الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) طُرُقُ القصر
يُسْتفادُ القصر بعدة طرق:
الطريق الأول: أن يكون بعبارة تدلُّ عليه بمادَّتها اللّغويَّة صراحةً، مثل:"دخولُ مكةَ مقصورٌ على المسلمين - غرفة القصر العليا خاصّةٌ بسيِّد القْصَر - سبق الفارس خالدٌ جميعَ الْمُتَسابقين - دخل الزوج إلى مخدع العروس وحده - سدُّ الصّين أعظم سَدٍّ في الأرْض وأطولُه - أبو حنيفة مُنْفَرِدٌ من بَيْنِ المجتهدين في باب الاعتماد على الرأي الثاقب".
***
الطريق الثاني: أَنْ يكون بدليلٍ خارجٍ عن النصّ، كدليل عقلي، أو دليل حِسِّي، أو دليل تجريبي، أو دليل من القرائن الذّهنيَّةِ أو الحاليّة، مثل:
"فلانٌ رئيسُ الجمهوريّة - اللهُ رَبُّ السّماوات والأرض وهو على كُلّّ شيءٍ قدير - تبثُّ الشَّمْس ضياءها على الأرض فَتُمِدُّها بالحرارة -.
لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الأَذَى
…
حتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوانِبِهِ الدَّمُ
أَرُوِني أُمَّةً بَلَغَتْ مُنَاهَا
…
بَغَيْرِ الْعِلْمِ أَوْ حَدِّ الْيَمَانِيّ
لكِنَّ الْقَصْرَ بواحدٍ من هذين الطريقين لا يدخل في اهتمامات علماء البلاغة تفصيلاً وتقسيماً وشرحاً، إلَاّ أنّ القصر المستفاد بواحد منهما - فيما أرى - مشمولٌ بكلّ أحكام القصر وتفصيلاته من جهة المعنى، والسبب في أنَّ البلاغيين لم يوجّهوا لهما اهتماماتهم، أنّهما طريقان يتعذَّر حَصْر عناصرهما أو يَعْسُر.
واهتم البلاغيون بتحديد وشرح وتقسيم وتفصيل الطريقين الآتيين "الثالث والرابع" فهو القصر الاصطلاحي المدوّن عند علماء البلاغة، والذي وجهوا له عنايتهم وفيما يلي شرحهما:
***
الطريق الثالث: أن يكون القصر ببعص الأدوات التي تدلُّ عليه بالوضع اللّغوي، وهي: النفي والاستثناء - وكلمتا "إنَّما" و"أَنَّما" - والعطف بالحروف التالية: "لا - بل - لكن".
وفيما يلي الشرح:
أولاً: النفي والاستثناء، مثل:"لَا إلاه إِلَاّ الله - مَا مِنْ إلَه إلَاّ الله - ومَا كان لنفس أن تموت إلَاّ بإذن الله - وَإِنْ مِنْ شيءٍ إلَاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُه - فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُم لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إلَاّ قَلِيلاً - وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلَاّ أَيَّاماً مَعْدُودَة - قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلَاّ مَا كَتَبَ اللهُ لنا" ومثل إلَاّ في الاستثناء كلمة "غَيْر" ونحوها. ومثل النفي ما يدلُّ على معناهُ، كالاستفهام.
ويكون المقصور بالنفي والاستثناء هو ما قبل الاستثناء صفةً كان أو موصوفاً، أمّا المقصور عليه فهو ما بعد أداة الاستثناء.
النفي
…
الْمَقْصُورُ
…
...
…
... أداة الاستثناء
…
المقصور عليه
ما
…
مُحَمَّدٌ (موصوف)
…
...
…
إلَاّ
…
... رسول "صفة"
لا
…
صاحب للرسول في الغار (صفة) إلَاّ
…
... أبو بكر الصديق "موصوف"
لن
…
يُصِيبَنَا "أي: مُصِيب ما"
…
... إلَا
…
... مَا كتب الله لنا "صفة"
وهو "موصوف"
…
...
