الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: التقييد وعَدَمه
(1)
مقدّمة
أصلُ الإِسناد في الجملة يتحقّق بأقلّ ما يُطْلَقُ عليه أنَّه حُكْمٌ بشيءٍ على شيءٍ، كقولنا:"هذه شجرة - سعيد رجل - القَمَر بازغٌ - الشّمْس غائبة".
وكلّ زيادةٍ على ذلك ذاتِ دلالةٍ في الجملة تُعتَبَرُ زيادةً في إفادة معنىً أو أكثر، ويَقْصِد البلغاء إلى الإِتيان بها لتنمية الفائدة وتربيتها لدى مُتَلَقّي الكلام.
وبعضُ هذه الزيادات في المعاني قد تدلُّ عليها البدائل المختارة للمُسْنَد أو المسنَدَ إليه، كزيادة معنى الحدوث في الزمان الماضي لدى اختيار صيغة الفعل الماضي في المسنَد، وكزِيادة معنىَ الحدوث في الحال أو الاستقبال أو التجدّد لدى اختيار صيغةِ الفعل المضارع في المسند أيضاً، وكزيادة معنى الوصف لدى اختيار اسم الفاعل أو اسم المفعول أو الصفة المشبّهة في المسنَدِ، أو في الْمُسْنَد إليه، أو ما هو في حكم المسند إليه كالمفعول به.
وقد سبق في فصل التنكير والتعريف بيان طائفةٍ من أغراض الاختيار من البدائل في الكلام ضمن عناصر الجملة.
وهنا في فصل التقييد وعدمه لاحظ البلاغيّون أنّ المتكلّم قد يقصد زيادة
إفادة المتلقّي معاني لا يكفي المسند والمسند إليه للدّلالة عليها، وهي تتعلّق بالمسند أو بالمسند إليه أو بالإِسناد في الجملة.
* فمِمَّا يتعلق بالمسند بيان زمن حدوثه أو مكان حدوثه بظرفَيِ الزّمان والمكان، مثل:"جرَى السَّيْلُ يوم الأربعاء في مكة ووصل إلى باب الكعبة".
فبيان الزمن قيْدٌ للمسند، وبيان المكان قيد آخر له.
* وممّا يتعلّق بالمسنَدِ إليه وصْفُه، أو بيان حاله، أو تأكيدُهُ، أو غير ذلك، مثل:"سَبَقَ الْحِصَانُ الأَدْهَم - حضَرَ عليٌّ راكباً - خَرَجَ طُلَاّبُ المدرسة كُلُّهم".
فـ"الأَدْهم" نَعْتٌ للحصان، و"راكباً" حالٌ لعلي، و"كُلُّهُمْ" تأكيدٌ معنويٌّ لطلاب المدرسة، وكلُّها قيودٌ للمسند إليه، والحالٌ منها قَيْدٌ للمسنَدِ أيضاً.
* وممّا يتعلّق بالإِسناد تقييده بنحو الشرط، مثل:"إذا أدَّى المخلوق المبتلى المكلَّف كُلَّ الواجبات، وتركَ كُلَّ المحرّمات، دخل الجنة ولم يدخل النار".
فالحكم بدخوله الجنة وعدم دخوله النار مشروط بأن يفعل كلّ الواجبات ويترك كلّ المحرّمات، ومن الظاهر أن هذا الشرط هو من قيود النسبة الحكميّة بين المسند والمسند إليه.
وبالإِضافة إلى غرض زيادة الفائدة بما يُؤتَى به في الجملة من قيودٍ للمسند أو المسند إليه أو الإِسناد، فقد نبَّهَ البلاغيون على أغراض بلاغيّة تُسْتَفادُ من التقييد بالمقيّدات التي تُسْتَكْمَلُ بها الجملة الكلاميّة، وهي المقيّدات التالية:
(1)
المفاعيل، وهي:"المفعول به - المفعول فيه - المفعول لأجله - المفعول المطلق ونائبه - المفعول معه".
(2)
التوابع وهي: "النعت - عطف البيان - التوكيد - البدل - عطف النَّسَق" وهكذا يكون ترتيبُها إذا اجتمعت كما ذكر النحويّون.
(3)
ضمير الفصل.
(4)
الشرط.
وفيما يلي شَرْحُ هذه القيود مع بيان بعضِ الأغراض البلاغيّةِ التي قد يَقْصِدُهَا البلغاء منها.
***
(2)
التقييد بالمفاعيل
أوّلاً - المفعول به:
المفعول به هو في الحقيقة مُسْنَدٌ إليه على مَعْنَى أنَّه هو الذي وقع عليه فعلُ الفاعل، فهو من القيود التي تبيّن حُدُود المسند.
إنّ مثال: "ركب خالدٌ جواداً" يَدُلُّنَا على أنّ العلاقة بين الرُّكوب وخالد، أي النسبة الرَّابطةَ بينهما هي أنّ الرُّكوبَ وقَعَ من خالد، باعتباره فاعل الرُّكوب، وأنّ العلاقة بين الرُّكوب والجواد، أي النسبة الرابطة بينهما هي أنّ الرُّكوبَ وقَعَ على الجواد باعتباره مفعولاً به واقعاً عليه الرُّكوب، فذِكْرُ كلمة "جواداً" في الجملة قد أضاف إليها قيداً، إذْ كانت جملة "رَكِب خالدٌ" جملةً مطلقةً، ذات احتمالات كثيرة، فقد يكون خالدٌ ركب أيَّ مركوب آخر غير الجواد من حيوانٍ أو آلة، كسفينةٍ أو عربةٍ أو نحو ذلك.
من هذا يتبيّن لنا أنّ ذكر المفعول به ممّا يفيد الجملة بياناً تقييديّاً، سواءٌ أكان مفعولاً به لفعل ينصبُ مفعولاً واحداً، كالمثال السابق، أم مفعولاً به ثانياً لفعلٍ يَنْصِبُ مفعولين، مثل:"أَلْبَسَ رَباحٌ زوجتَه حُلَّةً" أم مفعولاً به ثالثاً لفعلٍ يَنْصِبُ ثَلَاثَةَ مَفَاعيل، مثل:"أَعْلَمْتُ سَعِيداً القَمَر بَازغاً".
فالمفعول به الأوّل في: "أَلْبَسَ رَبَاحٌ زَوجته حُلَّةَ" أضاف إلى الجملة قيداً، هو أنّ الإِلْبَاسَ من رباحٍ قد كان لزوجته، فهي اللاّبسة له. والمفعول به الثاني أضاف قيداً آخر، هو أنّ الملْبُوسَ كان "حُلَّةً"، أي: لا نعلاً أو حِلْيَةً أوغطاءَ رأْسٍ أو غير ذلك.
وفي مثال: "أَعْلَمْتُ سَعيداً الْقَمَرَ بَازِغاً" نقول: إنّ المفعول به الأول وهو "سعيد" أضاف قيداً إلى الجملة، هو أنّ الإِعلام كان منّي لسعيد، وإنّ المفعول به الثاني والمفعول به الثالث قد أضافا قَيْدَيْنِ آخرين في الجملة، أحدهما أنّه حصل بُزُوغ، وثَانيهما أنّ هذا البزوغ هو بزوغ القمر.
وظاهرٌ أنَّ التَّقْييدَ بهذه الْقُيود في الكلام ممّا يُفيد تَرْبيةَ الفائدة بزيادة عناصرها لدَى المتلقّي.
