغة الْعَسِرُ السَّيْىءُ الْخُلُق، ويريد أنَّه عَسِرٌ غير ليّن بالنسبة إلى الأعداء في الحرب.
بعض هذه الصفات يُعامل بها أولياءَه، وأضدادها يعامل بها أعداءه.
وعلّته إيراد صفاتٍ متعدّدات على نَسَقٍ واحدٍ.
(5)
ومن الأمثلة أيضاً، قول أبي تمّام يصِفُ مَمْدُوحَهُ:
كَأَنَّهُ في اجْتِمَاعِ الرُّوحِ فِيهِ لَهُ
…
فِي كلِّ جارحَةٍ في جِسْمِهِ رُوحُ
أي: هو يقظ دواماً بكلّ جوارحه.
وعِلَّتُه تَعَاقُبُ الأَدواتِ فيه.
ونظيره قول أبي الطيب المتنبّي يصفُ فرساً:
وتُسْعِدُنِي فِي غَمْرَةٍ بَعْدَ غَمْرَةٍ
…
سَبُوحٌ لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا شواهد
في غَمْرَة: أي: في شِدَّة. سَبُوح: أي: فرسٌ شدِيد الجري. لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا شواهِدُ: أي: لَها عَلى كرمها شَوَاهِدُ مِنْ صفاتها. على أن تعاقب الأدوات قد لا يكون ثقيلاً مستكرهاً، والحكَمُ ذوق الفصحاء.
(6)
ومن الأمثلة أيضاً قولُ ابْنِ بابك:
حَمَامَةَ جَرْعَى حَوْمَةِ الْجَنْدَلِ اسْجَعِي
…
فَأَنْتَ بِمَرْأَى مِنْ سُعَادَ ومَسْمَعِ
يخَاطِبُ الشَّاعِرُ حَمَامَةَ جَرْعَى حَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، فَيَطالِبُهَا بأن تَسْجَعَ لِتَسْمَعَها مَعْشُوقَتُهُ سُعاد، والسَّجْعُ هديل الحمام.
جَرْعَى: مُؤنَّثُ أَجْرَع، وهي رَمْلَةٌ لَا تُنْبتُ. حَوْمَةِ: مُعْظم. الجندل: الحجارة.
وَعِلَّتُه تَوالي الإِضافات، إذْ أضاف أولاً حمامة إلى جَرْعَى وأضاف أيضاً جَرْعَى إلى حَوْمَة التي أضافها إلى الجندل، فتوالت الإِضافات، ومن هنا كانت علّة الاستكراه، على أن توالي الإِضافات قَدْ لا يكون مستكرهاً.
***
ثانياً:
شرح العيب الثاني: "ضعفُ التأليف" وهو أنْ يكون تأليف الكلمات في الجمل أو إجراؤُها الإِعْرَابي على خلاف المشهور المتَّبَع من قواعد النحو، أو فيه لحْنٌ نحويٌّ أو صرفي، واللّحْنُ في اللّغة ليْسَ من فصيحها، بل هو من عامّيها، أو من نطق الدخلاء على أهلها ممن ليسوا منها، أو من نطق أطفال الأمة الذين لم يتمرّسوا بقواعد لغتهم، ومن أمثلة ما فيه ضعف التأليف:
* عوْدُ الضمير علَى مُتأخِّرٍ لفظاً ورُتبةً، بينَما الأَصْلُ أن يعودَ الضميرُ علَى مُتَقَدّمٍ في اللفظ أو الرتبة.
* استعمال الضمير المنفصل مع إمكان استعمال الضمير المتّصل، واستعمال الضمير المتصّل في حالِ وُجوبِ استعمال الضمير المنفصل.
* نصْبُ الفعل المضارع أو جزمُهُ بدون ناصبٍ أو جازمٍ.
تقديم غير الأَعْرَف في الجملة الاسميّة على الأعْرَف.
* تقديم المعمول على عامله مع عدم جواز ذلك، أو مع عدم وجودٍ مقتضٍ لَهُ بلاغيّاً.
* مجيء الضمير المتَّصِل بعد أداةِ الاستثناء "إلَاّ".
الأمثلة:
(1)
قول حسّان بن ثابتٍ يرثي مُطْعِمَ بْنَ عَدِيّ أحد رُؤساء المشركينَ، وكان يُدَافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
وَلَوْ أَنَّ مَجْداً أَخْلَدَ الدَّهْرَ وَاحِداً
…
مِنَ النَّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطْعِماً
فأعاد الضمير في "مَجْدُهُ" على متأخّرِ لفظاً ورُتبة وهو "مُطْعِماً" على خلاف قانون التأليف المتّبع المشهور في العربيّة، وهذا من العيوب المخلّة بالفصاحة.
