الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالدنيا وشهواتها؛ فهو لم يخلق لها، [إنما] خلق، ليعمل فيها للآخرة، فلا ينبغي أن يُشغل بها عمَّا خلق له)) (1).
الحديث الخامس:
حديث عمرو بن عوف الأنصارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمالٍ من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت (2) صلاة الصبح مع النبي
صلى الله عليه وسلم، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرَّضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، وقال:((أظنُّكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء)) قالوا: أجل يا رسول الله، قال:((فأبشروا وأمِّلُوا (3) ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها (4) كما تنافَسُوها، وتُهلككم كما أهلكتهم)) (5).
وفي رواية للبخاري: ((وتُلهيكم كما ألهتهم)) (6).
(1) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 6435 - 6440، وكان فجر الأربعاء في 17/ 10/1419هـ قبل موته رحمه الله بشهرين؛ فإنه توفي يوم الخميس 20/ 1/1420هـ.
(2)
فوافت: أي أتت، يقال: وافيته موافاةً: أتيته، ووافيت القوم: أتيتهم. المصباح المنير، 2/ 667، والقاموس المحيط، ص 1731.
(3)
أمِّلوا: هذا أمر بالرجاء يقال: أمَلَهُ أملاً، وأمَّلهُ: رجاه وترقبه. القاموس المحيط، ص 1244، والمصباح المنير، 1/ 22، والمعجم الوسيط، 1/ 113.
(4)
فتنافسوها: أي تتحاسدون فيها فتختلفون، وتتقاتلون فيُهلك بعضكم بعضاً. انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 7/ 113.
(5)
الحديث 3158، طرفاه في: كتاب المغازي، باب 5/ 23، برقم 4015، وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 7/ 221، برقم 6425. وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، 4/ 2273، برقم 2961.
(6)
من الطرف رقم 6425.
ظهر في مفهوم هذا الحديث التحذير من التنافس في الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم))، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث:((وفيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين)) (1)، ((لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه، فتمنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة، المفضية إلى الهلاك)) (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وتلهيكم كما ألهتهم))، دليل على أن الانشغال بالدنيا فتنة، قال الإمام القرطبي رحمه الله:((تلهيكم)) أي تشغلكم عن أمور دينكم وعن الاستعداد لآخرتكم (3)، كما قال الله عز وجل:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (4).
وهذا يؤكد للمسلم أن التنافس في الدنيا والانشغال بها شرٌّ وخطرٌ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض))، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا))، ثم قال: ((إن هذا المال خَضِرةٌ حُلوةٌ
…
من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع)) وفي لفظ لمسلم: ((
…
إن هذا المال خضِرٌ حلوٌ، ونعم صاحب المسلم هو، لمن أعطى منه المسكين واليتيم، وابن السبيل))، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((وإنه من
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 363.
(2)
فتح الباري، 11/ 245.
(3)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 7/ 133.
(4)
سورة التكاثر، الآيتان: 1 - 2.
يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، [ويكون عليه شهيداً يوم القيامة])) (1).
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نعم المال الصالح للمرء الصالح)) (2).
وعن قيس بن حازم قال: دخلنا على خباب رضي الله عنه نعوده
…
فقال:
((إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوتُ به))، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له فقال:((إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب)) (3).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما زاد على الحاجة)) (4)، وذكر رحمه الله آثاراً كثيرة في ذم البنيان ثم قال:((وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر)) (5).
(1) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، 7/ 222، برقم 6427، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، 2/ 727، برقم 1052، وما بين المعكوفين من رواية مسلم.
(2)
البخاري في الأدب المفرد، برقم 299، وقال العلامة ابن باز رحمه الله في حاشيته على بلوغ المرام، حديث 619:((بإسناد صحيح)). وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، 127.
(3)
متفق عليه: البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، 7/ 12، برقم 5672، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب كراهية تمني الموت لضر نزل به، 4/ 2064، برقم 2681.
(4)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/ 129.
(5)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 11/ 93.
وقد بين الله عز وجل حقيقة الدنيا:
وقال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (2).
ولا شك أن الإنسان إذا لم يجعل الدنيا أكبر همه وفقه الله وأعانه، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غِنىً وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم لا تباعد عني فأملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً)) (4).
(1) سورة يونس، الآية:24.
(2)
سورة الحديد، الآية:20.
(3)
سورة الكهف، الآيتان: 45 - 46.
(4)
الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 4/ 326، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة،
3/ 347: ((وهو كما قالا)). وصححه في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3165.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك)) (1). قال ذلك عندما تلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ} (2).
ولا شك أن كل عمل صالح يُبتغى به وجه الله فهو عبادة.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كانت
الدنيا همه فَرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) (3).
وقد ذم الله الدنيا إذا لم تستخدم في طاعة الله عز وجل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكرُ الله، وما والاهُ، وعالمٌ، أو متعلمٌ)) (4)، وهذا يؤكد أن الدنيا مذمومة مبغوضة من الله وما فيها، مبعدة من رحمة الله إلا ما كان طاعة لله عز وجل (5)؛
(1) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب: حدثنا قتيبة، 4/ 642، برقم 2466، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، 2/ 1376، برقم 4108، وأحمد، 2/ 358، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 443، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، 3/ 346. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3166، وفي صحيح الترمذي، 2/ 593.
(2)
سورة الشورى، الآية:20.
(3)
ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، 4/ 1375، برقم 4105، وصحح الألباني إسناده في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 950، وصحيح الجامع، 5/ 351.
(4)
الترمذي بلفظه، كتاب الزهد، باب: حدثنا محمد بن حاتم، 4/ 561، برقم 2322، وحسنه، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، 2/ 1377 برقم 4112، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 34، برقم 71، و1/ 6، برقم 7.
(5)
قوله: ((وما والاه)) أي: ما يحبه الله من أعمال البر وأفعال القرب، وهذا يحتوي على جميع الخيرات، والفاضلات ومستحسنات الشرع. وقوله:((وعالم أو متعلم)) والرفع فيها على التأويل: كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يُحمدُ مما فيها ((إلا ذكر الله، وما والاهُ، وعالمٌ أو متعلم)) والعالم والمتعلم: العلماء بالله الجامعون بين العلم والعمل، فيخرج منه الجهلاء، والعالم الذي لم يعمل بعلمه، ومن يعلم علم الفضول وما لا يتعلق بالدين، انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 10/ 3284 - 3285، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، 9/ 31، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 613.