وتتوارد بعد ذلك أغراضٌ بلاغيّة فوق تربية الفائدة، فقد يُكتَفَى بدلالة القرائن عن ذكر المفعول به، إلَاّ أن دواعِيَ بلاغيَّةً قَدْ تَدْعو إلى ذكره.
* كأن يكون المفعول به أمراً غريباً نادراً، ويَقْصدَ البليغُ أَنْ يَقْرَعَ به سَمْعَ المُْتَلقِّي أو نَفْسَه مع أوّل مرحلةٍ مناسبةٍ من مراحل كلامه، ومن الأمثلة على هذا قولُ الخزيمي يَرْثي أبا الْهيْذَام:
وَلَو شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ
…
عَلَيْهِ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ
لقد كان يكفي الشاعِرَ أن يقولَ: ولَوْ شئتُ لَبَكَيْتُ عليه دماً، بحذْفِ مفعول:"شِئْتُ" كان يفكيه أن يقول: ولو شئتُ أن أبكي لبكيْتُ عليه دماً، بحذف مفعول:"أبْكِي" إلَاّ أنَّ المسارعة إلى تعريف المتَلَقِّي بأنّ حُزْنَه على فقده أبَا الهيْذام قد بلغ منه مَبْلَغَ أن يَبْكِيَ عليه دماً جعلَتْهُ يُصرِّحُ بما في نفسه، ويُسارعُ إلى ذكر الدّم عند أوّل مناسبَةٍ سَانِحَةٍ في كلامه.
* وَكأن يريد المتكلّم دَفْع تَوَهُّم إرَادة غير المراد، ومن الأمثلة ما صنعتُه
مثلاً، أن يقول مظلوم حَكَمَ عليه طاغٍ بالقتل ليتخلص من منافسته له:
سَتكْسُوني بقَتْلِكَ لِي فَخَاراً
…
ومَجْداً مِنْ دِمَاءٍ زَاكِيَاتِ
وتَلْبَسُ خِزْيَ عُدْوانِ وَظَلْمٍ
…
بِلُبْسِكَ بَاغياً ثَوبَ الطُّغَاةِ
وهنا نلاحظ المبادرة إلى إعلان أنّ مَا يُلْبِسُه إيّاه إذا قتله هو الفخار والمجد، لا ما يُتَوَهَّمُ من أنّه سَيُلْبِسُه ذلاً ومهانة.
* وقد يأتي التقييد بالمفعول به لكثير من الأغراض البلاغية التي سبق بيانها في دواعي ذكر العنصر الذي يُراد الإِعلام به من عناصر الجملة.
***
ثانياً - المفعول فيه:
وهو الظرف، ويؤتى به لتقييد وقوع الحدث الذي اشتملت عليه الجملة بزمَنٍ مُعَيّن، أو مكان مُعَيَّن، مثل:"سافرت لَيْلاً - ومَشِيتُ مِيلاً".
ومع تربية الفائدة بقيدَي الزمان والمكان فقد يَقْصِد البليغ بهما أغراضاً بلاغيّة تدعو إليها مقتضيات الأحوال، كالتعريض، والمدح، والذمّ، والتلذُّذ بالذكريات، وغير ذلك ممّا يعسُرُ حصره، وتُلاحظ هنا أيضاً دواعي العنصر الذي يُراد الإِعلام به من عناصر الجملة على ما سبق به البيان.
***
ثالثاً - المفعول لأجله:
وهو المفعول الذي يُبَيِّن علّة الحدَث الذي اشتملت عليه الجملة، أو سبَبَهُ، أو الحكمة منه، أو الغرض منه، أو نحو ذلك.
ويؤتَى به لتقييد الحدَثِ ببيان علَّته أو سبَبِه أو الحكمة أو الغرض منه، مثل:"زُرْتُكَ إكراماً لَكَ" أي: لأجل إكرامك.
ويدخل في هذا المفعل ما فيه معنى المفعول لأجله ولو لم يكن منصوباً، وهو المجرور منه بحرف جرّ مفيدٍ للتعليل، ويسمَّى المفعول لأجله غير الصّريح، مثل قول الله عز وجل في سورة (البقرة/2) :
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت
…
} [الآية: 19] .
"من الصَّواعِق" مفعول لأجله غير صريح.
"حَذَرَ" مفعول لأجله صريح.
ومع تربية الفائدة بقيد المفعول لأجله نقول هنا أيضاً ما سبق أن قلناه في المفعول به، والمفعول فيه، حَوْلَ الأغراض البلاغيّة.
***
رابعاً - المفعول المطلق ونائبه:
المفعول المطلق: هو مصدرٌ يُذْكَرُ بعْدَ فِعْلٍ من لفظِهِ، لتأكيد معناه، أو لبيان عدده، أو لبيان نوعه، أو يؤتَى به بدلاً من التلفّظِ بفعله.
(1)
فالمؤكدّ لمعنى فعله، مثل:{وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] .
(2)
والمبيّن لعدده، مثل:"شَرِبَ شَرْبَتَيْنِ".
(3)
والمبيّن لنوعه، مثل:{فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج: 5] و"بَكَى بُكَاءَ الثَّكْلَى".
(4)
ومَا يُؤْتَى بِه بدلاً من التلفُّظ بفعله، مثل:"رِفْقاً بالقوارِيرِ".
والنائبُ عن المفعول المطلق هو ما يُعْطَى مثل حكمة ولو لمْ يكن مَصْدراً من لفظ فعله، وينوب عنه "اسم المصدر - صفة المصدر - ضميره العائد عليه - مرادفه - مصدر يتلاقى معه في الاشتقاق - ما يَدُلُّ على نوعه - ما يَدُلُّ على عدده - ما يدُلُّ على آلته التي يكون بها - كلمتا "ما" و"أيُّ" - الاستفهاميتَيْن - "ما ومهما وأيُّ" الشرطيات - كلمات "كلّ" و"بعض" و"أيّ الكمالية" مضافات
إلى المصدر - اسم الإِشارة إذا كان مشاراً به إلى "المصدر" ويرجع إلى أمثلتها في كُتُب النحو.
ومع ترْبية الفائدة بالمفعول المطلق ونائبه نقول هنا أيضاً نظير ما سبق أن قلناه في المفاعيل السابقة حوْلَ الأغراض البلاغيّة.
***
خامساً - المفعول معه:
هو اسم يؤتى به منصوباً بعد واو المعيّة، لإِفادة تقييد الْمُسْنَدِ في الجملة بقيد مصاحبة الاسم المنصوب بعد واو المعيّة للاسم الذي جاء قَبْلها، فهو يفيد فائدة شبيهة بفائدةِ الحال في الجملة، ولَا يُقْصَدُ إشْرَاكُ ما بَعْدَ واو المعيَّةِ في حُكْمِ مَا قَبْلها، مثل: سِرْتُ والْجَبَلَ، أيْ: سِرْتُ مُصَاحَباً الجبَلَ، مع أَنَّ الْجَبَل لَمْ يشْمَلْهُ حُكْمُ السَّيْر الذي سِرْتُه.
ومع تربية الفائدة بالمفعول معه نقول هنا أيضاً نظير ما سبق أن قلناه في المفاعيل السابقة حول الأغراض البلاغية.