والمعنى: ولو أنّ مجداً مهما كان عظيماً جعل من يتّصف به يخلُد طَوال الدَّهر، لكان مَجْدُ مُطْعِم بن عديّ جعله خالداً.
(2)
قول زياد بن حَمَل التميميّ:
وَمَا أُصَاحِبُ مِنْ قَوْمٍ فَأَذكُرَهُمْ
…
إِلَاّ يَزِيدُهُمُو حُبَّاً إِليَّ هُمُ
أي: وما أصاحبُ من قومٍ بعْدَ قومي فأذكُر لهم قومي، إلَاّ بالَغُوا في الثناء عليهم حتّى يَزِيدُوهُمْ حُبّاً إِلَيَّ.
فلم يأتِ بالضمير المتّصل الذي هو "واو" الجماعة في: "يَزِيدُونَهُمْ" بل
فصله، وجاء به ضميراً منفصلاً في آخرِ البيت، لضرورة الشعر، وهو لفظ "هُمُ" وهذا من العيوب المخلّة بالفصاحة.
(3)
قول الفرزدق:
بِالْبَاعِثِ الْوَارِثِ الأَمْواتِ قَدْ ضَمِنَتْ
…
إِيَّاهُمُ الأَرْضُ في دَهْرِ الدَّهَاريرِ
فجاء بالضمير المنفصل "إيّاهُمْ" مع إمكان مجيء الضمير المتصل، لضرورة الشعر، وهذا من العيوب المخلّة بالفصاحة.
والمعنى: أحلف بالله الباعث الوارث الأموات قد ضَمِنَتْهم، أي: احتوتْهُمُ الأرض في دهْرِ الدّهارير.
في دَهْرِ الدَّهَارير: أي: سالف الأزمان، كلمة "الدهارير" تأتي بمعنى أوّل الدهر في الزمان الماضي "لا واحد لها من لفظها"
(4)
قول أبي الطيّب المتنبي، يمدحُ بدر بن عمّار:
خَلَتِ الْبِلَادُ مِنَ الْغَزَالَةِ لَيْلَها
…
فَأَعَاضَهَاكَ اللهُ كَيْ لَا تحْزَنَا
الغزالة: الشمس.
يقول المتنبّي لممدوحه: خَلَت البلاد من الشمس في وقْتِ لَيْلِها، فجَعَلَكَ اللهُ لهَا عِوَضاً عن الشَّمس، لكيلا تحزن البلاد على فراق ضوءِ الشمس.
قال النحاة: إذا اجتمع ضمير المخاطب والغائب فالواجبُ تقديم ضمير المخاطب على ضمير الغائب، وهذا ما نصّ عليه سيبويه.
وكان على المتنبيّ أن يقول: فأعاضَكَها" بدل "أعَاضَهَاكَ" ولكن ضرورة الشعر ألجأته إلى ما قال.
بيد أنَّ العبّاس محمّد بن يزيد المبرَّد يجيز ما فعل المتنبّي.
(5)
قول الشاعر:
انْظُرَا قَبْلَ تَلُومَانِي إِلَى
…
طَلَلٍ بَيْنَ النَّقَا والْمُنْحَنَى
فحَذَفَ "أن" النّاصبة لفعل "تَلُومَاني" وأبْقَى النّصْبَ في الفعل، إذْ حذف النون.
الطَّلَل: مابقيَ من آثار الدّيار.
النَّقَا - والْمُنْحَنَى: اسْمانِ لِمَوْضِعَيْن.
(6)
قول الشاعر:
وَمَا نُبَالِي إِذَا مَا كُنتِ جارَتَنا
…
أَلَاّ يُجَاوِرَنَا إلَاّكِ دَبَّارُ
فجاء بالضمير المتّصل بعد "إلَاّ" والأصل أن يقول: إلَاّ إِيّاك، ولكن خالف القاعدة لضرورة الشّعر.
***
ثالثاً:
شرح العيب الثالث: "التعقيد اللفظي" ويكون بجعل الكلمات في جملة الكلام مرتَّبةً على غير الترتيب الذي يقتضيه نظام الكلام وتأليفُه في اللّسان العربيّ.
كتقديم الصفة على الموصوف، والصلة على الموصول، وكالتشتيت في الروابط بين عناصر الجملة الواحدة، أو بين عناصر الْجُمَل في الكلام الواحد.
