الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشأة الإرجاء
الفتنة الأولى
روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال؟
قال: فقلت:أنا!
قال: إنك لجريء، وكيف قال؟
قال: قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
فقال عمر: ليس هذا أريد. إنما أريد التي تموج كموج البحر!
قال: فقلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً!
قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟
قال: لا. بل يكسر!
قال: ذلك أحرى ألا يغلق أبداً.
قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟
قال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط.
…
قال - أي الراوي عن حذيفة وهو شقيق -: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا لمسروق فسأله، فقال: عمر) (1) .
أما كيف كسر الباب فقد استفاض في كتب التواريخ وروي بأسانيد متضافرة أن "الهرمزان" الفارسي المجوسي وجفينة النصراني الصليبي قد تآمرا على حياة
(1) كتاب الفتن وأشراط الساعة (2/17) النووي، المطبعة المصرية ومكتبتها.
الفاروق (1) ، ونفذ أبو لؤلؤة - عليه من الله ما يستحق - تلك المؤامرة الدهياء. وانكسر الباب.
ولم يقف التآمر الصليبي المجوسي عند هذا الحد، فقد انضم إليهما شر الثلاثة "المكر اليهودي" ممثلاً في عبد الله بن سبأ وخلاياه السرية، فأضرمت نار فتنة هوجاء ذهب ضحيتها الخليفة المظلوم ذو النورين عثمان رضي الله عنه ثم تتابعت الفتن كقطع الليل المظلم وما تزال (2) .
كان مقتل ذي النورين فاجعة كبرى، ليس لأن الأمة فقدت خليفتها وأفضلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصاحبين فحسب، ولكن - أيضاً - لأن هذه الأمة المباركة المصطفاة «خير أمة أخرجت للناس» بدأت تتزحزح عن قمتها الشاهقة التي لم تبلغها قبلها أمة من الأمم.
لقد كان ذلك إيذانا بانقضاء عصر ما كان التاريخ ليحلم بمثله ولا في خيال الحكماء، عصر الجماعة الإنسانية الفذة التي تعيش كالملائكة المطمئنين في الأرض.
ولا شك أن لله تعالى حكماً بالغة جرت بها مقاديره - له الحمد عليها علمناها أم جهلناها - تحولت هذه الجماعة بمقتضاها من بركان إيماني يعصف بدول الكفر ذات اليمين وذات الشمال إلى أطراف في فتنة داخلية عمياء.
ومع أن الاصطفاء الرباني لهذه الأمة تجلى حتى في هذا الموقف الحالك فأثبتت أنها أفضل الأمم خصومة - كما هي أسماها وفاقاً - فقد كانت دسائس الحاقدين ومعاول الهدامين توسع الشقة وتنكأ الجراح وتتلاعب بمشاعر الدهماء مستغلة ما أحدثته الفاجعة من اضطراب وارتباك.
وانفض المأتم العظيم عن آراء متضاربة ووجهات متباينة:
(1) انظر ترجمة عبيد الله بن عمر ابن الخطاب في "الإصابة" و"الطبقات"، والسند متصل إلى سيد التابعين سعيد ابن المسيب، قال عنه الحافظ:"رواه الكرابيسي في أدب القضاء بإسناد جيد" أي عن سعيد.
(2)
يجب التنبه هنا إلى عدم المبالغة في تقدير دور المؤامرة الشريرة على الإسلام، وإلقاء كل مصائب الأمة عليها، لكن بخصوص الصحابة رضي الله عنهم فمن تكريم الله لهم أن أصل الفتنة لم يكن منهم ولا بسببهم، وأنهم استطاعوا اجتياز أصعب وأحلك مواقفها دون أن يفقدوا شيئا من الخصائص الباهرة التي اكتسبوها من التربية النبوية، ثم ما كادت الجماعة تعود حتى استأنفوا مسيرتهم الضخمة في نشر الإسلام علما وجهادا، مما فرض على أفاعي المؤامرة الكمون في جحورهم حتى أتيحت لهم فرصة أخرى كان الصحابة رضي الله عنهم أو أغلبهم حينها قد لقوا ربهم، ومع ذلك استمرت مسيرة الإسلام الكبرى. نعم ظلت تتصدع ولكنها لم تسقط إلا بعد قرون، ولأسباب ليست خاصة بالمؤامرة ولا من صنعها وحدها، على أن وعد الله سيتحقق وتعود من جديد ولو بعد حين.