…
...
…
...
…
أي: صِفَةُ ما يُصِبَنَا أنَّه
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
مكتوبٌ لنا لا علينا
ثانياً: كَلِمتا "إنَّما" بكَسْر الهمزة، و"أنَّما" بفتح الهمزة، والمقصور بواحد منهما هو ما يلي الأداة، والمقصور عليه هو الذي يجيءُ بعده.
أمثلة:
قول الله عز وجل في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) :
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ
…
} [الآية: 111] .
أي: لا يكسبُهُ إلَاّ على نفسه، والمعنى أنّ المكسُوبَ من الإِثم "وهو هنا موصوف" مقصور على صفة واحدة هي كونه على نفس الكاسب.
فهو من قصر موصوف على صفة، أي: لا يضرّ به إلَاّ نفسه، وظاهرٌ أنَّه من قسم القصر الإِضافي، إذ الكلام يدور في دائرة الجزاء عند الله، أمّا في غير دائرة الجزاء الرّبّاني فقد يضرّ كاسب الإِثم به غيره من عباد الله ضرراً دنيويّاً.
* قول الله عز وجل في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) خطاباً لرسوله:
{قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلاهكم إلاه وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [الآية: 108] .
في هذا النَّصّ قَصْران: أحدهما بأداة "إنَّما" بكسر الهمزة والآخر بأداة "أَنَّما" بفتح الهمزة.
وهذان القصران مساويان لقولنا: ما يُوحَى إليَّ إلَاّ أَنَّه ما إلهكم إله واحد.
فالْمَقْصُورُ بالأداة الأولى "إنَّما" هو الموحَى به، وهو هُنَا "موصوفٌ" والمقصورُ عَلَيْهِ مَضْمُونُ جُمْلَةِ "أَنَّمَا إلهكم إله واحداٌ" أي: وحدانية إلهكم، وهو هنا "صفة" أي: صفة الموحَى به كونُ مضْمُونِه هذه الحقيقة.
والمقصور بالأداة الثانية "أَنَّما" هو "إلهكم" وهو هنا "موصوف".
والمقصورُ عليه هو كونُه إلها واحداً، وكونه إلهاً واحداً صِفَةٌ.
فالمثالان من قصر مَوْصُوفٍ على صِفَةٍ، وظاهر أنهما من قبيل القصر الإِضافي، إذ الكلام مع المشركين يدور في دائرة التوحيد والشرك، ومن المعلوم أنَّ الله عز وجل كان إبَّانَ نُزولَ النّصّ يُوحِي إلى رَسُولِهِ بياناتٍ ومعلومات أُخْرَى غير كون إلههم إلها واحداً.
* قول الله عز وجل في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) خطاباً للذين آمنوا:
{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} [الآية: 92] .
أي: لَا يَجِبُ عَلى رَسُولِنَا إلَاّ البلاغُ المبينُ.
المقصورُ بأداة "أَنَّما" هو الوجوبُ على الرسول، وهو هنا "صِفَةٌ" والمقصورُ عليه هو البلاغ المبين، وهو هنا "موصوف" فهو من قصر صفة على موصوف أي: صفةُ تكليف الرسول مقصورةٌ على موصوف هو تبليغهُ ما أَمَرَهُ الله بتبليغه بَلَاغاً مبيناً.
وهذا القصر هو من قبيل القصر الإِضافي، إذ الكلام حول مسؤولية الرسول صلى الله عليه وسلم تجاه قومه في موضوع رسالته، ولا يدخل في هذه الدائرة الخاصة ما يجب على الرسول من واجبات أخرى تجاه ربِّه وتجاه أصحاب الحقوق، وواجبات أخرى غير ذلك.
* ونقول في قصر الموصوف على الصف: "إنّما اللهُ إله واحد" وهو قصر إضافي.
ونقول في قصر الصفة على الموصوف: "إنما الإله الله" وهو قصر حقيقي.
ثالثاً: العطف بالحروف التالية: "لا - بَلْ - لكن".
