الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسس البلاغة العالية والأدب الرفيع وشرحها
الفصل الأول: الجمال في الكلام
(1)
حبُّ الجمال
حبُّ الجمال فطرةٌ في النفس الإِنسانية، فهي بقوة فطرية قاسرة تميل إليه، وتنجذب نحوه، وليس بمستطاع النفوس أنْ تغيِّر فطرها التي فطرها البارىء المصوِّر عليها.
والجمال شيء يصعب تحديده، ولكن باستطاعة النفوس أنْ تحسّ به وتتذوّقه متى أدركته، وعندئذٍ تميل إليه وتَنْجَذِب نحوه، وتأنس به، وترتاح إليه، وتَسْعَدُ بالاستمتاع بلذّة إحساس المشاعر به ولو تخيُّلاً، ويتفاوت النّاس في قدراتهم على تذوُّق الجمال والإِحساس بدقائقه كشأن تفاوتهم في سائر قدراتهم المادّية والمعنوية: مثل القوى الجسمية، وقدرات الذكاء، وقوى الإِبصار والسمع والشمّ والذوق واللّمس.
والجمال يكون في كل المجالات التي تدركها الحواس الظاهرة والباطنة،
حتى مجالات الأفكار، والتخيّلات، والوجدانيّات، والطباع، والأخلاق، وأنواع السلوك الإِرادي النفسي والظاهر.
ففي ساحة المرئيات تشاهد الأبصار مرئيات جميلة تتفاوت فيما تحظى به من نسب الجمال تفاوتاً كبيراً، وتشاهد مرئيات قبيحة تتفاوت فيما لديها من نسب القبح تفاوتاً كبيراً وتشاهد وسطاً فاتراً لا يجذب بجمال، ولا ينفِّر بقبحٍ. وفي ساحة الأصوات يسمع السامعون أصواتاً جميلة تتفاوت فيما تحظى به من نسب الجمال تفاوتاً كبيراً، ويسمعون أصواتاً قبيحة تتفاوت فيما لديها من نسب القبح تفاوتاً كبيراً، وتسمع أصواتاً فاترة لا تجذب بجمال ولا تُنَفِّر بقبحٍ.
ونظير ذلك في ساحة الروائح، وفي ساحة الطعوم، وفي ساحة الملموسات التي فيها ناعم وخشن، وصلب وليّن، وقاسٍ وَلَدْن، وحارٌّ وبارد.
وفي المشاعر الوجدانيّة ندرك أنَّ لدينا مشاعر وجدانية جميلة لذيذة، كمشاعر الحبّ، ومشاعر الإحساس بفعل الخير، ومشاعر الأبُوَّة والأمومة، والشعور بطمأنينة القلب، وبالأمن. وندرك أنَّ لدينا مشاعر وجدانية قبيحة نتألّم بها، كالشعور بالذّلة والصّغَار، وكالحقد، والحسد، وكالشعور بالخوف والقلق. وندرك أنّ لدينا مشاعر وجدانيّة فاترة لا تُحدِث لذّة نفسية ولا تُحدِث ألماً، كمشاعر الانتماء إلى أسرة مغمورة ليس لها مجد يُحدث في النفس لذّة الافتخار، وليس لها فضائح وقبائح تُحْدِث في النّفس ألم الصَّغار.
وفي الساحة الفكرية نُدرك أفكاراً جميلة حلوة، وأفكاراً قبيحة مرّة، وأفكاراً فاترة لا تُحْدِث انفعال استحسان ولا انفعال استقباح. إنّ الفكرة الذكيّة المبتكرة فكرة جميلة، وإنّ الفكرة الغبيّة المستنكرة فكرة قبيحة، وإنّ الفكرة العاديّة المكرّرة دون غرض فنِّي أدبي فكرة فاترة تمرُّ دون أنْ تثير أي انفعال، وكذلك الفكرة الغامضة التي لا يستطيع من تُعرض عليه أنْ يُدركها. ويمرُّ في أذهاننا شريط أفكار
طويل فلا يُحدث فينا أيّ انفعال من لذّة أو ألم، إنّها أفكار فاترة، وربّ فكرة تمرّ فتثير إعجاباً وانفعالاً عظيماً نحوها، وقد تمرُّ فكرة فتتقزّز النفس منها وتصرفها بسرعة وتتجاوزها.
وفي ساحة التخيّل تمرُّ أخيلة جميلة حلوة لذيذة، وتَمرُّ أخيلة قبيحة كريهة، وتمرُّ أخيلة في شريط طويل، فلا تُحدث أيّ انفعال.
وفي ساحة التعبير البياني عن الأفكار والمطالب والتخيّلات والمشاعر النفسيّة والوجدانيّة تُوجَد تعبيرات بديعة جميلة جذّابة، تتملّك المشاعر، وتؤثِّر في القلوب، وتتفاوت فيما بينها بما تحظَى به من نِسَب الجمال تفاوتاً كبيراً. وتوجد تعبيرات قبيحةٌ منفِّرة، وهذه تتفاوت فيما بينها بما فيها من نِسَب القبح تفاوتاً كبيراً، وتُوجَد تعبيرات فاترة تمرُّ دون أنْ تُحدث في النفوس أيّ انفعال محبوب أو مكروه.
***
(2)
مجالات الجمال
من المعلوم لدى ذواقي الجمال أنّ الزينة من الجمال، وأنَّ كثيراً من المقاصد والمطالب إذا قُدِّمت إلينا مغلّفة بزيناتها أو مقرونة بزيناتِها كنّا أكثر قبولاً لها، وانسجاماً معها، لأنَّ جمال الزينة قد جذبنا إليها، وأقنع عواطفنا وانفعالاتنا بقبولها، ولنحظَى بلذّة الاستمتاع بالجمال، فتتحقّق من وراء ذلك المقاصد الأساسيّة والمطالب.
وهذه الحقيقة تشمل الأفكار، فإذا قُدّمت بعض الأفكار المقصودة وما اشتملت عليه من مطالبِ اعتقادٍ أو عمل ممتزجةً أو مقرونة بزينات جميلة فكرية أو لفظية كانت النفوس أكثر انجذاباً إليها، وقبولاً لها، ثمّ تمسكاً بها أو عملاً بما طلب فيها.
إنَّ شأن الأفكار كشأن المآكل والمشارب والأدوية، وسائر المطالب والحاجات، فمنها ما هو حلو بطبعه، ومنها ما هو حامض، ومنها ما هو مرّ، ومنها ما هو ليّن، ومنها ما هو قاس، ومنها ما هو ناعم، ومنها ما هو خشن، ومنها ما هو مُهَوِّع مثيرٌ للغثيان، ومنها ما هو محرّك للشهوة مثير لِلُّعاب.
حتى الطيِّبات من المآكل والمشارب وغيرها يزيدها حسناً وجمالاً وتطريةً وتحريكاً لشهوات النفوس نَحْوَها إذا قُدّمت في أطباق جميلة نفيسة، وعلى مائدة جميلة أنيقة، وفي أيدٍ نظيفة رشيقة حلوة لِخَدَم مكتملي الأناقة حِسَان، وفي مكان منظّم مليء بالأشياء الحسَنة الجميلة، من منظور ومسموع ومشموم وملموس ونحو ذلك.
فالفكرة المرّة قد تحتاج غلافاً حلواً جميلاً يزيِّنها حتى يبتلعها مَنْ توجّه له.
والفكرة الشديدة الحموضة قد تحتاج مخالطاً يعدِّل حموضتها حتى يستسيغها من توجّه له.
والفكرة القاسية بطبعها قد تحتاج أسلوباً يليِّنها ويعدِّل قساوتها.
والفكرة الخشنة بطبعها قد تحتاج أسلوباً ناعماً يغلِّفها ويهوِّن ابتلاعها.
وكما أنَّ الحسِّيّات الجسدية يحتاج كثير منها إلى ما يجمّله ويحسِّنه ويزيِّنه للنفوس حتى تستسيغه، كذلك الأفكار التي نريد تقديمها إلى الآخرين قد يحتاج كثير منها إلى ما يجمِّله ويحسِّنه ويزيِّنه للنفوس حتى تستسيغه، وهذا التجميل والتزيين والتحسين هو من عناصر الأدب الرفيع لا محالة.
ولكنْ ليس من الضروري لكلّ فكرة مقصودة بالذّات أنْ تُصنَع لها مزِّينات جماليّة لا يكون الكلام ذا أدب رفيع إلَاّ بها. فكثير من الأفكار جمالُها ذاتِيّ، وإذا قُدِّمت مجرّدة من كل الزينات والأصباغ والألوان في أحوال ملائمة لهذا التقديم كانت أرفع أدباً، وكانت النفوس أكثر تقبُّلاً واستساغةً لها، فهي تزدردها او ترتشفها بشهوة بالغة.
وهذا نظير تقديم سيِّد المائدة العظيم لضيفه العزيز قطعة مقشّرة من الفاكهة، أو قطعة منتقاة من أطيب اللحم، مجرّدة من أيَّة زينات موافقة أو مغلّفة لها.
وقد يكون من رفيع الأدب تقديم الفكرة المرّة من غير تغليف ولا تحلية لتقديمها لمن يحسن إذاقته مرارتها، كأنْ يكون عدوّاً مجاهراً بعداوته مواجهاً بشتائمه، وفي بعض الحالات التربويّة نلاحظ أنّه كما يحسن الضرب يحسن ما هو نظيره من الكلام.
***
(3)
حول تعريف الجمال
والجمال في الوجود مع إدراك النّاس له وإحساسهم بكثير من صوره، دقيق العناصر متشابكها فهو شيء يصعب جدّاً تحديده، ويَصْعب قِياسُه، ولا تنحصر ألوانه.
وبما أنّ الأدب لون من الجمال، فهو إذن تنطبق عليه قواعد الجمال العامّة.
إنّ من الجمال أحياناً أنْ تتصنّع الحسناء، ومن الجمال أحياناً أنْ لا تتصنّع، بل أنْ تظهر على طبيعتها. ومن الجمال أحياناً أنْ تلبس الثياب الجميلة الساترة لكثير من مفاتن جسمها بطرائق خاصّة، ومِنَ الجمال أحياناً أنْ تلمح بعض مفاتن جسمها إلماحاً ثمّ تسترها، ومن الجمال أحياناً أنْ تتعرى على طبيعتها من غير ابتذال ثمّ تعود إلى سواترها.
ومِنْ أبدَعِ صُوَرِ الجمال التنويع فيه والتنقلّ من لون إلى لون آخر منه، أمّا الثبات والتكرار للصورة الواحدة في كل الأوقات فهو مُمِلٌّ للنفوس مهما كانت هذه الصورة جميلة.
باستثناء تكرار المقاطع في بعض ألوان صُوَر الجمال، كشجرة الورد على رأس كل زاوية عند منعطف الطريق، أو على رأس كلّ مسافة، لتكون بمثابة الدلالة.
وكذلك حال الأفكار وأساليب عرضها الأدبي، ومثل شجرة الورد المتكرّرة على رأس كل مسافة أو على الزوايا، آية:{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الآية: 13] في سورة الرحمن عروس القرآن. لكنّها صورة قدّمت لوناً من ألوان الجمال الأدبي ومثالاً من أمثلته، قلَّما يوجد في سائر القرآن نظير مطابق لها، بل فيه ألوان أخرى.
ومع وجود قسم من الجمال لا يختلف اثنان في استحسانه، وقدر من القبح لا يختلف اثنان في استهجانه، فكم توجد أوساط مشتبهات تختلف فيها أذواق النّاس، وتختلف وجهات أنظارهم إليها.
فما يستحسنه بعض النَّاس منها قد لا يراه غيرهم حسناً، وما يستقبحه بعض النّاس منها قد لا يراه غيرهم قبيحاً، وتتدخّل النظرات الذاتيّة الشخصية في قسم المشتبهات بشكل واسع، ويصعب فيها تحديد النظرة الموضوعية.
ويخضع الأدب لهذا القانون العام.
فقد يُرْضِي كلام ممدوحاً مغروراً بنفسه بحبّ المديح، فيراه أدباً رفيعاً مستحسناً، لكنّه في الوقت نفسه يُسْخِط حاسداً له، فيراه تزلّفاً تافهاً، وأسلوباً في المدح سخيفاً مستهجناً، ويسمعه فريق ثالث فلا يرى فيه ما يحرّك النفس بإعجاب ولا ما يحرِّك النَّفس بتقزّز واستجان.
وقد تُرْضِي تعبيرات حبِّ معشوقة، فتراها أدباً رفيعاً مستحسناً، فتحفظها وترويها بإعجاب، لكن هذه التعبيرات قد أسخطت في الوقت نفسه أترابها، فرأينها تعبيرات سخيفةً مبتذلة. ثمّ يسمعها حياديّون فلا يرون فيها رأيَ المعشوقة المعجَبَة، ولا رأي أترابها الساخطات، بل يرون فيها أدباً عادّياً.
وهكذا تختلف وجهات أنظار النّاس إلى هذه الأوساط المشتبهات، التي لم يتمحّص فيها الجمال، ولمْ يتمحّض فيها القبح، وتتدخّل عوامل نفسيّة في الاستحسان، أو في عدم الاستحسان، وربّما تتدخّل عوامل أخرى تّتصل بمدى القدرة على الإِحساس بالجمال، أو بمَدَى الخبرة بفنونه وألوانه وأشكاله ونسبته، أو بمَدَى دقّة الملاحظة التي قد تَقَعُ على النّقص فتقف عنده، وتجسّمه حتى يملأ الساحة، أو تَقَعُ على لمحة جماليّة فتقف عندها مُعَجْبَةً وتعظّمها، ويتدخّل الوهم في مدّها حتى تملأ كل الساحة. وهكذا.
***
(4)
عوامل اختلاف نظرات الناس إلى الجمال
لدى تحليل العوامل التي تجعل النّاس يختلفون في نظراتهم الجماليّة إلى الأشياء اختلافاً كبيراً، حتى إنَّ الشيء الواحد قد يستحسنه فريق، وقد يستقبحه فريق آخر، ويجعله فاتراً واقفاً على الحياد فريق ثالث، والمستحسنون له قد يتفاوتون في درجة استحسانه، والمستقبحون له قد يتفاوتون في درجة استقباحه. لدى هذا التحليل نلاحظ العوامل التالية:
العامل الأول: التلاؤم أو عدم التلاؤم بين أجهزة الإِحساس في الإِنسان والأشياء التي يُدْرِكها ويُحِسّ بها.
والأمزجة والأذواق البشريّة تختلف في هذا اختلافاً فطريّاً لا يُنْكَر، وبسبب هذا العامل قد تختلف أحكامهم في هذا المجال.
العامل الثاني: تدخُّل أهواء أو مصالح شخصيّة مرافقة.
وبسبب هذه الأهواء أو المصالح تختلف وجهة نظر أصحابها عن وجهات أنظار الآخرين الذي ليس لهم أمثال هذه الأهواء أو المصالح.
العامل الثالث: حكم العادة والإِلف، فكثير منَ النّاس إذا اعتادوا لوناً من ألوان الجمال آثروه تلقائياً على غيره، وحَكَمُوا بأنّه أحسن وأجمل، وربّما لم يكن كذلك في حقيقة الأمر.
العامل الرابع: مؤثِّرات البيئة، فقد تتواضع بيئة ما على استحسان لون جمالي، وربّما كان عاديّاً جدّاً وابتدائياً من سلّم الارتقاء الجمالي، إلَاّ أنّ تأثير البيئة يجعل الناشئين فيها يقتبسون منها الأذواق الجماليّة، فيتأثّرون بأحكامها الناقصة، أو أحكامها التي لا تَنِمُّ عن ذوق رفيع، وكذلك البيئات الراقية تمنح الناشئين فيها أذواقاً رفيعة، والبيئات تتفاوت تفاوتاً كبيراً في هذا المجال.
العامل الخامس: مدى القدرة على تصيّد نقاط الجمال والإغضاء عمّا سواها، وجعله أرضية لا تثير الانتباه. وقد يكون العكس، فتكون القدرة النقدية ذاتَ إحساس مفرط تجاه تصيّد نقاط النقص أو القبح فقط، أمّا سواها فتُغضي عنه، وتجعله أرضيّة غَيْرَ مُثِيرة للانتباه.
وبسبب هذا العامل بشَطْرَيْهِ وتفاوت نسبة كل منهما في النَّاس تظهر أحكام متباينة أو متخالفة.
العامل السادس: سعة التجارب وضيقها في اكتساب ذوق الإِحساس بالجمال، وتفاوت نسبه.
فذو الخبرات الطويلة الباحثة والناقدة يكون أقدر على تذوُّق الجَمال، وإدْراك درجاته المتفاوتات، من الإِنسان العاديّ غير ذي الخبرة، أو السائر في طريق البحث والنقد، ولم تكتمل بَعْدُ لديه القدرة على تَذوُّق الفروق الجمالية.
(5)
عناصر الكمال والجمال الأدبي
لا بُدَّ أوّلاً من توافر الأركان الأساسية للكلام البليغ، وهي:
(1)
مطابقته لمقتضى حال المخاطب به.
(2)
التزامه بقواعد اللّغة وضوابطها في مفرداتها وتراكيب جملها.
(3)
خلُوّه من التعقيد اللّفظي، والتعقيد المعنوي.
وبعد توافر هذه الأركان الأساسيّة توجد عناصر كثيرة تُكْسِبُ الكلام ارتقاءً أدبيّاً وتُعْطيه جمالاً وإبداعاً، ورونقاً وحياةً، وقدرةً على التأثير والهيمنة على النفوس والأفكار والقلوب.
وبمقدار ما يُمْكِنُ أن يجتمع في الكلام من هذه العناصر، متلائمةً غير متنافرة، متوائمة غير متشاكسة، مُتَحابّة غير متباغضة، مطابقةً لمقتضى حال المخاطب، يكون تسامي الكلام في سلّم الكمال الأدبيّ الرفيع، الّذي يحتلُّ قمّته لدى التحليل المِْجْهَريّ الدقيق كلام الله المعجز، ثمّ يأتي من دونه كلامُ الناس، مع المسافات الشاسعات بينه وبين قمّة كلام الناس.
وكما نقتبس عناصر الجمال والكمال من لوحات الطبيعة التي خلقها الله، فنعمل الأعمال الفنيّة الرفيعة بمحاكاة الفنون المختلفة فيها ضمن قدراتنا البشريّة، ونتتلمذ على الأمثلة الجمالية الكمالية التي تقدّمها لنا، فنكتسب منها الذوق، وفنون الصنعة الرائعة، بأشكالها وألوانها وأنغامها وملامسها وأنظمتها وحركتها وحياتها وعواطفها ولذّاتها وآلامها وذكرياتها وتحسّراتها وآمالها ومخاوفها، إلى سائر الظواهر الطبيعية في كل جامد متحركّ ونام وحيّ.
كذلك يقتبس أهل البصيرة عناصر الجمال والكمال الأدبي من اللّوحات
البيانيّة البديعة المنزّلة من لَدُنْ حكيم عليم، والتي نتدبّر ما نتدبّر منها في كتاب الله المجيد على مقدار قدراتنا البشريّة.
وهذا التدبّر الواعي يحتاج إلى بصيرة نفّاذة لمّاحة، وصبر طويل، ومعالجات متكرّرات، ومعرفة بما توصّل إليه المتدبَّرون السابقون، وبحث مستمر لاستنباطات جديدة، ثم تكون أنصبه الباحثين بعد كل ذلك على مقدار مواهبهم، لا على مقدار البحر المحيط الذي يغترفون منه، ويغوصون في أعماقه، ليستخرجوا من روائعه وبدائعه.
الكلام ولفظ المعنى:
ومن الْبَدَهِيّاَت الأساسيّة أنّ الكلام ذا الدلالة اللّغوية إنّما هو لفظ ومعنى.
* أمّا اللفظ، فينحلّ إلى قسمين:
1-
مفرد.
2-
مركب.
أمّا المفرد في المنظار الأدبي، فيمكن أنْ نقسِّمه إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: اللّيّن السهل، وتتفاوت في ذوق الأديب درجات هذا القسم، فمن هُلاميّ رجراج، مثل الكلمات الخفيفة التي يستطيع الأطفال الصغار المبتدئون بالنطق أن ينطقوا بها صحيحة سليمة، وهي غالباً تتألّف من الحروف الشفويّة والصوتية، ثم الحروف اللّثويّة والصوتيّة، مثل:"بابا - ماما - دادا - لولو" وتتدرّج النسبة ارتقاء، مع المحافظة على صفة اللّين والسهولة، ولكن بالنسبة إلى نطق الكبار العادّيين، مثل:"نَسْمَة - بَسْمَة - رَنَا - دَنَا - وَهَى - وَشَى" ومن السهل اللّين في القرآن قول الله تعالى في سورة (الرحمن 55) :
{الرحمان * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان * الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الآيات: 1 - 6]
القسم الثاني: القويّ الجزل، وتتفاوت في ذوق الفصيح ذي الحسِّ المرهف درجات هذا القسم.
ومن أمثلة القوي الجزل المفردات التالية من سورة (الشمس 91) :
"ضُحاها - جَلاّها - يَغْشاها - طَحَاها - بِطَغْواها - إذا انْبَعَثَ أشْقَاها - فَعَقَروها - فَدَمْدَم عليهم - عُقْباها".
القسم الثالث: الحُوشِيُّ الغريب، وتتفاوت درجات هذا القسم. والحوشي الغريب ما قلّ في العرب استعماله، لثقله على الألسنة، حتى يكاد بعضه يُهمل في الاستعمال عند معظم العرب، مثل المفردات التالية:
الْحَنْطَبَة: بمعنى الشجاعة.
والْحَيْزَبُون، والشَّهْرَبَة: بمعنى المرأة العجوز.
طَخَا الليل: بمعنى أظلم.
تَطَشَّى المريض: بمعنى برىء.
النُّقَاخ: وهو الضرب على الرأس بشيء صلب.