1 -
فقد رأت طائفة أن أول واجب على الأمة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقصاص من الخونة السفاحين!
2 -
ورأى آخرون أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة واستتباب الأمور والتجلد حتى تتكشف ذيول المؤامرة ثم يكون استئصال شأفتها وقطع دابر دواعيها.
3 -
ورأت طائفة ثالثة أن الخليفة المظلوم لم يتحمل ذلك الحصار الآثم وينه أتباعه المؤمنين عن فكه إلا حرصاً على ألاتراق قطرة دم أو تثور أدنى فتنة بين أمة الإسلام، فالأولى بمن بعده جميعاً ألا يحركوا ساكناً وألا يكونوا طرفاً في أي نزاع - مهما بدت وجاهته - بل إن بعض من يرى هذا الرأي قد خرج من المدينة منذ أن أطلت الفتنة برأسها، وآثروا الابتعاد حتى تسكن العاصفة (1) .
وكان في ثغور الجهاد وأطراف البلاد فئات لم تعلم عن سير الأمور شيئاً، فلما صدمتها الفاجعة أذهلها الألم عن التفكير، ووقاها بعد الشقة شر الخوض في الفتنة.
4 -
ونبتت فئة أخرى من أحداث الأسنان وضيقي الأفق الذين ترعرعوا في البداوة وولدوا من سلالة الأعراب ونشأوا على الجلافة فقالوا: إن نزول عثمان عن مرتبة الشيخين مبرر كاف لقتله، وإنه ما من إمام إلى قيام الساعة لا يسير سيرتهما إلا استوجب الخلع أو القتل (2) .
أما الفئة الآثمة المتآمرة فقد عادت إلى أوكارها واندست في صفوف الأمة تستجمع قوتها وتخطط للمرحلة التالية مدفوعة بيقينها أن أي اجتماع للأمة فإنه سيتقاضى رؤوسها الفاجرة. (3)
وأدرك بعض من شارك في الفتنة وخدع بمطلب المتآمرين صدق ما روي في الحديث:" عليكم بالجماعة، فإن ما تكرهونه في الجماعة خير مما تحمدونه في الفرقة"(4) .
(1) أصبحت هذه الآراء تمثل الأطراف الرئيسة فيما بعد وهي على الترتيب معاوية ومن معه وعلي ومن معه والممسكون عن الفتنة - رضي الله عن الجميع - وسيأتي تفصيل ذلك عما قليل.
(2)
وكان هؤلاء هم نواة الخوارج الذين قالوا فيما بعد: " إن جئتمونا بمثل عمر وإلا فلا" كما سيأتي.
(3)
وقد ظهرت آثار ذلك في احباط محاولة الصلح يوم الجمل، وتأسيس الفكر الشيعي السيء، ثم برزت بوضوح في فتنة كذاب ثقيف المختار ابن أبي عبيد.
(4)
سنده ضعيف، لكن له شواهد ولا شك أن معناه صحيح. انظر: مجمع الزوائد (5/222) .
فقد كان غاية ما نقموا على أمير المؤمنين عثمان أنه حمى الحمى، وأتم الصلاة في السفر بمكة، وآثر أقرباءه، وتوسع في الإنفاق من بيت المال والفيء (1) .
