المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله - ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي

[سفر الحوالي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

- ‌مقدمة:

- ‌دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة»

- ‌ السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين

- ‌ السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية

- ‌حقيقة النفس الإنسانية

- ‌تمهيد:

- ‌ الإرادات والغايات:

- ‌ الأسباب والوسائط

- ‌ الإقرار بالافتقار من حال إلى حال

- ‌الخاتمة

- ‌حقيقية الإيمان الشرعية

- ‌المبحث الأول: ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه

- ‌المبحث الثاني: معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل

- ‌الباب الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌الفتنة الأولى

- ‌براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا

- ‌الفتنة الثانية

- ‌الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌الباب الثالث: الإرجاء الظاهرة

- ‌توطئة:

- ‌البدايات والأصول

- ‌أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌الأثر المنطقي

- ‌حكم ترك العمل في الطور النهائى للظاهرة

- ‌الباب الرابع: علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن

- ‌العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌الباب الخامس: الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر

- ‌توطئة:

- ‌الإيمان حقيقة مركبة

- ‌الشبهات النقلية والاجتهادية

الفصل: ‌علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

‌علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

سبق تقرير القول أن الإيمان عند المرجئة مثله مثل أية نظرية فلسفية أو مقولة ذهنية متى بلغت إنسانا فصدق بها حصل المطلوب، فإذا زاد على ذلك بأن أخبر بلسانه عما في قلبه فقال:" صدقت أو أقررت "، فقد تم المراد ظاهرا وباطنا.

ومن ثم اعتقدوا إن قول: لا إله إلا الله، إنما هو إخبار عما في القلب من تصديق - إذ لا يثبتون من أعمال القلب سوى التصديق - فمتى تلفظ بها عندهم فقد أصبح مؤمنا باطنا وظاهرا، بخلاف ما لو امتنع عن قولها، فإنه عند من يكفره منهم كافر ظاهرا مع جواز كونه مؤمنا باطنا، وكذلك متى ارتكب فعلا مكفرا قالوا: يكفر ظاهرا فقط (1) ، وأما من ورد الوحي بنفي الإيمان عنه لارتكابه فعلا مكفرا " كإبليس "، أو امتناعه عن الشهادتين " كاليهود " فقالوا: هذا ليس في قلبه تصديق أصلا.

وفي هذا القول من المغالطات والمكابرة ما لا يخفى، والمراد هنا بيان غلطتهم في اعتبار قول: لا إله إلا الله، إخبار مجرد.

وذلك أنه إذا تقرر أن المطلوب من القلب ليس مجرد التصديق بل هو أعمال عظيمة - نذكر طرفا منها عما قليل - فإن قول اللسان لا يبقى خبرا مجردا، بل يصبح إنشاء للالتزام وإعلانا له (2) ، ومن ثم كان لا بد أن يصدق العمل ذلك الالتزام أو يكذبه.

وإنما حصل الإخبار المجرد من بعض أحبار اليهود ومن بعض كفار قريش، حيث ثبت إقرارهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عما في نفوسهم من اعتقاد صدقه في كل ما يقول، ولم يثبت لهم ذلك إسلاما قط.

(1) والمؤسف أن كثيرا من الدعاة والكتاب المعاصرين على هذا المذهب، حتى بعض من ينسب نفسه لمذهب السلف!!

(2)

وهو إنشاء متضمن للإخبار، الإيمان الأوسط ص 102

ص: 361

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى النبي (أو إلى هذا النبي) حتى نسأله عن هذه الآية «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ» ، فقال: لا تقل نبي، فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين!

فسألاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تشركوا بالله ولا تسرقوا ولا تزنوا

" الحديث. إلى إن قال: فقبلا يديه ورجليه، وقالا: نشهد انك نبي، قال: "فما يمنعكما إن تتبعاني؟ " قالا: إن داود عليه السلام دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا إن تقتلنا يهود (1) .

قال شيخ الإسلام في معرض رده علي المرجئة: " وأيضا فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا: نشهد انك رسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك، لأنهم قالوا ذلك علي سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعلم ونجزم انك رسول الله، قال:" فلم لا تتبعوني؟ " قالوا: نخاف من اليهود، فعلم إن مجرد العلم والإخبار - أي عن العلم - ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم "(2)

وإنما " اتفق المسلمين على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر"(3) وأن " من صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شىء من أحكام الإيمان لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولا يدخل فى خطاب الله لعباده بقوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» لأنه من حيث البديهة والعقل نعلم " أن من آمن بقلبه إيمانا جازما امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام " (4) .

ويقول شيخ الإسلام فى بيان هذه العلاقة: " ونظير هذا لو قيل: أن رجلا من أهل السنة قيل له ترض عن أبى بكر وعمر، فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقاد فضلهما، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضى عنهما فهذا لا يقع قط،

(1) المسند (4/239) ، وذكر في الخصائص (1/278) انه أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي وآبو نعيم، ورواه الطبري (15/172) ، وأما استشكال الحافظ ابن كثير لمتنه كما في (5/124) فله جوابه، ولا يقدح في مرادنا هنا منه، وهو اقوي في الدلالة مما رواه مسلم عن ثوبان رقم (315)، لان ذلك الخبر قال في أوله:" اسمع بإذنى "، فصرح بعدم إيمانه.

(2)

الإيمان ص 135

(3)

الإيمان ص287

(4)

الإيمان الأوسط ص 95

ص: 362

وكذلك لو قيل: أن رجلا يشهد أن محمدا رسول الله باطنا وظاهرا، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون فى الباطن يشهد أن محمدا رسول الله، ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذى لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية - جهما ومن وافقه - (وهم الأشاعرة كما ذكر قبل ذلك فى أول الفصل) .

وقال: (فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة - وهم جهمية المرجئة كجهم والصالحي واتباعهما - (وهم من ذكرنا) إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا فى الظاهر دون الباطن، وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الإيمان الباطن تصديقا وحبا بدون الإقرار الظاهر ممتنع " (1)

فإذا تبين أن قول: لا إله إلا الله إنشاء للالتزام بقول القلب وعمله وتحقيقهما، فلنوضح هذه القضية المهمة قائلين:

إن القلب: هو متعلق التوحيد الخبري الاعتقادى

وعمل القلب: وهو متعلق التوحيد الطلبي الإرادي.

فإن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر يتضمن توحيد الأسماء والصفات، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فى كل ما أخبر عن ربه من الكتب وما فيها، والملائكة وأعمالهم وصفاتهم، والنبيين ودعوتهم وأخبارهم، وأحوال البرزخ والآخرة، والمقادير وسائر المغيبات.

فالإقرار بهذا والتصديق به مجملا أو مفصلا هو قول القلب، وهو التوحيد الخبرى الاعتقادى.

وعمل القلب - الذى سيأتى تفصيل طرف منه فى البحث التالى - يتضمن توحيد الله عز وجل بعبادته وحده حبا وخوفا ورجاء ورغبة ورهبة وإنابة وتوكلا

(1) الإيمان الأوسط ص 151

ص: 363

وخشوعا واستعانة ودعاء وإجلالا وتعظيما وانقيادا، وتسليما لأمره الكونى وأمره الشرعى، ورضا بحكمه القدرى والشرعى، وسائر أنواع العبادة التي صرفها لغير الله شرك (1) .

وهذان هما نوعا التوحيد الذى جاءت به الرسل وأنزل الله به الكتب، وشهادة أن لا إله إلا الله - التي هى رأس الأعمال وأول واجب على العبد - إنما هى إنشاء للالتزام بهذين النوعين ومن ثم سميت كلمة التوحيد، ومن هنا كان أجهل الناس بالتوحيد من ظن أن المطلوب بقول: لا إله إلا الله هو التلفظ بها باللسان فقط.

وقد سبق فى فصل " حقيقة النفس الإنسانية " ما يدل على أن كل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة - على اللسان أو الجوارح - لا بد أن يكون تعبيرا عما فى القلب وتحقيقا له ومظهرا لإرادته وإلا كان صاحبه منافقا النفاق الشرعى أو العرفى وأخص من ذلك العبادات، فكل عبادة قولية وفعلية لا بد أن يقترن بها من عمل القلب وما يفرق بينها وبين أفعال الجمادات أو الحركات اللاإرادية أو أفعال المنافقين.

فما بالك برأس العبادات وأعظمها، بل أعظم شئ فى الوجود، الذى يرجح بالسموات والأرض وعامرهن غير الله تعالى: وهى شهادة أن لا إله إلا الله؟!

ولهذا يتفاوت قائلوا هذه الكلمة تفاوتا عظيما بحسب تفاوت ما فى قلوبهم من التوحيد.

فلولا تفاوت أقوال القلوب وأعمالها - ولو أن المراد من كلمة الشهادة هو نطقها - لما كان لموحد فضل على موحد ولما كان لصاحب البطاقة - الآتى حديثه - فضل على سواه من قائليها، ولما كان لقائلها باللسان فضل عن قائلها بالقلب واللسان، ولما كان لمن قالها من خيار الصحابة السابقين فضل عن من قالها يتعوذ بها من السيف فى المعركة.

وانظر إلى هذا الحوار بين العزيز الحكيم وبين عبده موسى الكليم، حيث (قال موسى: يا رب علمنى شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال كل عبادك يقولون هذا!!! - زاد في رواية: إنما أريد أن تخصني به

(1) كما يتضمن عمل القلب أعمالا دون ذلك مما افترضها الله وجعلها من واجبات الإيمان، كمحبة المؤمنين والنصح لهم، والتواضع، والشفقة، واجتناب الكبر والحسد، ونحو ذلك.

ص: 364

قال: يا موسى، لو أن السموات السبع - وعامرهن غيرى - والأرضون السبع فى كفة، ولا إله إلا الله فى كفه مالت بهن لا إله إلا الله " (1)

فكل المسلمين يقولون (لا إله إلا الله) ، ولكن ما قائل كقائل، لأن ما فى القلوب يتفاوت مثل تفاوت السماوات والأرض، والذرة التي لا تكاد ترى.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " اعلم أن أشعة (لا إله إلا الله) تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدرة قوة الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها فى ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس: نور هذه الكلمة فى قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها فى قلبه كالكوكب الدرى، ومنهم: من نورها فى قلبه كالمشعل العظيم، وأخر: كالسراج المضىء، وأخر كالسراج الضعيف.

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما فى قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا.

وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه، وهذا حال الصادق فى توحيده الذى لم يشرك بالله شيئا فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنفذه من سارقه، أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبدا من لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره ".

" وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شىء ومليكه - كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له وكمال الانقياد لطاعته، واخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع، والعطاء، والحب، والبغض - ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصى والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبى صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله " وما جاء من

(1) فى سنده رجل ضعيف عند أبن حبان رقم (2324) ، لكن روى الإمام أحمد بسند صحيح ما يشهد له من حديث نوح عليه السلام وأبنه، المسند (2/169) .

ص: 365

هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالدا، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة ".

" والشارع - صلوات الله وسلامه عليه - لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها فى الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان.

وقول القلب: يتضمن معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنه من النفى والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب، علما ومعرفة ويقينا وحالا - ما يوجب تحريم قائلها على النار، وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام - كقوله صلى الله عليه وسلم:" من قال فى يوم: سبحان الله وبحمده مائه مرة خطت عنه خطاياه - أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر " وليس هذا مرتبا على مجرد اللسان.

نعم من قالها بلسانه، غافلا عن معناها، معرضا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيا من ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما فى قلبه، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما فى الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.

وتأمل حديث البطاقة التي توضع فى كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب.

ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذى ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات، لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة.

وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك، وذكر من هو معوض عنك غافل ساه، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي

ص: 366

قلبه إلى محبه غيرك وإيثاره عليك، وهل يكون ذكرهما واحدا؟ أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة، أو عبداك، أو زوجتاك، عندك سواء؟

وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته - وهو في تلك الحال - على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت. فهذا أمر أخر، وإيمان أخر. ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها.

وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت - مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها - ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء فى خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها وهو ملآن، وحتى أمكنها الرقى من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذى جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، ومن غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها.

فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبا والله المستعان" (1)

وقد فصل شيخ الإسلام معنى الإقرار والشهادتين واستلزام ذلك للعمل والانقياد بكلام نفيس سنورده - أو بعضه - في مبحث التولي عن الطاعة - بإذن الله - من الباب الخامس (2) .

أهمية عمل القلب

القلب هو موضع الإيمان الأصلي، وإيمانه أهم أجزاء الإيمان، ومن هنا كان قوله وعمله هو أصل الإيمان الذي لا يوجد بدونه مهما عملت الجوارح من الإيمان، ولا خلاف بين عقلاء بنى آدم في أن كل حركة بالجارحة لا تكون إلا بإدارة قلبية، وإلا فهي من تصرفات المجانين أو حركات المضطرين فاقدي الإرادة.

(1) مدارج السالكين.

(2)

وذلك في الصارم المسلول ص 518 - 522

ص: 367

فالقلب - كما سبق في فصل حقيقة النفس الإنسانية - ليس ملك الأعضاء فحسب، بل هو أعظم من ذلك، إذ هو مصدر توجيهها ومنبع عملها وأساس خيرها وشرها، فإذا كانت إدارته إيمانية كانت الأفعال العضوية إيمانا، وإذا كانت إدارته إدارة كفر ونفاق أو عصيان كانت تلك مثلها.

والنصوص في ذلك كثيرة. منها:

1 -

يقول الله تعالى في حق من حققوا الولاء والبراء: «أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» [المجادلة:22]

2 -

ويقول: «وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» [الحجرات:7]

3 -

ويقول فى حق الأعراب: «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» [الحجرات:14]

4 -

ويقول: «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ» [آل عمران:154]

وغير ذلك كالآيات الدالة على الطبع والختم على قلوب الكافرين أو كونها فى أكنه أو مغلقة - ونحوها.

وكل آية ورد فيها قوله: «بِذَاتِ الصُّدُورِ» (1) .

ومن السنة يقول النبى صلى الله عليه وسلم: "التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره ثلاث مرات (2) .

ويقول: " ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.

ويقول - كما روى الإمام أحمد فى المسند -: " الإسلام علانية، والإيمان فى القلب " وأشار إلى صدره ثلاث مرات قائلا: " التقوى هاهنا، التقوى هاهنا "(3) .

ويقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك "(4) .

(1) وهى كثيرة، وتدل على ارتباط أعمال القلب بأعمال الجوارح، لأنها كثيرا ما ترد فى أعمال الجوارح.

(2)

رواه مسلم رقم 2564

(3)

3/135) وهو حديث حسن

(4)

المسند عن انس (3/112.257) وهو صحيح.

