المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة الحمد لله الذي خلق السماوات وجعل الظلمات والنور ثم الذين - ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي

[سفر الحوالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

- ‌مقدمة:

- ‌دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة»

- ‌ السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين

- ‌ السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية

- ‌حقيقة النفس الإنسانية

- ‌تمهيد:

- ‌ الإرادات والغايات:

- ‌ الأسباب والوسائط

- ‌ الإقرار بالافتقار من حال إلى حال

- ‌الخاتمة

- ‌حقيقية الإيمان الشرعية

- ‌المبحث الأول: ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه

- ‌المبحث الثاني: معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل

- ‌الباب الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌الفتنة الأولى

- ‌براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا

- ‌الفتنة الثانية

- ‌الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌الباب الثالث: الإرجاء الظاهرة

- ‌توطئة:

- ‌البدايات والأصول

- ‌أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌الأثر المنطقي

- ‌حكم ترك العمل في الطور النهائى للظاهرة

- ‌الباب الرابع: علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن

- ‌العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌الباب الخامس: الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر

- ‌توطئة:

- ‌الإيمان حقيقة مركبة

- ‌الشبهات النقلية والاجتهادية

الفصل: ‌ ‌المقدمة الحمد لله الذي خلق السماوات وجعل الظلمات والنور ثم الذين

‌المقدمة

الحمد لله الذي خلق السماوات وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، الذي أوضح الحجة وأبان المحجة وترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. أما بعد:

فإن التفرق في الدين والتخاصم في رب العالمين سنة الأمم قبلنا وواقع حالنا بعدهم، وقد كانت أول فرقة مرقت من الدين وشقت صفوف المسلمين هي (الخوارج) . وإنما كان ضلالها حينئذ في مسألة الإيمان؛ إذ كفرت المسلمين بالذنوب، واستحلت دمائهم وأموالهم، ثم تتابعت الفتن وظهرت الفرق، وكلما ظهرت البدع وانتقصت الطاعات وارتكبت المحرمات ازداد حال الأمة تفرقاً وذلاً وضلالاً.

هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ربى أصحابه على التسليم والاتباع والسمع والطاعة، فلا تقديم بين يدي الله ورسوله، ولا اعتراض على أمره، ولا تولي عن طاعته، فكانوا خير أصحاب وحواريين كما كان نبيهم صلى الله عليه وسلم خير نبي ورسول.

آمنوا بالله ورسوله الإيمان الصادق الحي الذي أثنى الله تعالى عليهم به في كتابه، وما عرفوه فلسفة ولا نظريات ولا جدلاً، وإنما هو الطاعة في المنشط والمكره، والصبر في الرخاء والشدة، والجهاد بكل معنى من معاني الجهاد.

لم يزل هذا الإيمان يكمل ويزداد من زمن الاضطهاد والحصار بمكة، إلى أحداث أحد والخندق بالمدينة، إلى أيام مؤتة وحنين وتبوك، حتى استقامت نفوسهم وزكت قلوبهم وصلحت أعمالهم، فما قبض الله تعالى صفيه من خلقه إلا وقد صاروا أهلاً لحمل الأمانة وإبلاغ الرسالة والقيام بأمر هذا الدين كله.

فاجتثوا خبث المرتدين، ثم ثنوا بالدولتين العظميين فركبوا إليها البر الأجرد والبحر الأخضر، وما كانت إلا سنوات معدودات حتى أنفقت كنوز كسري وقيصر في سبيل الله عز وجل، وأصبحت الظعينة تسير من خراسان إلى الأندلس لا تخاف إلا الله، ودفع ملوك الهند والصين الجزية لأتباع خاتم المرسلين، وخمدت نار المجوسية وخنست النواقيس والصلبان إلى غياهب أوروبا الهمجية، وظهر أمر الله وأعداؤه كارهون.