فماذا كانت نتيجة الفتنة ومآل الأمة بعدها في الآجل والعاجل؟
لقد ثلم حمى الإسلام نفسه، وهدمت مساجد وثغور، وتولى الأمور من لا يساوي بالنسبة لأولئك الأقرباء شيئاً، وأصبح بيت المال بيت مال الملوك والسلاطين.
وكان ما كان من أمور لا نملك معها إلا أن نقول: قدر الله وما شاء فعل.
ولما كان الجانب الذي يهمنا الآن من هذه الفتنة هو ما يتعلق بظهور فكر المرجئة، فسوف نستعرض موقف الفئات التي كان لها أثر في نشأة الإرجاء إما على الحقيقة وإما على الادعاء.
إن الإرجاء من حيث هو موقف نفسي يمكن أن يوجد في الفتنة العمياء وما تلاها، كما يمكن أن ينشأ في أي قضية مماثلة، فإن من سنن الاجتماع أن أي نزاع يشجر بين طائفتين قد يفرز فئة ثالثة محايدة - لأي سبب من أسباب الحياد - وهكذا وجد في عصر الفتنة الأولى وما تلاها أناس اتخذوا هذا الموقف "الحياد" في الجملة، ولكن شتان بين قوم وقوم،وإن كان موقفهما في الظاهر سواء.
فقد كانت الفئة المحايدة حينئذ تنقسم في حقيقتها أقساماً، بعضها وافق عين الصواب، وبعضها حاد عن الجادة ووضع قدمه على طريق أوله الحياد وآخره الضلال، وذلك بحسب الدوافع الاعتقادية لموقف كل منهم.
وأصل هذا التفاوت أن الموقف العام نفسه يعد فريداً في التاريخ، فليس هناك ما يمكن أن يشبهه من الخلافات الدينية أو السياسية في غير هذا الجيل المصطفى المختار.
وذلك أن العادة في مثل هذه الخلافات أن الحياد ليس إلا موقفاً سلبياً يمليه توازن المصالح أو التردد والشك، ولكننا هنا أمام صورة فذة يكون فيها الحياد - إن أسميناه كذلك - هو الموقف الإيجابي الذي يحتل مركز "الأفضلية" بحكم النصوص، في حين يتقاسم الطرفان المتنازعان مركزي " الفاضل والمفضول".
(1) وهذه الأمور: إما أن الحق فيها معه رضي الله عنه صراحا، وإما أنها مسائل اجتهادية فليس اجتهاد غيره بأولى من اجتهاده - لا سيما وهو خليفة الأمة وطاعته ترفع الخلاف -، وإما أن يكون حاصل منه - غفر الله له - بعض التجاوز في شيء من هذه الأمور الفرعية، فماذا يساوي ذلك إلى جانب سابقته وفضله وعظيم قدره عند الله، وقد ارتكب حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه ما هو أكبر من ذلك بكثير، ومع هذا ثبت النص في عذره وعدم مؤاخذته بل ودخوله الجنة رأسا لأنه من أصحاب بدر، وأين حاطب من عثمان؟ انظر: العواصم من القواصم، ومنهاج السنة (3/173- 207)
وإذا كان طرفا النزاع هما أهل الشام وأهل العراق - وكلاً آتاه الله فضلاً - فإن الطائفة "الفضلى" هي تلك المجموعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين أمسكوا عن الفتنة ولم يكونوا يرون السيف بين المسلمين أصلاً (1) .
وليس إمساكهم مجرد حياد سلبي (وهو ما ينطبق على موقف المرجئة فيما بعد) بل هو موقف إيجابي شرعي يستند على النصوص الثابتة، كما سنفصل بإذن الله.
وهذه الحقيقة غابت عن أذهان بعض العلماء - لا سيما من فقهاء العراق (2) ومن تبعهم، وكذا بعض أصحاب الأهواء قديماً - ثم تلاهم من تلاهم من الحاقدين وجهلة الباحثين المحدثين، الذين زادوا بأن نسبوا الصحابة للإرجاء أو نسبوا المرجئة للصحابة.