ص: 368

فهذه النصوص تدل على أن القلب هو الأصل، وأن إيمانه هو جزء الإيمان الأساس الذى يقوم عليه الجزء الظاهر ويتفرع منه، ويرتبط به ارتباط العلة بالمعلول، بل ارتباط أجزاء الحقيقة الواحدة الجامعة، ومن هنا لم يسم المنافق مؤمنا قط وإن كثر عمل جوارحه بالجهاد والصلاة.

بل المؤمن المجاهد إذا نوى بجهاده طلب الدنيا أو الرياء حبط عمله وتبدلت المثوبة فى حقه عقوبة وعذابا، وهذا ما يدل على أهمية عمل القلب، وقد سبق تفصيل لذلك فى فصل حقيقة النفس الإنسانية.

ومن العجيب أن المرجئة استدلت ببعض الأدلة السابقة على إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبى، وأن أعمال الجوارح - بل بقية أعمال القلب - ليست من الإيمان، فهذا هو ذا "الإيجي" في "المواقف" يذكر مذهب أصحابه الأشاعرة: وهو أنه التصديق، ومذهب الماتريدية، وهو أنه التصديق مع الكلمتين، ويذكر "مذهب السلف وأصحاب الأثر: أنه مجموع هذه الثلاثة، فهو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان ".

ثم يقول فى الانتصار لمذهبه: " لنا وجوه (1) :

الأول: الآيات الدالة على محلية القلب للإيمان نحو: «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان» ، «ولما يدخل الإيمان في قلوبكم» ، «وقلبه مطمئن بالإيمان» .

ومنه الآيات الدالة على الختم على القلوب، ويؤيده دعاء النبى صلى الله عليه وسلم:" اللهم ثبت قلبي على دينك" وقوله لأسامة - وقد قتل من قال لا إله إلا الله -: "هلا شققت عن قلبه"(2) .

والرد عليهم واضح، فإن النصوص الدالة على الجزء الباطن من الإيمان لا تنفى وجود الجزء الظاهر - لا سيما ولهذا الجزء نصوص مماثلة - وغاية ما فيها بيان أن إيمان القلب هو الأصل والأساس لإيمان الجوارح كما تقدم.

(1) انظر إلى تصريحه بمذهب السلف وأصحاب الأثر ثم تصريحه بمخالفه أصحابه، ومع هذا يزعم معاصروهم أنهم أهل السنة والجماعة أو منهم!!

(2)

ص 385، ثم ذكر وجهين آخرين الرد عليهما واضح، وسيأتى فى بابه.

ص: 369

ثانيا: من جهة ثانية هذه النصوص لا تدل على التصديق بل على أمر زائد عنه، فما كتبه الله في قلوب المعادين لأعدائه وما زينه فى قلوب المؤمنين وما نفى دخوله فى قلوب الأعراب وهكذا، ليس هو التصديق المجرد كما يحسبون وإنما هو أعمال قلبية كالمحبة والرضا واليقين ونحوها.

ثالثا: ومن جهة ثالثة يرد عليهم بأن من تأمل هذه النصوص التي أوردها صاحب المواقف يجد أنها تدل على إيمان الجوارح بنوع من أنواع الدلالة، وأن الإيمان المذكور فى بعضها ليس هو الإيمان العام المقابل لكلمة "الكفر" والمرادف لكلمة "الدين"، بل هو الإيمان الخاص المقابل لكلمة "الإسلام" إذا اجتمعا، أي على النحو الذى دل عليه الحديث السابق:"الإسلام علانية والإيمان فى القلب" ولا مجال للبسط أكثر من هذا.

ومن أفسد الأصول التي بناها المرجئة على هذا الاعتقاد - أي انحصار الإيمان فى التصديق القلبي وحده - أنهم حصروا الكفر فى التكذيب القلبي أيضا، حتى أنهم لم يعتبروا الأعمال الكفرية الصريحة كالسجود للصنم، وإهانة المصحف، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا دلالات على انتقاء التصديق القلبى، وليست مكفرة بذاتها (1) .

وكذلك لهذه العقيدة أثار عميقة المدى على الأمة، بل هى فى عصرنا هذا أساس للضلال والتخبط الواقع فى مسألة التكفير، ومنها نشأ التوسع فى استخدام " شرط الاستحلال " حتى اشترطوا فى أعمال الكفر الصريحة، كإهانة المصحف، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلغاء شريعة الله، فقالوا: لا يكفر فاعلها إلا إذا كان مستحلا بقلبه!! واشترط بعضهم مساءلة المرتد قبل الحكم عليه، فإن أقر أنه يعتقد أن فعله كفر، وإن قال أنه مصدق بقلبه ويعتقد أن الإسلام أفضل مما هو عليه من الردة لم يكفروه (2) !!

(1) وهذا من الأصول الثابتة فى مذاهب الأشاعرة قديما وحديثا، انظلا مثلا: المواقف ص 388، وبراءة الأشعريين (1/149) ، ومن أعظم الرد عليهم أن الأشعرى نفسه فى المقالات (1/132،133،141) ذكر هذه الأقوال نفسها عن فرق المرجئة: كالجهمية والصالحية والمريسية وهذا يدل على صحة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه مرارا، وما استنتجناه من بحثنا هذا، وهو أن الأشاعرة على مذهب جهم والصالحى وإن غيروا قليلا.

(2)

وغرضهم هو التثبيت فى إطلاق الكفر - بزعمهم - وهذا إلى أفعال الحمقى اقرب منه إلى أفعال المثبتين، وإلا فهل يذهب عاقل إلى طاغوت محارب للشريعة أو إلى زعيم حزب شيوعى فيسأله هل يعتقد أن الإسلام أفضل؟؟!!

ص: 370

وهذه جزء من قضايا كبرى لا يسعنا تفصيل الحديث عنها هنا، والغرض هنا التنبيه عن أن أصلها العميق هو عدم إدراك العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح.

إثبات عمل القلب

لما كان إيمان القلب من الأهمية بالدرجة التي عرضنا طرفا منها، كان لا بد أن يكون حظ الحديث عنه من الذكر الحكيم الذى أنزله الله لإصلاح حياة العالمين وتزكيتها هو الحظ الأوفر، وهكذا جاء فى القرآن آيات كثيرة تبين أعمال القلب وأهميتها فى الإيمان أصلا أو وجوبا، ولو ذهبنا فى جمعها واستقصائها لطال المقام جدا.

وحسبنا أن نورد ما يتجلى به صحة مذهب أهل السنة والجماعة وشذوذ المرجئة المنكرين لدخول أعمال القلب فى الإيمان عدا التصديق القلبي، ويتضح أن مصدر القوم فى التلقي لم يكن الكتاب والسنة، وإلا فكيف يضربون صفحا عن هذه الآيات المحكمات، ويعتمدون أكثر ما يعتمدون على آية واحدة ليست فى مورد الإيمان الشرعي، بل حكاها الله تعالى عن قوم قالوها فى التصديق الخبرى المجرد، وهو قوله تعالى على لسان اخوة يوسف:«وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا» !!

وهذه بعض أعمال القلب مقرونة بما تدل عليها من الآيات، منها ما هو فى حق المؤمنين، ومنها ما هو فى حق الكفار دالا على أمور سوى التكذيب الذي لم يقر المرجئة بغيره، ونظرا لكثرتها اكتفيت بما ورد فيها العمل مسندا إلى القلب - أو الصدر - بالمنطوق الصريح.

1 -

الوجل: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» [الأنفال:2]

2 -

الإخبات: «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

ص: 371

3 -

السلامة من الشرك دقيقة وجليله: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (*) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) "الشعراء 89،88"

4 -

الإنابة: (خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)«ق:33» .

5 -

الطمأنينة: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)" البقرة: 260".. (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد: 28

واشترطها في المكره (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)" النحل: 106 " فكيف بغيره.

6 -

التقوى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)" الحج:32".. (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)" الحجرات:3"

7 -

الانشراح: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ)" الأنعام:125"(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)"الزمر:22".

8 -

السكينة: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)" الفتح:4"

9 -

اللين: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)"الزمر:23" وقد أسنده للقلب والجوارح هنا.

10 -

الخشوع: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)" الحديد:16"

11 -

الطهارة: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)" الأحزاب:53" وهى في آية الحجاب، فدلت على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح.

12 -

الهداية (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)" التغابن:11" وهى مما يدل على تلازم أعمال القلب.

ص: 372

13 -

العقل: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)" الحج:46"

14 -

التدبر: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)" محمد:24"

15 -

الفقه: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)" الأعراف:179"

16 -

الإيمان: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)" المائدة:41".

وفى الإيمان الخاص: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)" الحجرات:14" ولهذا كان فيهم الصنف الذى سماه الله: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ)" التوبة:60 ".

17 -

السلامة من الغل للمؤمنين (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا)"الحشر:10"

18 -

الرضا والتسليم (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)"النساء: 65".

ويلاحظ أن الإسناد فيها للنفس لا للقلب أو الصدر، لحكمة دقيقة هى أن النفس مكمن الهوى والاعتراض.

ومما ورد مسندا إلى القلب غير المؤمن:

1 -

الإنكار: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)"النحل: 22 ".

2 -

الكبر: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) غافر: 56، (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) غافر:35.

ص: 373

3 -

الإعراض واللهو: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (*) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) " الأنبياء: 2،3 "

4 -

الاشمئزاز (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الزمر:45.

5 -

الزيغ: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)" الصف:5".. (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) آل عمران:7

6 -

العمى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج: 46

7 -

القفل، وعدم الفقه، وعدم العقل: وقد تقدم ما يدل عليها.

8 -

المرض: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) البقرة:10

9 -

القسوة: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) البقرة:74

10 -

الغمرة: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا) المؤمنون: 63

11 -

الران: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) " المطففين:14

12 -

العداوة للحق وأهله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) آل عمران: 118.

والآيات في ذلك وعلاقته بأعمال الجوارح كثيرة أيضا. وأكثر مما ذكرنا الآيات الواردة فى أعمال القلوب، ولكن لم يذكر فيها لفظه، كآيات الخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والرضا وغيرها.

وإنما المقصود إثبات هذا الجزء العظيم من الإيمان الذى أهمله أكثر المسلمين وليس المرجئة خاصة، وقد حصل المقصود إن شاء الله وسنخص بالتفصيل بعض هذه الأعمال في المبحث التالي.

ص: 374

نماذج من أعمال القلوب

ونبدأ ذلك ببيان موجز لما تعرض له عمل القلب من إعراض أو إسقاط أو خفاء لدى الأمة الإسلامية فى عصور الانحراف، فنقول:

1 -

المتكلمون:

وهؤلاء أهملوا أعمال القلوب بالكلية جاعلين الإيمان قضية عقلية بحتة، ولم يثبتوا من أعمال القلب سوى التصديق الخبرى الذى هو فى الحقيقة أشبه بالعمل الذهنى الخالص - وإن نسبوه للقلب.

وأصل هذا المذهب هو ذلك المبتدع الضال " الجهم بن صفوان "(1) والمؤسف جدا أن أكثرية متكلمى الأمة - وهم الأشاعرية والماترية - اعتنقوا هذا المذهب مع إطباق أئمة السلف العاصرين لنشأته على تكفير جهم وأصحابة، واعتبار الجهمية فرقة خارجة عن فرق أهل القبلة الثلاث والسبعين (2) .

ومن أغرب التناقضات عند هؤلاء أن يكون مت نقله أبو الحسن الأشعرى نفسه فى المقالات عن جهم والصالحى وبشر المريسى اليهودى هو ذات عقيدتهم التي صرح بها الباقلانى والجوينى وسائر أئمتهم إلى الإيجى ومن جاء بعده.

وليس هذا موضع المقارنة بين الجهمية والأشاعرية، وحسبنا إن ننقل مذهب جهم كما سطره الأشعرى نفسه، ثم نقارنه بكلام أكبر أئمة الأشاعرة المتقدمين وناشر مذهبهم (3) - القاضى الباقلانى.

يقول الأشعري في أول حديثه عن فرق المرجئة واختلافهم: " فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وان ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب

(1) وقد أشار الإمام ابن جرير إلى فرقة أخرى تنكر عمل القلب، وبمراجعة فرق المرجئة فى "المقالات" وجدت أنها الغسانية، انظر: ص 284. وانظر تهذيب الآثار (2/199) والمقالات 1/137

(2)

انظر كتاب الايمان لأبي عبيد.

(3)

انظر تبيين كذب المفتري.

ص: 375

والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما "كذا" والعمل بالجوارح فليس بإيمان

قال: وهذا قول يحكى عن الجهم بن صفوان " (1) .

ويقول الباقلاني - فى بيان ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به - " وأن يعلم أن الإيمان بالله عز وجل هو التصديق بالقلب

والدليل هو الإقرار بالقلب والتصديق قوله عز وجل: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)

وقد أتفق أهل اللغة قبل نزول القران وبعث الرسول عليه السلام على أن الإيمان فى اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب " (2) .

فهذا اتفاق بينهما على أن أعمال القلب والجوارح غير داخله فى الإيمان.

صحيح أن الجهمية تقول أن الإيمان المعرفة، والأشاعرية يقولون: الإيمان التصديق، ولكن ما تمحله الأشاعرة وتكلفوه من التفريق بين المعرفة وبين التصديق المجرد أمر لا يقبله العقلاء، ولهذا رد عليه شيخ الإسلام ابن تيميه قائلا: " إن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالى عن الانقياد - الذى يجعل قول القلب - أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد معرفة القلب وتصديقه، ويقولون، إن ما قاله ابن كلاب والأشعرى من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق

."

إلى إن يقول: "والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق، وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق (3)

(1) مقالات الإسلاميين (1 / 130)

(2)

الأنصاف، ص 22، وعن الرد على الأشاعرة فى هذا، انظر: الإيمان لابن تيميه مواضع كثيرة منها: ص 141- 143، وص 178- 180.

(3)

الإيمان، ص 281 - 283، وبهذا يظل الفرق الجهمية والأشاعرة هو أن الجهمية يثبتون الإيمان حتى مع إنكار اللسان، والأشاعرة ينفون الإيمان عمن صرح بالكفر بلسانه، لأن هذا عندهم دليل على عدم تصديق القلب، وعلى كل فاللوازم ليست كالأقوال، والرأى فيها محتمل.