***
(3)
التقييد بالنواسخ
النواسخُ هي التي تدخل على الجملة الاسميّة فتنسخ حُكْمَي المبتدأ والخبر، وتعْمَل فيهما عملاً خاصّاً بها وهي أربعة أقسام:
القسم الأول: أفعالٌ ترفَعُ المبتدأ على أنَّه اسْمُها، وتَنْصِبُ الخبرَ على أنّه خَبَرُها، وهي الأخوات:"كان - أمسى - أصْبَح - أضْحَى - ظلَّ - بَاتَ - صَارَ - لَيْسَ - ما زال - مَا بَرِحَ - مَا فَتِىءَ - مَا انْفَكَّ - مَا دامَ".
و"كَادَ وأخواتُها" وهي ثلاثة أقسام:
(1)
أفعال المقابة: وهي: "كاد - كرب - أوشك".
(2)
أفعال الرجاء: وهي: "عَسَى - حَرَى - أخْلَوْلَقَ".
(3)
أفعال الشّروع: وهي كثيرة، منها:"أنْشَأَ - طَفِقَ - عَلِقَ - أَخَذَ - هَبَّ - بَدَأ - ابْتَدَأ - جَعَل - قَامَ - انْبَرَى" ومِثْلُها كُلُّ فعل يدلُّ على الابتداء بالعمل ولا يكتَفِي بمرفوعه.
ولكلّ فِعْلٍ من الأفعال السابقة "كان وأخواتها" و"كَادَ وأخواتها" أفعال المقاربة وأفعال الرجاء، وأفعال الشروع، معنىً يُقْصَد التعبير عنه في الكلام، فالبليغ يختارُه في كلامه لِيَدُلَّ به على المعنَى الذي يُسْتَفَادُ منْه.
ويُرجع إلى كتب النحو واللّغة لمعرفة معاني هذه الأفعال، وطرائق استعمالها وأعمالها.
القسم الثاني: أفعال تنصب المبتدأ والخبر على أنّهما مفعولان لها، وهي: قسمان: "أفعال القلوب" و"أفعال التحويل والتصيير":
* أمّا أفعال القلوب:
فمنها ما يُفيد اليقين وتسمَّى أفعال اليقين، أي الاعتقاد الجازم، وهي:"رَأَى - عَلِمَ - دَرَى - تَعَلَّمْ، فِعْلَ أَمْرٍ بمعنى اعْلم واعْتَقِدْ - وَجَدَ، بمعنى عَلِمَ واعْتَقَد".
ومنها أفعال الظنّ، وهي:"ظنّ - خال - حَسِبَ - جَعَل، التي بمعنى ظنَّ أو اعتقد - حَجَا - عَدَّ الّتِي بمعنى ظنّ - زعم - هَبْ، فِعْلَ أمْرٍ بمعنى ظُنَّ". * وأمّا أفعال التحويل والتصيير فهي: "صَيَّر - رَدَّ - تَرَكَ - تَخِذَ - اتَّخَذَ - جَعَل - وَهَب، إذا اسْتُعْمِلَت هذه الأفعال التي بَعْدَ صَيَّر بمعنَى صَيَّرَ".
ويُرجَعُ إلى كُتُب اللُّغة والنحو لمعرفة معاني هذه الأفعال، وكيفيَّة استعمالها وعملها في نصب المبتدأ والخبر.
القسم الثالث: حروف مشبهة بالفعل وهي تنصبُ المبتدأ على أنَّه اسْمُها، وترفع الخبر على أنّه خبرها، وهي:"إنَّ - أَنَّ - كَأَنَّ - لَيْتَ - لَعَلَّ - لَكِنَّ - لا النافية للجنس".
ويُرْجَعُ إلى كتب النحو لمعرفة معاني هذه الحروف، وكيفيّة استعمالها وعملها، فقد أوفاها النحويُّون بحثاً، ونخص بالبيان هنا "إنَّ - أَنَّ - للتذكير بأنّهما يُفيدان التأكيد في الجملة، إذ إفادة التأكيد ممّا يُهِمُّ البلاغيين التنبيهُ عليه.
القسم الرابع: حروف نفي تَعْمَل عَمَلَ "لَيْس" بشُروط ذكرها النحويون، وتؤدّي المعنى الذي تؤدّيه "ليس"، وهي "مَا - لَا - لَاتَ - إِنْ".
هذه هي النواسخ الّتي تدخل على الجملة الاسمية فتنْسخُ حُكْمَي المبتدأ والخبر من جهة الإِعراب، وتعمل فيها عملاً خاصّاً بها كما سبق.
وهنا نلاحظ أنَّ إدخال النواسخ على الجملة الاسمية يُرادُ منْهُ إضافةُ معانٍ تدلُّ عليها الأفعال والحروف الناسخة بحسَبِ أوضاعها ودلالاتها اللّغوية، وقد اهتم اللُّغويُّون ثُمَّ النّحويُّون ببيان معاني هذه النواسِخِ، فَعَلى متدبّر النصوص أن يرجع إلى ما دوّنوه من ذلك.
أمّا علماء البلاغة فقد وجّهوا اهتماماتهم للدّلات الأخرى، الَّتى لا تَدُلُّ عليها الأوضاع اللّغويّة، ممّا يُفْهَمُ مجازاً، أو من إشارات الكلام وقرائن الألفاظ والأحوال.
ولا يخفى على الأديب ذي الحسّ المرهف تَصيُّد الأغراض البلاغيّة والأدبيّة الَّتي يَرْمي إليها البلغاء، ممّا يختارون في استعمالاتهم من هذه النواسخ، فمع تربية الفائدة بما تشتمل عليه من دلالاتٍ تُفْهَمُ من أوضاعها اللّغوية نلاحظ أنّه قد يُشارُ
بها إلى معانٍ بلاغيّة سَبَق بيانُ طائفةٍ منها في دواعي ذكر العنصر الّذي يُرادُ الإِعلام به من عناصر الجملة، ويُمْكِن القِياسُ عليها.
فكلمة "لَيْتَ" الَّتي تُسْتَعمل للتَّمنّي قد تستعمل بلاغيّاً في الأمر غير البعيد ولا المتعذّر، للإِشعار مثلاً برفعة منزلة الشخص الذي يُوَجَّهُ لَهُ المطلوب بها، كأن يقول التلميذ الذي يُحِبُّ شيخه ويُعظمه:"لَيْتَكَ تَزُورُني في دَارِي" مع أنّ الشيخ من عادته أن يزور أصْغَرَ تلاميذه.
وقد يؤكّد بـ"إنّ" أو "أنّ" لتنزيل المخاطب منزلة المنكر أو الشّاك.
وقد يُسْتَعْمل مثلاً فعلُ "أصْبَح" الّذي يدلُّ على الدُّخول في الصباح، أو فعل "أضْحَى" الذي يَدُلُّ على الدخول في وقت الضُّحى، مع أنَّ ما حَصَل قد حَصَل باللّيل، للإِشعار بأنّ السُّرُورَ قد قلَبَ اللَّيْلَ فِي مشاعر النفس نهاراً.
وقد يُسْتَعْمَلُ فِعْلُ "أمْسَى" الّذي يَدُلُّ على الدخول في المساء، وفعل "بَات" الّذي يدلُّ على الدُّخولِ في اللّيل، مع أن ما حصل قد حصل بالنهار، للإِشعار بأنّ الْحُزْنَ أو الكرْبَ قد قلَب النهار في مشاعر النفس ليلاً.
إلى غير ذلك من أغراض بلاغيّة كثيرة.
