الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: التقديم والتأخير
(1)
مقدمات
المقدمة الأولى:
لكلّ عنصر من عناصر الجملة في اللّسان العربيّ موقع في ترتيب بناء الجملة، وفق الذي سبق بيانه في الفصل الثاني "بناء الجملة في اللّسان العربي وتقسيمها" من الباب الأوّل "مدخل إلى علْم المعاني".
وقد عرفنا أنّ الجملة في اللّسان العربي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الجملة الفعلية.
القسم الثاني: الجملة الاسمية.
وهنا نضيف: أنّ الأصل في الجملة الفعليّة تقديمُ المسند "= المحكوم به" وهو الفعل، ويُلْحَقُ به مَا يعمل عمل الفعل، وتأخير المسند إليه"= المحكوم عليه" وهو الفاعل أو ما يَنُوب منابه، ثم تأتي متعلقات الفعل أو ما يعمل عمله.
وأنّ الأصل في الجملة الاسميّة تقديم المسند إليه "= المحكوم عليه" وهو المبتدأ وما يتصل به، وتأخير المسند "= المحكوم به" وهو الخبر وما يتّصل به، وبعد ذلك تأتي متعلقات الخبر المماثلة لمتعلقات الفعل، إذا كان الخبر ممّا يعلم عمل الفعل، أو جملة مصدّرة بفعل.
وباستطاعتنا أن نحدّد معالم المراتب الطبيعيّة لعناصر الجملتين: الجملة الفعلية، والجملة الاسمية في اللّسان العربي، اتّباعاً لما نصّ عليه علماء العربيّة في بعضها، واستناداً إلى أهميّة كلّ عنصرٍ من عناصر الجملة في البيان، وأولويته في ترتيب المعاني، مع ملاحظة أذواق فصحاء وبلغاء الناطقين العرب في ترتيب عناصر جملهم التي يصوغونها في كلامهم.
وأبدأ بالمجملة الفعلية، لأنها هي الدرجة الدنيا في سلّم البيان، وأُثَنّي بالجملة الاسمية، لأنّها الدرجة العليا في سلّم البيان، إذْ هي آكد وأقوى، إذا كان الخبر يتحمّل ضمير المبتدأ، أو كان في توابعه أو ما يتّصل به ما يتحمّل ضمير المبتدأ.
وقد صرّح جمهور البلاغيين بهذا الترتيب، وعلَّلوه بأنّ الجملة الاسميّة تشتمل على الحكم بمضمون الجملة مرَّتين.
* فالمرّة الأولى تكون بإسناد الخبر إلى لفظ المبتدأ.
* والمرّة الأخرى تكون بإسناد الخبر وتوابعه وما يتصل به إلى ضمير المبتدأ المستتر في الخبر أو فيما يتصل به أو في توابعه.
فإذا قلنا: "زيدٌ قائم" أو "زيدٌ قام" ففي لفظ "قائم" وفي لفظ "قام" ضميرٌ يعود على "زيد" فيحصل بذلك إسناد القيام إلى لفظ "زيد" وإسناده إلى ضميره، قالوا: وإسنادان أقوى من إسناد واحد، إذْ هو بمثابة إعادة الجملة مرّتين على سبيل التأكيد.
أمّا الخبر الذي لا يتحمل هو ولا ما يتصل به ولا بعض توابعه ضمير المبتدأ، مثل:"القمح البرّ - القمح البرُّ الذي نصنع منه خبزاً نأكله"، فالجملة الاسمية معه بقوّة الجملة الفعلية البسيطة، وهما جميعاً في المرتبة الدنيا.
وفيما يلي جدولان فيهما بيان مراتب عناصر الجملة الفعليّة، ومراتب عناصر الجملة الاسمية على ماظهر لي، مع التمثيل لكلٍّ منهما:
الجدول الأول: الجملة الفعلية، ومراتب عناصرها في اللّسان العربي إذا اجتمعت، هذا باعتبار الأصل، مع جواز تبادل المراتب عند الحاجة.
وما لا يذكر من هذه العناصر في الجملة يحلُّ تاليه محلّه إذا وُجِد.
1 -
الفعل وما يقترن به من أدوات.
2 -
الفاعل وما يتصل به كالمضاف إليه وصلة الموصول والنعت والتوكيد والبدل والتمييز والعطف.
3 -
المفعول به الأول وما هو بمثابته من جار ومجرور وما يتصل به كما جاء فيما سبق. وقد يحتل هذه المرتبة المفعول معه، مثل: سرت والقمر.
4 -
المفعول به الثاني وما هو بمثابته
5 -
المفعول المطلق وما يتصل به كما جاء فيما سبق.
6 -
المفعول فيه وهو ظرفا الزمان والمكان وما يتصل بهما.
7 -
الحال وما يتصل به.
8 -
المفعول لأجله وما يتصل به.
المثال الأول:
ضرب - فتَى الحيّ الشجاع - اللّصَّ المتحرفَ الذي أتْعَبَ أهْلَ الحيِّ - ضرباً موجعاً بلَغَ تسعين ضربةً - لَيْلَة الخميس في سَاحة الحيّ - والقمر بازغ - جزاءً وتأديباً.
المثال الثاني:
كسَى - سيّد العشيرة السّخيُّ - زوجتَهُ الشابّة الحسناء - إِحْدَى عشرة حلّة - كسوة رائعة - ليلة الجمعة في قصر الأفراح - وهي على منصّة العروس - إكراماً لها ولأهلها.
هذان المثالان قد جرى ترتيب عناصر الجملة الطويلة فيهما على وفق الترتيب الذي جاء في الجدول الأول.
الجدول الثاني: الجملة الاسمية ومراتب عناصرها في اللّسان العربي إذا اجتمعت هذا باعتبار الأصل، مع جواز تبادل المراتب عند الحاجة.
وما لا يذكر من هذه العناصر في الجملة يحلُّ تاليه محلّه إذا وُجِد.
1 -
المبتدأ وما يتصل به كالمضاف إليه والنعت والبدل والتوكيد والعطف.
2 -
الخبر وما يتصل به كما جاء في المبتدأ.
3 -
المفعول فيه أي ظرفا الزمان والمكان وما يتصل بهما
4 -
متعلقات الخبر الأخرى وما يتصل بكلٍّ منها.
قد يتساوى في هاتين المرتبتين [[3، 4]] كلٌّ من الظرف ومتعلقات الخبر الأخرى.
5 -
الحال وما يتصل به.
6 -
المفعول لأجله وما يتصل به.
المثال الأول:
الخليفة الصالح السلطان عبد الحميد - خليفةٌ مظلوم إذْ خلَعَهُ ظُلْماً وعُدْواناً - من ولايته مَجْلِسُ المبعوثان التركي - في تركيا سنة (1908م) - بتأثير المكايد اليهوديّة والغربيّة - وهو يقاوم أعداء الإِسلام - تحقيقاً للمصالح الغربية ومصالح اليهودية العالمية السَّاعية يومئذٍ لإِقامة الدولة اليهودية في فلسطين.
المثال الثاني:
محمدٌ - رسول الله النبيّ العربي المبعوث - في مكّة سنة (610م) - برسالة عامة للناس أجمعين - والناسُ في جهالة جهلاء وضلالة عمياء - ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
هذا المثالان قد جرى ترتيب عناصر الجملة الطويلة فيها على وفق الترتيب الذي جاء في الجدول الثاني.
المقدمة الثانية:
التقديم والتأخير في الجملة الاسمية التي ركناها معرفتان
إذا صلح في الجملة الاسمية كلٌّ من ركنيها لأن يكون مبتدأً فيها ولأنّ يكون خبراً، نظراً أنَّ كُلاًّ منهما معرفة يجوز الابتداء به بمقتضى قواعد النحو، فأيّهما ينبغي أن نجعله المبتدأ والآخر الخبر؟.
لم يتعرّض النحويّون للتَّحديد، بل أجازوا أن يكون كلٌّ منهما هو المبتدأ وأن يكون الخبر، ويُعْرِبُون المقدّم مبتدأً، والمؤخّر خبراً.
لكن البلاغيّين بحثوا الأمر بحثاً فكريّاً منطقيّاً دقيقاً، ناظرين إلى حال المخاطب، وما هو الأعرف لديه من ركني الإِسناد اللّذين هما من المعارف.
فأيّ المعرفتين هو الأعرف بالنسبة إليه، وحالتُه تتطلّب مزيداً من العلم عنه يُجْعَلُ هو المبتدأ، والركن الآخر يُجْعَلُ هو الخبر، وتُرَتَّبُ له الجملة بتقديم المبتدأ وتأخير الخبر.
* فمن عرف مثلاً الإِمام الشافعيّ وجَهِلَ أنّه هو الشاعر الأول بين الفقهاء يقالُ له:
"الإِمامُ الشافعيُّ الشاعرُ الأولَ بين الفقهاء".
* ومن عرف وجود شاعر هو الشاعر الأول بين الفقهاء، واستقر ذلك في ذهنه وسمع شعره أو قرأه، وهو لا يعرف أنه هو الإِمام الشافعيُّ يُقالُ له:
"الشاعر الأول بين الفقهاء الإِمام الشافعيّ".
* ومن كان مسافراً وعلم أنّه قد وُلد له ولد، ولم يره، وسمّاه في رسالة بعثها سعيداً، ثمّ عاد من السفر وأخذ ينظر في الصغار ليعرف من هو ولده سعيد منهم، يقال له:"ولدُك سعيد هذا الذي في يده كُرَة".
* ومن قدم من سفر، ورأى صبية يلعبون، فهفا قلبه إلى واحد منهم، ولم يكن يعلم أن زوجته كانت حاملاً منه، فحمل الصبيَّ وقبّله، يقالُ له:
"هذا الصّبِيّ ولَدُك".
* جاء في الآية الثالثة من سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) خطابُ الله للناس بقوله:
{اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الآية: 3] .
فقرّر في أذهانهم أنّ الرَّبَّ الممدَّ بعطاءات الرّبوبيّة هو الذي يجب أن يتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إليهم منه.
ثم جاء في الآية (54) منها قوله:
{إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً
…
} [الآية: 54] .