ص: 376

وأيضا فلو أضاف المتكلمون إلى التصديق شيئا أخر - من أعمال القلب - لا نخرم أصلهم وفسدت قاعدتهم التي هى أن الإيمان شئ واحد لا يتركب ولا يزيد ولا ينقص، ولهذا ألزمهم الإمام أحمد رحمه الله إلزاما لا محيص لهم عنه حين قال - فى رسالته إلى الجوزجانى:" وأما من زعم أن الإيمان: الإقرار، فما يقول في المعرفة هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج إلى إن يكون مصدقا بما اقر؟ قال محمد بن حاتم: وهل يحتاج إن يكون مصدقا بما عرف؟ - فأن زعم انه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه يحتاج إن يكون مقراً ومصدقا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال "قولا" عظيما، ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة.

قال المروزي: ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق (1) .

ففى هذه الأسطر الموجزة ألزم الإمام أحمد إلزاما مفحما كل طوائف المرجئة - المتكلمين منهم والفقهاء - الذين يشتركون جميعا فى أصل وأحد هو عدم إدخال أعمال القلب فى الإيمان، واعتباره عملا واحدا فقط، إما الإقرار " الفقهاء " واما التصديق والمعرفة " المتكلمون: الجهمية والأشاعرية والماتريدية " وهو ألزم شئ للمتكلمين الأشاعرية والماتريدية الذين يفرقون بين مذهبهم ومذهب جهم بالتفريق بين المعرفة - التي هى قول جهم - وبين التصديق الذى هو مذهبهم.

فهذا التفريق نفسه يوقعهم فى هذا الإلزام ولا مناص، فإما أن يلتزموا القول بأن الإيمان هو التصديق المجرد عن المعرفة، وهو ما لا يتصور أن أحدا يقوله، وأما أن يقولوا إنه المعرفة مع التصديق، فيبطل أصلهم الثابت وهو أنه شئ واحد لا يتركب ولا يتعدد وحينئذ يلزمهم إدخال سائر أعمال القلب كما أدخلوا المعرفة.

(1) الخلال لوحة 109

ص: 377

والحاصل أن هؤلاء لو تجردوا من لوثة التقيدات المنطقية والتكلفات النظرية نقلوها عن الفلاسفة ونظروا لآيات الوحى المبين - التي عرضنا بعضها - لأثبتوا أعمال القلب جميعها أجزاء من الإيمان القلبي الذي هو أهم شطري الإيمان.

2 -

المتصوفة:

كان ضلال المتصوفة فى أعمال القلب من نوع أخر فالقوم مع اهتمامهم الشديد بها (1) وتسميتها أحوالا ومقامات وتفصيل دقائقها - أوقعهم الهوى والابتداع ومتابعة أسلافهم من صوفية الوثنيين الهنود واليونان فى تناقضات وتخبطات أخرجت طائفة منهم عن الدين كله.

فمن ذلك ضلالهم فى "الرضا" - الجامع للانقياد والقبول - فقد خرجوا فيه عما كان عليه السلف إلى معنى فلسفى وثنى، هو الرضا المطلق بكل ما فى الوجود لأنه من إرادة الله وقدره، حتى اعتقدوا وجوب الرضا بالكفر والفسوق والعصيان ووقعوا فى الجبر المحض تحت ستار ما أسموه "شهادة الحقيقة الكونية"!! و "الاستبصار بسر الله فى القدر"!!

وضلوا فى الرجاء والمحبة: حيث افتعلوا بينهما تناقضا، فاحتقروا الرجاء واعتبروه " أضعف مقامات المريدين " وغلوا فى المحبة حتى أسقطوا ما يقابلها من الخوف، وجعلوا همهم - بزعمهم - عبادة الله لذاته لا طمعا فى جنته ولا خوفا من ناره وجعلوا ذروة المحبة:"الفناء" فى المحبوب، ولهذا قال فيهم السلف:"من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق "، وأفضى بهم هذا إلى احتقار الجنة والنار، واحتقار مقام الأنبياء، بل اعتقاد الحلول والوحدة - عياذا بالله!!

ومن الناحية العلمية وضعوا قاعدة: "المحبة نار في القلب تحرق ما سوى المحبوب" واتخذوها ذريعة للتنصل من التعبدات التي تشغلهم عن المحبوب - بزعمهم - كالأشتغال بجهاد أعدائه وتعلم دينه وتعليمه ونشر دعوته بين العالمين.

(1) الذي هو رد فعل لعقلانية المتكلمين وغلو المترفين وجفاف الفقه.

ص: 378

وضلوا فى التوكل: فجعلوه سلبية مطلقة، وتواكلا رخيصا، وتسولا للمعطين، وتعمدا لإلحاق الضرر بالنفس، وتركا للأسباب المشروعة، بل تركا لأعظم التعبدات - كالدعاء مثلا - فأسقطوا به وبالمحبة من أعمال القلوب الشيء الكثير، فضلا على أنهم غفلوا عن أعظم درجات التوكل، وهو التوكل على الله فى إقامة دينه، والجهاد فى سبيله، ومقاومة الكفر والفساد - كما هو توكل الأنبياء.

وضلوا فى الزهد، فأخرجوه من عمل قلبى إيجابى إلى مظهر سلبى، حتى إنهم حرموا به طلب العلم، لأن ذلك كما قالوا يؤدى إلى تقدير الناس للعالم، وهذا - بزعمهم - ينافى الزهد، وعبدوا الأمة للفقر وبه، وحتى سموا أنفسهم الفقراء، وسموا الله تعالى "الفقر"(1) !!

وبالجملة فلا تكاد تجد شرطا من شروط لا إله إلا الله ولا عملا من أعمال القلب - إلا ولهم فيه ضلال وانحراف، مما كان له أثره العميق فى انتشار الظاهرة واقعيا، ولولا أن غرضنا هنا تتبع الظاهرة فى الفكر وأراء الفرق لتوسعنا فى تفصيل ذلك الذى هو أليق بالواقع والحياة.

3 -

المرجئة الفقهاء (2) :

وهؤلاء يثبتون أعمال القلب فى ذاتها ولا ينكرون أهميتها، لكنهم يجعلونها شيئا أخر سوى الإيمان، كما يخرجون منه أعمال الجوارح، فإذا سئلوا عن علاقتها بالإيمان قالوا هي من لوازمه أو ثمراته.

وتأتى خطورة مذهبهم - لاسيما في العصور الأخيرة - من جهة أن الإخلال بشيء من أعمال القلوب - التي يعد الإخلال بها كفرا أو معصية في نظر الشارع - لا يكون - على مذهبهم - إخلالا بالإيمان - الذي هو الإقرار والتصديق - إلا باللازم والتبع، وحسبك بهذا ذريعة إلى التساهل فى ذلك (3) - ولو بمرور الزمن وتطور الظاهرة - ولهذا ألزمهم أهل السنة إلزاما لا محيص لهم عنه كما سبق في كلام الإمام أحمد.

(1) لمعرفة ضلالهم فيما سبق، انظر: مدارج السالكين، الفصول المتعلقة بالمقامات المذكورة، والعبودية، وخاصة من ص 59- 72، ومن ص 131- 133. وما سيأتى فى تفصيل بعض هذه الأعمال.

(2)

أو الحنفية، وسبق تفصيل مذهبهم فى ص371

(3)

انظر الإيمان ص 377

ص: 379

وكذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيميه: " والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا إن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم (أى بخلاف قول الأشاعرة فى هاتين القضيتين) (1) ، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب فى الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها فى الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا"(2)

وهنا ينبغي التنبيه على أمر مهم، وهو أن ما ورد عن كثير من التابعين وتلامذتهم في ذم الإرجاء وأهله، والتحذير من بدعتهم، إنما المقصود به هؤلاء المرجئة الفقهاء، فإن جهما لم يكن قد ظهر بعد، وحتى بعد ظهوره كان بخراسان، ولم يعلم عن عقيدته بعض من ذم الإرجاء من علماء العراق وغيره الذين كانوا لا يعرفون إلا إرجاء فقهاء الكوفة ومن اتبعهم (3) ، وحتى إن بعض علماء المغرب كابن عبد البر لم يذكر إرجاء الجهمية بالمرة (4) .

ثم حصل في القرن الرابع فصاعدا ما يشبه الاندماج بينهم وبين الأشاعرة، ولم يبق لهم اليوم من وجود إلا بعض الحنفية ومن هؤلاء من يرى الخلاف بينهم وبين السلف الإسلام لفظيا فقط، اعتمادا على كلام شارح الطحاوية وبعض مواضع من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه، وقد تقدم بيان الحق في ذلك.

4 -

طائفة رابعة ليست كأحد من هذه الفرق البدعية:

ولكن خفى عليها مأخذ السلف، فظهرت بمظهر العجز عن إثبات عقيدتها، ونسبت للتقليد المحض، وأعنى بذلك كثيرا من متأخرى أهل السنة الذين لم يقدموا بعمل كاف لصد تيار الإرجاء العصري، بسبب عدم إدراكهم لبعض أسس العقيدة ومنطلقاتها، ومن ذلك موضوع أعمال القلوب، فقد أعياهم الجواب أمام مطالبة المرجئة بدليل على

(1) لأن الأشاعرة ينفون التصديق عمن ورد الشرع بتكفيره.

(2)

الإيمان ص 183

(3)

تقدم تفصيل ذلك فى باب نشأة الإرجاء.

(4)

آى ضمن كلامه عن الفرق فى الإيمان فى التمهيد، ج9

ص: 380

شروط لا إله الله من انقياد وقبول ويقين وصدق وإخلاص

الخ، وزعمهم أن هذا من ابتداع ابن تيميه أو محمد بن عبد الوهاب الذى لا اصل له فى كلام السلف (1) .

وهذا ما يعيدنا إلى قضية أهمية أعمال القلوب وضرورة بحث الحديث عنها وبيان منزلتها من الإيمان فلقد ترتب على إهمالها وإغفالها من الآثار المدمرة فى حياة الأمة الشىء الكثير، ومن أعظم ذلك انحسار مفهوم العبادة وتضييقه، وانتقاص توحيد الألوهية ووقوع الأمة فى الشرك الأكبر، حتى أصبحت المرجئة فى القرون الأخيرة تجاهر بإنكار دخول هذه الإعمال فى العبادة والتأله فقالوا: إن الرجاء والخوف والمحبة والتعظيم والرضا والتسليم والانقياد والطاعة ونحوها من تعبدات القلب - بل الدعاء والاستغاثة بالمخلوقين - لا علاقة لها بالشرك، ولا يسمى فاعلها لغير الله مشركا ما دام يقول: لا إله إلا الله ويعتقد بقلبه صدق الرسول فيما جاء به!!

وإنما الشرك بزعمهم اعتقاد القلب أن هذا المخلوق إله أو رب معبود، والكفر أن يعتقد بقلبه أن ما يفعله من الأعمال كفر، أما إذا عمل أعمال الكفر (2) مع اعتقاده أن ذلك لا يخرجه من الملة فليس بكافر!!

وقد اصطدمت هذه الفكرة بالعقيدة السلفية بطبيعة الحال، وجرى بين المنهجين جولات ومعارك - أبرزها المعركة التي دارت أيام شيخ الإسلام ابن تيميه، ثم الجولة التي دارت بظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما تزال المعركة قائمة على أشدها وما يزال مذهب المرجئة هو الطاغي على اكثر بقاع العالم الإسلامي.

وهكذا ظلت هذه القضية هى جوهر كل الدعاوى التي أشهرها المؤلفون الإرجائيون على عقيدة السنة والجماعة باسم الرد على ما أسموه " الوهابية "(3) .

كما أنها ظلت كذلك بعد استفحال شرك التشريع، وظهور الدعاة الذين أعلنوا أن تحكيم غير شرع الله كفر أكبر ينافى شهادة أن لا إله إلا الله.

(1) معلوم إن أهل السنة استدلوا عليهم بوجود هذه الشروط فى أكثر الأحاديث مثل " من قال: لا غله إلا الله مستيقنا "مخلصا"

.الخ ولكن التأصيل الكامل لشطر الإيمان القلبى لم يتفطن له فيما أعلم.

(2)

كالتشريع من دون الله فى عصرنا الحاضر

(3)

وهى كتب كثيرة جم بعضها مؤلفو " براءة الأشعرين "(2/214) ، وهو من أوسع كتبهم فى الإرجاء والاحتجاج للشرك بتقليص مفهوم العبادة - حتى لقد وصل بهم التمادى إلى إخراج شعائر التقرب والتنسك كالنذر والتوسل والذبح والتعظيم من مسمى العبادة، بل صرحوا بأن السجود للصنم ليس بكفر لذاته، انظر (1/124- 163) ، ومن العجيب إن بعض من ينتسب للسلف يوافقهم فى بعض الأمر.

ص: 381

ومن هنا اقتضى الأمر تفصيل الحديث عن بعض أعمال القلوب، وهو ما سنشرع فيه بإذن الله.

1 -

الرضا:

كلمة الرضا تجمع بين شرطين من الشروط إلى ذكرها بعض العلماء لشهادة أن لا إله إلا الله وهما " القبول والانقياد " بل الرضا أعلى منهما وأشمل (1) وقد أثرته لذلك ولكونه لفظا شرعيا ورد فى الكتاب والسنة.

وحسبك فى تعظيمه قوله تعالى:

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)

فما رضيه الله لنا وهو الغنى الحميد، فنحن أولى أن نرضى به وأحق.

فالرضا بالدين هو " أساس الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضيا به بلا حرج، ولا منازعة، ولا معارضة، ولا اعتراض، قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) " النساء:65"

فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله وحتى يرفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليما وهذه حقيقة الرضا بحكمه (2) .

وليس هذا الرضا على درجة واحدة، بل هو - كما فى الآية - على ثلاث مراتب " فالتحكيم فى مقام الإسلام، وانتفاء الحرج فى مقام الإيمان، والتسليم فى مقام الإحسان (3) فمن لم يرض بتحكيم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فى أصول الدين وفروعه الشريعة ويتحاكم إليه، فهو معترض بنوع من أنواع الاعتراض الآتى تفصيلها فلهذا لا يكون مسلما - وإن رغم ذلك، كما قال تعالى فى الآيات التي قبلها: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

(1) الرضا يتضمن الصبر والمحبة تتضمن الرغبة.

(2)

مدارج السالكين 2 / 192

(3)

المصدر نفسه

ص: 382

يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) .

وكيف لا وأول كفر وقع في هذا العالم إنما نشأ " من عدم الرضا، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا - من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني - من أمره بالسجود لآدم "(1) ، مع تصديقه بالله واليوم الآخر، وأن الله هو الإله دون ما سواه.

ومن رضي بأصل التحكيم لكن لم ينتف الحرج عن نفسه بل ربما زعزعته شبهة أو لحقه شك، فهذا كالأعراب الذين اسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.

ومن انتفى عنه الحرج لكن لم يرق إلى درجة التسليم المطلق للوحي أمرا ونهيا وخبرا، فهو ناقص عن مرتبة الإحسان التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم، والتي كان الصديق في ذروتها حتى في أشق المواقف، كموقف الحديبية (2) .