وهذا العيب أشدّ نكارةً وبعداً عن فصيح الكلام من عيب "ضَعْفِ التَّأْليف" ولا يُغْني عن ذكره وبيانه ذكْرُ عيْبِ "ضَعْفِ التَّأْليف" وَإِنْ كان الصنفان يلتقيان في كون كُلٍّ منهما يخالِفُ نظام الكلام في اللّسان العربيّ، لأنّ ضعْف التأليف قلّما يؤدي إلى ما يُسِيءُ في الدلالة، بل هو مُجرَّد خروجٍ عن المشهور من فصِيحِ كلامِ العرب.
أمّا التعقيد اللفظيُّ ففي الغالب يؤدّي إلى الإِلْغازِ، أو الغموض، أو التشويش، أو الدلالة على معانٍ غَيْرِ مرادةٍ.
والكلام الْمُعَيبُ بعَيْبِ "التعقيد اللّفظي" مرفوضٌ غَيْرُ مقبولٍ عند أهل البيان، لأنّه يُفْضِي إلى اختلال المعنى المراد واضطرابه، وذلك مُبَاينٌ للفصاحة الّتي تقومُ على الإِبانةِ وتوضيح المعاني المرادة.
قال العتّابي: "الألفاظُ أَجْسَادٌ، والْمَعَانِي أرواح، وإِنّما نَراها بَعَيْنِ القُلُوب، فَإِذا قَدَّمْتَ مِنْهَا مُؤَخَّراً، أَوْ أَخَّرْتَ مِنْهَا مُقَدَّماً، أَفْسَدْتَ الصُّورَةَ، وغَيَّرْتَ الْمَعْنَى، كَمَا لَوْ حُوِّلَ رَأْسٌ إلى مَوْضِعِ يَدٍ، أَوْ يَدٌ إلَى مَوْضِعِ رِجْلٍ، فإنَّ الْخِلْقَةَ تَتَحَوَّلُ، والْحِلْيَةَ تَتَغَيَّر".
قالوا: والفرزدق أكثر من استعمل التعقيد اللفظيّ في شعره، وكأنَّه كان يَقْصِدُ إلى ذَلِكَ، لأنّه لا يجري على لسانِ عربي إلَاّ متكلَّفاً مَصْنُوعاً، والفرزدقُ عربيٌّ أصيلٌ لا يشكو من عجمة حتّى تؤثّر عليه.
الأمثلة:
(1)
من أمثلة التعقيد اللّفظيّ قول الفرزدق، يمدحُ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خالَ هشام بن عبد الملك:
وَمَا مِثْلُهُ في النَّاسِ إلَاّ مُمَلَّكاً
…
أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهُ
أي: وما مِثْلُ إبراهِيم في النَّاسِ حيٌّ يشبهه في فضائله غير مَلِكٍ أَبُو أُمِّهِ أبوه.
أصْلُ ترتيب الكلام: وما مثله في الناس حيٌّ يقاربُه إلَاّ مملَّكاً أَبُو أُمِّهِ أَبُوه، فقَدَّمَ وأَخَّرَ في الكلمات، فألْغَزَ إلْغازاً سَيِّئاً.
(2)
وقولُ الْفَرَزْدَق أيضاً يمْدَحُ الوليد بن عبد الملك:
إِلَى مَلِكٍ مَا أُمُّهُ مِنْ مُحَارِبٍ
…
أَبُوهُ وَلَا كَانَتْ كُلَيْبٌ تُصَاهِرُهُ
يريد: إلى مَلِكٍ أَبُوه ليستْ أُمُّه مِنْ مُحَارِبٍ، فقدّم وأخَّرَ فأبْهَمَ المعنى وألْغزَ وأفْسَد.
(3)
ومن أقبح أمثلة هذا التعقيد اللفظي، قول أحدهم يصِفُ دياراً درَسَتْ وعفَتْ آثارُها:
فَأَصْبَحَتْ بَعْدَ خَطّ بَهْجَتِهَا
…
كَأَنَّ قَفَراً رُسُومَهَا قَلَماً
أي: فأصبَحَتْ بعد بَهْجَتِهَا قَفْراً، كأنَّ قَلَماً خطَّ رُسُومَها.
ويبدو أنّ هذا البيت مصنوعٌ لإِبراز قباحة التعقيد اللفظي، إذْ ليس من المعقول أن يقوله ناطق عربي له فكرٌ ما.
***
رابعاً:
شرح العيب الرابع: "التعقيد المعنوي" ويكون باستخدام لوازم فكرية بعيدة، أو خفيّةِ العلاقة، أو استخدام كنايات من الْعَسيرِ ِإدراكُ المراد منه، لعدم اقترانها بما يشير إلى دَلالاتها المرادة، فَيَنْجُم عَنْهُ خفاءُ دلالة الكلام، وصعوبَةُ التوصُّلِ إلى معرفةِ المراد منه من قِبَلِ أهل الفكر والاستنباط، أو منْ قبَل المخاطبين به إذا كان المخاطبون به دون مستَوى أهْلِ الفكر والاستنباط.