فبنى في هذه الآية على ما سبَقَ أنْ قَرَّرَهُ في أَذْهَانِهِمْ حول ربّهم، بَيَان أَنَّه هو اللَّهُ الذي خلق السّماوات والأرض
…
إلخ لئلاّ تنصرف أذهانهم في تحديده إلى أربابٍ يَعْبُدونها من دون الله.
* وجاء في سورة (الشورى/ 42 مصحف/ 62 نزول) قول الله عز وجل لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم يُعلّمه كيف يخاطب الذين كفروا:
في الفقرة الأولى من هذا التعليم قال الله له: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ} .
فإذا قال لهم هذا القولَ قَرَّرَ في أذهانِهمُ اسْمَ اللهِ مُنَزِّلِ الكِتَاب، فكَانَ هذا الأسم حاضراً في أذهانهم وهو الأعرف.
وهذا يستدعي أن يُبْتَدَأ في الفقرات اللاّحقات باسم الله، وأن يُخْبَر عنه بما يُرَادُ بيانُه من صفاته.
فجاء في الفقرة الثالثة: {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} .
وجاء في الفقرة السادسة: {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا} .
***
المقدمة الثالثة:
ترتيب التوابع إذا اجتمعت
ذكر النحاة أنّ التوابع إذا اجتمعت في جملة واحدة فترتيبها كما يلي:
(1)
النعت.
(2)
عطف البيان.
(3)
التوكيد.
(4)
البدل.
(5)
عطف النسق، أي: العطف بحرف عطف.
***
المقدمة الرابعة:
الحالات التي قرّر النحاة وجوب التقديم والتأخير فيها
قرّر النحاة بمقتضى القواعد النحويّة وجوب التقديم في أربع حالات:
الحالة الأولى: يجب تقديم ما له الصدارة في الكلام العربي، أو ما هو مضاف إلى ما له الصدارة.
والأسماء التي لها الصدارة في اللسان العربي هي ما يلي:
(1)
أسماء الاستفهام.
(2)
أسماء الشرط.
(3)
"ما" التعجّبية.
(4)
"كم" الخبرية.
الحالة الثانية: يجب تقديم المحصور من المبتدأ أو الخبر.
الحالة الثالثة: يجب تقديم الخبر إذا كان المبتدأ نكرة لا يصح الابتداء بها، وقد فصل النحاة الأحوال التي يجوز فيها الابتداء بالنكرة.
الحالة الرابعة: يجب تقديم ما حقّه التأخير إذا كان فيما حقّه التقديم ضمير يعود عليه أو على شيء مما يتصل به، وذلك لئلاّ يعود الضمير على متأخّر لفظاً ورُتبة.
***
خاتمة:
ما سبق بيانه من ترتيب عناصر الجملة في اللّسان العربي هو الأصل، وقد يخالَفُ هذا الأصل للحاجة الشعرية أو لمراعاة السّجع، وقد يخالفُ هذا الأصل لدواعي بلاغية فكريّة أو جمالية سيأتي إن شاء الله الحديث عنها، وَهذا ما يعتني به علماء البلاغة في بياناتهم التفصيلية.
وقد اعتنى علماء البلاغة ببيان الدواعي البلاغية لتقديم المسند إليه في الجملة الفعلية، إذْ رُتبته فيها التأخير عن المسند، مع عرض بعض الأمثلة. وببيان الدواعي البلاغية لتقديم المسند إليه في الجملة الاسمية التي يكون خبرها أو ما يتصل به ممّا يتحمّل ضمير المبتدأ، كاسْمي الفاعل والمفعول مذكورين أو مقدّرين، مع عرض بعض الأمثلة وببيان الدواعي البلاغية لتقديم المسند في الجملة الاسمية، إذْ رتبته فيها التأخير عن المسند إليه. وببيان الدواعي البلاغية لتقديم المفعول به عن رتبته، مع عرض بعض الأمثلة.
وذكر علماء البلاغة أنّ من عَرف هذه الدواعي أمكنه أن يقيس عليها دواعي التقديم والتأخير في سائر عناصر الجملة في اللّسان العربي.
***
(2)
نظرة تحليلية عامّة إلى دواعي التقديم
لمَّا كانت الجملة الفعلية هي الدرجة الأولى الدنيا في سلّم البيان عمّا يُراد التعبير عنه في اللّسان العربي، وكان الأصل فيها بمقتضى النظام المبتع فيه أنْ يصدرّ فيها المسند وما يقترن به من أدوات "وهو الفعل" وأن يأتي بعده المسند إليه "وهو الفاعل أو ما ينوب منابه" كما ذكرت في المقدمة السابقة، كان تغيير هذا
النظام بتقديم المسند إليه على المسند غير مستحسن إلَاّ إذا اقتضته ضرورة أو حاجة كالوزن الشعري، ومقتضيات السّجع، أو دعا إليه داعٍ بلاغيّ معنوي أو جمالي في اللفظ.
وقد درج ذوق الناطق العربيّ الفصيح على أن يكنّي عمّا سبق له أن ذكره بضمير ظاهر أو مستتر، مع العلم بأنَّ الضمير المستتر ملاحظٌ ذهناً، لذا فله حكم الضمير الظاهر، ولو كان ستره وعدم ذكره أمراً واجباً في أسلوب التعبير العربيّ الفصيح.
فإذا أراد الناطق العربي الْقُحُّ الفصيح أن يخبر مثلاً بنزول المطر في موسم نزوله، ولم يجد أنّ من يخاطبه منكر، ولم يجد أنّ عليه شيئاً من علامات الإِنكار، وليس من غرض يقتضي منه أنْ يغيّر النظام الأوليَّ للكلام، فإنّه يقول عمّا حدث في الماضي:"نَزَل المطر" ويقول عمّا يجري حدوثُه مع كلامه: "يَنْزل المطر" ولا يجد داعياً لأنْ يقدّم المسند إليه فيقول: "المطر نزل" أو "المطر ينزل".
لكن إذا وجّه كلامه لمن سبق أن أَخْبَرَ بناءً على دلائل الأرصاد الجويّة بأنّ المطر لا ينزل خلال أربع وعشرين ساعة، فجاء الواقع على خلاف ما أخبر، أو أراد بشارة أهله أو قومه بنزول المطر الذي يترقبونه لحاجتهم إليه، أو أراد أن يُعَبِّر عن اهتمامه بحصول هذا الحدث، أو كان الموسم موسِماً يُسْتَغْرَبُ فيه نزول الأمطار، أو كان يُرِيدُ التعبيرَ عن فرحته، أو الثناءَ على نوع المطر النازل، أو التوطئة للثناء على الله الّذي أنزله، أو التوطئة للحثّ على شكر الله على نعمته، أو نحو ذلك من مقتضيات التقوية والتأكيد، أو مقتضيات البدء في الجملة بذكر ما هُو الأهمُّ في نفسه أو نفس المخاطب، كان من المستحسن أن يُعبِّر بأسلوب بُشعِرُ بتقوية الخبر، أو بما يلائم مقتضى الحال، ومن الأساليب المؤديّة للأغراض السابقة تقديم المسند إليه على المسند، فيقول بمقتضى سليقته في تذوّق أساليب
الكلام العربي: "المطر نَزَل" أو "المطر يَنْزِل" شاعراً بأن المخاطَبَ العربيّ الْقُحَّ يفهم من هذه الصيغة قوَّةً وَتأكيداً، أو غرضاً ما تساعد على فهمه القرينة، وهذا الغرض دعاه إلى تقديم المسند إليه على المسند.
ويظهر للباحث من تحليل عبارة "المطر نزل" أو عبارة "المطر ينزل" أنّهما تشتملان على عاملين غير موجودين في "نزل المطر" وفي "يَنْزِل المطر" وهما:
العامل الأول: تقديم لفظ المسند إليه "المطر" المشعر بأنَّه محل اهتمام المتكلّم أو المخاطب، إذ الأصل فيه التأخير، ومعلومٌ أنّ النفس تتّجه دواماً للبدْءِ بما هو محلُّ اهتمامها.
العامل الثاني: شعور الناطق العربي الْقُحّ بأن في فعل "نزل" المتأخر عن "المطر" وفي فعل "ينزل" أيضاً ضميراً مستتراً يعودُ على المطر، فهو في عبارتَيْهِ يلاحظ أنّه يُسْنِد النزول إلى المطر مرّتين، ففي الأولى يُسْنِدهُ إلى لفظ "المطر" وفي الأخرى يسنده إلى ضميره المستتر.
وقد يُحَوِّل الناطق العربيّ الْقُحُّ تعبيره إلى جملة مبتَدَؤُها وخبرها اسمان وفيها تحقيق ما يريد من قوّة، ما يريد من إشعارٍ بالْبَدْءِ بما هو محَلُّ اهتمامه، أو محلُّ اهتمام المخاطب، فيقول:"المطرُ نَازِلٌ من السماء" أو "المَطَرُ مُنَزَّلٌ من السماء" إذْ يُدرِكُ أنّ في الخبر "نَازِل - مُنزّل" ضميراً مستتراً يعود على المبتدأ، فالأول "اسم فاعل" والثاني "اسم مفعول" وهما يحملان الضمير كالفعل، ويعملان عمله.
وقد نلاحظ في استعمالات العرب الفصحاء البلغاء لتقديم المسند إليه وفق البيان السابق، أنّ التقوية المستفادة من هذا التقديم قد ترقَى إلى مستوى التخصيص والحصر، ولا سيما المسند إليه المسبوق بنفي، مثل أن يقول المتهم بسرقةِ مَنْزِلٍ
حصلت فيه سرقَةٌ فعلاً: "ما أنا سرقتُ المنزل" أو "ما أنا سارقٌ المنزل" أي: بل غيري هو الذي سرقه، فقَصَرَ نَفْي السّرقة على نفسه، ولم يَنْفِ حصول السرقة نفياً كليّاً.
يضاف إلى ما سبق أنّ ما يعتني الإِنسان بتفخيمه وتعظيمه في كلامه يحاول تقديمه على غيره في الذكر، كما يقدَّم العظماء في المجالس والمواقف.