وهذا هو الرضا الذي قال عنه ابن القيم: " إن الرضا من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فان كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان، قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر "(3) .

والرضا يشمل التوحيد كله، ربوبية وألوهية، طاعة وتقربا، ومن هنا قال النبي صلي الله عليه وسلم:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا "، وقال:" من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، غفرت له ذنوبه ".

" وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له.

فالرضا بأولوهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده، وخوفه ورجائه، والإنابة إليه، والتبتل إليه، وانجذاب قوي الإرادة والحب كلها إليها، وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له.

(1) المدارج 2 / 214

(2)

سبق الحديث عنه من ص 73 فصاعدا.

(3)

المدارج 2 / 214

ص: 383

والرضا بربوبيته: يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن أفراده بالتوكيل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه، وان يكون راضيا بكل ما يفعل به.

فالأول: (أي رضا الألوهية) : يتضمن رضاه بما أمر به.

والثاني: يتضمن رضاه بما يقدر عليه.

وأما الرضا بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه - بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدي إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضي بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهرة وباطنة.

لا يرضي في ذلك بحكم غيره، ولا يرضي إلا بحكمه، فان عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، واحسن أحواله إن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور (1) .

وأما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهي رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليما - ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده أو شيخه وطائفته " (2) .

ولهذا جاء هذا الرضا بأنواعه مبينا في سورة الأنعام التي هي سورة التوحيد العظمى، فقد اشتملت علي ثلاثة أنواع من الرضا هي جماع التوحيد كله:

1 -

الرضا بالله ربا لا شريك له في التقرب والتأله والتعبد:

(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)" الأنعام: 164 ".

2 -

الرضا بالله حكما لا شريك له في التشريع والطاعة:

(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)" الأنعام: 114 ".

(1) يقصد الشيخ اتباع غيره صلي الله عليه وسلم كتقليد أحد الأئمة لمن هو مضطر لذلك لجهل ونحوه.

(2)

ثم قال رحمه الله: " وهاهنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم فإياك إن تستوحش من الاغتراب والتفرد، فانه والله عين العزة والصحبة مع الله ورسوله، وروح الأنس والرضا به ربا وبمحمد رسولا صلي الله عليه وسلم وبالإسلام دينا " مدارج السالكين (2/172 - 173) .

ص: 384

3 -

الرضا بالله وليا لا شريك له في محبته وموالاته:

(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)" الأنعام: 14 ".

وقد شرح ذلك الإمام ابن القيم فقال: " الرضا بالله ربا: إلا يتخذ ربا - غير الله تعالي - يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه، قال تعالي: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) " الأنعام: 164 "

قال ابن عباس رضي الله عنهما: " سيدا والها "، يعني فكيف اطلب ربا غيره وهو رب كل شيء؟ وقال في أول السورة:(قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السموات والأرض)" الأنعام: 14 ".

يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ، وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.

وقال في وسطها: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)" الأنعام: 114 ".

أي أفغير الله ابتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه؟ وهذا كتابه سيد الحكام، فكيف نتحاكم إلى غير كتابة؟ وقد أنزله مفصلا مبينا كافيا شافيا؟!

وأنت إذا تأملت هذه الآيات حق التأمل، رايتها هي نفس الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد صلي الله عليه وسلم رسولا، ورأيت الحديث يترجم عنها، ومشتقا منها، فكثير من الناس يرضي بالله ربا ولا يبغي ربا سواه، لكنه لا يرضي به وحده وليا وناصرا، بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه انهم يقربونه إلى الله، وان موالاتهم كموالاة خواص الملك، وهذا عين الشرك، بل التوحيد، إلا يتخذ من دونه أولياء، والقران مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء.

وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه، فان هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته، فموالاة أوليائه واتخاذ الولي من دونه لون، ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه، فان هذه المسالة اصل التوحيد وأساسه.

ص: 385

وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه، ويخاصم إليه، ويرضي بحكمه، وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: إلا يتخذ سواه ربا، ولا إلها، ولا غيره حكما.

وتفسير الرضا بالله ربا: إن يسخط عبادة ما دونه، هذا هو الرضا بالله إلها، وهو تمام الرضا بالله ربا، فمن اعطى الرضى به ربا حقه سخط عبادة ما دونه قطعا، لأن الرضاء بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته، كما إن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية

فالحاصل: أن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع، فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه: فهو متكبر عليه، ومتي احب معه سواه، وعظم معه سواه، وأطاع معه سواه: فهو مشرك، ومتي افرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد، والله سبحانه وتعالى اعلم" (1) .

ومنافي الرضا ومقابله هو الاعتراض والكراهية لما انزل الله - بعضه أو كله، وإذا فسرناه بالقول والانقياد، فضدهما الرد والاعتراض والإباء.

وكل هذا مما وقعت فيه الأمة كليا أو جزئيا، فوقع فيها الاعتراض علي توحيد المعرفة والإثبات، والاعتراض علي الأمر الشرعي بالتحليل والتحريم، والاعتراض علي الأمر الكوني، فاعترض كثير منهم علي صفاته، وشريعته، وقضائه وقدره.

واصل هذه الاعتراضات التلقي عن غير الله ورسوله، والاستمداد من غير الوحي وتحكيم غيره، فمنهم من حكم العقل - بزعمه - فنقل فلسفات الوثنيين وحثالة فكر التائهين، وهؤلاء هم أصحاب الكلام.

ومنهم من حكم الذوق والوجد والكشف، وانتكس بالعقل المسلم إلى حضيض الخرافة والوهم، وهؤلاء هم الصوفية.

ومنهم من حكم الأقيسة العقلية، والأعراف السياسية، بحجة تحقيق المصلحة الشرعية، ومراعاة الأصول العقلية (2) - بزعمهم - فاحلوا من الدماء والأموال والفروج

(1) المدارج (2 / 181 / 183)

(2)

وهم فقهاء الرأي وعلماء السلاطين من جهة، وحكام عصور الانحراف من جهة أخري، والحق إن كل ما خالف الشرع فلا مصلحة فيه مطلقا، وكل اصل لم يؤخذ من الشرع فهو فاسد الاعتبار.

ص: 386

وما ورد النص الصريح بتحريمه، وكان ذلك مع وقوعه في دائرة الاجتهاد الخطأ أو التطبيق المتعسف ممهدا لما وقعت فيه الأمة في العصر الحديث من الشرك الأكبر والاعتراض الأطم بتحكيم القوانين الوضعية وإحلالها محل الشريعة، بل الكراهية الصريحة لكثير مما أنزل الله، وبخاصة في الجهاد والحجاب والموالاة والسياسة، ولندع الإمام ابن القيم يفصل لنا الاعتراض التي وصلت إليها الأمة في عصره، وحسبك إن تقول بعدها:" كيف لو رأي زماننا هذا؟! ".

يقول رحمه الله: " الاعتراض: ثلاثة أنواع سارية في الناس، والمعصوم من عصمه الله منها.

* النوع الأول: الاعتراض علي أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة:

التي يسميها أربابها قواطع عقلية، وهي في الحقيقة خيالات جهلية، ومحالات ذهنية، اعترضوا بها علي أسمائه وصفاته عز وجل وحكموا بها عليه، ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسول الله صلي الله عليه وسلم، واثبتوا ما نفاه، ووالوا بها أعداءه، وعادوا بها أولياءه، وحرفوا بها الكلم عن مواضعه، ونسوا بها نصيبا كثيرا مما ذكروا به، وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.

والعاصم من هذا الاعتراض: التسليم المحض للوحي، فإذا سلم القلب له رأى صحة ما جاء به، وانه الحق بصريح العقل والفطرة، فاجتمع له السمع والعقل والفطرة، وهذا اكمل الإيمان. ليس كمن الحرب قائمة بين سمعه وعقله وفطرته.

* النوع الثاني: الاعتراض علي شرعه وأمره:

وأهل هذا الاعتراض ثلاثة أنواع:

أ: المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وتحريم ما أباحه، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما أسقطه، وإبطال ما صححه، وتصحيح ما أبطله، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وتقييد ما أطلقه، وإطلاق ما قيده.

وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها، وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض، وحذروا منهم ونفروا عنهم.

ص: 387

ب: الاعتراض علي حقائق الإيمان والشرع بالأذواق، والمواجيد، والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه علي لسان رسوله، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان، وحظوظ النفوس الجاهلة.

والعجب أن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ، وكل ما هم فيه فحظ، ولكن حظهم متضمن مخالفة مراد الله، والإعراض عن دينه، واعتقاد انه قربة إلى الله، فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات المعترفين بذمها، المستغفرين منها، المقرين بنقصهم وعيبهم، وأنها منافية للدين؟!

وهؤلاء في حظوظ اتخذوها دينا، وقدموها علي شرع الله ودينه، واغتالوا بها القلوب واقتطعوها عن طريق الله، فتولد من معقول أولئك، وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة، وأذواق هؤلاء خراب العالم، وفساد الوجود وهدم قواعد الدين، وتفاقم الأمر وكاد، لولا إن الله ضمن انه لا يزال يقوم من يحفظه، ويبين معالمه، ويحميه من كيد من يكيد.

ج: الاعتراض علي ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها علي حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده.

فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل، قدمنا العقل.

وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس، قدمنا القياس.

وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع، قدمنا الذوق والوجد والكشف.

وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع، قدمنا السياسة.

فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه.

فهؤلاء يقولون: لكم النقل ولنا العقل، والآخرون: انتم أصحاب آثار وأخبار ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار، وأولئك يقولون: انتم أرباب الظاهر، ونحن أهل الحقائق، والآخرون يقولون: لكم الشرع ولنا السياسة.

ص: 388

* النوع الثالث (1) : الاعتراض علي أفعاله وقضائه وقدره:

وهذا اعتراض الجهال، وهو ما بين جلي وخفي، وهو أنواع لا تحصي (2) .

وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم، ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله، لرأي ذلك في قلبه عيانا، فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفسا قد اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها فتلك حظها التسليم والانقياد. والرضا كل الرضا " (3)

2 -

المحبة:

المحبة أساس كل عمل من أعمال الدين والإيمان، كما إن التصديق أساس كل قول من الأقوال (4) ، وذلك إن كل عمل يعمله الإنسان لابد إن يكون عن إرادة قلبية - كما أوضحنا سلفا - وهذه الإرادة أما إن تكون حبا أو كرها، فدافع العمل لا يخرج عن إن يكون رغبة وطواعية أو رهبة وإجبارا.

وأعمال الدين قسمان:

* أولا: التعبدي المحض كالصلاة والصيام والحج.

* والآخر: ما كان تابعا للنية، كالآكل والنوم بنية الاستعانة علي الطاعة، والإنفاق علي الأهل بنية القربة، ونحوه.

فالأول لا يصلح إلا بالنية، والآخر لا يكون مأجورا عليه ومتقربا به إلا بها فاتضح إن النية أساس في الأعمال كلها.

(1) في الأصل: الرابع وهو خطأ.

(2)

وذلك مثل اعتراض الكفار علي اختيار الرسول صلي الله عليه وسلم، واعتراض اليهود علي كونه ليس منهم، ويلحق به اعتراض الخوارج علي قسمته، وأشباه ذلك كثير.

(3)

المدارج 3 / 69 - 71

(4)

انظر كلام شيخ الإسلام الآتي في نهاية هذا الموضوع.

ص: 389

وهذه النية هي بمعنى الإرادة والغاية، وهي التي لا تخلو من إن تكون حبا أو كرها، أما النية الخاصة التي يذكرها الفقهاء في الأحكام فشيء آخر (1) .

وقد اخبر الله سبحانه وتعالى عن اختلاف حالي المؤمن والمنافق وعاقبتيهما بحسب اختلاف نية كل منهما - مع اتفاق عملهما في الصورة والمظهر، كالإنفاق مثلا، فقال تعالى:(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (*) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (*) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (*) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (*) وَلَسَوْفَ يَرْضَى) " الليل " 17 - 21 ".

وقال: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)" التوبة: 54 ".

فالمؤمن يعمل الطاعة محبا لها راضيا بها - فكان جزاؤه القبول والرضا، والمنافق يعملها كارها كسلان - فكان جزاؤه الرد والإحباط.

والمؤمنون أنفسهم تتفاوت درجات إيمانهم بحسب المحبة والرضا، فكم بين إسلام أبى ذر الذي تحمل المشاق حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اسلم أعلن إسلامه بين ظهراني الكفار مستعذبا ضربهم وأذاهم يوما بعد يوم (2) ، وبين إسلام الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له " اسلم "، فقال: أجدني كارها، فقال:" اسلم وان كنت كارها"(3) .

(1) يقصد الفقهاء بالنية تمييز العبادات بعضها عن بعض، مثل تمييز صلاة الفريضة عن السنة الراتبة، أو صلاة الظهر من صلاة العصر، أو تمييز الغسل الواجب عن غسل التنظيف، والمراد هنا ما هو أعم وهو تمييز المقصود بالعمل أهو الله تعالى وحده أم غيره، وهذا هو أصل استعمال كلمة النية في كلام الشارع، لكن جاء التعبير عنها في القران بالإرادة كقوله تعالي:(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ، كما عبر عنها بابتغاء وجه الله مثل (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) .

أما الأحاديث فمصرحة بلفظ النية - كحديث: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي "، وكقوله: " يهلكون مهلكا واحدا

ويبعثهم الله علي نياتهم " في حديث الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف به - وحديث: " من كانت نيته الدنيا فرق الله شمله.. ".

وهذه هي النية التي جاءت في كلام السلف - كما سبق في بيان أجزاء الإيمان كقولهم: " لا قوة إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة ".

انظر في الفرق بين هذين المعنيين للنية: جامع العلوم والحكم، شرح الحديث الأول.

(2)

تقدمت قصة إسلامه.

(3)

المسند (3/19، 181)، ومعني قوله: اجدني كارها: إن نفسه فيها كره للدين ولم ينشرح صدره للإسلام بعد، فأرشده النبي صلي الله عليه وسلم إلى إرغام النفس وقبول الحق.

ص: 390

بل كم بين إسلام سلمان - الذي قضي السنين الطوال بحثا عن الدين الحق وانتقل من خدمة راهب إلى آخر حتى وقع في الرق، وبلغه خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على النخلة، فكاد يسقط فرحا وشوقا (1) - وبين إسلام المؤلفة قلوبهم من جفاه الأعراب الذين دخلوا في الإسلام بذل ذليل.