***
(4)
التقييد بالحال
قال النحويّون: الحال وصفٌ لصاحِبها قَيْدٌ لعامِلها الذي هو الفعل أو ما في معناه، فمثل:"جاء زيد راكباً" نلاحظ أنّ الرُّكوبَ وَصْفٌ لزيدٍ حَالةَ مجيئه، فمجيءُ زيْدٍ المفهومُ من "جَاءَ زيد" مُقَيَّدٌ بقيدِ رُكوبه، وظاهر أنّ في هذا القيد مزيدَ فائدةٍ يستفيدها متلَقِّي الْكَلام.
وقد يُؤتَى بالحال لتوكيد عاملها، مثل "وَلَّى مُدْبراً". أو لتوكيد صاحبها، مثل:"جاء التلاميذ كلُّهم جميعاً". أو لتوكيد مضمون جملة مؤلفة من اسمين معرفتين جامِدَيْن، مثل:"هو الحقُّ بَيِّناً".
والتوكيد يعطي مزيد فائدة في الكلام، ومع تربية الفائدة بالحال يمكن الإِشارة بها إلى أغراض بلاغية يَقْصِدُها البلغاء، فمثل قول القائل:"جاء عِليَهُ القوم راكِبين" قد يتضمن الإشارة إلى أنّ الذين لم يأتوا راكبين ليْسُوا من عِلْيَة القوم.
ولا يخفى على ذوّاق البلاغة والأدب تصيُّد النكت والأغراض البلاغية من الحال.
***
(5)
التقييد بالتوابع
سبق في مقدّمة هذا الفصل أن عرفنا أن التوابع هي:
(1)
النعت "= الصفة".
(2)
عطف البيان.
(3)
التوكيد.
(4)
البدل.
(5)
عطف النسق، وهو العطف بحرف من حروف العطف.
وأنّها إذا اجتمعت في جملة واحدة كان ترتيبها وفق هذا الترتيب الذي ذُكرت فيه، كما ذكر علماء النحو.
وفيما يلي شرحٌ لهذا التوابع:
أولاً - النَّعْت "= الصفة":
النعت: هو تابع يكمّل متبوعَهُ بدلالة على معنىً فيه، أو فيما له تعلُّقٌ به، مثل:"جاءني رجلٌ كريم" و"رَضِيَ بالدّية الأَبْنَاءُ الْمَقْتُولُ أبُوهم".
ما يستفادُ مِن النعت:
(1)
يؤتى بالنعتِ لإِيضاح الموصوف به إذا كان معرفة، ويسمَّى الوصْفَ الكاشف، مثل:"فَتْحُ الْبَارِي هو تأليفُ ابْنِ حَجر أحمد العسقلاني" و"تُحْفَةُ الْمُحْتاج لشرح المنهاج هو تأليف ابْنِ حجر أحمد الْهَيْتَمِي" فالعسقلانيُ وصْفٌ كاشف مميّز لابن حجر أحمد مؤلف كتاب "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" والْهَيْتَمِي وصْفٌ كاشفٌ مُمَيْزٌ لابن حَجر أحمد مؤلف كتاب تحفة المحتاج لشرح المنهاج" في الفقه الشافعي.
(2)
ويؤتى بالنَّعْتِ أيضاً لتخصيص الموصوف به إذا كان نَكِرةً، أو شبيهاً بالنكرة في شُيوعه، كالمعرّف بـ"أل" الّتي للجنس، مثل:"يرافق المرأة في السَّفر كُلُّ رَجُلٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَحَارِمِها" فعبارة "مَحْرَمٍ من مَحَارِمها" وصْفٌ مُخَصِّصٌ لعموم لفظ "رجُل" وجيء بهذا الوصف المخصّص لإِخراج كلّ رَجُلٍ لا يكون مَحْرماً لها.
هذا ما ذكره النحويّون، وقد ذكر علماء البلاغة هاتين الفائدتين للنعت، وأضافوا إليهما فوائد أخرى استنبطوها بأذواقهم البلاغيَّة الأدبيّة، وتابعهم في ذلك فريقٌ من النحويّين، وهي ما يلي:
(3)
تفصيل المنعوت، مثل:"زارني رجلان: فقيه، وطبيب".
(4)
مدح المنعوت، مثل:"الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِين".
(5)
ذمّ المنعوت، مثل:"أعوذُ باللهِ من الشيطان الرجيم".
(6)
التَّرَحُّم، مثل:"لَطَفَ اللهُُ بعبادِه الضُّعَفاءِ".
(7)
الإِبهام، مثل:"تَصَدَّقْ بصَدَقَةٍ قَلِيلَةٍ أَوْ كثيرة".
(8)
التوكيد، مثل: فإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ"، ومثل: "أَمْسِ الدَّابرُ لَنْ يَعُود" فلفظ "واحدة" ولفظ "الدّابر" كلُّ منهما نَعْتٌ توكيدي، ومنه توكيد إرادة الحقيقة أو إرادة عموم الأفراد، مثل قوه الله تعالى في سورة (الأنعام/6) :
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ
…
} [الآية: 18] .
فَوَصْفُ الطائر بأنّه يطير بجناحيه قد أفاد إرادة الحيوانات التي تطير بأجنحتها دون إرادَة ما يرتفع في الجوّ من غير ذلك كالسُّحُب والأشياء المعنوية غير المرئية، مع إفادة التعيم.
***
ثانياً - عطف البيان:
عطف البيان تابع شبيه بالصفة في إيضاحه لمتبوعه إذا كان معرفة، وتخصيصه إذا كان نكرة، وهو يفارق النعت بأنّ النعت مشتقٌّ أَوْ مُؤَوّلٌ بمشتق، أمّا عطف البيان فجامدٌ دواماً إذَا كان غير جملة، وقد يكون جملة.
ومن عطف البيان ما يقع بعد "أَيْ" أو "أَنْ" التَّفْسِيريتَيْن، أو "إذا" حينما تكون تفسيريّة.
أمثلة:
(1)
"أَقْسَمَ بِاللهِ أَبُو حَفْصٍ عُمَر" فلفظ "عُمَر" عطف بيان جيء به لتوضيح الكنية "أبو حفص" وهو ثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنه، والغرض من هذا التوضيح تمييز هذه الكنية عن مشاركي عُمر بن الخطاب بمثلها.
(2)
قول الله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] فعبارة "طعام" مضافة إلى مساكين عطف بيان جيء بِهِ لتخصيص النكرة الَّتِي هي لفظ "كفّارة" إذ الكفارة
تحتمل أن تكون إطعام مساكين أو غير ذلك، فجاءت عبارة "طعام مساكين" مُخَصَّصة أو مبيّنة للفظ "كفَّارة" المطلق.
(3)
"رَأْيْتُ غَضَنْفراً، أَيْ: أسَداً" فلفظ "أسداً" عطف بيان جاء تفسيراً لكلمة "غَضَنْفراً" بعد "أي" التفسيريّة.
(4)
قول الله تعالى في سورة (الأعراف/7) :
{ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً
…
} [الآية: 44] .
فجملة "قد وَجَدْنا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً" معطوفة عطف بيان جاء تفسيراً للنداء ناداه أصحاب الجنة، بعد "أن" التفسيرية.
(5)
قول الله عز وجل في سورة (طه/20) في معرض حكاية قصة آدم:
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لَاّ يبلى} [الآية: 120] .
فجملة: قالَ يَا آدم هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى" معطوفة عَطْفَ بيانٍ جاء تفسيراً للوسوسة الّتي وسوس بها الشيطان، دُون أن تُسْبَقَ بكلمة "أن" التفسيريّة.