الْهَبَيَّخَة: وهي الجارية باللّغة الحِمْيَرِيَّة.
الْهَبَيَّخُ: وهو الرجل الأحمق، والوادي العظيم، والنهر العظيم.
الْقُدْمُوس والْقُدْمُوسَة: وهي الصخرة العظيمة.
الْعَقَنْفَسُ والْعَفَنْقَس: هو السيِّىء الخلق.
القسم الرابع: الصعب الجموح، وتتفاوت درجات هذا القسم. ومن الصعب الجموح ماهو حوشي غريب، ولكن ليس كل صعب جموح كذلك، فقد لانت في ألسنة العرب كلمات صعاب، وبقيت مستعملة دارجة بيْن أُدبائهم إلَاّ أنّها صعبة على الألسنة لها جُموح ونفور، مثل الكلمات التالية:
غَضَنْفر: من أسماء الأسد.
مُسْتَشْزِر: أي مفتول.
عَقْعَقٌ: اسم لطير.
والأديب رفيع الأدب، مرهف الحسّ في ذوق الكلمات، يختار في كلامه من القسمين الأوّلين:
* اللّين السهل.
* والقوي الجزل.
ويضع ما يختار في موضعه مراعياً حال المخاطب وما يسرُّه من المفردات، وما يلائم ذوقه، ولغة قومه.
ويحسن به أنْ يختار لبعض الموضوعات مفرداتٍ ذاتَ جَرْس موسيقي وإيقاعٍ رشيق.
ويختار أيضاً من الكلمات ما يلائم المعنى من لين وسهولة أو قوّة وجزالة.
ويختار أيضاً من الكلمات ما هو أليق بالمناسبة، وبالموضوع العام للكلام، وأكثر ملاءمة لهما.
ويبتعد عن الحوشي الغريب، إلَاّ في مجال التعليم، أو لنُكَتِ أدبيّة خاصّة.
ويجعل الصعب الجموح مقصوراً على مواطن خاصّة تستدعي النُكتةُ الأدبيّة اختيار بعض منها، مثل كلمة:(ضِيزَى) في وصف القسمة الجائزة غير العادلة، لما لهذه الكلمة بحروفها وصيغتها من إيحاءات تلائم التشنيع على القسمة الجائرة.
والدُّعاة إلى اللهِ مطالبون بالتزام هذا المنهج الأدبي في دعوتهم.
***
وأمّا المركب في المنظار الأدبي: فَلَه تقسيمات من ثلاث جهات:
1-
جهة السبك.
2-
جهة الكثافة.
3-
جهة تواصل الجمل بأدوات الربط أو تفاصلها.
أوّلاًَ- فمن جهة السبك:
ينقسم اللّفظ المركّب إلى أربعة أقسام:
القسم الأوّل: المتلائم المتناسق، المتوائم السهل حَسَنُ السّبك.
القسم الثاني: المتنافر الصعب العَسِر النطق.
القسم الثالث: سيِّىء السَّبك ضعيف الإِنشاء.
القسم الرابع: معقَّد الترابط صعب الفهم.
والأديب البليغ رفيع الذوق، ذو الحسّ المرهف، المتمرّس بصناعة القول الرفيع، يحاول أنْ يكون كلامه سليماً من أنْ يكون سيِّىء السبك، ضعيف الإِنشاء، ومن أنْ يكون معقّد الترابط صعب الفهم.
ويتحرّى أنْ يكون كلامه من القسم الأوّل (المتلائم المتناسق المتوائم السهل حَسَن السبك) .
ويبتعد جَهْدَ مستطاعه عمّا هو متنافرٌ صعب عَسر النطق، ويُولِي عناية للعناصر الجماليّة التالية:
(1)
صياغة الجملة صياغة فنّية سَهْلَة الفهم، لا توقع فكر المخاطب بارتباك في ربط مفردات الجملة، ولا تُكَلِّفه مشقّة، حتى يفهم المراد منها.
(2)
رصْف الجمل رصْفاً يثير الاستحسان والإِعجاب لدى المخاطب. وقد يحتاج هذا إلى التفنُّن في الجُمل، ما بين متوازنات طولاً وقصراً أحياناً، ـ وبين طويلة ومثل نصفها أو ثلثها أحياناً أخرى، وبين ترك التوازن ليذهب الكلام منساباً. وقد يحسن التكرير في بعض هذه العمليّات.
ولا ضابط لمَواطن الجمال فيها إِلَاّ الحسّ المرهف الذوّاق للجمال الأدبي.
(3)
وقد يَجْمُلُ بعض السجع غير المتكلَّف ولا المتصنَّع، بشرط عدم الالتزام به في كل الكلام.
(4)
المحسِّنات البديعية اللّفظية التي تأتي مناسبة محبّبة غير متكلّفة ولا متصنّعة.
(5)
فنون الشعر الذي له تأثير في أساليبه وموسيقاه على مشاعر كثير من النّاس.
ورجال الدّعوة إلى الله مطالبون بالعناية بهذه العناصر الجمالية الأدبيّة في دعوتهم، إذا خَطبوا، أو حاضروا، أو تحدّثوا، أو كتبوا، أو نظّموا شعراً، أو ألّفوا مؤلفات علميّة، أو توجيهيّة، أو أدبيّة. وأنْ يُسَخِّروا أدبهم في خدمة الدّعوة إلى الله.
ثانياً - ومن جهة الكثافة:
ينقسم الكلام إلى ثلاث مراتب، تُعرف عند علماء البلاغة بالإيجاز، والمساواة، والإِطناب، كما سيأتي بيانها إن شاء الله في علم المعاني.
ولكلّ من هذه المراتب درجات متفاوتات.
وأشرح الكثافة في بناء الكلام وأشرح مستوياتها في تحليل أدبي فكري، فأقول:
تخضع التعبيرات الكلاميّة عن المراد لنِسَب متفاوتة من الكثافة.
فمِنَ الكلام ما هو شديد الكثافة، وقد تشتدّ فيه حتّى يكون بمثابة قطعة من الصخر، لا تُعرف عناصرها حتى تُكسر وتُطحن، وتُفرَّق الأجزاء عن بعضها، وتحلّل بوسائط.
وبعض متون العلم المكثّفة المختصرة هي من هذا القبيل، وقلّما يسلم التكثيف الشديد في الكلام من الإِخلال في الدلالة على المراد.
وفهم المكثّف من الكلام يحتاج إلى ملكات ذهنيّة عالية، أو إلى تدريب ممارسة طويلة، وتعلّم على أيدي أهل العلم.
وتخفّ الكثافة ببسط الكلام وتمديده، ويتدرّج ذلك في سلَّم كثير الدرجات، ولكنْ ليس لدينا ميزان نزن به كثافة الكلام، شبيه بميزان الكثافة الذي توزن به السوائل، فالمرجع في تحديد الكثافة أذواق العلماء والأُدباء، وملاحظة سهولة استساغة الكلام من قبل العامّة أو عدم ذلك.
وباستطاعتنا أنْ نقسِّم مستويات الكثافة في الكلام إلى ثلاث مراتب، ولكلِّ من هذه المراتب الثلاث درجات متفاوتات.
المرتبة الأولى:
هي مرتبة الكلام الموجز المختصر. ولهذه المرتبة عدّة درجات ما بين شديد الكثافة، أي شديد الإِيجاز والاختصار حتى مستوى الرمزيّة، وما بين كثافة يتحمّل الإِنسان العادي فهمها ولكن بشيء من الممارسة والتدرّب والتأمّل.
وعنوان هذه المرتبة عند علماء البلاغة: (الإِيجاز) . وتستخدم هذه المرتبة لدى اختبارات الذكاء، ولدى مخاطبة الأذكياء وكبار القوم وأمرائهم، بشرط أنْ يكون المخاطب بها قادراً على فهم المراد ولو بتأمُّل يسير، وبالنسبة إلى أحوال هؤلاء تداول الأُدباء قديماً عبارة (البلاغة الإِيجاز) .
وتستخدم هذه المرتبة في الخلاصات العلمية التي يعدّها طلاّب العلم للحفظ، وتَذَكُّرِ المسائل العلمية بها.
المرتبة الثانية:
هي مرتبة الكلام الذي هو متوسط البسط، وضابطه فيما أرى أن يكون لكلّ
فكرة يراد الدلالة عليها لفظ يدل عليها، أو صيغة تدلُّ عليها، أو تركيب خاصٌّ يدل عليها، بشرط أن يكون المخاطب عارفاً بذلك ويفهمه دون كدٍّ ذهنيّ، ودون حاجة إلى تأمّل طويل.
وقد يبدو أنّ هذه المرتبة ليس فيها درجات متفاوتات، إلَاّ أنّني أرى خلاف ذلك، فلها فيما أرى درجات، وتختلف هذه الدرجات وتتفاوت، باختلاف أحوال المخاطبين وتفاوتهم في قدراتهم على الفهم، واستيعاب دلالات الكلام، وفي معرفة دلالات الصِّيَغ والتراكيب، وفي التمرّس بمتابعة فهم المعاني من الكلام.
فمتوسّط البسط من الكلام بالنسبة إلى المبتدىء ليس هو كذلك بالنسبة إلى الذي تقدّم أشواطاً في معرفة دلالات الكلام وفهمها. وكبار القرّاء لهم متوسط يناسبهم، والأذكياء لهم متوسط يناسبهم، والأطفال لهم متوسط يناسبهم.
فيدخل في تحديد نسبة التوسّط اعتبار حال المخاطب.
وعنوان هذه المرتبة عند علماء البلاغة (المساواة) ولكن ربّما كان تحديدي لها يختلف مع تحديد علماء البلاغة.
ويحسن استخدام هذه المرتبة في معظم الأحوال، ولا سيّما لدى كتابة صكوك العقود والمعاهدات، وكتابة المواد القانونيّة، وكتابة متون العلوم، والتعريف بالمبادىء في نصوص معدّة للحفظ والتداول بين النّاس، ومن ذلك كثير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قوله:
"اجتنبوا السبع الموبقات".
قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟.
قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النّفس التي حرّم الله إلَاّ بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقَذْف المُحْصنات المؤمنات الغافلات". رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة
المرتبة الثالثة:
هي مرتبة الكلام المبسوط، والكلام المبسوط هو ما لو حذف منه شىءٌ بالنسبة إلى حال المخاطب به لفهم المراد فهماً تامّاً، دون كدٍّ ذهني، ولا تأمّل طويل، ولَمَا حدث لديه أيّ ارتباك فكريّ أو غموض، ولَمَا نقص لديه من الفهم شىءٌ.
والكلام المبسوط له حدود دنيا، يمثّلها ما زاد على نسبة التوسّط ولو قليلاً، ثم تزداد درجات البسط كلّما زاد بسط الكلام، ولا حدّ لأكثرها، وباستطاعة الثّرثار أنْ يَمُدَّ كلاماً تكفي صفحة واحدة لفهم المراد منه فهماً كاملاً تامّاً، دون إِرباك ولا كدّ للذهن ولا تأمّل طويل، فيؤلّفَ كتاباً من مئات الصفحات ثم لا يخرج قارئها بأكثر ممّا فهمه قارىء الصفحة الواحدة، ونلاحظ أمثلة كثيرة لهذه الثرثرات في كُتب الشيوعيّين، وكُتب الَّذين نَسَجُوا على منوالهم، والغرض من الثرثرة تغطية عيوب المضامين الفكريّة، والإِيهام والتعمية على الغوغائيين من المراهقين والمراهقات في أعمارهم أو في أفكارهم، ولا سيّما إذا اقترنت هذه الثرثرات بعبارات غامضات ومصطلحات تُوهِمُ أنّ وراءها فلسفة وعلماً عظيماً.
وعنوان هذه المرتبة عند علماء البلاغة: (الإِطناب) . إذا كانت الزيادة في الألفاظ ذات فائدة، وإلاّ كانت الزيادة من قبيل الإسهاب والتطويل.
وقد يحسن استخدام ما يدخل في هذه المرتبة من الكلام في دروس التعليم، وفي مجالس الوعظ العامّة، وفي الخطب التي تُلقى على جماهير، وفي بعض مجالس المؤانسة والمحادثة، وفي إلقاء القصص أو كتابتها، ولكنْ يشترط في ذلك أنْ لا يصل المتكلّم بالمخاطبين أو بالقرّاء إلى مستوى السأم والْمَلَل، فبعد السأم والملل يكون الضجر، ثم النفور، وعندئذٍ يثمر الكلام عكس المقصود منه، ويشترط أيضاً أن ْ يكون بسط الكلام عن طريق الاستطرادات الخارجة عن أصل موضوع الكلام، ومعلوم أنْ الاستطرادات تجرّها أدنى مناسبة.
ثالثاً: ومن جهة تواصل الجُمل بأدوات الربط وتفاصلها:
فقد حرّر علماء ضوابط ذلك في مبحث "الفصل والوصل" كما سيأتي بيانه في علم المعاني إن شاء الله تحريراً كاملاً فيما أرى الآن، إلَاّ أنّ ضوابطهم تحتاج إلى تطبيقات واسعات على الأمثلة، لتدريب المهتمّين بفنون الأدب وصناعة الكلام.
فعلى رجال الدّعوة إلى الله أنْ يكونوا على بصيرة بمحاسن الفصل والوصل بيْن الجمل في الكلام، حتّى يكون كلامهم أرفع أدباً، وأعظم تأثيراً.
وأعظم معلِّم لمحاسن الفصل والوصل بيْن الجمل كِتاب الله ثم أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم.
***
* وأمّا المعنى فالنظر إليه يكون من جهات ثلاث:
الجهة الأولى: جهة كوْن المعنى له لفظ لغوي موضوع أو مستعمل في عُرْف النّاس أو في مصطلحاتهم للدّلالة عليه، أو ليس له لفظ يدلّ عليه.
الجهة الثانية: جهة الدّلالة على المعنى عن طريق الأسلوب الكلامي المباشر، أو عن طريق الأسلوب الكلام غير المباشر.
الجهة الثالثة: جهة المعاني أنفسها وقيمها الفكريّة والجماليّة.
والبحث العلمي الشامل المتّزن يأخذ بأيدينا إلى النّظر الثاقب في المعاني من هذه الجهات الثلاث.
***
وبنظرة عَجْلى وبحث أوّليّ متواضع أعقد لكل جهة من هذه الجهات الثلاث مقولة خاصّة بها.
اوّلاً - مقولة الجهة الأولى حول المعنى:
وهي كون المعنى له لفظ يدلّ عليه أو ليس له لفظ يدلّ عليه.
إنّ المعاني التي يمكن أنْ يحيط بها علم الإِنسان، أو يصل إليها إدراكُه الذهني، أو تخيُّلاته، تنقسم إلى قسيمن:
القسم الأول: هي المعاني التي لها ألفاظ لغويّة تدلّ عليها.
القسم الثاني: هي المعاني التي ليس لها ألفاظ لغويّة تدلّ عليها.
* مثل بعض الوجدانيّات والمشاعر النفسيّة التي لا يجد الشاعر بها ألفاظاً تدلّ عليها.
* ومثل بعض المركبات التخيّلية التي ليس لها أمثلة في الواقع.
* ومثل الغيبيّات التي لم يصل إلى حسّ النّاس أيّة صفة من صفاتها، ولكنْ أدركوا بعض آثارها، كالجاذبيّة قبل أنْ يتنبّه العلماء إليها ويضعوا لها اسماً.
* ومثل كثير من عناصر الأرض ونباتاتها وحشراتها وأجزاء الأجسام المركّبة التي لم يحدّد النّاس بَعْدُ أسماءً لها.
* ومثل كثير من الطعوم والروائح التي لا تُحْصَر فروعها، وإنْ عرفت أصولها، وكذلك الأصوات وما بينها من فروق وما لأصول أنغامها من فروع.
* ومثل كثير من الأعمال ذات الحركات المركّبة المتداخلة التي صار النّاس يشاهدونها بعد اختراع الآلات واكتشاف الطاقات.
وكلّنا نلاحظ أنّه كلّما وضح في أذهان النّاس معنى من هذه المعاني، وصاروا بحاجة إلى تداوله والتعبير عنه بدأوا يضعون لفظاً منقولاً أو مرتجلاً يدلّ عليه، ومع تداول هذا اللّفظ مشيراً إلى المعنى الذي وُضِع له يغدو رمزاً معروفاً،
فكُلما ذُكِرَ اللّفظ ربط به الذّهن معناه، مستخرجاً له من خزائن المعاني عنده، ووضعه في ساحة التصوّر الحاضر.
وتعجُّ كتب العلوم بالألفاظ المستحدثَة التي هي من هذا القبيل، وتُعْرَف بالمصطلحات العلميّة.
وتتزايد في تداول النّاس ضمن لغاتهم الدَّارِجات ألفاظ تدلُّ على معانٍ لم يكنْ لها من قبل ألفاظ تدلُّ عليها، لأنَّ هذه المعاني لم تكن موضوعة من قبل موضع التداول العام، إذْ لم تكنْ الحاجة ماسّة إلى تداولها بين النّاس.
وفي المقابل تموت ألفاظ دالّة على معانٍ لأنّ هذه المعاني لم تعد الحاجة ماسّة إلى تداولها، كأسماء بعض الأدوات التي أهمل النّاس استعمالها.
ومِنَ المُلاحظ أنَّ اللّغات يسرق بعضها من بعض مَعَانِيَ وألفاظاً فتغدو متداولة في غير مواطنها الأصليّة بعدَ أنْ لم تكنْ كذلك.
وكثيراً ما يحتال الإِنسان ليدلّ الآخرين على معنى لا يجد له في اللّغة لفظاً يدلّ عليه دلالة واضحة، إذْ يَلْحَظُ شبهاً قويّاً أو ضعيفاً بينه وبين شيء ممّا له في اللّغة لفظ يدلُّ عليه، فيستخدم اللّفظ الدالَّ على هذا الشبيه فيضرب مثلاً منه، وإذا كان هذا المعنى الشبيه قابلاً للتعميم، ثم التجريد من الحدود الحسّية إذا كان من الحسّيّات، فإنَّ الإِنسان يلجأ عادة إلى التعميم بملكة التعبير اللَّغويّة الموجودة في فطرته المكتسبة من مجتمعه، وعندئذٍ ينقل اللّفظ الموضوع أساساً في عرف النّاس للمعنى الحسِّي، ويعمِّمه ثمّ يجرِّده من الحدود الحسِّيّة.
لقد كان الباب لفظاً دالاًّ في الحسِّيَّات على المدخل المخصّص وسط حاجز أو سُور، والذي يمكن فتحه وإغلاقه عند الحاجة، فيدخل منه الإِنسان هو وأشياؤه إلى دار أو بستان أو مدينة أو مغارة أو نحو ذلك، أو يخرج منه
…
ثمّ لاحظ النّاس أنّ هذا المعنى إذا عُمِّم وجُرِّد من الحدود التي عرفوها عند
الإطلاق الأوّل كان لفظ الباب قابلاً لأنْ يدلَّ على المنفذ الذي يدخل منه الطائر إلى عشِّه ويخرج منه، والّذي يدخل منه الحيوان إلى جُحْرِه ويخرج منه، وعلى الثَّقْب الذي تدخل منه النحلة إلى خليَّتها وتخرج منه.
ثم اتّسع التعميم فصار قابلاً لأنّ يدلَّ على حَواجِزَ في السحاب تحجز الأمطار عن الهطول، وربّما تكون هذه الحواجز طاقات ذاتَ أنظمة خاصّة، فإذا حُرِّكت هذه الحواجز تحريكاً يسمح بهطول الأمطار هطلت الأمطار. ومنه التعبير القرآني في سورة (القمر54) :
{فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} [الأية: 11] .
ثم انتقل الذهن من التعميم إلى التجريد، فصار للرزق أبواب وهي أبواب معنويّة، وصار للعلم أبواب وهي أبواب معنويّة، ومن ذلك التعبير القرآني في سورة (الأنعام: 6) :
مُبْلِسون: أيْ يائِسون مبهوتون متحيّرون ساكتون قد انقطعت حجّتهم وهيمن عليهم الخِزْي والندم.
ونظير الباب المفتاح والمفاتيح، ومن التعميم والتجريد مفاتيح الرزق، ومفاتيح العلم، ومقاليد السماوات والأرض، قال الله تعالى في سورة (الشورى/ 42 مصحف/62 نزول) :
{لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الآية: 12] .
أيْ له مفاتيح السماوات والأرض.
ومِنْ احتيال الإنسان للدّلالة على مشاهر شوقه العنيف إلى محبوبة تشبيهه هذه المشاعر بالنّار التي تلذع بحرارتها وتؤلم، وتجفّف رطوبة الجوانح، وتَدَاوَلَ العشّاق والشعراء هذا التعبير حتّى قال الشاعر:
بِنْتُمْ وبِنّا فَمَا ابْتَلَّتْ جَوَانِحُهَا
…
شَوْقًا إِلَيْكُمْ وَلَا جَفَّتْ مَآقِينَا
ثانياً - مقولة الجهة الثانية حول المعنى:
وهي جهة الدلالة على المعنى بالأسلوب المباشر أو غير المباشر.
المعنى:
(أ) إمّا أنْ ندلّ عليه في الكلام بالأسلوب المباشر السافر.
(ب) وإمّا أن ندلّ عليه في الكلام بالأسلوب الملامس بساتر.
(ج) وإمّا أنْ ندلْ عليه في الكلام بالأسلوب غير المباشر.
فالأسلوب المباشر السافر:
هو الأسلوب الذي تكون الدلالة فيه على المعنى المراد:
* باللّفظ الموضوع له لغة، وهو ما يسمّى (حقيقة لغويّة) .
* أو باللّفظ الدّال عليه في الاستعمال العامّ الدارج وهو ما يسمّى (حقيقة في العرف العام) .
* أو باللّفظ الدّال عليه عند أهل علم من العلوم، أو فنّ من الفنون، أو في الاصطلاح الشرعي، وهو ما يسمّى (حقيقة في الاصطلاح الخاص) .