ومن هنا كانت المحبة أصل أعمال القلوب، وشرطاً من شروط لا اله إلا الله، " فان الإسلام هو الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله، فمن لا محبة له لا إسلام له البتة، بل هي حقيقة شهادة إن لا اله إلا الله، فان " الإله " هو الذي يألهه العباد حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة له، بمعنى "مألوه" وهو الذي تألهه القلوب، أي تحبه وتذل له.

وأصل " التأله " التعبد، والتعبد آخر مراتب الحب، يقال: عبده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبة.

فالمحبة حقيقة العبودية، وهل تمكن الإنابة بدون المحبة والرضا والحمد والشكر والخوف والرجاء؟ وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين؟ (وهل التوكل إلا توكل المحبين)(2) ، فإنه إنما يتوكل علي المحبوب في حصول محابه ومراضية.

وكذلك الزهد في الحقيقة هو زهد المحبين فانهم يزهدون فيما سوي محبوبهم لمحبته، وكذلك الحياء في الحقيقة إنما هو حياء المحبين، فانه يتولد من بين الحب والتعظيم، وأما ما لا يكون عن محبة فهو خوف محض " (3) .

وهكذا في سائر أعمال القلب التي لا يكون العبد شاهدا أن لا اله إلا الله بدونها.

وقد جعل الله تعالى إخلاص المحبة فرقانا بين المؤمنين والكافرين، فمن أشرك مع الله غيره في المحبة وسواه به فهو المشرك المتخذ من دون الله ندا معبودا، فضلا عمن خلا قلبه من محبة الله ورسوله ودينه بالمرة وكره ذلك، فهذا كافر كفر إبليس وفرعون، مهما كان في قلبه من " تصديق " مجرد.

(1) انظر قصة إسلام سلمان في الفتح.

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

(3)

المدارج 3 / 26.

ص: 391

يقول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) البقرة: 165

فأخبر أن من أحب من دون الله شيئا - كما يحب الله تعالى - فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية - بخلاف ند المحبة، فان أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم.

وهذه هي التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الشعراء: 97 - 98، ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم " والطاعة والتشريع ".

وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم.. " (1) .

وإذا كان تجريد المحبة وإخلاصها هو متعلق الشطر الأول من شطري الشهادة، وهو " شهادة إن لا اله إلا الله " - فان تجريد المتابعة والتحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم هو تحقيق المحبة المتعلق بالشطر الآخر " شهادة إن محمدا رسول الله "، يقول الله تعالى:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (*) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 31 - 32) .

فهذه هي آية المحبة وهي آية المحنة، " قال بعض السلف: ادعي قوم محبة الله، فأنزل الله آية المحنة:(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(2) .

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فانه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع

(1) المدارج 3 / 21

(2)

المصدر نفسه ص 22

ص: 392

الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله - كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: " من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد "

(قل أطيعوا الله والرسول فان تولوا) أي تخالفوا عن أمره (فان الله لا يحب الكفرين) ، فدل على إن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك - وان ادعى وزعم في نفسه انه محب لله (1)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون احب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين "(2) .

ونواصل مع ابن القيم رحمه الله حيث يقول: " فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم - فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.

ودل على إن متابعة الرسول صلي الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية - حتى يكون الله ورسوله احب إلى العبد مما سواهما، فلا يكون عنده شيء احب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء احب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة، ولا يهديه الله - قال الله تعالى:«قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (التوبة: 24) .

فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله - فهو ممن ليس الله ورسوله احب إليه مما سواهما، وان قال بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه.

وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله، فذلك المقدم عنده احب إليه من الله ورسوله، لكن قد يشتبه الأمر على من يقول قول أحد أو حكمه أو طاعته أو

(1) التفسير

(2)

رواه البخاري ومسلم رقم 44

ص: 393

مرضاته، ظنا منه انه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول - فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك.

وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول، وعرف إن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا، أو في بعض الأمور، ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به - فهذا الذي يخاف عليه، وهو داخل تحت الوعيد، فان استحل عقوبة من خالفه وأذله، ولم يوافقه على اتباع شيخه فهو من الظلمة المعتدين، وقد جعل الله لكل شيء قدرا " (1) .

ويقول رحمه الله في بيان بعض لوازم محبته صلى الله عليه وسلم وهو الأدب معه: " رأس الأدب معه: كمال التسليم والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون إن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم.

فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان - كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل.

فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يرضي بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه، وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فان أذنوا له نفذ وقبل خبره، وإلا فان طلب السلامة اعرض عن أمره وخبره، وفوضه إليهم، وإلا حرفه عن مواضعه، وسمي تحريفه: تأويلا وحملا، فقال: نؤوله ونحمله فلئن يلقي العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق - ما خلا الشرك بالله - خير له من إن يلقاه بهذه الحال.

ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء، فقلت له: سألتك بالله لو قدر إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا، وقد واجهنا بكلامه وبخطابه، أكان فرضا علينا إن نتبعه من غير إن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه، أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟!

(1) مدارج السالكين 1 / 99 / 100

ص: 394

فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه، فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ؟! فوضع إصبعه علي فيه، وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة.

هذا أدب الخواص معه، لا مخالفة أمره والشرك به، ورفع الأصوات، وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم (1) ، وعزل كلامه عن اليقين، وان يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه ".

ويقول: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: إن يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما، وان يحب المرء لا يحبه إلا لله، وان يكره إن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره إن يلقى في النار "(2) .

وليست محبة الله ورسوله دعوى يمكن إن تلوكها ألسنة الزنادقة أو المبتدعين، أو شعارا يرفعه المنافقون، بل هي تحقيق توحيد الله وطاعته باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فمحبته صلى الله عليه وسلم التي لا يكون العبد شاهدا إن محمدا رسول الله إلا بها لا تتحقق إلا باتباعه وتعزيره وتوقيره وتعظيم سنته والتخلي عن التقديم بين يدي أمره ونهيه - كما جاء في حديث:" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "(3) .

يقول الإمام ابن القيم في بيان هذا الأصل العظيم " اصل العبادة: محبة الله، وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه.

وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع آمره، واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهى تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها، وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى:(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)"آل عمران:31".

(1) يقصد الإمام بذلك الرد على المتصوفة وما يفعلونه في الموالد وغيرها.

(2)

رواه البخاري ومسلم رقم 43

(3)

انظر الكلام عن سنده في جامع العلوم والحكم.

ص: 395

فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شروطه، وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة.

بل المعول فى باب معرفة الله: على العقول المتهوكة المتحرية المتناقضة، وفى الأحكام: على تقليد الرجال وآرائها، والقران والسنة إنما نقرؤهما تبركا لا أنا نتلقى منها أصول الدين لا فروعه، ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا فى قطع دابره واستئصال شأفته " (1) .

انظر إلى كلام هذا الإمام وهو يتحدث عن واقع عصره حين كان الانحراف فى توحيد الله بالعبادة، وتوحيد الرسول بالمتابعة - مع دعوى المحبة لله ورسوله - محصورا فى الضلالات الكلامية والبدع السلوكية، كقول الأشاعرة: إن الظواهر النقلية لا بد من عرضها على القواطع، لأنها يقين، وظواهر النقل ظنون بزعمهم (2) .

وكقول المتصوفة بعرض النصوص الشرعية على الكشف والذوق والحال وكقول المتفقة بعرض الأحاديث الصحيحة على كلام إمام المذهب، ونحو ذلك من الانحرافات المغلفة بالتأويلات الفاسدة.

أقول: ذلك الانحراف على خطورته أين منه ما وقع فى العصور الأخيرة، من تحكيم صريح لقوانين الكفار ومناهجهم وطرق حياتهم، وتقديم ذلك على الكتاب والسنة، ومحاربة الداعين إلى التمسك بالدين وتحكيم الشريعة، واستئصال شأفتهم؟! ومع هذا يدعى أصحاب هذا الكفر المبين ورجال دينهم محبة الله ورسوله ويعبرون عن هذا الحب المزعوم بالمظاهر والاحتفالات البدعية، وأعمال " الضرار" الأخرى ويستدرجون بها عقول بعض العلماء الناصحين، فيتورعون عن الحكم عليهم بما حكم الله عليهم به متذرعين بأنهم غير مستحلين!!

إن الصورة العصرية المناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أي لتوحيد العبادة وتوحيد المتابعة - تتجرد عن التأويلات والأقيسة، وتتعرى

(1) المدارج 2 / 387 - 388

(2)

انظر الفصل المتعلق بقانون التعارض من أساس التقديس للرازي.

ص: 396

عن قصد المصلحة والإخلاص، وتتجلى فى صورة افتئات صارخ على مقام الألوهية، وتحكم مقنن في حكم الله ورسوله.

هذه الصورة التي من مظاهرها المتكررة الدائمة عرض حكم الله ورسوله وتوقف إقراره على موافقة السلطة التي منحها القانون حق التشريع المطلق.

مثال ذلك: تحريم الخمر، وهو حكم قطعى ضرورى فى الشريعة الإسلامية، يتوسل الدعاة والعلماء الطيبون إلى السلطة الحاكمة أن تقره لكى يصبح تشريعا رسميا ملزما، فإن تكرمت السلطة وقبلت الطلب عرضته على المجلس التشريعى الذي أعطى بحكم الدستور حق التشريع المطلق - ليبدي رأيه بالموافقة أو عدمها!

ثم في المجلس تدور معركة الأصوات بين المؤيدين والمعارضين الذين يعترضون بكل ثقة وبكل جرأة، لأنهم يمارسون عملهم الطبيعي وسلطتهم المشروعة.

وفي أحسن الحالات - بل على احسن الافتراضات - يحصل القرار على الأغلبية، وهنا فقط يصبح حكما ملزما، ويدرج ضمن مواد التشريع الوضعي على انه فقرة من فقراته.

ومع ذلك يظل حق السلطة التشريعية الثابت في إلغاء هذه المادة - متى شاءت - محفوظا بحكم الدستور.

أي لو فرضنا إن دولة ما طبقت بعض أحكام الشريعة، كجلد شارب الخمر مثلا، فهذا الحكم لم يكتسب صفة القانون والإلزام والتنفيذ لصدوره عن الله عز وجل، بل لصدوره عن السلطة التشريعية الرسمية التي أقرته بعد عرضه عليها!!

فالله جل جلاله عندهم - ليس من حقه التشريع لذاته، ولا هو أهل لان يطاع، وليس لحكمه صفة الإلزام لذاته، وإنما ينتقي ويختار من أحكامه بناء على موافقة مصدر السلطات ومالك حق التشريع، وهم البشر!!

ونحن نسأل هؤلاء المدعين للإسلام السؤال نفسه الذي سأله الإمام ابن القيم أسلافهم، فنقول: لو قدر إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا، وواجهنا بكلامه وبخطابه وتلا علينا حكم الله في أي أمر، أكان فرضا علينا إن نتبعه ونطيعه رأسا - أم نعرض ما يأتينا به على تلك المجالس؟

ص: 397

فسيقولون: بل لابد من الامتثال والطاعة توا، فنقول: أغياب شخص النبي صلى الله عليه وسلم، مع بقاء دينه غضا طريا كما نزل هو السبب إذن في إعراضكم عن شرع الله، وتطاولكم على مقام الألوهية، وجلوسكم على عرش الربوبية؟!

ورحم الله الشيخ محمد بن إبراهيم حين قال في بيان النوع الخامس من أنواع الحكم بغير ما انزل الله التي تخرج صاحبها من الملة وتناقض الشهادتين:

الخامس: وهو أعظمها واشملها وأظهرها - معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا، وإمدادا، وإرصادا وتأصلا، وتفريعا، وتشكيلا، وتنويعا، وحكما، وإلزاما، ومراجع ومستمدات.

فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتي، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين للشريعة وغير ذلك.

فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب، يحكم حاكمها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بان محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة؟ " (1) .

وإذا كانت حقيقة المحبة هي بهذه المنزلة بالنسبة لأصل التوحيد وشهادة إن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله، فإنها أيضا من اعظم أعمال القلوب المتعلقة بتحقيق توحيد الألوهية والعبادة، ومن هنا كان الأنحراف الكبير الذي وقع فيه المتصوفة والكلاميون ونحوهم، ممن غفل عن حقيقة المحبة ومعناها ولوازمها ومقتضياتها، فأنكر شيئا من ذلك، أو صرفه في غير موضعه المشروع.

وتفصيل هذه القضايا مما لا يتسع له المجال هنا، ولكن لم أر بدا من التعرض لشيء من ذلك - لا سيما وقد وجدت كلاما عظيما لشيخ الإسلام ابن تيميه في رسالته:" التحفة العراقية في الأعمال القلبية "، هذه مقتطفات منه:

(1) تحكيم القوانين ص6

ص: 398

يقول رحمه الله: " محبة الله، بل محبة الله ورسوله من اعظم واجبات الإيمان، واكبر أصوله واجل قواعده، بل هي اصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما إن التصديق به اصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فان كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة، أما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة..

فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة، واصل المحبة المحمودة هي محبة الله سبحانه وتعالى، إذ العمل الصادر عن محبة الله، فان الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه - كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:" يقول الله تعالى: أنا اغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فآنا منه برئ، وهو كله للذي أشرك "(1) .

وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار " القارئ المرائي، والمجاهد المرائي، والمتصدق المرائي ".

بل إخلاص الدين لله هو الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وانزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية وهو قطب القران الذي تدور عليه رحاه

إلى أن يقول:

فإذا كان اصل العمل الديني هو إخلاص الدين لله، وهو إرادة الله وحده، فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، لكن اكثر ما جاء به المطلوب مسمى باسم العبادة، كقوله:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وقوله:(يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) ، وأمثال هذا.

والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودا، والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبودا (2) ، ولهذا

(1) سيأتي تخريجه في مبحث الإخلاص.

(2)

وهذا مما يفرق به بين حكم اتباع طواغيت التدين والخرافة، واتباع طواغيت الحكم المرتدين (أي في الحكم الظاهر في الدنيا لا ما عند الله) . =

ص: 399

قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ»

فبين سبحانه إن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادا - وان كانوا يحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا اشد حبا لله منهم لله ولأوثانهم، لان المؤمنين اعلم بالله، والحب يتبع العلم، ولان المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل - قال تعالى:«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» .

واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فان المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وان كان ذلك من محبة الله، وان كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانه من

= فإن اتباع الأحبار والرهبان ونحوهم - كمشايخ الطرق الغلاة وأئمة الفرق الدينية المرتدة يتبعون رؤساءهم تدينا وتعبدا، فيجمعون لهم بين التعظيم والمحبة والذل والطاعة، فلهذا كان عملهم ذلك شركا في الربوبية، وسمي الله تعالي متبوعيهم أربابا فقال:(اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله) ، ومن هنا استوي حكم الاتباع مع حكم المتبوعين في الكفر والضلال.