الأمثلة:
(1)
ذكروا من الأمثلة على التعقيد المعنويّ قولَ العبّاسِ بن الأحنف:
سَأَطْلُبُ بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا
…
وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدا
أي: سأطْلُبُ بُعْدَ الدّار عنكم وأتحمَّلُ آلَامَ الفراق وأصْبِرُ عليه، لأنّ عاقبة
الأَلم والصبر الفرجُ، وحين يأتي الفرجُ يكون قُرْبٌ دائم، ووصلٌ مستمرٌّ مصحوبٌ بسرور لا ينقطع، وقد أبعد في هذِه الكناية لكثرة لوازمها الذهنيّة التي لا تُدْرَكُ إلَاّ بإجْهادٍ ذهْنِيّ، على أنّ هذا المعنى حَسنٌ طرقَهُ الشعراء والأدباء وأهل الفكر، منه ما أجاب به الربيع بن خيثم، وقد صلَّى ليلةً حَتّى أصْبَح، إذْ قيل له، أتْعَبْتَ نفْسَكَ. فقال: راحَتَهَا أطْلُبُ. أي: أطلبُ راحَتَها الدائمة يوم الدين بإتْعَابِها في العبادة في الدنيا.
ونظيره في المعنى، قول أبي تَمّام:
أآلِفَةَ النّحِيبِ كَمِ افْتِرَاقٍ
…
أَلَمَّ فَكَانَ داعِيَةَ اجْتِمَاعِ
وقولُ عُرْوَة بن الورد:
تَقُولُ سُلَيْمَى: لَوْ أَقَمْتَ بِأَرْضِنَا
…
وَلَم تَدْرِ أَنِّي لِلْمُقَامِ أُطَوِّفِ
لكنّ العبّاس بن أحنف عبّر بعد ذلك بجمُود الْعَيْن كنايةً عن حالَةِ السُّرُور التي سَيَنالُها حينما يأتي الْفَرجُ بالوصْل بَعْد كثرة البكاء، في حين أنّ جُمَودَ العين يُعبَّرُ بِهِ كنايةً عن شُحِّهَا بالدُّموع عنْدَ حَاجةِ النفس إلى البكاء، ليكون في البكاء تخفيفٌ مِنْ آلَام النفس بالفراق، أو مِنْ الحزن والكَمَد والتَّعَبِ والنّصب، فالشُّحُّ بالدمع يزيد في آلام النَّفس، ولَيْس من العلامات الدّالاّت على سرورهَا حتَّى يُكنَّى به عنه، ومن هُنا رَأَوْا أنّ في كلامِهِ تعقيداً معنويّاً.
(2)
ويُمْكن أن نُمثِّل للتعقيد المعنويّ بأن نقول: فَتَح السلطانُ أَبْوابَ السُّجُون.
ونحن نقصد بهذه العبارة أنّه نَشَر جُنْدهُ لملاحقة خصومه حتى يُودِعهم في السجون، مع أنّ المتبادر المتعارف في مثل هذه العبارة، أن تُقالَ لتكونَ كنايةً عن أنّه أخرج المساجين منها بإصدار عفوٍ عامٍّ عنهم، فاعتبارُهَا كنايةً عن المعنى المضادّ لهذا المعنى تعقيدٌ معنوي.
وقِسْ على هذا.
***
فصاحة المتكلم
المتكلّم الفصيح هو من كان كلامه فصيحاً، وكان ذا ملكةٍ يقتدر بها على التعبير عن مقصوده بكلام فصيح، دون تَلَعْثُم، ولا تلكُّؤٍ، فما شاء من معنى استطاع التعبير عنه بيُسْرٍ وسُهولةٍ، وبكلام فصيح المفردات، وفصيح الْجُمَل والتّراكيب.
ومع الهبة الفطريّة لا يكون المتكلم فصيحاً في اللّسانِ العربيّ، حتّى يكون مُلمّاً باللّغة العربيّة، عالماً بقواعد نحوها وصرفها، واسع الاطلاع على مفرداتها ومعانيها الدقيقة، كثير النظر في كتب الأدب، مطّلعاً على أقوال كبار الفصحاء، له درايةٌ بأساليب العرب في شعورهم ونثرهم وأمثالهم وكناياتهم ومجازاتهم، حافظاً لطائفةٍ جَمَّةٍ من عيون كلام فصائحهم وبلغائهم من أهل النثر وأهل الشعر، وأن يمارس موهِبَتَهُ بالتطبيقات العمليّة، حتَّى يكتسب مهارة التعبير عن مقاصده وما يجول في نفسه من معانٍ بكلامٍ فصيح.
***