والأسلوب المباشر السافر في الكلام قد يكون في كثير من الأحوال هو الأسلوب الأوقع والأكثر تأثيراً، أو الأنفع والأجدى، أو الأكثر ضبطاً.
والأصل في الكلام هو الأسلوب المباشر السافر، وله النّسبة الأكبر من كلّ الكلام.
ومن الأحوال التي يكون فيها الأسلوب المباشر السافر أوقع وأكثر تأثيراً، أو أنفع وأجدى، أو أكثر ضبطاً، الأحوال التالية:
(1)
خطاب الذين يصعب عليهم الفهم بأسلوب غيره، كالصغار وضعفاء التكفير.
(2)
حينما يكون المخاطب في حالة انفعالية أفقدته الهدوء والصّفاء الفكري، فالإِنسان في مثل هذه الحالة لا يروق له إلَاّ الكلام الذي يدلّ على المقصود بطريقة مباشرة.
(3)
لدى بيان الحقائق الكبرى العقديّة، كالكلام الذي يحدّد قضايا الإِيمان، فهذه يجب فيها التصريح المباشر السافر، مثل: لا إله إلَاّ الله محمد رسول الله. آمنت بالله وملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِه واليوم الآخر.
(4)
لدى بيان المبادىء التي تعلنها الشعارات، فهذه ينبغي فيها التصريح الذي يدلّ على المعاني دلالة مباشرة سافرة.
(5)
لدى كتابة نصوص التشريع أو التقنين، فالأدب الرفيع فيها هو التعبير بالأسلوب المباشر السافر، لئلَاّ يكون في الأفكار احتمالات تسمح بصرف الكلام عن دلالاته المقصودة.
(6)
لدى التعبير عن الأحكام القضائيّة، فالنّصوص ذات الدلالة المباشرة السافرة فيها هي أكمل الأدب وأحكمه، عملاً بما توجبه مقتضيات هذه الأحكام.
(7)
في معظم مواقف الدعاء لله تعالى، فالتعبير المباشر السافر الموجز فيها كثيراً ما يكون هو الأدب الأرفع، مثل: ربّ اغفر لي، وارحمني، واهدني، وسدِّدني، وعافني، وارزقني حلالاً طيِّباً مباركاً فيه.
(8)
في كثير من صور التعليم المنهجي.
(9)
في ذروات التعبيرات العاطفية، فالتعبير المباشر السافر فيها عند التصافي وانعدام الرقباء هو من أرقى الأدب وأرفعه. إنّه قد يكون أوقع عند وصول الحبيبين إلى التكاشف الصريح أنْ يقول كلُّ منهما لحبيبه: أنِّي أحبُّك، أو يا حبيبي.
والأسلوب الملامس بساتر:
هو الأسلوب الذي يُستخدم فيه للدلالة على المعنى المراد طريق التشبيه والتمثيل، أو الاستعارة، أو المجاز المرسل، أو المجاز العقلي إذا قلنا به.
فحين نقول: "وجهه كالقمر" فإنّ السامع أو القارىء يلمس أنّ المراد وصفه بأنّه جميل، ولكنّ حِسَّ اللّمس يقع على ساتر التشبيه بالقمر، ولا يباشر الملموس المراد، وإنّما يباشر الساتر، فبين اللاّمس والملموس فاصل الساتر، وهو هنا التشبيه.
ويتكاثف الساتر في التشبيه البليغ.
ويزداد الساتر كثافة في الاستعارة التصريحية.
ويزداد الساتر كثافة أخرى في الاستعارة المكنية.
مثلاً: حين نقول للولد: كنْ مع والديك كفرخ الطّير الذي يخفض جناحيه تذلُّلاً تحت صدر أمّه أو جناحها. فإنَّ الولد يلمس أنّ المراد مطالبته بأنّ يتواضع لوالديه كتواضع الذليل ذي الحاجة إلى الأمن والدفء والرزق، ولكن يلمس هذه المعاني فاصل ساتر التشبيه.
فإذا حذفْنا أداة التشبيه، وجعلناه تشبيهاً بليغاً، لَمَس المراد نفسه، إلَاّ أنّه شعر قليلاً بزيادة كثافة الفاصل.
ثمّ إذا قُلنا له كما جاء في القرآن في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :
{واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الآية: 24] على طريقة الاستعارة المكنيّة، فإنّه يلمس المراد نفسه أيضاً، كلنّه يشعر بأنّ كثافة الفاصل قد زادت من جهة، وازدانت بحلاوة ملامس خاصّة بها، مع جسّ المراد من ورائها.
ونلاحظ نظير ذلك في المجاز المرسل، وفي المجاز العقليّ إذا قلنا به.
فقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت
…
} [الآية: 19] .
هو من المجاز المُرسل بإطلاق الكلّ وإرادة البعض، ونحن حين نسمع هذا القول، ويسرع إلى تصوّرنا أنّ الإِصبع كلّها لا تدخل عادة في الأُذن، إنّما الذي يدخل منها رأس الأنملة فقط، نعلم أنَّ المراد أنَّهم يجعلون رؤوس أناملهم في آذانهم، ولكنْ لَمَسْنا ذلك من وراء فاصل، وهو هنا ساتر المجاز المرسل.
ومع لمسِ المراد من وراء الساتر أحسسْنا بزينة خاصّة في هذا الساتر نفسه، وبفكرة مضافة، وهي أنّهم يبالغون بضغط أصابعهم على آذانهم، فلو كان الواقع يسمح بدخولها كلّها في آذانهم لفعلوا من شدّة ذعرهم وحذرهم، وهذا معنى بديع يضفي على الكلام زينة حلوة.
وقول الله تعالى في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول) :
{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا
…
} [الآية: 17] .
أسند فيه السيلان إلى الأودية، مع أنَّ السيلان للماء فيها، ولكنَّنا حين نقرأ أو نسمع هذا الكلام نلمَس المقصود به من وراء فاصل وهو ساتر المجاز، إِذْ أُسنِد السيلان للمحلّ، وهو هنا الأودية، ومع لمْس المراد من رواء الساتر نحسّ بزينة خاصّة في هذا الساتر، وبفكرة مضافة، وهي أنّ النّاظر إلى تدفّق الماء في الأودية، وتدافع أمواجه، يتوهّم في لحظات الانبهار أنّ الأودية تجري أيضاً مع
الماء، وهذا معنى بديع يضفي على الكلام زينة حلوة، ويصوّر حالة التخيّل التي تعتري الناظرين المندهشين.
إنّ هذا الأسلوب الذي هو وسط بين الأسلوب المباشر السافر، والأسلوب غير المباشر، أسلوب يتّسع لإضافة زينات أدبيّة كثيرة، تضفي على الكلام جمالاً، ورَوْنقاً وبهاءً، مع ما في هذه الزينات من أفكار ودلالات يمكن إضافتها، ومن تصوير فنّيّ بديع يمكن أنْ يقدّمه الأديب البارع عن طريقها.
الأسلوب غير المباشر:
والأسلوب غير المباشر يكون بالتعبير عن فكرة لتفهم معها فكرة أخرى، عن طريق اللّوازم العقلية القريبة، أو متوسّطة القرب، أو البعيدة، أو شديدة البعد.
وهذه الفكرة الأخرى إنّما يريد المتكلّم الإِشارة إليها من طرف خفي، ولا يريد التعبير عنها بأسلوب مباشر، لغرض بياني أو غرض تربوي، أو أي غرض آخر يقصده البلغاء.
فمع ما في هذا الأسلوب من دلالة على ذكاء من يستعمله، ومع ما فيه من مجال واسع لتفنّن أدبي لا حصر له من قِبَل نوابغ الأدباء، وعباقرة البلغاء والشعراء، فهو مجال لتحقيق أغراض كثيرة، منها الأغراض التالية:
(1)
عدم مواجهة المخاطبين بما يراد إعلامهم به لدواع تربوية، أو لدواع نفسية، كعدم المواجهة بالتكليف، وعدم المواجهة بالنّقْد، وعدم المواجهة بالعتاب، وعدم المواجهة بالتلويم، وغير ذلك.
(2)
إرضاء نفس من يخاطب به، إذ يشعر بأنّه محترم مقدّر مِنْ قِبَل من يخاطبه، فهو في نظره من مستوى الأذكياء وكبراء القوم الذي يخاطبون بإشارات الكلام وكناياته، ولا يحتاجون إلى صريح القول.
(3)
إخفاء المراد على جمهور المستمعين، وإشعار المخاطب وحده بالرمز، لأغراض سياسيّة، أو عسكريّة أو تربويّة، أو نحوها.
كما وقع في غزوة الخندق، إذ بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ بني قريظة نقضوا عهدهم، فأرسل وفداً من الأنصار فيه سيِّدا الأوس والخزرج إلى كعب بن أسد القرظي سيِّد يهود بني قريضة ليستطلعوا الخبر، وقال لهم: انطلقوا حتّى تنظروا، أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أمْ لا؟ فإنْ كان حقاً فالْحَنُوا لي لَحْناً أعرفه، ولا تفتُّوا في أعضاد القوم (أي: تكلّموا بالرمز ولا تتكلّموا بصريح القول) .
وكذلك فعلوا لمّا علموا أنَّ بني قريظة قد نقضوا عهدهم حقاً. إنَّهم لمّا عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلَّموا عليه، ثمّ قالوا له: عَضَلٌ والْقَارَة. ففَهِم الرسول المراد، وعلم أنّ القوم قد غدروا كما غدرت عَضَلٌ والْقَارة بأصحاب الرجيع.
(4)
التوصّل عن طريق اللّوازم العقلية إلى معان قد لايكن لها ألفاظ تدلّ عليها دلالة مباشرة
(5)
تزيين الكلام ليكن أكثر تأثيراً في نفوس المخاطبين.
(6)
وقد يكون الأسلوب غير المباشر مقرِّباً للفكرة الغامضة، أو مقدِّماً لها مقترنة بحُجَّتِها المُقْنعة بها.
(7)
إمكان التهرّب من إرادة المعنى عند الإِحراج، وذلك إذا كانت إرادته تسوء المخاطب به، أو تسوء غيره من أنداده أو حسّاده أو غيرهم.
ومِنْ أمثلة ذلك مَنْ يُشير بطَرْف خفيّ إلى حبِّه، أو يلمِّح إلماحاً خفيِّاً، لأنَّ أمامه رُقباء من الأنداد أو الحُسّاد، أو مَنْ لا يَرْضَى بهذه العلاقة غَيْرةً أو نَخْوة أو مخافة العار، والمتكلِّم لا يريد إثارة هؤلاء نحوه لئلاّ يَكِيدُوه.
وفي كثير من الأحوال يكون خطاب النّاس بالأساليب غير المباشرة هو الأجدى، لأنَّه أوقع في نفوسهم، وأكثر إرضاءً لغرورهم، أو أوفق لظروف أحْوالهم.
ولكن لا يصحّ أنْ يكون كلّ الكلام جارياً وفق الأسلوب غير المباشر، فالأصل في الكلام هو الأسلوب المباشر، وهو بمثابة الخبز الذي تؤكل معه ألوان الأطعمة، إنّ الأسلوب غير المباشر ينبغي أنْ لا يزيد في الكلام كثيراً حتى لا يفقد الكلام قواعده وأركانه الأساسيّة.
إنَّ الأسلوب غير المباشر ينبغي أن يكون في غضون الكلام الجاري على الأسلوب المباشر، وبمقدار الأغراض البلاغيّة، وبمقدار الحِلْيات التي تتزيَّن بها الحِسان عادة.
وينبغي أيضاً أن يكون الكلام متنوعاً، لا ملازماً لوناً واحداً من ألوان الأساليب غير المباشرة.
إنَّ أبدع الكلام وأحلاه ما كان متنوعاً كثير الألوان، غير مقتصر على نَمَطٍ واحد. ومع ذلك فليس هذا في كل مائدة كلاميّة. إنّه قد تجمل في بعض الأحيان وفي بعض المناسبات مائدة كلاميّة من لون واحد من الكلام فقط.
إنَّ طبائع النفوس عجيبة، وينبغي أنْ يكون ميزان الأديب تُجَاهها شديد الحساسية، يتتبعها بالمؤثّرات الآنية عليها.
ويُعرف الأسلوب غير المباشر عند علماء البلاغة باسم (الكناية) ويدخل فيه ما يعرف عند علماء أصول الفقه باسم (المفهوم) أو باسم (الفحوى) فيقولون: "منطوق اللّفظ ومفهومه" سواء أكان المفهوم موافقاً أم مخالفاً. ويقولون: "فحوى الكلام" وهو عندهم كالمفهوم المقابل للمنطوق.
والمعنى المدلول عليه بهذا الأسلوب غير المباشر:
(أ) إمّا أنْ يكون معنى قريب التناول لا يحتاج إلى متابعة لوازم عقليّة متعدِّدة مثل قولنا للدّلالة على طول إنسان: "لا يدخل الأبواب إلَاّ وهو يخفض رأسه أو يتقاصر بجسمه".
ويمكن أنْ نمثِّل له بقوله الله تعالى: {وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} [البقرة: 195] أيْ: ويثيبهم ويدخلهم جنّات النعيم. لأنَّ من أحبّه الله أكرمه وأدخله في رحمته، فهذه من لوازم المحبّة. ونظيره في القرآن كثير.
ويدخل فيه مثل قوله الله تعالى في سورة (الإِسراء/17 مصحف/50 نزول) في بيان واجبات برِّ الوالدين:
{فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا
…
} [الآية: 23] .
أي: ولا تفعل أيضاً ما هو أشدّ!، وهذا يفهم بداهة لأنّ من نُهِيَ عن القبيح الأخفّ فهو منهي عن القبيح الشديد والأشدّ لزوماً عقليّاً.
(ب) وإمّا أنْ يكون معنىً متوسّط البعد، يدركه الذهن دون تأمّل عميق، وينتقل مع لوازم منطوق اللّفظ إليه بغير مشقّة فكريّة.
مثل الكناية عن كَثْرة إطعام الضيفان عند البدو، أنْ يقول قائلهم فلان:"كثير الرَّماد" أيْ: مضياف جَوَاد. لأنَّ كَثرة الرّماد عندهم مِنْ كَثرة إيقاد النَّار، وكثرة إيقاد النَّار مِنْ كَثرة الطبخ عليها، وكَثْرة الطبخ تدلُّ على كَثْرة الضيوف بحسب العادة.
(ج) وإمَّا أنْ يكون معنىً بعيداً، بسبب كَثْرة لوازمه العقلية، أو بسبب أنَّ هذه اللَّوازم تحتاج إلى تعمّق في التفكير حتّى يدركها الذّهن، وغالباً لا يدركها إلَاّ الأذكياء والعلماء.
ونُمثِّل لهذا بقول إبراهيم عليه السلام حين رفض عبادة الأصنام وكلّ ما في الأرض، وبدأ يبحث عن ربِّه في السماء. كما جاء في سورة الأنعام/6مصحف/55 نزول) :
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هاذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين} [الآية: 76] .
أيْ: إنَّ غياب الكوكب ظاهرة حدوث، وصفه الحدوث لا تكون من صفات الرَّب الخالق، فالكوكب لا يصلح لأنْ يكون ربّاً، فأنا لا أحب عبادة الآفلين الذين ليس أحد منهم يصلح لأنْ يكون ربّاً خالقاً، إنَّما أحبَّ عبادة ربِّي الحقّ.
فجملة {لا أُحِبُّ الآفلين} في معرض البحث عن الربِّ الخالق، تستدعي لدى أهل الفكر والنظر وأذكياء التأمّل كل هذه اللّوازم.
(د) وإمَّا أنْ يكون معنَى يُلمح لمحاً، أو يشم شمّاً، ويتطلّب إدراكه حِسّاً مُرْهَفاً، وممارسة لإِدراك مشاعر النفوس من وراء تعبيرات اللّسان.
وقد لا تظهر لوازم فكريّة تدلُّ عليه، بل قد تكون الإِشارة إليه من قرائن الأحوال، أوْ مِنَ التصريح بشيء وعدم التصريح بقرينه أو مُقَابِله، مع وجود الدواعي لهذا التصريح.
ويعمل الذّكاء وقوّة الحَدْس في هذا المجال لاكتشاف ما يختلج في النفوس من معانٍ لم يُفْصِحْ عنها اللّسان، لسببٍ مِنَ الأسباب، كالاستحياء، أو الكِبَر، أوْ العِفَّة، أو الخَوْف، أو غير ذلك.
ونستطيع أنْ نمثِّل لهذا القسم بالأمثلة التالية:
(1)
قول موسى عليه السلام بعد أن سقى لابنتي الشيخ الصالح عند ماء مدين ثم تولّى إلى الظّل، كما جاء في سورة (القصص/28 مصحف/49 نزول) :
{رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [الآية: 24] .
فهو في هذا يشير باستحياء إلى حاجته إلى الزوجة إشارة خفيَّة لا تُعْرف إلَاّ من قرينة الحال.
(2)
قوْل أيُّوب عليه السلام بعد أنْ طال به المرض ثمانيةَ عشر عاماً: يا ربْ إنِّي مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذاب. قال تعالى مبيِّناً دعاءه في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول) :
{واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [الآية: 41] .
بنُصْب وعذاب: أيْ بتعب وبلاء ومؤلمات جسديّة ونفسيّة، فهو في دعائه هذا يشير باستحياء إشارة خفيّة إلى طلب الشفاء، معلّلاً ذلك بأثر وساوس الشيطان في نفسه من جراء طول المرض، فهذه الوساوس قد زادت متاعب جسده وآلامه وعذَّبت نفسه.
(3)
قوْل امرأة عمران حين وضعت جنينها الذي كانت قد نذرتْهُ محرَّراً لبيت المقدِس، وكانت تنتظر أنْ يكون ذكراً، فجاء أنثى وأسمتْها مريم، قالت كما جاء في سورة (آل عمران/3 مصحف/ 89 نزول) :
{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} [الآية: 36] . وقالت: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى
…
} [الآية: 36] .
فهي تشير بقرينة الحال إلى مشاعر التحسُّر التي تشغل قلبها ساعتئذٍ.
(4)
قولُ ذي النّون عليه السلام وهو في بطن الحوت لربّه، كما جاء في سورة (الأنبياء/21 مصحف/ 73 نزول) :
{لَاّ إلاه إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الآية: 87] .
فالقول توحيد وتسبيح واعتراف بالذنب، إلَاّ أنَّه يشير باستحياء شديد من طرف خفِيّ ِإلى طلب النجاة.
***
الخلاصة:
فالمعانى:
(1)
إمَّا أنْ تُسْتَفَاد مِنْ دلالة الكلام المباشرة السافرة.
(2)
وإمَّا أنْ تُسْتَفَاد من دلالة الكلام الملامسة بِسائر.
(3)
وإمَّا أنْ تُسْتَفَاد مِنْ دلالة الكلام غير المباشر، ويكون ذلك في حدود ظِلال الكلام.
ولهذه الحالة ثلاثة مراتب: قريبة، متوسّطة، وبعيدة، ولكلّ من هذه المراتب الثلاث درجات متفاوتات.
ويلحق بالأسلوب غير المباشر أنْ تُستفاد المعاني من قرائن الأحوال، ومن الإِشارات الخفيَّة الضمنيّة.
وهذه المعاني يُتَوصَّل إلى إدراكها بالذكاء والتفرّس والحَدْس، ومعرفة القرائن والملابسات.
فهي تُتصيَّد ممّا وراء ظلال الكلام، والإِلماح إلى هذه المعاني ذو نِسَب متفاوتة في الظهور والخَفَاء.
وعلى الدُّعاة إلى الله أنْ يكونوا على بصيرة بفنون دلالات الكلام على المعاني، وأنْ يتمرّسوا بألوان التعبير البليغ ويُدَرِّبوا أنفسهم على تذوُّق آداب القول، وعلى معرفة أحوال التلاؤم بين أُسلوب الكلام ومُقتضى حال المخاطب به، حتّى يكون كلامُهُمْ أكثر تأثيراً، وتكون متأسِّية بمنهج القرآن في الدّعوة، ومنهج أنبياء الله ورُسُلِه في دعَواتِهم إلى سبيل ربِّهم.
ثاثاً - مقولة الجهة الثالثة حول المعنى:
وهي جهة المعاني أنفُسِها وقِيَمها الفكرية والجماليّة.
(أ) إنَّ المعانيَ أنْفُسَها في أذهان النّاس ومقولاتهم تنقسم إلى أقسام خمسة:
(1)
فمنها ما هو حقٌّ بلا ريب.
(2)
ومنها ما هو باطل بلا ريب.
(3)
ومنا ما يترجّح في الظن أنّه حق، وتختلف نسبة الرّجحان.
(4)
ومنها ما يترجّح في الظن أنّه باطل وتختلف نسبة الرّجحان.
(5)
ومنها ما هو واقف في المنطقة المتوسّطة تماماً، وهي الأمور التي تكافأت قوتا النفي والإِثبات بالنّسبة إليها، فلا هي راجحة إلى جانب الحقّ، ولا هي راجحة إلى جانب الباطل، وهذه الحالة الذهْنِيَّة بالنّسبة إلى الأمور التي هي منْ هذا القبيل، يُطلِق عليها علماؤنا كلمة (الشّك) في اصطلاحهم، لكنّ كلمة الشّك في التعبير القرآني تعني غير هذا:{أَفِي الله شَكٌّ} [إبراهيم: 10] أيْ: أفي إثبات وجود الله أيّ احتمال مهما كان ضعيفاً يُفْتَرَضُ معه أنْ لا يكون للكون ربٌّ خالق فاطر؟ إنّ هذا مرفوض بداهة.
(ب) وإنّ المعاني أنْفُسها تختلف بالنّسبة إلى أَفْهَام النّاس بُعْداً وقُرْباً.
* فمنها ما هو قريب منْ مدارك النّاس، سَهْلُ المأخذ، سَهْلُ الفهم.