وهذا بخلاف اتباع طواغيت الحكم والقهر، فان شبهة الإكراه في حقهم واضحة، والله تعالي لم يخبر عن فرعون وامثاله إن قومه اتخذوه ربا وعبدوه كما اخبر عن الأحبار والرهبان، وإنما اخبر انه هو ادعي الربوبية.

وأما قوله تعالي: (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) ، فمعناه خاضعون خضوعا لا يلزم منه المحبة والتعظيم، بل كانوا يسمونهم سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويستحيون نسائهم.

فاتباع طواغيت القهر المرتدين - دعوى الإكراه منهم أو الأعذار به من غيرهم لها وجه، لان تسلطهم وجبروتهم يستدعي إن يقدم الاتباع لهم الطاعة والذل وإظهار الموافقة، مع احتمال إبطان الكره والبغض، ولهذا قد تنتهي العبودية لهم بانتهاء دولتهم، كما حصل في مصر حين حكمها صلاح الدين، فانتقل أهلها من إظهار الرفض والزندقة إلى الإسلام والسنة دون عناء، فتكفير هؤلاء الاتباع مطلقا غلو وإسراف.

أما من جمع منهم بين المحبة والذل والتعظيم للطواغيت، فهذا موافق لهم علي ردتهم وحكمه حكمهم بلا خفاء، ولكن معرفة ذلك علي الحقيقة ليست بالأمر اليسير بالنسبة لكل أحد من الاتباع، لاشتباهه واختلاطه بمن يتبعهم هوى وشهوة

والمقصود بيان إن ما جاء في كتابات بعض الدعاة المعاصرين في هذه القضية من إطلاق التسوية بين الطائفتين من الاتباع يجب تقييده، وان قياسهم الشعوب الإسلامية علي الاتباع والمستضعفين من الكفار، الذين ذكر الله مناظرتهم لمتبوعيهم في النار، وبراءتهم منهم حين لا تنفع البراءة - قياس فيه غلو وإسراف نعم هؤلاء الاتباع مسؤولون ومؤاخذون كل بحسبه، ولكن التكفير بالجملة والعموم أمر آخر.

ص: 400

العبادة، والإنابة إليه، والتبتل له ونحو ذلك، فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى.

ثم انه كما بين إن محبته اصل الدين، فقد بين إن كمال الدين بكمالها، ونقصه بنقصها، فان النبي صلي الله عليه وسلم قال:" رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله "، فاخبر إن الجهاد ذروة سنام العمل، وهو أعلاه وأشرفه، وقد قال تعالى:(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) إلى قوله: (أَجْرٌ عَظِيمٌ) والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة.

وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة، قال تعالى:(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) الآية.

وقال تعالى فى صفة المحبين والمحبوبين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) .

فوصف المحبوبين المحبين بإنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويولى من يواليه، ويعادى من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له فى ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم، ويغضب لغضبهم، إذ إنما يرضون لرضاه، ويغضبون لما يغضب له " (1) .

أقول: شيخ الإسلام هنا يلتفت للرد على مزاعم الصوفية المدعية للحب الكامل والولاية لله - مع تركهم الجهاد والعمل، والله تعالى أخبر أنه - إنما يكره ذلك المنافقون فقال:

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) التوبة: 81.

(1) انظر التحفة العراقية.

ص: 401

فالكارهون للجهاد لا يمكن أبدا أن يكونوا محبين لله ورسوله ولا أولياء له ولرسوله.

ثم يقول الشيخ " ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يرويه عن ربه " ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشى، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه

".

قال: والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة - كما قد قال الشعراء فى ذلك (1) ، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود، وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه، فإن الملام على ذلك كثير، وأما الملام على فعل يكرهه الله أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق، وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

وبهذا يحصل الفرق بين " الملامية " الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم فى ذلك، وبين " الملامية " الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله، ويصبرون على الملام فى ذلك " (2) .

أقول: يطول الحديث فى التفصيل فى هذا العمل القلبي العظيم، وبيان درجاته، وأدلة كل درجة، وأثر ذلك في أعمال الإيمان من صلاة وزكاة ونحوها ولكن ضيق المجال والرغبة في الاختصار بتجاوز ما قد سطر ولعل في الحديث عن الأعمال القلبية الأخرى ما يكمل الفائدة مجتمعة، والله المستعان.

(1) كقول القائل:

أجد الملائمة فى هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمنى اللوم

(2)

وهم فرقة من الصوفية، ألف عنهم أبو عبد الرحمن السلمى كتاب: الملامية.

ص: 402

3 -

اليقين:

لليقين معنيان وإن شئت فقل: هو معنى واحد منظور له من جهتين:

1 -

اليقين من حيث هو أصل للإيمان، إذ لا إيمان مع الشك.

2 -

اليقين من حيث هو درجة عليا من درجات الإيمان.

فبالنظر للمعنى الأول يكون كل مؤمن موقنا وإلا لم يستحق أسم الإيمان، وبالنظر للمعنى الآخر - ليس كل مؤمن موقنا، بل الموقنون طائفة خاصة من المؤمنين.

فإما اليقين بالمعنى الأول فهو شرط من شروط شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أي إن الإيمان المجمل - قول القلب واعتقاده - لا يتحقق إلا به، فمن شك في الله أو في رسوله وما جاء به عن الله، فهو كافر لا شهادة له ولا إيمان.

بذلك أخبر الله تعالى الكفار حين قالوا لرسلهم:

(آنا كفرنا بما أرسلتم به وآنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض)" إبراهيم:9- 10".

وأخبر أنهم إذا طلب منهم الإيمان بالبعث قالوا: (ما ندرى ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين"الجاثية "32"

لكن إذا كان يوم القيامة يقولون:

(ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صلحا آنا موقنون)

" السجدة:12"

ولهذا جاء وصف القرآن أكثر من مرة بأنه (لا ريب فيه) .

وفى حديث جابر رضى الله عنه يقول: أنا من شهد معاذا حين حضرته الوفاة يقول: اكشفوا عني سجف القبة أحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يمنعني إن أحدثكموه إلا أن تتكلموا، سمعته يقول:" من شهد أن لا أله إلا الله مخلصا من قلبه أو يقينا لم يدخل النار " أو " دخل الجنة " وقال مرة: " دخل الجنة ولم تمسه النار "(1) .

(1) المسند (5/236) ، وسنده من أصح الأسانيد واجلها فإن الإمام أحمد رواه عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر - رضى الله عن الجميع.

ص: 403

وروى الإمام مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه - في قصة تبوك - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أشهد أن لا إله إلا الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة " وفى رواية " فيحجب عن الجنة "(1)

وعنه في حديث أخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة "(2) .

وهذا اليقين - بهذا المعنى - هو حقيقة العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمدا

رسول الله - ومن ثم ذكر بعض العلماء (العلم) شرطا مستقلا من شروط الشهادتين، مستدلين بقوله تعالى:

«فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك» (محمد: 19)

وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة "(3)

وعقد الإمام البخاري باباً بعنوان:" باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله" وأن المعرفة فعل القلب، لقوله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) ثم روى حديثا آخره: " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " (4) .

لكن لم أر أن أفراده هنا - أى العلم - لأن الحديث عن اليقين يشمله ويتضمنه، ولأن الحديث عن ضده، وهو الجهل بالتوحيد - كليا أو جزئيا - يحتاج لتطويل يخرج عن دائرة موضوعنا هنا.

وأما اليقين بالمعنى الأخر - أى اليقين الدرجة - فهو لب الإيمان وخلاصته وزبدته، كما قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه " اليقين الإيمان كله "(5) ، وفى المسند " أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه، وغزو لا غلول فيه، وحج مبرور"(6) وهو يقابل الإيمان الكامل المفصل كما أن ذاك يقابل الإيمان المجمل، ولهذا جاء في القرآن

(1) رقم 44

(2)

رقم 52

(3)

مسلم رقم (43) .

(4)

1 / 70) مع الفتح

(5)

المصدر السابق: 48.

(6)

2 / 258) ، (2/348) وقد تقدم تخريجه وحكمه.

ص: 404

شرطاً للإمامة في الدين، فقال تعالى:«وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» (السجدة: 24) .

ومن ارتباطه بالصبر قوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ» (الروم: 60)

وأخبر الله تعالى عن إمام الموحدين، فقال:«وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» (الأنعام: 75) .

فقد كان الإيمان متحققا عنده - كما أخبر الله تعالى عنه في الآية التي قبلها: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» ، فرقاه الله إلى درجة اليقين، مثلما كان مؤمناً بأن الله يحيى الموتى لكن طلب الرؤية لتحصل الطمأنينة التي هي برد اليقين (1) .

وهذا اليقين هو الذي عبر عنه بعض السلف بقوله: " لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا "(2) .

وقال الآخر: " رأيت الجنة والنار حقيقة، قيل له: كيف؟ قال: رأيتهما بعيني رسول الله ورؤيتي لهما بعينيه آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني، فإن بصري قد يطغى ويزيغ، بخلاف بصره صلى الله عليه وسلم"(3) .

واليقين بهذا المعنى نظير الإحسان الوارد في حديث جبريل، لكن الإحسان في عمل الجوارح، واليقين في عمل القلب، والله أعلم.

فاليقين في الجملة متعلقة بالاعتقاد، وذلك أن مجمل الإيمان القلبي هو الإيمان بالغيب فإذا رسخ هذا الإيمان وارتقى عن الشكوك حتى يصبح كالمعاينة فهو اليقين.

(1) ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم " نحن أولى بالشك من إبراهيم "، أى فهو أولى باليقين فلم يشك قط.

(2)

هو عامر بن عبد القيس، انظر: المدارج (2 / 400)

(3)

المصدر نفسه

ص: 405

ولهذا جاء أعظم الغيبيات - بعد الإيمان بالله - وهو الإيمان بالآخرة مقرونا باليقين أكثر مما سواه، فقال تعالى:«وبالآخرة هم يوقنون» في أول البقرة والنمل ولقمان.

فإن الإيمان بالآخرة - مع دلالة الفطرة السوية والعقل السليم عليه - ليس في قوة الإيمان الفطري بالله، كما أن تفصيلاته مصدرها الوحي وحده.

واليقين نوعان:

1-

يقين في خبر الله.

2-

يقين في أمر الله الشرعي والكوني.

فاليقين بخبر الله هو الإيمان بصدقه وتحققه ووقوعه - إن كان مما له الوقوع - إيمانا لا شك فيه، وهذا هو الإيمان بالغيب يقينا، ومن الأدلة عليه قوله تعالى:«وإذ قال إبراهيم ربي أرنى كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي» .الآية، فطلب الخليل من ربه مثالا للبعث يزيده إيمانه حتى يصبح يقينا خالصا، وقريب منه طلب الحواريين المائدة، فمع إيمانهم بقدرة الله طلبوا ما تطمئن به قلوبهم كذلك.

وهذا اليقين قد بلغ ذروته النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيما أخبر الله به من أمور الدين والإيمان فحسب، بل فى كل خبر ووعد، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان موقناً بأن الله سينصره ويظهره على العالمين وهو ما يزال في أقسى مواقف الاضطهاد والتشريد والأذى، ولم يستبطئ النصر كما استبطأه رسل من قبله فقالوا «متى نصر الله» ، ولم يستيئس كما استيأس بعضهم.

وأما اليقين بأمر الله، فهو امتثاله برضاه وطمأنينة وتسليم - إن كان شرعيا، والرضا به والتسليم - إن كان كونيا.

وذروته ما فعله إمام الموحدين من الامتثال لذبح أبنه الوحيد وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف من أعظمها يوم الحديبية حين قال:" إني عبد الله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني " أو نحوها (1) .

(1) انظر ما تقدم في (الرضا) .

ص: 406

وهذا في حقيقته هو الاستسلام لحكمه استسلاما يرتقى لدرجة الإحسان - كما في قوله تعالى: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» .

وهو تحقيق دين الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله التي هي العروة الوثقى، كما قال تعالى:«ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى» . (لقمان: 22) .

مع قوله: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» (البقرة: 256) .

ولهذا جاءت الآيات المحكمات الدالة على أتباع شريعة الله والتحاكم إليها وحدها مذيلة بوصف اليقين لمن أمتثل، فدل على شك من خالف وارتيابه، قال تعالى:

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (*) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (*) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة: 48 - 50) .

وقال جل ذكره: «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (*) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (*) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (الجاثية: 18 - 20) .

فكما سبق بيانه من أن تحكيم شرع الله هو الإسلام، فإذا بلغ من العبد إلى حد انتفاء الحرج والمعارضة بالرضا الكامل فهو الإحسان، فكذلك اعتقاد بطلان ما

ص: 407

عداه، وأنه وحده الحق الذي لا أحسن منه ولا أهدى هو درجة الإسلام، فإذا رسخ هذا حتى لا تزعزعه شبهه ولا يعتريه شك فهو اليقين.

وقد ضرب الصحابة - رضى الله عنهم - من اليقين في أمر الله أعظم الأمثال، مما لا يتسع المقال للتطويل به، وحسبك أن ينزل الله تحريم الخمر والقوم مدمنون على شربها، مدخرون لها، مغالون في أثمانها، فما يكاد الأمر ينزل حتى تسيل بها أزقة المدينة أنهارا!!

وأن ينزل الله الأمر بالحجاب والقوم مختلطون متعارفون، فما يكاد ذلك يبلغهم حتى تغدو نساؤهم كأنهن الغربان.

فهاتان عادتان إحداهما نفسية، والأخرى اجتماعية، وهما من أشد العادات وطئا وأشقها تغييرا، تذهبان دفعة واحدة، وتستأصلان من أعماق النفوس فى لحظة واحدة، وما ذلك إلا باليقين الذي ليس وراءه في الأمم يقين.

4 -

الصدق والإخلاص:

هذان عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب وأهم أصول الإيمان.

فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق، وأما الإخلاص فهو الفرقان بين التوحيد والشرك - فى قول القلب واعتقاده، أو فى إرادته ونيته.

والأعمال -التي رأسها وأعظمها " شهادة أن لا إله إلا الله " -لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص.

ومن هنا كان شرطين من شروطها، وأكذب الله المنافقين فى دعوى الإيمان وقول الشهادة لانتفاء الصدق فقال:(إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد أن المنافقون لكاذبون)(المنافقون: 1) .

وقال: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» (العنكبوت: 3)

ص: 408

ثم قال بعد آيات «وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ» (العنكبوت:11)

وقال: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» (الأحزاب: 24) .

كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص فقال:

«لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة» .

إلى أن يقول: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة» (البينة: 1 - 5) .

وقال: «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله هو سبحانه عما يشركون» (التوبة: 31) .