وكذلك ما يريد توجيه العناية له في أمْرٍ من الأمور، نظير تقديم العروسين في ليلة عرسهما، وتقديم المتخرجين لتسليمهم شهاداتهم، وتقديم المتفوقين لتسليمهم جوائز تفوّقهم.
وعلى نظير ذلك نلاحظ البدء بطرق المسامع بالمسند إليه في مجال الافتخار، ولدى إرادة تعجيل المسرّة بالبشرى والوعد ونحوهما، أو تعجيل المسَاءَة بالإِنذار والوعيد ونحوهما، ولدى الرغبة في تعجيل التلَذُّذ بذكره، ولدى الإِشعار بأنه حاضر في التصوّر لا يغيب عنه، فهو يَسْبِقُ غيره إلى النُّطق به، ولدى الإِشعار بالاهتمام بمدحه أو ذمّه، إلى غير ذلك ممّا قد يلاحظه فطناء البلغاء.
وفي كلّ الأحوال ترجع مزايا التقديم إلى أمرين رئيسين:
الأمر الأول: ما يفيد زيادةً في المعنى وزيادةً في جمال اللفظ، وهذا غاية ما يعتني به البلغاء في هذا المجال.
الأمر الثاني: ما يفيد زيادةً في أحدهما فقط، ويدخل هذا أيضاً ضمن مقاصد البلغاء.
أمّا ما يتكافأ فيه التقديم والتأخير فلا يهتم له البلغاء، وأمّا ما يختلُّ به المعنى أو يفقد عنصراً من عناصر جمال اللّفظ فيتجافون عنه وينفرون منه.
***
(3)
دواعي تقديم المسند إليه
من البيان السابق نستطيع استخلاص طائفةٍ من دواعي تقديم المسند إليه على المسند حينما يكون الْمُسْنَد فعلاً، أو اسماً ممّا يحتمّل الضمير كالفعل، إذْ يعمل مثل عمله، ولو كان محذوفاً من اللفظ إلَاّ أنّه مقدّر ذهناً كمتعلّق الظرف والجار والمجرور أحياناً.
والطائفة التي نستخلصها هي ما يلي:
الداعي الأول: تقوية الحكم الذين دلّت عليه الجملة وتوكيده على ما سبق به البيان.
الداعي الثاني: إرادة إفادة اختصاص المسند بالمسند إليه، إذا كان في السّباق أو السياق أو القرائن الأخرى ما يساعد على ذلك، كالرّدّ على مدّعي خلافه، فإذا كان يدّعي انفراد غيره به، أو مُشَاركته له فيه قال له:"أَنَا فعلتُه" أي: فعلته وحدي.
الداعي الثالث: الرغبة في تعجيل المسرّة، أو تعجيل المساءة، وذلك في مواطن البشرى والوعد، ومواطن الإِنذار والوعيد.
الداعي الرابع: الإِشعارُ بأنه حاضرٌ في التصوّر لا يغيب، لذلك فهو يسبق غيره في التعبير، فيبدأ اللّسان بالنطق به.
الداعي الخامس: الرغبة في تعجيل ذكره، لما يحصل في النفس من مشاعر لذّة، إذ هو محبوبٌ لديها، ومعلومٌ أنّ المحبّ يتلذّذ بذكر اسم محبوبه.
الداعي السادس: مراعاة حال المخاطب الذي يسُرُّه البدء بالمسند إليه، لتشوّقه إلى معرفة أخباره، أو استئناسه أو تلذّذه بسماع اسمه.
الداعي السابع: الرغبة في البدء بالمسند إليه تفاخراً، في المواطن التي يكون ذكر المسند إليه فيها يُشعر بالفخر، كأن يقول من يريد الفخر من الطائيين:"حاتم الطائي جدي" وكأن يقول الشريف: "محمّد رسول الله جدي" ومنه قول سيدنا "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه في غزوة خيبر:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي الْحَيْدَرة
…
كَلَيْثِ غَابَاتٍ غَلِيظِ الْقَصَرةِ
أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ رِقَابَ الكَفَرة
…
أَكِيلُكُمْ بالسّيُفِ كَيْلَ السَّنْدَرَة
حَيْدَرَة: من أسماء الأسد، قال ابن الأعرابي: الحيدرةُ في الأُسْدِ مثل الملك في الناس.
القَصَرَة: العنق وأصْلُ الرقبة.
السَّنْدَرة: مكيالٌ كبير.
فقدم المسند إليه "أَنَا" مفاخراً في مقام يحْسُنُ فيه الفخر، لأنَّه يقاتل الكفَرَة أعداء الله.
الداعي الثامن: كون المسند إليه أمراً مستغرباً أو مفاجئاً أو نادِراً أو مخفياً، مثل:"الحيتانُ العظمى أقبلت إلى الشاطىء - الجنُّ لها مساكن في أمّ لقرى - جيش العدوّ دخل المدينة - بَقرةٌ تكلّمت - الكنْزُ ظهَرَتْ مَعَالِمُه".
الداعي التاسع: الرّغبة في الإِسراع بالتبرك، ويظهر هذا في أسماء الله الحسنى.
الداعي العاشر: الاهتمام بالممدوح بتقديم اسمه في الجملة، كقولي من قصيدة:
مُحَمَّدٌ أنت مَا أَحْلَاكَ تَسْمِيَةً
…
اللَّهُ سَمَّاكَهَا والحمد مُنْتَظَرُ
لقد حَسُن في مدح الرسول البدءُ بذكْر اسمه.
وفي تقديم لفظ الجلالة "الله" ما يشعر بالتفخيم والتعظيم، وهذا من الدواعي أيضاً كما يأتي.
الداعي الحادي عشر: إرادة التفخيم والتعظِيم، كأن يسأل سائل: ما بال أهل مدينتنا ينصبون الزّينات في الشوارع وعلى الأبنية وعلى الحافلات وكلّ السّيّارات، وبالتلقائيّة يأتيه الجواب: مَلِكُ البلاد سيزورنا قريباً.
الداعي الثاني عشر: إرادة تمكين المسْنَد، لأنّ في المسند إليه تشويقاً إليه.
إلى غير ذلك من دواعي تتفتَّقُ عنها قرائح البلغاء.
***
ملاحظتان
الملاحظة الاولى: حول كلمتي "مثل - غير".
ذكر علماء البلاغة أنّ كلمتي "مثل" و"غير" تلازمان التقديم في التراكيب البليغة، إذا أُرِيد بهما الكناية عن الشخص الذي يجري الحديث عنه. كأنْ تقول له:
* "مثْلُكَ لَا يَبْخَل - مثلُكَ لا يقصر في فعل الخير - مثلك لا يترك الصلاة المفروضة عامداً".
أي: أنت لا تفعل ذلك، دون أن تريد التعريض بغيره، مُومِئاً إلى أن من تُعَرّضُ به يتصف بالبخل، أو بالتقصير في فعل الخير، أو بترك الصلاة المفروضة عمداً.
* "غَيْرُك يُسِيءُ إلى أصدقائه - غيرك لا يُعاشر أهْلَهُ بالمعروف - غيرُكَ يمنَعُ الزكاة.
أي: أنت لا تسيءُ إلى أصدقائك - وأنت تُحْسِن معاشرة أهلك بالمعروف - وأنت لا تمنع الزكاة، دون أن تريد التعريض بغيره، مُومِئاً إلى أن من تعرّض به يسيءُ إلى أصدقائه، أو لا يعاشر أهله بالمعروف، أو يمنع الزكاة.
* ومنه قول المتنبي من قصيدة يُعَزِّي بها أبا شجاع عضد الدولة وقد ماتتْ عمّته:
مِثْلُكَ يَثْني الْحُزْنَ عَنْ صَوْبِهِ
…
وَيَسْتَرِدُّ الدَّمْعَ عَنْ غَرْبِهِ
وَلَمْ أَقُلْ "مِثْلُكَ" أَعْنِي بِهِ
…
سِوَاكَ يَا فَرْداً بِلَا مُشْبِهِ
يَثْنِي: أي: يَعْطِفُ ويَصْرِف.
عَنْ صَوْبِهِ: أي: عن قَصْدِه.
عن غَرْبِهِ: أي: عن مجراه. الْغَرْبُ: مجْرَى الدَّمْعِ وَجمعه "غُروب".
والمعنى: أنت تقدر أن تَعْطِفَ وتصرفَ الحزْنَ عن قصده حين يتوجه لنفسك وقلبك، بالحكمة والصّبْر.
وأنت تستطيع أن تسترجع بقوّة احتمالك وبالغ عزمك الدمعَ عن مجراه، وتمنعَهُ من متابعة الجري.
***
الملاحظة الثانية: على خلاف ما ذكر البلاغيون فإنني لست أرى أن يُلْحق بباب التقديم والتأخير البلاغي تقديم أداة النفي على اللفظ الدالّ على العموم، ولا تقديم اللفظ الدالّ على العموم على أداة النفي، فهذه قضية فكرية تتصل بأصل بناء الكلام في أدائه للمعاني، وهي ترجع إلى قاعدة "سَلْبِ العموم أو عُموم السلب" فإذا سُلِّط النفي على العموم لم يلزم منه نفي جميع الأفراد، لأنّ المنفيّ حنيئذٍ هو
العموم لا جميع أفراده، وإذا سُلّط العموم على المنفي بأداة النفي فإنَّه يَدُلُّ حينئذٍ على نفي جميع الأفراد.
فإذا قلنا: "ليس كان إنسان كاتباً" بتسليط السَّلْب على العموم فمعنى هذه الجملة أنّ بعض الناس غير كاتب، وهذا حكم صادق.
وإذا قلنا: "كُلُّ إنسان ليس كاتباً" بتسليط اللفظ الدال على العموم على الجملة المنفيّة "المسلوبة" فمعنى هذه الجملة أنه لا أحد في الناس هو كاتب، وهذا حكم كاذب غير صحيح.
فمعني كلٍّ من الجملتين قد أُخِذَ عقليّاً من تسليط النفي على العموم، ومن تسليط العموم على النفي، ولم يُؤْخَذْ من دواعي بلاغية، وهذا الموضوع هو من اهتمامات علماء المنطق وعلماء أصول الفقه، وقد شرحتُه في مقولةٍ خاصة في كتابي:"ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة".