(1)
أمَّا كلمة "لا" العاطفة فَيُعطَفُ بها لإِخراج المعطوف ممّا دخل فيه المعطوف عليه، مثل: أكَلْتُ بصَلاً لا عَسَلاً، ولبستُ خزّاً لَا بزّاً، وللعطف بها ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون المعطوف بها مفرداً، أي: غير جملة.
الثاني: أن تكون مسبوقة بإيجاب أو أمْرٍ أو نداء.
الثالث: أن لا يَصْدُقَ أحد معطوفيها على الآخر، وهذا الشرط بدهي.
والعطف بكلمة "لا" يفيد الْقَصْر، وكلٌّ من المقصور والمقصور عليه يأتيان
قبل أداة العطف، وكلٌّ منهما قد يكون هو المعطوف عليه، أمّا المعطوف بها فهو مقصور عنه، ففي قولنا: حامل راية المسلمين في فتح خيبر عليٌّ لا غَيْرُه.
عليٌّ: هو المقصور عليه، وهو موصوف هنا.
حَمْلُ الراية في فتح خيبر: هو المقصور، وهو صفة هنا.
غَيْرُ علي: هو المقصور عنه.
والقصر في هذا المثال حقيقي، من قصر الصفة على الموصوف.
وفي قولنا: مالك بن أنس فقيه مجتهد لا شاعر.
مالك بن أنس: هو المقصور، وهو موصوف هنا.
فقيه مجتهد: هو المقصور عليه، وهو صفة هنا.
شاعر: هو المقصور عنه.
والقصر في هذا المثال قصر إضافي، وهو من قصر الموصوف على الصفة.
(2)
وأمّا كلمة"بل" العاطفة، ومعناها الإِضرابُ عن الأول، والإِثبات للثاني، وللعطف بها شرطان.
الأول: أن يكون المعطوف بها مفرداً، أي: غير جملة.
الثاني: أن تكون مسبوقة بإيجابٍ أو أمْرٍ أو نهْيٍ أو نَفْي.
* فإن وقعت بعد كلام مثبت خبراً كان أو أمراً، كانت للإِضراب والعدول عن شيءٍ إلى آخر.
* وإن وقعت بعد نفْيٍ أو نَهْيٍ كانت للاستدراك بمنزلة "لكِنْ".
والعطف بكلمة "بل" يفيد القصر، والمقصور عليه بها
هو ما بعدها، المعطوف بها، ففي قولنا:"لا تأكل دُهْناً حيوانيّاً بل دهناً نباتيّاً".
دهْناً نباتيّاً: هو المقصور عليه، وهو المعطوف بكلمة "بل".
دُهْنَا حَيَوانيّاً: هو المقصور عنه. وهو المعطوف عليه.
الأكْل المفهوم من "لا تأكل": هو المقصور.
أي: ليكن أَكْلُكَ بالنسبة إلى الأدهان مقصوراً على الدهن النباتي، ومبتعداً عن الدهن الحيواني.
وهذا قصر إضافيٌّ من قصر الصفة على الموصوف، إذ الموصوف هنا مطلق "الدُّهن" والصفة كونه دهناً نباتيّاً، والوصيةُ توجّه أن يكون المأكول من الأدهان الدّهن النباتي.
وفي قولنا: "المرجان حيوانٌ بَحْرِيٌّ بل نبات بحري".
نبات بحري: هو المقصور عليه، وهو "صفة".
المرجان: هو المقصور، وهو "موصوف".
حيوان بحري: هو المقصور عنه، وهو "صفة".
القصر في هذا المثال قصر إضافي، من قصر الموصوف على الصفة، إذ لا تقتصر صفات المرجان على كونه نباتاً بحريّاً.
(3)
وأمّا كلمة "لكِنْ" العاطفة، فهي للاستدراك بعد النفي، وللعطف بها ثلاثة شروط:
الأوّل: أن يكون المعطوف بها مفرداً، أي: غير جملة.
الثاني: أن تكون مسبوقة بنفي أو نهي.