ص: 7

واستمرت تلك الموجة الكبرى والمدة العظمى ما شاء الله أن تستمر، ثم أخذت في الانحسار لما ظهرت الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، واستجاب فئات من هذه الأمة للحاقدين والهدامين من بقايا الأديان المنسوخة وشراذم الفلسفات الممحوقة، وأصابت الأمة سنة الأمم الأولى؛ فتجارت ببعضها الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبة، فما مرقت الخوارج إلا وتزندقت الشيعة وفسقت المرجئة ثم ألحدت القدرية - وهذه الأربع هي أصول الفرق - ثم تتابعت الفتن وتكاثرت الأرزاء، فلولا أن هذا الدين من عند الله وله من جنده المخلصين من يرعاه لما بقيت له من باقية.

ولكن الله جلت حكمته قضى ألا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضيرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله و " جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يتشبه عليهم "(1) .

والخلاف في مسألة الإيمان - مع كونه أول خلاف في الملة - ظل من أعظم قضايا الخلاف بين هذه الأمة في عصورها كلها، وفي مطلع العصر الحديث أصبحت أعظم القضايا التي تشغل بال هذه الأمة وذلك منذ أن ظهرت دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله التي أعادت الحنيفية جذعة نقية.

فقد أطبق أعداء السنة على أنها دعوة خارجية وفكرة حرورية لأنها - بزعمهم - تكفر المسلمين، وما كفرت مسلماً قط، وإنما كفرت المشركين وحاربت المارقين.

ومهما يكن من أمر فقد أحدثت الدعوة المباركة صدى عالمياً كبيراً اضطر مخالفها إلى إعادة النظر في الإيمان والكفر والشرك والتوحيد.

ثم كانت موجة الحملات الصليبية الأخيرة (الاستعمار) وفتنة الحضارة الغربية الجاهلية، فذهلت الأمة عن دينها ونسيت انتمائها حتى شاء الله تعالى أن تخرج من بقايا دعوة الشيخ أو من أصدائها دعوات وحركات تنادي بالإسلام من جديد.

(1) من مقدمة الرد على الجهمية والزنادقة، للإمام أحمد رحمه الله.

ص: 8

وفي العقود الأخيرة خاصة ظهرت بواكير عودة صادقة إلى الإسلام الكامل والتخلص من أثار الغزو الحضاري الكافر وتمثل ذلك في شباب فتحوا أعينهم على أمة منهارة متطاحنة تعاني أمراضاً مزمنة في كل منحى ومجال.

أمة ترضى من دينها إلى الانتساب الاسمي بلا عمل ولا جهاد ولا دعوة، وتلقي مسؤولية كل عجز ومرض وتخلف وذل على تخطيط الأعداء ومؤامرات الاستعمار.

ثم وقعت في السنوات الأخيرة أحداث كبرى على الساحة الإسلامية أثبتت الفراغ العقدي الهائل الذي يسيطر على الأمة، والفوضى الرهيبة التي يعاني منها الشباب في التصورات والسلوك.

لقد استطعنا - نحن شباب الإسلام - أن نكسر طوق الولاء المطلق للغرب، وأن نرفض حضارته الزائفة إلى حد لا بأس به وعرفنا الكثير من عدونا وخططه ومؤامراته، لكننا حتى الآن لم نعرف حقيقة من نحن؟ وفي أي طريق نسير؟

نردد: إنا مسلمون وفي طريق الإسلام نسير

ولكن أقدامنا تصطدم بصخور وركام أنتجتها قرون طويلة من الضلالات والانحرافات.

وعلينا لكي نرتقي بأنفسنا وأمتنا أن نجتاز عقبة شائكة يعترضها ثلاث وسبعون طريقاً، الطريق المنجي منها طريق واحد فقط وما عداه مهلكة، وهذا الطريق الوحيد هو منهج أهل السنة والجماعة الذي نجزم عن دين ويقين أنه منهج الفرقة الناجية الذي لا يقبل الله سواه.

وإن تعجب فاعجب لكون النظرة الغالبة على كثير من شباب الدعوة الإسلامية اليوم هو أن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تعدوا أن تكون تصورات نظرية صحيحة لعالم الغيب وقضايا الاعتقاد وليست - مع ذلك - منهجاً للدعوة والإصلاح والتغيير!!

ويجب أن نعترف بأن السبب في هذا الفهم القاصر هو حملة العقيدة - قبل كل شيء - الذين لم يوضحوا معالمها ويكشفوا عن كمالها الذي هو حقيقة كمال الإسلام نفسه.