انظر إلى قول القائل: "كُلُّ كبائر الإِثم لم أرتكبها" فإنّك تجد أن هذا الكلام يفيد أنه لم يرتكب شيئاً من كبائر الإِثم، ولذلك قد يعترض عليه بمثل قول القائل:"بل ارتكبْتَ بضعها".
انظر إلى قول القائل: "لم أرتكبْ كُلَّ كبائِرِ الإِثْم" فإنّك تجد أنَّ صاحب هذا الكلام لا ينفي عن نفسه أنّه ربما ارتكب بعض كبائر الإِثم، من أجل هذا لم يصحّ أن يُعتَرضَ عليه بمثل قول القائل:"بل ارتكبت بعضها" لأنّ هذا أمر لم ينفه عن نفسه، وإنما قد يُعْتَرض عليه بمثل قول القائل:"بل ارتكبْتَ جَميعَ كَبَائر الإِثم" إذا كان قد ارْتكبَهَا فِعلاً.
فقول أبي النجم:
قَدَ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيَارِ تَدَّعي
…
عَليَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أَصْنَع
يفيد أنه لم يصنع شيئاً منه، لأنّه قدّم أداة العموم على أداة السلب.
أمثلة وتطبيقات
أُقدّم أمثلة وتطبيقاتٍ قد لا تكون شاملة لكل دواعي تقديم المسند إليه على المسند الفعلي، والمسند الذي يتحمّل الضمير كالفعل، رجاءَ أن تكون هاديةً للدّارس الباحث البلاغي، فيقيسَ عليها، ويستخرج ما يراه من دواعي بلاغيّةٍ في مختلِف النُّصوص التي يدرسها من كتاب الله عز وجل، وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال البلغاء من ناثرين وشعراء ذوّاقي الأدب الرفيع، وعناصره الإِبداعيّة والجمالية:
المثال الأول: قول الله عز وجل في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن فريق من اليهود:
جملة: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حالية قُدِّمَ فيها المسند إليه على المسند الفعلي لتقوية الإِسناد فيها وَتأكيده، لأنّ مقتضى الحال يستدعي التقوية والتأكيد.
والسبب في ذلك أنّ هؤلاء كانُوا يكتبون مكتوبات يزعُمُون أنَّها ممّا أنْزَل اللهُ في الكتُب على رسُلِهِمْ، ويتخذون مع ذلك حيلةً لترويج ما كتبوه وافتروهُ على اللَّهِ
بغية أن يقبله عوامُّهم، وهي أن يَلْوُوا ألْسِنَتَهُم به لدى تلاوته، كما يفعلون لدى تلاوة ما أَنْزَل الله من كتاب، فيخلطون المدسوس الذي هو من افترائهم بالأصل الصَّحِيح، للإِيهام بأنّه من كتاب الله، وهم بذلك يقولون على اللهِ الكذب، ويعلمون ذلك من أنفسهم.
لكنّهم لا يعترفون بأنّهم يكذبون، فاقتضى واقع حالهم سوق الكلام لهم بطريقة فيها تقوية وَتأكيد، فجاء في الجملة تقديم المسند إليه على المسند الفعلي، لما في هذا التقديم من تقوية وتأكيد، كما سبق بيانه في المقدمة.
مع ما في تأخير المسند من داعٍ جمالي في اللّفظ، وهو مراعاة التناظر في رؤوس الآيات قبل الآية وبعدها.
***
المثال الثاني:
قول أبي العلاء "أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرّي" من أبيات يرثي بها أحد الفقهاء:
بَانَ أَمْرُ الإِلَهِ وَاخْتَلَفَ النَّا
…
سُ فَدَاعٍ إلى ضَلالٍ وَهَادِي
وَالَّذِي حَارَاتِ الْبَرِيَّةُ فِيهِ
…
حَيَوانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِنْ جَمَادِ
لقد صاغ جملةً اسميّةً في تابع خبرها ما يحمل ضميراً يعود على مبتدئها المسند إليه، فتمّ له تقديم المسند إليه في جملته الاسميّة التي فيها تقوية وتوكيد.
والداعي إلى هذا التقديم تمكينُ المسند في ذهن المتلقّي، لأنَّ في المسند إليه "المبتدأ" هنا تشويقاً للتعرّف على خبره، إذ جاء فيما يتّصل به أنّه شيءٌ حارتْ البريَّةُ بأمره، فالنفس تتساءل بشوق: ما هذا الذي حارت البريَّةُ فيه؟
ويأتي الجوابُ في الخبر: "حيوانٌ مستحدثٌ من جماد" والمرادُ الإِنسانُ وسائرُ ما خلق الله من ترابٍ فنفخ فيه نسمة الحياة.
***
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (الحجرات/ 49 مصحف/ 106 نزول) :
فإنّ في المسند إليه "أكرمكم" الذي هو اسم "إنَّ" تشويقاً للتعرّف على الخبر وهو "أتقاكم" فإذا جاء الخبر بعد ذلك تمكن من النّفس لأنه جاء بعد تساؤلٍ نَفْسِيٍّ عنه.
***
المثال الرابع:
قول الله عز وجل في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) :
{وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ} [الآية: 17] .
فَهُم يُوزعون: أي فهم يُجْمعون في مكان جامعٍ، ويُرَتَّبُونَ صفوفاً ويُسَوَّوْن بانتظام، للقيام بما يكلفون من أعمال، أو للاستعراض.
أصل الوزْعِ: الكفُّ والحبْسُ، والمراد كفُّهم - بترتيبهم صفوفاً منتظمةً - عن التفرق والانتشار، ومعلوم أنّ الجنود حينما يُجْمعون صفوفاً مُسوَّاة منتظمة يسْهُل توجيهُ الأوامر والنواهي لهم للتحرّك والتوقف، من قِبَلِ وليّ أمرهم القائد.
وقد جاء تقديم المسند إليه في هذه الجملة لتأكيد الخبر باعتباره أمراً غريباً، إذْ من المستغربِ أن يُجْمَعَ جَيْشٌ واحدٌ في مكان جامعٍ، ويُنَظَّمَ صفوفاً مُسَوَّاةً، وأن يكون جُنُودُ هذا الجيش من الجنّ والإِنْسِ والطير.
مع ما في تأخير المسنَدِ من داعٍ جماليٍّ في اللّفظ، وهو مراعاة التناظر في رؤوس الآيات.
***
المثال الخامس:
قول الله عز وجل في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 54 نزول) بشأن القرآن:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الآية: 9] .
يُلاحظُ في هذه الآية تقديم المسند إليه، باختيار كون الجملتين فيهما اسميّتَيْن خبرُهما يتحمّل ضميراً يعود على المسند إليه فيهما.
ويظهر لنا من هذا التقديم عدّة دواعي بلاغية:
(1)
ابتداءُ طَرْقِ الأسماع بضمير المتكلّم العظيم، لإِلقاء المهابة والإِجلال ومشاعر التعظيم والتفخيم.
(2)
تمكين الإِسناد الخبريّ فيهما وتوكيده، بالعدول عن اختيار الجملة الفعلية، إلى اختيار الجملة الإسميّة التي يتحمّل خبرها ضمير المبتدأ.
(3)
التوطئة لإِيراد مؤكّداتٍ تلائمها الجملة الاسميّة، وهي:(حرف التوكيد "إنّ" وضمير الفصل "نحن" في الجملة الأولى) و (حرف التوكيد "إنّ" واللاّم المزحلقة، وتقديم معمول الخبر "له" المفيد للتخصيص في الجملة الثانية) .
***
المثال السادس:
قول الله عز وجل في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) :
{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [الآية: 69] .
حَِنيذٍ: أي: مَشْوِي، يقال لغة: حَنَذَ العِجْلَ ونَحْوَه يَحْنِذُهُ حَنْذاً وتحْنَاذَا إذا شَوَاه، بأنْ دسّه في النار أو في حجارة مُحْمَاةٍ بالنار.
نلاحظ في هذه الآية أنّ الرسُلَ من الملائكة لما جاءوا سيدنا إبراهيم عليه
السلام ليبشّروه بغلام من زوجته "سارة" العجوز العقيم، على صور بشرٍ، لم يعرفهم في أول الأمر، وظنّهم ضيوفاً من الناس، فسلموا عليه سلاماً اتبدائياً بجملة فعليّة حُذِف فعلُها، وأبقي منها المفعول المطلق منصوباً بالفعل المحذوف، فقالوا:"سَلاماً" أي: نُسلّم عليكَ سلاماً.
فردّ إبراهيم عليه السلام تحيّتهم بأحسن منها، فجاء بجملة اسميّة هي أقوى وآكد من الجملة الفعليّة، فقال:"سَلَامٌ" بالرْفع، أي: سلامٌ عليكم، سواءٌ اعتبرنا "سلامٌ" مبتدأ، وهذا ممّا يجوز فيه الابتداء بالنكرة، لأنه من المصادر، فعبارة "عليكم" المحذوفة إيجازاً، هي جار ومجرور متعلقان بخبر محذوف هو اسم فاعلٍ من الكون العام، وهو يتحمل الضمير كالفعل، وتقديره: سلامٌ كائنٌ عليكم، وقد سبق أن عرفنا أنّ الجملة الاسمية التي يتحمل خبرها أو ما يتعلّق به ضمير المبتدأ أقوى وآكد من الجملة الفعليّة، أو اعتبرنا "سلامٌ" خبر مبتدأ محذوف تقديره: تحيتي سلام عليكم، فلفظ "سلام" مصدر يعمل عمل الفعل، فهو بقوة الجملة الفعلية.