(6)
يأتي في كُتب اللّغة مثل عبارة: "تَقُولُ: امتَطَيْتُ الْفَرَسَ، إذَا رَكِبْتَهُ" فلفظ "إذا" في مثل هذه العبارة تفسيريَّة، وما بعدها عطف بيان جاء تفسيراً لجملة "امْتطيْتُ الْفَرَسَ".
ويمكن أن يُؤْتَى بعطف بيان لبعض الأَغراض البلاغيّة الَّتِي سَبَق بيانُها في النَّعْت، كالمدح، منه قوله تعالى:
{جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97] .
وكالإِيضاح والتفسير.
ملاحظة حو عطف البيان:
يُلاحَظُ أَنَّ عَطْف البيان يكونُ في اللَّقب بعد الاسم العلم، مثل "جَاءَ عليٌّ زيْنُ العابدين". وفي الاسم العلم بعد الكنية، مثل:"أَقْسَمَ بالله أبو حفصٍ عُمَر".
وفي المحلَّى بـ"ال" بعد اسم الإِشارة، مثل:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فيه} [البقرة: 2] . وفي الموصوف بَعْدَ الصِّفَة، مثل:"بعثَ اللهُ الكليمَ مُوسَى إلَى فِرْعَوْن وَمَلَئِه" وَفي التفسير بَعْدَ الْمُفَسَّر، مثل:"الْعَسْجَدُ الذَّهَبُ تَجِبُ فِيه الزَّكاة".
***
ثالثاً - التوكيد:
التوكيد: تابعٌ يُذْكر تقريراً لمتبوعه، بغيةَ رفع احتمال إرادة المجاز، أو رفع احتمال السَّهْو والغلط، وهو قسمان:
القسم الأول: التوكيد اللفظي، ويكون بإعادة اللفظ، أو إعادة مرادفة، سواء أكان اسماً، أم فعلاً، أم حرفاً، أم جملةً، أم شبه جملة.
القسم الثاني: التوكيد المعنويّ، ويكون بسبعة ألفاظ، وهي ما يلي:
(1)
لفظتا "النفس - العين" ويؤكّد بهما لرفع المجاز عن الذّات.
* ففي المفرد نقول مثلاً: "جاء الأمير نَفْسُه، أو عَيْنُه" أي: لا نائبة، ولا رسولُ من قبله يمثّله.
* وفي المثنى نقول مثلاً: "حضر الْمَلِكَانِ أَنْفُسُهما، أو أَعْيُنُهما" بالجمع، وهو الأفصح، ويجوز نفاسهما، أو عيانهما بالمثنى.
* وفي الجمع نقول مثلاً: "حضر الرُّؤسَاءُ أنْفُسُهُمْ، أو أَعْيُنُهم".
(2)
لفظة "كِلَا" ويؤكّد بها المثنَّى من المذكّر، لرفع احتمال إرادة المجاز بأنّ الحاضر أحدهما وقد أغنى حضوره عن الآخر، فنقول مثلاً:"حضر الصديقان كلاهما" و"رَكِبْتُ الْحِصَانَيْنِ السّابِقَيْنِ كِلَيْهِما".
(3)
لفظة "كِلْتَا" ويؤكّد بها المثنَّى مِن المؤنَّثَاتِ، مثل:"امرأةُ نوحٍ وامرأةُ لُوطٍ كافِرَتَانِ كِلْتَاهُمَا" و"دَخَلْتُ الحديقَةَ فوجدت فيها شجرتي تُوتٍ فَأَكَلْتُ مِنْهُما كِلْتَيْهِمَا".
(4)
ألفاظ "كُلّ - جميع - عامّة" ويؤكَّدُ بهَا الجمع من المذكر والمؤنث، فنقول مثلاً: الصَّالحُونَ كُلُّهُمْ، أو جميعهم، أو عامَّتُهم، يدخلون الجنّة يوم الدين" و"الصالحات كُلُّهُنَّ، أو جميعُهُنّ، أو عامَّتُهُنَّ، يدخُلْنَ الجنَّةَ يَوْمَ الدّين".
وَيُؤكّد بهذه الألفاظ لرفع احتمال إرادة الأغلب أو البعض، لأنّ لفظتَي الصّالِحينَ والصّالحاتِ يمكن إرادة عدم العموم فيهما، باعتبار احتمال أن تكون "أل" جنسيّةً أوْ عَهْدِيَّةً وليست استغراقية.
وقد يُرَادُ تَقْوِيَةُ التوكيد فيؤتَى بكلمة "أَجْمَعْ" بعد كلمة "كُلّ" في المذكر، وبكلمَةِ "جَمْعَاء" بعد كلمة "كُلّ" في المؤنث، فنقول مثلاً:"جاء الجيشُ كُلُّه أَجْمَع" و"جاءت القبيلة كُلُّهَا جَمْعَاء" و"حضر الرُّؤسَاءُ كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ".
ويُؤتَى بكلمة "جُمَع" بعد كلمة "كُلّهن" فتقول: "حَضَرَ النّسَاءُ كُلُّهُنَّ جُمَعُ".
وقَدْ يُؤَكَّدُ بألْفَاظ "أَجْمَع، وجَمْعَاء، وأَجمَعِينَ، وَجُمَع" وإنْ لم يَتَقَدَّمْهَا التَّوكيد بلفظة "كُلّ" ولا يجوز تثنية "أجمع" ولا "جمعاء".
قال أبو الهيثم الرّازي: "العربُ تؤكّد الكلمة بأرْبعة تواكيد، فتقول: مَرَرْتُ بالْقَوْمِ أجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْصَعِينَ أَبْتَعِينَ".
وتقول في جمع النِّسْوة: "رَأيْتُ النِّسْوَةَ جُمَعَ بُصَعَ".
الأغراض البلاغية:
قد يُؤتَى بالتوكيد لأغراضٍ بلاغيةٍ غير ما سبَقَ بيانُهُ، كالرَّدّ على اعتقاد غير صحيح، وادّعاءٍ باطل، والتعريض بغباوة المخاطب، وتنزيل المخاطب منزلة منكر
ما دَلَّ عليه التوكيد، والافتخار، والمدح، والذّمّ، والترحُّم، والتشنيع، والإِشعار بهَوْل الحدث وفظاعته، إلى غير ذلك من أغراض يُلْمِحُ إليها البليغ إلماحاً بأسلوب التوكيد.
***
رابعاً - البدل:
البدل: تابعٌ هو المقصود بالحكم في الكلام، ويؤتَى به بَعْدَ المبْدَلِ منه بدون وساطة عاطفٍ بينهما.
أمّا المبْدَلُ منه: فإمّا أن يكون قَدْ ذُكر توطئة وتمهيداً للبدَل، فيأتي البدل بمثابة التفسير بعد الإِبهام، أو التخصيص، أو التوضيح للمراد، وإمَّا أن يكون قد ذُكر على سبيل الخطأ فيأتي البدلُ على سبيل التدارك لتصحيح ما يُرادُ بيانُه.
والبدلُ أربعةُ أقسام:
القسم الأول: بدَلُ الكُلِّ من الكُلِّ، ويُسمَّى الْبَدَلَ المطابق، وهو بدل الشيء ممّا يطابق معناه، مثل قوله تعالى في سورة (الفاتحة) :{اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الآيات: 6 - 7] .