الثالث: أن لا تقترن بالواو.
والعطف بكلمة "لكن" يفيد القصر، وحالها كحال "بل" فالمقصور عليه بها هو ما بعدها المعطوف بها، ويصلح هنا مثال:"لا تأكُلْ دُهْناً حيَوانيّاً لكن دُهْناً نباتيّاً" بوضع كلمة "لكِنْ" بدل كلمة "بل" ويكون الشرح هناك هو الشرح هنا.
وفي قولنا: "مَا طلعَ الْفَجْرُ الصّادقُ لَكِنِ الفجر الكاذب".
الفجر الكاذب: هو المقصورُ عليه، وهو "موصوف".
الفجر الصادق: هو المقصورُ عنه.
الطلوع الخاص: هو المقصور، وهو "صفة".
القصر في هذا المثال قصر إضافي من قصر الصفة على الموصوف، إذ لا يقتصر الطلوع على الفجر.
***
الطريق الرابع: أن يكون القصر بدلالات في الكلام تفهم من:
(1)
تقديم ما حقُّهُ التأخير في الجملة.
(2)
إضافة ضمير الفصل.
(3)
تعريف طرفي الإِسناد في الجملة.
والشرح فيما يلي:
أولاً: تقديم ما حقُّهُ التأخير في الجملة.
سبق في مبحث "التقديم والتأخير" بيان مراتب عناصر الجملة في اللّسان العربي، وأنّ تقديم ما حقُّه التأخير يكون لأغراضٍ ودواعي بلاغيّةٍ معنوية، أو جماليّة لفظيّة، وبلغت الدواعي البلاغيّة لتقديم المسند إليه على المسند "اثني عشر داعياً" وبلغت دواعي تقديم المسند إذا كان الأصل في التأخير في الجملة "أربعة دواعي خاصة" مع دواعي أخرى يمكن أن تستفاد من تقديم المسند إليه، وبلغت دواعي تقديم متعلقات الفعل عن مراتبها. "ثمانية دواعي" وقد سبق شرحها وعرض أمثلتها.
وهنا في باب القصر نبَّهَ البلاغيون على أنّ تقديم ما حقّه التأخير في الجملة قد يُفِيدُ القصر في بعض صُوره، ومن ذلك ما يلي:
(1)
تقديم المعمول على عامله.
(2)
تقديم المسند إليه إذا كان حقُّه في الجملة التأخير.
(3)
تقديم المسند إذا كان حقُّه في الجملة التأخير.
* أمّا تقديم المعمول على عامله فجمهور البلاغيين على أنّه يفيد القصر، سواءٌ أكان مفعولاً، أم ظرفاً، أم مجروراً بحرف جرّ، والمقصور عليه هو المقدّم.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (الفاتحة/ 1 مصحف/ 5 نزول) :
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الآية: 5] .
إيَّاكَ: الأولى مفعول به لفعل {نَعْبُد}
وإيّاكَ: الثانية مفعول به لفعل {نَسْتَعِين} ، والأصل في المفعول به أن يكون متأخيراً عن عامله.
قالوا: دلّ هذا التقديم على تخصيص الله عز وجل بالعبادة والاستعانة، فالمعنى: لا نَعْبُد إلَاّ إيّاك، ولا نستعين إلَاّ بك.
والقصر هنا من قصر الصفة على الموصوف، وهو قصر حقيقي.
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً للّذينَ آمنوا:
{وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [الآية: 159] .
إلى الله: معمول لفعل {تُحْشَرُونَ} لأنّه معلِّقٌ به، والأصل فيه أن يكون متأخّراً عن عامله.
قيل: معناه لإَلَى الله تُحْشَرُونَ لا إلى غيرِه، أي: ليحاسبكم ويجازيكم، ومعلوم أنّ الحشر يوم القيامة يكون لله وحْدَه، فهو وحده الذي يحاسِبُ عباده ويجازيهم يوم الدين.
مع ما في هذا التقديم من داعٍ جمالي رُوعي فيه تناسُق رؤؤس الآيات.