***
المثال السابع:
لَامَ عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بني أميّة على قبولهم استخلاف عُمَرَ بن عبد العزيز، لمّا أخذ هذا الخليفة الصالح التقيّ يردّ المظالم إلى أهلِها، ويحاسب الأمويين بالعدل وهم أهله الأقربون، وقد غَلُظ عليهم ما نالهم منه، فقال عبد الرحمن:
فَقُلْ لِهشَامٍ والذين تَجَمَّعُوا
…
بِدَابِقَ: مُوتُوا لَا سَلِمْتُمْ مَدَى الدهْرِ
فأَنْتُمْ أَخَذْتُمْ حَتْفَكُمْ بِأَكُفّكُمْ
…
كَبَاحِثَةٍ عَنْ مَدْيَةٍ وَهْي لَا تَدْرِي
عَشِيَّةَ بَايَعْتُمْ إمَاماً مُخَالِفاً
…
لَهُ شَجَنٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ والْحِجْرِ
دابق: هو المكان الذي اجتمع كبار بني أُميَّة فيه، وبايعوا عمر بن عبد العزيز خليفة.
حَتْفَكم: أي: هلاككم.
كَبَاحِثَة: أي: كامْرأةٍ خَرْقَاءَ تحفِرُ الترابَ بكفّيهَا على غير هدى فقد تقع يداها على ما يقطعهما، كالْمُدْية.
عنْ مُدْية: الْمُدْيَةُ الشَّفْرة العظيمة.
له شَجَنٌ: أي: له حاجةٌ دِينيَّةٌ شاغلةٌ له في مكة والمدينة، صارفة له عن مطالب الدنيا.
نلاحظ أنَّه قدّم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله لبني أميّة أَهْلِه: "فَأَنْتُمْ أخَذْتُمْ حَتْفكُمْ بِأَكُفِّكُم" ليقوّي خبره ويؤكّده، وهو أنهم قد وقعوا في خطأ جسيم حينَ بايعوا عمر بن عبد العزيز، وهو تقيٌّ ورع، عَلائِقُ قلبه ونفسه موصولة بمهابط الوحي، وليس هو على طريقة أُسْرَته من بني أميّة مُغْرَماً بالسلطان وزينة الحياة الدنيا، وظاهرٌ أنّ مقتضى الحال يتطلب منه التقوية والتأكيد.
وقد ردّ عليه أحد ولد مروان معارضاً ومؤنِّباً بأبيات على مثل أبياته وزناً وقافية، وخاطبه بمثل طريقته من التقوية والتوكيد.
***
المثال الثامن:
قول أبي الطيب المتنبي من قصيدة يعتذر فيها لسيف الدولة عن تأخّره عليه في نظم قصيدةٍ جديدة يمدحه بها، ذاكراً فيها أنّ عُذْرَه ما نزل به من همٍّ أسقمه، وأضرم ناراً في قلبه، دون أن يكون هو الذي جلب هذا الهمّ إلى نفسه، ودون أن يكون قادراً على دفعة:
وَمَا أَنا أَسْقَمْتُ جِسْمِي به
…
وَمَا أَنَا أَضْرَمْتُ فِي الْقَلْبِ نَارَا
نلاحظ أنّه قدّم المسند إليه المسبوق بالنفي في الشطرين لإِفادة التخصيص مع التقوية والتوكيد، فلخبر فعليٌّ.
والمعنى: إنّ السّقم الذي نزل بجسمي من الهمّ، والنّارَ التي أُضْرِمَتْ في قلبي منه، لم يكونا مني حتى أُلَام على تأخّري عنك، بل وفَدا عليّ من قوّةٍ قاهرةِ لإِرادتي، فلم أجلُبْهُما ولم اسْتَطع رَدَّهُما، ولذلك قال بعده في القصيدة:
فَلا تُلْزِمَنِّي ذُنُوب الزَّمَا
…
نِ إِليَّ أَسَاءَ وَإِيَايَ ضَارا
ضارَ: مثل "ضَرَّ" يقال: ضارَهُ يَضيرُهُ ضَيْراً، وضرَّهُ يضُرُّهُ ضُرّاً وضَرّاً.
ونظيره قول المتنبّي أيضاً يمدح علي بن عامر الأنطاكي:
وَمَا أَنَا وَحْدِي قُلْتُ ذَا الشِّعْرَ كُلَّهُ
…
وَلَكِنْ فِيكَ من نَفْسِهِ شِعْرُ
فقدم المسند إليه المنفيّ الذي خبره فعلي، لإِفادة التقوية والتخصيص، أي: ما أنا المنفرد وحدي بقول هذا الشعر، ولكن أعانني عليه شعري نفسُه، لأنّ شعري أرادَ مدحَكَ كما أرَدْتُه.
قال الْعُكْبَري: وهو معنى قول الطائي:
تَغَايَرَ الشِّعْرُ فِيهِ إِذْ أَرِقْتُ لَهُ
…
حَتَّى ظَنَنْتُ قَوَافِيهِ سَتَقْتَتِلُ
تَغَايَرَ: أي: غار بعضه من بعض، أو تخالَفَ بعضه مع بعض.
***
المثال التاسع:
قول الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو على بغلته كما جاء عند البخاري ومسلم:
أَنا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ
…
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
فقدَّم المسندَ إليه في جملة اسمية خبرها يحملُ ضمير المبتدأ، مفتخراً بثباته
وقد فرَّ الناس، ومتفخراً بنبوّته وبنسبه الشريف، لأنّ المقامَ يحسُنُ فيه الفخر، وقد علمنا من دواعي تقديم المسند إليه إرَادةَ الافتخار.
***
المثال العاشر:
قول أبي تمّام:
وغَيْرِي يَأْكُلُ الْمَعْرُوفَ سُحْتاً
…
وَتَشْحَبُ عِنْدَهُ بِيَضُ الأَيَادِي
سُحْتاً: السُّحْتُ: المال الحرام، وكلُّ ما خَبُثَ وَقَبْحَ من المكاسب، كالرشوة والْغُلُول والربا.
تَشْحَبُ: يتغير لونها. يريد أنّ بِيضَ الأيادي تظلّ عنده بيضاء فهو لا يجحدها ولا يكفرها.
قدّم كلمة "غير" إذْ أراد بها الكناية عن نفسه، وقد عرفنا أن كلمتي "غير" و"مِثْلَ" تلازمان التقديم إذا أريد بهما الكناية عن الشخص المتحدَّث عنه في الأساليب العربيّة البليغة.
***
(4)
دواعي تقديم المسند إذا كان الأصل فيه التأخير
ذكر علماء البلاغة من الدواعي البلاغية لتقديم المسند إذا كان الأصل فيه التأخير أربعة أمور، ويمكن أن نضيف إليها كثيراً من الدواعي التي سبق بيانها لتقديم المسند إليه إذا كان الأصل فيه التأخير، وكذلك غيرها من الدواعي مما تتفتَّق عنه قرائح البلغاء الأذكياء.
الداعي الأوَّل: تخصيص المسند بالمسند إليه، أي: قَصْرُ المسند على
المسنَدِ إليه، فلا يكون لغيره، وسيأتي إن شاء الله في بحث القصر بيان القصر الحقيقي والقصر الإضافي.
أمثلة:
(1)
قول الله عز وجل في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) :
{وَهُوَ الله لا إلاه إِلَاّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الآية: 70] .
في هذه الآية جملتان قدّم فيهما المسند على المسند إليه، هما:
* {لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة} .
* {وَلَهُ الحكم} .
والجملتان اسميتان، والأصل فيهما تقديم المسنَدِ إليه، وقدم فيهما المسند لإِفادة التخصيص بمعنى القصر، وإليك التحليل:
المسند
…
. المسند إليه
له
…
...
…
الحمد في الأولى والآخرة
له
…
...
…
الحكم
اللام بمعنى الاختصاص، أي: اختص الله بكلّ الحمد وبكلّ الحكم، بمعنى أنّ كلَّ الحمد وكلّ الحكم مقصوران عليه، لا يتعديان إلى غيره سبحانه.
(2)
قول الله عز وجل في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) :
{لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ
…
} [الآية: 4] .
هذه جملة اسمية، والأصل فيها تقديم المسند إليه، وقُدّم فيها المسند لإِفادة التخصيص، أي: الحصر، وإليك التحليل:
المسند
…
. المسند إليه
لِلَّهِ
…
... .. الأَمْرُ
اللآم بمعنى الملك، والجار والمجرور متعلقان بخبر مقدم مقدّر، والمعنى اختصّ مِلْكُ الأمر بالله، أي: كلّ الأمر مقصور ملكه على الله سبحانه، لا يتعدّاه إلى غيره.
ونظير ذلك قول الله عز وجل في سورة (الكافرون/ 109 مصحف/ 18 نزول) :
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الآية: 6] .
(3)
قول الله عز وجل في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73) :
الشاهد: جملة {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُوا} ، {إِذَا} فجائية {هِيَ} ضمير القصة، وهو مبهم جاء تفسيره في الجملة بعده، ويؤتَى في البيان العربي بضمير القصة لتعظيم الأمر المبهم الذي سيأتي تفسيره.
{شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُوا} جملةٌ قُدِّم فيها الخبر وهو {شاخصة} على المبتدأ وهو {أَبْصَارُ الذين كَفَرُوا} لإِرادة التخصيص، على معنى تخصيص الشخوص بأبصار الذين كفروا يوم القيامة، دون غيرهم وهم أهل الإِيمان.
(4)
قول الله عز وجل في سورة (الصافات/ 37 مصحف/ 56 نزول) : بشأن عباد الله المخلَصِينَ في جنّات النعيم:
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الآيات: 45 - 47] .
غَوْل: الْغَوْلُ ما يحدثه شرب الخمر من صداع وسكر، والغول الإِهلاك، يقال: غاله غَوْلاً إذا أهلكه.
يُنْزَفُون: يَسْكَرُون - تذهبُ عقولهم، يقال لغة: شرب خمراً فأنزف، أي: سَكِر، أو ذهب عقله.
الشاهد: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} قُدّم المسندُ هو {فِيهَا} المتعلق بخبر محذوف مقدر، وأخِّر المسند إليه وهو {غَوْلٌ} لإِفادة التخصيص، أي: خمر الجنّة مخصوصة بنفي الغول عنها بخلاف خمر الدنيا، فنفي الْغَوْلِ مقصورٌ على خمر الجنة لَا يَتَعَدَّاها إلى غيرها من الخمور، وهي خمور الدنيا.
والنصوص القرآنية الشواهد على هذا الداعي كثيرة.