* ومنها ما هو بعيد نسبياً لا تتوصل إليه أفهام الناس ومداركهم إلَاّ بالتأمّل ودقّة الملاحظة، أو بقسط من البحث.
* ومنها ما هو عميق بعيد الغَوْر لا يصل إليه إلَاّ الأذكياء والنُّبهاء والعباقرة، أوْ الباحِثون المنقِّبون.
* ومنها ما لا تستطيع مدارك النّاس الوصول إليه أو الإِحاطة به، وقد أصبحت الآلات الإِلكترونية تقدِّم للعقول نتائج لا تستطيع العقول بأنْفُسِها التوصّل إليها. وهنالك في الغيب علوم لم يُؤْتَ النّاسُ وسائل الوصول إليها، نبّهت على بعضها الوسائل الحديثة، ودلَّ على بحورها العميقة. قول الله عز وجل في سورة (الإِسراء/17 مصحف/ 50 نزول) :
{وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلَاّ قَلِيلاً} [الآية: 85] .
ودلّ عليها قول الله عز وجل في سورة (لقمان/ 31 مصحف/ 57 نزول) :
إنَّ المعاني كبحور عظيمة لها سطوح وشواطىء، وتحت السطوح أعماق، وتحت الأعماق أعماق أخرى، وتحت الأعمال أغوار، وتحت الأغوار أغوار سحيقة.
ومِنَ النّاس مَنْ يأخُذ من المعاني ما يصل إلى الشواطىء، ومنَ النّاس منْ يركب بحار المعاني ويجري على سطوحها، ويتناول منَ السطوح أو منَ العمْقِ القريب. ومنَ النّاس منْ يغوص إلى بعض الأعماق، ومنَ النّاس منْ يغوصُ إلى بعض الأغوار، ويتفاوت النّاس في نِسَب غوصهم، وكل منهم يستخرج منْ بحار المعاني على مقدار غوصه، وعلى مقدار استيعابه.
عناصر الجمال في المعاني:
أمّا عناصر الجمال في المعاني فمتنوِّعة، منها العناصر التالية:
العنصر الأوّل: تناسُق الأفكار وترابطها بوشائجها المنطقيّة دون إعنات للفكر، ثمّ تكاملها ولو مع طيّ بعض العناصر التي يمكن أنْ تفهم ذهناً، ولا يشترط التعبير عن وشائج الترابط، بل ربّما يكون طيّ ذلك أحلى وأكثر جمالاً أدبيَّاً.
العنصر الثاني: الانتقال من الجذور والأصول في الأفكار إلى الفروع الكبرى فالصغرى فالأوراق والثِّمار. أوْ مِنَ الفروع إلى الأصول. أمّا الخلط من غير ترابط منطقي فهو قبيح تنفر منه الأذهان، لأنَّها لا تستطيع أن تُجريه في جداولها المنطقيّة الفطرية، ولأنّه يتنافى مع أُسلوب الطبيعة المنظَّمة بأبدع نظام.
العنصر الثالث: محاكاة الواقع بتصوير فنِّيِّ يُبْرِزُ الحركة والحياة والمشاعر، ويعبِّر عن مختلف أبعاد الواقع، ولا يقتصر على التصوير الجامد للأشكال والرسوم الظاهرة.
العنصر الرابع: الصدق في التعبير عن الحقيقة، أو عن المشاعر والأحاسيس، أو عن الآمال والرغائب، أو عمّا يسبح فيه الخيال متأثّراً بمطالب النفوس، وشهواتها، ومطامحها.
العنصر الخامس: ما تشتمل عليه المعاني ممّا يحرّك في النّاس المشاعر الوجدانيّة أو النفسيّة الحلوة، والعواطف الوجدانيّة أو النفسيّة الحلوة، أو يرضي شهوات النفوس.
العنصر السادس: ما يُعجب الأذهان من إشراقات ذكاء، وأفكار جديدة مبتكرة، بشرط أنْ لا تكون قبيحة بطبيعتها.
العنصر السابع: ما يسرُّ الخيال ويعجبه ويُمْتِعُه ممّا يرضي الرغبات النفسيّة التي يتمنّاها الإنسان ويعجز عن الوصول إليها وتحقيقها:
(أ) فمن الحق والصدق ما هو جميل جداً:
إنّ التصوير الفنّي الذي يُبرز في الكلام صورة الواقع المتحدَّث عنه، حتّى كأنّه مُشَاهَدٌ ملموس بحركته وحياته ورونقه وجماله هو من أرفع الأدب وأجمله، وكم من واقع هو أجمل وأكمل من الخيال.
وإنّ الكلام الذي يعبِّر عن الحقائق الفكرية المجرَّدة بطريقة مفهومة سهلة ليِّنة طيّعة في الفكر وفي اللسان، هو من أرفع الأدب وأجمله.
وإنّ الكلام الذي يحدِّد الأحكام الشرعية أو الأحكام القانونية أو مسائل العلوم بوضوح، ودقّة تامّة، ورشاقة وعذوبة لفظ، هو من أرفع الأدب وأجمله.
وإنَّ الكلام الذي يعبِّر تعبيراً صادقاً عن مشاعر النّفس الوجدانيّة أو التخَيُّلِيَّة لدى مُشاهَدةٍ طبيعية أو حادثة إنسانيّة هو من أرفع الأدب وأجمله.
وإنّ الكلام الحلو الذي يُرضي الآمال والمطامع النفسيّة، بإقناعات صادقات، أو بإقناعات توهِم بأنّها صادقات، فتستر بها عورات التلفيق والكذب، هو من أرفع الأدب وأجمله.
أمّا الكلام الذي تنكشف فيه عورات التلفيق والكذب فهو كلام قد تمجُّه النفوس، ولو سِيق لإِرضاء الآمال والمطامع النفسيّة.
وإنَّ الكلام الذي يَصْنَعُ قصصاً مقتبسة ممّا يجري في الواقع نظائرها، هو من أرفع الكلام القصصي وأجمله.
دعوى "أعذب الشعر أكذبه":
أمّا دعوى: "أعذب الشعر أكذبه" فهي دعوى لا أساس لها من الصحّة، لدى التحليل والبحث عن العناصر الجماليّة في الأدب.
إنّ الحقّ إذا لبس ثوباً أدبيّاً جميلاً كان أجمل من الباطل لا محالة، مهما لبس من أثواب جميلة مزخرفة.
إنّ الحُلَّة والحِلْيَة الأدبيَّة اللَّتَيْن يرفل بهما قول الله تعالى في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) :
للفكرة الحقِّ التي تبيّن واقع انتصار الحقّ والمحقِّين بعد أحداث الصِّراع بين الفريقين، أجمل من كل أدب يُزيِّن فكرة باطلة لتكون مقبولة محبَّبَة.
ربّما يكون تضخيم الحقّ وتجسيمه في الصورة الأدبيّة عملاً أدبيّاً جميلاً، لأنّ التضخيم والتجسيم في مفاهيم النّاس لون من ألوان البيان والشرح للحقيقة، وبعد الشرح ترجع الحقيقة في تَصَوُّرِ النّاس إلى حجمها الطبيعي.
إنّ الفكرة المشتملة على كذب سخيف ممجوج قد يستعذِبها الذهن لطرافتها، ولكن يمجّها الذَّوق والحسُّ المرهف العارف بألوان الجمال لسخافتها ومجافاتها للحقيقة مجافاةً واسعة المسافة.
في قول المتنبّي:
كفى بجسمي نحولاً أنّني رجل
…
لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني
وفي قول الآخر:
ولوْ أنّ ما بي من جَوىً وصبابةٍ
…
على جَمَلٍ لم يدخل النّار كافر
قد نلاحظ فكرة غريبة لا يتصيّدها إلَاّ شاعر ذَكِيّ، فنُعْجَبُ بطرافتها، ولكنّنا مع ذلك نمُجُّها، لأنَّها تشتمل على دعوى كاذبة سخيفة.
أمَّا حين تكون الفكرة مبتكرة حلوة، وتكون الدَّعوى صادقة في أصلها، مضخَّمة مجسَّمة مبالغاً بها في صورتها الأدبيّة، فإنّ الكلام يكون حينئذٍ أرفع أدباً، وأعلى كعباً، وأوقع في النّفس.
هَلُمَّ فَلْنَلْحظ اجتماع الصدق والأدب الرفيع في قول الله تعالى في سورة (ق/ 5 مصحف/ 34 نزول) :
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] .
إنَّ في هذه الآية حلاوة فكرة السؤال والجواب. وحلاوة الجواب الذكي الذي لم يكن مباشرة بصيغة: (لم أمتلىء) أو بصيغة (لا) مع كثرة الذين أُلقوا فيها. وإنّما جاء على صغية سُؤال النَّهِم الشَّرِه طالب المزيد: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ؟!!.
وما دام باستطاعة الإِنسان أنْ ينتقي من الحقّ والصدق عناصر جماليّة لأدبه فما أوفر الحقّ والصدق في بيانات الإِسلام أما الدّعاة إلى الله، وما عليهم إلَاّ أنْ يغترفوا.
(ب) ومن الأفكار الجديدة المبتكرة ما هو جميل جداً:
وكلّنا نلاحظ أنّ النّاس تُعْجِبُهم وتحلو لديهم المعاني الجديدة المبتكرة، ويقولون في عباراتهم الدارجة: لكل جديد لذّة.
فاشتمال الكلام على المعاني الجديدة المبتكرة - دون أنْ تكون قبيحة في ذاتها - هو من عناصر الجمال الأدبي، والزينة الجوهريّة في الكلام.
على أنَّ كلّ فكرة جديدة مبتكرة يستعذبها النّاس ويُعْجَبُون بها، قد تمسي مبتذلة مزهوداً فيها، متى تداولها النّاس واستعملوها كثيراً، باستثناء الأفكار التي هي بمثابة الخبز في الأكل، أو الملح في الطعام، أو الماء والهواء.
وما أوفر المعانيَ الجديدة التي يمكن استنباطها من كتاب الله عز وجل، ويمكن إِرضاء عقول النّاس بها، وما على الدّعاة إلى الله إلَاّ أنْ يحسنوا الاستفادة منها.
ومن المبتكرات في المعاني ما تكون جِدَّتُه في الجمع والتركيب.
مثلاً:
إنّ التعبير الساذج عن عدم الْعَدْلِ في مجال الحبّ الذي يعاتب به الإِنسان العادي أميراً ذا مكانة، أنْ يقول له: يا سيّدي إنِّي أُحبُّك حبّاً عظيماً مع المحبِّين ولكنَّك لا تعامل حُبِّي بالعدل كما تعامل الآخرين.
إنَّ مشاعر هذا الإِنسان وقفت عند هذا الحدّ فأعطى هذا التعبير.
لكن المتنبّي بذكائه تجاوز هذه المشاعر الساذجة، فأدرك أنّ سيف الدولة أعدل النّاس، وأدرك أنّه هو الْحَكَمُ لو شاء أنْ يشكوه إلى حَكَم، ثم رجع فأدرك أنّه هو الخصم، ثم استدرك ليكشف أنّ الخصومة على حُبِّه وما يقتضيه هذا الحب.
كل هذه الأفكار والمشاعر قد اجتمعت وتراكبت! وتدخّل الذكاء فأحاط بها معاً، وتدخَّلت القدرة البيانيّة على التعبير عنها مجتمعة بطريقة تُفْهَمُ بلا تعقيد ولا كدٍّ للذِّهْن، فقال المتنبِّي لسيف الدولة:
يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إلَاّ فِي مُعَامَلَتِي
…
فِيكَ الْخِصَامُ وأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ
(ج) ولإِشراقات الذكاء في الأدب تأثير عظيم جدّاً في ارتفاع المستوى الأدبي:
إنّ التعبيرات غير المباشرة أو المباشرة بساتر عن الأفكار المقصودة بالذات لا تكاد تُحْصَر.
ويتفاوت النّاس فيها بمقدار تفاوتهم في القدرة على تصيّد المعاني التي لها بالأفكار المقصودة صِلَة يمكن عن طريقها الإِشارة إليها، أو الدّلالة عليها، ولو إلماحاً، أو من جانب خفي.
ومن الأسباب الجوهريّة في ارتقاء المستوى الأدبيّ للكلام ما يكون لدى المتكلّم أو الكاتب من قدرة في هذا المجال.
كالقدرة على تصيُّد الأشياه والنظائر، واستخدام بعضها لبعض، في الأمثال والتشبيهات، والاستعارات، وأنواع المجاز التي يُكَنِّي بها الأدب عن مراده، وكالقدرة على معرفة الروابط بين الأفكار، والانتقال فيها بين اللوازم والملزومات، والأجزاء والكل الذي يجمعها، والخاصِّ والعام، والمتناقضات والأضداد، وغير ذلك من المعاني ذات الترابط فيما بينها في الواقع أو في الفكر، فهي تتخاطر معاً ولو كانت متناقضاتٍ وأضداداً، ويستدعي بعضها بعضاً.
ولا بدّ مع ذلك من توافر الذوق الفنّي، والحسِّ الجمالي الرفيع، لوضع هذه الأشياء في مواضعها، بحسب مقتضى حال المخاطب، فرداً كان أو جماعة.
مثلاً:
اعتاد الأُدباء والشعراء أن يُشَبِّهوا الجواد بالبحر، لأنّ البحر ماؤه كثير، وعطاؤه وفير، فهو لا يمنع آخذاً منه، لكن إشراقات الذكاء مكَّنت الشاعر من أنْ يعطي هذا التشبيه المتداول زينةً جديدة مُحَبَّبة بتقسيم البحر إلى لُجَّةٍ وساحل، فقال في ممدوحه:
هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ
…
فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ والْجُودُ سَاحِلُهُ
(د) ولتحريك المشاعر الوجدانيّة والنّفسيّة الحلوة تأثير عظيم في ارتفاع المستوى الأدبيّ:
ولا ريب في أنّ النّاس تُعجبهم وترضيهم وتحلو لديهم المعاني التي تحرّك لديهم المشاعر الوجدانيّة والنّفسية الحلوة، والعواطف الوجدانية والنّفسيّة الحلوة، أو تذكّرهم بها.
مثل: مشاعر الحبّ، ولقاءات الأحبّة، وعواطف الحنان والشفقة، ومشاعر الشوق لدى العُشّاق، ومشاعر الإِيمان وأحاسيسه العميقة لدى المؤمنين، ومشاعر العبادة الحلوة لدى العبّاد الصالحين، ومشاعر الفخر والاعتزاز بالأمجاد، ومشاعر الإِحسان وفعل الخير، ومشاعر الأخوّة والصدق والوفاء، ومشاعر الأبوَّة والأمومة وسائر القرابات، ومشاعر العطف على الأيتام، ومشاعر التوبة والندم والرجعة إلى الله، ومشاعر الزهد في الدنيا والتطلُّع إلى النعيم المقيم في الآخرة، ومشاعر التضحية والبطولة والفداء، ومشاعر الإِيثار، ومشاعر البرّ والتّقوى، ومشاعر التحدِّي والصمود وآمال النصر على الطغاة والبغاة وعُبَّاد الشيطان.
وما أوفر المعاني التي تحرِّك هذه المشاعر الحلوة لدى الدّعاة إلى سبيل الله، وما عليهم إلَاّ أنْ يُحْسِنُوا الاستفادة منها.
ثمّ إنّ المشاعر النّفسيّة والوجدانيّة منها ما هو ساذج بسيط، ومنها ما هو مركَّب متفاصل، ومنها ما هو مركَّب متداخل معقّد.
ويرتقي مستوى الكلام الأدبي لدى عِلْية الأدباء، ولدى العامّة أيضاً، بقدر ارتقاء المشاعر التي يأتي التعبير عنها ولو بطريقة مباشرة.
ويصلح مثالاً لهذا سموُّ المشاعر في قول المتنبِّي لسيف الدولة:
إنْ كَان سَرَّكُمُو مَا قَالَ حَاسِدُنَا
…
فَمَا لِجُرْح إِذَا أَرْضَاكُمُو ألَمُ
يَامَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ
…
وِجْدَانُنا كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ عَدَمُ
ومركب المشاعر في قوله له:
يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إلَاّ فِي مُعَامَلَتِي
…
فِيكَ الخِصَامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ
المشاعر الوجدانيّة والنّفسيّة في الدّعوة إلى الله:
وإذا كان للمشاعر الوجدانيّة والنّفسيّة هذا الأثر في ارتقاء مستوى الكلام الأدبيّ، وفي تأثيره القويّ على النّفوس، فإنّ لدى الدّعاة إلى الله كنزاً عظيماً من المشاعر التي يتيسّر لهم الانتفاع منها في تحقيق أهداف الدّعوة، وفي رفع مستوى كلامهم الأدبيّ.
ولكن لا بدّ من أنْ نُنَبِّه على عنصر مهم جدّاً، ألَا وهو أنّ يكون المتكلِّم منفعلاً حقَّاً في عمق وجدانه ونفسه، بالمشاعر التي يريد التعبير عنها، ويحرص على تحريكها في أعماق سامعيه أو قارئيه.
إنّه كلَّما كانت مشاعر الداعي حول ما يدعو إليه من دين الله أعمق، وكان إحساسه بها أعنف وأوضح، كان تأثيره في سامعيه أكثر وأعمق، ولذلك نجد تأثير المخلِصين عظيماً.
وحين تقترن بهذه المشاعر الصادقة العميقة قدراتٌ أدبيّة على البيان، وتجارب مختلفات في ميادين التعبير الأدبي عن الأفكار وعن الأحاسيس والمشاعر النفسيّة أو الوِجْدَانيّة، فإنَّ القدرة على التعبير عن هذه المشاعر تكون أكمل وأوفى، ثم يكون الكلام أكثر نفاذًا إلى أعماق سامعيه أو قارئيه، وأكثر تحريكاً لمشاعرهم.
ويرتقي الدّاعي إلى سبيل الله في تعبيراته الأدبيّة البليغة ضمن دعوته بمقدار ارتقاء تجاربه الإِيمانيّة، وتجاربه الوجدانيّة، ومشاعره النّفسيّة الحلوة، في مجالات
الصّلة بالله، والطاعة له، والتوبةِ والنَّدَمِ، وعطاءات الخير، والتطبيقات الإِسلاميّة المسعدة للنفوس، والمريحةِ للضمائر، والْمُمِدَّةِ للقلوب بالطمأنينة
…
***
منثورات في عناصر الجمال الأدبي
أوّلاً: الأسلوب البياني:
من عناصر الجمال الأدبي في الكلام ملاءمة أسلوبه البياني للأمور التالية:
(أ) للهدف العام من الكلام.
(ب) للمضمون الفكري في الموضوع العامّ الذي يجري فيه الكلام، وفي الفكرة الخاصّة التي يَتَحَدَّث عنها.
(ج) لوضع المخاطب وحالته الفكريّة والنّفسيّة والاجتماعية.
(د) لِلْمُنَاخ النفسيّ العام الذي يُلقى فيه، أو يوجَّه له، فالمناخات النفسيّة كثيرة، ولكلٍّ منها أسلوب بياني يلائمه.
وللتوصّل إلى الملاءمة المطلوبة التي هي عنصر مهمٌّ جداً من عناصر الجمال الأدبي لا بدّ من ملاحظة الأمور التالية بعناية ودقّة:
(1)
ملاحظة حال المخاطبين أو الّذين يُوَجَّه لهم الكلام وذلك بصفة عامّة.
ويدخل في هذا ملاحظة بيئتهم العامّة، ومفاهيمهم السائدة بينهم.
(2)
ملاحظة الحالة النّفسية والفكريّة والاجتماعية التي يكون عليها المخاطبون بصفة عامّة.
ويدخل في هذا ملاحظة حالات السلم والحرب والأمن والخوف، وسعة الرزق والجوع، والنّصر والهزيمة، والإِيمان الكُفر والنِّفاق، والطمع واليأس،
والمسرّة والحُزْن، والصفاء والكَدَر، ونحو ذلك من الأحوال النفسيّة الخاصّة، التي يستدعي كلٌّ منها ما يلائمه من أساليب البيان.
ويدخل في هذا أيضاً ملاحظة حالات الذّكاء والغباء، وطمأنينة الفكر واضطرابه، والعلم والجهل، ونحو ذلك من الأحوال الفكريّة التي يستدعي كلٌّ منها ما يلائمه من أساليب البيان.
ويدخل في هذا أخيراً ملاحظة الحالات الاجتماعيّة، كالبداوة والتحضُّر، والرفعة والضِّعة، والقوَّة والضعف، والقيادة والانقياد، ونحو ذلك من الأحوال الاجتماعية التي يستدعي كلٌّ منها ما يلائمه من أساليب البيان.
(3)
ملاحظة الظرفين الزماني والمكاني اللَّذين يُقَالُ فيهما أو يُعدُّ لهما لكلام.
فمن الأساليب البيانيّة ما يلائم ظرفاً من الظروف الزمانيّة أو المكانيّة، في حين أنّه قد لا يلائم ظرفاً آخر.
إنّ ما يلائم في مواسم الأعياد، قد لا يلائم في أوقات التحريض على الجهاد، وما يلائم في مكان الفرح، لا يلائم في كان التَّرَح، وما يلائم في مواطن تأدية النُّسُك، قد لا يلائم في أسواق البيع والشراء، وكذلك العكس، وقس على هذه المتخالفات.
(4)
ملاحظة الْمُنَاخ النفسيّ العام، فالمناخات النّفسيّة كثيرة، ولكلٍّ منها أُسلوب بيانيّ يلائمه.
ومنْ أمثلة الْمُنَاخات النّفسيّة: المناخ الخطابي، الْمُناخ الحربي، المناخ العاطفي، مناخ السفر، مُنَاخ الحضَر، مُنَاخ الخوف، مناخ الطمَع، مناخ القلق، مناخ الهدوء والسكينة، مناخ الغضب، مناخ الرِّضا، مناخ التربية والتعليم، مناخ الموعظة والإِرشاد، مناخ الخصومة والجدل، مناخ الطلب والاستجداء، مناخ الدُّعاء، وهكذا إلى مُنَاخات كثيرة أخرى.