ولكن - للإنصاف - لا بد أن نذكر سبب خطأ أولئك العلماء - وهو سبب كثيراً ما يقع فيه الباحثون ألا وهو "التعميم"، ولو استخدمنا الاصطلاحات المنطقية لقلنا إن هؤلاء جعلوا "المحمول موضوعاً والموضوع محمولاً" فانقلبت القضية وكذبت.
فإن قضية: إن "المرجئة ممسكون عن الفتنة" صادقة، فإذا أصبحت القضية "كل الممسكين عن الفتنة مرجئة" صارت كاذبة.
ولذلك كان لزاماً علينا أن نفصل أقسام المحايدين لنرى أن هذا الحكم إنما ينصب على بعضهم لا على الجميع:
1 -
الفئة الأولى:
بعض كبار الصحابة وأجلائهم رضي الله عنهم مثل: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وغيرهم.
(1) إن ترجيحنا لموقف الممسكين عن الفتنة وتفضيلهم لا يعني أن كل فرد منهم هو أفضل من كل فرد في معسكر الطائفتين - لا سيما وعلي أفضل الأمة كلها حينئذ - ولكن موقفهم هو أفضل المواقف، وقد يتخذ المفضول في قضية معينة موقفا أفضل من موقف الفاضل، وليس في الأمة يومها بعد علي أفضل من سعد ابن أبي وقاص وقد كان من الممسكين. انظر المبحث التالي لهذا.
(2)
يرى هؤلاء الفقهاء أن كون علي ومن معه هم الفئة العادلة يقتضي تخطئة وتأثيم الممسكين عن القتال معه، لأن الله أمر بقتال الباغية وهذا المذهب رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر: مجموع الفتاوى (4/449) ، ضمن فتواه عن الصحابة في أول الجزء 35
وقد استغلت الشيعة هذا المذهب، ثم غلت فيه حتى كفرت كل من لم يقاتل مع علي، ولكن الشيعة ليسوا ممن يعتد بخلافهم؛ لا في هذه المسألة ولا في غيرها ولله الحمد.
وقد آثرنا - إجلالاً منا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتساباً في الذب عنهم - أن نفردهم بمبحث مستقل تال.
2 -
الفئة الثانية:
بعض سكان الأطراف والمرابطين على ثغور الجهاد، وهؤلاء كانوا يجالدون الأعداء ويفتحون الأمصار فما شعروا إلا والنبأ ينزل عليهم بمقتل أمير المؤمنين عثمان كالصاعقة، ثم فوجئوا بما تلاه من أحداث فما استطاعوا أن يستبينوا رأياً فيتبعوه أو يرجحوا طرفاً فيوالوه، فآثروا مسالمة الفريقين المتقاتلين والركون إلى حياد لا حيلة لهم في قبوله.
وعن هؤلاء يقول الحافظ ابن عساكر: إنهم هم الشكاك الذين شكوا، وكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد مقتل عثمان - وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ليس بينهم اختلاف، فقالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون.
فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً وكان أولى بالعدل وأصحابه.
وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق وأصحابه.
كلهم ثقة وكلهم عندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما (1) .
فهؤلاء إن صح إطلاق الإرجاء على موقفهم فهو إرجاء حيرة لا إرجاء فكرة، وهذه الحيرة خاصة بقضية الحكم على المختلفين بالخطأ أو الصواب، أما موالاتهم والإقرار بفضلهم وسابقتهم فلم يكن موضوع شك عندهم (2) .
3 -
الفئة الثالثة:
وهي فئة من ذلك الصنف البشري المحدود الإدراك الذي يضيق أفقه أو علمه عن تفهم الخلاف فتثور نفسه ساخطة على طرفيه حانقة عليهما دون تبصر في الدوافع أو تريث في الحكم، فمنهم فرقة أعلنت نقمتها وسخطها على كل الأطراف، وربما كان أصل ضجرها وحنقها أن المختلفين هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن صحبتهم دافعاً لالتماس العذر بل كانت - حسب فهمهم -
(1) تاريخ دمشق، النسخة التيمورية (20/577) ، وقد تعذر علي الاطلاع على هذه النسخة، ولذا نقلت النص عن د. نعمان القاضي، الفرق الإسلامية في الشعر الأموي ص263، كما ساقه أحمد أمين وغيره.