القسم الثاني: بَدَلُ البَعْضٍ من الكُلِّ، أَوْ بَدَلُ الجزء من كُلِّه، وهو بمثابة التصريح بالباقي بَعْدَ الاستثناء، مثل:"أكلتُ الرَّغيفَ ثُلُثَيْه، أو نِصْفَه، أو ثُلُثَه".
القسم الثالث: بَدلُ الاشتمال، وهو بدلُ الشَيْءِ ممّا يَشْتَمِل عليه بوجه عامّ دون أن يكون جزءاً منه، مثل: أدْهَشَنِي مالِكُ بنُ أنس وَقَارُهُ وسَمْتُه، وأَبُو حَنيفة رأيهُ وعُمْقُ تفكيره، والشافعيُ عبقريَّتُه في الاستنباط من النصوص، والإِمامُ أحْمَدُ حِفْظُهُ ووَرَعُه".
القسم الرابع: البَدلُ المباين، وهو ثلاثة أقسام.
(1)
بدل الغلط، ويأتي تداركاً لشيءٍ غير صحيح ولا مراد، لكن سبَق إليه الفكر أو اللّسان على سبيل الغلط.
(2)
بدل النيسان، ويأتي تصحيحاً لأمر قُصِدَ أوّلاً، ثُمَّ ظهر للمتكلّم أنَّه قد كان ناسياً.
(3)
وبدلُ الإضراب عن المبْدَلِ منه، ويأتي تداركاً لما يرادُ التعبير عنه، مع صحّة إرادة الْمُبْدَلِ منه، لكن المتكلّم أضربَ عنه صارفاً النظر عن الاهتمام به، أو موجّهاً النظر بعنايةٍ إلى الْبَدَل.
أمّا كَوْنُ البدل من القيود في الجملة فيظْهَرُ في بعض أقسامه بلا إشكال، أمّا قسم البدل المباين فإدْخاله في عموم القيود هو على سبيل التسمُّح، وعلى معنى أن البدل صحَّح ما سَبَق في البيان بقيْدٍ لفظيّ مُلْغٍ لَهُ على سبيل الإِبدال.
الفوائد البلاغية:
وتظهر فوائد بلاغية في الأقسام الثلاثة الأولى للبدل:
* منها التفسير والتوضيح بعد الإِجمال، أو الإِبهام أو التعميم، لتثبيت المعنى في نفس المتلَقّي، وهذا يظهر في بدل الكُلّ من الكُلّ.
* ومنها الإِشعار بأنّ البعض قد تبلُغُ أهميَّتُه حتّى يكون هو بمثابة الكلّ، فجاء التعبير بالكُلّ أوّلاً، ثُمَّ أُبدلَ منه بعضُه، وهذا يظهر في بدل البعض من الكُلّ.
* ومنها تثبيت الأصل أوّلاً اهتماماً به، ثمّ التوجيه للمقصود بالبيان، فتتحقَّق بذلك فائدتان، وهذا يظهر في بدل الاشتمال.
* ومنها زيادة التقرير بالتفسير والتوضيح، أو بالتكرير المؤكّد.
* وقد تظهر فوائد بلاغيّة في بدل الغلط، وذلك حينما يكون التوجيه غير الصحيح أوّلاً مقصوداً، ثمّ يأتي بعده التصحيح التداركيّ للإِيهام بأنّ الفكر
أو اللّسان لم يُخْطِىء إلَاّ وفي النَّفْسِ عوامل تدعو إلى هذا الغلط، إذْ من المعروف أنَّ فلتات اللّسان قد تدلُّ على ما في الجنان.
* وقد يُقْصَدُ بالبدل التركيزُ على مواطن المدح أو الذّمّ، أو ماله الأهميَّةُ سواءٌ عند المتكلّم أو المخاطَب.
إلى غير ذلك من فوائد.
***
خامساً - عطفُ النسق:
عطْفُ النَّسق: تابعٌ يتوسَّطُ بينه وبين متبوعه واحدٌ من حروف العطف، وهي:"الواو - الفاء - ثُمَّ - حتَّى - أَمْ - لَكِنْ - بَلْ - لَا يَكُونُ - ليس".
ولِكُلّ وا حد من حروف العطف هذه دلالة تُستفادُ في الكلام، بسطها علماء النحو، والمتكلّم البليغ يتحرّى أن يختار منها في كلامه حين يريد العطفَ ما يلائم منها المعنى الذي يريد إعلام المتلَقِّي به.
ومن الظاهر أنّه يتحقَّق بالعطف مزيد فائدة يستفيدها مُتَلَقِّي الكلام.
الفوائد البلاغية:
لِلْبلاغيين نظراتٌ فوق الأوضاع اللّغويّة للدلالة التي تُستفادُ بالعطف وحروفه، ومنها ما يلي:
(1)
التفصيل مع الاختصار. فقولنا: "جاء مُحمَّد وعلي - جاء محمد فعلي - جاء مُحَمَّد ثُمّ علي" أخصر من أن نقول: جاء محمد جاء علي، وهكذا، وهذا من أصل فوائد العطف، والبليغ يهتمّ بالإِيجاز.
(2)
إراد التشكيك بحرف العطف "أو".
(3)
تجاهل العارف بحرف العطف "أو".
(4)
بعض الأغراض التي تستفاد ببدل الإِضراب، باستخدام "بل".
(5)
إراد الترتيب في الرتبة أو في الذكر على سبيل المجاز، باستخدام "الفاء" التي تفيد الترتيب مع التعقيب، أو باستخدام "ثُمَّ" الَّتِي تفيد الترتيب مع التراخي.
إلى غير ذلك من فوائد بلاغيّة يمكن استنباطُها من النصوص، أو تصيُّدها عند الأحوال المقتضية لها.
***
(6)
التقييد بضمير الفصل
ضمير الفصل هو ضمير منفصل من ضمائر الرفع، يُؤتَى به لغرض الفصل بين ما هو خبر وما هو تابع.
ويقع فصلاً بين المبتدأ والخبر، مثل: المتنبي هو شاعر العربيَّة المبدع".
ويقع فصلاً بين ما أصله مبتدأ وخبر ممّا دخل عليه أحَدُ النواسِخِ، مثل:"إنْ كَانَ هذا هو الحق - وكُنْتَ أَنْتَ الرّقيبَ عليهم - وكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثينَ - تَجِدُوهُ عند اللهِ هُوَ خيراً".
الفوائد البلاغية:
يستفاد من ضمير الفصل فوائد بلاغية متعدّدة، منها ما يلي:
(1)
التخصيص، بقصر المسند على المسند إليه، مثل قول الله عز وجل في سورة (التوبة/9) :
{أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [الآية: 104] .
(2)
تأكيد التخصيص، إذا كان في الجملة مُخَصِّصٌ آخر، كما في المثال الثاني من الآية السابقة، وكما هو قول الله عز وجل في سورة (الذاريات/51) :
{إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الآية: 58] .
فالتخصيص مستفاد من تعريف طرفي الإِسناد، وجاء ضمير الفصل مؤكّداً له.
(3)
تمييز الخبر عن الصفة، مثل قولنا:"الْفَصِيحُ هو مُوضِح البيان طَلْقُ اللِّسَان".
إلى غير ذلك من أغراض بلاغية يمكن استنباطها أو تصيُّدها.
***
(7)
التقييد بالشرط
يدخل الشرط على الجملة لربط الحكم فيها بحكم آخرَ في جملة أخرى ربطاً شرطيَّاً، فتكون الجملتان بمثابة جملة واحدة، وتُسمّى عندئذٍ جملة شرطيّة.