ولا مانع من اجتماع عدَّة دواعي بلاغيَّةٍ لظاهر واحدة.
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً
…
} [الآية: 143] .
يُلاحظُ في هذا النّصّ أنَّ الصِّلَةَ في العبارة الأولى: {شُهَدَآءَ عَلَى الناس} أُخّرَتْ عن عاملها، لأنّ المراد مجرّد إثبات شهادة المسلمين على الناس دون تخصيصهم بهذه الشهادة، إذْ قَدْ يَشْهَدُ عليهم عيسَى عليه السلام الذي بشَّرُهمْ بخاتم المرسلين، وسَيَشْهَدُ عليهم عند نزوله.
أمّا في العبارة الثانية: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} فقد قُدِّمَت الصلة {عَلَيْكُمْ} على عاملها {شَهِيداً} لأنَّ المراد تخصيص الرسول بشهادته عليهم، إذْ هو المبلّغ عن الله دين الله لمن بلّغَهُمْ بَعْدَ بعثته، ولا أحَدَ غيرُهُ بلَّغَ هذا الدين عن الله.
المثال الرابع:
قول المتنبي يمدح بَدْر بْنَ عمّار:
بِرَجَاءٍ جُودِكَ يُطْرَدُ الْفَقْرُ
…
وَبَأَنْ تُعَادَى يَنْفَدُ الْعُمْرُ
قدّم الصلة (برجاء جودك) على عاملها (يُطْرَد) والصلة (بأنْ تُعَادَى) على عاملها (يَنْفَدُ) لأنه أراد على سبيل المبالغة والادّعاء أنْ يخُصَّ برَجاءِ جوده طردَ الفقر، دون رجاء جود غيره، وأنّ يَخُصَّ بِمُعَاداته نفاد عمر من يعادِيه من الناسِ، دون معاداة غيره من الناس.
فالقصر هنا ادعائي مجازي، وإضافي غير حقيقي.
المقصور (وهو صفة)
…
المقصور عليه (وهو موصوف)
…
المقصور عنه
طرد الفقر
…
...
…
رجاء جوده
…
...
…
...
…
... رجاء غيره من الناس
نفاد العمر
…
...
…
معاداته
…
...
…
...
…
... معاداة غيره من الناس
المثال الخامس: قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) في معرض الحديث عن كُفَّار اليهود:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب
…
} [الآية: 85] .
في هذا النص قُدِّمَ الظَّرفُ {يَوْمَ القيامة} على عامله {يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب} لإِفادَة قصر الرَّدّ إلى أشدّ العذاب على كونه يقع يوم القيام، وهو قصر حقيقي.
* وأمَّا تقديم المسنَدِ إليه إذا كان حقُّه في الجملة التأخير، فقد يفيد القصر في بعض أحواله، وقد يفيد مجرّد التقوية والتأكيد، ودلالة القصر يساعد عليها سِبَاق الكلام وسياقه، وقرائن الحال، والمقصور عليه هو المقدّم.
فمن إفادة تقديم المسند إليه القصر - على ما أبان الشيخ عبد القاهر الجرجاني الإِمامُ في البلاغيّات - ما يلي:
الأول: أن يكون المسند إليه معرفةً والمسنَدُ فعلاً مثبتاً، كأنْ تقول:"أنا قمت - أنا سعيت في حاجتك".
فإذا كان القصر قصر "إفراد" جاء التأكيد بنحو: "أنا قمتُ وحْدِي - أنا سعيْتُ في حاجَتِكَ وحْدِي".
وإذا كان قصر "قلب" جاء التأكيد بنحو: "أنا قُمْتُ دون غيري - أنا سيعتُ في حاجَتِكَ لا غيري" وكذلك إذا كان القصر قَصْرَ تعيين.
ومنه ما جاء في قول الله عز وجل في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) في عرض قصّة هَدِيَّة ملكه سبأ لسليمان عليه السلام، قالت:
جاء في هذا النصّ تقديم المسند إ ليه: {أَنتُمْ} على الْمُسْنَد: {تَفْرَحُونَ} مع تقديم المعمول {بِهَدِيَّتِكُمْ} على عامله {تَفْرَحُونَ} .