(2)
وإلى هؤلاء يتوجه كلام النووي في شرح مسلم وليس كما ظن رحمه الله أنه موقف كبار الصحابة، انظر (18/10)
مبرراً للعداء والبراء، إذ قالوا: كيف يختلفون ويتقاتلون وهم أصحاب رسول الله وأعلم الناس بالدين، والأصل أن يكونوا أكثر الأمة تمسكاً ووفاقاً ودعوة وجهاداً؟! إذن لقد انحرفوا عما كانوا عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب، ومن ثم فلا حرمة لمن نكص على عقبيه ولا اعتبار لسابقته في الإسلام ما دامت هذه خاتمته!!!
هذه الفكرة تبناها الفكر الخارجي الذي بلغ به حنقه على الأطراف جميعها إلى تدبير مؤامرة لاغتيال زعمائها "علي ومعاوية وعمر بن العاص" - رضي الله عن الجميع - على ما هو مشهور في التاريخ.
وعلى رأي الملطي (1) رحمه الله هذه الفئة هي أصل المعتزلة ولا يخفى ما بين المعتزلة والخوارج من تشابه لا سيما في حكم مرتكب الكبيرة.
كما أن هذا هو أصل المذهب الذي يرى تخطئة وتفسيق أو تكفير كلا الطائفتين، وهو مذهب كثير من أهل الأهواء من المعتزلة والخوارج وبعض المتكلمين والمتفلسفين.
وكان من هذه الفئة فرقة أقل غلواً وشططاً، فقالوا: ما حدث من الصحابة ما حدث وهم على الدرجة العليا من الفضل والعلم - إلا وفي الأمر ما لا نستطيع إدراكه ولا نأمن مغبة الحكم عليه، وإذا كنا عاجزين عن تصور حقيقة القضية ولم يكن بالإمكان ترجيح أحد طرفيها، فلنقف موقفاً وسطاً بين القول بأنهم على الحق - الذي يتنافى مع ما بدر منهم من خلاف واقتتال وبين القول بأنهم على الباطل - وهو ما يتنافى مع فضلهم وسابقتهم.
وهذا الموقف - في رأيهم - هو أن نبرئ أنفسنا من الوقوف مع أحد منهم أو عليه، فنكل أمر الجميع إلى الله وهو الذي يتولى حسابهم أما نحن فلا نوالي أحداً منهم ولا نعاديه ولا نشهد له بحق ولا باطل.
(1) انظر التنبيه والرد ص 36، مع أنه يرى أن اعتزالهم إنما كان بعد مبايعة الحسن لمعاوية. ونحن نقول: إن بذرة الخوارج وضمنها الإرجاء وجدت منذ الاختلاف على عثمان رضي الله عنه ثم قتله، ولكنها برزت بعد صفين بوضوح كما سيأتي في مبحث:(الفتنة الثانية) .
ولم تستطع هذه الفرقة الأخيرة أن تتجرأ على تكفير الصحابة كحال نظيرتها الأولى، ورأوا أن الذي يتفق مع موقفهم، هو اعتقاد أن ما ارتكبوه - أي الصحابة - هو دون الشرك بالله تعالى، ومن ثم فهم داخلون تحت المشيئة.
وهذه هي الطائفة التي يصح أن توصف بأنها أصل الإرجاء، سواء منه ما نشأ في أحضان الخوارج وهو الأعم الأغلب، أو ما كان آراء فردية ومواقف نفسية، مثلما ينسب إلى الحسن بن محمد ونحوه على ما سيأتي تفصيله في المباحث التالية.