وكرر منافاة الشرك للإخلاص في مواضع كثيرة، منها ما في سورة الإخلاص الكبرى (1) . " الزمر ":«تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (*) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى» (الزمر: 1 - 3) .

ثم قال: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (*) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (*) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (*) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (*) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ» . (الزمر: 11 - 15) .

(1) وأما سورة الإخلاص الصغرى (الصمد) فهى في توحيد المعرفة والأثبات.

ص: 409

ثم قال: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (*) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (*) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» . (الزمر: 64 - 66) .

فعلى محك الصدق والإخلاص بطلت أكثر دعاوى العابدين، وهلك أكثر الثقلين، فالصدق يخرج كل من أدعى الإيمان - أو شيئا من أعماله - وأظهره وهو يبطن خلافه، والإخلاص يخرج كل من عبد مع الله غيره أو أراد غيره معه في عمل من أعمال العبادة - كما فى الحديث الصحيح:" قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه "(1) .

ومن هنا كانت شهادة أن لا إله إلا الله هى كلمة الصدق (2) ، وكلمة الإخلاص (3) وأقترن الصدق والإخلاص وحل كلا منهما محل الأخر فى الأحاديث، كأحاديث الشفاعة التي وردات بها روايات كثيرة، منها:" أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصة من قلبه ونفسه " وفي رواية: " شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه "، وفي رواية " رب من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله الجنة ".

وفي رواية: " ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا، فيخرجونهم، ثم يتحنن الله برحمته على من فيها، فما يترك فيها عبدا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا أخرجه منها "(4)

(1) صحيح مسلم، رقم (2985)

(2)

من ذلك ما روي عن ابن عباس فى تفسير قوله تعالى «والذي جاء بالصدق وصدق به» انظر ابن كثير (7 / 90) .

(3)

ورد فى ذلك أحاديث حسنة بمجموعها، انظر: المسند (1/ 4، 1 / 63، 5 / 123) .

(4)

هذه الروايات رواها البخاري والأمام أحمد، أنظر: الفتح (1 / 418) ، والمسند (2/ 373) ، (5 /413) ، (/ 11) على الترتيب.

ص: 410

وكحديث مالك بن الدخشم الذي كان متهما بالنفاق،فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يخالف ذلك من روايات، منها:"أما أشهد أن لا إله إلا الله بها مخلصا؟ فإن الله حرم على النار من شهد بها ".

وفي رواية البخاري: " يبتغي بذلك وجه الله " مكان " مخلصا " وفي رواية:" والذي بعثني بالحق لئن قالها من قلبه لا تأكله النار أبدا "، وهي تقيد الإطلاق الوارد في رواية مسلم:"أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ "(1) .

والصدق والإخلاص مع تقاربهما، ومع ترادفهما أحيانا - يعرف التمييز بينهما بضد كلا منهما، فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلا - كمن أمن أو صلى كاذبا، لم يرد الإيمان والصلاة، وإنما فعل ذلك لسبب آخر - كما فعله المنافقون حفظاً لأنفسهم وأموالهم من السيف، وجبنا عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان.

والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه، كما آمن أو صلى صارفا ذلك لأحد من دون الله، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين، ومنهم أهل الكتاب والمشركين الذين اتخذوا من دون الله أولياء؛ من الأنبياء أو غيرهم، وعبدوهم زاعمين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى.

ومما يميز بينهما أن الصدق لا يختص بالاعتقاد، بل يكون في الأعمال أيضا،بخلاف الإخلاص فإنه عمل قلبي محض، لكن تظهر أثاره على الجوارح - كما سبق فيما أوضحنا فى العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح، وهذا يشبه ما سبق من القول فى اليقين والإحسان، والله أعلم.

وعلى قدر تحقيق العبد لشعب الإيمان وأعماله يكون حظه من الصدق - حتى يصل إلى درجة "الصديقين"، يقول الله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي

(1) الحديث ورد من طرق كثيرة وهذه الروايات في "المسند": (4 /44)، و"البخاري":(1/ 519) ، مسلم، رقم (54) .

ص: 411

الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (البقرة: 77) .

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (الحجرات: 15)

وقال: «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ» (الحديد: 19) .

كما ان الإخلاص بالنسبة للأعمال - كالروح للجسد، فالفرق بين عمل بإخلاص وعمل لا إخلاص، فيه كالفرق بين البشر السوي والتمثال الشاخص.

وعلى قدر ما يحقق العبد في الإخلاص لربه يكون ترقية في (المخلصين) ، الذين صرف الله عنهم غواية الشيطان واثني عليهم في كل أمة، وبين نجاتهم حين هلاك أممهم.

قال تعالى حكاية عن إبليس: «إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (ص: 83)، وقال في سورة الصافات تعقيبا على إهلاك الأمم عامة:«فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (*) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» (الصافات: 74) ، وعن قوم إلياس خاصة، قال فيها:«فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (*) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» .

وكرر ذلك في مواضع من هذه السورة وغيرها، كقوله عن يوسف لما عصمه من الفاحشة:«كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ» (يوسف: 24) .

ولهذا كثر الحديث عن الصدق والإخلاص في كتاب الله، وجاء الحديث عن الصدق في السور التي تعرضت للنفاق وأهله، كسورة براءة والأحزاب والمنافقون والقتال (محمد) والحجرات والحشر.

ص: 412

وجاء الحديث عن الإخلاص في السور التي تحدثت عن الشرك والمشركين، كسورة الأعراف والزمر وغافر والبينة والكافرون، بل في سورة الأنعام - وان لم يذكر فيها صريحا.

وارتباط عمل الجوارح بالصدق والإخلاص كارتباطه بالرضا والمحبة واليقين - أمر محسوس ظاهر، يدل علي ارتباط أجزاء الحقيقة الإيمانية الواحدة كما أسلفنا.

هذا ما يسر الله به واتسع له المجال من الحديث عن أعمال القلوب، ولقد تركت أعمالا أخرى قد لا تقل أهمية عن هذه، كالتوكل، والصبر، والتوبة، والإنابة، والخوف، والرجاء، على أن ما ذكرنا يتضمنها أو يدل عليها ويشير إليها، بل كثير مما نذكر مما يسميه بعضهم " مقامات " هو كالوسائل لهذه الغايات، والفروع لهذه الأصول، إذ كانت هذه المذكورة جميعها متعلقة بشطر «إياك نعبد» ، وأما التوكل والصبر ونحوها فمتعلقة بشطر «وإياك نستعين» ، ومعلوم أن الاستعانة وسيلة للعبادة وفرع منها.

ولا يفوتني أن اختم الحديث عن أعمال القلب بذكر فائدتين من فوائد كثيرة من الله تعالى بها على وأنا أطيل التأمل والتفكير في هذا الجزء العظيم من أجزاء الإيمان:

إحداهما: تتعلق بتلك الأعمال عامة.

والأخرى: تختص بموضوع المرض الأكبر الذي يعتري القلوب، وهو مرض النفاق.

* فالأولى: هي أن من تأمل ما سبق شرحه من أعمال القلوب المعدودة شروطا للشهادتين - اعني الرضا واليقين والمحبة والصدق والإخلاص - كما وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطابق ذلك بأحوال المخلوقين وطرائق العابدين يجد ان كل شرط من هذه الشروط يخرج طائفة من طوائف الضلال بخصوصها عن الصراط المستقيم، وان كان قد يعم سائرها، إذ التلازم بينها لا يخفي، وهذا يشمل أمم الكفر والشرك والطوائف الملحقة بها من هذه الأمة.

ص: 413

* فالرضا: يخرج المستكبرين عن أمر الله وشرعه ودينه، أما بسبب الحسد والمنافسة - كحسد أبى جهل ان تكون النبوة في بني عبد مناف، وكحسد اليهود أن تكون النبوة في ذرية إسماعيل، وما حصل لعبد الله بن أبى سلول حين أضاع قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أحلامه في الملك ونحو ذلك، واصل ذلك كله حسد إبليس لآدم عليه السلام.

وأما بسبب التمسك بما كان عليه الآباء والأجداد وما ورثوه من الشان والأمجاد، واستكبار النفوس أن تتركه لأجل إناس من البشر لا سلطان لهم ولا أبهة:(إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (*) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (الصافات: 35 - 36)

وأما الاعتداد بما هم عليه من الحضارة والرقي والعلم - الذي يحملهم على احتقار دين الله واستصغاره: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» (غافر: 83) .

وغير ذلك من الأسباب المانعة من الانقياد والاستسلام والقبول - الذي عبرنا عنه بالرضا - كما عبر الشارع.

ومن اعظم مظاهر ذلك في المنتسبين للإسلام اتباع المناهج الفلسفية - والتحاكم إلي القوانين الوضعية، والتماس الهدي والعدل من غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ونحوها مما يعلن عن عدم الرضا بما أنزل الله والاكتفاء به.

* والمحبة: تخرج الكارهين لأمر الله وشرعه ودينه كله أو بعضه، والمشركين في محبته المعظمين لغير الله وغير شرعه - الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، واتخذوا من غير الإسلام مناهج يعظمونها كتعظيمه - كما كان الفلاسفة كابن سينا وابن رشد يعتقدون انه ما طرق العالم ناموس اعظم من ناموس الإسلام، لكن ما عند الحكماء والفلاسفة القدماء من الناموس فيه خير عظيم وهدي مبين، وان رسول الله صلى الله عليه وسلم من اعظم الحكماء والمصلحين كأرسطو

ص: 414

وأفلاطون - وكما قال طاغوت التتار زمن شيخ الإسلام ابن تيمية: " رجلان عظيمان محمد وجنكيز خان "!!

وكما يعتقد كثير من المعاصرين ويرددونه - المنتسبين للإسلام وغيرهم - من إن الإسلام من أعظم العوامل في بناء الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى، وما يزال فيه كثير من الإيجابيات التي يمكن أن تسهم في الحضارة المعاصرة، أو أنه ميزة ما يسمونه " العالم الثالث " - الذي يمكن أن يصل بشعوبه إلى ما وصل إليه المعسكران الكبيران، والالتحاق بركب الحضارة والتقدم.

والمتحذلقون منهم يقولون: إن ما في الإسلام من نظم ومبادئ تغني المسلمين عن الاقتباس من الشرق أو الغرب، لكن لا يغضون من قيمة ما عند الشرق والغرب من النظم والمبادئ ولا يرونهم في حاجة إلى الإسلام.

وأمثال ذلك كثير، وخصوصا على أفواه رجال الضرار ومنابره، ومن المظاهر العادية للتسوية في التعظيم - إن لم يكن تعظيم الكفر اعظم - إن هؤلاء الناس يتحرجون من تسمية الأمم المتحضرة كفارا، بل ربما نفروا ممن يطلق عليهم ذلك - حتى لقد قام بعض كتاب " المدرسة العصرية " بالسخرية العلنية ممن يزعمون أن المسلمين وحدهم سيدخلون الجنة، وان " أديسون " و " باستور " وفلان وفلان من رواد الحضارة والعلم سيدخلون النار (1) !!

* واليقين: يخرج الفلاسفة والملاحدة، والمتعمقين في الكلام، وأصحاب النظريات عن الكون ونشأته، والإنسان ومهمته، ومن يلحق بهم من علماء ما يسمي علم الاجتماع أو علم النفس، السائرة على غير هدي الله، فهؤلاء لا يصلون إلى اليقين، ولا يستقر لهم قدم بحال في كل ما يبحثون فيه مما ليس داخلا في نطاق العقل البشري، وحسبك أن الله قال فيهم:

«مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا» (الكهف: 51) .

(1) مثل أبى رية وفهمي هويدي، انظر: العصريون معتزلة اليوم، يوسف كمال، ص 111، 112 الطبعة الأولى.

ص: 415

ولولا خشية التطويل لذهبنا في سرد اعترافات من اعترافات هؤلاء بالعجز والجهل والشك والحيرة، سواء الكفار منهم أو المشتغلون بذلك من المسلمين كالرازي والجويني والشهرستاني.

ويلحق بهؤلاء جهال الأرض، وهم اكثر العالم الذين لا دين لديهم ولا هدى.

* والصدق: يخرج الكاذبين في دعوى الإيمان؛ وهم المنافقون، وهم كثير في هذه الأمة، ومرضهم وبيل، ولذا سنخصه بالحديث في الفقرة التالية.

* والإخلاص: يخرج المشركين العرب، وأهل الكتاب، وكل من يزعم أن دينه خير الأديان، وهو لا يخلص التوحيد لله تعالى - إلا في حال الشدة والكرب - ويلحق بهم من المنتسبين للإسلام كل من تعلق بالأموات من الأنبياء والصالحين، ودعاهم ورجاهم، ونذر لهم، ومعتقدا أنهم يقربونه إلى الله زلفى - كما كان المشركون يعتقدون في آلهتهم، ومن يعتقد من الشيعة والصوفية أن أئمتهم وأولياءهم يتصرفون في الكون ويعلمون الغيب، ويسبغ عليهم ما هو من خصائص الألوهية.

كما يخرج به المشركون في الطاعة والاتباع، الخارجون على مقتضى قوله تعالى:

«اتبع ما أوحى إليك من ربك لا اله إلا هو وأعرض عن المشركين» من المتبعين للمناهج البشرية والقوانين الوضعية، فكل هؤلاء لم يخلصوا لله، ولم يحققوا شهادة أن لا اله إلا الله.

كما يلحق بهم - من وجه - المشركون في الإرادة كأصحاب الأهواء والحظوظ العاجلة، وهو الشرك الخفي الذي قل من ينجو منه.

فلا عجب إذن أن يكثر الحديث في الكتاب والسنة عن هذه الأعمال، منبها أصحاب الصراط المستقيم على أهميتها، ومبينا هلاك من ضل فيها أو اعرض عنا، ولا عجب أن يكون من اعظم عوامل انتشار الأرجاء بل عوامل تقهقر الأمة وانحطاطها وإخفاق الدعوات الإسلامية وفشلها؟ وإهمالها في تحقيق هذه الأعمال وتفريطها فيها.

* الفائدة الأخرى: وهي تنبيه ضروري يتعلق بأعظم مرض من أمراض القلوب، وهو النفاق، فكما اخطأ كثير من الناس أيضا - في مفهوم الكفر ومعناه، وحصروه في

ص: 416

صورة واحدة كذلك، هي إنكار وجود الله - أو إنكار أنه الرازق الخالق المدبر ونحو ذلك - أخطاء كثيرة من الناس أيضا - في مفهوم النفاق الأكبر وحصروه في صوره واحدة كذلك، هي أن يظهر الإسلام وهو يبطن اعتقاد كذب الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، وعدم الإيمان بدين الإسلام كله، وعدم الرضا بشيء منه.