الشرح:
منَ المعلوم أنّ المتكلّم لا بدَّ أنْ يكون ذا هدف من كلامه، وللوصول إلى الهدف المقصود من القول أساليب بيانيّة كثيرة، ولكل هدف أساليب تناسبه.
وملاءمةُ الأسلوبِ البيانيّ للهدف من الكلام هي فيما أرى رُكن أساسي وجوهري لارتفاع مستوى الكلام الأدبي البليغ.
* فحين يكون غرض الكلام مثلاً أنْ يُحْدِث تأثيراً إقناعياً، يكون الأسلوب البياني الأكثر إقناعاً وتأثيراً في هذا المجال هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة.
* وحين يكون غرض الكلام أنْ يُحْدِث انفعالاً حماسيّاً، ويستثير خلق الشجاعة والبسالة والإِقدام، يكون الأسلوب البياني الأكثر إثارة للحماسة واستثارة للبسالة والشجاعة والإِقدام هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة.
* وحين يكون غرض الكلام أنْ يُثِير الغضب أو يُحْدِث الغيظ، يكون الأسلوب البيانيّ الأكثر إثارة للغضب أو إحداثاً للغيظ، هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة.
فمن أرفع الأدب في هذا المجال قوله الله تعالى في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) بشأن المنافقين الّذين إذا خلَوا عضُّوا أناملَهم غيظاً من المؤمنين:
{قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الآية: 119] .
وقول الله تعالى بشأن المشركين الذين يَكْرَهُوَن ظهور الإِسلام وانتصاره في سورة (الصف/ 61 مصحف/109 نزول) :
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [الآية: 9] .
ولكنّ الإِسلام قد عزل السباب والشتائم عن أدبه، وأوصى المسلمين بذلك، فقال الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/ 55 نزول) :
{وَلَا تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الآية: 108] .
كما عزل عن أدبه ما يسمّى بالأدب المكشوف أو أدب الفراش، وسَتَرَ القرآن عوراتِ هذا المجال بالكنايات والعمومات، مثل:
{أَوْ لَامَسْتُمُ النسآء} [النساء: 43]{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء} [آل عمران: 14]{وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21]{مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]، [الأحزاب: 49] {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3، 4]{مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236]{فَلَماَّ تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189]{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] .
* وحين يكون غرض الكلام تحقير من يوجّه الكلام ضدّه، أو السخرية منه، يكون الأُسلوب البيانيّ الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة، بشرط أن لا يعكس الأثر على موجِّه الكلام.
* وحين يكون غرض الكلام أنْ يستعطف من يُوَجَّهُ له، فيحرِّك لديه عاطفة الشفقة، أو الرحمة أو يحرِّك لديه خُلُق الجود، أو نحو ذلك، يكون الأسلوب البياني الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً، والأرفع منزلة في هذه الحالة.
* وحين يكون غرض الكلام التودّد والتحبّب لمن يوجّه له الكلام، يكون الأسلوب البياني الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً والأرفع منزلة في هذه الحالة.
* وحين يكون غرض الكلام استرضاءَ مَنْ يُوَجَّهُ له الكلام صراحة أو ضمناً، في دافع من دوافع نفسه، كالكِبْر، أو العُجْبِ بالنفّس، في جمالٍ، أو علمٍ أو حَسَبٍ، أو نَسبٍ، أو مكانةٍ اجتماعية، أو قُدْرَةٍ إداريّة، أو حِكْمَةِ أو حُنْكَةٍ، أوغيرِ ذلك، يكون الأسلوب البياني الأكثر تحقيقاً لهذه الغاية هو الأكثر أدباً والأرفع منزلة في هذه الحالة.
وهكذا في سائر أغراض الكلام.
ولكلّ غرض من أغراض الكلام أساليبُ تُنَاسبه، فما يصلح في مجال الحماسة لا يصلح في مجال الإقناع، وما يحلو في الخطابة لا يحسن في مقام التعزية، وما يحسن في الجدل لا يحسن في مقام الاعتذار، وما يلائم بثّ الوَجْد، قد لا يلائم اسْتِجْدَاءَ الرَّفْد، وما يُنَاسِبُ المدح قد لا يناسب الهجاء.
وذوق الأديب البليغ يُحِسُّ بوجوه الملاءمة أوعدمها بين أساليب الكلام وبين الأهداف منه، فيتحَرَّى أفضل الأساليب مُلَاءَمَةً للهدف الذي يقصده من كلامه.
ولا غَرْوَ أنَّ بعض الأساليب الملائمة للهدف أكثر ملاءمة وأعظم تأثيراً من بعض.
ثمّ لكل صنف من أصناف المخاطبين، ولكلّ حالٍ من أحوالهم الفكريّة والنفسيّة والاجتماعية أساليبُ ملائمة، وأساليبُ غير ملائمة، وعلى المتكلِّم البليغ أنْ ينظر في صنف من يريد توجيه كلامه له، وأنْ ينظر في حالته الفكرية والنّفسيّة والاجتماعية، ويُحسن اختيار الأسلوب الكلامي الذي يُلائمه ويؤثّر فيه فرداً كان أو جماعة.
فمن أصناف النّاس: عامّة وخاصّة، وجاهلون وعلماء، وأغبياء وأذكياء ودَهْمَاء وأمراء، وبُدَاة جفاةٌ ومتحضِّرون، وأهلُ حِلْم وعقل، وأهلُ خِفّة وطَيْش، ومنهم من يُمْلَكُ من طريق عاطفته، ومنهم من يُمْلك من طريق عقله.
وهكذا تختلف أصناف النّاس اختلافاً كثيراً، ولكل صنف منهم أساليب من القول تلائمه، وتكون أكثر تأثيراً في من أساليب أخرى.
ونظير اختلاف النّاس اختلاف أحوالهم الفكرية والنّفسيّة والاجتماعية، فما يلائم الإِنسان وهو هادىء الفكر قد لا يلائمه وهو مشوّش الفكر مضطربه، وما يلائمه وهو في حالة الرضا قد لا يلائمه وهو في حالة الغضب، وما يلائمه وهو
فقير ذليل قد لا يلائمه وهو في سَعَة من المال وعِزّ، وما يَصْلُح له من الخطاب وهو وحده قد لا يصلح له وهو بين النّاس.
وهكذا إلى سائر اختلاف الأحوال، ولكل حال أساليبُ من القول مناسبة، وبعضها أكثر مناسبة وملاءَمة وتأثيراً من بعض.
وفي هذا المجال الذي تختلف فيه أهداف الكلام، وتختلف فيه أصناف المخاطبين، وتختلف فيه أحوالهم، تتفاوت مراتب البلغاء والبيانيِّين.
ما هو المراد من الأسلوب البياني؟
قد لا نستطيع حصر الأساليب البيانيّة وإنْ حاولنا ذلك، ولكنّنا نستطيع توضيح المراد من الأسلوب البياني بذكر طائفة من الأساليب الكلاميّة التي إذا كانت ملائمة للغرض العام من الكلام، والوضع العام للمخاطب، والحال الخاص له، والْمُنَاخ النفسيّ العامّ، كانت أسلوباً بيانيّاً مُرْتَقِياً في معارج البلاغة الراقية، والأدب الرفيع.
فمن الأساليب الكلاميّة مايلي:
(1)
أسلوب الْعَرضِ المباشر الصريح للفكرة المراد الإِعلام بها، أو العرض الملامس بساتر.
(2)
أسلوب العرض غير المباشر الذي يُعْتَمَدُ فيه على مقدار ذكاء المخاطب، ويدخل في أسلوب العرْض غير المباشر التعريضُ والتَّلمِيح، ومعاريض الأقوال، والإِشارةُ الخفيّة، وفحوى الكلام، ولهذا الأسلوب صُوَر كثيرة جداً.
(3)
أسلوب الإِطناب وعرض الفكرة مبسّطة موضّحة من كل جوانبها، ولهذا الأسلوب مراتبُ وصُوَر كثيرة، وهذا الأسلوب يناسب أصنافاً من النّاس، وأغراضاً معيّنة من الكلام، وأحوالاً خاصّة للمخاطبين.
(4)
أسلوب الإِيجاز والاختصار، ولهذا الأسلوب أيضاً مراتب وصُوَر كثيرة، وأسلوب الإِيجاز والاختصار يناسب أصنافاً من النّاس، كالأذكياء، والأمراء، وأهدافاً معيّنة من الكلام، وأحوالاً خاصّة للمخاطبين.
(5)
أسلوب الترغيب، وله مراتب وصُوَر كثيرة، وهو في الغالب يلائم معظم النفوس الإِنسانيّة، لما أودع الله فيها من مطامع.
(6)
أسلوب الترهيب، وله أيضاً مراتب وصوَر، وهو كأسلوب الترغيب يلائم في الغالب معظم النّفوس الإِنسانيّة، لما أودع الله فيها من حذر وخوف.
(7)
أسلوب العُنْفِ والقسوة، وهو يلائم بعض النّاس وفي بعض الأحوال.
(8)
أسلوب الرِّقَّة واللّين.
(9)
أسلوب الإِثارة للعواطف والانفعالات، وكثيراً ما يكون هذا الأسلوب نافعاً ومجدياً في الحماسة والخطابة.
(10)
أسلوب الإِقناع الفكري الهادىء.
(11)
أسلوب الجدل.
(12)
أسلوب الكتابة التَّقْنِينيَّة، والكتابة العلميّة المحرّرة، والمحدِّدَة للمقاصد بنصوص بعيدة عن الاحتمالات الأخرى.
وهكذا تختلف أساليب الكلام، وكلُّ منها يناسب أهدافاً معيّنة، وأصنافاً معيّنة من النّاس، وأحوالاً خاصّةً للمخاطبين، ومُنَاخَاتٍ نفسيّةً عامّة، وقد يجتمع عدد من أساليب الكلام في كلام واحد حينما لا تكون متنافية، أو حينما يلائم بعضها بعضاً.
مثال:
ولتقريب فكرة اختلاف الأساليب البيانيّة التي يُتوخَّى منها تحقيق الغرض من
الكلام، ويُرَاعَى فيها أوضاع المخاطَبين وأحوالهم، نضرب المثال التالي:
نضع في هذا المثال مطلباً من المطالب التي قد يراد الإِعلام بها، بغية تحقيقها، ثم ننظر إلى طائفة من الأساليب الكلاميّة التي يمكن أنْ يُتَوَصَّل بها إلى الإِعلام بالمطلوب.
وهنا لا بدّ أنْ نرى من الأساليب ما هو ساذج صريح، يتناول الطَّلب مباشرة، ثمّ نرى من الأساليب من يدلّ على المطلوب دلالة غير مباشرة، ويُعْتَمَدُ فيها على ذكاء المخاطبَ وقدْرَتِه على إدراك المطلوب من خلال إشارات القول ومعاريضه.
ومن المسلَّم به أنّه كلّما كان المخاطب أكثر ذكاء ورغبةً في تَلْبية الطلب، كان إخفاء الإِشارة إلى الطلب في أسلوب القول الدّال عليه لدى مخاطبته أعلى منزلة من الناحية البيانيّة، وأكثر بلاغة، هذا من غير النّصوص التي يُقصد منها تثبيت أحكام بعيدة عن الاحتمال الذي قد يُفهم منه غير المراد.
وهنا تتكاثر الأساليب التي تشير في خفاء إلى المطلوب، وبعضها أرقى من بعض، أو أعذب وأحلى، أو أبدع أو أكثر نفعاً وتأثيراً.
ولنفرض أنَّ عدداً من النّاس كلُّ واحد منهم يُريدُ الحصول على كأس ماء يروي ضمأه، وهم متفاوتون في قدراتهم البيانيّة، وحاول كل واحد منهم الإِعلام بما يريده.
أمّا الساذج منهم فيأمر أمراً بإحضار كأس الماء الذي يريد بطريقة لا لِينَ فيه ولا حِلْيَة، وقد يكون هذا الأسلوب هو الأبلغ في مخاطبة بعض النّاس، وفي بعض الأحوال والأوضاع، لا سيما في طلب الأكبر من الأصغر، فالأسلوب البياني الأبلغ حينئذٍ هو الطلب بالأمر المباشر، والأوامِرُ العسكرية من القادة إلى الجنود قد لا ينفع فيها إلَاّ مِثْلُ هذا الأسلوب المباشر الجاف، لمقتضيات التدريب على الانضباط العسكري، وكذلك شأن القرارات والمراسيم والأوامر التي توجّهها
سلطات الحكم، ومن هذا الباب التكاليف الشرعية فيها أوامرُ ونواهٍ، مثل:"أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وافعلوا الخير، ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلَاّ بالحق، ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولا تسرقوا، ولا تزنوا" ومع ذلك فإنّنا نلاحظ معظم التكاليف الشرعية تقترن بتَطْرِيةِ الترغيبِ والترهيب، وبيانِ الحكمة، والتمهيد بالمقدِّمات، والتلطّف بالنداء التكريمي، مثل:{يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [آل عمران: 149] ومثل: {ياعبادي} [الزمر: 53] .
وترتقي من فوق الأمر المباشر الجافّ أساليبُ الإِعلام بالطلب، فيأتي أسلوب الطلب المقترن بما يشعر بتكريم المخاطب، ومن أمثلة ذلك في موضوع طلب كأس الماء "من فضلك أعطني ماء".
ثمّ يأتي فوقه أسلوب الشكر على تحقيق المطلوب قبل تحقيقه، ومن أمثلة ذلك:"أشكرك على كأس الماء الذي ستقدّمه لي".
ثمّ يأتي من فوق ذلك أسلوب التلميح والتعريض، ولهذا الأسلوب صور كثيرة، ودرجات بعضها أرقى وأعذب من بعض ومن أمثلة هذا الأسلوب:
(1)
ماؤكم عذب لا يشبَعُ منه الشاربون.
(2)
الحرُّ شديد يورث الظمأ.
(3)
طعامكم طيِّب ولذيذ أكْثَرْنَا منه فألهب الأكباد.
وهكذا من أمثلة المعاريض التي لا تحصر.
أَلَسْنا نلاحظ أنّ الهدف المطلوب تحقيقه واحد في كلّ الأساليب السابقة، إلَاّ أنّ الأساليب البيانيّة للإِعلام بالهدف قد تفاوتت تفاوتاً كثيراً.
ومع تفاوت الأساليب البيانيّة وارتقاء بعضها فوق بعض، نؤكد أنّه ربّما كان الأدنى منها أصلح وأجدى من الأساليب التي هي أرقى، مع بعض المخاطبين، أو في أوضاع وأحوال خاصّة، أو في موضوعات معيّنة أو بالنسبة إلى أهدافٍ
خاصّة من الكلام. وعندئذٍ يكون الأدنى في أسلوبه البياني هو الأبلغ لتحقيق الهدف، كشأن أساليب التربية.
ومن أجل ذلك لا بدّ من النّظر إلى الأسلوب البياني ومرتبته من جهة، وإلى ما يَقْتَضيه الهدفُ وإلى وضع المخاطب وحاله من جهة أخرى.
ومن هذا تبيّن لنا أنّ الأساليب البيانية تختلف أنواعها اختلافاً كثيراً، وأنّ الأهداف من الكلام، وأوضاع المخاطبين وأحوالهم، والموضوعات العامّة التي يجري فيها الكلام، والمضامين الفكرية التي يراد الدلالة عليها، والْمُنَاخات النّفسية والاجتماعية التي يوجّه فيها الكلام، تختلف اختلافاً كثيراً أيضاً.
والبليغ حقاً هو الذي يُحْسِنُ الملاءَمَة بين أسلوبه البياني وبين الهدف الذي يقصده، والموضوع الذي يتحدّث فيه، ووضع المخاطب الذي يُوَجِّهُ له كلامه، وحاله التي هو عليها، وسائر الأمور التي يمكن أن يُلائِمَها أسلوب من الكلام ولا يلائمها أسلوب آخر.
ولا بد من الإِشارة هنا إلى أنّ هذه المَلاءَمَة في الأسلوب البياني، ليست هي كلَّ شيء في تحديد الجمال والأدبي، بل توجد عناصر جماليّة أخرى كثيرة، قد يشتمل عليها الكلام أو لا يشتمل عليها مع مراعاة الملاءمة في الأسلوب البياني.
ونظرةٌ في مختلف الأساليب البيانيّة تجعلنا نمرُّ على أسلوب العرض المباشر الجاف، فأسلوب العرض المباشر المغلّف بما يلطِّفه ويخفّف جفافه، ونمرُّ على الأسلوب الساذج البسيط، فما هو قريب منه. وقد يلطِّف العرضَ المباشر التشبهُ والتمثيلُ فيجعلُه ملموساً بساتر، والمحسِّنات اللّفظية، وأنواع من الزينة المعنوية، ودَعْمُ الخبر بالمؤكدات والشواهد، ودَعْمُ الطَّلَب بالمبرّرات والترغيب والترهيب.
ثمّ نمرّ على أساليب العرض غير المباشر التي يدخل فيها التعريض،
والتلميح، والكناية، والقصّة، وضرب الأمثال، وتَرْكُ صِيَغ الطلب إلى صيغ الْخَبَر الذي يراد منه الطلب، إلى غير ذلك من الأساليب البيانية الكثيرة التي لا يُعرض فيها المطلوب بشكل مباشر، وقد يقترن أسلوب العرض غير المباشر بما يؤكد الخبر الذي تضمّنه الكلام، أو بما يحرِّض على تحقيق المطلوب في الكلام، كالترغيب والرهيب.
وأصحابُ الذَوق البياني الرفيع يُحسنون استخدام الفنون البلاغيّة التي يذكرها علماء البلاغة، وفنوناً أخرى يبتكرونها، فالفنون البيانيّة لا تُحصر، والفكر الإِنساني مؤهل لأن يبتكر فيها بدائع وروائع جديدة، تهديه إلى خصائص الإِبداع الفنّي التي وهبها الله للإِنسان.
والدعاة إلى الله مطالبون بتدريب أنفسهم لاكتساب هذا الذوق البياني، ولاكتساب المهارة في صناعة الكلام الرفيع، ثم هم مطالبون بتسخير أدبهم في دعوتهم إلى سبيل ربِّهم، اقتداءً بنبيّهم ورسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، واقتباساً من المنهج القرآني في بلاغته العظيمة.
ثانياً - التنويع والتنقّل والتلوين:
ومن عناصر الجمال الأدبيّ الذي يزيد الجمال جمالاً، والحسن حسناً وبهاء، التنويع والتنقّل والتلوين بين الصور والأشكال الجماليّة في الكلام.
إنّ التزام الأديب لطريقة واحدة من الجمال الأدبيّ يكرّرها باستمرار في كلامه أو في معظم كلامه، ممّا يجعل مشاعر سامعيه أو قارئيه تَتَبَلّد تجاه هذا اللون من الجمال، فتفقد ما كنت تحسّ به من استعذاب وحلاوة وطلاوة، ويدبّ السأم إليها، ولو أنَّ أدبه كان كالمنِّ والسلوى، لأمست مشاعرهم أمام التزامه الوتيرة الواحدة كنفوس بني إسرائيل.
لمّا أكثر طه حسين من استخدامه للون جميل في الكلام هو الاستفادة من
عكس الكلام للدلالة على فكرة أخرى، غدا هذا اللون بعد حين مادّة لتندّر بعض المقلّدين الساخرين.
وهذا العكس في الكلام هو ما كان على وزن العبارة المشهورة: "كلام الأمير أمير الكلام" ونقول في نظائرها:
"الجمال الأدبيّ وأدب الجمال" - "الطَّبْعُ الْحَسَنُ والْحُسْنُ المطبوع".
"شعراءُ العلماء وعُلَمَاءُ الشعراء" - "روائع النَّثْرِ ونَثْرُ الرَّوَائع".
ومن التزام الوتيرة الواحدة المملّة ما نجده في مقامات الحريري على الرّغْم من حلاوة بعضه لأوّل مرة، لكنّ التّنقّل في الألوان الأدبيّة، والتنويع في استخدام العناصر الجمالية في الكلام، من الأسباب التي تجدّد إثارةَ الانتباه للإِحساس بالجمال، وتجدّد الاستمتاع بلذّة الأدب الجميل، وترفعه إلى مستوى الروائع، وتَمْنَعُ تسلُّل والْمَلَلِ إلى نفوس المستمعين أو القرّاء.
إنّ التَّنَقُّل مثلاً في النَّثْر من المتوازنات القصيرة، إلى المتوازنات الطويلة، إلى المتفاوتات الرشيقة ضمن نسق معجب جميل أَحبُّ إلى النّفوس الحضاريّة الذوّاقة للجمال من الثبات على وتيرة واحدة منها.
ثم إذا استطاع الأديب أنْ يُلَائِمَ بين المضامين الفكرية وبين الأسلوب الذي اختاره كان ذلك أكثر إعجاباً وإبداعاً.
وكذلك التَّنَقُّل من الخبر، إلى التساؤل، إلى الجواب، إلى التمنِّي فإلى الخبر، فإلى الحوار والمناقشة، فإلى الْجَدَلِ، فالْحَماسة، فالمنطقيّة العقليّة، فالعاصفة، فالحديثِ الهادىء، إلى غير ذلك من ألوان وفنون بيانيّة، مع شرط الملاءمة، وعدم التنافر الجمالي.
ومع التنقّل ينبغي للأديب أنْ يكون قادراً على الإِحساس بالتحوّلات النّفسيّة لدى من يُوَجِّهُ له كلامه، ليختار من أساليب القول ما يلائم الحالة النّفسيّة التي
وصل إليها. إنّ هذه القدرة على هذا الإِحساس، مع القدرة على التكيُّف السريع والانتقال إلى الأسلوب الأدبيّ الجديد الملائم، هي الوسيلة البارعة الموصلة إلى امتلاك الألباب والقلوب والنّفوس بأدب رفيع.