ولهذا رأيت من واجبي - وقد وفقني الله لأن أتربى على هذه العقيدة وأعرف حقيقتها العلمية وأتمثل منهجها العملي مستوحى من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ووقائع الدعوات التجديدية السنية - أن أسخر حياتي العلمية لهذا الأمر العظيم.

وقد بدأت ذلك برسالة "التخصص الأولى" التي كان موضوعها:

ص: 9

(العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية) ثم ثنيت بهذه الرسالة لنيل درجة "التخصص العليا" فكانت الأولى تعالج فصل الدين عن الحياة، والأخرى تعالج فصل الإيمان عن العمل، كلتاهما على ضوء هذه العقيدة، ومن هنا كانتا تعبران عن قضية واحدة وإن تباعد موضوعاهما ظاهراً.

وقد كانت الأولى بلا ريب طريقاً للأخرى؛ فمن خلال الدراسة لأسباب العلمانية الطاغية على الحياة الإسلامية المعاصرة رأيت رأي العين أن سبب كل انحراف وذل وهزيمة وفرقة في حياتنا، لا يزيد عن شيء واحد هو البعد عن منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والسلوك وسبيل الإصلاح.

وانطلاقاً من ذلك كان منهجي في هذه الرسالة يقوم على ثلاثة أسس:

* الأول: دراسة " الإرجاء " على أنه " ظاهرة فكرية " لا " فرقة تاريخية ".

والفرق بين هذين كبير جداً في طبيعة البحث وفي آثاره ونتائجه؛ فحين نبحث الإرجاء على أنه فرقة من الفرق التي طواها التاريخ فمن أهم ما يفوتنا هو معرفة حقيقة واقعنا المعاصر الذي يسيطر عليه الفكر الإرجائي، وحينئذ لا يزيد البحث عن كونه عملاً " أكاديمياً " يضاف إلى مجموعة المؤلفات التي تتحدث عن تاريخ الفرق وآرائها.

أما حين نبحثه على أنه ظاهرة فكرية نشأت ثم تطورت إلى واقع ضخم يواجه كل دعوة تجديدية، ونفسر بها كثيراً من أسباب التخاذل والتردي الذي تعاني منه الأمة عامة والدعوة خاصة، فإن النتائج الإيجابية لذلك ستنهال علينا من كل جانب، وحسبنا إن لم نعط القضية حقها أن نثيرها ونبعثها ونخطو في سبيلها ما استطعنا ثم الله يهيئ لها ما يشاء.

ومن هنا انصب الاهتمام على " ركن العمل " وضرورته للإيمان والدعوة وكيف تخلت الأمة عنه مكتفية من الإيمان بالاسم والإقرار.

وهنا لا بد من بيان حقيقة مهمة كان لها أثرها البالغ في منهج البحث: وهي أن الإرجاء لم يكن - في الأصل - دعوة واعية مقصودة لترك العمل والتفلت من الطاعات، وإنما كان تفسيراً ضالاً لحقيقة الإيمان أنتجته أسباب تاريخية شرحناها في موضعها.

ولكن الأمة وهي تتراخى عن العمل بالتدريج وتنفلت من الواجبات وتنحدر عن قمة الامتثال رويداً رويداً فكانت تجد في الإرجاء تفسيراً مريحاً يبرر لها تراخيها وتفريطها - وهذه حقيقة نفسية معروفة - فكل ما انحسر عنه العمل واقعياً ستره ثوب الإرجاء الواسع نظرياً.

ص: 10

ولهذا لم يكن المرجئة القدماء بحاجة إلى أكثر من كشف شبهاتهم النظرية وردهم بالدليل العلمي الصريح.

ولكن الحال تغير بعد انتشار الظاهرة وسيطرتها؛ إذ أصبحت الأمة في القرون الأخيرة تتبنى الإرجاء عقيدة ومنهجاً وتعد مخالفه خارجاً مارقاً، وتضبط دينها وأحكام إيمانها بأصوله وقواعده.

فصارت تعتقد أن التصديق القلبي المجرد من قول اللسان وعمل الأركان هو حقيقة الإيمان الذي أنزل به الله الكتب وبعث به الرسل وجعله مناط النجاة من عذابه في الآخرة، وتبني على ذلك لوازم وأحكاماً، أهونها تخطئه السلف في إجماعهم على أنه قول وعمل وعدم تكفير طوائف من المرتدين.