ويلاحظ في الجملة الشرطية أنّ الشرطَ فيها قَيْدٌ للحكم في الجملة التي هي جواب الشرط، ففي قولنا:"من آمَنَ وعَمِل صالحاً دخَلَ الجنة" نلاحظ أنّ تحقُّق الإِيمان والعمل الصالح المبيّن في الجملة الأولى قَدْ جُعِل في الكلام شرطاً لتحقُّق دخول الجنة في الجملة الثانية، والأداةُ الرّابطة بين الجملتين هنا كلمة "مَنْ" الشرطيّة.
وأدوات الشرط قسمان: أدوات عاملة فيما بعدها، وأدواتٌ غير عاملة.
* أمّا الأدوات العاملة: فهي التي تجزم فعلين أوّلُهما فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه، وهي:
(1)
"إن - إذْمَا" وهما حرفان.
(2)
"مَنْ - مَا - متَى - أَيْنَ - أيْنَما - أَيَّانَ - أَنَّى - حَيْثُما - كَيْفَمَا - مَهْمَا - أيُّ" وهي أسماء.
* وأمّا الأدوات غير العاملة، فهي:"لَوْ - لَوْلَا - لَوْمَا - أَمَّا - لَمَّا" وهي حروف، و"إذا" هي اسم ظرف لما يستقبل من الزمن.
وقد فصّل اللّغويون والنحاة معاني أدوات الشرط العاملة وغير العاملة، والفصيح البليغ يتحرَّى استعمالها فيما وُضِعَتْ له، وضمن المعاني الّتي استَعْمَلَها العربُ الفصحاء فيها.
ونَبَّه علماءُ البلاغة على مواقع استعمال بعض أدوات الشرط السّابِق ذكرُها، إذْ لاحظوا أنّ بَعْضَ شارحي النصوص البليغة ومُفَسِّريها لَمْ يكْشِفُوا فروق دَلالات هذه الأدوات، مكْتَفِينَ بدلالاتِها الشرطيّة العامّة، كما أنّ بعض الكتَّاب والشُّعراء يَغْلَطُونَ فيضَعُونَ بعضَ هذه الأدواتِ في المواقع التي لا يحْسُنُ وضْعُها فيها.
وقد أَبَان البلاغيّون الفرق بين أداة الشرط "إنْ" وأداة الشَّرْط "إذا" فرأوا من تتبُّع النُّصُوصِ الرَّفيعة أنّ حرف الشرط "إنْ" يُسْتَعْمَلُ غالباً فيما يَرى المتكلّم أنّ ما جُعِلَ شرطاً وهو ما دلَّتْ عليه جملة الشرط أمْرٌ مشكوكٌ في وقوعه مستقْبلاً، أو هو نادر الوقوع. وأنّ اسم الشرط "إذا" يُسْتَعْمَلُ غالباً فيما يَرى المتكلم أنَّ ما جُعِلَ شرطاً وهو ما دلّتْ عليه جملة الشرط أمْرٌ مُتَحقِّق الوقوع، أو هو مَرْجُوّ الوقوع.
فالبليغ مطلوبٌ منه، أن يستَعْمِلَ كُلاًّ من "إنْ" و"إذا" فيما هو الغالبُ من استعماله، ليشير في كلامه بكلمة "إنْ" الشرطيَّة إلى الشَّكِّ في وقوع الشرط أو ندرته، وليشير في كلامه بكلمة "إذا" إلى تَحَقُّقِ الشرط مستقبلاً، أو إلى رجاء تحقُّقه.
على أنّ كلمة الشرط "إنْ" باعتبارها أمّ أدوات الشرط قَدْ يقتضي الكلام
استعمالها في غير المشكوك فيه أو النادر، ولا سيما حينما يتردَّدُ الشرط بين احتمالين أو احتمالات متعدّدات، مثل أن نقول:"إن استوفى المصلي المطلوبَ منه وجوباً صحَّتْ صَلاتُه، وإنْ لم يستوف المطلوبَ منه وجوباً لم تَصِحَّ صلاتُه" فلفظ "إنْ" في هذا المثال وأشباهه لا يشير إلى أنّ الشرط مشكوكٌ في تحقُّقِهِ أو نادر.
وللبلغاء ذوقٌ دَرّاكٌ للمواطن التي يَحْسُنُ فيها استعمال "إنْ" الشرطية، وللمواطن التي يَحْسُنُ فيها استعمال "إذَا".
ومن الأَمثلة التي جاء فيها استعمال كلٍّ من "إذا" و"إنْ" الشرطيتَيْنِ في مكانه المناسب تماماً، قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/7) : يقصُّ قصّة موسَى عليه السلام وآل فرعون:
إنّ مَجْرَى إمْدَادِ اللهِ الناسَ بالحسنات في الحياة الدُّنيا أَمْرٌ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ القاعِدَةُ الأَغْلَبِيَّة، ولو كانوا كفَّاراً مُجْرمين، لذلك جَاءَ استعمال كلمة "إذَا" داخلةً على شرط مجيء الحسنة لآلِ فرعون، أمَّا الإِصَابَةُ بالسَّيِّئَة فأمْرٌ نادرٌ وقليلٌ بالنسبَة إلى تواتر الحسنات، وتأتي للتذكيرِ، والتَّنْبِيه على عقوبات الله الكبرى التي جاء بها الوعيد الرَّباني، لذلك جاء استعمال كلمة "إنْ" داخلة على شرط الإِصابة بالسيّئة.
قال الزمخشري في الكشاف: "وللْجَهْلِ بمواقع (إنْ) و (إذا) يَزِيع كثير من الخاصَّة عن الصواب فيَغْلَطُونَ، ألَاّ ترى إلى (عبد الرحمن بن حسَّان) كيف أخطأ بهما الموقع في قوله يخاطِبُ بعض الولاة وقد سأله حاجَةً فلم يقضها، ثُمَّ شُفِعَ لَهُ فيها فقضاها:
أَبَى لَكَ كَسْبَ الْحَمْدِ رَأَيٌ مُقَصِّرٌ
…
ونَفْسٌ أَضَاقَ اللهُ بالْخَيْرِ بَاعَهَا
إذا هِيَ حَثَّتْهُ عَلَى الخير مَرَّةً
…
عَصَاهَا وإنْ هَمَّتْ بِشَرٍّ أَطَاعَها
ولو عكس في استعمال الأداتين لأصابَ الغرض".
أي: لو قال: فإن هي حثته
…
وإذا همت بشرٍّ
…
* وذكر البلاغيّون أنّ كُلاًّ من حَرْفِي "إنْ" و"إذا" الشرطيَّيْن قد يستعمل في موضع الآخر لأغراض بلاغيّة، منها:
(1)
تجاهل العارف، كأن يقول المتعذر عن أمْرٍ لا يليق به:"إنْ كنتُ فَعَلْتُ هذا الأَمْرَ فأرجو العفو والمسامحة" وهو يعلم من نفسه أنّه فعله، وكأن يقول المغاضب لصاحبه:"إنْ طرقْتُ بابَكَ بَعْدَ اليْوم فلا تَفْتَحْ لي" وهو يعلم من نفسه أنّه لا يصْبر على هجره. وكأنْ يقول مُدَّعِي ما ليْسَ له: "إِذَا كَانَ هذا حَقِّي فَلا بُدَّ أنْ أصل إليه" وهو يعمل أنّه لا حقّ له به.