***
الداعي الثاني: قالوا التّنْبِيه من أوّل الامر على أنّه خبرٌ لا نعت، إذا كان تأخيره قد يوهم ابتداءً أنّه نعتٌ للمسند إليه.
ويمكن أن نصوغ هذا الداعي بأن نقول: دفع سَبْقِ التوهّم إلى أنّه نعت، بالتَّنْبِيه على أنه خبر مع بدء الجملة.
أمثلة:
(1)
قول أبي بكر النّطّاح في وصف أبي دُلف العجلي:
لَهُ هِمَمٌ لَا مُنْتَهى لِكِبَارِهَا
…
وَهِمَّتُهُ الصُّغْرَى أَجَلُّ مِنَ الدَّهْرِ
أصل الكلام: "هِمَمٌ لَهُ لَا مُنْتَهَى لِكبَارِها" لكنّ هذه الصيغة توهم أنّ "لَهُ" صفة لهمم، لأنّ النكرة تستدعي النعت أكثر ممّا تستدعي الخبر، وهو يريد أن يُثبت لممدوحه همماً لا منتهى لكبارها، ودفعاً للتوهم الذي كان يمكن أن يحدثُ قدَّم المسند وهو "له" على المسند إليه وهو "هِمَمٌ" لا منتهى لكبارِها".
وجاء في شعره فيه بعد هذا البيت قوله:
لَهُ رَاحَةٌ لوْ أنَّ مِعْشَارَ جُودِها
…
عَلَى الْبَرِّ كَانَ البَرُّ أَنْدَى مِنَ الْبَحْر
فقدّم المسند وهو "له" على المسند إليه وهو "راحةٌ" لأنّ "راحة" نكرة غير موصوفة، فلا يجوز نحويّاً الابتداء بها، فوجب تقديم المسند على المسند إليه وفق القواعد النحويّة، لا بمقتضى داعٍ بلاغي.
(2)
قول الله عز وجل في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) : بشأن عذاب الذين كفروا يوم القيامة.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الآية: 36] .
{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [الآية: 37] .
{وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الآية: 41] .
جاء في هذه النصوص تقديم المسند وهو {لَهُمْ} على المسند إليه وهو {عَذابٌ أليم - عذابٌ مقيم - عذاب عَظيمٌ} لئلا يسبق إلى التوهّم أن المسند قد سيق على سبيل النعت للمسند إليه، وأن الخبر لم يأتِ بَعْدُ، مع ما في هذا التقديم من مراعاة داعٍ جمالي في اللفظ، اقتضته رؤوس الآيات.
***
الداعي الثالث: أن يكون في المسند ما يدعو إلى التفاؤل بالخير أو التشاؤم من الشرّ، ويريد موجّه القول المبادرة بما يحدثُ في نفس المتلقّي من التفاؤل أو التشاؤم.
كأن تقول لمن تريد أن يحسَّ بالتفاؤل: مع أذان الفجر أو عند شروق الشمس وِلادَة ابنك.
وكأن تقول لمن تريد إثارة تشاؤمه وقد سأل متى يكون زواجه: حين تصيح الْبُومةُ زَواجُك.
ومن إرادة الإِشعار بالتفاؤل، قول الشاعر:
سَعِدَتْ بغُرَّةِ وَجْهِكَ الأَيَّامُ
…
وتَزَيَّنَتْ بِلقَائِكَ الأَعْوَامُ
***
الداعي الرابع: إرادة التشويق إلى ذكر المسند إليه، ويكثرُ هذا الداعي في المدح والوعظ.
* فمن أمثلته في المدح قول محمد بن وهب يمدح المعتصم:
ثَلَاثَةٌ تُشْرِقُ الدُّنْيَا بِبَهْجَتِهَا
…
شَمْسُ الضُّحَى وَأَبُو إِسْحَاقَ والْقَمَرُ
ومن أمثلته في الوعظ، قول ابي العلاء المعرّي:
وَكَالنَّارِ الْحَيَاةُ فَمِنْ رَمَادٍ
…
أَوَاخِرُهَا وَأَوَّلُهَا دُخَانُ
* ومن أمثلته قول الشاعر:
ثلاثَةٌ لَيْسَ لَهَا إِيَابُ
…
الْوَقْتُ والْجَمَالُ والشَّبَابُ
***
(5)
دواعي تقديم متعلقات الفعل عن مراتبها
ذكر عُلَمَاءُ البلاغة طائفةً من الدواعي البلاغية لتقديم ما هو من متعلقات الفعل عن مرتبته، ويمكن أنْ تضاف إليه طائفةٌ أُخرى مما سبق عرضه في تقديم المسند إليه، وتقديم المسند، وطائفةٌ أخرى ممّا تتفق عنه قرائح البلغاء والفطناء.
يُقْصَدُ من متعلقات الفعل المفعولُ به، والجارُ والمجرور، والظّرف، والمفعولُ المطلق، والمفعولُ معه، والمفعولُ لأجله، والحالُ، والتمييزُ في أحوال قليلة ونادرة.
الداعي الأوّل: إرادة التخصيص، وهو قَصْرُ الحكم (الناتج عن إسناد المسند
إلى المسنَدِ إلَيْه) على المقدَّم من مُتَعَلّقات الفعل على الفعل أو ما في معناه، ممّا يعمل عمله، وتُسَاعد القرائن على اكتشاف إرادة التخصيص.
أمثلة:
(1)
قول الله عز وجل في سورة (الفاتحة/ 1 مصحف/ 5 نزول) :
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الآية: 5] .
إيَّاكَ: في الجملة الأولى مفعول به مقدّم على فعله وهو {نَعْبُدُ} .
وإيَّاكَ: في الجملة الثانية مفعول به مقدّم على فعله وهو {نَسْتَعِينُ} .
وقد أفاد هذا التقديم تخصيصَ وحَصْر عبادة العابد الذي يتلو هذه الآية باللَّهِ عز وجل، المخاطبِ بضمير الخطاب {إِيَّاكَ} وتخصيص وحصْر استعانته به إذا استعان.
(2)
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
الشاهد في جُمْلَتَي {وَإِيَّايَ فارهبون} [الآية: 40] و {وَإِيَّايَ فاتقون} [الآية: 41] ففيهما تقديمُ المفعولِ بِه على فعله، وقد أفادَ هذا التقديم التخصيصَ والحصْرَ، والمعنى: لا ترهبوا غيري من الشركاء، ولا تتَّقُوا غيري من الشركاء.
(3)
قولي في مدح الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:
إِلَيْهِ مَدِيحاً سُقْتُ غُرَّ قَصَائِدِي
…
فَعَنْهُ عَرَفْتُ النُّورَ في ظُلُمَاتِي
وَفي حُبِّهِ السَّامِي أَجُودُ بمُهْجَتِي
…
فَذَلِكَ فَرْضٌ مِثْلُ فَرْضِ صَلاتِي
إذَا كَانَ ذُو الْعَرْشِ اصْطَفَاهُ عَلَى الْوَرَى
…
فحُبِّي لَهُ مِنْ مُسْعِدَاتِ حَيَاتِي
إليه مَدِيحاً: معمول لفعل (سُقْتُ) مقدَّمٌ عليه لإِرادة التخصيص.
فَعَنْهُ: معمول لفعل (عَرَفْتُ) مقدّم عليه لإرادة التخصيص.
وفِي حُبِّهِ السَّامِي: معمول لفعل (أجود) مقدَّمٌ عليه لإِرادة التخصيص من دون سائر عباد الله.
(4)
قول الله عز وجل في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) : خطاباً لرسول محمد صلى الله عليه وسلم:
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إلاه إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} [الآية: 129] .
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ: أي: أخُصُّهُ وَحْدَهُ بِتَوَكُّلي، وقَدْ فُهِمَ هذا من تقديم المعمول على عامله.
ونظير هذا كثير في القرآن مثل: {وإِلَيْكَ أنَبْنَا - إنّا إلى ربّنَا رَاغِبُونَ - فَإِلَيْنَا يُرْجَعُون - ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - إِلَيْه يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ - وإلى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ -} .
(5)
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) : خطاباً للمؤمنين أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً
…
} [الآية: 143] .
لِتكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس: جاء في هذه العبارة تأخير المعمول {عَلَى الناس} على عامله "شُهداء" وفق أصل الترتيب، إذ لا يُوجَدُ داعٍ للتقديمِ، إذْ أتباع محمّد صلى الله عليه وسلم مكلّفون أن يُبَلِّغوا رسالة الله للناس، ليكونوا يوم يوم القيامة شهداء عليهم بهذا التبليغ، وليست شهادتهم بعد تبليغهم خاصة بناس دون ناس، لأنّ الخطاب
لعموم المؤمنين، والمطلوب تبليغهم عموم غير المؤمنين، لا خصوص فريق منهم.
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً: وجاء في هذه العبارة تقديم المعمول {عَلَيْكُمْ} وعلى عامله {شَهِيداً} على خلاف أصل الترتيب، لوجود داعي بلاغيّ لهذا التقديم، وهو أنّ بلاغَ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم بلاغٌ مخصوص بالْقَرنِ الأَوَّل الَّذِينَ بلَّغَهُمْ مُشَافهة من أُمَّتِه، أمَّا الَّذِين جاءوا من بعدهم فقد بلَّغهم المبلِّغُون من أهل القرن الأول، وهكذا تسلْسُلاً قَرْناً بعْدَ قرن.
فقد تنبّه إلى الفرق بين العبارتين في هذه الآية وإلى الداعي البلاغي الذي ذكرتُه "الزمخشريُّ" في كشّافه، وقد أحسن.
(6)
قول الله عز وجل في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) في بيان ما خاطب به المبشر من الملائكة زكريّا عليه السلام بغلام اسمه يحيى، بعد إن أظهر له تعجُّبه من أن يأتيه غلام في حالة كون امرأته عاقراً وكونه قد بلغ من الكبر عتِيّاً:
{قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [الآية: 9] .
هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ: في هذه الجملة تقديم المعمول {عَلَيَّ} على عامله {هَيِّنٌ} لإفادة أنَّ ما يراه أمْراً صعباً في مقاييس القدرات البشرية، هو بالنسبة إلى الله على وجه الخصوص هيِّنٌ، فاقتضى حال زكريَّا عليه السلام وتعَجُّبه وتساؤله أن يُنَبَّهَ على أنَّ ما تعجَّبَ منه هو ممّا اختصَّ الله بِأنَّه هَيِّنٌ عليه.
ملاحظة:
إذا كان العامل منفيّاً وقدّم عليه المعمول كانت دلالة التقديم على التخصيص والحصر أمراً لازماً، فلا يَجُوز أنْ يُتْبَعَ الْكَلَامُ بما يَنْقُضُ هذا الحصر، فلا يُقالُ نحو:"ما زَيْداً ضَرَبْتُ ولَا غَيْرَه" لأنّ عبارة "ما زيداً ضربتُ" تدلُّ على تخصيص
زيد بعدم ضربه، لكنَّها تُفِيدُ أَنَّه قَدْ ضَرَبَ غيره، فتأتي عبارة "وَلَا غَيْرَه" ناقضةً للدّلالة التي أفادها التخصيص.
***
الداعي الثاني: الاهتمام بشأن المقدّم أو الإِشعار بالاهتمام به كأنْ تُوصِيَ مَنْ طلَبَ منْكَ أنْ تنصحه فتقول له:
"بِوالدَيْكَ كُنْ بَرّاً، ثُمَّ كُنْ بَرّاً بالأَقْرَبَيْن والأرحام".
والْفِقْهَ احْرِصْ على تَعَلُّمِهِ أَوَّلاً ثُمَّ تعلَّمْ سائرَ علوم الدين وما يَخْدُمُها من العلوم الّتِي بها تُفْهَمُ النُّصُوصُ وتُسْتَنْبَطُ الأَحْكام.
وتَقْوَى اللَّهِ الْزَمْ في أَمْرِكَ كُلَّه، ثُمّ تَزَوْدْ فوق ذلك من الصالحات.
والشِّركَ احْذَرْ أَنْ يُخَالِطَ نِيَّتَكَ في أَعْمالِكَ.
في هذه الوصايا قُدِّم المعمولُ على عامله لتوجيه الاهتمام وبالغ العناية، ولم يُقدَّم لإِفادة التخصيص والحصر.
* ومن الأمثلة قول الله عز وجل في سورة (السجدة/ 32 مصحف/ 75 نزول) :
قوله تعالى: {بِآيَاتِنَا} معمولٌ مقدَّمٌ على عامله وهو {يُوقِنُونَ} وَقُدِّمَ لِلإِشْعَارِ بأَهَمّيَةِ آيَاتِ اللهِ في حيَاةِ البْشَر، وبقيمَتِها العظيمة في رحلة امتحانهم، فالإِيقانُ بها هو الذي يُصَحِّحُ مسيرتهم ويُقوّمُ سُلوكهم، وليس الغرض حصر الإِيقان بها، فأركان الإِيمان التي يجب الإِيقان بها لا تقتصر على آيَات الله.
مع ما في تأخير {يُوقِنُونَ} من مراعاة عنصر جماليٍّ تستدعيه رؤوس الآيات.
***
الداعي الثالث: إرادة ردّ الخطأ من التعيين أو الاشتراك، جواباً أو بياناً لمن ذَكَرَ أو ادَّعى أو اعتقد خلاف ذلك.
فمن أمثلة ردّ الخطأ في التعيين:
دخل "خالد بن سعيد" سوق بيع الأنعام، فاشترى جملاً ليحجّ عليه، وأخذ خطامه، وجرَّه وراءه، فعدا عليه اللّصوص ضمن الزّحام وهو لا يشعر، فقطعوا خطام الجمل، ووصلوه برأس حمار، ومشى الشاري غافلاً، ثمَّ التفت فرأى أنّه يجرُّ وراءه حماراً، فصاح أيْنَ جملي، فقال له من في السوق وهم يعلمون حِيَل اللّصوص في سوقهم: أمَا اشتريتَ حماراً؟ فردّ عليهم بقوله: جملاً اشتريتُ، جملاً اشتريت، وأبدله اللُّصوص بحمار.
أي: لم أشتر حماراً وإنَّما اشتريتُ جملاً، فَردّ قولهم في تعيين ما اشترى إلى الصواب، بأسلوب تقديم المعمول على عامله.
ومن أمثلة ردّ ادّعاء الاشتراك:
* اشترى "عبد الرحمن" حصاناً وبقرة وثوراً لمزرعته، من سوق البقر والخيل، وسلّمه البائع البقرة وتشاغل، ثمّ ادَّعَى أنَّه سلّمه الحصانَ والثور.
فقال "عبد الرحمن": بقرةً استلمتُ منْكَ، أي: لم أسْتَلِمْ بَعْدُ الحصان والثورَ وإنّما استلمتُ البقرة فقط.
* وقال الزوج لزوجته في خصومة بينهما: قدَّمْتُ لَكِ ليْلَةَ الْعُرْسِ عقداً وَسِوَارَيْنِ بيَدَيَّ هَاتين.
فردّت عليه بقولها: "عِقْداً بيَدِكَ قَدَّمْتَ لي" أي: لم تقدّم لي سوارَيْن، ولم تَسْتَعْمِلْ يَدَيْك الاثنتين، بل استعملْتَ يداً واحدة.
وقال لها: تَسَلَّمْتُكِ يَوْمَ الْعُرْسِ مِنْ أُمِّكِ وَأَبِيكِ.
فردّت عليه بقولها: "من أُمِيّ تَسَلَّمْتَنِي" أي: لَمْ يُشَارِكْ أبي في هذا الأمر.
* وقال المتفاخر بقمع الْجُنَاةِ من قُطّاعِ الطَّريق: قَطَّعْتُ رؤُوس عصابة الجناة.
فردّ عليه أحد حاضري المعركة: "رأسَ جَانٍ قَطَعْتَ" أي: لم تقطع غيره.
* وقال الرفيق لرفيقه: صحبتك في زيارتي لمكة وفي زيارتي لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فردّ عليه بقوله: "في زيارتي لمكة صحبتني" أي: لم نتصاحب في الزيارة لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
***
الداعي الرابع: التنبيه على أنّ المقدّم هو مناط الإِنكار أو الاستغراب أو الاستعظام أو لفت النظر أو نحو ذلك.
أمثلة:
* أراد المربّي أن ينكر سلوكاً عابَةُ على تلميذه، وأن يبادِرَه بتنبيهه عليه، فقال له:
"رِجْلَكَ تَمُدُّ إلَى وجْهِي دون احترام، وصَوْتَكَ تَرْفع فِي مَجْلِسي بَعْدَ طُول تَأْديبي لك، وتَعْليمي إيَّاك.
فقدم المعمول على عامله في الجملتين لتنبيهه عَلى مناط الإِنكار.
* وقال أبو العلاء المعرّي منكراً على من زعم أنّه يُصَدِّق الواشي، ويُخيّب السائل:
أَعِنْدِي وقَدْ مَارَسْتُ كُلَّ خَفِيَّةٍ
…
يُصَدَّقُ وَاشٍ أَوْ يُخَيَّبُ سَائِلُ
فقدّم الظّرف "عندي" على عامله "يُصَدَّق" وما عطف عليه، ليدُلَّ على مناط إنكاره.
* وعبّر المتفرج في مجمّع غرائب الألعاب الرياضيّة "السّيرك" عن استغرابه فقال مقدّماً المعمول على عامله:
"عَشَرَةَ أشخَاص حمَلَ اللَاّعبُ على خشبة فوق رَاْسِهِ".
* وعبَّرَ مُعْظَّم خلق الله عن ظواهر من آيات الله في كونه فقال:
"السَّمَاءَ رَفَعَ بغير عَمَد، والرّيحَ سخَّر في أمور كثيرة عظيمة لا تُحَدّ، ونَسَمَةَ الحياة نفخ في مُصَوّرات من الطين، فكانت كائنات حيَّة عجباً".
فقدم المعمولات "السماء - والريح - ونسمة الحياة" للإِشعار بمناط التعظيم.
* وأراد المحادث أن يلفت نظر محدِّثه إلى مكان نظّارة عينيه التي يبحث عنها، فقال له:
"إلى رَأْسِكَ مُدَّ يَدَكَ تَجِدْها".
فقدم المعمول على عامله للمسارعة بلفت النظر.
* واستعظم العالم الباحث المطلّع على المؤلفات كتاباً ألَّفه أحد العلماء المعاصرين له، فأراد التنبيه على ما استعظم فقال:
"مَوْسُوعةً شاملةً أَلَّفَ فلانٌ في علم كذا".
فقدم المعمول على عامله.
وهكذا إلى أمثله كثيرة مناظرة.
الداعي الخامس: إرادة المبادرة إلى التلذذ بذكر اسم المحبوب في الجملة، مثل أن يقول العاشق بأن معشوقته هند:
هِنداً عَشِقْتُ وإنْسَاناً بِمُقْلَتِها
…
قَلْبِي يُدَاعِبُهُ بالضَّمِّ والْقُبَلِ
***
الداعي السادس: إرادة المبادرة إلى التبرك بذكر اسم الرّبِّ في الدعاء، مثل أن يقول الداعي:
رَبِّي دَعَوْتُ وأَرْجُو فَيْضَ رَحْمَتِهِ
…
وأَنْ أَنَالَ لَدَيْهِ مُنْتَهَى أَمَلِي
***
الداعي السابع: إرادة التهويل، أو التخويف وإلقاء الرُّعب، إذا كان المقدَّم فيه ما يخيفُ ويُرْعب، مثل:
"بالْحَدِيد المحميّ قَيِّدُوه،
…
وإلى بِئرِ التعذيب خُذُوه"
الداعي الثامن: مراعاة النسق الجمالي اللفظي، في قوافي الشعر، وسجْعِ النثر، وفواصلِ رؤوس الآيات في القرآن.
والأمثلةُ على هذا الداعي كثيرة منها:
قول الله عز وجل في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول) : بشأن الكافر الذي يؤتَى كتابه بشماله يوم القيامة:
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بالله العظيم} [الآيات: 30 - 33] .