ومهما كان الأديب أقدر على هذا التكيُّف، مع اختيار اللّون الأدبيّ الملائم، وأقدر على استخدام مختلف الأساليب في كلامه، والتَّنقُّل البارع بينها من غير تكلُّف ولا قفزات منفّرات، كان أكثر أدباً، وأرفع أسلوباً، وأقدر على امتلاك من يُوَجِّه له كلامه.
ولنا في هذا بكتاب الله العظيم أسوةٌ رائعة، فمن خصائص الإِعجاز القرآني التنويع البديع الرائع في الأساليب، مع ملاءمة كلّ نوع من أنواع الأساليب للمضمون الفكري الذي يُرَادُ بيانه في النَّظْم القرآني المنزَّل.
***
ثالثاً - تزيين الأفكار المقصودة بالذات بأفكار أخرى:
ومن عناصر الجمال الأدبيّ تزيين الفكرة المقصودة بالذات بأفكار أخرى عن طريق التمهيد أو المقارنة أو التذييل.
(1)
فالتمهيد يكون بعرض أفكار تمهّد للأفكار المقصودة بالذات، وتزيِّنُها وتجعلها مقبولة.
كالتمهيد بمَقُولة إقناعيّة تتضمّن ضرورة العناية بالصحة، والمحافظة عليها، قبل التّحذير من شرب الخمر، أو من شرب الدخان، أو نحو ذلك من الأمور الضارّة بالصّحة.
وكاستثارة عناصر الإِيمان قبل توجيه التكليف.
وكالتمهيد بعبارات تشعر بتكريم المخاطب والتلطّف معه، بحسب مكانته
الاجتماعية بين قومه، ومن ذلك الديباجات التي يُقدِّم بها الناس خطاباتهم للملوك والعظماء والرؤساء.
وأمثلة هذا التمهيد كثيرة في القرآن العظيم ومنها:
(أ) قول الله لرسوله في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزل) :
فقول الله لرسوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] تمهيد حلو في ثناء وتكريم، لتحذير ضمني من شيء غير واقع حتماً، ألَا وهو الفظاظة وغلظ القلب الذي جاء بصيغة:{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لَانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] . ثمّ نلاحظ أنَّ الجملتين معاً كانتا تمهيدين رائعين لتوجيه التكليف بقوله تعالى لرسوله: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159] . (ب) قوله الله تعالى في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزل) : {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الآية: 164] .
إنَّ هذه الآية بمضامينها قد كانت تمهيداً يهيِّىء نفوس المؤمنين لتقبّل تلويمهم على ما بَدر منهم من تذمُّر واستنكار لبعض المصائب التي أصابتهم في أعمالهم الجهاديّة، بأسباب من عند أنفسهم، وهو ما جاء في الآية التالية للآية السابقة:
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هاذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] .
(ج) وقد علّم الله موسى أن يُمهِّد لفرعون بمقدِّمات العرض الرفيق جدّاً،
قبل أنْ يوجِّه له الدَّعوة المقصودة، وهي أنْ يتزكّى أي يتطهّر من الكفر والطغيان والظلم والعدوان.
فقال له كما جاء في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزل) :
{اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى * وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} [الآيات: 17 - 19] .
فأدب الدعوة لعظيمٍ بلغ به الأمر إلى ادّعاء الربوبيّة، قد اقتضى اتّخاذ الحكمة في دعوته، بتقديم مقدمات العرض الرفيق المهذّب جدّاً، دلَّ عليها في النص:{هَل لَّكَ إلى أَن}
لقد كان يفكي أنْ يقول له: أدعوك أنْ تزكّى. أو يكرّمه قليلاً بصيغة العرض الاستفهامي: هل تتزكَّى، أو يكرمه أكثر فيقول له: هل ترى أن تتزكّى، أو نحو ذلك.
لكنّ الله علّم موسى أنْ يفرش لفرعون مقدّمات تكريم أكثر تناسب مكانة فرعون في قومه، وقد جاء التعبير عن هذه المقدّمات الطويلة نسبيّاً بقوله:{هَل لَّكَ إلى أَن تزكى}
فأطال المقدّمات بحسب عادات القوم، واختصر المطلوب الأساسي، فقال {تزكى} بدل {تتزكّى}
(2)
والمقارنة تكون بإلباس الفكرة المقصودة ثوباً من فكرة أخرى تقبَّلها المخاطب أكثر من تقبُّلِه الفكرة المقصودة عارية مجرّدة.
وتطبيق ذلك يكون باستخدام الأساليب غير المباشرة التي سبق شرحها بتفصيل.
(3)
والتذييل يكون بعرض الأفكار المقصودة بالذّات أوّلاً، وإتباعها بما يُزّينها ويجعلها مقبولة.
كالإِتيان بالفكرة ثم بإتباعها بالاستدلال عليها استدلالاً برهانياً أو دون ذلك. بإتباعها بالوعد المحبوب ترغيباً بها، بالوعيد المكروه ترهيباً منها وتحذيراً. أو بإتباعها ببيان دواعيها المنطقيّة، أو دواعيها الالتزاميّة، ومن الدّواعي الالتزاميّة التذكير بعهد الإيمان والإِسلام، أو بسوابق الوعود والعهود، ونحو ذلك.
والأمثلة القرآنية على هذا النوع كثيرة جداً.
فمنها قول الله تعالى في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) :
فأَمَرَ الله عز وجل بالعفو والصفح، ثمّ أتبعه بعرضٍ فيه الوعد بالمغفرة لمن يعفو ويصفح. ونجد في القرآن آيات كثيرةً مختومة بنحو قوله تعالى:
{إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 4، 7] . {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} [البقرة: 195]، [المائدة: 13] . {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] . {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 58] . {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ المفسدين} [القصص: 77] . {إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران: 32] ممّا يشير إلى الوعد أو الوعيد بعد بيان المطلوب من فعل وترك.
***
رابعاً - ضرب الأمثال:
ومن عناصر الجمال الأدبيّ الرفيع في الكلام ضرب الأمثال، بشرط أن تتوافر فيها الشروط الفنِّية للأمثال، وتستجمع الشروط الأساسيّة العامّة للكلام البليغ.
ويشترط في ضرب المثل أنْ يكون له غرض بيانيّ، لا أنْ يكون مجرّد عبث في القول.
ولدى تتبُّعي للأمثال القرآنيّة وجدْتُ أنَّ أهمّ الأغراض التي يحسن أنْ يقصدها البلغاء هي الإغراض الأخلاقية والتربوية التي هدَفَتْ إليها الأمثال القرآنيّة، تتلخّص بالأغراض الست التالية:
الغرض الأوّل: تقريب صورة الممثَّل له إلى ذهن المخاطب عن طريق المَثَل.
الغرض الثّاني: الإِقناع بفكرة من الأفكار، وهذا الإِقناع قد يصل إلى مستوى إقامة الحجّة البرهانيّة، وقد يقتصر على مستوى إقامة الحجّة الخطابيّة، وقد يقتصر على مجرّد لفت النّظر إلى الحقيقة عن طريق صورة مشابهة.
الغرض الثّالث: الترغيب بالتزين والتحسين، أو التَّنفيرُ بكشف جوانب القبح، فالترغيب يكون بتزيين الممثّل له وإبراز جوانب حسنة، عن طريق تمثيله بما هو محبوب للنّفوس مرغوب لديها. والتنفير يكون بإبراز جوانب قبحه، عن طريق تمثيله بما هو مكروه للنّفوس أو تنفر منه.
الغرض الرابع: إثارة مِحْوَر الطّمع، أو مِحْوَر الخوف لدى المخاطَب، ففي إثارة محوَر الطمع يتّجه الإِنسان بمحرّض ذاتيّ إلى ما يُرَادُ توجيهه له، وفي إثارة محور الخوف يبتعد الإِنسان بمحرِّض ذاتيّ عما يُرَادُ إبعاده عنه.
الغرض الخامس: المدح أو الذّم والتعظيم أو التحقير.
الغرض السادس: شَحْذُ ذهن المخاطَب، وتحريكُ طاقاته الفكرية، أو استرضاء ذكائه، لتوجيه عنايته حتّى يتأمّل ويتفكّر ويصل إلى إدراك المراد عن طريق التفكُّر.
والأمثال التي يَدْفَعُ إليها هذا الغرض إنّما يُخَاطَب به الأذكياء، وأهل التأمُّل والنَّظر والبحث العلمي، وكبراء القوم.
أمّا الأغراض غير الأخلاقيّة فقد تجافت الأمثال القرآنيّة عنها كالسخريّة في ابن الرومي إذ قال:
قَصُرَتْ أَخَادِعُه وَطَالَ قَذَالُهُ
…
فَكَأَنّهُ مُتَرَبِّصٌ أنْ يُصْفَعَا
ومن شاء أنْ يتعلّم فن ضرب الأمثال، فليهتد بهدي خصائص الأمثال القرآنية.
ولدى تتبُّعي للأمثال القرآنيَّة اكتشفت من خصائصها الخصائص الست التالية:
الأولى: دقّة التصوير مع إبراز العناصر المهمّة من الصُّورة التمثيليّة.
الثانية: التصوير المتحرِّك الحيّ الناطق، ذو الأبعاد المكانيَّة والزمانيَّة، والذي تبرز فيه المشاعر النَّفسيّة والوجدانيّة، والحركات الفكرية، للعناصر الحيّة في الصورة.
الثالثة: صدقُ المماثلة بين الممثَّل به والممثّل له.
الرابعة: التنويع في عرض الأمثال، مرّة بالتشبيه، ومرّة بالعرض المفاجىء وبالتمثيل البسيط، وأخرى بالتمثيل المركّب الذي يطابق كل جزء منه جزءاً من الممثَّل له، وأخرى بالتمثيل المركّب الذي يُنْتَزَع منه وَجْهُ الشبه بنظرة كليّة عامّة.
الخامسة: البناء على المثل والحكم عليه كأنَّه عين الممثَّل له، على اعتبار أنَّ المثل قد كان وسيلة لإِحضار صورة الممثَّل له في ذهن المخاطب ونفسه، وإذْ حضرت صورة الممثّل به ولو تقديراً، فالبيان البليغ يستدعي تجاوز المثل، ومتابعة الكلام عن الممثَّل له، وتسقط صورة المثل لتبرز القضايا المقصودة.
السادسة: قد يحذف من المثل القرآني مقاطع اعتماداً على ذكاء أهل
الاستنباط، وقد تُحذف من الممثَّل له مقاطع أيضاً، ويبقى في دلالات الألفاظ أو لوازم المعاني ما يدلّ على المحذوف.
واجب الدّعاة:
وعلى الدُّعاة إلى سبيل الله بالحِكْمة والموعِظَة الحسَنَة أنْ ينتفعوا من هذا العنصر من عناصر الجمال الأدبي، ويهتدوا بهَدْي كتاب الله وهَدْي سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فكم فيهما من أمثال رائعات.
وللقارىء أنْ يرجع إلى كتابي: "أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع".
***
خامساً - السطح والعمق:
ومن عناصر الجمال والكمال الأدبيّ الرفيع في الكلام أنْ يكون له سطح تفهمه العامّة دون غموض ولا ارتباك ذهنيّ، وأنْ يكون له مع ذلك عمقٌ تفهمه الخاصّة بالتأمّل والتعمُّق وإعمال الذكاء.
ولا يستطيع تقديم بيان رفيع مثل هذا البيان الذي له سطح وعمق إلَاّ نوابغ البلغاء الأذكياء.
والقُدوة الهادية لهؤلاء النوابغ بلاغة القرآن المعجز. إنّ المتدبِّر لكلام الله عز وجل في القرآن يلاحظ عجباً، إنّه إلى آية فيفهمها، ويأخذ منها دلالة صحيحة ينتفع منها انتفاعاً عظيماً.
ثمّ تأتيه نفحات في تدبُّر آخر، فيفهم من الآية معانيَ جديدة لم ينتبه إليها في التدبُّر الأول، وهذه المعاني لا تتعارض مع ما فهمه في التدبُّر الأوّل إذا كان تدبُّراً صحيحاً. بل تعطيه إضافات متمِّمة لما كان قد تدبَّره من قبل.
ثمّ كلّما تعمَّق في التدبُّر تواردت عليه مفاهيم جديدة تتكامل بها لديه المعرفة المتعلِّقة بدلالة الآية.
والعمق في الكلام يتكوّن من أسباب، منها مايلي:
الأوّل: عدم الإشارة باللّفظ إلى الترابط المنطقي بين المعاني، أو إلى الترتيب الزماني أو المكاني بين الأحداث، أو غير ذلك من أمور مع إبقاء كل جملة في محلِّها الطبيعي.
ولوْ أنَّه جاءت الإشارة الصريحة إلى هذا الترابط، أو هذا الترتيب بلفظ دالٍّ، لخرج المعنى من العمق إلى السطح.
ولكن يفقد النّص بذلك عاملاً من عوامل جدّته في نفس القارىء عند كل تدبُّر.
الثاني: الكنايات البعيدة ذوات الدلالات المتتابعات.
الثالث: المحاذيف التي تُحْذَف للإِيجاز، ويقتضيها معنى النّص، أو يستدعيها التوازن والتناظر والتكامل فيه، أو غير ذلك، ويبقى المعنى بعد حذفها صحيحاً، إلَاّ أنّه جزء من المعرفة التي يدلُّ عليها السطح والعمق معاً.
والعمقُ القرآنيّ عمقٌ معجز، لهذا سيظلّ في القرآن جديد يفهمه المتدبّرون المتعمّقون.
والسّطحُ والْعُمْقُ في القرآن شيءٌ غير الظاهر والباطن الذي تدّعيه الباطنيّة كذِباً وبهتاناً وافتراءً على الله ورسوله، إنَّ الذي يقولون به خرافةٌ يُقْصَدُ بها تحريف نصوص كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن ميزة السطح والعمق في القرآن أن الْعُمْقَ يُكَمِّل السطح، ولا ينقضه، ولا يتنافى معه.
وشأن المتدبِّر في القرآن كشأن الباحث في سطح البحر وعمقه.
ومن بُلغاء البيان مَنْ يكون لبعض كلامهم سطح وعمق، إلَاّ أنّ العمق لديهم سهل الاستخراج وقد يتنافى مع السطح.
إنّْ قول المتنبِّي لكافور الإِخشيدي:
*"لقد كنت أرجو أنْ أراك فأطربا"*.
له سطح يمدح به كافوراً، لكنَّ له عمقاً يسخر به منه.
***
سادساً - أوجه النَّص:
ومنْ عناصر الجمال والكمال الأدبيّ الرفيع في الكلام أنْ يكون له عدّة أهداف، وهذه الأهداف كلُّها مقصودة به، ويظهر هذا بجلاء حينما يكون المخاطب بالكلام جماعة ذات فئات مختلفة، وعناصر متباينة.
فمن أمثلة النَّصّ ذي الهدف المزدوج أن يوجِّه ذو سلطان عدم تهديده الشديد للَّذين يخالفون أوامر مبعوث من قبله للقيام بمهمّة من المهمّات السلطانيّة، إنّنا نلاحظ في هذا النَّص التهديدي هدفين معاً:
أحدهما: تهديد الذين يخالفون.
وثانيهما: رفع معنويَّة المبعوث، وشدُّ أزره وشحذُ همّته للقيام بما بُعِثَ به أفضل وجه.
وقد يكون الكلام مثلّث الهدف، أو أكثر من ذلك، وكل صاحب علاقة يأخذ من النَّصّ ما يناسب حاله، ويكْثُر هذا في النُّصوص القرآنيّة، فقد يكون الكلام تهديداً وتوعُّداً للكافرين، ووعداً للمؤمنين، وتربيةً وتأديباً وتسلية للرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ومن الأمثلة القرآنية على تَعَدُّد الهدف من النصّ قول الله عز وجل في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول) :
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} [الآية: 59] .
ففي هذا النصّ هدف إلقاء الوهن في قُلوب الكافرين، ولو عظمت قوّاتُهم. وهدف رفع مستوى القوى المعنوية في قلوب المؤمنين، وشحذُ همّتهم لإعداد القوى المادية التي يسبقون بها الذين كفروا تمهيداً للتكليف بإعداد المستطاع من القوة الذي جاء في الآية التالية لهذا النص.
***
سابعاً - الشعر وفنونه:
ومن عناصر الجمال في الكلام أنْ يُرضي الحسّ الموسيقي في الإِنسان، ويدغدغه بإمتاع.
إنَّ للموسيقى وموازنيها تأثيراً مستعذباً في النُّفوس، فإذا جاء الكلام موزوناً على بعض موازنيها الحلوة المستعذبة اكتَسَبَ حلاوة مُحبَّبَة.
ثم إذا توافرت في الكلام مع ذلك عناصر متلائمة من عناصر الجمال والكمال الأدبي ازداد الكلام حُسناً وقوّة تأثير في النَّاس.
إنَّ الأشياء الجميلة التي تلامس مشاعر الإِنسان بمؤثراتها الحلوة من جانبين، هي أكثر تأثيراً فيه من التي تلامس مشاعره من جانب واحد. وكلّما ازدادت الجوانب ازدادت قوّة التأثير، حتّى تصل إلى محاصرة الإِنسان من كل مشاعره الجسديّة والنفسيّة والفكرية والوجدانيّة، فيفقد عندئذٍ كل مقاومته، ويستسلم استسلاماً تامّاً، مستغرقاً في لذّات المشاعر الحُلوة.
إنَّه إذا اجتمع المنظر الجميل، والصوت الحَسَن، والرائحة الزّكية، والطعم اللّذيد، والملمس الحُلو الممتع، والرّاحة النّفسيّة، وكان الحديث أدباً جميلاً رفيعاً، موضوعاً بقالب موسيقي شِعري، فقد حاصر الجمال معظم مشاعر الإِنسان، وأخذَ يهيْمن عليها بمؤثراته الحُلوة، حتى يَسْلُبَها كل مقاوماتها، فتستلم استسلاماً تامّاً.
ولمّا كانت النَّفس الإِنسانية تَطْرَبُ للموسيقى، وترتاح لموازينها الحُلوة، وكان الشِّعر كلاماً يجري في بعض جداولها، وعلى بعض موازنيها، كان للشعر تأثير حلو على النُّفوس الإِنسانية، ويظهر هذا حتى على الأطفال الصغار، الذين يظهر شعرٌ طفليّ على بعض جملهم التي يردّدونها أو يغنُّون بها.
ويتفاوت النَّاس في مدى إحساسهم بهذا النَّوع من أنواع الجمال في الوجود، وفي تذوُّقهم له، لذلك نلاحظ أنَّ بعض النّاس يتأثّرون بالشِّعر أكثر من بعض، مع وجود أصل التأثّر عند كل النّاس إلَاّ نادراً.
وبعض النّاس لديه بالتكوين الفطري فِطْرَةُ نَظْم الكلام على ميزان شِعري.
وكلُّنا يعلم أنّ الكلام الموضوع في قالب ميزان شِعري أسرع إلى الحفظ، وأثبت في الذاكرة، وأسهل استدعاءً عند الحاجة.
فلا غَرْوَ إذن أنْ يكون الشِّعر عنصراً من عناصر الجمال في الكلام.
وهنا نقول: إنّ على أصحاب الأهداف النّبيلة والدّعوات الخيِّرة أنْ يُحسِنوا استخدام هذا اللَّون الجمالي من ألوان المؤثرات على النَّفس الإِنسانيَّة، وأن لا يَدَعوا ساحته للشعراء الذين يتَّبِعهم الغاوون، الذين هم في كل وادٍ من أودية أهواء النَّفس وشهواتها، وأودية الضلال والفساد في الأرض يهيمون، والذين هم يقولون ما لا يفعلون.
إنَّ الشِّعر سلاح من أسلحة الأدب، وهو وسيلة حياديّة بذاتها، إنْ استُخْدِمت في الخير كانت خيراً، وإنْ استُخدِمت في الشرّ كانت شرّاً.
وبوسع المصْلِحين ودُعاة الخير ممَّن لديهم القدرة على كتابة الشِّعر الرفيع أنْ يَلْبَسوا درع قول الله تعالى في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) :
بعد أنْ وصف الله واقع حال معظم الشُّعراء بقوله تعالى فيها:
{والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224 - 226] .
فالشعراء الذين يهيمون في كلّ وادٍ من أودية الضلال والهوى، والكذب والطعن في الناس ظلماً، والمدح لبعض الناس استجداء، والانتصار بغير حق، ويتبجّحون بشعرهم كذباً وزوراً، فيصفون أنفسهم بالشجاعة وهم الجبناء، وبالكرام وهم البخلاء، وبالعقل وهم السفهاء، وبالعفّة وهم الفُسّاق، ويتحدَّثون عن مغامرات غراميّة لم تحدث، فيفضحون بأكاذيبهم محصنات عفيفات، ويفتخرون بالحَسَب والنَّسب وهم صعاليك لا حَسَب لهم ولا نَسَب، ويَعِدون ولا يَفُون، ويُعَاهِدُون ويَغْدُرون، ويُظْهِرُون صدق الحبِّ وهم الطامعون، فهم يقولون ما لا يفعلون.
هؤلاء بزخرف الشِّعر الذين يملكون القدرة على صناعته والتأثير بفنونه إنَّما يتَّبعهم من النَّاس الذين سَفِهوا نفوسَهم، فخدعتهم الكلمة المزخرفة ولو كانت باطلاً وزُوراً، ودَعْوةً إلى الشَّرِّ والفساد في الأرض.
ومن هؤلاء شعراء الحانات، والمواخير، والليالي الحمراء، وشعراء الإِباحيّة، وشعراء المذاهب الضالّة الهدّامة.
أمّا الشُّعراء الذين يَلْبَسُون درع الاستثناء القرآني فقد برز منه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم "حسّان بن ثابت - وعبد الله بن رواحة - وكعب بن مالك".
واتَّخذهم الرسول صلى الله عليه وسلم أسلحة بيانيّة أدبيّة ضدّ شعراء أهل الكُفر والشّرك بالله، وكان يستحثُّهم أحياناً لمجاهدة الكافرين والمُشركين بشعرِهم.