وَالشاهد هنا تقديم المسند إليه المفيد مع القرائن التي اشتمل عليها النّص القصر الإِضافي، والمعنى أنّ الفرح بالهديّة مقصورٌ عليكم، لا يتعدّى إليّ، فأنا لست بها فَرِحاً، فَمَا آتاني اللهُ خيرٌ ممَّا آتاكم.
ومنه ما جاء في قول الله عز وجل في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) لرسوله بشأن المنافقين:
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ
…
} [الآية: 101] .
قُدِّم في هذا النصّ المسند إليه {نَحْنُ} على الْمُسْنَدِ {نَعْلَمُهُمْ} لإِفادة قَصْرِ الْعِلْمِ بِهِمْ على الله، وظاهر أنّ القصر هنا هو من قبيل القصر الإِضافي، إذْ قد
تَعْلَمُهُمُ الملائكة أيضاً، ولكن جاء القصر في مقابلة نفي العلم بهم عن الرسول، ولعلّ ذلك قد كان قبل أن يُعْلِمَهُ الله بهم، أو أن بعض المنافقين لم يُعْلِمِ الله رسوله بهم.
الثاني: أن يكون الْمُسْنَدُ منْفيّاً، كأن تقول لمن تخاطبه:"أنْتَ لَا تَكْذب" فهذه العبارة أبلغ من أن تقول له: "لا تكذبُ أنت" وهذا التقديم قد يفيد القصر بمساعدة القرائن.
ومنه قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) :
ففي قوله: {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} يُلَاحَظُ قَصْرُ عَدَمِ الْعِلْم على المخاطبين في النَّصّ، وساعد على هذه الدلالة قوله تعالى قبله {والله يَعْلَمُ} .
الثالث: أن يكون المسند إليه نكرةً مثبتاً، كأن تقول:"رجُلٌ جاءني".
فقد يفيد تقديم المسند إليه في هذه الحالة القصر بمساعدة القرائن من الحال أو من المقال.
فإذا كنت في معرض تساؤل متسائل هل الذي جاءك من الرجال أو من النساء؟ كان قولك: "رجلٌ جاءني" مفيداً أنّه ليس امرأة.
وإذا كنت في معرض تساؤل متساءل هل جاءك رجلٌ أو أكثر؟ كان قولك: "رجلٌ جاءني" مفيداً أنّه رجل واحد لا أكثر.
الرابع: أن يأتي قبلَ المسند إليه حَرْفُ نفي، كأن تقول:"ما أنا قلتُ هذا القول" أي: أنام لم أقُلْه مع أنّ غيري قاله فتدَلُّ بعبارتك على قَصْرِ النفي على نَفْسِك، مع إثبات القول لغيرك.
أقول: وفي كلّ ذلك لا بُدَّ من مساعدة القرائن، إذْ ليس القول نصّاً في الدلالة.
* وأمّا تقديم المسند إذا كان حقُّهُ في الجملة التأخير، فقد يفيد القصر بمساعدة قرائن الحال أو المقال، والمقصور عليه هو المقدّم.
ويمكن أن أمثّل له بقولي صانعاً مثلاً، خطاباً للكفّار:
لَنْ تَهْزِمُوا إِيمَانَنَا بِسِلَاحِكُمْ
…
جُبَنَاءُ أَنْتُمْ أَيُّهَا الكُفَّارُ
فجاء في هذا الكلام تقديم "جُبَناء" وهو مسنَدٌ حقُّه في الجملة الاسميّة التأخير، تأخير "أنتم" وهو مسند إليه وحقُّه هنا التقديم لإِفادة القصر بمساعدة قرينة المقال السابق، وقرينة حال الاستبسال، والمعنى أنتم وحدكم الجبناء بكفركم، أمّا نحن فشجعان بإيماننا وتوكّلنا على ربّنا.