وهذه - وان كانت اجلي صورة وأكبرها - ليست الصورة الوحيدة، بل النفاق الأكبر كالكفر الأكبر له صور كثيرة جدا، فكما أن الإنسان قد يكون مؤمنا، ويخرج من الإسلام بكلمة أو فعل، فكذلك قد يكون منافقا النفاق الأكبر بسبب قول أو فعل من أقوال القلب وأعماله، مع اعتقاده بقية الدين وإظهاره للشرائع والشعائر.

والله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه للمنافقين أحوالا متفاوتة في النفاق الأكبر، فمنها الصورة الكاملة - كحال المذكورين أول البقرة:

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (*) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» الآيات (البقرة: 8، 9) .

أو أول المنافقون: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ» (المنافقون:1) .

ومنها صور دون ذلك، كحال المذكورين في سورة القتال (محمد) :«إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ» (محمد: 25، 26) .

أو حال المستهزئين بقراء الصحابة يوم تبوك، الذين أنزل الله فيهم: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (*) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة: 65، 66) .

ص: 417

فلا شك أن بين من يبطن الكفر بالله واليوم الآخر جملة واحدة - المتضمن تكذيب الرسول وبطلان القران - وبين من يقول للكفار سنطيعكم في بعض الأمر أو يستهزئ بشيء مما عظمه الله فرقا، وان اتحد الحكم عليهما بالردة والكفر، فان بعض الكفر اغلظ من بعض، كما قال الله تعالى:

«إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ» (التوبة: 37) .

وقال: «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا» (التوبة: 97) .

فجعل بعض الكفر والنفاق اشد من بعض.

والمقصود أن نعلم أن الرجل قد يكون في باطنه مؤمنا بالدين في الأصل والجملة، ولكنه يكره شيئا مما انزل الله، أو لا يقر به في قلبه ولا يعتقد الالتزام به، فيكون حكمه حكم الكافر بالدين كله، وذلك كمن يكره بقلبه تحريم الربا، ويري ذلك مخالفا للمصلحة وغير مستقيم مع العقل إذا كان الطرفان متراضيين عليه، ونحو ذلك.

ومن يكره ما انزل الله بشان الحجاب وستر النساء عن الاختلاط بالرجال، ويراه نوعا من الظلم والامتهان للمرأة، أو يراه عائقا عن التنمية مخالفا لمصلحة المجتمع.

أو من يعتقد أن أحكام الجهاد ومقاتلة الكفار وسبي نسائهم وغنم أموالهم لا يليق بكرامة الإنسان وحريته، ولا يتناسب مع المساواة الإنسانية.

ومن يكره أن يقول أو يعتقد أن هؤلاء الكفار العصريين، أو أصحاب الحضارات المنقرضة - ومنهم الحكماء والأدباء والمخترعون - يحاسبهم الله يوم القيامة ويعذبهم بالنار، ولا يقبل منهم أي عمل أو إحسان.

ومن يعتقد أن من حق اتباع أي دين أن يدعوا إلى دينهم، وان ينشروه في كل مكان بتفاهم مع دعاة الإسلام، ووئام بين جميع الأديان.

ومن يكره ما انزل الله بشان معاملة الكفار وأحكام العلاقة بهم، ويعتقد أن الأوفق والأصلح هو مداهنتهم ومجاملتهم - بمقتضى الاتفاقات الدبلوماسية، والأعراف الدولية التي ارتضاها العالم المتحضر والأمم المتحدة.

ص: 418

ومن يكره ما شرعه الله من أحكام أهل الذمة، ويرى أنه أن الأوان لإلغاء الجزية وتحقيق الأخوة الوطنية.

ومن يكره ما جاء في القران والسنة من أخبار الأمم الكافرة، وذمها وهلاكها بسبب معاصيها، أو يري أن تاريخ الحضارات يجب أن يدرس وفق المنهج الذي يسير عليه المنهج الغربي تحليلا واستنتاجا.

وصور كثيرة مشابهة كلها تفصح عما في قلب صاحبها من نفاق اكبر، وان كان لا يكره بقية الأحكام ومظهرا لشعائر الإسلام.

ص: 419

أثر عمل الجوارح في أعمال القلب

أن الحديث عن عمل القلب وأهميته وتفصيل ذلك وبيان ارتباط أجزاء الإيمان بعضها ببعض من خلال ارتباط أعمال الجوارح به، وكونها فرعا له، وصورة لما فيه، ومقتضى لازما له - لا يعني أن أعمال الجوارح من الطاعات أو المعاصي لا تؤثر هي الأخرى على عمل القلب.

وحذرا من أن تشعر المباحث السابقة بذلك - رأيت أن اذكر ما يدل على اثر عمل الجارحة في عمل القلب، فبه تكتمل صورة التأثير المتبادلة، مما يدل دلالة أوضح على أن كلا منهما جزء من الحقيقة الواحدة الجامعة.

ولنبدأ ببيان اثر المعاصي على القلب، ثم نعقب ببيان اثر الطاعة عليه.

فأما آثار المعاصي في القلب فهي كثيرة جدا، وقد فصل الإمام الرباني ابن القيم كثيرا منها في كتاب:" الجواب الكافي "، وهاأنذا اقتبس بعضها موجزا وموضحا (1) :

1-

حرمان العلم النافع: فان هذا العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئه، ولهذا كان السلف يرشدون تلاميذهم إلى ترك المعاصي، لكي يورثهم الله حقيقة العلم.

2-

الوحشة بين العبد وربه: وهي وحشة لو اجتمعت لصاحبها ملذات الدنيا كلها لم تذهبها، ومن علاماتها وفروعها الوحشة بينه وبين أهل التقوى والإيمان.

3-

الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه: فان الطاعة نور والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات.

قال ابن عباس: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.

(1) في ص 34 - 83.

ص: 421

4-

وهن القلب: فلا تزال المعاصي توهنه حتى تزيل حياته بالكلية وهذا الوهن يظهر أثره على البدن، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم عند أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم.

5-

تقصير العمر ومحق بركته: بمقدار ما تمرض القلب وتذهب حياته، فان حقيقة الحياة هي حياة القلب، وعمر الإنسان هو مدة حياته، فكلما كثرت الطاعة زادت حياته، فزاد عمره الحقيقي، وكلما كثرت المعاصي أضاعت حياته وعمره.

6-

أن العبد كلما عصى خفت عليه المعصية حتى يعتادها، ويموت إنكار قلبه لها، فيفقد عمل القلب بالكلية، حتى يصبح من المجاهرين بها المفاخرين بارتكابها، واقل ذلك أن يستصغرها في قلبه، ويهون عليه إتيانها حتى لا يبالي بذلك، وهو باب الخطر.

روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في اصل جبل يخاف أن يقع عليه، وان الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على انفه فقال به هكذا فطار.

7-

الذل: فالمعصية تورث الذل ولا بد، فالعز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى:«مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا» (فاطر: 10) . أي فليطلبها بطاعة الله فانه لا يجدها إلا في طاعته.

وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك.

وقال الحسن البصري: انهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.

وقال عبد الله بن المبارك:

رأيت الذنوب تميت القلوب

وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب

وخير لنفسك عصيانها

ص: 422

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

8-

الصدى والران والطبع والقفل والختم: وذلك أن القلب يصدا من المعصية، فإذا زادت غلب عليه الصدأ حتى يصير راناً - كما قال تعالى:«كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» ، ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله - فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد، وبمثل هذا اتخذ الشيطان من البشر دعاة وجنوداً.

9-

إطفاء الغيرة من القلب: وهي الغيرة على محارم الله أن تنتهك، وعلى حدوده أن تقتحم، وعلى دينه أن يضعف أو يضيع، وعلى إخوانه المسلمين أن يهانوا أو يبادوا - بل على أهله ونفسه أن يقعوا في المعصية والهلاك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغير الناس - كما ثبت في الصحيح:" أتعجبون من غيرة سعد، لانا أغير منه، والله أغير مني"(1)

فالمعاصي تضعف هذه الغيرة حتى تذهبها وتزيلها، ولهذا تجد المدمنين على المعاصي لا يبالون بالإسلام وأهله من كوارث ومحن، ولا يهمهم ذلك في شيء، وإنما همهم اتباع الشهوات وإضاعة الأوقات، ويرى الواحد منهم المنكر أمامه فلا تهتز له شعرة، بل يفقدون الغيرة الخاصة، وهي الغيرة على العرض، حتى تصير الديانة طبعاً وسجية.

10-

إذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب: وهو اصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه..

والذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية، فلا يستحيي لا من الله ولا من العباد، والتلازم بين ارتكاب المحرمات وقلة الحياء لا يخفى على أحد.

(1) 9 / 280) .

ص: 423

11-

إذهاب تعظيم الله ووقاره من القلب: فكما أن تعظيم الله وتوقيره يحجز عن المعصية فان ارتكاب المعصية يضعف التعظيم والتوقير- حتى يستخف العبد بربه، ويستهين بأمره، ولا يقدره حق قدره.

12-

مرض القلب وإعاقته عن الترقي في مراتب الكمال ودرجاته: وقد سبق بيان تفاضل الناس في أعمال القلوب - فالذنوب تخرج صاحبها من دائرة اليقين وتنزله من درجة الإحسان، بل تخرجه من دائرة الإيمان، كما في الحديث الصحيح:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "، فلا يبقى إلا اسم الإسلام، وربما أخرجته منه، فان المعاصي بريد الكفر.

13-

إضعاف همة القلب وإرادته: وتثبيطه عن الطاعة وتكسيله عنها، حتى يؤول به الأمر من الاستثقال إلى الكراهية والنفور، فلا ينشرح صدره لطاعة ولا يتحرج ويضيق من معصية، ويصير جسوراً ومقداما على الخطايا جبانا رعديداً على الحسنات.

14-

الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه: فيخسف به بسبب ارتكاب الرذائل - إلى اسفل سافلين وصاحبه لا يشعر، وعلامة ذلك الخسف أن يكون القلب جوالا حول السفليات والقاذورات، متعلقا بالمحقرات والأمور التافهات، عكس القلب الذي تزكى بالطاعات فصار جوالا في معالي الأمور ومكارم الأخلاق، كما قال بعض السلف:" إن هذه القلوب جوالة، فمنها ما يجول حول العرش ومنها ما يجول حول الحش ".

15-

مسخ القلب: فان المعاصي والقبائح ما تزال تتكاثر عليه حتى تمسخه كما تمسخ الصورة، فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير - كقلب الديوث - ومنها ما يمسخ على قلب كلب أو حمار أو حية أو عقرب

بحسب عمله، وقد شبه الله تعالى أهل الجهل والغي بالحمر تارة وبالكلب تارة وبالأنعام تارة، وربما وصل الأمر إلى المسخ التام، وهو مسخ الصورة مع القلب، كما حصل لبني إسرائيل حين جعل الله منهم القردة والخنازير.

ص: 424

16-

نكد القلب وقلقه وضنكه: وهذا ملازم للمعصية ملازمة الظل لأصله، كما قال تعالى:«ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى» ، فالمعرض عن ذكر الله متعرض لذلك، لكن قد يتوارى داؤه بسكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك الخمر - كالمشاهد في عصرنا الحاضر من إدمان المسكرات والمخدرات، تخلصا من ضيق الحياة ونكد العيش.

فهذه بعض آثار معاصي الجوارح على القلب وعمله، فهي تذهب رضاه ويقينه وصدقه وإخلاصه وتوكله ومحبته، بل تذهب قوته وحياته وصحته وراحته، وتجمع له بين ذهاب حقائق الإيمان وبين عقوبات آجلة وعاجلة، كما رأينا في هذه الآثار.

وأما أثر أعمال الطاعات بالجوارح في أعمال القلب، فهو ما ينوء بالمجلدات الكبار، وذلك أن هذه هي مادة حياته وقوته وعزيمته، والجوارح هي منافذه وثغوره، وهل في الإمكان استيعاب ما تورثه الصلاة من رضا وطمأنينة وخشوع وإنابة، أو ما يورثه الصوم من يقين وتوكل وإخلاص، أو ما يورثه الجهاد من محبة واستسلام وثبات

وهكذا سائر الطاعات، ولذا رأيت أن اختار طاعة واحدة قد لا يحسب لها حساب إلا عند الخاصة من الناس، وهي " غض النظر عن المحرمات ".

وللإمام ابن القيم -أيضا - تفصيل لهذا في الكتاب نفسه، انقل منه ما يتعلق بالقلب خاصة، مع اختصار وإيضاح:

1-

أنه يمنع من وصول اثر السهم والمسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه لأن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس.

2-

أنه يورث القلب أنساً بالله وقرباً منه، فان إطلاق البصر يصرف القلب ويشتته ويبعده عن الله، ويوقع الوحشة بين العبد وربه.

3-

أنه يكسب القلب نوراً - كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر، فقال:«قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» ، ثم قال أثر ذلك:«اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ» أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.

ص: 425

وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما انه إذا اظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فما شئت من بدعة وضلالة، واتباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة، فان ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام.

4-

انه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه - لكن قد لا يحس بذلك إلا ذو البصيرة.

5-

انه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل، والصادق والكاذب، فان الله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو جنس عمله، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه، فإذا غض بصره عن محارم الله عوضه الله بان يطلق نور بصيرته عوضا عن حبسه بصره لله، ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة، التي إنما تنال ببصيرة القلب.

وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه، الذي هو ضد البصيرة، فقال تعالى:«لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» ، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل، والعمه الذي هو فساد البصيرة، ثم عقب الله تعالى على قصتهم بقوله:«إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» ، وفي ذلك إشارة لما تقدم.

6-

انه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة، يجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، وضد هذا تجده في المتبع هواه، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها، كما تقدم في كلام الحسن البصري.

7-

أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب، فانه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، فيمثل له صورة المنظور إليه ويزينها، ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه، ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار، وتلك الزفرات والحرقات، فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب، فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كانت عقوبة أصحاب

ص: 426

الشهوات بالصور المحرمة أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار، وأودعت أرواحهم فيه إلى حشر أجسادهم، كما أراها الله نبيه صلى الله عليه وسلم في المنام في الحديث المتفق على صحته.

8-

انه يفرغ القلب للفكر في مصالحه والأشغال بها، وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول بينه وبينها، فتنفرط عليه أموره، ويقع في اتباع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه، قال تعالى:«ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا» ، وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه.

9-

أن بين العين والقلب منفذاً أو طريقاً يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب.

وكذلك في جانب الصلاح فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله، ومحبته، والإنابة إليه، والأنس به، والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.

فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر تطلعك على ما وراءها (1) .

(1) من ص 125 - 127.

ص: 427