(2)
تنزيل المخاطب منزلة مُنْكر الحقيقة، كأن يقول الأب لابنه الخارج عن واجب البرِّ:"إنْ كنْتَ ابْنِي حَقَّاً فَلا تَعْصِنِي".
(3)
تنزيلُ الشَّاكّ منزلةَ غير الشاكّ، للإِشعار بأنّ وضوح الأدلة يقتضي عدم وجود الشّك أَصْلاً، كأن يقول المؤمن الذي يناظِرُ غير المؤمن حول قضايا الإِيمان الكبرى:"إِذَا كنْتَ تُسَلّم بالبراهين العقلية الدَّامِغة فلا بُدَّ أن تُؤْمِنَ باللهِ واليوم الآخر وَالقرآن وخاتم المرسلين محمد بن عبد الله وما جاء به عن ربّه".
(4)
تغليب واقع حال العدد الأكثر من المخاطبين على العدد الأقل، وقد يُحْمَلُ على هذا قول الله عز وجل في سورة (البقرة/2) خطاباً للجاحدين من المشركين بأن القرآن مُنَزَّل مِنْ عند الله عز وجل:
{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ
…
} [الآية: 23] .
أَفْهَمَ اسْتِعْمالُ "إنْ" في هذا النَّصّ أنّ العدد الأكثر من المشركين لم يكونوا شاكّين في أنَّ القرآن كلامٌ مُنَزَّل من عند الله، إنما كانوا جاحدين معاندين، والمعنى أن احتمال وجود الشّكّ في القرآن عندكم أمْرٌ قليلٌ ونادِرٌ، فأكثركُمْ معاندون.
والأصل أن يكون فعل الشرط مع أدَائَيْ "إنْ" و"إِذَا" فِعْلاً مضارعاً، وقد يأتي فعلاً ماضياً لفظاً، إلَاّ أنّ معناه بأداة الشرط انقلب إلى الاستقبال، والبليغ حين يستعمل فعل الشرط ماضياً مع "إنْ" أو "إذا" يُلاحظ غرضاً بلاغيَّاً، ومن هذه الأغراض:
(1)
الإِشعار بتحقُّقِ الوقوع فكأنه أمْرٌ تَمَّ وُقُوعُهُ، مثل:{إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1]، {إِذَا السمآء انشقت} [الإنشقاق: 1] ، {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] .
(2)
التفاؤل بتحقُّق الوقُوع، مثل قول الفقير المعدم:"إذا رزقني اللهُ مالاً وفيراً اشتريت داراً واسعة جميلة وأدّيت فريضة الحجّ".
(3)
إظهار الرغبة في تحقُّق الوقوع، مثل قول التاجر الطامع بشراء صفقة تجاريّة رابحة:"إذا تَمَّتْ هذِهِ الصَّفْقَةُ التِّجَاريَّة حصَلَ لنا منها رِبْحٌ وفير".
(4)
التعريض، مثل أن يقول الباحث عن زوجة مناسبة أمام من يرغب أن يتزوَّجَها، إِذَا وَجَدْتُ الجميلة الذكيّة العاقلة ذات الخلُق والدِّين فإنّي أُحِبُّ الزّواج مِنْها إِذَا وَافَقَتْ هِي وأهْلُها.
إلى غير ذلك من أغراض.
على أن حرف الشرط "إنْ" قد يُسْتعمل في غير الاستقبال لفظاً ومعنىً، قياساً مُطَّرِداً في موضعين:
الموضع الأول: أن يأتي فعل الشرط لفظ "كان".
الموضع الثاني: أن يأتي حرف "إنْ" في مقام التأكيد بعد واو الحال لمجرّد
الربط دون إرادة الشرط منه، مثل أن يقول المحبّ لحبيبه:"سأزورُكَ وَإِنْ هَجَرْتَنِي، وأكْرِمُكَ وإِنْ أَهَنْتَنِي، وأحْبَبْتُكَ وإِنْ جَفَوْتَنِي، وذَكَرْتُكَ وإِنْ نَسِيتَنِي".
* أمّا "لو" الشرطيّة فهي على قسمين:
الأول: أنْ تكون للتعليق في المستقبل، وعندئذ تكون مرادفة "إنْ" الشرطيّة، وإذا وَلِيَها فعل "ماضٍ" كان معناه على الاستقبال، وقد يدعو إلى ذلك غرض بلاغي، وهو جعل الأمر المستقبل بمثابة الأمر الماضي، ومن فوائد ذلك التحذير والتخويف، كما في قول الله عز وجل في سورة (النساء/4) :
أي: إنّ من المتوقَّعِ أنْ يتْرُكَ الَّذِينَ لَا يتَّقُونَ اللهَ فِي ذُرِّياتِ غيرهم ذُريّاتٍ لهم يخافون عليهم من ظلم من يتولَّى أمورهم بَعْدَهم.
الثاني: أنْ تكون "لو" للتعليق في الماضي، وهو أكثر استعمالاتها، وتقتضي عندئذٍ لزوم امتناع جوابها لامتناع شرطها إن لم يكن لجوابها سبَبٌ آخر غير الشرط، مثل قول الله عز وجل في سورة (الفرقان/25) :
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} [الآية: 51] .
أي: لم نشأ ذلك فلم نَبْعَثْ، لأنّ الحكمة اقتضت أن نبعث رسولاً واحداً في آخر الزَّمان خاتماً للمرسلين، ورسولاً لجميع العاملين.
وحين تكون "لو" للتعليق في الماضي فالأصل أن يكون كلٌّ من فِعْلَي الشرط وجوابِه فِعلاً مَاضياً، وقد يَسْتَعْمِلُ البليغ الفعل المضارع لغرض بلاغي، ومن الأغراض البلاغيّة في هذا الاستعمال ما يلي:
الغرض الأول: قصد الاستمرار في الماضي حيناً فحيناً، مثل قول الله عزَّ
وجلَّ في سورة (الحجرات/49) خِطَاباً للمؤمنين في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم:
{واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ
…
} [الآية: 7] .
الْعَنَت: المشقة، والتعب، وشدّة الضّرر، والفساد.
أي: لو تابع طاعتكم في كثير من الأمور الَّتي تقدّمون فيها آراءً خاصَّةً لوقعتم في العنت، وهذا المعنى يُفْهَمُ من الفعل المضارع الذي يدلُّ على التجَّدُّد في المستقبل، فَقُلِبَ معنى زمانه إلى المضي بحرف "لَوْ" وبقي فيه معنى التجدّد.
الغرض الثاني: تصوير ما سيحدث بصورة الأمر الذي وقَعَ وحدث، فيُؤْتَى بالفعل المضارع للإِشعار بأنَّه أمْرٌ من أُمُورِ المستقبل المتحقِّقَةِ الوقوع، ولمَّا كانت "لو" هذه للتعليق في الماضي كان اجتماع الأمرين بمثابة الإِعلام بأنّ ما نقولهُ من أمْرِ المستقبل هو بقوّة ما وقع وتحقَّقَ فِعلاً، ولهذا أمثلة كثيرة في القرآن، منها قول الله عز وجل في سورة (السجدة/32) :
وُضِع الفعل المضارع "تَرَى" والأصل - دُون ملاحظة الغرض البلاغي - أن يُقَال: ولَوْ رَأَيت. لكن الفعل المضارع أدّى معنى دقيقاً لا يؤدّيه الفعل الماضي هنا.
***