وأصبح معنى كون الصلاة والزكاة والصيام والحج أركاناً للإسلام هو اعتقاد وجوبها والإقرار به وإن لم يعمل من ذلك شيئاً.

ونحو ذلك مما يستغربه الناظر أول وهلة، ثم يتأمل فإذا هو عندهم حقيقة واقعة.

والأدهى من ذلك أن تقوم بعض اتجاهات الدعوة الإسلامية - التي عملها وغرضها في الأصل إعادة الناس إلى حقيقة الإيمان اعتقاداً وعملاً - على هذا الفكر العقيم وتتبناه وتدعوا إليه، كما سنبينه في الفقرة التالية.

من هنا كان لا بد من تغيير منهج العرض والمناقشة لقضية الإيمان وعلاقته بالعمل والدعوة بانتهاج منهج يجمع بين الدليل العلمي النظري من النصوص وكلام السلف، وبين الدليل الواقعي المحسوس من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة النفس البشرية ذاتها.

وإيضاحاً لذلك نقارن بين نص من كلام أحد رؤوس المرجئة في مرحلة تأسيس الإرجاء، وبين ما يكتبه بعض الدعاة المعاصرين.

يقول عمر بن ذر الهمداني (1) أحد رؤوس المرجئة، وابن ذر ابن عبد الله الهمداني الذي قال عنه الإمام أحمد: إنه أول من تكلم في الإرجاء " لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظر إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم، قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد، فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا ظلماته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل وما

(1) انظر: حلية الأولياء (5/108- 115) ، وتهذيب الكمال، لوحة 1008

ص: 11

انقضت لذتهم من التلاوة ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى عنهم الليل وبربح وغبن.

أصبح هؤلاء قد ملوا النوم والراحة، وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة - شتان بين الفريقين.

فاعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار والمحروم من حرم خيرهما وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم فأحيوا لله أنفسكم بذكره فإنما تحيا القلوب بذكر الله. كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حضرته وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله عز وجل للعابدين غداً فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله" (1) .

فهذا الرجل كان يقول: الإيمان هو الاعتقاد والإقرار فقط، لكن هل يتصور منه أن يقول: إن مجرد التصديق القلبي دون قول ولا عمل كاف في النجاة عند الله، أم إن القضية عنده شبهة نظرية مجردة لم يكن لها أي مدلول واقعي إلا الهروب من تكفير صاحب المعصية الذي وقعت فيه الخوارج؟

غير إن هذا القول نفسه قاله بعض الدعاة المعاصرين امتداداً لظاهرة الإرجاء العامة وقد ذكرنا كلامهم في موضعه.

• الثاني: معالجة واقع الدعوة الإسلامية المعاصرة، فالمشاهد اليوم أن أصحاب الدعوة ينقسمون غالباً - فريقين -، وكل فريق تتوزعه فرق وآراء واجتهادات:

- أحدهما: فطن إلى أصل القضية ومكمن الدواء فأراد أن يصحح الأصول ويجلي بديهيات الدين ويربط ذلك بالعمل وضرورته لكنه سلك في سبيل ذلك حرفة عقيمة في الفهم، وإشارة موغلة في الغلو ظاناً أن هذا هو منهج العزيمة والاستقامة، فوقع في طامة التكفير - أعني تكفير أعيان عوام المسلمين من المخالفين -.

وهكذا نفر من بدعة ليقع في بدعة شر منها وسد على نفسه منافذ الاتصال بالناس وإيصال الحق لقلوبهم فتحولت دعوته إلى نظرة عميقة تتآكل كل يوم وتفرز بدعاً جديدة واستتبع ذلك انحرافاً خطيراً في منهج التلقي

(1) منقول من الحلية الموضع السابق.

ص: 12

والاستمداد، حيث وضعت أصول ومعايير لا تقل شراً وخطراً عن شرائع الطواغيت الوضعية.