وظهر في العصور الإِسلاميّة التالية شعر إسلامي كثير، ولكن ظلّت نسبة المبدعين من فحول الشّعراء في جانب الذين يَتَّبِعهم الغاوون هي النِّسبة الأكبر، أمّا
الذين لبِسوا درْعَ الاستثناء القرآني فقد كان فيهم موهوبون ذوو قدرات عالية تؤهِّلهم لأن يكونوا من فحول الشُّعراء، إلَاّ أنَّهم فيما أرى آثروا الإِبداع في العلوم الإِسلاميّة والاشتغال بها عن توجيه كل اهتمامهم للشِّعر، فلم يُبَرِّزوا به كما برّز الآخرون.
وفي ظنِّي لو أراد الإِمام الشافعي أنْ يكون شاعراً لبزّ أبا نواس في الشِّعر. ولكنّه آثر أنْ يكون عالماً فقيهاً.
وقد تكون شدّة الحذر من الانزلاق بالشِّعر إلى فئة الّذين يتَّبعهم الغاوون قد كفَّت كثيراً من الذين يملكون في فطرتهم القدرة الشِّعرية العالية عن أن يخوضوا بحور فنونه، ويستخدموه للدّعوة ويبلغوا فيه إلى مستوى فحول الشُّعراء.
ثامناً - الغرض الفكري البياني من الصورة البلاغيّة المختارة:
ليس يكفي إيراد الكلام وفق صورة من الصُّوَر البلاغيّة التي يذكرها علماء البلاغة، بل لا بدّ من ملاحظة غرض فكريّ بياني تؤديه هذه الصورة المختارة.
إنَّ نسبة الجمال في الكلام ترتقي جداً حينما نُدرك أنّ الأديب قد اختار الصورة البلاغيّة التي أوردها في كلامه لغرض فكريّ زائد على مجرّد اختيار صورة جماليّة بلاغيّة يذكرها علماء البلاغة.
إنَّ الصورة البلاغيّة مهما كانت جميلة في ذاتها تغدو كجسد بلا روح إذا كانت خالية من غرض فكري بياني تهدف إليه في البيان، باستثناء عناصر الجمال اللّفظي أو الموسيقي، والزِّينات التي لا تحتمل أداء غرض فكريّ بيانيّ.
ولدى بحث أيِّ جانب بلاغي في كلام رفيع من كلام البلغاء ينبغي البحث لاستجلاء الغرض الفكري من الصورة البلاغيّة، فليس المهم مجرّد الإِشارة إلى الصورة البلاغيّة، إنَّما المهم بعد ذلك هو استجلاء الغرض الفكري البياني من ورائها.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] إنَّ الصورة البلاغيّة في النَّص تتلخَّص بإسناد السيلان إلى الوادي، مع أنّ المراد سيلان الماء فيه. فهل انتهينا من البحث.
إنَّ الذي يملك الحسَّ الأدبي الرفيع يقول: لا. لأنَّه يتساءل: ولماذا أسند السيلان إلى الوادي بدل إسناده إلى الماء؟ وما الدَّاعي إلى ذلك وما هو الغرض منه؟.
وبالتأمّل يجد الجواب على تساؤله، إذ يرى أنَّ الغرض الفكري البياني من هذا الإِسناد هو إعطاء السامع أو القارىء صورة تُشْعِرُ على سبيل التخيّل بأنَّ الوادي يسيل فعلاًَ لكثرة تدفّق الماء وارتفاع نسبته في جانبي الوادي.
وهذه الصورة قد تحدث في وهم الإِنسان أو في تخيّلاته حينما يشاهد هدير الماء الكثير الذي يغمر قدراً كبيراً من الوادي.
فالتعبير إذن تصوير صادق لما يَجْرِي في التخيُّل لدى مشاهدة الحدث المادي.
إذن ينبغي للأديب أن يراعي ذلك في كلامه، وعليه أن يلاحظ باستمرار أنّ كبار البلغاء حينما يعطفون في كلامهم عن مجراه إلى صُوَر بلاغيّة يختارونها إنَّما يفعلون ذلك لأغراض فكريَّة بيانيَّة يهدفون إليها، ولا يكتفون باختيار الصُّوَر البلاغيّة لمجرّد أنَّها صور بلاغيّة، وهذا ما يعطي كلامهم ارتقاء أدبياً عظمياً، وجمالاً مكثَّفاً مضاعفاً.
***
تاسعاً - الجمع بين الأشياء المتضادّة:
وقد يكون من عناصر الجمال الأدبي في الكلام الجمع بين الأشياء المتضادّة في صورة كلاميّة متناسقة.
وذلك لأنَّ الأضداد سريعة التخاطر في الأذهان، فإيرادها قد يُحْدِثُ ارتياحاً جماليّاً في النَّفس.
وفي الصُّوَر الحِسِّية مِشَاهِدُ للتضاد أمثال ذلك، فمن المشاهد الحسِّيَّة الجميلة مشهد جبل أجرد إلى جانب وادٍ أخضر فيه جنّات ألفاف. ومشهد قصر راسخ ثابت البنيان ضمن عاصفة هوجاء تقتلع ما على الأرض من أشجار وأكواخ وأشياء كثيرة. ومشهد سفينة ثابتة كالطُّوْد في خِضمّ بحرٍ هائج وعاصفة بحريّة ثائرة. ومشهد وجه منير كالبدر ضمن شعر منسابٍ كالليل.
والحسّ الذوّاق للجمال يتحكّم بإدراك التناسق أو التنافر في الصورة التي تجمع بين المتضادّات، إذ ليس كلّ جمع بين المتضادّات يُحْدِثُ هذا الارتياح النَّفسي.
فمثلاً: لا ترتاح النُّفوس لدى ذكر ما يثير تقزّزها ونفورها، وإن كان ذلك مقابل ذكر ضدّه أو نقيضه، إنّ ذكر المُحْزِنات لدى ذكر المُفْرِحات أمرٌ مستنكر تنفر منه الطباع، ما لم يكن عَرْضاً لمبادىء عامّة لها طابع التأمّل الفلسفي، وإنّ ذكر المستقذرات في مقابل الطيِّبات أمرٌ مستهجن تنفر منه النُّفوس ولا ترتاح له. وهكذا.
فمن أمثلة المزدان بعنصر الجمع بين الأضداد الذي يُحدث إعجاباً وارتياحاً في النفُّوس، ولا يُحدث نفوراً ولا انزعاجاً ولا تقزّزاً، مايلي:
(1)
قول الله تعالى في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول) :
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} [الآيات: 43 - 45] .
(2)
وقول الله تعالى في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) :
(3)
وقول الله تعالى في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) :
{ولاكن أَكْثَرَ الناس لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الآيات: 6 - 7] .
(4)
وقول الله تعالى في سورة (الأعلى/ 87 مصحف/ 8 نزول) :
{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [الآية: 13] .
***
عاشراً - مسايرة المخاطب في تداعي أفكاره:
وقد يكون من عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام مسايرة المخاطب في تداعي أفكاره، بالمقدار الذي يُحْدِثُ الارتياح ولا يُورِث الملل.
إنَّ ممّا يُحْدِثُ المسرّة والارتياح في الكلام أنْ يُتَابِعَ الأنفس فيما تسترسل به من أفكار تتداعى، ويَجْلُبُ بعضها بعضاً، ويُمْسِكُ بعضها بأعناق بعض، بشرط عدم الاسترسال المملّ. إنّ الملَلَ متى بدأ يدبّ إلى النَّفس بالاسترسال مع أفكارها المتعانقة، كان قطع هذا الاسترسال والانتقال إلى عنصر المفاجأة هو الأرفع أدباً والأكثر تأثيراً، لأنّه يقدّم صورة جماليّة جديدة، بشرط أن تكون المفاجأة حُلْوَةً، لطرافتها أو غرابتها أو بُعد خطورها في الأذهان، أو غير ذلك.
وكثيراً ما يكون قطع الاسترسال وترك النَّفس لتستكمل بذاتها بقيّة العناصر هو الأجمل لديها، والأحبّ لمشاعرها.
والأديب ذو الحسّ المرهف يستطيع أن يُدْرِكَ متى يحسن الاسترسال مع تداعي أفكار المخاطب أو القارىء، ومتى يحسن قطع الاسترسال، ومتى يحسن الانتقال لأمر مثير بالمفاجأة الحلوة المعجبة.
فمن أمثلة المسايرة الحلوة لتداعي الأفكار قول الله تعالى في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول) :
إنّ الحديث عن اختلاف الألوان في الثمرات يستدعي في الأفكار تصوّر اختلاف الألوان في الجبال، لأنَّها هي التي تبرز في اللّوحة الفنيّة أوّلاً بعد النّظر إلى الثمار في أشجارها، فيخطر اللّون الأبيض منها على اختلاف درجاته، فالأحمر على اختلاف درجاته، ثمَّ الأسود، ثمّ ينتقل الذهن بالتداعي الفكري إلى الألوان في الدوابّ والأنعام. هذا هو الأمر الغالب بالنسبة إلى واقع أحوال النَّاس.
ولا يخفى أنّ متابعة الأفكار في تداعيها الذاتي كثيراً ما يكون مريحاً للنُّفوس، ومُعْجباً لها، فهو إذن من عناصر الجمال الأدبي، إذا استوفى شروطه، وخلا من المنفِّرات أو المزعجات، ولم يَطُلْ حتى يُحْدِثَ الْمَلَلَ والسّأَم.
ومن الأمثلة أيضاً: قول الله تعالى في سورة (الغاشية/ 88 مصحف/ 68 نزول) :
{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ * وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} [الآيات: 17 - 20] .
ففي هذه الآيات تصوير للوحة فنّية متحرِّكة، تبدو بالتتابع كما هي في النَّص، بالنسبة إلى الناظر الجالس في الصحراء، إذا مرّت بعيداً عنه قافلة من الإِبل.
إنّ أوّل ما يلفت نظره لدى مشاهدة هذه اللّوحة من مشاهد الطبيعة، أنْ يتركَّز انتباهه في مشاهدة قافلة الإِبل، وتكون القافلة بالنسبة إليه هي بؤرة المشهد، لأنَّها
هي المتحرِّك الآسر الجالب للانتباه، وتلقائيَّاً ينتقل نظره بعد ذلك إلى الأفق، من مستوى نظره إلى أسنمة الجمال إلى الأفق، حتّى إذا ملأ نظره من الأفق نزل ليرى الجبال من بعيد، ثمّ بعد ذلك ينخفض نظره ليركزّ انتباهه في مشاهدة الأرض المنسطحة.
وعلى وفق هذا المشهد الذي يتكرّر لدى كثير من سكان الصحراء في خيامهم ولدى عابريها جرى تصوير الصورة الكلاميّة، وقد وافق التسلسل فيها التسلسل الذي يَحْدُثُ غالباً عند النَّاس، لدى مشاهداتهم لمثل هذه اللوحة في الصحراء.
وهذا من عناصر الجمال الفنِّي لا محالة.
***
حادي عشر - نقل الأسماء أو الصِّفات من مواضعها الطبيعيَّة وإضفاؤها على غيرها:
* قد يكون من عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام نقل الأسماء أو الصِّفات من مواضعها الاصطلاحيّة أو الطبيعيّة وإضفاؤها على غيرها، لوجود ما يستدعي في التخيّل هذا النقل، وإن لم يكن في الواقع كذلك.
فمن ذلك نقل صفة الحالّ في الشيء وإضفاؤها على ذلك الشيء كقولنا: "جرى النهر" مع أنّ الجريان هو اللماء في النّهر، ولكنّ التخيّل ربَّما أحسّ لدى مشاهدة جريان الماء في النّهر أنّ النّهر يجري أيضاً مع الماء.
ومن بديع هذا النَّقل قول الشاعر:
وسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الأَبَاطِحُ
فقد أضْفَى صفة السيلان على الأباطح، وهي لما يمرّ فيها، بعد أنْ أضفاها على أعناق المطيّ وهي للماء، لأنّ التخيّل يلحظ صفة سيلان الماء حينما يشاهد أعناق الإِبل تتموّج وهي تسير على الأباطح.
ومن بديع هذا النَّقل أيضاً قول الله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ففيه إضفاء السيلان على الأودية، وهي لماء السيول فيها، لأنَّ الأودية حينما تسيل فيها السيول العارمة تُوقِعُ في خيال المُشَاهِد المندهش أنّ الأودية والجبال أنفُسَها تسيل مع حركة المياة الجارفة فيها.
ومن بديع هذا النَّقل أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"ومَنْ بَطَّأ به عمله لم يُسْرعُ به نسبه".
ففيه إضفاء صفة التبطيء على العمل، هي في الأصل صفة للكسل أو التقصير في العمل، ولكنّ التخيّل إذا رأى العامل المقصِّر الكسول تصوّر أنّ عمله هو الذي يطّأ به، إذ العمل هو الحركة المشهودة، أمّا الكسل أو التقصير فيهما لا يُشَاهَدَان نظراً، وإنَّما يُدْرَكَان فكراً، وفيه إضفاء صفة الإِسراع أو عدمه على النَّسب! لأنَّ النَّاس يتخيَّلون أنّ من لم ينَل السبق بعمله ربَّما ناله بنسبه، فيُعْطَى ذو النَّسب الكريم مَنْزِلَ السبق لمجرّد نسبه.
ويدخل في هذا العنصر نقل صفة الحيّ وإضفاؤُها على الذي لا حياة له، ونقل صفة الذي لا حياة له وإضفاؤها على الحيِّ، لأنَّ التخيُّل يلاحظ في المنقول إليه لمحات من صفة المنقول منه، ومن هذا استنطاق الجماد الذي لا ينطق، ومخاطبته كأنَّه ناطق يتكلّم.
والأمثلة على ذلك كثيرة في أبلغ الكلام، ومنها الأمثلة القرآنية التالية:
(1)
قول الله تعالى في سورة (ق/ 50 مصحف/ 34 نزول) :
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [الآية: 30] .
(2)
وقول الله تعالى في سورة (فصِّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول) :
{ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [الآية: 11] .
ففي هاتين الآيتين استنطاق الجماد ومخاطبته، وهذا من نقل صفة الحيّ إضفائها على الذي لا حياة له.
(3)
وقول الله تعالى في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في سياق قصّة موسى والخَضِر عليهما السلام:
ففي هذا نقل صفة الإِرادة التي هي للحيّ المريد، وإضفاؤها على الجدار الذي لا حياة له ولا إرادة، لأنَّ صورة الجدار هذا تُحْدِثُ في تخيّل الناظر إليه أنّه كعجوز من النَّاس هَرِم، وهو يريد أن يستريح من قيامه ويسقط إلى الأرض انقضاضاً كانقضاض الطائر راكعاً أو ساجداً أو مستلقياً، فأعطاه صفة الإِرادة وصفة انقضاض الطائر.
(4)
وقول الله تعالى بشأن المنافقين في سورة (المنافقون/ 63 مصحف/ 104 نزول) :
ففي هذا النّص نقل صفة الجامد الذي لا حياة له عن طريق التشبيه الصريح، وإضفاؤها على المنافقين الأحياء الجالسين المستندين إلى جدار مجلس الرسول بأجسامهم الْمَهِيبَة، لأنّ حالتهم النّفسية المنصرفة كلّياً عمّا يجري حولهم تُوقِعُ في التخيّل أنّهم بمثابة الخُشُب المسنّدة.
* وقد يكون نقل الصفة لغرض الإِيجاز، أو الإِيجاز مع التعميم، كنقل الصفة من أهل المكان إلى المكان، ومن أهل الزمان إلى الزمان، ومن أمثلة ذلك مايلي:
(1)
قول الله تعالى في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول) :
{وهاذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا
…
} [الآية: 92] .
أي: لتنذر أهل هذا البلد ومن حولهم من أهل الأرض.
(2)
وقول الله تعالى في سورة (ق/ 50 مصحف/ 34 نزول) :
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً} [الآية: 36] .
أي: وكم أهكلنا قبلهم من أقوام في قرون مضت هم أشدّ منهم بطشاً.
(3)
وقول الله تعالى في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكاية لقول إخوة يوسف لأبيهم:
{وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الآية: 82] .
أي: واسأل أهل القرية التي كنا فيها، وأصحاب العير التي أقبلنا فيها.
* من استعراض أمثلة هذا العنصر، والصُّوَر التي يمكن أن تدخل فيه، لا بدّ أن يظهر لنا أنّ ألواناً بلاغيّة كثيرة تدخل فيه، كأنواع التشبيه، والاستعارات، والمجاز العقلي، والمجاز المُرْسل، لأنَّها قائمة على نقل الأسماء أو الصِّفات من مواضعها، وإضفائها على غيرها، استناداً إلى أنّ خيال الأديب يَسْمَحُ له بهذا النقل، إمّا للشبه بين المنقول منه والمنقول إليه، أو للتّجاور، أو للارتباط السببي، أو لغير ذلك.
ولا بدّ أن نعلم بأنّه ليس كلّ نقل من هذا القبيل يقدّم صورة جماليّة تُزَيِّن الكلام، وترفع قيمته الأدبيّة، بل لا بدّ مع ذلك من أن تكون الصورة نَفْسُها برئيةً ممّا يُشَوِّه جمال النّقل، وأن يتضمّن النّقل فكرة تثير الإِعجاب والارتياح النَّفسي،
وأن يكون ذا هَدَفٍ بلاغي، فالأعمال اللّفظيّة الشكلية الخالية من الأهداف البلاغيّة بمثابة رسوم ساكنة لا حياة فيها ولا حرارة.
***
ثاني عشر- البراعة في إبراز وتصوير الأحاسيس والمشاعر النَّفسيّة:
ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام البراعة في إبراز وتصوير الأحاسيس والمشاعر النَّفسيّة والأفكار. وقد تكون هذه البراعة بتقديم الفكرة من خلال نظير حسّي، أو بالمبالغة في تصويرها، أو تصوير آثارها، أو غير ذلك.
أمثلة:
(1)
قول الله تعالى بشأن المنافقين فية سورة (المنافقون/ 63 مصحف/ 104 نزول) :
{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ
…
} [الآية: 4] .
ففي هذا إبراز بارعٌ جدّاً، وتصويرٌ بديع لحالة الذُّعر الشديد الذي يعانون منه في داخل أنفسهم، وقد دلّ على هذه الحقيقة المبالغة، لأنّ الخائف المذعور جدّاً قد يسمع صياح الْمُنْجِد له فيتصوّره صياحاً ضدّه.
(2)
وقول الله تعالى في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) يصف حال أناس داهمهم مطر شديد فيه ظلمات ورعد وبرق:
ففي المبالغة بأنهّم يجعلون أصابعهم في آذانهم إبرازٌ لصورة حالتهم النَّفسية، التي تدفعهم إلى سدّ مسامعهم بكلّ أصابعهم، فلو أنّهم استطاعوا إدخال كلّ أصابعهم في آذانهم لفعلوا.
(3)
وقول الله تعالى في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) حكاية لقول زكريّا عليه السلام إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً:
{قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [الآية: 4] .
ففي تصوير تسارع انتشار الشيب في رأسه حتى عمّ الرأس بحالة الاشتعال الذي يسارع انتشاره في الهشيم، براعة تدلّ على الحالة النَّفسيّة التي أخذ يعاني منها، والتي بدأت تكويه بنار اليأس التي أخذ لَهَبُهَا ينتشر شيباً في شعر رأسه.
(4)
وقول الله تعالى في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) :
{فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [الآيات: 11 - 12] .
ففي هذا النّص تصويرٌ بارع يُبْرِزُ مشهدَ انصباب الماء من السماء، حتى كأنّ أبواباً فيها هي بمثابة سُدودٍ فتحت فانصبّ الماء المنحصر وراءها. ويُبْرِزُ مشهدَ تفجُّر الماء من مواضع لا تحصى من الأرض، حتّى لكأنّ الناظر إلى الأرض يرى أنّها كلّها قد صارت عيوناً يتفجّر الماء منها تفجّراً، ليلتقي في بحرٍ طامٍ خِضَمِّ لا يُبْقِي ولا يذر.
ومن البراعة في إبراز وتصوير الأحاسيس والمشاعر النّفسية، والأفكار، تجسيدُها في أمثلة حسيّة ماديّة، كتمثيل العلم بالنور، والجهل بالظلمات. وكتمثيل الكفر بالعمى، والإِيمان بالبصر. وكتمثيل القرآن بقلب المؤمن في هدايته بمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنّها كوكب درّي.
قال الله تعالى في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) :
{الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَاّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} [الآية: 35] .
ففي هذه الآية ضرب الله مثلاً لنور القرآن المعنوي بمصباح أرضي من صنع النّاس، ذي نور صافٍ من أيَّةِ شائبة، وهذا النّور يتلألأ كالكوكب الدرّي، والقرآن بالنسبة إلى سائر كلام الله كقطَرة من بحر، وكذلك نور المصباح بالنَّسبة إلى سائر ما خلق الله من نور في الكون الكبير.
ومن تجسيد المعاني والمشاعر والأحاسيس في أمثلة حِسّيَّة مادّيَّةٍ في الاستعارات التالية: إعصار الهوى. عبير الوجدان. بَرْد اليقين. نار الحب. رياح العاطفة الشجيّة. حلاوة الإِيمان
…
إلى غير ذلك من تعبيرات.
***
ثالث عشر- احترام فكر المخاطب وتقديره بترك استخدام الأسلوب المباشر:
وقد يكون من عناصر الجمال الأدبي في الكلام احترامُ فكر المخاطب وتَقْدِيرُه بترك استخدام الأسلوب المباشر، اعتماداً على أنه لمّاحٌ تكفيه الإِشارة الخفيفة والخفيّة، أو بترك الإِطناب والشرح، واللّجوء إلى الإِيجاز والرمزية.
ويدخل في هذا الكنايات، ورموز الأقوال، والتلميحات، والمعاريض، ونحو ذلك.