***
ثانياً - إضافة ضمير الفصل إلى الجملة:
ضمير الفصل: هو ضمير منفصل مرفُوعٌ يُؤْتَى به فاصلاً بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله مبتدأ وخبر، ويفيدُ تقوية الإِسناد وتوكيده، وقَدْ يفيد القصر بمساعدة قرائن الحال أو المقال، والمقصور عليه هو ما دل عليه ضمير الفصل.
والأصل أنّه لا محلّ له من الإِعراب، وقد يؤتَّى به على أَنَّهُ مبتدأ وما بعده خبرٌ له، وتكونُ الجملة منه ومن خبره هي الخبرَ لما قبلهما.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن المنافقين:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * ألا إِنَّهُمْ هُمُ
المفسدون ولاكن لَاّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولاكن لَاّ يَعْلَمُونَ} [الآيات: 11 - 13] .
لقد جيء بضمير الفصل مرَّتين في هذا النص: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون - ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء} .
ونلاحظ أنّه مع تقوية الإِسناد وتوكيده في الجملتين فقد أفاد ضمير الفصل بمساعدة القرائن القصر، والمعنى: هُمُ المفسدونَ وهُمُ السَّفَهاء، لا المؤمنون الذين يتَّهِمُهُم المنافقون بإفسادِ وحْدَةِ جماعة قومهم بدينهم الجديد، وبالسّفاهة في عقولهم، أي: بِالطيشِ ونقصان العقل.
المثال الثاني:
قول الله عز وجل في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول) في عرض سؤال الله عز وجل عيسى عليه السلام: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلاهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] وفي أجوبته عليه السلام قال لربّه:
جاء في هذا النصّ ضمير الفصل في حكاية قول عيسَى عليه السلام:
{كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقيب عليهم وحدك دوني، إذْ تَوَفَّيْتَنِي أَجَلِي بينهم، ورفعْتَنِي بعيداً عنهم، فليس لي رقابَةٌ عليهم.
المثال الثالث:
قول الله عز وجل في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) :
أي: وكنّا نَحْنُ لَا غَيْرُنَا الْوَارِثينَ، فقد أفاد ضمير الفصل هنا القصر بقرينة سوابق الجملة.
ومنه {فاللهُ هو الولي} [الشورى: 9]- {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5، آل عمران: 104]- {إنَّ هذا لَهُو القَصَصُ الحقّ} [آل عمران: 62]- {إنَّ شانِئَكَ هُوَ الأبْتَر} [الكوثر: 3]- {وأَنَّهُ هُوَ أضْحَكَ وأَبْكى} [النجم: 43] .
والأمثلة على هذه كثيرة.
***
ثالثاً: تعريف طَرَفَي الإِسناد المسند والمسند إليه، ويكون هذا في الْجُمَل الاسميّة، أَمّا الْجُمَلُ الفعليّة فالفعل فيها بقوّة النكرة، فلا يكون فيها المسند معرّفاً، وليس بعيداً أن نجد جملة فعليّة هي بقوّة جملة اسميّة معرّفة الطرفين، لكن لم يُتَابع البلاغيون هذا بالبحث، كأن يَدُلَّ دليل العقل على أنّ الفعل لا يَصْدُرُ إلَاّ من الفاعل.
فقد يُفيد تعريف طرفي الإِسناد القصر بمساعدة قرائن الحال أو المقال مع إفادته تقوية الإِسناد وتوكيده، والمقصورُ هو المبتدأ الذي يجب في هذه الحالة تقديمه، والمقصور عليه الخبر الذي يجب في هذه الحالة تأخيره.
ونمثل لما قد يُفِيدُ القصر من تعريف طرفي الإِسناد: بأنْ يجري حديث حول مشتغلَيْنِ بنظم الشعر، أيُّهما الناظم وأيُّهما الشاعر:"العمريطي" أو "أحمد شوقي" فيقول الخبير الناقد: "الشّاعِرُ أحمد شوقي" أي: أمّا "العمريطي" فناظم لا شاعر.
***