جاء في هذا النص تقديم المعمول مرّتين، لمراعاة الجمال في رؤوسِ الآيات في السورة، مع ما في الموطنين من البدء بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين المجرمين.
***
(6)
دواعي تقديم بعض معمولات الفعل على بعض في الجملة ولو تكافأت مرابتها
من شأن البليغ دائماً أن يتصرف في رصف وترتيب عناصر جملته التي يُنشِئُها
تصرُفاً حكيماً وفنيّاً، يراعي فيه جوانب بلاغية معنوية، أو جوانب جمالية معنويّة أو لفظية.
وعمله في هذا كمنظم العقود حينما يرصف حبات عقده ويرتبها ترتيباً يحقق فيه جوانب ذوقية جمالية، وجوانب جوهرية في عناصر الحبات واختلاف أصولها وقيمها وألوانها.
فإذا كان لدى البليغ معنىً يريد الدلالة عليه ولو على سبيل الإِشارة، وهذا المعنى يمكن استفادته من تقديم عنصر من عناصر جملته على عنصر آخر من عناصرها فَعَل ذلك، ما لم يكن ممتنعاً في قواعد اللّغة العربيّة وضوابطها، حتّى العناصر المتكافئة في المرتبة كالنعوت فيما بينها، وكالمعطوفات المتعدّدات التي تعطف بالواو التي هي لمطلق الجمع، ولا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً، وكألفاظ التوكيد المعنوي، فإنّه يهتمُّ بأن يقدّم ويؤخِّر بُرؤىً بلاغية أدبية وفكريَّة متى انقدحت لديه فكرة مناسبة، يمكن الدلال عليها بأسلوب التقديم والتأخير.
وفي مجال ترتيب عناصر الْجُمَل في الكلام تظهر براعة كبار البلغاء والأدباء، وتتفاوت مراتبهم، وفوق كلّ القمم ترتقي جوانب الإِعجاز القرآني في رصف عناصر الجملة، وترتيبها، ورصف عناصر الجمل وترتيبها، كما ترتقي في كلّ مجال فكريّ وبلاغي.
ومع احتمال أن تتوارد هنا دواعي كثيرة من الدواعي التي سبق بيانها في دواعي تقديم المسند إليه، ودواعي تقديم المسند، ودواعي تقديم متعلقات الفعل، وأن يُقاس على أمثلتها، فيحسن أن نورد هنا بعض الدواعي، مع بعض الأمثلة.
وعلى دارس النصّ البليغ أن يبحث ليكتشف ما دَعا منشىء الكلام إلى أن يقدّم وأن يؤخّر. ولا سيما حينما يأتي الترتيب على خلاف الأصل، أمّا إذا جاء الترتيب على وفق الأصل فيحسنُ أن لا يتعب نفسه بالبحث عن العلة، إلَاّ أن
يكتشف عَرَضاً داعياً مناسباً، فعندئذٍ يمكن أن يجعله عاملاً مرجّحاً لإِبقاء الشيء على أصله.
فمن الدواعي هنا ما يلي:
الداعي الأول: أن يكون ذكر المقدّم أهمّ في نظر منشىء الكلام لغايةٍ ما يَرْمي إليها.
***
الداعي الثاني: مراعاة الترتيب الطبيعي في المعاني، كأن يقدّم في المتعاطفات بالواو اللفظ الدّال على الإِيمان على اللفظ الدالّ على الإِسلام، لأنّ الإِيمان هو الأساس فلا يصح إسلام ما لم يكن قائماً عليه، وكأن يقدّم اللّفظ الدّال على التقوى على اللّفظ الدّالّ على البرّ، لأنّ الارتقاء إلى مرتبة البرّ لا يكون إلَاّ بعد استكمال حقوق مرتبة التقوى، وقد يعكس الأمر لغرض الإِشعار بأفضليّة المقدّم وأنّ مرتبته أعلَى، وبغية التشجيع على العمل به، كتقديم اللّفظ الدالّ على البرّ على اللفظ الدالّ على التقوى.
***
الداعي الثالث: إرادة الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، أو العكس، أو إرادة البدء بالظاهر، فما يتصل به من الأسباب، وهكذا تسَلْسُلاً إلى الأسباب الباطنة الخفيّة، حتى السبب الأوّل، أو البدء بما هو بمنزلة الأساس فما يتصل به. وهكذا تدرّجاً إلى الأعلى فالأعلى حتى القمة.
ومن أمثلة التدرج من الأدنى إلى الأعلى قول الله عز وجل في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) مبيناً مراتب ودرجات المؤمنين:
والأغراض الداعية إلى ذلك كثيرة لا تحصر، فمنها ما هو بَيَانٌ لفكرةٍ ومنها ما هو الأفضل في التعليم، ومنها ما يُحقّقُ فوائد تربوية ومنها جماليٌّ فنيٌّ، إلى غير ذلك.
ومن أساليب العرب أن يَبْدؤوا في المدح بالصفة الدّنيا، ثمّ يرتقوا إلى الأعلى فالأعلى، وأن يبدؤوا في الذّم بالصفة الأَخَسّ، ثم يذكروا الأخفّ فالأخف.
وجاء في تعبيرات القرآن المجيد تقديم الأشياء الصغيرة على الكبيرة، للدلالة على تأكيد الشمول، من خلال الإِشعار بالاهتمام بالصغير، وأنّه ليس مما يُهْمَل ويُتَسامح بعدم العناية به، كما يقول البائع هذا بخمسةٍ وألف، فيقول الراغب في الشراء، ألا تبيع بألف، فيقول له: الخمسة قبل الألف.
ومنه قول الله عز وجل في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) :
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [الآيات: 52 - 53] .
فدلّ تقديم "صَغير" على أنّ الشُّمُول في كتابةِ كلّ الأفعال متحقق دون استثناء ما يراه الناس صغيراً ومن المحتقرات.
وجاء في تعبيرات القرآن البدء بما يقَعُ في مُدْركات الناس من الأشياء الصغيرة، والعطف عليها بما هو أصغر منها، فما هو أكبر منها، فقال الله عز وجل في سورة (يونس/ 10 مصحف/ 51 نزول) :
إنّ المخاطبين من جماهير الناس لا يعرفون أصغر من الذّرَة، فبدأ القرآن بها، وأبان لهم بالعطف عليها أنه يوجد ما هو أصغر منها، وهنا ينطلق الذهن في المصغرات إلى مقدار يستحيل تقسيمه ذهناً، وعطف عليه بعد ذلك ما هو أكبر،
وينطلق الذهن إلى الأشياء الكبيرة العظيمة التي لا يستطيع التصوّر الإِحاطة بها، فشمل النصّ كُلَّ شيْءٍ.
وجاء في القرآن البدء بمَنْ يحتل الدرجة العليا، فمن يحتل الدرجة التي دونها، فمن يحتل الدرجة التالية، ومنه قول الله عز وجل في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) :
{لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة
…
} [الآية: 117] .
فبدأ بالنبيّ، وعطفَ عليه المهاجرين، وعطفَ عليهم الأنصار الذين اتّبعوا الرسول في ساعة العُسْرَة، مراعاةً لأفضليات المراتب والدرجات.
ونلاحظ في سورة (التوبة) أيضاً ترتيباً روعي فيه الترتيب الواقعِيّ في الأَحْدَاث، وهو قول الله عز وجل فيها بشأن الذين خرجوا مع الرسول لغزوة تبوك:
إنّ الذين خرجوا إلى غزوة تبوك وهذا صالح للتعميم في معظم الغزوات، أوّل ما أصابهم الظّمأ بسبب نفاد الماء، وانعدام مصادر الماء في طريقهم، وبعد ذلك أصابهم النَّصَبُ، وهو التعبَ، فالرحلة في أرض صحراء، وفي حرّ شديد، وبعد ذلك انتهت أزوادهم فنزلت بهم المخمصة، أي: المجاعة، وبعد اقترابهم من تبوك وَطِئُو موطئاً يغيظ الكفّار، وبعد ذلك نالُوا من عدوهم عند تبوك نيلاً فرح به الغزاة الخارجون مع الرسول من أهل الإِيمان والصدق.
فجاء الترتيب في الآية على وفق الترتيب في الأحداث، وهذا من دقّة الأداء البياني.
وقد يلاحظ في الترتيب تدرّج أحوال النفس، وهذا من مراعاة الترتيب في الواقع، ومنه ما جاء في سورة (عبس/ 80 مصحف/ 24 نزول) في وصف حالة الإِنسان يوم القيامة.
{يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [الآيات: 34 - 37] .
فجاء الترتيبُ وفق ترتيب أحوال النفس، إذ يتخلَّى الإِنسان عند الضرورة عن الحبيب، فعن الأحبّ فعن الأشدّ حبّاً له، وأحبّ الناس إلى قلب الإِنسان بنوه، ودون ذلك صاحبته الحبيبة، ودونها أبواه، ودونهما أخوة.
فعلى دارس النصوص البليغة أن يُمْعِن النظر، ويطيل التأمُّل والتفكير، حتَّى يكتشف ما فيها من دواعي بلاغيّةٍ وفكرية دعته إلى ترتيب عناصر كلّ جملة، وترتيب الجمل فيها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وانظر في موضوع ترتيب الجمل ما جاء في "الصورة السادسة" من قسم "صور من أدب القرآن الرفيع" في كتابي "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع".
***
الداعي الرابع: التخلّص مما يُوهم معنىً غير مرادٍ في دلالات الكلام، ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) :
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ
…
} [الآية: 28] .
عبارة {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} نعت لـ {رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} .
وعبارة {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} نعت أيضاً لـ {رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} .
وهذان النعتان متكافئات في الرتبة، فليس أحدهما أولى بالتقديم من
الآخر، لكن تقديم عبارة {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} على عبارة {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} يوهم أنّ الجار والمجرور في هذه العبارة متعلقان بفعل "يكتم" مع أنهما متعلقان بمحذوف هو صفة لـ {رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} فرفع تقديمها هذا الإِيهام، وجاء البيان سليماً واضحاً.
إلى غير ذلك من دواعي لا تخفى على الدارس المتتبِّع اللّبيب.
***