ولا ريب أنّ من احترام فِكر المخاطب وتقديره الإِيجازَ له في الأشياء التي يمكن أن يفهمها بنفسه، إذا كان أهلاً لذلك، ويَحْسُنُ هذا الإِيجاز جدّاً إلى حدّ الرمز في مواقف خاصّة، منها أنّ يتطلب الموقف إعلام المخاطب وحده، مع إخفاء الأمر عن حاضري مجلسه.
ومن روائع التلويح إلى المعاني بالإِشارات التي لا تفهم إلَاّ بذكاء لمّاح،
استعمال لفظة الكفّار المرادفة للفظة الزارع في قول الله تعالى في سورة (الحديد/ 57 مصحف/ 94 نزول) :
فقد استعملت هذه اللّفظة "الكُفّار" المرادفة في معناها هنا اللفظة "الزرّاع" بدل استعمال لفظة "الزرّاع" تلويحاً بأنّ مقابل الزرّاع في المثل هم الكفّار في الممثَّل له، فالمعجبون بزينة الحياة الدُّنيا المغرورون بها هم الكفّار، ويقابِلُهُمْ في المثل الزرّاع الذين يعجبهم النّبات إذا نزل عليه الغيث فاخضرّ وأنبت.
ولمّا كانت تطلق في اللّغة لفظة "الكفّار" على "الزرّاع" لأنّهم بزرعهم يدفنون الحبّ في الأرض فيسترونه، والكفر في اللّغة هو الستر، اختيرت لفظة "الكفّار" هذه بالذّات، لتدلّ على الزرّاع في مكانها التي استعملت فيه، ولتلوِّح بأنّ مقابِلَهُمْ في الممثَّل له هم الكفّار بيوم الدين.
ويزيدنا ثقّة بأنّ اختيار هذه اللّفظة هنا كان مقصوداً، لتَحْمِل هذا التلويح الذي لا يُتَنبَّه له إلَاّ بذكاء لمّاح اختيارُ كلمة "الزرّاع" في موقع آخر من القرآن، لأنّ ذلك الموقع لا حاجة فيه إلى مثل هذا التلويح، وهو ما جاء في وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإِنجيل، كما روت لنا سورة (الفتح/ 48 مصحف/ 111 نزول) إذ قال الله تعالى فيها:
فقد استعملت هنا لفظة "الزُّرَّاع" لأنّ مقابلها في الممثّل له ليسوا بكافرين، بخلاف "أَعْجَبَ الكفَّارَ نَبَاتُهُ".
***
رابع عشر- تقريب الصورة الغائبة بوضعها في صورة مشهودة النّظير أو مخيّلة:
ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام تقريب الصورة الغائبة، وذلك بوضعها في صورة مشهودة النظير، أو في صورة متخيَّلة في أذهان المخاطبين.
فمن تقريب الغائب بوضعه في صورة مشهودة النظير ما جاء في القرآن والسنّة من تمثيلٍ أو تسميةٍ لما في الدّار الآخرة من أحوال وأحداث ومكوَّنات.
ففي الصحيح عن ابن عباس أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ مِمَّا فِي الدُّنْيَا إلَاّ الأسْمَاء".
ومن تقريب الغائب بوضعه في صورة متخلية في أذهان المخاطبين، وصف طلع شجرة الزقوم بأنّه يُشْبِهُ رؤوس الشياطين، وهو ما جاء في سورة (الصافات/ 37 مصحف/ 56 نزول) بقول الله عز وجل فيها:
{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الآيات: 64 - 65] .
طَلْعُها: أي ثمرها.
ففي أخيلة النّاس صورةٌ بشعة مرعبة لرؤوس الشياطين، فجاء تقريب صورة طلع هذه الشجرة الخبيثة، بأنّه أبشع وأقبح صورة تتخيّلونها، وهي رؤوس الشياطين.
***
خامس عشر- الإِتقان في إبراز دقائق الصورة:
ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام الإِتقان في إبراز دقائق الصورة، ماديّةً كانت أو غير مادّية، وذلك لدى رسمها في الصورة الكلاميّة، مع استيفاء العناصر اللازمة لإِبراز الحقيقة بشكل جميل وواضح.
ويزيد الصورة جمالاً تركُ جوانب فيها يُتَابعها الفكر وحده، ويستكملها الخيال بنفسه، مع إيجاد المنافذ أو الإِشارات التي يُمْكِنُ الانطلاق منها إلى هذه الجوانب المتروكة، كالرمز، والإِشارة الخفيّة، وما يستتبعه الكلام باللّزوم الذهني، وغير ذلك.
ونلاحظ هذا العنصر الجمالي في قول الله تعالى في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول) :
القيعة: كالقاع وهو ما استوى من الأرض.
لُجِّيّ: أي عظيم عميق.
وفي قوله تعالى عقب النّص السابق بآيتين:
يُزْجي: يَسُوق برفق.
رُكَاماً: أي: بعضه فوق بعض.
الوَدْق: المطر.
سَنَا: ضَوْء.
أَلَسْنا نلاحظ في هذه الأمثلة الثلاثة إتقاناً عجيباً في إبراز دقائق الصورة، مع استيفاء العناصر اللازمة لإِبراز الحقيقة بشكل واضح وجميل، ومع ترك جوانب في الصورة يتابعها الفكر وحده، ويستكملها الخيال بنفسه.
فالصورة في المثال الأوّل قدّمت أعمال الكافرين على شكل سراب، يراه الظمآن السائر في الصحراء وهو بعيد عنه ماءً، فيسعى إليه ليشرب من مائه، ويُطْفِىءَ ظمأه، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، لأنَّه كان انعكاس أشعةٍ تُخيِّل للناظر إليه من بعد أنّه ماء.
وكذلك حال الكافر الذي يقدِّم أعمالاً يَظُنُّ أنّها تُسعدهُ في دنياه، أوتنفعه في آخرته، وما هي في الحقيقة إلَاّ بمثابة سراب، وهو إذا وصل إلى موطن المحاسبة والجزاء على الأعمال، لم يجد أعماله شيئاً، لأنّها لم تكن ثمرة إِيمان بالله واليوم الآخر، بل وجد الله عنده هو الذي له الحكم والأمر، وبيده الحساب والجزاء، فوفّاه حسابه بعدله وحكمته، فحاسبه على كفره، فسقط بالمحاسبة على الكفر كلُّ عمل صالح كان قد عمله، لأنّه لم يكن قائماً على أساس مقبول عند الله.
والصورة في المثال الثاني صوّرت الحالة النفسيَّة والفكرية والقلبية للّذين كفروا، بعد أنْ تركوا نور الهداية الربّانيّة، بحالة من هو في ظلماتِ قاعِ بحرٍ عميق، فوقه أمواج في العمق تزيد الظلمة، فوقها أمواج في السطح تضاعف الظلمة، فوقها سحاب يزيد الظلام ظلاماً، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يقارب رؤيتها لشدّة الظلمة.
ومن كان كذلك فلا بدّ أن يسلك مسالك المهالك.
وكذلك حال الذين كفروا في أعمالهم، وفي تحديد الغاية من أعمالهم، وفيما يقرّرون من أسباب لذلك. إنَّهم يطلبون سعادتهم في الظلمات، فقلوبُهُمْ مظلمة بالكفر، ونُفُوسُهمْ تائهة في بحر لُجيّ من ظلمات الأهواء والشهوات، وأفكارُهُمْ تسبح في ظلمات أسباب لذّات الحياة الدنيا، وإراداتُهم تتخبّط تحت كلّ هذه الظلمات.
والصورة في المثال الثالث رسمت حركة السُّحب الخفيفة الموزّعة، وكيفية سوقها الرفيق، ثم رسمت التأليف بينها وتجميعها، حتّى تُغَطِّي ما فوقها من سماء، ثم رسمت تكديس بعضها على بعض حتى تتراكم وتكون كالجبال القائمة بين السماء والأرض.
ثم انتقلت الصورة إلى رسم خروج حبّات المطر من خلال السحاب المتراكم، وتركت للخيال سائر الظواهر التي تحدث، ليتمّها بنفسه من رعد وبرق ورياح.
ثم انتقلت إلى ظاهرة نزول البَرَد بدل المطر، وألمحت إلى أنّ السحاب المتراكم يكون في هذه الحالة بمثابة جبالٍ من بَرَدٍ اجتمع بعضه إلى بعض، إذْ قد جمَّدت البرودة وحدات مائيّة فيها فكانت بَرَداً.
ولمّا كان المطر أقرب إلى أن يكون ظاهرة رحمة، والبَرَد أقرب إلى أن يكون ظاهرة عذاب مع احتمال خلاف ذلك في كل منهما، رتّبت الآية على كُلٍّ منهما قوله تعالى:
{فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ} [النور: 43] . أي: رحمةً كان أو عذاباً.
ثم رسمت الصورة لمحة من ظاهرة البرق، فقال تعالى:
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} [النور: 43] .
فكم في هذه الأمثلة من إتقان في إبراز دقائق الصورة، مع استيفاء العناصر اللاّزمة لإِبراز الحقيقة بشكل واضح وجميل، ومع ترك جوانب منها يستطيع الخيال أن يستكملها بنفسه دون عناء.
* ومن ترك ما يستكمله الفكر بنفسه في الكلام، ما نلاحظه في الأمثلة القرآنية التالية:
1-
قوله تعالى في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) :
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً} [الآية: 31] .
أي: لكان هذا القرآن. فقد ترك في هذه الآية جواب "لو" لأنّ المخاطب أو القارىء المتدبِّر سيستكلمه بنفسه، إذ يعلم أنّ هذا القرآن العظيم هو أعظم كتاب أُنزل، وقد اشتمل على كلّ فضائل الكتب السابقة.
2-
وقول الله تعالى في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) :
{لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} [الآية: 39] .
أي: لو يعلمون ذلك ما كفروا. فقد ترك في الكلام جواب "لو" وبقي مكانه فارغاً، ليستكمله المخاطب أو القارىء المتدبّر بنفسه.
ووصفُهم بالكفر مع تلويمهم عليه في السياق وترتيب صُوَر العقاب عليه يومىء إلى ما يملأ هذا الفراغ في الكلام بالجواب المناسب.
3-
وقول الله تعالى في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 69 نزول) :
{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ
…
} [الآية: 33] .
أي: أفمن هو قائم على كلّ نفسٍ بما كسبت كشركائهم الذين لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم ضرّاً، أو يجلبوا لأنفسهم نفعاً!
فقد تُرك التصريح بهذا، وأبقى مكانه في النّص فارغاً لأمرين.
الأوّل: ليستكمله المخاطب أو القارىء المتدبّر بنفسه.
الثاني: لعدم استحقاق شركائهم الذكر والمقارنة بالله الخالق الحكيم، الذي هو قائم على كلّ نفس بما كسبت.
***
سادس عشر- لفت النّظر إلى معانٍ دقيقة لا يَتَنَبَّهُ لها الذهن العادي من أوّل وهلة:
ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام لفت النَّظر إلى معانٍ دقيقة لا يتنبّه لها الذهن العاديّ من أوّل وهلة، لكنّه إذا لُفِتَ نَظَرُهُ إليها، أو انتبه لها بنفسه أُعْجِبَ بها، وربّما أحسّ أنه امتلك أمراً طريفاً لم يكن يخطر على باله.
ومن أمثلة هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
"ومن بطّأ به عمله لم يُسرع به نسبه".
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
"لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ".
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
"أنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً" قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: "تَحْجُزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ".
فنبّه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأقوال على أفكار طريفة قلّما يتنبّه لها الذهن العادي، وقلّما تَخْطُر على البال، لا سيّما ماجاء في بيان نصر الظالم، فمن المثير للاستغراب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نُصْرَةِ إخواننا الظالمين، لكن من المريح والمثير للإِعجاب تفسير ذلك بَحَجْزِهِمْ عن الظلم، وكفِّهِمْ عن ممارسته والقيام به، لئلاّ يوقعهم في المهالك.
ومن الأمثلة أيضاً قول المتنبِّي:
يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ
…
وِجدَانُنَا كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ عَدَمُ
إنّ صدر هذا البيت يشتمل على معنى مبذول، يتداوله النّاس، وتستعمله الخاصّة والعامّة.
لكن لما جاء عجز البيت: "وِجْدَانُنَا كُلَّ شَيُءٍ بَعْدُهُمْ عَدَمُ". ارتقى الكلام ارتقاءً عالياً، إذ جعل حيازته لكل شيء بعد مفارقة ممدوحه عدماً أو بمثابة العدم، وهذا معنى دقيق قلّما يخطر على البال، فَنُدْرَةُ خُطُورِه على البال لدى معظم النّاس أَغْلَى قيمته الأدبيّة.
ونظير ذلك قوله في القصيدة نفسها:
إِنْ كَانَ سَرّكُمُو مَا قَالَ حَاسِدُنَا
…
فَمَا لِجُرْحِ إِذَا أَرْضَاكُمُو أَلَمُ
فالفكرة التي تتبادر إلى كلّ الأذهان، أن يقول المحبّ لمحبوبه: إنني أصبر على ألم الجرح الذي يَسُرُّك، لأنها هي التي تعبرّ عن واقع حال معظم المحبين الصادقين في حبهم، لكن فكرة انعدام وجود الأَلَمِ كُلِّيّاً، بتأثير سرور المحبّ بما يُسَرُّ به محبوبة فكرةُ تَقِلُّ خطوراً على البال، لأَنّها نادرة الوجود في الواقع، فاكتسب النّص بذلك إضافة جماليّة أَغْلَى قيمته الأدبيّة.
***
سابع عشر- تصوير الواقع بالصورة المتخيّلة منه لدى مشاهدته:
ومن عناصر الجمال الأدبي في الكلام تَصْوِيرُ الواقع بالصورة المتخيَّلة منه لدى مشاهدته، ولو في بعض الأحيان، أو في بعض اللّمحات.
ففي هذا التصوير عنصر المبالغة الخياليّة في الدلالة على الحقيقة.
وفيه أيضاً التأثير النفسيّ على السامع أو القارىء، إذْ يُرْسَمُ له في التعبير الكلامي مِثْلُ ما أحسّ هو به، دون أنْ يُعبِّر عنه، أو دون أن يستطيع التعبير عنه، أو جاءه أمر طريف حلوٌ كان غافلاً عنه، فلمّا نُبِّهَ عليه أعجبه فتمثّل له في الخيال، ورأى أنّه كان ينبغي له أن يتخيّله.
وأستطيع أن أمثّل لهذا العنصر بما يلي:
(1)
بقول الله تعالى في سورة (الرعد/ 13 مصحف/ 96 نزول) :
{
…
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا
…
} [الآية: 17] .
(2)
وبقول الشاعر:
"وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الأَبَاطِحُ".
(3)
وبقول الله لنوح عليه السلام في شأن ولده الذي أَبَى أن يركب معه في السفينة، كما قصَّ تعالى علينا في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) :
{
…
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ
…
} [الآية: 46] .
فالصورة التي قد تتركّز في الخيال لدى مشاهدة إنسان ليس له عمل صالح، أنّه كتلة من عمل غير صالح، وتنعدم الذات وسائر أعمالها، ولا يبقى في التَّخيُّل إلاّ صورة العمل غير الصالح ومن كان كذلك فهو لا يستحقّ الشفقة عليه.
(4)
وبقول الله تعالى في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول) :
{
…
وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الآية: 5] .
هامدة: أي ميّتة يابسة.
رَبَت: أي نمت وانتفخت.
بهيج: أي حسن يسرّ الناظرين.
ففي هذا النّص أسند الاهتزاز إلى الأرض مع أنّه للنبات، لأنّ الناظر إلى الأرض المنبتة إذا مرّت عليها الرياح فهزّت نباتها، قد يتخيَّل أنّ الأرض هي التي تهتزّ، مع أنّ المهتزّ هو ما نبت فيها، ورَبَا فوقها.
وكذلك "رَبَت" أي ربا النبات فيها.
***
ثامن عشر- حُسْنُ تركيب الجمل وانتقاءِ المفردات ذوات الدلالات الأدقّ:
ومن عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام حُسْنُ تركيب الجمل، بتنظيم مفرداتها على وفق نَسَق متلائم لا تنافر فيه ولا تشاكس، كتنظيم حبّات عقد اللُّؤلؤ من قبل منظّم ماهر، وكتنظيم الجواهر على حلية نفيسة، من قبل صائغ بارع، مع العناية بالتزام أصول دلالات التراكيب التي نبّه عليها علماء المعاني.
وكذلك انتقاء المفردات الجميلة التي تحمل أقوى وأحلى وأدقّ دلالة على المعنى المراد، مع توافر عنصر الملاءمة بينها وبين مضمون الكلام بوجه عامّ، وحال المخاطبين به.
والقرآن الكريم كلّه هو النموذج الأعلى لذلك، ثم روائع أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، ثمّ من بعد ذلك كلام كبار البلغاء والفصحاء.
***
تاسع عشر- احترام المخاطب بالتأدّب معه ورعاية مشاعره:
ومن عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام احترامُ المخاطب بالتأدّب معه، ورعاية مشاعره، وذلك بالابتعاد عمّا يشمئزّ منه، وبِعَدَم مواجهته بالألفاظ الصريحة الدالّة على المستقذرات، أو المعاني التي يَجْمُلُ التستّر بها مع أنّها معلومة.
والأديب ذو الحسّ المرهف يُلْقِي على المعاني التي لا يجمل التصريح بها سِتْراً كلاميًّاً، إذ يدلُّ عليها بالكنايات والإِشارات والتلميحات ومعاريض الألفاظ.
ومن أمثلة ذلك مايلي:
(1)
قول الله تعالى في سورة (النِّساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) :
من الغائط: أي من المكان المنخفض الذي يذهب إليه عادةً من يريد قضاء حاجة الإِنسان، والتعبير بقوله تعالى:
{أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط} [المائدة: 6] . فيه كناية عن قضاء الحاجة الناقضة للوضوء.
أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ: فيه كناية عن الجماع وهو عمل يجب ستره وإن كان مباحاً، فَحَسُنَ في الكلام ستره بالكناية.
(2)
ما حُكي عن أم المؤمنين عائشة عن حالها مع الرسول في عدم النَّظر إلى العورات: "ما رأيت منه ولا رأى منِّي" تعني العورة المغلَّظة.
***
عشرون- تخصيص بعض المترادفات بما فيه خَيْرٌ وبعضها بما فيه شرّ:
ومن عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام تخصيص بعض المترادفات ذات الدلالة اللّغويّة العامّة بما فيه خير ورحمة، وتخصيص بعضها الآخر بما فيه شرّ وعذاب.
وهذا من الأدب القرآني الرفيع، ومنه مايلي:
(1)
قول الله تعالى في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) :
ففي جانب الشفاعة الحَسَنة استعملت كلمة "نصيب" وفي جانب الشفاعة السيِّئة استعملت كلمة "كِفْل" مع أنَّ الكِفْلَ والنصيب مترادفان في اللّغة، ويستعملان في الخير والشرّ، والرحمة والعذاب، ولكنّ تباين النصيبين في الحقيقة اقتضى في أدب اللّفظ التَّغَايُر في الكلمات الدّالاّت على المراد ضمن النصّ الواحد.
فالتغيير هنا جاء بتغيير اللّفظ كلّها مادّة وصيغة.
(2)
وقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/ 87 نزول) :
{لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت
…
} [الآية: 286] .
فاختار النّص كلمة "كَسَبَتْ" لجانب العمل الصالح، واختار كلمة "اكْتَسَبَتْ" لجانب العمل السيِّىء، مع أنَّ كلاًّ من اللّفظين يستعمل في كلٍّ من المعنيين، ولكنْ لما اجتمع المعنيان في نصٍّ واحد مفرّقين في موضعين منه، دعا الجمال الأدبي أنْ يُوجَدَ تفريق في اللّفظين، ولو في الصيغة فقط مع اتحاد مادة الكلمة، يضاف إلى ذلك ما في كلمة (اكتَسب) من معنى التكلّف الذي يُنَاسِبُ حَمْل الوزر.
وفي آيات أخرى اجتمع المعنيان، ولكن غير مفرّقين في موضعين من النّص، أو انفرد كلٌّ منهما في النّص بنفسه، فاجاء التعبير تارة بكسب في العمل الصالح والعمل السيِّىء، أو في أحدهما، وتارة بـ"اكتسب" فيهما أيضاً أو في أحدهما.
والمتدبّر للقرآن عندئذٍ لا يلحظ في صيغة "اكتسبت" أكثر من زيادة معنى التكلّف، وأنّ العمل قد كان فيه عَطَاءٌ يَزِيدُ عل العطاء في العمل العادي.
(3)
ومن ذلك ما جاء في القرآن من تخصيص لفظة "الريح" غالباً في التي تأتي بعذاب وهلاك. وتخصيص لفظة "الرياح" في التي تأتي بنعمة ورزق وخير.
فالتفريق هنا جاء بتغيير اللّفظة بين الإفراد والجمع، ومنه قول الله تعالى في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) :
{وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الآية: 57] .
وقوله تعالى في سورة (الأحقاف/ 46 مصحف/ 66 نزول) :
{
…
بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الآية: 24] .
وقد يكون للريح الواحدة أثر في التدمير والعذاب، بحسب تواترها وشدّتها، أمّا التي تأتي بُشْراً بين يدي رحمة الله، فإنَّها قد تكون أنواعاً من الرياح تحمل الخير ويدفع الله شرّ بعضها ببعض. أو نقول: اختر الله عز وجل لفظ الجمع "الرياح" للتي تأتي بنعمة ورزق وخير لأنّها هي الأعظم والأكثر في واقع الحال، إذ رحمته سبحانه سبقت غضبه، واختار لفظ المفرد "الريح" للتي تأتي بعذاب، لأنها هي الأقلّ في واقع الحال، فدلّ على الكثرة بالجمع وعلى القلة بالإِفراد. والله أعلم.