- والآخر: انطلق في دعوته بدون منهج واضح ولا تصور اعتقادي متكامل، فلم يتناول الأمر بالتأصيل العلمي بل بالتهويش العاطفي، فكان أن واجهه أصحاب الفريق الأول بأصول وقواعد لا يملك مثلها ولا يستطيع ردها، فهرب من التكفير إلى التبرير، وأخذ يسند هذا الواقع المنحرف ويؤصله بنظريات بدعية، ووجد في مذهب المرجئةـ الذي أصبح كما قلنا هو الظاهرة الفكرية العامة - بغية وسنداً، فنسى نفسه ونسى مهمته الأساس وهو تغيير هذا الواقع لا تبريره.

* فالفريق الأول: أعاد مذهب الحرورية جذعاً.

* والآخر: أحيا مذهب المرجئة غضاً ونقله من الدوائر الأكاديمية التقليدية إلى منهج العمل والتغيير!!

وهكذا أصبحت الكتابة عن هذا الموضوع "حقيقة الإيمان" على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة ضرورية لكبح جماح الغالين ودفع تفريط المقصرين.

• الثالث: وهو كالنتيجة للأولين - اختطاط منهج للبحث يزيد على مجرد البحث العلمي النظري للقضية - أي إيراد الأدلة ونقضها - بإضافة عناصر جديدة تخاطب البديهة والوجدان والعقل معاً، وأهم جانب من ذلك استحضار واقع الجيل القدوة الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم، والتأسي بهم في استكمال الإيمان والدعوة إليه والحكم على تاركه، وكذا بيان حقيقة النفس الإنسانية، التي لا تخلو قط من إرادة وعمل، وربط بذلك بحكمة الدين وغايته التي هي إصلاح الإرادات وتزكية الأعمال، مما بين أن الإيمان اعتقاد وعمل على الحقيقة الشرعية والواقعية والنفسية في آن واحد.

على هذا دارت مباحث هذه الرسالة، التي أسأل الله تعالى أن ينفعني بها وإخواني المسلمين، وأن يجعل كل ما بذل فيها من جهد ونَصَب خالصاً لوجهه الكريم. وتبعاً لذلك قسمتها إلى خمسة أبواب:

• الباب الأول: يبحث في حقيقة الإيمان وارتباط العمل به من خلال:

1-

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته.

2-

حقيقة النفس الإنسانية.

3-

حقيقة الإيمان الشرعية.

ص: 13

• والباب الثاني: يبحث في التاريخ الفكري للإرجاء منذ نشأته إلى أن أصبح فرقاً كثيرة، ثم ظاهرة فكرية عامة وواقعاً طاغياً، مع الاهتمام الخاص بقضية " ترك العمل " وحكمها عند المرجئة والأسباب الفكرية لوقوع ذلك.

• والباب الثالث: الإرجاء الظاهرة، وتفصيل الكلام على نوعي الإرجاء، إرجاء الفقهاء والعباد وإرجاء المتكلمين والمتمنطقين، وحكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة.

• والباب الرابع: تفصيل لعلاقة الإيمان بالعمل، والظاهر بالباطن مع الاهتمام الخاص بأعمال القلوب التي كان الانحراف فيها من أعظم أسباب انتشار الظاهرة وشرح نماذج منها وهي بعض شروط لا إله إلا الله.

• والباب الخامس: بيان أن الإيمان حقيقة مركبة من ركني القول والعمل، توصلاً بذلك إلى معرفة بطلان مذهب المرجئة في حكم تارك العمل مطلقاً، وبيان حكم صاحب الكبيرة على ضوء ذلك، وسبب ضلال الفرق فيه.

ثم نقض أهم الشبهات النقلية للمرجئة على أن العمل غير داخل في الإيمان.

هذا ولا يفوتني أن أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير إلى أستاذي الكريم الأستاذ محمد قطب، الذي بذل من الوقت الثمين والرأي الصائب ما كان له أثره البالغ في إنجاز هذه الرسالة وتقويمها.

كما أشكر للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ولجامعة أم القرى بمكة المكرمة ممثلتين في مسئوليهما كافة، مما أتيح لي من فرصة لطلب العلم وخدمة لتحصيله، وأخص بالشكر الأخوة العاملين بمركز البحث العلمي، وكذا كل من قدم لي خدمة، أو أسدى إلى توجيهات من الأساتذة الكرام أو الأخوة الزملاء.

والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 14